البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مهمَّات التَّفكير العلمي في النِّظام المعرفي الإسلامي

الباحث :  السيد كامل الهاشمي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  32
السنة :  السنة الثامنة شتاء 1424هجـ 2004 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 24 / 2015
عدد زيارات البحث :  1505

مهمَّات التَّفكير العلمي في النِّظام المعرفي الإسلامي

السيد كامل الهاشمي (*)

تمهيــــــــد
على الرُّغم من امتداد عمر النظام المعرفي في الإسلام إلى أكثر من أربعة عشر قرناً، وعلى الرُّغم من تبني هذا النظام لأصول التفكير العقلي المنظم والدقيق وقواعده، فإنَّ هذه الحالة لم تتحول إلى ظاهرة عامة، أو شبه عامة تطال القدر الأكبر من أفراد المجتمعات المسلمة الحديثة والمعاصرة وجماعاتها، ومعنى ذلك أن المنهج العلمي الصارم والدقيق في التفكير الذي أصَّله الإسلام، في مجال البحث المعرفي، ظلّ حكراً على مجموعات صغيرة من المشتغلين بالشأن الفكري والعلمي من رجالات البحث والنظر من متكلمين وفقهاء وأصوليين ومفسِّرين، وغيرهم ممَّن راودوا مجالات البحث العلمي المتنوِّعة والمتعددة في تاريخ الإسلام الممتد والطويل. وهذا الإنجاز، على الرُّغم من أهميته، فإنَّه لا يغني أبداً عن إنجاز مهام تعميم المنهج المعرفي والفكرة العلمية في الأوساط الشعبية العامة، والتي تمثل الشرائح الأكثر فاعلية في صياغة الشأن العام وتحديد توجهاته ومساراته. وتتساوق ضرورة هذا الإنجاز مع نظرة الإسلام للعلم والمعرفة بوصفهما حقّين عامين من حق أفراد المجتمع جميعهم التمتع بهما، في الوقت الذي شنّ الإسلام من خلال نصوصه الدينية حملة شعواء على أولئك الذين يريدون أن يستلبوا حق الإنسان في العلم والمعرفة عبر إخفائهما أو تشويههما أو التلاعب بمقتضياتهما، فقال في شأن من يعمدون إلى إخفاء الحقائق الإلهية أو تحريفها: { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا اءَنْزَلْنَا مِنَ }
________________________________________
(*)باحث من العراق

[الصفحة - 113]


{ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ اءُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ الُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ} [البقرة/159].
وفي ضوء هذا الأصل الذي تبنَّاه الإسلام، في شأن ضرورة تعميم المعرفة ونشرها وترويجها، تتبدَّى ضرورة العمل على تعلم قواعد التفكير العلمي وتعليمها من قبل أفراد المجتمع جميعهم، وفي مختلف المجالات والتخصصات. وقد مثل فهم «منطق الأشياء» المنهجية التي يعتمدها جميع البشر، وفي مختلف الأزمنة والعصور، لمحاولات الحصول على المعرفة العلمية القائمة على أساس التجرد في الحكم والتعامل مع الحقائق كما هي من دون إقحام الذات في النظر إلى الأشياء. وهكذا عمل الإنسان على التعرف إلى المنطق الكامن في الأشياء نفسها من أجل أن يتعرف إليها كما هي، وعلى الرغم من أن المنطق تبلور منذ القدم بوصفه آلية معرفية صورية تستخدم بوصفها منهجيَّةً فكرية يتعلم الإنسان من خلالها أصول التفكير العلمي وقواعده، فإنَّها تتجاوز هذا الإطار في الحقيقة لتشمل العمل على اكتشاف الترابطات بين جميع الأبعاد الوجودية التي يفعل فيها ويتفاعل معها الإنسان بوصفه المخلوق الناطق المدرك للكليات، والقادر من دون سواه من الموجودات الأخرى على الترقي في الأسباب، والتطور في الفهم والإدراك، ومن هنا كان معنياً أكثر من غيره بفهم المنطق الذي يحكم الوجود كله في جميع تجلياته ومجالاته.
وهذا الفهم المنطقي للأشياء، أو بالأحرى للوجود، هو وراء جميع محاولات التحفيز العقلي والتنشيط الذهني والتذكير الفكري التي أطلقها الكتاب العزيز مطالباً الإنسان بالتفاعل معها واكتشافها في ذاته وكيانه، إذ يقول جلّ جلاله: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الاءِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن/1 ـ 4]، ويقول سبحانه: {اقْرَاءْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الاءِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَاءْ وَرَبُّكَ الاءَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الاءِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق/1 ـ 5]، ولأجل ذلك ليس من المستغرب أن تتحدّد الغاية النهائية نزول القرآن الكريم نفسه بأن تكون غاية معرفية علمية كما يفيد قوله تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا اءَنَّمَا هُوَ اءِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ اءُوْلُو الاءَلْبَابِ} [ابراهيم/52].
وإذا ما كانت المعرفة هي الغاية، فإن علينا أن نتعرف إلى «منطق الأشياء» لأنه
________________________________________

[الصفحة - 114]


المنهج الذي لا مناص من سلوكه للوصل إلى المعرفة، وهناك مسارات خمسة يمثل كل واحد منها منطقاً خاصاً في فهم الأمور وإدراك الترابطات بين الأشياء، وهي:
1 ـ المنطق الفلسفي: والذي يعنى بتفهم الترابطات بين الأسباب والمسببات وفحصها وإدراكها، فهو منطق الأسباب والكيفيات، ومن خلاله تحلّ إشكاليّات الوحدة والبساطة، قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالاءَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ اءَرَدْنَا اءَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَاءِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالاءَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتَرُونَ * اءَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الاءَرْضِ هُمْ يُنْشرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهمَا آلِهَةٌ اءِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء/16 ـ 22].
وقد عمل الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) على ترسيخ هذا المنطق في التفكير المسلم عبر اعتماده العقل، بوصفه الآلية التي ينبغي أن يعتمدها المسلمون جميعهم في إنجاز مهمات التفكير العلمي، معتبراً أن العقل هو بمثابة المظلة التي يفترض أن يستظل بها أفراد المجتمع المسلم جميعهم، فقال (صلي الله عليه و آله و سلم) : «لكل شيء آلة وعدة، وآلة المؤمن وعدته العقل، ولكل شيء مطية ومطية المرء العقل، ولكل شيء غاية وغاية العبادة العقل، ولكل قوم راع وراعي العابدين العقل، ولكل تاجر بضاعة، وبضاعة المجتهدين العقل، ولكل خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل، ولكل سفر فسطاط يلجؤون إليه وفسطاط المسلمين العقل» (1).
وبطبيعة الحال، لا يمكن لأيّ باحث في تاريخ تطوُّر الفكر الإسلامي أن يتناسى الدور الأساسي والكبير والمتميز الذي قام به الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) عبر خطاباته وكتبه ومحاوراته، في التأسيس والتأصيل لفاعلية المنطق الفلسفي في تشكيل الرؤية الفلسفية والعقيدية للإنسان المسلم، وهي الرؤية التي أكد الإمام علي (عليه السلام) على ابتنائها على قانون السببية والعلية الذي يفسر مختلف الارتباطات الوجودية والكونية، ما يجعله منطقاً صالحاً للفهم والتفسير، ولتشكيل منظومة عقيدية متماسكة وصلبة، وهذا أحد أهم نصوصه التي رويت عنه في هذا المجال، إذ يقول في أول خطبة أوردها له الشريف الرضي في نهج البلاغة: «الحمد لله الذي لا
________________________________________
(1)المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار، ج1، ص 95.

[الصفحة - 115]


يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادُّون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود، ولا وقت معدود ولا أجل ممدود، فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه، أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنَّاه، ومن ثنَّاه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدَّه، ومن حدَّه فقد عدَّه، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال: علام؟ فقد أخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده، أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء، بلا روية أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها، أحال الأشياء لأوقاتها، ولام بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها عالماً بها قبل ابتدائها محيطاً بحدودها وانتهائها، عارفاً بقرائنها وأحنائها...» (2) الخ.
2 ـ المنطق الرياضي: والذي يعني بتفهم الترابطات بين الأعداد والمعدودات وفحصها وإدراكها، فهو منطق الأعداد والكميات، ومن خلاله تحلّ إشكاليات الكثرة والانقسام، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ الُ ذَلكَ اءِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَات لِقَوْمٍ يَعْلَمْونَ * إنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ الُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالاءَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}[يونس/5 و6].
ويأتي المنطق الرياضي، في العصر الحديث، ليتجاوز إشكاليات المنطق الصوري الذي اعتمد من قبل المفكرين والفلاسفة والمناطقة المسلمين في تأسيس بعض مجالات الثقافة الإسلامية، وقد اعتمدت الثقافة الإسلامية المنطق الصوري أساساً في بناء المنظومة العقيدية والكلامية بشكل خاص، عبر عملية الترجمة من التراث اليوناني، والتي تمَّت بشكل أساسي في عصر التدوين في القرن الثاني
________________________________________
(2)الإمام علي: نهج البلاغة، الخطبة، رقم 1.

[الصفحة - 116]


الهجري على يد الخليفة العباسي المأمون ومن تلاه من خلفاء بني العباس، وقد سبقت هذه المحاولة محاولات فردية قام بها بعض علماء المسلمين ممَّن اطلعوا مبكِّراً على التراث اليوناني في مكتبة الاسكندرية المشهورة (3).
وعلى الرغم من اهتمام المسلمين بالمنطق الرياضي وإبداعهم المهم للغاية في اكتشاف «الصفر»، فإنَّ المنطق الرياضي ظلّ غير مفعَّل بشكل كبير في الثقافة العامة للمسلمين، ما جعلها تجنح للخطابيات وتخضع للمنطق العاطفي أكثر من خضوعها للمنطق الرياضي العلمي الصارم، هذا على الرُّغم ممَّا يستلزمه التعامل اليومي من قبل الفرد المسلم مع القرآن الكريم، بوصفه المرجعية الأساسية والأولى له، من تعرف إلى المنطق الرياضي الذي يجده فاعلًا بالضرورة في كثير من الأمور التي تمس حياته اليومية من قبيل حساب الشهور القمرية ومسائل الإرث وقسمته بين الورثة.
ونجد، في تراثنا الإسلامي، إبداعات مهمة في توظيف المنطق الرياضي في حل الإشكاليات المثارة، كما في هذه القضية التي تروى عن الإمام علي (عليه السلام) ، فقد روي «أن ثلاثة رجال تشاجروا على سبعة عشر جملًا بينهم، وتخاصموا وألد بينهم الخصام الطويل، وكثر القال والقيل، فمرّ عليهم علي (عليه السلام) فقال لهم: ما بالكم يشاجر بعضكم بعضاً؟ فقالوا: يا أبا الحسن، هذه سبعة عشر جملًا، وقد تشاجرنا على قسمتها ويريد كل منا ما يريده الآخر بحيث لا ينقص، وقد اختار كل منا فيها، فقال لأحدهم: كم لك؟ قال: النصف، ثم قال للثاني: كم لك؟ قال: الثلث، ثم قال للثالث: كم لك فيها؟ قال: التسع، فقال (عليه السلام) : أترضون أن أقسمها لكم وأضيف جملي هذا إلى جمالكم هذه قالوا: رضينا، قال (عليه السلام) للأول: أليس لك النصف، وهو ثمانية جمال ونصف جمل؟ قال: بلى فقال: إذا دفعت إليك ما يزيد على سهمك من غير كدر أفترضى؟ قال: نعم، فدفع إليه تسعة، ثم قال للثاني: أليس لك الثلث وهو ستة جمال إلا ثلث جمل؟ قال: بلى فقال (عليه السلام) : إذا دفعت إليك ما يزيد على سهك أفترضى؟ قال: نعم، ثم قال للثالث: أليس لك التسع، وهو جملان إلا تسع جمل؟ قال: بلى فقال: إذا دفعت إليك ما يزيد على سهمك من غير كسر أفترضى؟ قال: نعم، فدفع إليه جملين وانصرف، فركب (عليه السلام) جمله ومضى» (4).
________________________________________
(3)راجع في هذا المجال: الجابري: د. محمد عابد، نقد العقل العربي، الجزء الأول «تكوين العقل العربي».
(4)الشيخ جعفر النقدي: الأنوار العلوية، ص 107 و108. وتجد القضية وتفاصيلها وكيفية حلها بالرياضيات الحديثة في: أحمد أمين: التكامل في الإسلام، ج2، ص 212 ـ 214.

[الصفحة - 117]


3 ـ المنطق الطبيعي: والذي يعني بتفهم الترابطات بين الطبائع والموجودات الطبيعية في هذا الكون وفحصها وإدراكها، فهو منطق الطبائع، ومن خلاله تحلّ إشكاليّات الطبيعة وتقلباتها، قال تعالى: {يَا اءَيُّهَا النَّاسُ إن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَاءِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَاب ثُمَّ من نُّطْفَة ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ مِن مُّضْغَةَ مُخَلَّقَة وَغَيْرِ مُخَلَّقَة لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الاءَرْحَامِ مَا نَشَاء اءِلَى اءَجَلٍ مُسَمَّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا اءَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُم مَّن يُرَدُّ اءِلَى اءَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الاءَرْضَ هَامِدَةً فَاءِذَا اءَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَاءَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِاءَنَّ الَ هُوَ الْحَقُّ وَاءَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَاءَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَاءَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَاءَنَّ الَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي الِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِه لِيُضلَّ عَنْ سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَاءَنَّ الَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ الَ عَلَى حَرْفٍ فَاءِنْ اءَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَاءِنْ اءَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحج/5 ـ 11].
في هذا النص القرآني، نجد الترابطات والمداخلات المثارة بشكل رائع بين أنواع المنطق، فهناك تلميح للمنطق الفلسفي تبدأ به الآيات للتذكير بضرورة البعث ويوم القيامة، ويتمّ ذلك من خلال تنبيه الفكر الإنساني إلى التطورات التي تجري في خلق الإنسان وإبداعه ضمن دورة حياته الطبيعية والمعرفية، وفي هذه الأثناء يتم التذكير والتنبيه أيضاً من خلال إثارة صورة الأرض في الطبيعة، وهي تهتز وتنبت من كل زوج بهيج، لتنتهي الآيات بالربط بين منطق الطبيعة ومنطق المعرفة اللذين ينتهجان أسلوب الترابط بين الأسباب والمسببات نفسه، ولكن بصورة مختلفة، وأخيراً يتم التعرض لانعدام منطق التفكير والمعرفة عند بعض الناس، ما يوجد إرباكاً في تعاملهم مع الأشياء من حولهم، فيعبدون الله على حرف ويخضعون منطق التفكير لتقلبات الأهواء والأمزجة التي تفتقد كل منطق في التعامل مع الأمور والحكم عليها، سوى منطق العاطفة الذي لا يحتكم إلى أيّ عقل وتفكير وتدبُّر (5).
واستيعاب منطق الطبيعة يتيح للإنسان أن يتعامل مع جميع ظواهرها من موقع
________________________________________
(5)تحدث الدكتور غوستاف لوبون الباحث الفرنسي المشهور في كتابه: «الآراء والمعتقدات» عن «المنطق العاطفي» بوصفه المنطق الذي يحكم أنظمة التفكير والعلاقات عند مجاميع كثيرة من البشر، وقد عدّه واحداً من خمسة أنواع من المنطق التي تتحكم في صياغة آراء الشعوب والجماعات ومعتقداتها بالإضافة إلى كل من: منطق الحياة، ومنطق الجموع، والمنطق الديني، والمنطق العقلي. ولكن هذه التقسيمات التي يبتدعها الباحث المذكور ترد في سياق آخر غير السياق الذي عنينا بإبرازه والحديث عنه في مقالتنا هذه.

[الصفحة - 118]


الرَّغبة في التفهُّم والتعلُّم، وهكذا تتحول الطبيعة بما تحويه من قوانين ومعادلات إلى مدرسة ذات عطاء مستمر ومتواصل، يقيم الإنسان علاقته معها من خلال منهجية التجريب والاختبار والملاحظة والاستنتاج، ومما يثير العجب أن المنظومة المعرفية في القرآن الكريم، على الرُّغم من إلحاحها في استثارة العقل المسلم، في ضرورة التأمل في الطبيعة ودعوته للسير الواعي في آفاقها والنظر المتبصر في عجائبها، فإنَّ العقل المسلم الجمعي قابل هذه الدعوة في أغلب الأحيان بالصدود والتجاهل، وانكفأ على ذاته مغلقاً جميع أبواب الفهم والوعي والتطور المعرفي التي شرعها أمامه الخالق عزّ وجلّ.
والقليل من المسلمين استطاعوا أن يتجاوزوا هذه الإشكالية التي أسهمت في سدّ منافذ العلم عليهم، وأن يخلطوا المعرفة الدينية بمعرفة الطبيعة، وأن يقيموا منطقهم الديني على الاستفادة من جميع روافد الحق والمعرفة. وفي هذا المجال، يبدع الإمام علي (عليه السلام) في تقديم صورة في غاية الروعة والجمال والاستثارة عبر العديد من خطبه التي تناول فيها تشريح ظواهر الطبيعة وتفصيلها ساعياً إلى استثارة التفكير في أبسط المخلوقات كالنمل والنحل والبعوضة. ومثلت خطبته عن «الطاووس» نوعاً من الخطب الدينية ذات الصبغة العلمية التي لم يألفها الخطاب الديني الإسلامي إلَّا في العصر الحديث، وضمن محاولات قليلة خلت من التكلف والتعسف في تحميل النص الديني ما لا يحتمله، بينما جاء أسلوب الإمام علي (عليه السلام) في ثنايا حديثه عن الطاوس ضمن منهج علمي يعمد إلى الكشف عن خفايا الطبيعة والتعرف إلى أسرارها، وتوظيف نتائج هذه الاكتشافات المعرفية في بناء المنطق الكوني الكلي. وما يثير العجب أنه (عليه السلام) تنبه إلى ظواهر طبيعية غير ظاهرة للعين ولا محسوسة، فقد وصف طريقة تزاوج الطاوس بشكل لا يعرفه الكثير من أبناء يومنا هذا، على الرغم من جميع الإمكانيات المعرفية المتاحة لهم الآن، فقد تحدث عن الطاوس في خطبة له يذكر فيها عجيب خلقه بالقول: «... ومن أعجبها خلقاً الطاوس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال مسحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيه، وسما به مطلًا على رأسه، كأنه قلع داري عنجه نوتيه، يختال بألوانه، ويميس بزيفانه، يفضي
________________________________________

[الصفحة - 119]


كإفضاء الديكة، ويؤر بملاقحة أر الفحول المغتلمة في الضراب، أحيلك من ذلك على معاينة، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده، ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف في ضفتي جفونه، وأن أنثاه تطعم ذلك، ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب...» (6).
وقد استثار هذا الوصف الذي قدمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كيفية التزاوج بين الطاووس ـ والذي يشير إلى أن عين الذكر منه تدمع حين الرغبة في التزاوج فتعمد الأنثى إلى التقاط ما يسفح من هذا الدمع، وأن منه يكون اللقاح والتوالد ـ أهم شارح لنهج البلاغة واستوقفه كثيراً، إذ كيف أمكن لعلي (عليه السلام) أن يتنبه لظاهرة طبيعية حيوانية، وهو الذي لم يعرف عنه تواجد الطاوس في بيئته التي عاش فيها، وقد حاول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لهذه الخطبة أن يقدّم توجيهاً لعملية الرصد الدقيق التي قام بها الإمام علي (عليه السلام) في وصفه للطاوس، والتي أفصحت عن علاقة متميزة في محاولة التعرف إلى الطبيعة ومنطقها الخاص بها، ومن ثم توظيف هذه المعرفة في رقي الإنسان الفكري والعلمي، وقد تمّت عملية الرصد كما هو واضح من كلام الإمام علي (عليه السلام) من خلال مراقبة مباشرة للظاهرة، وهو ما تنبه إليه ابن أبي الحديد فقال: «ثم ذكر أنه لم يقل ذلك عن إسناد قد يضعف ويتداخله الطعن، بل قال ذلك عن عيان ومشاهدة. فإن قلت: من أين للمدينة طواويس؟ وأين العرب وهذا الطائر حتى يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أحيلك من ذلك على معاينة»، لا سيما وهو يعنى السفاد، ورؤية ذلك لمن تكثر الطواويس في داره ويطول مكثها عنده نادرة! قلت: لم يشاهد أمير المؤمنين (عليه السلام) الطواويس بالمدينة بل بالكوفة، وكانت يومئذ تجبى إليها ثمرات كل شيء، وتأتي إليها هدايا الملوك من الآفاق، ورؤية المسافدة مع وجود الذكر والأنثى غير مستبعدة» (7).
4 ـ المنطق الاجتماعي:والذي يعنى بتفهم الترابطات بين الإنسان وأخيه الإنسان وفحصها وإدراكها، فهو منطق العلاقات الإنسانية، ومن خلاله تحلّ إشكاليّات العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وقد أمعن القرآن الكريم في تفصيل عناصر هذا المنطق، وأوضح، في الكثير من آياته البينات، جزئيات المنطق
________________________________________
(6)نهج البلاغة، الخطبة، رقم 165.
(7)ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ج9، ص 269 و270.

[الصفحة - 120]


الاجتماعي الذي يحكم بكل صرامة العلاقات الاجتماعية، بالمستوى الذي يحكم المنطق الفلسفي العلاقات الوجودية بين المقدمات ونتائجها، وبالمستوى نفسه الذي يحكم المنطق الرياضي العلاقات بين الأعداد والكميات، فالعلاقات الاجتماعية بين بني البشر يحكمها المنطق الاجتماعي الذي يكشف عن أن هناك ارتباطات بين الأسباب والنتائج في دائرة العلاقات الإنسانية، ما يخرجها من دائرة العبثية وافتقاد الانتظام. وقد ذكّر القرآن المجيد بالعديد من الموارد التي تخضع لمنطق السنن الاجتماعية التي لا يمكن أن تبدل، أو أن تتجاوز من قبل الإنسان، ففي علاقة الإنسان بدينه أفصح كتاب الله العزيز عن أن المنطق الاجتماعي الذي يحكم علاقة الإنسان بالدين يقول: إن الالتزام بالدين والوفاء لكلمة الله هو مقدمة ضرورية ترتبط ارتباطاً مباشراً بالنصر والتأييد من قبل الله تعالى كنتيجة مترتبة ترتباً طبيعياً على فعل تلك المقدمة، كما أن التحلل من مسؤولية الدين والتخلي عن الالتزام بميثاقه تعالى لا يمكن أن ينتج إلا تحقيقاً لمبدأ الاستبدال الذي يتبلور بوصفه نتيجة طبيعية للقيام بتلك المقدمة، إذ يقول عزّ شأنه: {هَااءَنْتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لتُنفِقُوا في سَبِيلِ الِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَاءِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَالُ الْغَنِيُّ وَاءَنْتُمْ الْفُقَراءُ وَاءِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا اءَمْثَالَكُمْ} [محمد/38].
وقد عمل الإمام علي (عليه السلام) ، في العديد من كلماته وخطبه، على بلورة هذا المنطق والإفصاح عن اشتغاله في مجال العلاقات الاجتماعية، والتي تقف على رأسها علاقة الحاكم بالمحكوم، فهناك ارتباط متبادل في التأثير والتأثر بين الحاكم والمحكوم، ما يستدعي ضرورة إخراج هذه العلاقة الأساسية والمحورية في الاجتماع البشري عن أن تكون عرضة للبقاء تحت طائلة الانفعالات وردود الأفعال التي لا تخضع لمنطق الاجتماع، ومن ثم تبقى العلاقة بين الطرفين في الدائرة السلبية التي تعوّقها عن أن تتحول إلى علاقة مثمرة وإيجابية تعين كل طرف على تحقيق الدور المنتظر منه.
وفي هذا المجال، يبرز الإمام علي (عليه السلام) الارتباطات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم في صياغة طبيعة الاجتماع البشري سلباً وإيجاباً، من خلال الكشف عن المنطق الخاص الذي يحكم العلاقة بين الطرفين، فيقول: «فأعظم مما افترض الله،
________________________________________

[الصفحة - 121]


تبارك وتعالى، من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله عز وجل لكل على كل، فجعلها نظام ألفتهم، وعزَّاً لدينهم، وقواماً لسنن الحق فيهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدَّت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى إليها الوالي كذلك، عز الحق بينهم، فقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان وطاب به العيش وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرعية واليهم، وعلا الوالي الرعية، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت مطامع الجور وكثر الإدغال في الدين، وتركت معالم السنن، فعمل بالهواء، وعطلت الآثار، وكثرت علل النفوس، ولا يستوحش لجسيم حد عطل، ولا لعظيم باطل اثل، فهنالك تذل الأبرار وتعز الأشرار وتخرب البلاد وتعظم تبعات الله عز وجل عند العباد» (8).
ويمكننا أن نستخلص، من هذه الكلمة لعلي (عليه السلام) ، العديد من البنود التي يمكن أن تشكل عناصر لمنطق الاجتماع البشري في مجال العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأهمّ هذه البنود:
البند الأول: الحق أمر متبادل لا معنى للحديث عنه في إطار الحاكم، من دون المحكوم أو في إطار المحكوم من دون الحاكم.
البند الثاني: بإعمال الحقوق تنتظم الألفة بين الحاكم والمحكوم، ويعزّ الدين، وتتجذّر سنن الحق في حركة الدولة والمجتمع.
البند الثالث: من نتائج تفعيل العدل والحق في حركة الأمة والسلطة أن يصبح الحقّ عزيزاً، ويترتب على ذلك:
أولًا: قيام مناهج الدين.
ثانياً: اعتدال معالم العدل.
ثالثاً: تجري على إذلالها السنن.
ونتيجة هذه الثلاثية في تفعيل الحق:
________________________________________
(8)نهج البلاغة، الخطبة، رقم 216.

[الصفحة - 122]


أولًا: أن يصلح الزمان.
ثانياً: ويطيب العيش به وفيه.
ثالثاً: ويرجى بقاء الدولة وديمومتها.
رابعاً: وييأس الأعداء من ضعف الدولة وهوانها.
كما أن من نتائج تعطيل الحقوق وتفعيل الظلم في حركة الدولة والمجتمع:
أولًا: اختلاف الكلمة وتضارب الآراء.
ثانياً: ظهور مطامع الجور.
ثالثاً: كثر الإدغال في الدين.
رابعاً: تركت معالم السنن.
وما تنتجه هذه الأمور هو:
أولًا: يكون العمل بالأهواء محكّماً في مسار الدولة والمجتمع.
ثانياً: عطلت الآثار.
ثالثاً: كثرت علل النفوس.
رابعاً: لا يستوحش لجسيم الحدود المعطلة.
خامساً: لا يستوحش للعمل بالباطل.
وما يترتب على ذلك في النهاية هو:
أولًا: إذلال الإبرار.
ثانياً: عزّ الأشرار.
ثالثاً: خراب البلاد.
رابعاً: عظمة تبعات العباد عند الله عزّ وجلّ.
5 ـ المنطق الكوني: والذي يجمع ويستوعب منظومة القوانين والقواعد والمبادى التي حوتها وانطوت عليها الأنواع الأربعة المتقدمة من المنطق، وهو العقل
________________________________________

[الصفحة - 123]


الجامع الذي فيه تبيان كل شيء، قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا اءَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَاءُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ اءِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل/15 و16].
واستكمال الإنسان لأنواع المنطق الأربعة المتقدمة، وتوفره على الرؤية الشمولية التي تتعرف إلى حقائق الأشياء كما هي، هو ناتج توافر عدة مؤهلات في الشخصية الإنسانية، لا يمكن في ظل غيابها أو نقصانها أن يبني الإنسان منطقه الكوني، ويمكننا أن نحدد تلك المؤهلات ضمن مسارات تكاملية ثلاثة تتمثل في ما يأتي:
أولًا: المسار التكاملي العقلي: والذي يعمل فيه الإنسان على بناء منظومة المعرفة العقلية التي تشكل الأساس في بناء الذات الإنسانية، ومن خلال بناء هذه المنظومة ينفتح المجال لبناء الذات في المسارين الآخرين، واللذين يتأسسان بصورة طبيعية متأثرين ببناء هذه المنظومة.
ثانياً: المسار التكاملي النفسي: وفيه يستكمل الإنسان مقتضيات السمو الروحي، ويتجرَّد بالنفس عن شهواتها المادية وغير المادية التي تعوّقها عن الانطلاق في آفاق رحبة، وفي هذا المجال لا محيص من خوض الإنسان عملية تطهير روحي ونفسي مستمرة ومتواصلة حتى يأتيه اليقين.
ثالثاً: المسار التكاملي العملي: ومن خلاله يطهر الإنسان جميع أفعاله وحركاته وسكناته من أيّ مقصد وغاية سواه سبحانه وتعالى، ولا يكون له من همّ سوى الوصول إليه عزّ وجلّ، والتحقق بمقتضيات القرب منه، وقطع كل شاغل يشغله عنه.
وسيرورة الإنسان في طي هذه المراتب هو ما يؤهله لاستجماع مراتب النور، والخروج من جميع مراتب الظلمة، والتحقق بأقصى مراتب الولاية الإلهية كما نبّه إليه تعالى بقوله: {الُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ اءِلَى النُّورِ...} [البقرة/257]، وحينئذ يكون الإنسان متحققاً بالغاية التي من أجلها كان موجوداً عاقلًا ناطقاً مفكراً، وهي ما نص عليه أهل العقل والمعرفة من الفلاسفة بقولهم: غاية الفلسفة صيرورة الإنسان عالماً عقلياً مضاهياً للعالم الكوني.
وهذه النماذج المتكاملة، في سيرورتها الوجودية، تمثِّل الذين عناهم علي بن
________________________________________

[الصفحة - 124]


أبي طالب (عليه السلام) في حديثه مع تلميذه الوفي كميل بن زياد حينما قال: «اللهم، بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجة ظاهرة، أو خافٍ مغمور، لئلّا تبطل حجج الله وبيّناته، وكم ذا وأين؟ أولئك الأقلّون عدداً، الأعظمون خطراً؟ بهم يحفظ الله حججه حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقائق الأمور، فباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى؛ يا كميل أولئك خلفاء الله، والدعاة إلى دينه، هاي هاي شوقاً إلى رؤيتهم» (9).
وفي قوله (عليه السلام) : «هجم بهم العلم على حقائق الأمور» كناية جميلة في التعبير عن البصيرة النافذة والرؤية الثاقبة التي صارت عند هؤلاء النفر، فقد خرجوا من ظلمات الجهل والشك والظن والوهم إلى نور اليقين، والذي يأبى أن يذعن بأي أمر إلا من خلال منطق العلم، ولأجل ذلك صحبوا الدنيا بأرواح معلقة بالمحل الأعلى.
وقوله (عليه السلام) : «فباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون»، لا يأتي في سياق حرف الحديث عن جهته المعرفية، ومحاولة توجيهه وجهة أخلاقية روحية تبتعد عن المضمون الجوهري لطبيعة الموضوع الذي نحن في صدد الحديث عنه، وإنما تأتي للكشف عن الارتباط الوثيق بين مسارات التكامل الإنساني الثلاثة التي أشرنا إليها بوصفها ضرورات ومتطلبات لا يمكن الاستغناء عن تحصيلها واستكمالها من أجل التوصل إلى استيعاب المنطق الكوني للأشياء، ولعل إدراك هذا الارتباط نفسه بين عناصر الوجود في النفس الإنسانية هو من مقتضيات استحصال المنطق الكوني الذي لا يبلغه إلا الأقلون عدداً والأعظمون خطراً، وهم من أفصح عنهم (عليهم السلام) بقوله في شأنهم: «هم عيش العلم، وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، وهم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق إلى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته. عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فإن رواة العلم كثير، ورعاته قليل» (10).
________________________________________
(9)بحار الأنوار، ج1، ص 188.
(10)نهج البلاغة، الخطبة، رقم 239.

[الصفحة - 125]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف