المقدمة
لا نعدو الصواب حين نقول: إنَّ مشروعات التنمية، وانهيار عالم السياسة الحضارية، يرجع بالدرجة الأولى إلى غياب الحرية وخضوع المجتمعات العربية والإسلامية إلى تبعيّات متعاظمة في الاقتصاد والثقافة.
فالاستعباد والخضوع الأعمى لقوى السيطرة هو الذي يحول دون الحيوية والفاعلية والانطلاق في رحاب مشروعات التنمية الشاملة.
لذلك، فإن تثبيت قواعد الحرية، في المحيط المجتمعي، لا يتأتى إلا بتأسيس علاقات ووقائع تكسر حواجز الأثرة ونوازع الأنا الضيقة وممارسات الشطب والإلغاء والنفي والتكفير والتشريد، وتؤسس لحسن الاستماع وقبول الآخر، واحترام وجوده وفكره وقناعاته.
قال تعالى {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} [الزمر /18]
وقال تعالى {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران/64].
فالكلمة السواء لا تنجز إلا بعقل حواري يثري مضمون الحرية على المستويين: الإنساني والحضاري.
________________________________________
(*) باحث من الممكلة العربية السعودية، ومدير تحرير مجلة الكلمة
[الصفحة - 55]
فلا حرية حقيقية بلا حوار بين الأفكار والثقافات والمجتمعات السياسية والثقافية والحضارية؛ وذلك لأن سبيل تعميم قيم الحرية هو الحوار، ومن دونه تبقى الحرية شعاراً يرفع من دون أن تكون وقائع الراهن تجسيدا لها ولمثلها العليا.
تجربة الحوار
وتجربة الحوار، بين الأفكار والمجتمعات، هي التي تثري سؤال الحرية في الفكر والواقع، وهي التي تعطي لمضمون الحرية أبعادا تاريخية وآفاقاً مستقبلية مشرعة لإبداعات الإنسان ومبادراته، في سبيل. تحذير مفهوم الحرية وتجربتها في الواقع الإسلامي المعاصر.
فالحوار ليس من أجل إلغاء الخصم أو ثنيه عن أفكاره وقناعاته، وإنما من أجل الحرية وأفقها الإنساني والحضاري. والحرية لا تعني، بأي شكل من الأشكال، تجميد الاختلافات الفكرية والسياسية، وإنما تنظيمها وجعلها تسير في اتجاه توافقي ـ بنائي. ويخطئ من يتعامل مع الحرية باعتبارها وسيلة تجميد الخلافات الفكرية والسياسية.
إن الحرية والديمقراطية هما وسيلتا الإنسان المتحضر في تعامله مع الاختلافات الفكرية والسياسية. فهما توفِّران آليات لتنظيم هذه الاختلافات ونشر أخلاقيات وآداب عامة، توجه التباينات الفكرية والسياسية نحو البناء والتجديد والعمران.
ولأن الحوار سبيل الحرية ومن أجلها، ينبغي أن تتركز قيمته على مفاهيم مجتمعية وسياسية تثري مضمون الحرية، وتحفز القاعدة الاجتماعية على تبني خيار الحرية والديمقراطية على مستوى الأقوال والأفعال، وعلى مستوى المعتقد والسلوك، وذلك من أجل خلق مجتمع الإرادة والاختيار.
الحوار وآفاق الحرية
فحجر الأساس، في الحرية، هو أنها لا تنجز إلا على أساس قوانين الحوار والاختيار لدى الفرد والجماعة: والحرية، وفاقاً لهذا المنظور، هي مفتاح التقدم، وطريق تعبئة الطاقات والإمكانات ومشاركتها جميعا في البناء والعمران. وكان الحوار وسيلة نشر الدعوة، لم تكن هناك وسيلة أخرى غير الحوار والإقناع، لأن الفتوحات لم تستمر أكثر من مئة عام، ولم يتعد تأثيرها إنشاء سلطة سياسية للعرب المسلمين. على كل حال، إن معظم الجماعات الإسلامية
________________________________________
[الصفحة - 56]
غير العربية، انضمت إلى الإسلام بعد توقُّف الفتوحات. أما على صعيد وحدة الأمة، فقد كان الحوار قاعدة ضرورية للحفاظ على هذه الوحدة التي استمرت حتى بعد انهيار سلطة الخلافة المركزية وتعدُّد الدول السلطانية الحاكمة. أدى الحوار الداخلي بين المسلمين إلى انقسامهم إلى مذاهب ومدارس فكرية تعدَّدت الأساليب المعتمدة لاستنباط أفكار جديدة واكتشاف حلول للمشاكل المطروحة. وتعدَّدت العلوم التي استخدمت من أجل تحقيق مستويات أعلى من المعرفة، ولم يكن لديهم خوف من الخلافات المذهبية داخل صفوفهم، فكأنهم كانوا يدركون أن الحرية في الحوار والنقاش والتسامح إزاء آراء الآخرين وإزاء الخلافات وتعدد الاجتهادات هي الوسائل التي تضمن وحدة الأمة (1).
والحوار الذي لا يستند على قاعدة الحرية، هو حوار الطرشان، ويقع بعيداً عن المعنى الحقيقي للحوار الذي يسمح للمتحاورين بالانفتاح على جميع الآراء والبوح بجميع القناعات والمواقف من دون خوف ووجل. فالحوار يرتكز على الحرية الفكرية في الساحة الحوارية، لأن الإنسان الذي لا يمتلك حريته في طرح ما يريد من سؤال أو اعتراض أو مناقشة، لا يستطيع الوصول إلى الحق إذا لم يجد الفرصة للإجابة عن سؤاله، ومناقشة وجهة نظره. ولذلك فإن الإسلام يتقبل أي سؤال في أي موضوع، ولكنه يضع شرطاً مهماً، وهو أن يكون المحاور مثقفاً بالفكرة التي يخوض الحوار حولها من موقع الموقف المضاد، أو منفتحاً على آفاق المعرفة في ما يريد أن يسأل عنه، وهذا هو مضمون الآية الكريمة: {ها أنتم هؤلاء حاججتم في ما لكم به علم فلم تحاجون في ما ليس لكم به علم}[آل عمران /66].
والمحيط الذي يحارب الحوار هو محيط مستبد وقمعي، حتى لو رفع راية الحرية، لأنه لا يمكننا أن نتصور حرية بلا حوار. فهو قرين الحرية، ووسيلتها في تعميم القيم ونشر القناعات والمبادئ. و" عملية الحوار تتنافر بطبيعتها مع الإجابات الجامدة، والمسلَّمات المتحجرة، والأنساق المطلقة...، وكهنوت الآباء المقدسين، فإن هذه العملية تنفي نقائضها التي تكبح حركتها، وتقاوم ما يحد من قدرتها بما تؤسسه من وعي ضدي، يرفض صفات الإطلاق والتسليم والتقليد، الخنوع والإذعان، وكل ألوان التسلط والإرهاب" (2).
وفي المقابل نستطيع القول: "بقدر غياب الحرية في المجتمع يغيب الحوار، وتسود لغة الصوت الواحد التي هي المقدمة الطبيعية للغة الإرهاب. وإذا كان الإرهاب إلغاء لوجود الآخر، ونفيا لحضور العقل، أو فعل اختيار المعرفة، فإنه يبدأ من حيث ينقطع الحوار، ومن
________________________________________
(1) مجلة الاجتهاد ، العدد الثامن، ص 14 ، السنة الثانية ، صيف 1990م ، دار الاجتهاد للأبحاث والترجمة والنشر .
(2) جابر عصفور ، هوامش على دفتر التنوير ، ص، 266، المركز الثقافي العربي ، الطبعة الأولى ، بيروت 1994م .
[الصفحة - 57]
حيث تشيع مخدِّرات التسليم والتصديق، ومسكِّنات الإذعان والاستسلام، ومبررات بطريركية الفكر أو مطريكية الثقافة. إن الإرهاب يتولد من رفض لغة الحوار وشروطه، أي تسلَّطية الصوت الواحد، من الإيمان بأن ما تقوله وحدك هو الحق، وإن الحق ملك خاص لك، ومن التسليم بأن فرداً ما، فكرا ما، زعيما ما، يمتلك ما يجعل منه الأعلى ويهبط بالآخرين إلى الدرك الأدنى، كأننا إزاء مجلى النبي الملهم، أو الصورة البشرية للحقيقة الكلية (3).
الحرية ومعنى الاختلاف.
فالحوار والتواصل الفكري الدائم، من المداخل الأساسية لتجذير مفهوم الحرية في الواقع المجتمعي. إذ من خلال هذا الحوار الجاد والمتواصل تتأسس شروط التحول الفكري والاجتماعي. وبالحوار يتم تجديد مفهوم الحرية وتطويرها على المستويين النظري والعملي، ويتم اكتشاف آليات جديدة ومبدعة للنهوض بالحرية في الواقع المجتمعي.
ولا يمكن مقاربة مفهوم الحرية، في الفكر الإسلامي المعاصر، بمعزل عن مفهوم الاختلاف، وحق الإنسان الطبيعي في هذا الاختلاف.
وجذر حق الاختلاف، في المنظور الإسلامي، هو أن البشر بنسبيتهم وقصورهم لا يمكنهم أن يدركوا جميع حقائق التشريع ومقاصده البعيدة، وإنما هم يجتهدون ويستفرغون جهدهم في سبيل الإدراك والفهم، وعلى قاعدة الاجتهاد بضوابطه الشرعية والعلمية، يتأسس الاختلاف في فهم الأحكام والحقائق الشرعية، ويبقى هذا الحق مكفولا للجميع.
فالاختلاف مظهر طبيعي في الاجتماع الإنساني، وهو الوجه الآخر والنتيجة الحتمية لواقع التعدد. أعني أن التعدد لا بد من أن يستدعي الاختلاف ويقتضيه. فالاختلاف من هذه الزاوية، قبل أن يكون حقا، هو أمر واقع ومظهر طبيعي من مظاهر الحياة البشرية والاجتماع البشري، وكما تتجلى هذه الظاهرة الطبيعية بين الأفراد تتجلى بين الجماعات أيضاً. لذلك فلا مجال لإنكار ظاهرة الاختلاف بما هي وجود متحقق، سواء من حيث الوجود المادي للإنسان أم من حيث الفكر والسلوك وأنماط الاستجابة.
وفقاً لهذا المنظور، لا يشكل الاختلاف نقصا أو عيبا بشريا يحول دون إنجاز المفاهيم والتطلُّعات الكبرى للإنسان عبر التاريخ. وإنما هو حق أصيل من حقوق الإنسان، ويجد منبعه الرئيسي من قيمة الحرية والقدرة على الاختيار. وإجماع الأمة، تاريخيا، على قضايا فكرية أو
________________________________________
(3) المصدر نفسه .
[الصفحة - 58]
سياسية وما شابه ذلك، ليس وليد الرأي الواحد، وإنما يتحقَّق الإجماع عن طريق الاختلاف الفكري والثقافي، الذي يثري الواقع، ويجعل الآراء المتعددة تتفاعل مع بعضها وتتراكم حتى وتصل الأمة إلى مستوى الإجماع.
وسيادة الرأي الواحد تؤدِّي إلى التخشُّب واليباس، والى توقُّف العقل عن التفكير في القضايا الجادة، وضمور حالات التجديد، والاستسلام لقوالب ونماذج ثقافية وفكرية جاهزة.
والبيئة الاجتماعية التي تقمع الآراء، وتنظر إلى الاختلافات والاجتهادات الثقافية والفكرية نظرة شائنة، هي البيئة التي تزدهر فيها حالات الجمود واللامبالاة، وتعشعش فيها جميع الهوامش والطفيليات.
فالعقل قرين الحرية، فلا عقل فعَّالاً من دون حرية، ولا حرية مستديمة من دون عقل يمارس التفكير والسؤال والمساءلة، ويتحرك دائما نحو تجديد أفق المعارف والتصُّورات، وحرية تؤسس للشروط اللازمة لممارسة العقل سلطته ووظيفته الجوهرية.
ومن خلال الصلة الوثيقة بين العقل والحرية، تتجدد أدوات المعرفة، وتتطور أنماط الإنتاج العقلي والمعرفي. ووفاقاً لهذا السياق، نتمكن من القول: إن الخرافة والتقليد الأعمى للآخرين من مضادات الحرِّية..، بمعنى أن سيادة الخرافة يعني تراجع مستوى الحرية، كما أن شيوع حالات التقليد الأعمى يعني ضمور مجالات الحرية. فلا يمكن أن تلتقي الحرية مع الخرافة، كما أنه لا يمكن أن تنسجم حالات التقليد الأعمى مع متطلَّبات الحرية.
والإسلام الذي كفل حق الاختلاف وعدّه من النواميس الطبيعية، جعل التسامح والعفو سبيل التعاطي والتعامل بين المختلفين. فحق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى أو الفردية الضيقة، وإنما يعني أن تمارس حريتك على صعيد الفكر والرأي والتعبير، وتتعامل مع الآخرين وفاقاً لنهج التسامح والعفو. وبهذا لا يخرج الاختلاف عن إطاره المشروع، وفي الوقت نفسه يمارس دوره الحضاري في حفز الهمم والبحث عن الحقيقة، والتعاطي مع جميع الآراء والتعبيرات بعقلية حضارية تنشد استيعاب الآراء، وتستفيد منها جميعها في بناء واقعها ومسارها.
فالاختلاف لا يساوي الرذيلة والإثم والخلل، وإنما هو ناموس كوني وجبلّة إنسانية. الخلاف والتشرذم والتفرقة، هي التي تساوي الإثم والخلل. وعلى هذا ينبغي أن نجدِّد رؤيتنا للاختلاف، ونتعامل معه وفاقاً لعقليَّة جديدة، لا ترى فيه إثما ومعصية، وإنما قدرة إنسانية
________________________________________
[الصفحة - 59]
مفتوحة ومتواصلة لإثراء الواقع والحقيقة.
فالاختلاف هو الوجه الآخر لضرورة الاجتهاد وإعمال العقل والفكر، كما أن الخلاف والتشرذم هما الوجه الآخر للخضوع للأهواء والغرائز والنزعات الشيطانية، التي تتمرد على القيم والأخلاق، وتؤسس لصراعات وفتن دائمة، وتدخل الجميع في أتون النزاعات التي لا طائل من ورائها.
فالحرية لا تعني الانفلات من الضوابط الأخلاقية والإنسانية، وإنما تعني امتلاك القدرة على التعرف والاختيار وفاقاً لقواعد عقلية أو ضوابط شرعية.
فهي تتجه إلى الكمال وليس إلى التخريب، وإلى الانسجام ونواميس الكون والمجتمع وليس للخروج عنهما.
نحو عقد سياسي جديد
في ظل الخلافات والنزاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنتاب العديد من مناطق العالم الإنساني، من الضروري أن نتساءل: كيف لنا في هذا الجو المحموم، أن نبدع ثقافة حوارية، تسهم في تطورنا الروحي والإنساني والحضاري؟ كيف لنا أن نطور ثقافة البناء والإصلاح في عالم يمور بالخلافات والنزاعات والحروب.
ونحن، حينما نطرح هذه الأسئلة المحورية، لا نجنح إلى الخيال والتمني، ولا نتجاوز المعطيات الواقعية، وإنما نرى أن الخروج من نفق الحروب والنزاعات ومتوالياتهما النفسية والاجتماعية والسياسية، لا يتم إلا بتوطيد أركان ثقافة الإصلاح والحوار والتوازن. ولا بد من إدراك أن هذه الثقافة، ليست حلا سحريا للمشكلات والأزمات، وإنما هي الخطوة الأولى لعلاج المشكلات بشكل صحيح وسليم.
فالعنف المستشري، في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، لا يمكن مقابلته بالعنف، لأن هذا يدخل الجميع في أتون العنف ونتائجه الخطيرة، ولكن نقابله بالمزيد من الحوار والإصلاح في أوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بمعنى العمل على تطوير الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتحسينها؛ وهي الحالة التي تسهم بشكل أو بآخر، في تغذية قوافل العنف والقتل والتطرف بالمزيد من الأفكار والمسوغات.
________________________________________
[الصفحة - 60]
إن طبيعة التطورات الاستراتيجية والأحداث السياسية التي تمر بها المنطقة، تتجه إلى تأكيد حقيقة أساسية في المشهد السياسي للمنطقة، وهي: إن النخبة، أو الفئة، سواء كانت حاكمة أم محكومة ـ التي تربط مصيرها بخارج حدود الوطن -لن يفضي عملها إلا إلى المزيد من الإرباك والتدهور؛ إذ إن الارتباط الهيكلي بخارج الحدود، سيزيد من فرص استخدام القهر والقوة لفرض الخيارات وجبر النقص في العلاقات الداخلية من جراء الارتهان للأجنبي.
وهذا يقود إلى تنامي مشاعر العداء والخيبة لكل ما يجري في الساحة العربية، وستشهد المنطقة من جراء ذلك حالة من عدم الاستقرار والقلق والخوف، كما سيتفاقم العنف الرمزي والمادي، لأن القهر والظلم والإذلال ينبوع دائم للإرهاب والعنف وعدم الاستقرار.
وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد الجازم بأن الاستقرار السياسي الحقيقي والدائم في فضائنا العربي والإسلامي لا يتأتى من حالة الارتهان للأجنبي، أو الانسجام المطلق مع استراتيجياته وخياراته الإقليمية والدولية، بل إن هذه الحالة تزيد من فرص انهيار الاستقرار وتفاقم من حالات اختراق الأمن الوطني والقومي.
لذلك فإنه يخطئ من يتصور أن بوابة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مجتمعاتنا تتمثل في الخضوع لرهانات الأجنبي وخياراته في الغطرسة والهيمنة.
فالتجارب السياسية تثبت أن الارتهان للأجنبي لا يجلب إلا المزيد من الصعوبات وسخط المجتمعات وفقدان ثقتها وإيمانها بنخبتها السياسية والاقتصادية.
وفي ظل الأوضاع الراهنة، تزداد مخاطر الارتهان للأجنبي على مختلف المستويات. ويبقى في تقديرنا خيار تنمية مشروع المصالحة الداخلية في الفضاء السياسي والاجتماعي العربي. إذ إننا لا يمكن أن نحقق الأمن والاستقرار إلا على قاعدة المصالحة الداخلية في المجتمعات العربية بين مختلف المكونات والتعبيرات.
مصالحة بين السلطة والمجتمع، بين النخب السياسية والثقافية والاقتصادية، بين المكوَّنات والتوجهات الدينية والقومية، بحيث يتوافر مناخ جديد يزيد من فرص الوفاق والتوافق، ويقلل من إمكانية الصدام والصراع المفتوح بين الخيارات المتوافرة في الساحة..
إننا جميعا، نخبا ومجتمعات، لا نمتلك القدرة الحقيقية لإنجاز حلول جذرية لأزماتنا ومشكلاتنا. واستمرار أوضاعنا وأحوالنا على حالها سيفاقم من الأزمات وسيوصلنا جميعا
________________________________________
[الصفحة - 61]
إلى شفير الهاوية.
لذلك، وفي ظل أحوالنا المتردية والتحديات والمخاطر الكبرى التي تواجهنا من مختلف المواقع، وغياب القدرة الحقيقية لدينا جميعا للانعتاق الجذري من هذه الاختناقات، لذلك كله لا يبقى أمامنا كحكومات وشعوب يلتفت بعضنا إلى بعض، ونعمل بوعي وإحساس عميق بالمسؤولية لإطلاق مشروع مصالحة سياسية واجتماعية بين مختلف مكونات المجتمع، حنى نتمكن من الخروج من هذه الدائرة الجهنمية التي تراكم المخاطر وتكثف من التحديات وتزيدنا ضعفا وتراجعا وانتكاسا.
فالتطورات السياسية الأخيرة، في العراق وفلسطين، تؤكد أن المجال العربي بأسره عاجز عن حماية ذاته والدفاع عن أمنه الوطني والقومي وأن المشروع الصهيوني "يتغوّل" ويتضخم ويصل إلى أهدافه الخطيرة من جراء عجزنا وضعفنا. ولن تستطيع الخطب الرنانة، أو الشعارات الصارخة، أن تغير من أحوالنا وأوضاعنا وتزيل عن كاهلنا حالة العجز المطبق التي كلفتنا ولا تزال تكلَّفنا الكثير من الخسائر والانكسارات. كما أن استمرار الأوضاع الداخلية في البلدان العربية على حالها، يعني استمرار الأخطار والخسائر.. وهذا ينذر بحدوث كوارث سياسية واقتصادية واجتماعية في العديد من المناطق والبلدان.
لذلك لا خيار حقيقياً أمامنا إلا مصالحة أنفسنا وإعادة بناء عقد سياسي واجتماعي جديد على المستويين الوطني والقومي، حتى نتمكن من توفير شروط الخروج والانعتاق من هذه الأزمات الخانقة التي تهدد وجودنا ومستقبلنا كله.
فلا أحد في العالم العربي كله يتحمل اليوم الانتقال من خسارة إلى أخرى،.ومن نكسة إلى نكسة أخرى أشد منها وطأة وخطرا وتأثيرا على الحاضر والمستقبل. ففي ظل الأوضاع الحالية، ازدادت الأمة معاناة وتراجعا ، وفي ظل النظام العربي الرسمي القائم توسع.المشروع الصهيوني، وأصبح يهدد الجميع أمنيا وسياسيا واقتصاديا، وازددنا تفككا وتفتتا على ضوء الموقف من مشروع السلام والتطبيع.
وفي ظل هذه الظروف والأوضاع، حدثت حروب ومصادمات عربية ـ عربية أرهقت الجميع، وأدَّت إلى أضرار فادحة في جسم الأمة.
وخلاصة الأمر: إن جميع الوقائع والتطورات الداخلية والخارجية، تثبت بشكل لا لبس فيه حاجتنا جميعا إلى نظام وعقد سياسَّيين جديدين يضعان الأمة من جديد في الطريق الصحيح من
________________________________________
[الصفحة - 62]
أجل تحقيق أهدافها وتطلعاتها التاريخية.
إننا أحوج ما نكون اليوم إلى عقد جديد ينظم العلاقات الداخلية بين قوى الوطن المتعددة وبين الدول العربية بعضها مع بعض. وينمي طاقاتنا ويصقل مواهبنا ويعزز قدراتنا الذاتية والموضوعية ويحرر إرادتنا من العجز أو الارتهان والتبعية، ويشحذ جميع طاقات الأمة وقدراتها من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة والتاريخية، ودحر المشروع الصهيوني من فضائنا ومجالنا السياسي والحضاري.
فثغرات واقعنا العربي عديدة وعظيمة، والتحديات والمخاطر التي تهددنا متواصلة، ولا خيار أمامنا إلاَّ إعادة ترتيب أوضاعنا وأحوالنا على أسس جديدة تأخذ بعين الاعتبار جميع التطورات والتطلعات الداخلية، من دون أن تغفل حاجتنا جميعا إلى الائتلاف والوحدة.
وهذا يتطلب من النخب السياسية، في المجال العربي، اتخاذ إجراءات وخطوات عملية ملموسة لوقف الانهيار والانطلاق في بناء حياة سياسية جديدة، تؤسس لمشروع عربي جديد، يحقق نهضتنا، ويوفر لنا القدرة النوعية لمجابهة التحديات الكبرى التي تفرضها قوى الهيمنة والغطرسة في المجال العربي.
وإن الخطوة الأولى، في مشروع وقف الانهيار وإعادة التوازن إلى المجال العربي، هي إصلاح العلاقة بين السلطة والمجتمع في الإطار الوطني والعربي وتطويرها. فهي مدخل وقف التراجع والتقهقر، وهي التي تمكننا من التغلب على المصاعب الاقتصادية والسياسية التي تواجه دول العالم العربي لأسباب وعوامل مختلفة.
وإن هذه المصالحة، بما تتضمن من رؤية ونمط جديدين للعلاقة والتعامل، هي اليوم أكثر من ضرورة.. إنها خيارنا المتاح للدخول في حركة التاريخ من جديد وتجاوز جميع المعضلات والعقبات التي تحول دون تقدمنا وانطلاقتنا من جديد.
وما لم تقم دول العالم العربي بمشروع المصالحة مع شعوبها ومجتمعاتها، فسيكون مستقبل المجتمع العربي بأسره قاتما وخطيرا على مختلف المستويات.
فلا تقدم من دون إصلاح، ومن ينشد التطور والتقدم من دون القيام بخطوات إصلاحية حقيقية، يراكم الكثير من الأزمات في أغلب الخطوات التي يقوم بها، ويكثف من حالات الإحباط والفشل. فالارتباط بين الإصلاح والتقدم هو ارتباط النتيجة بالسبب.
وهذا العقد الاجتماعي ـ السياسي هو الذي يصالح الجميع، وهو المرجعية العليا
________________________________________
[الصفحة - 63]
لكلا الطرفين. فمفتاح الخلاص للعديد من التوترات والأزمات، هو وجود عقد ينظم طبيعة العلاقة بين قوى الأمة ومؤسساتها المتعددة. ويحدد الأهداف المرحلية والاستراتيجية التي تسعى إليها قوى الأمة، وتبلور حقوق كل طرف وواجباته.
ومن المؤكد أن تنظيم العلاقة بين مختلف مكونات الأمة، بحاجة إلى العديد من الجهود والامكانات، وإلى ثقافة سياسية جديدة، تأخذ على عاتقها تعبئة المجال العربي وفاقأً لأهداف واضحة وأساليب ممكنة وحضارية، وإلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية والثقافية، بحيث نصل إلى مستوى حضاري يحكم علاقة السياسي بالثقافي والعكس.
وجماع القول: إن بوابة خلق الإجماع الوطني والقومي الجديد، هي تجديد الحياة السياسية، وتوسيع مستوى المشاركة فيها، وتنظيم قواعد التنافس والصراع فيها أيضا.
والعقد السياسي ـ الاجتماعي الجديد، هو الذي يوفر الأرضية المناسبة لتطوير مؤسسة الدولة وتحديث هياكلها الدستورية، وبناء الاقتصاد الوطني ووضع برامج النهوض في مختلف الميادين والمجالات.
________________________________________