فهرس المحتويات

مقدِّمة المركز | 7

مقدِّمة المؤلِّف | 11

الفصل الأول: القرآن الكريم من منظور الاستشراق (عرض ونقد)

المبحث الأوّل: توطئة تأريخيّة في الاستشراق ومراحل دراسته للقرآن الكريم | 21

المطلب الأوّل: مفهوم الاستشراق | 22

المطلب الثاني: دوافع الاستشراق | 26

المطلب الثالث: مراحل دراسة المستشرقين للقرآن الكريم | 30

المبحث الثاني: نقد أساليب المستشرقين ومنطلقاتهم في فهم القرآن الكريم | 35

المبحث الثالث:  المنهج الفيلولوجيّ عند المستشرقين | 41

المطلب الأوّل: مفهوم الفيلولوجيا | 42

المطلب الثاني: المنهج الفيلولوجيّ في الدراسات الاستشراقيّة للنصّ القرآنيّ | 43

الفصل الثاني: الفهم الحداثيّ للقرآن الكريم وعلاقته بالاستشراق (عرض ونقد)

المبحث الأوّل: الفهم الحداثيّ للقرآن الكريم | 49

تمهيد: مفهوم الحداثة | 50

المطلب الأوّل: فهم القرآن الكريم عند محمد أركون | 56

المطلب الثاني: فهم القرآن الكريم عند نصر حامد أبو زيد | 80

المطلب الثالث: فهم القرآن الكريم عند محمد عابد الجابريّ | 88

المطلب الرابع: فهم القرآن الكريم عند طيّب تيزينيّ | 91

المبحث الثاني: نقد الأسس المعتمدة لدى الحداثيّين في فهم القرآن الكريم | 95

المطلب الأوّل: أرخنة القرآن الكريم | 96

المطلب الثاني: أنسنة القرآن الكريم | 107

المطلب الثالث: عقلنة القرآن الكريم | 111

المبحث الثالث: العلاقة بين الاستشراق والحداثة | 117

المطلب الأوّل: النقد الحداثيّ للاستشراق | 118

المطلب الثاني: جهات الالتقاء والاختلاف بين الاستشراق والحداثة | 122

الفصل الثالث: (نماذج تطبيقيّة لتأثّر الفهم الحداثيّ بالاستشراق في مباحث تأريخ القرآن وعلومه) عرض ونقد

المبحث الأوّل: أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ لـمباحث (الوحي) | 129

المطلب الأوّل: الوحي في اللغة والفكر الإسلاميّ. | 130

المطلب الثاني: الوحي في المفهوم الغربيّ والاستشراقيّ | 132

المطلب الثالث: الرؤية الحداثيّة لفهم ماهيّة (الوحي) والأثر الاستشراقيّ فيها | 136

المبحث الثاني: أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ لـمباحث (المكّيّ والمدنيّ) | 147

المطلب الأوّل: الرؤية الإسلاميّة للمكّيّ والمدنيّ | 149

المطلب الثاني: الرؤية الاستشراقيّة للمكّيّ والمدنيّ | 151

المطلب الثالث: الرؤية الحداثيّة لفهم ماهيّة المكّيّ والمدنيّ والأثر الاستشراقيّ فيها | 153

المبحث الثالث: أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ لـمباحث (جمع القرآن وتدوينه) | 159

المطلب الأوّل: الآراء الإسلاميّة والاستشراقيّة في مسألة جمع القرآن وتدوينه | 161

المطلب الثاني: الرؤية الحداثيّة لجمع القرآن وتدوينه | 163

المطلب الثالث: الأثر الاستشراقي في الفهم الحداثيّ لجمع القرآن وتدوينه | 166

المبحث الرابع: أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ لـمباحث (النسخ) | 171

المطلب الأوّل: مفهوم النسخ عند المسلمين | 173

المطلب الثاني: النسخ في الفهم الاستشراقيّ | 177

المطلب الثالث: النسخ في الفهم الحداثيّ وأثر الاستشراق فيه | 178

الخاتمة | 181

ملحق ترجمة الأعلام | 187

قائمة المصادر والمراجع | 197

سلسلة القرآن في الدراسات الغربية 12 أثر الاستشراق في الفهم الحداثي لمباحث تأريخ القرآن و علومه تأليف كاظم جواد الحكيم العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

العتبة العباسية المقدسة 

المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية 

سلسلة القرآن في الدراسات الغربية 12

أثر الاستشراق في الفهم الحداثي لمباحث تأريخ القرآن وعلومه 

تأليف 

كاظم جواد الحكيم 

 

الحكيم ، كاظم جواد ، مؤلف .

اثر الاستشراق في الفهم الحداثي لمباحث تأريخ القرآن وعلومه / تاليف كاظم جواد الحكيم . -الطبعة الاولى . -النجف ، العراق . -العتبة العباسية المقدسة ، المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية ، 1443 هــ . = 2021 .

228 صفحة ، 24 سم .-(سلسلة القرآن في الدراسات الغربية ، 12)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية : صفحة 198 - 228 .

ردمك : 9789922625515

1. القرآن--دفع مطاعن . 2.الاستشراق والمستشرقون . أ.العنوان .

LCC;BP130.1.H35 2021

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة 

فهرسة اثناء النشر 

 

سلسلة القرآن في الدراسات الغربية 

أثر الاستشراق في الفهم الحداثي

لمباحث تأريخ القرآن وعلومه 

تأليف 

كاظم جواد الحكيم 

بسم الله الرحمن الرحيم 

(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)

صدق الله العلي العظيم 

سورة التوبة ، الآية 32

فهرس الكتاب 

مقدِّمة المركز7

مقدِّمة المؤلِّف11

الفصل الأول: القرآن الكريم من منظور الاستشراق (عرض ونقد)

* المبحث الأوّل: توطئة تأريخيّة في الاستشراق و

مراحل دراسته للقرآن الكريم21

المطلب الأوّل: مفهوم الاستشراق22

المطلب الثاني: دوافع الاستشراق26

المطلب الثالث: مراحل دراسة المستشرقين للقرآن الكريم 30

* المبحث الثاني: نقد أساليب المستشرقين و

منطلقاتهم في فهم القرآن الكريم35

* المبحث الثالث:  المنهج الفيلولوجيّ عند المستشرقين41

المطلب الأوّل: مفهوم الفيلولوجيا42

المطلب الثاني: المنهج الفيلولوجيّ في الدراسات

الاستشراقيّة للنصّ القرآنيّ43

الفصل الثاني: الفهم الحداثيّ للقرآن الكريم وعلاقته بالاستشراق (عرض ونقد)

* المبحث الأوّل: الفهم الحداثيّ للقرآن الكريم49

تمهيد: مفهوم الحداثة50

المطلب الأوّل: فهم القرآن الكريم عند محمد أركون56

المطلب الثاني: فهم القرآن الكريم عند نصر حامد أبو زيد80

المطلب الثالث: فهم القرآن الكريم عند محمد عابد الجابريّ88

المطلب الرابع: فهم القرآن الكريم عند طيّب تيزينيّ91

* المبحث الثاني: نقد الأسس المعتمدة لدى

الحداثيّين في فهم القرآن الكريم95

المطلب الأوّل: أرخنة القرآن الكريم96

المطلب الثاني: أنسنة القرآن الكريم107

المطلب الثالث: عقلنة القرآن الكريم 111

* المبحث الثالث: العلاقة بين الاستشراق والحداثة117

المطلب الأوّل: النقد الحداثيّ للاستشراق118

المطلب الثاني: جهات الالتقاء والاختلاف بين

الاستشراق والحداثة122

(5)

فهرس الكتاب 

الفصل الثالث: (نماذج تطبيقيّة لتأثّر الفهم الحداثيّ بالاستشراق في مباحث تأريخ القرآن وعلومه) عرض ونقد

* المبحث الأوّل: أثر الاستشراق في الفهم

الحداثيّ لـمباحث (الوحي)129

المطلب الأوّل: الوحي في اللغة والفكر الإسلاميّ130

المطلب الثاني: الوحي في المفهوم الغربيّ والاستشراقيّ132

المطلب الثالث: الرؤية الحداثيّة لفهم ماهيّة

(الوحي) والأثر الاستشراقيّ فيها136

* المبحث الثاني: أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ

لـمباحث (المكّيّ والمدنيّ)147

المطلب الأوّل: الرؤية الإسلاميّة للمكّيّ والمدنيّ149

المطلب الثاني: الرؤية الاستشراقيّة للمكّيّ والمدنيّ 151

المطلب الثالث: الرؤية الحداثيّة لفهم ماهيّة المكّيّ و

المدنيّ والأثر الاستشراقيّ فيها153

* المبحث الثالث: أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ

لـمباحث (جمع القرآن وتدوينه)159

المطلب الأوّل: الآراء الإسلاميّة والاستشراقيّة في

مسألة جمع القرآن وتدوينه161

المطلب الثاني: الرؤية الحداثيّة لجمع القرآن وتدوينه163

المطلب الثالث: الأثر الاستشراقي في الفهم

الحداثيّ لجمع القرآن وتدوينه 166

* المبحث الرابع: أثر الاستشراق في الفهم

الحداثيّ لـمباحث (النسخ)171

المطلب الأوّل: مفهوم النسخ عند المسلمين173

المطلب الثاني: النسخ في الفهم الاستشراقيّ177

المطلب الثالث: النسخ في الفهم الحداثيّ وأثر الاستشراق فيه178

* الخاتمة181

* ملحق ترجمة الأعلام187

* قائمة المصادر والمراجع197

(6)

مقدمة المركز 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى آله الطاهرين عليهم‌السلام، وبعد...

يكتسب البحث في أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ لمباحث تأريخ القرآن وعلومه أهميّته من مركزيّة المجال المعرفيّ الذي اشتغل عليه الحداثيّون والمستشرقون، وهو النّصّ القرآنيّ.

وتبرز أهميّة البحث في الأثر الاستشراقيّ في الفهم الحداثيّ للنّصّ القرآنيّ، أنَّ تأثّر الحداثيّين بمناهج المستشرقين يلزم منه وقوع الحداثيّين في الأخطاء التي وقع بها المستشرقون، الذين ابتعدوا عن المسلّمات والعقائد الدينيّة، وطبّقوا المناهج الغربيّة؛ ليصلوا إلى العديد من النتائج، أهمّها؛ القول بأنَّ مصدر القرآن بشريٌّ من خلال نفي مصدريّته الإلهيّة، وطرحهم لشبهات تتعلّق بتأريخ القرآن وعلومه، كطرحهم لمسائل: جمع القرآن، وأسباب النزول، والمكّيّ والمدنيّ، والنصّ القصصيّ، وغيرها من المسائل.

فقد عمل المستشرقون مبكّراً على تحديد وتأسيس الآليّات النظريّة الحديثة، وطبّقوها على التراث الإسلاميّ بشكل عام، وعلى النّصّ القرآنيّ بشكل خاص، منطلقين من المناهج الغربيّة في قراءاة وفهم الدين والمقدّسات، ونتج عن ذلك طعن أغلب المستشرقين في القرآن الكريم، وفي قدسيّته، وفي مصدريّته الإلهيّة.

(7)

وظهر في المقلب الآخر شخصيّات عربيّة حداثيّة سعت إلى تطبيق المناهج التي توصّل إليها الغرب في فهم النّصوص الدينيّة على مجمل الخطاب القرآنيّ، وقامت بنقد الآليّات التي وضعها المسلمون لفهم النّصّ القرآنيّ، ودعت إلى ضرورة استبدالها بمناهج غربيّة بحجّة أنَّ تلك الآليّات هي السبب في التخلّف الذي تعيشه الأمّة الإسلاميّة.

وقد عالج الباحث في هذا الكتاب قضيّةً في غاية الدّقّة والحسّاسيّة؛ حيثُ عَبَرَ بين دفتي الاستشراق والحداثة بمعالجاتٍ ومقارباتٍ بحثيّة، وتحليليّة ونقديّة؛ للوصول إلى مبتغاه وهدفه البحثي. ولهذا، فقد اقتحم المحاولة الحداثيّة التي تهدف إلى تطبيق المناهح الغربيّة على القرآن الكريم، ما ولّد إشكاليّة في فهم دلالاته؛ لابتعاد الآليّات الغربيّة ومناهجها عن الأصول والضوابط والمبادئ الإسلاميّة للفهم، وأيضاً فإنَّ مآلات هذا التطبيق تتّفق مع الهدف الذي أراده المستشرقون من إخضاع القرآن الكريم لمناهجهم وآليّاتهم، وهذا الاتّفاق في الهدف دعا الكثير من الباحثين إلى القول بأنَّ الحداثيّين لم يأتوا بشيءٍ جديدٍ في مجال فهم نصوص القرآن الكريم، بل هم تأثّروا بآراء المستشرقين السابقين لهم في هذا المجال، وقاموا بتطبيق الآليّات الاستشراقيّة نفسها على القرآن الكريم. 

هذا الكتاب هو الكتاب الثالث عشر من سلسلة القرآن في الدّراسات الغربيّة التي يصدرها المركز، وقد عالج الباحث فيه هذه القضيّة عبر تمهيد وثلاثة فصول مترابطة تؤدي بعضها إلى بعض تدريجيّاً، وكلّ فصل يحتوي على مباحث ومطالب. ثم تلت هذه الفصول الثلاثة خاتمة بأهمّ النتائج التي توصّل إليها الباحث، ثم أُردفت الخاتمة بمجموعةٍ من التوصيات التي انبثقت من البحث، وأخيراً إدراج قائمة لمصادر البحث ومراجعه التي اعتمد عليها الباحث.

(8)

إنَّ أُولى خطوات البحث هي التعريف برؤية المستشرقين للقرآن الكريم، فكان الفصل الأوّل بعنوان (القرآن الكريم من منظور الاستشراق عرض ونقد).  فكانت الغاية من المبحث الأوّل من الفصل الأوّل تكوين صورة إجماليّة عن مفهوم الاستشراق ودوافعه، ثم بيان مراحل دراسة المستشرقين للقرآن الكريم. وتكفّل المبحث الثاني بذكر أساليب المستشرقين في فهم القرآن الكريم وبإطار نقديّ، وكان ختام الفصل في المبحث الثالث، وتمّ فيه التعريف بالمنهج الفيلولوجيّ التأريخيّ عند المستشرقين.

أمّا الفصل الثاني فتمّ فيه استعراض (الفهم الحداثيّ للقرآن الكريم وعلاقته بالاستشراق عرض ونقد)، وكان التركيز فيه على بيان منهج الحداثيّين في التعامل مع النّصّ القرآنيّ، وعرض نظريّاتهم وآلياتهم التحليليّة وأدواتها، ثم بيان تحليليّ نقديّ لنماذج تطبيقيّة لنصوص قرآنيّة وأثر الاستشراق فيها. فتكفّل المبحث الأوّل ببيان الفهم الحداثيّ للقرآن الكريم، وفي المبحث الثاني تمّ البحث عن أسس الحداثيّين في فهم النصّ القرآنيّ ونقدها، وفي المبحث الثالث كان الكلام في طبيعة العلاقة بين الاستشراق والحداثة مع بيان جهات الالتقاء والافتراق بينهما وبطابع نقديّ، وفي كلّ مبحث من هذه المباحث تمّت دراسة الخلفيّات المعرفيّة والمنطلقات الفكريّة التي ساعدت الحداثيّين على دراسة النّصّ القرآنيّ، ثم التركيز على المناهج التي وظّفوها في عمليّة الفهم، ثم إبراز الجانب التطبيقيّ التحليليّ لتلك المناهج، وتمّ ذلك كلّه بصورةٍ منظّمة عبر مطالب تلك المباحث.     

وبحسب رأي أغلب الحداثيّين، فإنّ كون النّصّ القرآنيّ مركزاً للحضارة يتطلّب تحقيق وعيٍ علميٍّ بالتراث، وهذا الأمر لا يمكن أن يتمّ بمعزلٍ عن قراءة مباحث تشكّل النصّ، وهي مباحث تأريخ القرآن وعلومه وفق التطوّر الحضاريّ والحداثة الغربيّة وبالإفادة من المناهج المعاصرة لتقديم رؤيةٍ حداثيّةٍ، ولذا كان جهد

(9)

الحداثيّين منصبّاً على هذا الجانب، فجاء الفصل الثالث بعنوان: (نماذج تطبيقيّة لتأثّر الفهم الحداثيّ بالاسستشراق في مباحث تأريخ القرآن وعلومه «تحليل ونقد»)، واستعرض الفصل أربعة نماذج كان الأثر الاستشراقيّ فيها جليّاً، وهي: الوحي، المكّيّ والمدنيّ، جمع القرآن وتدوينه، النسخ، مع تقييمها ونقدها.

ولا يسعنا إلّا تقديم الشّكر للباحث كاظم جواد الحكيم، على جهده العلميّ والبحثيّ أوّلاً في هذه الرسالة التي تقدّم بها إلى مجلس كليّة الفقه / جامعة الكوفة، وهي جزء من متطلّبات شهادة الماجستير في الشريعة والعلوم الإسلاميّة.

 

والحمد لله رب العالمين
المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة

 

(10)

مقدمة المؤلف 

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)، والصلاة والسلام على نبيّه المرسل (رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين الميامين، وبعد...

نزّل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)، وجعله (شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)، ثم أوكل مهمّة شرح ألفاظه، وبيان معانيه، إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، بدلالة قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وهذا يعني أنَّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المرجع الأوّل للأمّة في فهم القرآن الكريم. ثـمّ دعا سبحانه وتعالـى إلـى التدبّر في آيات القـرآن الكريم بقـوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)، وهذه الدعوة تدلّ على مركزيّة العقل ومرجعيّته للفهم، مع مرجعيّة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقد بيّن القرآن الكريم الـمرجعيّات الـمركزيّة لفـهـم دلالات نصوصه، وأشار إلى جـمـلة أصـول وقواعد للفهم. وهكذا انتظمت عمليّة الفهم، واكتملت أركانها بتحديد المرجعيّات والأصول، وبدأ المسلمون بالرجوع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليُبيّن لهم المضامين العظيمة للقرآن الكريم، وليُفسِّر لهم ما أُشكل عليهم فهمه. وقبل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله جاءه الأمر الإلهيّ بأنْ يوصي بأهل بيته وعترته من بعده؛ ليشكّلوا مع القرآن الكريم ضمانًا للأمّة من الوقوع في الضلال والعمى، وليرجع الناس إليهم في فهم ما أُشكل عليهم فهمه من نصوص القرآن الكريم بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(11)

وبسبب المستجدّات والتغيّرات التي حصلت بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على مستوى الواقع والمعرفة، ظهرت الحاجة الملحّة لوضع أُسس تضبط عمليّة فهم العلوم الإسلاميّة، وقام أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام بدورهم التأسيسيّ من خلال وضع أسس منهجيّة تضبط عمليّة فهم النّصّ القرآنيّ. وبمرور الزمن ونتيجة للتطوّرات والتغيّرات التي حصلت بعد الابتعاد عن عصر المعصومين عليهم‌السلام، قام العلماء ببذل جهود عظيمة في الحفاظ على ذلك التراث التأسيسيّ، ونتج عن ذلك ظهور مصنّفات في علوم القرآن والتفسير؛ من أجل الحفاظ على هذا التراث من الضياع.

وإذا ما تمّ البحث عن شروط التعامل مع النّصّ القرآنيّ عند المسلمين، أمكن وضع جملة من المسلّمات الاعتقاديّة، أهمّها حقيقة أنَّ القرآن الكريم وحي إلهيّ، وهذا الأساس تتفرّع عنه الأساسات الأخرى كإعجازه، وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقائق عن نفسه.

وفي زمن لاحق، وفي مرحلة القرون الوسطى تحديدًا، أثّرت التحوّلات والاختلافات والصراعات السياسيّة بين الشرق والغرب، على الجانب الدينيّ بشكل عام، وعلى القرآن الكريم بشكل خاص؛ لأنَّه يمثّل النصّ التأسيسيّ الأوّل للإسلام من جهة، ويمثّل المحور الذي تدور حوله كلّ العلوم الإسلاميّة من جهة أخرى. بدأ الاهتمام الغربيّ بالقرآن الكريم من خلال محاولة ترجمته والتعرّف على مضامينه، وتمثّل هذا الاهتمام بالمستشرقين من أتباع الكنيسة الذين أٌسندت إليهم هذه المهمّة.

وفي مرحلة تالية، حصلت تحوّلات سياسيّة وفكريّة في الغرب، تمثّلت بالثورة الفرنسيّة، ثم تشكَّل النسق اللادينيّ المادّيّ الثائر على الكنيسة، وبرز الاتّجاه التنويريّ، وظهرت فلسفة الحداثة الغربيّة، ثم ظهرت مناهج للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، ونظريّات وآليّات معاصرة لفهم النصوص الدينيّة.  

هذه التحوّلات في الغرب انعكست على دراسة الشرق، وبدأت ملامحها بالظهور عندما استبدل كثيرٌ من المستشرقين آليّاتهم القديمة في فهم النّصّ القرآني بآليّات حديثة غربيّة ومناهج معاصرة.

(12)

لقد وجد المستشرقون في الآليّات النظريّة الحديثة وسيلةً لتحقيق أهدافهم بتعدّدها، فقاموا بتطبيقها على التراث الإسلاميّ بشكل عام، وعلى النّصّ القرآنيّ بشكلٍ خاص، منطلقين من الماديّة الغربيّة التي تنبذ الدين والمقدّسات، ونتج عن ذلك طعن أغلب المستشرقين في القرآن الكريم، وفي قدسيّته، وفي مصدريّته الإلهيّة.

وبزيادة الاحتكاك بين الشرق والغرب، وبسبب تردّي الأوضاع في بعض المجتمعات الإسلاميّة من جهة، والتطوّر العلميّ الغربيّ من جهة أخرى، ظهرت فئات من داخل البيئة الإسلاميّة انبهرت من التطوّر الغربيّ وما وصل إليه، ودعت إلى الإفادة من منجزاته، وكان مركز الاهتمام هو القرآن الكريم؛ لأنّه يمثّل النّصّ الرئيس للأمّة الإسلاميّة.

من بين تلك الفئات ظهرت شخصيّات عربيّة حداثيّة دعت إلى القطيعة مع التراث، وسعت إلى تطبيق المناهج التي توصّل إليها الغرب في فهم النّصوص الدينيّة على مجمل الخطاب القرآنيّ، وقامت بنقد الآليّات التي وضعها المسلمون لفهم النّصّ القرآنيّ، ودعت إلى ضرورة استبدالها بمناهج غربيّة بحجة أنَّ تلك الآليّات هي السبب في التخلّف الذي تعيشه الأمّة الإسلامية.

إنَّ الشخصيات الحداثيّة لم تكتفِ بالقطيعة مع التراث الإسلاميّ المُفَسِّر للنصّ الأوّل، بل دعت إلى العمل على النّصّ القرآنيّ نفسه، وعلّلت سبب تلك الدعوى بأنَّ النصّ القرآنيّ هو محور الحضارة الإسلاميّة، فلا بدَّ أنْ تتعدّد تفسيراته وتأويلاته، وأيضًا لا بدَّ من تنوّع الآليّات المنهجيّة المتّبعة في فهم نصوصه.

إنَّ القول بإمكانيّة تعدّد التفسير والتأويل لآيات القرآن الكريم ساعد الحداثيّين على محاولة تجديد آليّات التفسير والتأويل من خلال محاولة تطبيق الآليّات الغربيّة المُطبّقة على النصوص الدينيّة في الغرب، والتي -بحسب قول الحداثيّين- شجّعت على الوصول لفهم متقدّم ومتطوّر لتلك النصوص.  

وقد تناولت في هذا الكتاب المحاولة الحداثيّة التي تهدف إلى تطبيق المناهح الغربيّة على القرآن الكريم، ما ولّد إشكاليّة في فهم دلالاته؛ لابتعاد الآليّات الغربيّة

(13)

ومناهجها عن الأصول والضوابط والمبادئ الإسلاميّة للفهم. وأيضًا، فإنَّ مآلات هذا التطبيق تتّفق مع الهدف الذي أراده المستشرقون من إخضاع القرآن الكريم لمناهجهم وآليّاتهم، وهذا الاتّفاق في الهدف دعا الكثير من الباحثين إلى القول بأنَّ الحداثيّين لم يأتوا بشيءٍ جديدٍ في مجال فهم نصوص القرآن الكريم، بل هم تأثّروا بآراء المستشرقين السابقين لهم في هذا المجال، وقاموا بتطبيق الآليّات الاستشراقيّة نفسها على القرآن الكريم. 

من المعطيات المتقدّمة تولّدت فكرة البحث؛ إذ يمكن صياغة إشكاليّة البحث على شكل أسئلةٍ علميّةٍ.

إنَّ منهج الدّراسة قائمٌ ليجيب على السؤال الرئيس عن مدى الأثر الذي تركه المستشرقون في الحداثيّين في فهمهم للقرآن الكريم؟ وتتفرع عن الإشكال الرئيس التساؤلات الآتية:

ما هي نظرة الحداثيّين إلى المناهج الاستشراقيّة في فهم النّصّ القرآنيّ؟ هل عدّوها مناهج نافعة أم قاموا بنقدها وتجاوزها؟

هل يمكن أن نعدّ الاستشراق رافدًا من روافد الحداثيين العرب في فهمهم النّصّ القرآنيّ؟ وإذا كان كذلك، فماهي طبيعة الحضور الاستشراقيّ عند الحداثيّين، هل كان بمثابة مرجعيّة لهم، أم اكتفى بالتأثير؟ وإذا وُجد التأثير، فما هي نسبته؟

 وفي مقام التحقّق من مواطن التأثير نسأل:

1- ما هي الموارد التي تأثّروا بها؟ هل كان التأثير في الجانب التحليليّ التفسيريّ للنصّ القرآنيّ؟ أم في جوانب أخرى كمناهج تحليل النّصّ، أو في جانب تشكّل النّصّ وتكوينه والمتعلّق بمباحث تأريخ القرآن وعلومه؟ أم في كلّ ذلك معًا؟

(14)

2- أتأثّروا بالاستشراق القديم أم بالاستشراق المعاصر أم بكليهما؟

3- كيف طبّق الحداثيّون والمستشرقون المناهج والآليّات الغربيّة على النّصّ القرآني؟ وما جهات الالتقاء والافتراق بين الاستشراق والحداثة؟ وما هي النتائج التي توصّلوا إليها في فهمهم للنصّ القرآنيّ؟

كلّ هذه الأسئلة المتقدّمة صوّرت فكرة البحث، وكانت باعثًا لمعالجة إشكاليّته، ومن دافِعْ البحث عن أجوبتها وتحليلها، وعلى ضوء المعطيات التي توفّرت، تمّت صياغة عنوان البحث، وكانت أجوبة هذه الأسئلة بمثابة الإطار العام لفصول البحث.

إنَّ إشكاليّة البحث قادتنا إلى تتبّع هذا الموضوع، ونظرًا لتنوّع اتّجاهات دراسة الحداثيّين للقرآن الكريم لزم تخصيص إشكاليّة البحث بـ (مباحث تأريخ القرآن وعلومه) كنموذج تطبيقيّ للدراسة؛ إذ لا يمكن توسيع مجال الدراسة لتشمل كلّ ما يتعلّق بدراسة المستشرقين والحداثيّين للقرآن الكريم؛ لأنَّ ذلك متعذّر كما لا يخفى.

وعلى أساس كلّ المعطيات التي تقدّمت يمكن صياغة عنوان البحث بـ «أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ لمباحث تأريخ القرآن وعلومه»؛ إذ إنَّ فصول البحث ستتكفّل بمحاولة الحصول على أجوبةٍ للأسئلة المتقدّمة وغيرها من الإشكالات المطروحة والمرتبطة ببيان العلاقة بين المستشرقين والحداثيين، ويتمّ ذلك اعتمادًا على طرح نماذج حداثيّة تأثّرت بالفهم الاستشراقيّ للقرآن الكريم.

أهميّة البحث

وعلى هذا الأساس فإنَّ إشكاليّة البحث المتقدّمة إذا تمّت معالجتها، فإنّه يمكنها أن تقدّم لنا الفائدة المعرفيّة التي يمكن الحصول عليها إذا أثبتنا الأثر الاستشراقيّ في الفهم الحداثيّ للنصّ القرآنيّ، وبخاصّة قلّة الدراسات التحليليّة لهذا الموضوع المهم.

(15)

المنهج والخطة

إنَّ المقدّمات والمعطيات التي وردت في إشكاليّة البحث تُحتّم السير في منحى الدراسة الوصفيّة التحليليّة ذات البعد النقديّ.

وإذا كان نوع المنهج الذي تفرضه الدراسة أن يكون تحليليًّا نقديًّا، فإنّه يُلزمنا الانفتاح على آليّات ومناهج فهم النّصّ القرآنيّ عند مختلف اتّجاهات الاستشراق والحداثة، ثم ملاحظة الشخصيّات الحداثيّة التي بحث حول النّصّ القرآنيّ وتأثّرت بالمستشرقين، ويتمّ ذلك من خلال البحث في منطلقات وركائز ومرجعيّات الحداثيّين في فهمهم للنصّ القرآنيّ، ثم ترتيبها في نسق منهجيّ يُجيب على إشكاليّة البحث المتقدّمة والمتمثّلة ببيان مقدار التأثير الاستشراقيّ في كل مسألة من مسائل البحث، على أنَّ رصد كلّ تلك المناهج والآليّات تمّ من خلال الاعتماد على ما يقوله الحداثيّون والمستشرقون في كتبهم، ويقرّون بأنَّها تمثّل أفكارهم وتوجّهاتهم، واعتمد البحث في إجراءاته على عيّنات منهم يمكن لها أن تساهم في حلّ إشكاليّة البحث.     

واستجابةً للمسعى المنهجيّ القائم على الوصف العلميّ والتحليل الموضوعيّ النقديّ، فقد سلكت في فصول هذه الرسالة ومباحثها مسلكًا؛ إذ كنت أبدأ بتحليل التصوّر الاستشراقيّ، يتبعه الرأي الحداثيّ لكلّ مسألة من مسائل البحث، ثمَّ محاولة بيان الأثر الاستشراقيّ في الفهم الحداثيّ لتلك المسألة، مع خلاصة وتقييم علميّ يتبعه نقد موضوعيّ.

وختامًا...

فإنَّه وإن كانت رحلة الإلمام بأسس ومناهج الاستشراق والحداثة شاقّةً، إلّا أنّها كانت رحلةً علميّةً فكريّةً، شيّقةً وممتعةً، هذا ما حاولته في هذه السطور مع اعترافي المسبق بالقصور؛ إذ لا أدّعي أنَّي أحطت بكلّ ما يتعلّق بالموضوع، فربما فاتني شيء بسبب ضيق الوقت، أو عدم الرجوع إلى مصدر مهم لجهل أو عجلة،

(16)

وحسبي أنّي ما زلت في بداية الطريق أصيب حينًا وأخطأ أحيانًا أخرى.

ولذا ألتمس من إخواني المؤمنين لا سيّما أهل العلم والبحث والفكر أن ينبّهوني على ما قد يجدونه من الخطأ غير المقصود والكمال لله تعالى والعصمة لأهلها، كما أرجو من أخواني من ذوي الاختصاص في الاستشراق والحداثة أن ينقدوا هذه الدراسة ويصحّحوا أخطاءها فهو الأساس في نجاحها، عسى أن نُوفّق لتحقيق الغاية منها.

لا يسعني في هذا المقام إلّا أنْ أتوجّه بخالص الشكر ووافر الامتنان للعتبة العباسيّة المقدّسة ممثّلة بـ (المركز الإسلاميّ للدّراسات الاستراتيجيّة - فرع بيروت) على رعايتهم هذه الرسالة، وجهودهم الكريمة في مراجعتها وإبداء الملاحظات العلميّة القيّمة عليها.

كما لا يفوتني أنْ أقدّم عظيم التقدير وبالغ الشكر إلى كُلّ من مدّ لي يد العون والمساعدة، ولو بدعاءٍ أو تشجيعٍ أو نصيحةٍ أو معلومةٍ بسيطةٍ ساعَدَتْ في إخراج البحث بصورته النهائيّة، كما أشكر كلّ من ساهم في تذليل ما اعترضتني من صعاب وأنا أخوض غمار هذا البحث، إلى كلّ هؤلاء الأفاضل أقدّم شكري المتواصل، سائلًا الله (عزّ وجل) أن يجزيهم عنّي خير الجزاء، ويوفّقهم لخدمة المسيرة العلميّة.

آمل من الله العليّ القدير أن أكون قد وفّقت في هذا البحث ولو بشيء يسير منه، راجيًا منه تعالى أن يتقبّل هذا الجهد المتواضع بقبولٍ حسن، وأن يجعله عِلْمًا يُنتفع به، وأسأله تعالى أن يشملني بتوفيقه ورعايته وفضله، ويوفّقني للمضيّ في خدمة العلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

الباحث
(17)
(18)

 

 

 

الفصل الاول 

القرآن الكريم من منظور الاستشراق

 

 

ويتضمّن هذا الفصل ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: توطئة تأريخيّة في الاستشراق ومراحل دراسته للقرآن الكريم .

المبحث الثاني: نقد أساليب المستشرقين ومنطلقاتهم في فهم القرآن الكريم.

المبحث الثالث: المنهج الفيلولوجيّ عند المستشرقين .

(19)
(20)

 

 

 

المبحث الأول

توطئة تأريخيّة في الاستشراق

ومراحل دراسته للقرآن الكريم

 

 

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: مفهوم الاستشراق . 

المطلب الثاني: دوافع الاستشراق .

المطلب الثالث: مراحل دراسة المستشرقين للقرآن الكريم . 

(21)

المطلب الأوّل: مفهوم الاستشراق

كانت العلاقة قديمًا بين الشرق والغرب لا تتعدّى الرحلات السياحيّة والتجاريّة، وشكّلت تلك الرحلات المصادر الأوليّة لرؤية الغرب للشرق، وكانت أغلب المعلومات التي دُوّنت في ذلك الوقت تعكس حال الكتّاب ودوافعهم واتّجاهاتهم أكثر ممّا تعكس الواقع المكتوب عنه.

ومع ظهور الإسلام وبناء الدولة الإسلاميّة، ازدادت تلك الرحلات، وتوسّع نشاطها التجاريّ والثقافيّ، وحصلت علاقات مباشرة بين المسلمين والغربيّين، وتأثّر الغرب بالحضارة العربيّة الإسلاميّة، ما أدّى إلى ترجمة الكثير من الأعمال الفكريّة والثقافيّة لعلماء المسلمين إلى اللغة اللاتينيّة، ورافق حركة الترجمة تشكيل مجموعة تضمّ بعض العلماء الغربيّين وبعض أهل الاختصاص في مجال العلوم الإسلاميّة وظيفتهم الاطّلاع على التراث الإسلاميّ.

وفي هذه المدّة أيضًا، بدأ الاهتمام بترجمة القرآن الكريم، إلّا أنَّ الترجمات ظلّت قليلةً ولم تنجح[1]، وكان الهدف العام منها الاطّلاع على مبادئ الإسلام، ليتّضح أنَّ الباعث الأوّل من تلك الحركة هو باعثٌ دينيٌّ، ويمكن عدّ هذه الحركة تمهيدًا لظهور الاستشراق.

وبعد مدّة من الزمن، ونتيجة للكتابات السيّئة لبعض الرحّالة عن الإسلام والمسلمين، التي صوّرت خطورة الإسلام على المسيحيّة، برزت الحروب الصليبيّة، وانعكست على كلّ المستويات، وعلى طول مدّة الحرب كان المسيحيّون يستولون على الآلاف من المخطوطات العربيّة والإسلاميّة والتي شكّلت مصدرًا علميًّا مهمًّا للمستشرقين. 

ولزم من تلك الحروب ازدياد النّظرة السيّئة عن المسلمين في أذهان الكثير من الغربيّين عدا القليل منهم؛ إذ وبدافع علميّ قام بعضهم بترجمة بعض

(22)

المؤلّفات العربيّة وبخاصّة في ميدان الفلسفة والعلوم، ليبقى هدف تلك المرحلة هو التبشير الديني وغايته (ردّ المسلمين عن ديانتهم، وهدم الإسلام في عقائده وعباداته ونظمه... كما تتجلّى أهداف التبشير في تشويه صورة الأمّة الإسلاميّة ماضيًا وحاضرًا) [1].  

وفي مرحلة عصر النهضة، ازداد اهتمام الغرب بالشرق، وأصبح أكثر تنظيمًا، وظهرت بعض المحاولات الأكاديميّة الساعية لتغيير الصورة السيّئة في ذهن الغربيّين عن الإسلام والتي سادت أوروبا في تلك المدّة، إلّا أنَّها ظلّت محاولات محدودة، وبقيت تلك الصورة السلبيّة قائمة على الرغم من التطوّر العلميّ الذي أحدثته النهضة الأوروبيّة.

إنَّ هذه المرحلة التأريخيّة المتقدّمة الشاملة لبدايات العلاقة بين الشرق والغرب منذ استناد الغرب على معلومات الرحّالة عدّها بعض الباحثين بداية لظهور مفهوم الاستشراق[2]؛ إذ (إنَّ البحث عن المنطلقات التأريخيّة لحركة الاستشراق يُحيلنا إلى البدايات التي سبقت ظهور الاستشراق التقليدي... ذلك أنَّ الاستشراق كعلمٍ متخصّصٍ لا ينفصل عمّا سبقه من رؤًى كانت قد حصلتها مشاهدات الرحّالة)[3].

وفي مقابل هذا الرأي، تبرز آراء أخرى لا تعدّ نشاط تلك المرحلة استشراقًا بالمعنى العلميّ المتعارف عليه، وإنَّما عدّتها مساهمات أثّرت في ظهور الحركة الاستشراقيّة، فذهب بعضهم إلى أنَّ الاستشراق برز في القرن السادس عشر الميلاديّ، وذهب آخرون إلى أنَّ الاستشراق ظهر كمفهومٍ علميٍّ في القرن السابع عشر الميلاديّ، وقال قسم ثالث: إنَّه بدأ في القرن الثامن عشر الهجريّ، واستندوا في اختيارهم على دخول لفظة الاستشراق إلى المعاجم الأوربيّة في النصف الثاني من هذا القرن. 

(23)

إنَّ لفظة (الاستشراق) مترجمة من المصطلح الغربيّ (Orientalism)، وهي تعني معرفة الشرق[1].

واستُعمل هذا المصطلح للمرّة الأولى في عام 1766م، وشاع استعماله عند الغربيّين، إلى أنْ أُدرج في معجم أكسفورد عام 1812م[2].

إنَّ المتتبّع لظاهرة الاستشراق منذ ولادتها إلى نشأتها، وحتى عصرنا الحاضر، يجد أنَّ من الصعوبة إعطاء تعريفٍ محدّد شامل لها، لاتّساع هذا المفهوم وغموضه، وتعدّد اتّجاهاته ومدارسه، فكُلّ قد عرّف الاستشراق بحسب فهمه له[3].

ويرى البحث أنَّ من الأسباب التي يمكن عدّها عاملًا مؤثّرًا في حصول اضطراب في بيان تأريخ لفظة الاستشراق هو وجود ثلاث جهات متداخلة يمكن النظر إليها عند التعرّف على تأريخ الاستشراق:

أوّلها: البحث عن تأريخ الأبحاث الاستشراقيّة، أي قبل ظهور لفظة الاستشراق.

وثانيها: تأريخ استعمال هذا اللفظ، مع ملاحظة الأبعاد اللغويّة لاستعماله.

وثالثها: البحث عن أهمّ الاتّجاهات الاستشراقيّة والبحث عن الأرضيّات التي ساعدت على نشأة الاستشراق.

وعلى الرّغم من صعوبة تعريف الاستشراق تعريفًا جامعًا مانعًا كما يقول علماء المنطق، إلا أنّه يمكن أنْ نصفه بتعبير موجز بأنّه: «دراسة يقوم بها الغربيّون لتراث الشرق وبخاصّة كلّ ما يتعلّق بتأريخه، ولغاته، وآدابه، وفنونه، وعلومه، وتقاليده، وعاداته»[4]
 «والمستشرق بهذا الاعتبار هو الغربيّ الذي يدرس تراث الشرق، وكلّ ما يتعلّق

(24)

بتأريخه، ولغاته، وآدابه، وفنونه، وعلومه وتقاليده، وعاداته»[1].

وقال بعض الباحثين: «إنَّ الاستشراق اشتغال غير المسلمين بعلوم المسلمين بغضّ النّظر عن وجهة المشتغل الجغرافيّة وانتماءاته الدينيّة والثقافيّة والفكريّة ولو لم يكونوا غربيّين»[2].

ويُفهم منه أنَّ الاستشراق يشمل بعض الباحثين الشرقيّين كدول اليابان والهند وغيرها، لأنَّهم وإنْ كانوا لا ينتمون للرقعة الجغرافيّة الغربيّة إلّا أنَّهم يلتقون في أهدافهم لدراسة القرآن الكريم مع الأهداف الاستشراقيّة الغربيّة.

لقد بيّن (إدوارد سعيد) أنَّ هناك ثلاث دلالات لمفهوم الاستشراق:

«أوّلها: دلالة أكاديميّة تشمل كل من يقوم بدراسة الشرق أو الكتابة عنه يمكن أنْ نسمّيه مستشرقًا، وثانيها: دلالة أكثر عموميّة من الأولى تدلّ على تمييز معرفيّ بين الشرق والغرب، وثالثها: إنَّ الاستشراق أسلوب غربيّ يهدف إلى السيطرة على الشرق»[3].

والباحث عن موضوع الاستشراق يجد أنّه يتعدّد بتعدّد اتّجاهات المستشرقين وانتماءاتهم ومدارسهم، فبعضهم بحث عن الـمعلومات الـجغرافيّة والتأريـخيّة للشرق، ككتب الرّحالة، وبعضهم اتّخذ من اللغة والفن موضوعًا للاستشراق[4]، وقسم ثالث وسّع الدائرة ليشمل البحث عن كلّ العلوم والفنون والحضارة الشرقيّة، حتى عرّفه البعض في كتب اللغة بأنّه العلم باللغات والآداب والعلوم الشرقيّة[5]، وهذا المفهوم هو الأوسع والأشمل، ويوجد قسم رابع من المستشرقين ركّزوا في أبحاثهم على دراسة الإسلام بشكل خاص.

(25)

ولعلّ التعريف الدقيق الذي يرجّحه البحث هو ما قاله المستشرق الألمانيّ رودي بارت (1901 – 1983م): «والمستشرق بالمعنى العام تطلق على كلّ عالم غربيّ يشتغل بدراسة الشرق كلّه، أقصاه ووسطه وأدناه، في لغاته، وآدابه، وحضارته، وأديانه، والمستشرق بالمعنى الخاص هو الذي يُعنى بالدراسات الغربيّة المتعلّقة بالشرق الإسلاميّ، في لغاته، وآدابه، وتأريخه، وعقائده، وتشريعاته، وحضارته»[1].

وفيما يتعلّق بهذه الدراسة، فالقسم الرابع هو الذي يدور مدار البحث عليه، أي: الشخصيّات الاستشراقيّة التي بحثت حول القرآن الكريم.

المطلب الثاني: دوافع الاستشراق

من خلال تتبّع ظهور مصطلح الاستشراق في المطلب السابق، تبيّن أنَّ الدافع الأوّل لظهور الاستشراق هو معرفة الآخر، والاطّلاع على الثقافة الشرقيّة، ثم بمرور الزمن زادت الدوافع والأهداف، والمتتبّع لتلك الحركة الاستشراقيّة يجد من الصّعب حصر أهدافها لتعدّدها وتداخلها مع بعضها، وهي أيضًا تتعلّق أحيانًا بـ (أسباب شخصيّة مزاجيّة عند بعض الذين تهيّأ لهم الفراغ والمال واتّخذوا الاستشراق وسيلةً لإشباع رغباتهم الخاصّة في السفر والترحال، أو في الاطّلاع على ثقافات العالم القديم، ويبدو كذلك أنَّ فريقًا من الناس دخلوا ميدان الاستشراق طلبًا للرزق عندما ضاقت بهم سبل العيش العادية، أو دخلوه تخلّصًا من مسؤوليّاتهم الدينيّة المباشرة في مجتمعاتهم المسيحيّة)[2]، وعلى هذا الأساس ستتمّ الإشارة في هذا المطلب إلى الدّوافع العامّة التي اتّفق على إدراجها الباحثون في كتبهم، والتي لها علاقة بدوافع دراسة المستشرقين للقرآن الكريم، وهي: الدافع الدينيّ التبشيريّ، الدافع السياسيّ الاستعماري، الدافع العلميّ، وقبل التفصيل في هذه الدوافع ينبغي التنبيه على أمرين:

(26)

الأوّل: إنَّ دوافع الاستشراق تلتقي مع أهدافه، فـ (إذا كان الدافع دينيًّا كان الهدف هو إخراج المسلمين عن دينهم، فإنْ أمكن تنصيرهم فذاك المقصود وإلّا فإبقاءهم بلا دين مطلقًا)[1]، وعلى هذا يمكن لنا أنْ نعدَّ هذه الدوافع أهدافًا استشراقيّة لدراستهم للشرق.

الثاني: إنَّ دوافع الاستشراق تختلف تبعًا لاختلاف المراحل الزمنيّة التي مرّ بها، ففي كلّ مرحلة تتنوّع الدّوافع والأهداف بلحاظ طبيعة الظروف التي تحكمها، وكذلك هي متعلّقة بطبيعة كل مستشرق وأهدافه وغاياته، فليس كلّ المستشرقين على نمطٍ واحدٍ، ويمكن القول إنَّ الغايات والدوافع متداخلة وأحدهما يكمّل الآخر في أغلب أدوار الاستشراق.

أمّا تفصيل دوافع الاستشراق وأهدافه فبيانها الآتي:

أوّلًا: الدافع الدينيّ

عدّ الكثير من الباحثين هذا الدافع أساسًا ومنطلقًا لظهور الاستشراق؛ إذ برز الدافع التبشيريّ في القرون الوسطى نظرًا لسيطرة الكنيسة على الغرب، وشعور بعضهم بخطر الإسلام على المسيحيّة، يقول المستشرق الألمانيّ يوهان فوك (1894-1974م): (ولقد كانت فكرة التبشير هي الدافع الحقيقيّ خلف انشغال الكنيسة بترجمة القرآن واللغة العربيّة. فكلّما تلاشى الأمل في تحقيق نصر نهائيّ بقوّة السلاح بدا واضحًا أنَّ احتلال البقاع المقدّسة لم يؤدِّ إلى ثني المسلمين عن دينهم، بقدر ما أدّى إلى عكس ذلك، وهو تأثّر المقاتلين الصليبيّين بحضارة المسلمين وتقاليدهم ومعيشتهم في حلبات الفكر)[2].

ويراد بالتبشير الديني: (إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين المسيحي)[3]، ويهدف المستشرقون من خلاله إلى تشويه سمعة الإسلام، وبثّ

(27)

معلومات غير صحيحة عن التراث الإسلاميّ، وقام مجموعة من المستشرقين بطرح أفكارٍ خاطئةٍ عن حقيقة الوحي الإلهيّ ومصدريّة القرآن الكريم، بالإضافة إلى الطعن بمباحث تأريخ القرآن وعلومه، كلّ ذلك من أجل خدمة هدفهم. 

كان الدافع الدينيّ التبشيريّ يسير في اتّجاهات ثلاثة متوازية جنبًا إلى جنب، وهي: محاربة الإسلام، وحماية النصارى، وتنصير المسلمين[1]، ولغرض تحقيق هذا الهدف قاموا بعقد المؤتمرات وإنشاء المجلات، وأكثروا من التأليف عن الإسلام بكتب فقدت روح البحث العلميّ[2] على أنَّ ذلك لا يشمل كلّ المستشرقين قطعًا، بل يوجد فيهم من لهم دوافع دينيّة علميّة، إلّا أنَّ السمة الغالبة للكتابات الاستشراقيّة ذات الدافع الدينيّ اتّصفت بتلك الصفات، وبخاصّة في بدايات نشوء الاستشراق قبل الحروب الصليبيّة وبعدها، وفي العصر الحديث  ظهرت دوافع أخرى للاستشراق، وتلاشت الدوافع الدينيّة.  

ثانيًا: الدافع السياسيّ الاستعماريّ

بعد انتهاء الحروب الصليبيّة استولى المستشرقون على بعض التراث الإسلاميّ، وقاموا بتحليله وفهم مضامينه، فكوّنوا معارف واسعة عن الشرق وقدّموها إلى الحكومات الغربيّة، والتي بدورها طمعت في ثروات الشرق وسعت إلى الاستيلاء عليها، فاستعانت بالمستشرقين ليقدّموا لها المعلومات الكافيّة، ثم قاموا بإرسال الكشّافة والرّحالة ومعظمهم من المستشرقين، وهكذا سُخّر الاستشراق في تلك المرحلة لخدمة الأغراض السياسيّة[3].

وفي الوقت نفسه، استعانت (تلك الحكومات برجال الدين الذين اتّخذوا التبشير وسيلة ظاهريّة لتحقيق أهداف سياسيّة واستعماريّة بعيدة عن الأغراض الدينيّة)[4]، فأصبح الدافع الدينيّ والدافع السياسيّ أحدهما مكمّلًا للآخر.

(28)

ثالثًا: الدافع العلميّ

يوجد عددٌ من المستشرقين وعلى طول خط الحركة الاستشراقيّة درسوا الشرق بدافعٍ علميٍّ يتمثّل بحبّ الاطّلاع على الحضارات والأديان والثقافات الأخرى، ولم يكن غرض جميع المستشرقين هو التبشير والاستعمار، بل يوجد منهم من اتّصف بالحياديّة لغرض طلب العلم، وكان هذا الدافع العلميّ (مقصد من ظهروا في عصر التنوير في أوروبا، فمنهم من قرأ الكتب الدينيّة وفحصها وأدرك أنَّ رسالة الإسلام قريبة من الرسالات السماويّة ومؤيّدة لما جاء في كتبها من إيمان بالله وكتبه ورسله ودعوة إلى الحقّ والخير والصلاح)[1].

وكذلك فإنَّ كثيرًا من هؤلاء المستشرقين (لمسوا في اللغة العربيّة لغة ثقافة وأدب وحضارة، ووجدوا القرآن في الذروة من هذه اللغة، فحدبوا على دراسته بدافعٍ علميٍّ محض تحدو به المعرفة، وتصاحبه اللذّة، فأبقوا لنا جهودًا عظيمة مشكورة)[2].

على أنَّ هذا العدد القليل من المستشرقين مع إخلاصهم في البحث والدراسة (لم يسلموا من الأخطاء والاستنتاجات البعيدة عن الحق: إمّا لجهلهم بأساليب اللغة العربيّة، وإما لجهلهم بالأجواء التأريخيّة الإسلاميّة على حقيقتها... ومن استطاع من هؤلاء أن يعيش بقلبه وفكره ويتجرّد من جوّ البيئة التي كان يعيش فيها أتى بنتائج توافق الحق والصدق)[3].

وقد حدّد المستشرق (رودي بارت) منتصف القرن التاسع عشر موعدًا أصبح فيه الاستشراق علمًا بعد أن تخلّص الكثير من المستشرقين من الآراء القديمة، واستمرّت جهود المستشرقين لتثبيت الدافع العلميّ لدراستهم للشرق وصولًا لتاريخنا المعاصر[4].

(29)

المطلب الثالث: مراحل دراسة المستشرقين للقرآن الكريم

يمكن أن نضع عمل المستشرقين على فهم القرآن الكريم في أربع مراحل:

المرحلة الأولى:

أوّل خطوة في طريق التعرّف على القرآن الكريم هو ترجمته؛ إذ بدأ اهتمام المستشرقين بالقرآن الكريم من خلال أوّل ترجمة له إلى اللغة اللاتينيّة، وتشير أغلب المصادر الأجنبيّة إلى أنَّ الترجمة تمّت برعاية بطرس المبجّل رئيس دير كلّوني (1092- 1156م)، واستغرقت الترجمة ثلاث سنوات من (1141م - 1143م)، وكانت الترجمة عبارة عن تعليقات شابها تحريف ونقد[1].

ويمكن اعتبار هذه الترجمة الركيزة الأساسيّة للبدء بالاهتمام بالقرآن الكريم من الغرب، وكان الهدف منها نقض القرآن الكريم ومنع المسيحيين من الاعتقاد بمبادئه[2]، وتوالت بعد ذلك ترجمات أخرى إلّا أنّها لم تراعِ الجانب العلميّ الموضوعيّ في الترجمة[3]

المرحلة الثانية:

ثم توالت الترجمات خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ومن أبرز تلك الترجمات ترجمة المستشرق جورج سيل (1697-1736م) الإنكليزيّة للقرآن الكريم عام (1734م)، وهي من أشهر الترجمات بسبب أسلوبها الواضح واحتوائها على ملاحظات تفسيريّة ممّا جعل منها مادة أساسيّة عند القرّاء الغربيّين[4].

(30)

والملاحظ أنَّ المستشرقين طوال تلك المدّة اقتصروا على ترجمة معاني النّصّ القرآنيّ، من دون الاهتمام بالتراث التفسيريّ وما يتضمّنه من أصول وقواعد لفهم النصّ، ولعلّ السبب في ذلك «هو حجم التراث المتراكم واستحالة استقصاء المستشرقين له، وأيضًا صعوبة إلمام المستشرقين بضوابط علميّة تعينهم على فهم النّصّ القرآنيّ[1]».

إنَّ أغلب الترجمات كان يشوبها الدسّ والتقطيع والخطأ في معاني الألفاظ، واتّهمت بعض الترجمات القرآن الكريم بأنّه يفتقر إلى البنية والانسجام والترابط الداخليّ، ويمكن القول: إنّ رافد الترجمة لفهم النّصّ القرآنيّ تعوزه الدقة في إيصال المعاني الدقيقة[2].

ومن أسباب الخطأ في الترجمة التعصّب، والميول الذاتيّة، والإخلال بالأمانة العلميّة، والتأثّر بعقائد أهل الكتاب، وغيرها من الأسباب[3].

ونلحظ ممّا تقدّم أنَّ في تلك المدّة كانت أوروبا تحت سيطرة الكنيسة، وكانت المجتمعات الأوروبيّة تعانـي التخلّف، وكانت الكنيسة الفرنسيّة الأكثر دمويّة، وهذا الأمر أدّى إلـى ظهور الثورة الفرنسيّة.

المرحلة الثالثة:

بدأ الاتّجاه العقليّ يسود أوروبا وتَشَكَّل النسق اللادينيّ نتيجة للحركة التنويريّة الأوروبيّة، فكان القسم الأكبر من المستشرقين هو نتاج لتلك الحركة، «فهم ينطلقون في فهمهم للنصّ القرآنيّ من مرجعيّة غربيّة ماديّة تنبذ الدين، ولذا عندما درسوا الشرق وتراثه الإسلاميّ اصطدموا بالتراث الإسلاميّ المليء بالمقدّسات الدينيّة[4]».

(31)

إنَّ المواجهة بين الثقافة العربيّة والغربيّة في بداية عصر النهضة أتاحت منظورًا مغايرًا في استقبال الخطاب القرآنيّ؛ إذ وقع التعارض تامًا بين الرؤية التراثيّة لطبيعة النّصّ ووظيفته، وبين المنظور الفيللوجي التأريخيّ الذي اقترن بإعمال الاستشراق وشكّل مقدّمة التدّخل الثقافيّ الغربيّ لإعادة النظر في مناهج قراءة التراث العربيّ الإسلاميّ[1].

إنَّ المرحلتين السابقتين المتمثّلتان بترجمة معاني القرآن الكريم عرّفت الغربيّين بمضمون النّصّ القرآنيّ وما يحمله من دلالات ومفاهيم، وبدأت تساؤلات الغربيّين عن مصدر القرآن الكريم، وعن ظاهرة الوحي، وعن كيفيّة جمع القرآن وتدوينه، وغيرها من الأسئلة المتعلّقة بتأريخ القرآن وعلومه.

واستجابة لكلّ تلك التساؤلات برزت في القرن التّاسع عشر دراسات استشراقيّة وتركّزت حول مباحث تأريخ القرآن الكريم وعلومه.

بدأت تلك الدّراسات من أوائل القرن التاسع عشر الميلاديّ إلى المنتصف الثاني من القرن العشرين.

 أوّل تلك الدراسات للمستشرق الفرنسيّ بوتيه (1800-1883)[2] ، إذ بحث فيها تأثّر القرآن بما تقدّمه من ديانات وظروف أحاطت بنزوله وغايته[3]، ثم تلتها دراسة للمستشرق الألمانيّ جوستاف فايل (1808-1889) وتميّزت بشموليّتها وسعتها[4].

 كان المستشرق (فايل) أوّل من طبّق فكرة تقسيم السور الـمكّيّة إلـى ثلاث مجموعات، ثم جاء نولدكه (1836-1931م) ليقدّم فتحًا عميقًا في الدراسات التأريخيّة للقرآن، وقدّم كتابه (تأريخ القرآن)، وتكمن شهرته بفضل محاولة (نولدكه) معالجة مشكلة تأريخ السور والآيات القرآنيّة[5].

(32)

وفي القرن العشرين، برز المستشرق الفرنسيّ ريجيس بلاشير (1900-1973م)، وأصدر دراسات عدّة تتعلّق بالدراسات القرآنيّة[1]، «وعلى ما يبدو فإنّ بلاشير لم يخرج في كتاباته خارج نطاق التأثّر بنولدكه، فقد سايره واتّفق معه في الكثير من آرائِهِ وتحليلاته[2]». 

المرحلة الرابعة:

في القرن التاسع عشر، برزت في ألمانيا حملةٌ لسلب حق تفسير النّصوص الدينيّة من رجال الكنيسة وجعلها بيد علماء الفلسفة والتأريخ والآداب، ووضع الأسس النظريّة لذلك الفيلسوف الغربيّ (شلايرماخر) الذي اقتصرت دعواه على النّصوص المسيحيّة[3]، ثم نقلها المستشرق فيلهاوزن (1844-1918م) إلى القرآن الكريم[4].

وفي منتصف القرن العشرين، برز اتّجاه آخر تأثّر باللّاهوت البروتستانتيّ الذي دعا لإخضاع النّصوص الدينيّة للمناهج الانسانيّة المتعدّدة للتخلّص من الكنيسة، وتبنّى هذا الرأي عدد من المستشرقين وحاولوا التخلّص من أصول التفسير وقواعده التي تضبط الفهم، واستبدالها بآليّات جديدة لفهم النّصوص الدينيّة.

(33)

خلاصة:

ممّا تقدّم من مراحل، نلحظ بروز اتّجاهين حول الاهتمام الاستشراقيّ بالقرآن الكريم:

الاتّجاه الأوّل: يهتم بالدّراسات التّأريخيّة النقديّة؛ لأنَّه تأثّر بالدّراسات التقليديّة وانتهى إلى نتيجة تأثّر القرآن الكريم بنتاج البيئات اليهوديّة والمسيحيّة.

الاتجاه الثاني: دعا إلى إخضاع النّصّ القرآنيّ لمناهج العلوم الإنسانيّة، بعد أن شعر بتخلّف المناهج السابقة التي طُبِّقت على النّصّ القرآنيّ.   

 ويتّضح من كلّ ما تقدّم أنَّ حركة الاستشراق وُلدت من رحم تناقضات الغرب، وهذه الأجواء انعكست على المستشرقين، فبرزت لديهم اتّجاهات متعدّدة متناقضة في قراءة التراث الإسلاميّ؛ ولذلك كانت النتائج التي حصدوها متناقضة أيضًا، وقدّم المستشرقون من خلالها إسلامًا مشوّها إلى الغرب.

(34)

 

 

 

 

 

 

المبحث الثاني

نقد أساليب المستشرقين ومنطلقاتهم

في فهم القرآن الكريم

(35)

تنوّعت طرق المستشرقين وأساليبهم في دراسة النصّ القرآنيّ، بتنوّع أهدافهم وتوجّهاتهم ومنطلقاتهم الفكريّة والثقافيّة، وكان لكلّ مدرسة استشراقيّة أسلوبها الخاص تتميّز به عن المدارس الأخرى، وأحيانًا يمكن ملاحظة أساليب عدّة في داخل المدرسة الواحدة، وعلى هذا الأساس فإنَّه من الصّعب حصر تلك الطرق والأساليب، إلّا أنَّ المتتبّع لكتابات المستشرقين يلحظ وجود أساليب مشتركة اتّبعها أغلب المستشرقين عند دراستهم للنصّ القرآنيّ، وتميّزت أغلب تلك الأساليب بطابع الانحياز والابتعاد عن الجانب العلميّ الموضوعيّ، وتستند على مضامين مسيحيّة تارة أو متأثّرة بالتطوّر الذي حصل في أوروبا بعد فترة العصور الوسطى تارة أخرى.

لقد استند الـمستشرقون على مـجموعةٍ من المنطلقات والأساليب في فـهـم النّصّ القـرآنـيّ، وبيانها الآتي:

أوّلًا: محاولة التقليل من قيمة التراث الإسلاميّ وتشويهه؛ إذ اتّخذ بعضهم من تشويه التراث وسيلةً لتشويه الفهم عند المتلقّي الغربيّ من خلال التشكيك بتراث المسلمين، وتمّ ذلك باستعمال مناهج متعدّدة وبخاصّة مناهج العلوم الإنسانيّة التي نشأت في الغرب[1]، إذ قاموا بالتشكيك بالوقائع التأريخيّة وإثارة الشكوك بكلّ ما يتعلّق بتأريخ القرآن وعلومه[2]، وكان هدف المستشرقين من التشكيك بالتراث هو جعل المسلمين يفقدون الثقة بأنفسهم وبحضارتهم وعلومهم.

وكان أسلوبهم في التشكيك من خلال إحلال مفاهيم جاهليّة ماتت منذ انتشار الإسلام كالقوميّات، وكذلك قاموا بإحلال الفتن الطائفيّة بين السكّان وإشعال الحروب[3]. وهذا الأساس أثّر بشكلٍ كبيرٍ على الحداثيّين؛ إذ لم ينكروا جهود المستشرقين في فتح باب التشكيك.

(36)

ثانيًا: الأسلوب الإسقاطيّ: إنَّ تفسير الحوادث وفهم الأمور التأريخيّة بالإسقاط أمرٌ جليٌّ في دراسة المستشرقين للقرآن الكريم، ويقصد بهذا الأسلوب «إسقاط الواقع المعيش على الحوادث والوقائع التأريخيّة، إنَّه تصوّر الذات في الحدث أو الواقعة التأريخيّة ... فالمستشرق الباحث عندما يضع في ذهنه صورةً معيّنةً يحاول إسقاطها على صور ووقائع معيّنة يخضعها إلى ما ارتضته مخيّلته وانطباعاته[1]».

من أمثلة المنهج الإسقاطيّ إخضاع المستشرق جولدتسيهر النّصوص الدينيّة والتشريعيّة الإسلاميّة للدراسة داخل إطار ما سمّاه بمنهج النقد التأريخيّ، ويهدف فيه إلى إسقاط صفات الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة على الإسلام[2].

ثالثًا: الأسلوب الانتقائيّ: ويتمثّل بتوظيف المستشرقين للروايات التي تنفعهم في بحثهم في التراث الإسلاميّ، وبخاصّة ما يتعلّق بفهم الآيات القرآنيّة[3]، أو اقتصارهم على مصادر أُحادية في فهم القرآن الكريم، وإهمالهم لمصادر الشيعة وفرق إسلاميّة أخرى[4].

من أمثلة هذا الأسلوب ما بحثه نولدكه وتبعه بلاشير وجولدتسيهر حول إشكاليّة (جمع القرآن)؛ إذ استند إلى «الرأي المشهور عند الجمهور، والتي رُويت في كتبهم الحديثيّة من قبل الحشويّة لا إلى الروايات الموجودة في كتب الشيعة الإماميّة... فالمستشرقون حين يتساءلون أو يشكّكون في بعض تلك النّصوص والأقوال، إنَّما مستندهم هو تلك الروايات الموجودة في كتب الآخرين والمخالفة للعقل والفطرة والتي يدركها كلّ باحث[5]»، وهذا ليس دفاعًا عن المستشرقين، بل هو بيان لأسلوبهم الخاطئ المتمثّل بانتقاء بعض الروايات التي تنفعهم في جمع القرآن، والبحث العلميّ يشترط جمع كلّ الروايات الإسلاميّة في هذا المجال ثم

(37)

الإحاطة العلميّة التامّة بها، وترجيح ما هو موافق للعقل والفطرة السليمة.

رابعًا: عدم اعتمادهم على المصادر الإسلاميّة القديمة، وإنمّا كانوا يعتمدون على كتابات من سبقهم من المستشرقين خاصّة نولدكه، وعدّوه مصدرًا لمعلوماتهم، ممّا جعل أغلب دراساته متّسمة بالتقليد، والنقص، والتشويه، والبعد عن المنهج العلميّ[1]، ومن أبرز المستشرقين الذين استندوا على آراء نولدكه: جولدتسيهر[2]، وكانون سيل[3]، وكارل بروكلمان[4].

خامسًا: ومن جملة أساليب بعض المستشرقين عند دراسة القرآن الكريم أسلوب التأثير والتأثّر، والمقصود به نسبة بعض نصوص القرآن الكريم إلى الكتب المقدّسة (التوراة والإنجيل)، أو نسبتها إلى أصول يونانيّة أو رومانيّة وغيرها، ولعلّ الباعث على هذه النسبة هو التأثّر بالتسلسل الزمنيّ لمجيء الإسلام بعد اليهوديّة والمسيحيّة، وهذا ما لاحظه البحث من خلال تتبع كلمات أغلب المستشرقين؛ إذ حاولوا إبراز أوجه التّشابه بين تعاليم الأديان الثلاثة ثم إثبات أنَّ القرآن الكريم أخذ منها بهذا اللحاظ الزمنيّ.

ومرجع هذا القول، هو ثقافة بعض المستشرقين المسيحيّة، ومحاولتهم فرض تبعيّة الإسلام للمسيحيّة، خاصّة قبل عصر التنوير، وأمّا بعده فحاولوا إفراغ القرآن الكريم من محتواه المعرفيّ والفكريّ وإلغاء قدسيّته، كما حصل مع الكتب المقدسة في الغرب[5].

من أمثلة ذلك قول نولدكه: «إنَّ الإسلام في جوهره دين يقتفي آثار المسيحيّة، أو بعبارة أخرى: إنَّ الإسلام هو الصيغة التي دخلت بها المسيحيّة إلى بلاد العرب كلّها[6]».

(38)

سادسًا: من منطلقات المستشرقين في فهم القرآن الكريم القول ببشريّته وإزالة جانب القدسيّة عنه، والتعامل مع النّصّ القرآنيّ من منظور عقليّ، وهذا يرجع إلى طبيعة المناهج الغربيّة التي ولدت بعد عصر التنوير[1]، وأبرز من قال ببشريّة القرآن المستشرق (نولدكه[2]) والمستشرق (كانون سيل[3]).

ومن الأساسيّات التي اعتمدها بعض المستشرقين لفهم القرآن الكريم تعاملهم مع النّصّ القرآنيّ على أنَّه نصٌّ لغويٌّ بشريٌّ، وهذا التغليب المادّي يرجع إلى بيئتهم الغربيّة التي تنبذ الدين بعد الثورة الفرنسيّة[4].

هذه أبرز المنطلقات والأساليب التي ارتكز عليها المستشرقون عند دراستهم للنصوص القرآنيّة، ويلاحظ على أغلبها الأخطاء المنهجيّة الواضحة، والأحكام المسبقة غير المستندة إلى دليل وبرهان.

(39)
(40)

 

 

 

المبحث الثالث

المنهج الفيلولوجي عند المستشرقين

 

وفيه مطلبان :

المطلب الأول : مفهوم الفيلولوجيا

المطلب الثاني : المنهج الفيلولوجي في الدراسات الاستشراقية للنص القرآني

(41)

المطلب الأوّل: مفهوم الفيلولوجيا

مصطلح غربيّ، يقوم بدراسة التغيّرات اللغويّة عبر التأريخ[1]، أو بمعنى آخر هو علم التحليل الثّقافي للنصوص اللغويّة المبكّرة، إذ يقوم على أساس دراسة النصوص المكتوبة، وتحليل محتواها، واستكشاف علاقتها بما سبقها من نصوص[2].

وعُرّف هذا المفهوم بأنَّه «دراسة لغة من اللغات من حيث قواعدها، وتأريخ أدبها، ونقد نصوصها[3]».

يتبيّن ممّا تقدّم أنّ الفيلولوجيا عند الغرب هي فنٌّ يشتغل على النّصوص المكتوبة، وتسعى للوصول إلى النّصّ الأصليّ، وموضوعها تحقيق النّصوص القديمة ودراستها حسب سياقها التأريخيّ والثقافيّ.

إنَّ مصطلح الفيلولوجيا فيه «مشكلة على مستوى التعريف، فاختلاف تعاريفه من اختلاف معرفته من حيث اختصاصاتهم العلميّة واختلاف نظرتهم إلى هذا العلم، فالمهتم بتأريخ الحضارة سيعطيه تعريفًا قريبًا من تخصّصه، وكذلك اللغويّ واللسانيّ وغيرهم[4]».  

وقام بعض المختصّين بتعريب مصطلح الفيلولوجيا إلى (فقه اللغة)، لكن يظهر «أنّ هناك ثمة تباين بين مدلول فقه اللغة عند علماء اللغة العربيّة، وبين مدلوله عند المستشرقين، فإنّه عند علماء العربيّة علم تطبيقيّ يتناول جميع المباحث التي تمت إلى اللغة بسبب سواء أكان ذلك في أصولها أم في فروعها أم في تأريخها، أمّا المستشرقون فإن فقه اللغة الذي يسمونه (philology) مقتصر عندهم على المباحث التأريخيّة التي تبيّن أصل اللغة ونشأتها وتطورها والعوامل التي أدت إلى

(42)

ارتقائها ونهوضها، فهم بذلك جعلوا منه علمًا نظريًّا بعيدًا عن التطبيق[1]».

المطلب الثاني: المنهج الفيلولوجيّ في الدّراسات الاستشراقيّة للنصّ القرآنيّ

بسبب تطوّر هذا العلم في الغرب قام المستشرقون بتوظيف أدوات هذا المنهج وآليّاته في دراستهم لتراث الإسلام وبخاصّة النّصّ القرآنيّ، وجزء من هدفهم هو إعادة الموروث الإسلاميّ إلى ثقافات وديانات سابقة، فقاموا بدراسة القرآن الكريم على وفق ما تمّ في الغرب من تطبيق هذا المنهج على النّصوص الدينيّة الغربيّة، وهو ما يسمّى بعلم نقد الكتاب المقدّس.

 والمتتبّع للدّراسات الاستشراقيّة يُلاحظ «أنّه ليس كل الـمستشرقين الـمهتمّين بالدّراسات القرآنيّة قد طبقوا اتّجاهات نقد الكتاب المقدّس على القرآن الكريم، وذلك لصعوبة هذه الاتّجاهات النقديّة المتخصّصة، وحاجة المتخصّص فيها إلى التأهّل في عددٍ من العلوم مثل: معرفة اللغات والآداب السامية، ومعرفة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة ومناهجها، ومعرفة اتّجاهات نقد الكتاب المقدّس[2]».

وسنشير بإيجاز إلى أبرز الشخصيّات التي طبّقت الفيلولوجيا على النّصّ القرآنيّ[3].

أ. المستشرق الألمانيّ نولدكه (1836 – 1930م)

طبّق نولدكه هذا المنهج في كتابه (تأريخ القرآن)؛ إذ قام بتقسيم السور القرآنيّة إلى أربع فترات ثلاث منها في مكة، وواحدة في المدينة.

إنَّ الأساس الذي اعتمد عليه نولدكه في هذا التقسيم عاملان[4]:

الأوّل: الاعتماد على الروايات التأريخيّة وكتب أسباب النزول.

(43)

الثاني: عن طريق العقل وذلك بالنظر في الأسلوب القرآنيّ، وخصوصيّات الألفاظ، وموقف النبيّ من اليهوديّة والمسيحيّة.

إنَّ كتاب (تأريخ القرآن) لنولدكه يُعدّ مصدرًا أساسيًّا لكلّ الدراسات الاستشراقيّة اللاحقة له، ويتضمّن الخطوط العامّة لمنهج المستشرقين في دراستهم للقرآن الكريم[1]، وكلّ ذلك يهدف إلى إثبات نظريّة أنّ النّصّ القرآنيّ له تأريخ، وأنه يتطوّر بمرور الزمن.

ب. المستشرق الإنجليزيّ وليام موير (1819 – 1905م)

قام بتطبيق هذا المنهج في كتابيه (حياة محمّد) و (القرآن: نظمه وتعاليمه، وشهادته للكتب المقدسة)؛ إذ قام بتقسيم الفترات الزمنية إلى ست فترات، خمسة في مكّة وواحدة في المدينة[2].

ج. المستشرق المجريّ إجناس جولدتسيهر (1850 - 1921م)

طبّق هذا المنهج التأريخيّ في كتابه (العقيدة والشريعة في الإسلام[3]).

د. المستشرق الفرنسيّ ريجيس بلاشير (1900 - 1973م)

طبّق المنهج الفيلولوجي في كتابيه (القرآن نزوله تدوينه ترجمته وتأثيره) و (تأريخ الأدب العربيّ)؛ إذ صرّح بأنّ الفيلولوجيا تعين على اكتشاف معالم القرآن الذي يمثّل انعكاسًا لسيرة النبيّ الأكرم[4].

(44)

هـ. المستشرق البريطانيّ ريتشارد بيل (1876 - 1952م)

استعرض (بيل) محاولة نولدكه، وطبّق المنهج الفيلولوجيّ في كتابه (المدخل إلى القرآن[1]).

و. المستشرق الألمانيّ برجشتراسر(1886 - 1933م)

من أهم تطبيقات المنهج الفيلولوجيّ للمستشرق برجشتراسر على القرآن الكريم رسالته للدكتوراة بعنوان (حروف النفي في القرآن[2]).

ز. المستشرقون المعاصرون

 وفي العصر الحديث، يقول المعاصرون بضرورة العودة إلى الفيلولوجيا وعلى رأسهم المستشرق الفرنسيّ جاك بيرك في كتابه (إعادة قراءة القرآن)؛ لأنَّ هذا المنهج هو الذي ساعد على التمييز بين الفترة المكية والمدنية[3].

وقسم آخر من المعاصرين دعا إلى ضرورة الإفادة من مناهج العلوم الإنسانيّة الحديثة. ففي عام 2007م، تمّ إطلاق مشروع يهدف إلى اكتشاف النّصوص القرآنيّة التأريخيّة القديمة وجمعها لربط تلك النّصوص بالسياق التأريخيّ والثقافي الذي نزلت فيه، وهذا الهدف صرّحت به مديرة المشروع المستشرقة الألمانيّة (أنجليكا نيوفيرث) المتخصّصة بالدراسات القرآنيّة بجامعة برلين[4]، وهذا المشروع يرتبط بالرؤية الاستشراقيّة للقرآن الكريم ويختلف عنها من حيث المنهج، إذ يعتمد على النتاجات الحديثة للعلوم الإنسانيّة في مجال التأويل والتحليل[5].

(45)

وينبغي إلفات النّظر إلى أنّ الكثير من المستشرقين لم يأخذوا بدعوى الإفادة من المناهج المعاصرة في فهم القرآن، منهم: أغلب المستشرقين الألمان والإنكليز وتبعهم مستشرقو أمريكا الشماليّة.

أمّا المستشرقون الفرنسيّون، فقد تبنّوا هذه الدعوة وتأثّر بهم مستشرقو بلجيكا وهولندا، ومن أبرز المؤسّسات التي احتضنت هذه الدعوة (معهد الدراسات العربيّة والإسلاميّة) في باريس، وكان لهذا المعهد الأثر الكبير في استقطاب الحداثيّين العرب وتدريسهم لتلك النظريّات الحديثة وحثّهم على تطبيقها على النّصّ القرآنيّ[1].

ونلحظ ممّا تقدّم أنَّ الاستشراق المعاصر ينفرد عن القديم بتبنّي بعض أفراده دعوى إخضاع النّصّ القرآنيّ لمناهج العلوم الإنسانيّة الحديثة، ويشترك معه بدراسة القرآن وفق المنهج التأريخيّ الذي يهدف إلى ربط النّصوص الدينيّة بسياقها التأريخيّ ويعدّانه أساسًا لأي دارس للنصّ القرآنيّ، وهذا الأمر أخذه الحداثيّون من المستشرقين كمنطلق وأساس لفهم النّصّ القرآنيّ كما سيتّضح لاحقًا.

(46)

 

 

 

الفصل الثاني

الفهم الحداثيّ للقرآن الكريم

وعلاقته بالاستشراق

 

 

ويتضمّن هذا الفصل ثلاثة مباحث:

المبحث الأول : الفهم الحداثيّ للقرآن الكريم

المبحث  الثاني: نقد الأسس المعتمدة لدى الحداثيّين في فهم القرآن الكريم

المبحث الثالث: العلاقة بين الاستشراق والحداثة

(47)
(48)

 

 

 

المبحث الأول

الفهم الحداثيّ للقرآن الكريم

 

وفيه تمهيد وأربعة مطالب:

تمهيد: مفهوم الحداثة

المطلب الأول: فهم القرآن الكريم عند محمد أركون

المطلب الثاني: فهم القرآن الكريم عند نصر حامد أبو زيد

المطلب الثالث: فهم القرآن الكريم عند محمد عابد الجابريّ

المطلب الرابع: فهم القرآن الكريم عند طيّب تيزينيّ

(49)

تمهيد: مفهوم الحداثة

تقدّم الكلام في الفصل السابق عن الفهم الاستشراقيّ للقرآن الكريم، وفي مرحلة لاحقة في بداية الفكر المعاصر استمرّ الاهتمام بالنصّ القرآنيّ، وتطوّرت أدوات فهمه وآليّات قراءته بحسب المستجدّات التي طرأت على واقع الأمّة الإسلاميّة، وما رافق ذلك من تطوّر في المناهج الغربيّة التي طُبّقت على النّصوص الدينيّة بعد عصر التنوير وظهور الحداثية الغربيّة.

فإلى جانب ظهور الدّراسات الاستشراقيّة ذات المرجعيّة الغربيّة ظهرت دراسات حداثيّة من داخل البيئة العربيّة الإسلاميّة تهدف إلى تطوير الواقع، وكانت نقطة انطلاقها تطوير فهم النصّ القرآنيّ، وتأثّرت بعض تلك الدراسات بالنظريّات الغربيّة والمنجزات الاستشراقيّة في مجال فهم النصّ.

فـ «بعد أن أدّت الدّراسات الاستشراقيّة دورها إلى حدّ ما، توصّل المعنيّون إلى أنَّها ليست الأداة المنتجة للأهداف المخطّط لها لسبب بسيط، وهو أنَّ هذه الدّراسات لا تحظى بالثّقة من المسلمين، فتحوّل الهدف إلى أن تُنشر أفكار الاستشراق بأقلام تحمل صفة المواطنة لتعميق الشكوك بالعقيدة والفكر والنظم الإسلاميّة[1]».

شهد مفهوم الحداثة حضورًا واسعًا في الساحة المعرفيّة بعد التحوّلات الفكريّة والحضاريّة التي شهدها الغرب، وأصبح هذا المفهوم يمثّل أغلب المشاريع الجديدة التي دعت إلى إعادة قراءة التراث القديم وبثّ روح التجديد فيه، وسيتكفّل هذا التمهيد ببيان هذا المفهوم عند الغربيّين ومن تبعهم من الحداثيّين العرب.  

أوّلًا: المدلول اللغويّ للحداثة

بحسب قواميس اللغة العربية، فإنَّ (الحداثة) في اللغة مصدر الفعل (حَدَثَ)، وهي تعني أنَّ الشيء وقع بعد أن لم يكن، فـ «الحاء والدال والثاء أصل واحد، وهو كون الشيء لم يكن. يقال: حدث أمر بعد أن لم يكن[2]».

(50)

وفي لسان العرب: «الحديث: نقيض القديم، حدث الشيء يحدث حدوثًا وحداثة وأحدثه...  والحدوث كون شيء لم يكن[1]».

وممّا تقدّم، يتّضح أنَّ مفهوم الحداثة متغيّر نسبيّ؛ ومن ثمَّ يبقى مفهومًا مرنًا غير منضبط.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي للحداثة

إنَّ النسبيّة في المعنى اللغويّ للحداثة نتجت عنها أفهام متعدّدة لهذا الفهم، ولم يتمّ الحصول على تعريف جامع مانع لها، فـ «الحداثة الأوروبيّة ليست فكرةً أو أيدلوجيا أو حدثًا تأريخيًّا أو عصرًا معيّنًا حتى نستطيع تعريفها بسهولة، بل هي وصف زمني للقرون الخمسة الأخيرة، أي إنَّها نتيجة تأريخ طويل وبطيء، وهو في الوقت نفسه تأريخ مليء بالأحداث الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة[2]».

فبعض الغربيّين وصف الحداثة بأنَّها: «تحلّ فكرة (العلم) بدل فكرة (الله) في قلب الـمجتمع، وتقصر الاعتقادات الدينيّة على الـحياة الخاصّة بـكـلّ فرد، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنَّه لا يكفي أن تكون هناك تطبيقات تكنولوجيّة للعلم كي نتكلّم عن مجتمع حديث، ينبغي أيضًا حماية النشاط العقليّ من الدعايات السياسيّة أو من الاعتقادات الدينيّة[3]».

ويتّضح من هذا التعريف أنَّ الحداثة نسقٌ معرفيٌّ لا دينيّ، ويُقصد بالنسق اللادينيّ تغييب المركزيّة الإلهيّة.

كما يتبيّن منه أنَّ مفهوم الحداثة شاملٌ لكلّ مناحي الحياة السياسيّة، والاجتماعيّة، والدّينيّة، والاقتصاديّة، وهذا الأمر يشكلّ عاملًا آخر في غموض مفهوم المصطلح الكليّ للحداثة الشامل لكلّ تلك الحداثات السياسيّة والدينيّة.. إلخ.

(51)

ويمكن القول: (إنَّ الحداثة بما هي ظاهرة في تأريخ الفكر الإنسانيّ حملت معنى محدّدًا في وعي من استقرّ رأيهم نعتها بالحداثة، وأنَّه حصل تمييز في ذلك الوعي بين منظومتها الفكريّة وما سبقها من لحظات فكرية، مثل الإصلاح والنهضة... وأنَّ هذه المنظومة نشأت واكتملت ملامحها في مكان معيّن: أوروبا، وفي زمن معيّن: العهد الحديث، لتأخذ هيئتها النهائيّة في القرن التاسع عشر)[1].

وإذا ما أردنا تقريب مفهوم الحداثة الغربيّة للمتلقّين، فيمكن أن نصفها بأنّها مفهوم ذو دلالتين:[2]

الأولى: دلالة تأريخيّة: وهي تلك المرحلة الممتدّة من (القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر)، وما صاحب تلك المدّة من أحداث مهمّة شكّلت انعطافة كبرى في التأريخ، منها: اكتشاف العالم الجديد، وعصر النهضة وعصر التنوير.

الثانية: دلالة فلسفيّة: إذ يشير مصطلح الحداثة إلى بنيةٍ فلسفيّةٍ فكريّةٍ في الغرب، تُعطي للإنسان قيمةً مركزيّةً في الكون، وأيضًا بروز نزعة عقلانيّة نشأت على أساسها العلوم الإنسانيّة الحديثة.  

وفي عالمنا العربيّ والإسلاميّ، لا نجد تعريفًا منضبطًا للحداثة العربيّة، بسبب الأصول الغربيّة للمصطلح، وما تقدّم من غموضه من جهة، وشموليّته لكلّ مناحي الحياة من جهة آخرى، وسبب آخر هو وجود تداخلٍ بين مفهوم الحداثة ومفاهيم أخرى، كالمعاصرة، والتجديد، والتنوير، وغيرها من المصطلحات التي تتداخل فيما بينها، ما زاد الأمر تعقيدًا.

وعندما نطالع مؤلّفات الحداثيّين العرب نجدهم يعبّرون عن الحداثة بأنَّها «ليست مفهومًا إجرائيًّا اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو تأريخيًّا. إنّها بإيجاز نمط حضاريّ يختلف جذريًّا عن الأنماط الماضية أو التقليديّة[3]».

(52)

ويقول آخر: إنَّ «الحداثة كما نسمّيها الآن، وقد تجلّت وأينعت منذ عام 1600م، ليست فقط مسألة بروز ونمو وازدهار حضارة جديدة أخرى بزّت غيرها من الحضارات وسيطرت عليها، بل هي تحوّل عميق في تطوّر الإنسانيّة»[1]، والحداثة بهذا المعنى تعنى القطيعة مع الماضي، وإنشاء نظام معرفيّ جديد، يكون الإنسان فيه سلطانًا في مقابل سلطة الدين، ويكون العلم سلطانًا على سلطان التأويل الديني[2].

ويتبيّن ممّا تقدّم أنّ الحداثيّين العرب التزموا بالسياق الثقافيّ والحضاريّ للحداثة الغربيّة، ودعوا إلى «تبنّي المقوّمات الفلسفيّة التي شيّد عليها هذا النمط الحضاري الذي سُمّي حداثة»[3].

إنَّ المطالعة الدقيقة في كتب الحداثيّين العرب تفيد أنَّهم حاولوا تطبيق الأصول والقواعد والمناهج التي طبّقت على النّصوص الدينيّة في الغرب على النصّ القرآنيّ، ومن هنا تكمن أهميّة دراسة المشاريع الحداثيّة بسبب مركزيّة المجال المعرفي الذي اشتغلت عليه وهو القرآن الكريم، وما يمتلكه من تأسيس وفاعليّة وأثر في الثقافة العربيّة.

وكذلك ممّا يشجّع على أهميّة دراسة هذه المشاريع هو انتشارها بشكلٍ لافتٍ بين الأوساط الثقافيّة والعلميّة والبحثيّة.

إنَّ الأسباب التي دعت إلى ظهور هذه المشاريع لها علاقة بالتحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة المرتبطة بعصر النهضة؛ إذ المواجهة الأولى مع المجتمع الغربيّ شكّلت صدمة للمجتمع الإسلاميّ، ويمكن أن نضع عوامل عدّة كان لها الأثر الكبير في ظهور هذه المشاريع الحداثيّة:[4]

(53)

أوّلها: إنَّ ظهور هذه المشاريع هو استجابة للتحدّي الحضاري المتولّد من خلال الاحتكاك بالحضارة الغربيّة بمقولاتها ونظريّاتها ومناهجها؛ إذ أُصيب الحداثيّون بصدمةٍ سببها الانبهار من التطوّر الغربيّ في ميادين العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، والذي رافقه ظهور الدراسات التي تدعو إلى إعادة تقييم الكتب الدينيّة عند الغرب، ونجحت تلك الدراسات في كشف التناقضات الموجودة في كتب العهدين، ممّا شجّع الحداثيّين على تطبيقها على القرآن الكريم.

وثانيها: الدّراسات الاستشراقيّة، فنتاجات المستشرقين حول القرآن الكريم كانت بمثابة دراسات تطبيقيّة لمعطيات العلوم والمعارف البشريّة في الغرب، وساهمت في نشوء الحداثة.

وثالثها: البعثات الدراسيّة إلى الغرب والتي ساهمت في تأثّر عدد كبير من المبتعثين بالمناهج الغربيّة.

رابعها: عاملا الزمان والمكان حيث بسببهما عدّ الكثير من الباحثين الدّاعين للتجديد النتاجات الفكريّة التي أصّلها القدماء من مخلّفات الماضي، وهذا يتطلّب -بحسب قولهم- النظرة التأريخيّة للدين. 

إنَّ المتتبّع لخطاب الحداثة في الفكر العربيّ المعاصر يجده قد مرّ بلحظتين فكريّتين[1]:

الأولى: مرحلة النهضة: وتبدأ منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر وتمتدّ حتى منتصف القرن العشرين، ويعبّر عنها بعض الباحثين بالمرحلة الموصولة.

الثانية: مرحلة الحداثة: أو كما يُعبَّر عنها بالمرحلة المقطوعة، وتبدأ منذ عقد الخمسينيات والستينيات، وأبرز تلك القراءات هي قراءة: محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وطيّب تيزيني، ومحمد عابد الجابريّ، وعبد المجيد الشرفي، وغيرهم، وهذه القراءات هي موضوع البحث. 

(54)

قام الحداثيّون بمحاولة تطبيق أُسس الحداثة الغربيّة وآليّاتها في فهم النصوص على النّصّ القرآنيّ؛ «بحجة المماثلة بين النّصّ القرآنيّ والنصوص الأخرى ليكون القرآن مجرد نتاج لسياق ثقافي معين»[1]، ولذا يمكن أن نسمّي قراءة بعض الشخصيّات للنصّ القرآنيّ بأنّها قراءة حداثيّة؛ لأنها التزمت بالحداثة الغربيّة وأسسها، ويمكن أن نعرّف القراءة الحداثيّة للنصّ القرآنيّ بأنَّها تلك القراءة التي تتّخذ من المناهج الغربيّة والفلسفيّة منهجًا وطريقًا لفهم النصّ القرآنيّ وتفسيره.

إنَّ المتتبع للقراءات الحداثيّة للقرآن الكريم يجدها -كأيّ نسق معرفيّ- تحتوي على تضميناتٍ أيدلوجيّةٍ وأهدافٍ تصبو إليها، وتستند على جملةٍ من المرجعيّات تستمدّ منها المقولات الأساسيّة والمنطلقات المعرفيّة، وتحوز أدوات وآليّات توظّفها في التفسير والتحليل، وكلّ ذلك يتم ضمن استراتيجيّة معرفيّة ترتكز على مناهج ونظريّات.

والمتأمّل في القراءة الحداثيّة يجد أصحابها ينطلقون من منهجيّة واحدة، وهذه المنهجيّة ترتكز على أسس الحداثة الغربيّة، «وينحصر الاختلاف بينهم في المنهجيّة الإجرائيّة التي يختارها كل واحد منهم في توظيف الأفكار الحداثيّة التي يمكن من خلالها تبيئتها في الفكر العربيّ الإسلاميّ وهو في الحقيقة اختلاف في الاستراتيجيّة بمعنى النظرة التي ينظر من خلالها كل واحد منهم في الإجراء الناجع الذي يراه في تقديره يجمع بين التلاؤم مع المرحلة والتلاؤم مع تحقيق هدف المشروع الحداثيّ»[2].

سيُسلِّط هذا المبحث الضوء على تلك القراءات، من خلال تتبّع الخلفيّات والمنطلقات الفكريّة التي أثّرت في نموّ مشروعها الفكريّ، وبيان مبانيها ونظريّاتها التي اعتمدت عليها، مع بيان الأثر الاستشراقيّ فيها.

وكان المعيار في اختيار هذه المشاريع دون غيرها هو ملاحظة وجود نزعةٍ

(55)

استشراقيّة في فهمها لمباحث تأريخ القرآن وعلومه، ويخرج عن البحث المشاريع التي تأثّرت بالاستشراق ولكن لم تتعرّض لفهم القرآن الكريم، أو التي درست النصّ القرآنيّ ولكن لم يلحظ البحث أثرًا استشراقيًّا فيها.

* المطلب الأوّل: فهم القرآن الكريم عند محمد أركون

وسيتمّ بيان ذلك، بعد التعريف به. 

ولادته ونشأته

 وُلِد محمد أركون عام 1928م في أسرة فقيرة، بدأ بالدراسة الابتدائيّة وصولًا للجامعة في بلده الجزائر، ونال شهادة البكالوريوس من كليّة الآداب في اللغة العربيّة، وفي عام 1952م شدّ أركون الرحال للسوربون في باريس لمواصلة دراسته العليا، فدَرَس ودرّس فيها وأصبح أستاذًا في جامعات ومعاهد أوروبيّة عدّة إلى أن توفّي عام 2010م[1].

وأثناء تواجده في فرنسا حضر دروسًا في الفلسفة، وعلم الاجتماع، وقدّم أطروحته بعنوان (نزعة الأنسنة في الفكر العربيّ جيل مسكويه والتوحيديّ[2]).

مؤلّفاته

له مؤّلفات عدّة أبرزها: الفكر الإسلاميّ نقد واجتهاد، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينيّ، الفكر الأصوليّ واستحالة التأصيل، قضايا في نقد العقل الدينيّ[3]

وقبل الدخول في بيان مشروع فهم محمد أركون لإعادة قراءة القرآن الكريم، يجدر بنا بيان الأهداف والخلفيات التي دعت إلى ظهوره، ومن ثمَّ بيان الأهداف

(56)

التي يطمح إليها أركون وصولًا لبيان فهمه للنصّ القرآنيّ، وسيتمّ ذلك عبر النقاط الآتية:

أوّلًا: (خلفيّات مشروعه - أهدافه ومنهجه - مشروعه النقديّ)

1. الخلفيّات المعرفيّة وغير المعرفيّة للمشروع الفكريّ لمحمد أركون

قبل البدء في تعريف مشروع محمد أركون ومنهجه الفكريّ، ينبغي الكشف عن المحطّات الأولى التي انطلق منها أركون لبدء مشروعه الفكريّ، وما هي الأسباب التي دعته إلى إطلاق هذا المشروع، وهذا الأمر يتطلّب مراجعةً سريعةً للخلفيّات التي أثّرت في نموّ مشروعه الفكريّ.

وهذه الخلفيّات منها: معرفيّة، كتأثّره بمذاهب ومدارس وشخصيّات غربيّة، ومنها: غير معرفيّة، كتأثّره بالعوامل السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتفصيلها الآتي:

أ. الخلفيّات المعرفيّة: أمّا الخلفيّات المعرفيّة، فقد تأثّر أركون بمجموعة من المذاهب والمدارس والشخصيّات، وكان لها الأثر الواضح في بناء مشروعه ومنهجه الفكريّ، ومن أهمّها:

ـ مدرسة الحوليّات الفرنسيّة: مدرسة تأريخيّة حديثة تأسّست عام 1929م، وقامت بنقد النزعة التأريخيّة، وعملت على تغيير منهج الأسلوب التأريخيّ، وأفاد أركون من معطيات هذه المدرسة ليوظّفها في مشروعه الفكريّ.[1]

ـ الاستشراق: يمثّل الاستشراق خلفيّةً معرفيّةً مهمّةً لأركون؛ لأنَّه درس في معهد الاستشراق في السوربون،[2] وجلُّ أساتذته من المستشرقين، وتعرّف أركون على المناهج الغربيّة خلال دراسته في الغرب وبالتحديد في السوربون، ومن مؤسّساتها:

(57)

معهد الدراسات الإسلاميّة الذي كان يضم كبار المستشرقين كـ (شارل بيلا) و (كلود كاهين) و (جاك بيرك) وكلّهم كانوا يدعون لإخضاع القرآن للمناهج الغربيّة.

وانقسمت السوربون إلى خمس جامعات مستقلّة، وأحد أقسامها المعهد الذي أحدثوه بباريس الثالثة سنة 1970 وكان يترأسه المستشرق برونشفيج، ثم أُسند فيما بعد لمحمد أركون، فانطلق أركون داعيًا لإخضاع القرآن لمناهج العلوم الإنسانيّة[1].

وأيضًا ترك هذا الاتجاه أثرًا سلبيًّا عليه، وبخاصّة الاستشراق الكلاسيكيّ ومنهجه الفيلولوجي، والذي نشأ في مرحلة الحداثة الغربيّة التي ترى أفضليّة الغرب وتفوّقه في العلوم والمعارف الإنسانيّة، وعلى الرغم من تأثّر أركون بالمدارس والاتّجاهات الغربيّة إلّا أنّه تأثّر ببعض الشخصيّات التي أفاد منها في تشكّل وتطوير آرائه الفكريّة، وأبرز تلك الشخصيّات: ميشيل فوكو، وجاك دريدا، ومجموعة من المستشرقين، وغيرهم[2].

ب. الخلفيّات غير المعرفيّة: إنَّ الخلفيّات غير المعرفيّة تعدّ دافعًا نفسيًّا مؤثّرًا في نشوء المشاريع الفكريّة، ويمكن أن نضع الخلفيّات غير المعرفيّة التي أثّرت في أركون في نقطتين[3]:

ـ عوامل سياسيّة: عاش محمد أركون في فترة الاستعمار، وأمضى دراسته الجامعيّة في هذه الفترة.    

ـ عوامل ثقافيّة: في أثناء فترة الاستعمار السياسيّ عاش أركون مرحلة المواجهة السياسيّة والثقافيّة بين الإسلام والغرب، وكان الغرب ينظر إلى الإسلام بإنّه يعيش حالة من الانحطاط والتخلّف الفكريّ، وأنَّ العرب لم يشهدوا الحداثة. 

فإلى جانب التطوّر العلميّ الغربيّ في مختلف المجالات، كانت المجتمعات

(58)

الإسلاميّة تعاني المشاكل الثقافيّة، وقد عبّر أركون عن ذلك الأمر في نصوصٍ كثيرةٍ في كتبه.[1]

2. أهداف المشروع ومنهجه

تبيّن من النقطة السابقة أنَّ محمد أركون مرّ بظروف سياسيّة وثقافيّة وعلميّة ساهمت في تبلور خلفيّة نظريّة لمشروعه، وبعد ذلك حاول تكوين مشروعه الفكريّ التطبيقيّ، وذلك بالإفادة من الخلفيّات المعرفيّة وغير المعرفيّة التي مرّ بها، وسنبحث في هذه النقطة عن الأهداف التي وضعها أركون لمشروعه، ومن ثمّ بيان منهجه في ذلك المشروع.

أ. أهداف محمد أركون

لمحمد أركون أهداف عديدة[2] يمكن أن نجمعها في هدفين:

ـ تحرير الفكر الإسلاميّ من النظام الفكريّ القديم[3].

ويتمّ ذلك بتجاوز المنهجيّات القديمة[4]، وزحزحة المسائل التقليديّة[5]، وضرورة التمييز بين المفكّر فيه والمستحيل التفكير فيه[6]، وغيرها من الأهداف التي تدخل في هذا الهدف العام[7].

(59)

ـ إقامة نظام إسلاميّ وفق شروط الحداثة، ويتم ذلك باعتماد المنهجيّات الغربيّة، والإفادة من أدواتها وآليّاتها[1].

ب. المنهج

ولتحقيق أهدافه، قام أركون بنقد المناهج الإسلاميّة والكلاسيكيّة، واتّخذ منهجًا أسماه الإسلاميّات التطبيقيّة بالإفادة من المناهج الغربيّة[2]، وبيان ذلك الآتي:

ـ نقد المنهج الإسلاميّ

يمكن القول إنَّ خلاصة نظرة أركون للمنهج الإسلاميّ أنّ أركون «يرفض المنهج التقليديّ بمسلّماته، ودوغمائيّته، وإسقاطاته، وتقديساته، ويعتبره منهجًا لا يمكن جعله أساسًا لبناء مشروع عليه، فهو تجميدي ثابت لا يتسم بالحيويّة[3]».

ـ نقد المنهج الاستشراقيّ

يمكن أن نلخّص إشكاليّة أركون على المنهج الاستشراقيّ بأمرين[4]:

الأوّل: إنَّ الاستشراق يصرُّ على عمله الوصفيّ، ولا يتجاوز هذه المرحلة من خلال القيام بتصحيح المفاهيم الإسلاميّة، فهو قام بنقد المنهجيّة الاستشراقيّة التي طبّقت مناهج العلوم الإنسانيّة على النّصّ القرآنيّ، وزاوية النقد تمثّلت بأنَّ المنهجيّة الاستشراقيّة مصرّة على المنهجيّة الوضعيّة التي لا تهتم إلا بالكشف عن الوقائع الثابتة والماديّة، وتهمل الجانب الآخر من التأريخ، وهو تأريخ الخيالات والتصوّرات والأوهام[5].

(60)

الثاني: إنَّ الاستشراق لا يلتفت إلى التقدّم العلميّ في دراسة التأريخ، فهو ما زال متمسّكًا بالمنهج اللغويّ الفيلولوجيّ والتأريخيّ[1]، ومن ثمَّ فهو يتمسّك بالبنية الداخليّة للنصوص ويتشبّث بتأريخ الأفكار الخطيّ[2].

تبيّن ممّا تقدّم زاوية نقد أركون للتراث الإسلاميّ وللمستشرقين، ولا بدَّ أن نشير إلى نظرة أركون لبعض المناهج الإسلاميّة القديمة وإلى الحداثة الغربيّة.

عدَّ أركون موقف المعتزلة من قضيّة خلق القرآن «موقف حداثة في عز القرن الثاني الهجريّ[3]».

لكنّ أركون «لم يتتبّع الدواعي واللوازم لتلك المقولة، بل اكتفى باستحضار دلالتها الأوليّة على معنى الحدوث التأريخيّ، واعتبر ذلك كافيًا لمنحها بُعدًا نقديًّا تأريخيًّا[4]».

أمّا ما يخصّ الفلسفة الغربيّة، فإنَّ أركون أفاد من عقل التنوير ومكتسباته وأفاد من منجزاته ومناهجه، وعدَّ أركون فلسفة عقل الأنوار أنموذجًا في مشروع نقد العقل الإسلاميّ، لأنّها قطعت علاقتها مع أنظمة التفكير اللاهوتيّ في أوروبا.

وعلى الرّغم من اعتماد أركون على العقل التنويريّ كأصل فلسفيّ لرؤيته النقديّة إلّا أنّه لا يقف عند تلك الأصول، وهو بهذا «يفصل بين مبدأ الأنسنة كمنطلق عقلانيّ للبحث عن المعنى أنجزه عقل التنوير، وبين الممارسات والأطر السياسيّة والثقافيّة التي انتهى إليها وشكّلت منحاها التأريخيّ التطبيقيّ في الوسط المسيحيّ»[5].

(61)
ـ تقديم الإسلاميّات التطبيقيّة

لعلّه من الصعب «تحديد مفهوم إجرائيّ للإسلاميّات التطبيقيّة لتعقّد هذا المصطلح من الناحية النظريّة والتأويليّة، وكذلك لتشعّب المهام التي يضطلع بها والميادين التي يقتحمها[1]».

في نظر أركون إنَّ المناهج الكلاسيكيّة «متأخّرة على مستوى طرق البحث التحليل ... وإذا كانت هذه هي وضعيّة الإسلاميّات الكلاسيكيّة، فإنّ الإسلاميّات التطبيقيّة تريد أن تتجاوز هذه المناهج بواسطة استثمارها وتوظيفها لنتائج العلوم الإنسانيّة وطرائقها، وإخضاع النّصّ القرآنيّ بشكلٍ خاص لمحكّ النقد التأريخيّ المقارن، وللتحليل الألسنيّ التفكيكيّ، وللتأمّل الفلسفيّ المتعلّق بإنتاج المعنى[2]».

وعبّر عن منهجه في موضع آخر بقوله: «إنَّ كلّ الموروث الدينيّ والعقائديّ واختلاف المذاهب والطوائف ينبغي أن يُعرّض لأكبر عمليّة غربلة من خلال تطبيق مناهج علم الألسنيّات الحديثة، وعلم التأريخ الحديث، وعلم الاجتماع، وعلم النفس التأريخيّ، وعلم الأنثروبولوجيا، وبالطبع علوم الأديان المقارنة الأنثروبولوجيا واللاهوت المقارن[3]».

إنَّ الملاحظ من النّصّ المتقدّم أنَّ أركون يسعى لاستثمار كلّ المفاهيم، والآليّات، والأدوات، والمناهج، التي تتيحها العلوم الإنسانيّة، والاجتماعيّة، وتطبيقها على التراث الإسلامي، وبخاصّة مركز هذا التراث وهو النّصّ القرآنيّ.

ويُفهم من كلامه: أنَّه إذا قبل المسلمون «أن ينفتحوا على المنهجيّات والعلوم الحديثة، فإنَّهم يستطيعون زحزحة الصخرة من مكانها وتجديد نظرتهم للظاهرة الدينيّة، وأعتقد أنَّ تحرير المجتمعات الإسلاميّة عربيّة كانت أم غير عربيّة سوف يبدأ من هنا[4]».

(62)
ـ مشروع نقد العقل الإسلاميّ

أعلن أركون عن مشروعه عام 1984م في كتابه تأريخيّة الفكر العربيّ الإسلاميّ[1].

ويمكن القول إنَّ منهج محمد أركون هو (الإسلاميّات التطبيقيّة) أمّا مشروعه فهو (نقد العقل الإسلاميّ)، والمنهج هو الذي يحدّد مسار المشروع[2].

كانت أولى خطوات مشروعه: نقد العقل الإسلاميّ، وقدّم عقلًا بديلًا أسماه العقل المنبثق، ثم تلت ذلك خطوة أخرى، وهي النظر بمسائل التراث من خلال هذا العقل، على أساس أنَّ العقل الدينيّ جاء نتيجة لتراث دينيّ ولا يمكن الفصل بينهما[3]، ثم وجد أنَّ محور التراث هو القرآن الكريم، ولذا احتل القرآن مساحةً واسعةً في دراسة أركون للتراث الإسلاميّ[4]، ويمكن تفصيل الكلام في هذه النقطة على شكل سؤالٍ علميٍّ:

ما هو العقل الذي قصده أركون؟ وماذا يقصد بالنقد؟

يُعرّف أركون العقل بأنّه: «ليس جوهرًا ثابتًا يخرج عن كل تأريخيّة ... فللعقل تأريخه أيضًا[5]» ويضيف في موضع آخر «هو المصدر والعامل في كلّ ما يعبّر عنه الإنسان، ويبلغه بلغة من اللغات، وهو المسؤول عن عمليّة تركيب المعاني وإنتاج جميع المنظومات والأنساق السيميائيّة[6]».

ونلحظ من هذا أنّ مفهوم العقل عند أركون يعني التغيّر المستمر، فهو ليس جوهرًا ثابتًا، وهو حاكمٌ لا يخضع لأيّ مرجعيّة، وإذا عرّف أركون العقل بأنّه المسؤول عن تركيب المعاني وإنتاج المنظومات، فيُفهم منه أنّ العمليّة النقديّة ستتّجه لكل ما

(63)

أفرزه المسلمون، وإذا كان كذلك، فما أنتجه الفكر الإسلاميّ قابل للنقد والتجديد، وقد حصل ذلك في علوم القرآن والأصول والحديث وغيرها، فما هو الجديد الذي قصده أركون؟! يظهر أنّ قصد أركون هو نقد النّصّ القرآنيّ نفسه[1].

وأمّا مقصوده من النقد، فــإنّ أركون ليس هدفه إسقاط العقل الإسلاميّ من الاعتبار، وإنّما يـهدف إلـى الكشف التأريـخيّ عن كيفيّـة تبـلور هــذا العقــل التأريـخيّ، وكيفيّة نشاطه وتأثيره فـي الـمجتمعات العربيّة والإسلاميّة منذ تبلوره وإلـى هذه اللحظة[2].

إنَّ محمد أركون درس قسمين:

الأول: التراث الإسلاميّ: قصد أركون بالعقل الإسلاميّ الفكر الإسلاميّ، ولذا قام بدراسة نتاج الفكر الإسلاميّ وهو التراث، وكيف ظهرت المدارس والمذاهب الإسلاميّة.

الثاني: القرآن الكريم: اعتبر أركون أنّ كلّ التفاسير حول القرآن هي نتاج العقل في القرآن، ولذا درس العقل في القرآن، وبحسب تعبير أركون فالعقل المؤسِّس لمختلف العقول الفرعيّة داخل الفضاء الإسلاميّ هو القرآن الكريم، فالعقل التأسيسيّ هو النواة الأولى التي انبجست عنها كلّ العقول الإسلاميّة، ولذلك يعتبر البحث في طبيعة العقل القرآنيّ أهم منطلق للإمساك بناصية العقل الإسلاميّ كلّه[3].

إنَّ جميع العلوم الإسلاميّة ذات مرجعيّة قرآنيّة، وهذا ما جعل أركون يتوجّه إلى النّصّ القرآنيّ، وبتحريكه للأصل تتزعزع الفروع الأخرى المنبثقة عنه.

قسّم محمد أركون النّصوص الدينيّة التي تكوّن التراث إلى: نصوص تأسيسيّة،

(64)

وهي القرآن وأضيف إليها الحديث لاحقًا، ونصوص تفسيريّة تشرح النّصوص الأولى[1].

يرى أركون أنّه من الضروري تطبيق المناهج المعاصرة على القرآن الكريم، فهو طرح مشروعه النقديّ ليصل إلى نتيجة تطبيق المناهج والآليّات الغربيّة على النّصّ القرآنيّ.

ثانيًا: مناهج وآليّات فهم النّصّ القرآنيّ عند أركون

قام أركون بتقديم مشروعه النقديّ لإعادة قراءة النّصّ القرآنيّ بالاعتماد على مناهج العلوم الإنسانيّة، وهو ما أسماه الإسلاميّات التطبيقيّة، مع استثمار بعض الأصول المنهجيّة التي طرحها فلاسفة الحداثة الغربيّة، والمستشرقون، وبعض الفرق الإسلاميّة كالمعتزلة.

طبّق محمد أركون المناهج الحديثة في فهم القرآن الكريم، واعتمد على مناهج متعدّدة، قسم منها يختص بعلوم الإنسان، وقسم آخر بدراسة الأديان، وقسم ثالث يختص بدراسة النّصوص الدينيّة.

ويمكن أن نلخّص مشروع محمد أركون في توجّهين:

الأوّل: العمل على «تأريخ النّصّ القرآنيّ من جهة تكوينه وجمعه وتدوينه، والهدف من ذلك التشكيك في صحته، ونزع قداسته، ثم المطالبة بإعادة تشكيله وفق النتائج التي توصّل إليها النقد الفيلولوجيّ واللسانيّات الحديثة.

الثاني: إعادة قراءة القرآن الكريم وذلك بإخضاعه لمناهج العلوم الإنسانيّة الحديثة[2]».

هذا التوجّه المنهجيّ عند أركون نجده هدفًا أساسيًّا في مشروع المستشرقين عند دراستهم للقرآن الكريم.

(65)

إنَّ مشروع المستشرقين يمكن أن نفهمه من خلال ما قاله المستشرق كلّود جيليو «إنَّ تطوّر الدراسات القرآنيّة بالغرب منذ منتصف القرن العشرين تحقّق بفعل تأثير التقدّم الملحوظ في مجال الدراسات الإنجيليّة ونظريات النقد الأدبيّ ... ويمكننا أن نميّز بين توجّهين رئيسين في هذه الدراسات:

الأول: يشتغل على تأريخ النّصّ القرآنيّ من حيث تكوينه وجمعه وتدوينه.

الثاني: يهتم بإعادة فهم القرآن انطلاقًا من الوسائل التي توفّرها العلوم الإنسانيّة[1]».

ونلاحظ ممّا تقدّم التشابه الكبير والواضح بين هدفي المشروعين، على الرغم من محاولة أركون تجاوز المنهج الفيلولوجي للمستشرقين، من خلال نقد ما أسماه الإسلاميّات الكلاسيكيّة، وقدّم الإسلاميّات التطبيقيّة كبديلٍ لها.

فأركون استفاد أوّلًا من المنهج الفيلولوجيّ، ثم حاول تجاوزه بالاعتماد على مناهج العلوم الإنسانيّة.

لقد تلقّف أركون فكرة تطبيق منهج الفيلولوجيا على لفظة (كلالة) من المستشرق الأمريكي دافيد باورس.

 لقد صرّح أركون بذلك بقوله: «لقد فعلت كما فعل باورس، حيث عرضت عليه هذه الآية غير المشكلة على الناطقين بالعربية أي الذين يجيدون الإعراب والعربية ولم يقرؤوا هذه الآية، فاكتشف الشيء المدهش الآتي: إنَّ أولئك الذين حفظوا القرآن عن ظهر قلب يتلون الآية كما هي التي قد اعتمدت بعد طول نقاش من قبل التفسير الكلاسيكيّ، ثم فرضت في المصحف الرسميّ منذ الطبريّ على الأقل، ولكن أولئك الذين لا يحفظون عن ظهر قلب ويخضعون فقط للكفاءة القواعديّة واللغويّة يختارون دائمًا القراءات الأخرى[2]».

(66)

نجد أنّ أركون رجّح القراءة الشاذّة على المتواترة من خلال استعمال المنهج الفيلولوجيّ، وذهب أركون إلى ما ذهب إليه المستشرق باورس من تقديم القراءة الشاذّة على المتواترة[1].  

أمّا ما يتعلّق بالآليّات المنهجيّة والأدوات التحليليّة التي وظّفها أركون في فهمه للنصّ القرآنيّ، فبيانها الآتي: 

لقد حدّد أركون منذ البدء هدف مشروعه باستكشاف الآليّات التي يتشكّل بها الخطاب القرآنيّ حتى يمكن من خلالها فهم بنية النّصّ القرآنيّ، ثم الدخول في المستوى التحليليّ الدلاليّ.

 ويجب التنبيه إلى أنّ «مشروع أركون لإعادة تفسير القرآن أو قراءته ظلّ يتراوح بين مختلف النظريّات والـمناهج، فقد دعا إلـى الأخذ بالبنيويّة، ثم انتقل إلى اللسانيّات، ثم السيميائيات، ثم انتقل إلـى علم الأناسة أو الأنثروبولوجيا، وأحيانًا يدعو إلـى النظر فـي القرآن اعتمـادًا على سديم من المناهج الـمتعدّدة[2]».  

وعلى الرغم من أنّ أركون قام بنقد المنهجيّة الاستشراقيّة في فهم الخطاب القرآنيّ، والّتي تأخذ بالمنحى الفيلولوجيّ، إلا أنّه لا يستغني عن هذا المنهج بحسب مقتضيات الفهم التي يتطلبها البحث، يقول في ذلك: «فأمام مجمل عبارات الإيمان ونصوصه، فإنّ التحريّ الأوليّ الذي يفرض نفسه منهجيًا وإبستومولوجيًا ... هو التحرّي التأريخيّ الذي يمزج بين الأداة الفيلولوجيّة والألسنيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والسيميائيّة والانتولوجيّة السوسيولوجيّة والأنثربولوجيّة لفهم النواة الصلبة للاعتقاد الإسلاميّ وتفكيكها من الداخل[3]».

(67)

وبحسب رأي أركون، فبما أنّ الظاهرة القرآنيّة ظاهرة تأريخيّة فيجب إعادة قراءة النّصّ القرآنيّ وفق المنظور التأريخيّ[1].

في «بداية القرن التاسع عشر اهتم العلماء بدراسة أصل اللغة ونشأتها وكـان لعلماء الأنثربولوجيا وبخاصّة أصحاب الاتّـجاه التأريـخيّ والتطوّريّ السبق فـي ذلـك بقصد التعرف على الأصول الأولـى لكلّ الأشياء وبخاصّة اللغة، ولكن الـمدرسة البنيويّة الفرنسيّة فتحت بابًا جديدًا للاهتمـام باللغويّات حين اعتبرت دراسة اللغة هي الـمـدخل الأساسيّ الذي يمكن أن تقوم عليه نظريّاتها الأنثربولوجيّة والأدبيّة والفلسـفيّة[2]».

إنَّ «اللغة عند أركون عبارة عن بنيات مستقرة ومتغيرة في نفس الوقت، حيـث إنَّها في تركيبها وصياغاتها تتعلّق بالفكر، من حيث هو جملة أفكار تفرزه ويفرزهـا، تشكّله ويشكّلها، كما تتعلّق بالعقل الذي أبدع هذه اللغة وتطوّر في كنفها والمفـروض أنْ تتطوّر في كنفه أيضًا[3]».

فالهدف جعل النّصّ القرآنيّ نصًّا لغويًا لا يختلف عن النصوص البشريّة، وتتمّ معاملته وفق المناهج والآليّات الحديثة.

من كلّ ما تقدّم يمكن أنْ نقول إنَّ أركون ارتكز على المنهج التفكيكي في دراسته للنصّ القرآنيّ، ووظّف آليّتين أو منهجين أساسيّين لتفكيك النصّ، هما: المنهج الألسنيّ السيميائيّ والمنهج التأريخيّ الأنثروبولوجيّ، وبيانهما الآتي:

1. مناهج اللسانيّات والسيميائيّات:

تُعرّف اللسانيّات بأنّها علم يدرس: «اللغة الإنسانيّة دراسة علميّة تقوم على

(68)

الوصف ومعاينة الواقع بعيدًا عن النّزعات التعليميّة والأحكام المعياريّة[1]». ويمكن القول: إنَّ اللسانيّات هي في المحصّلة نتائج ونظريّات تمثّل بمجموعها أدوات بحث وآليّات تحليل[2].

 يقول أركون: «لقد شرعت في تطبيق إشكاليّات ومناهج اللسانيّات والسيميائيّات لتحليل الخطاب القرآني منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي[3]»؛ إذ قام بتطبيقهما على سورتي الفاتحة والكهف.

يهدف أركون من توظيف السيميائيّة والألسنيّة إلى فهم اللحظة اللغويّة التي تبلور فيها النّصّ القرآنيّ.

يقول أركون: «إنّي أحاول أن أرى كيف يشتغل النّصّ القرآنيّ وكيف يولّد المعنى[4]».

وسبب اختياره للتحليل السيميائيّ؛ لأنّه «يقدّم لنا فرصة ذهبيّة لكي نمارس تدريبًا منهجيًّا ممتازًا يهدف إلى فهم كل المستويات التي تشكّل المعنى أو يتولّد من خلالها[5]».

فهو يستعين بالسيميائيّة لكشف هدفين[6]:

أولًا: تأريخيّة اللغة القرآنيّة.

ثانيًا: إظهار الكيفيّة التي يمكن الحصول على المعنى الجديد من خلالها.

فأركون يعتقد أنّه وفق المقاربة السيميائيّة يمكن العودة إلى الأصول التي تشكّل

(69)

من خلالها الخطاب القرآنيّ، وكذلك يمكن فهم مكوناته وعباراته بصورةٍ حديثةٍ معاصرةٍ تتجاوز النمط القديم، ويتمّ ذلك بالمزاوجة بين السيمائيّة والألسنيّة، إذ يقوم فهم النّصّ وتأويله على الأطر الألسنيّة التي تشمل «علم السيميائيّات، وعلم المعاني، وعلم الدلالات ... وكلّها علوم متقاربة ومتداخلة، ويصعب التمييز بينها أحيانًا[1]».  

وعلّل أركون سبب اختياره للتحليل الألسنيّ كنقطة انطلاق لفهم النّصّ القرآنيّ؛ بأنّه يمثّل مرحلةً منهجيّةً مهمّةً قبل القيام بأيّ تفسير أو تأويل للنصّ[2]، وتكمن أهميّتها «إنّ هذه المنهجيّة تذكر بالمشروطيّة اللغويّة للنصّ، بما في ذلك نصّ الوحي، فهو مكتوب بلغة بشريّة معيّنة، وخاضع لإكراهاتها النحويّة والصرفيّة واللفظيّة والبلاغيّة كما أنّه خاضع للإكراهات السوسيولوجيّة والثقافيّة للبيئة التي ظهر فيها[3]».

نجد أنّ الألسنيّة لها أهميّة كبرى عند أركون؛ لأنّه إذا أراد أن يتقن قراءة أيّ نصّ وجب عليه تفكيكه ألسنيًا لكي يعرف كيفيّة تشكّله.   

ويمكن أن نقول: إنَّ الدراسة السيميائيّة الألسنيّة تنظر للنصّ القرآنيّ كنصّ لغويّ متكوّن من جمل وكلمات بعيدًا عن القداسة، وهو ما أراده أركون عند تطبيقه لهما.

2. منهج النّقد التأريخيّ والأنثربولوجيّ

عبّر أركون عن تبنّيه للمنهج التأريخيّ في أكثر من مناسبة[4]، وطُبّق هذا المنهج لأول مرّة في الغرب، إذ قام الغربيّون بتطبيقه على النّصوص المسيحيّة.

(70)

إنَّ المطالعة في كتب الحداثيّين تبيّن لنا مرادهم من منهج النّقد التأريخيّ، يقول أحد الحداثيّين: «فحينما يُقال النقد التأريخي يُراد به عادة خمسة ضروب من النقد: نقد الوثيقة التأريخيّة التي بين أيدينا، والنقد الأدبي لهذه الوثيقة التأريخية، ونقد المضامين المدرجة في النّصّ التأريخيّ، ونقد ذلك النّصّ شكليًّا، ونقد المؤلِّف أو نقد مبدع النصّ[1]».

فالخطوة الأولى لأصحاب هذا المنهج هو البحث عن درجة اعتبار هذا الكتاب المراد تطبيق هذا المنهج عليه، وإلى أي قرنٍ ينتمي هذا الكتاب؟

 وثاني تلك الخطوات هي البحث عن مصدر محتويات الكتاب ومدى صحّة نقلها.

 وثالث تلك الخطوات البحث عن صحّة المضامين والأفكار الواردة في الكتاب.

 ورابع خطوة هي نقد الأسلوب، والخطوة الأخيرة هي نقد مؤلّف الكتاب؛ إذ لا يمكن فهم النّصّ دون معرفة صاحبه. وهذه الخطوات -بحسب نظر الحداثيّين- هي منهج فهم لأيّ نصّ، وكانت بمثابة أصول لفهم نصوص الكتاب المقدّس في الغرب[2].  

وعندما يتحدّث أركون عن النقد التأريخيّ، فهو لا يستبعد النّصوص الدينيّة، بل يعتبرها الأَولى بالنّقد؛ لأنَّ القرآن حادثةٌ تأريخيّةٌ يجب أنْ تُفهم بحسب تسلسها الزمنيّ[3]، فهو يوظّف التأريخ كآليّةٍ لفهم النّصّ القرآنيّ، حتى أصبحت التأريخيّة أساسًا لفهم النّصّ القرآنيّ عند أركون وغيره من الحداثيّين، وتترتّب عنها أسس أخرى[4]

(71)

إنَّ التأريخيّة أصبحت منطلقًا لربط البحث في فهم النّصّ القرآنيّ بتأريخ الأديان وعلم الاجتماع والتحليل النفسيّ والأنثروبولوجيا الدينيّة.

تكمن أهميّة هذا المنهج عند أركون في أنَّ النّقد التأريخيّ للنصّ القرآنيّ يحاول إعادة قصّة تشكّل القرآن الكريم[1]، ومن ثمّ فهو يُعتبر المنهج الأخطر والأكثر حساسيّةً في مجال فهم النّصّ القرآنيّ.

يؤكّد أركون على أنَّ المنهجيّة الأنثروبولوجيّة لا تهتم بالوقائع والأسماء والأحداث التي تحصل في وضح النهار، وإنّما تهتم بالجوانب الغامضة والمخفيّة من التأريخ المقارن للأديان، والثقافات والحضارات، إنّها تهتم بالوظائف الرمزيّة وعمليّات الإبداع المجازي، والأسطرة، والمخاتلة، والأدلجة، والتقديس والتعالي[2].  

إنَّ النقد التأريخيّ في مفهوم أركون لا يُسلّم بأيّ معطى دينيّ سابق على النّصّ يُفهم النّصّ من خلاله، وإنّما يتّضح النّصّ ويُفهم من خلال إخضاعه لحركة التأريخ والاجتماع، فالواقع سابق على النصّ، والنصّ خاضع لهذا الواقع، ويعتقد أركون أنَّ النقد التأريخيّ هو الكفيل بإخراج النصوص من السياقات الأيديولوجيّة التي سجنت النّصّ وحبسته في القراءة الآحاديّة[3].

إضافة لما تقدّم نجد أنَّ أركون وظّف مجموعة مفاهيم «لزحزحة القناعات مثل: مفهوم الأسطورة، إنتاج المعنى، وغيرها من المفاهيم التي يرى أركون ضرورة إدخالها وتوظيفها كآليّات قرائيّة، خاصّة أنَّها صارت متداولة في مجال العلوم الإنسانيّة[4]».

وعلى أيّة حال، نجد أركون يُبيّن أولويّة المناهج التي وظّفها في فهم النّصّ القرآنيّ، يقول في هذا الصدد: «إنَّ التحليل الألسنيّ –اللغويّ- له مرتبة الأولويّة وخاصة

(72)

عندما يتعلّق الأمر بالنصوص القديمة ... بعدئذٍ يجيء دور التحليل التأريخيّ والاجتماعيّ والأنثروبولوجيّ لإضاءة النّصّ والكشف عن مشروطيّته التأريخيّة[1]». 

ويمكن أن نلخّص خطوات أركون التحليليّة للنصّ القرآنيّ في مستويات عدّة[2]:

الأوّل: التحليل اللغويّ الألسنيّ والسيميائيّ، وهما يبحثان عن المعاني اللغويّة وغير اللغويّة.

الثاني: التحليل التأريخيّ؛ إذ يساهم في تحديد منشأ الحقيقة ورابطها.

الثالث: التحليل الاجتماعيّ؛ لأنّه انعكاس لما يجري من صراعات داخل الجماعات.

الرابع: التحليل الأنثروبولوجيّ؛ لأنّه يدخل في مقارنة الثقافات البشريّة بعضها ببعض.

الخامس: التحليل الفلسفيّ؛ لأنّه يبحث عن علاقة الحقيقة بالكائن الماورائي للذات البشريّة.

السادس: التحليل اللاهوتيّ التأويليّ؛ لأنّ فيه محاربة لكلّ انغلاق على اليقينيّات الثابتة، وكل أنواع التبجيل.

ثالثاً: نماذج تطبيقيّة لتحليل محمد أركون للنصّ القرآنيّ وفق المناهج الحديثة وأثر الاستشراق في ذلك

على الرّغم من تعدّد القراءات التي قدّمها الحداثيّون للنصّ القرآنيّ ودعوتهم لتوظيف المناهج المعاصرة في فهمه، إلّا أنّهم لم يستطيعوا أنْ يقدّموا تفسيرًا كاملًا للقرآن الكريم، بل ظلّوا يقدّمون المشاريع النظريّة ويتنقّلون بين مختلف المناهج، ومنهم محمد أركون.

(73)

إنَّ المتتبّع لأركون في مشروعه النقديّ يجد سيطرة المناهج والأدوات على الجانب التحليليّ للنصّ القرآنيّ، ولعلّ السبب في وجود الكثافة المنهجيّة على حساب الجانب التطبيقيّ أمران «أولهما: ظهور نتائج تفكيكيّة صادمة للوعي الدينيّ وثانيها: الحذر من محدوديّة النتائج التحليليّة نفسها إزاء التوقّعات والآفاق المنهجيّة المعلنة[1]»، فنجد أنَّ هناك محدوديّة في الدراسة التطبيقيّة.

وعلى الرّغم من محدوديّة الجانب التطبيقيّ عند أركون، إلّا أنّه قام بدراسةٍ جزئيّةٍ تحليليّةٍ لنماذج لنصوصٍ قرآنيّةٍ، منها: دراسة سورة الفاتحة، وسورة التوبة، وسورة الكهف.

واستند في دراسته لسورة الفاتحة على المنهج الألسنيّ، أمّا في سورة التوبة فاعتمد على المنهج الأنثروبولوجيّ، وفي تحليل سورة الكهف ذهب باتجاه المنجز الاستشراقيّ في هذا المجال، وتفصيل ذلك في النقاط الآتية:

1. التحليل الألسنيّ لسورة الفاتحة

طبّق محمد أركون في سورة الفاتحة ما سمّاه بروتوكولًا ألسنيًا نقديًّا[2]، واتّخذ مسار أركون مراحل ثلاث، هي: طبيعة الشيء المقروء، ومرحلة التطبيق الألسنيّ، ومرحلة العلاقة النقديّة[3].

المرحلة الأولى: مرحلة تحديد الشيء المقروء أو مرحلة المفهوم

قبل أن يبدأ أركون بتطبيق المنهج الألسنيّ أشار إلى أنَّ هذا المنهج لم يكتمل وما زال يتطوّر، ولذا فهو لم يعتمد على مدرسة لسانيّة محدّدة[4]، ثم بيّن مسألة البنية الأسطوريّة للقرآن، وقسّم سورة الفاتحة إلى ثلاثة بروتوكولات هي[5]:

(74)

1. بروتوكول القراءة الطقسيّة الشعائريّة: وهي القراءة التي تتكرّر سبعة عشر مرة في الصلاة.

2. بروتوكول القراءة التفسيريّة: وتشمل التراث التفسيري الذي كتبه المفسّرون حول سورة الفاتحة، وهذه كلّها -بنظره- ينبغي أن تخضع لتحرٍّ طويل وصعب.

3. البروتوكول الألسنيّ النقديّ: وهذه القراءة غاية أركون، إذ يحاول فيها بيان القيم اللغويّة للنصّ.    

ثمّ بيّن أركون مراده من النّصّ القرآنيّ وفرّق بينه وبين الخطاب القرآنيّ، وهذه المرحلة الأولى مرحلة المفهوم يمكن تجاوزها، إذ تبيّن فيما سبق مفهوم النّصّ القرآنيّ عند أركون، ويجدر بنا الانتقال إلى مرحلة التطبيق الألسنيّ التحليليّ مباشرة.

المرحلة الثانية: مرحلة التطبيق الألسنيّ

وهي الخطوة الأهم، واشتملت القراءة الأركونيّة لسورة الفاتحة وفق المنهج الألسنيّ على سبعة مستويات تناولها باختصار، وهي[1]:

1. النطق

يقول أركون: «تستعمل عمليّة النطق بعض العناصر اللغويّة التي ندعوها بصائغات الخطاب أو مشكلاته التي تصوغه على هيئة معينة وهكذا ندرس بشكل متتابع المحدّدات والمعرّفات (من أدوات تعريف وتنكير وصفات وضمائر)، ثم النظام الفعليّ، ثم النظام الاسميّ، ثم البنى النحويّة، وأخيرًا النظم والإيقاع إنْ لم نقل الأوزان والعروض[2]».

2. أدوات التعريف

يفتتح أركون تحليله بإثارة مشكلة بارزة هي ظاهرة التعريف والتنكير؛ إذ لاحظ

(75)

سيطرتها على سورة الفاتحة، سواء بالألف واللام أو بواسطة التكملة التعريفيّة[1]، وأشار إلى أنَّ للمعرّفات وظيفتين: الأولى: التعميم في الزمان والمكان، وهذا أخذه من الفخر الرازي، والوظيفة الثانية: هي التصنيف في التراكيب اللغويّة[2].

وأشار أركون إلى أنَّ سبب تسمية الفاتحة بهذا الاسم هو لوجودها في رأس المصحف، أمّا ترتيبها فهي في المرتبة الــ (46)، واعتبر هذا الترتيب متأخّر، فتعريف (إله) غير متبلور كثيرًا في النصوص، وظلّ مبهمًا من السورة الأولى وإلى السورة الخامسة والأربعين[3]، وفي هذه النقطة يبرز أثر المنهج الاستشراقيّ؛ إذ «يستعيد أركون اختصاص الفيلولوجي مستندًا إلى الترتيب التأريخيّ لسور القرآن ... وبذلك فقد نقض منهجيّا المنطلق اللساني الذي قطعه على نفسه بتحليل الفاتحة ضمن وضعها البنيويّ في النّصّ القرآنيّ[4]»، فهو يصرّ على إعادة تشكّل المصحف، مشيدًا بمنجزات المستشرق (نولدكه) والمستشرق (بلاشير).

3.  الضمائر

ومع أنَّ الضمائر تعدّ أحد المحدّدات، إلا أنّ أركون أفرد لها مستوى خاصًّا بها، ووضع أركون الضمائر في قسمين؛ إذ يقول: إنّ هناك عدّة ضمائر، ففي (أنعمت - واهدنا) الضمير فاعل نحوي يدلّ على منعم المخلوقين، على عكس الضمائر المجهولة في الصيغ الأخرى[5].

4. الأفعال

يعبّر أركون عن الأفعال بأنّها تدلّ على التوتّر، وهي جهد يبذله العامل رقم (2)

(76)

ليصل إلى العامل رقم (1) وديمومة الجهد تكون لسدّ الفجوة بين متكلّم يعترف بصفته خادمًا ومخاطب بصفته الشريك الأعلى[1]

5. الأسماء

وقسّم الأسماء على قسمين: الأوّل الأسماء الأصليّة، «وهي اسم، أل- لاه، حمد، رب، يوم، دين، صراط[2]»، والقسم الثاني هما اسمي الفاعل (مالك - ضالين) واسم المفعول (المغضوب عليهم)[3]. ولم يفصّل الكلام فيها، بل أشار لها بإشارات بسيطة، فأين التحليل الألسنيّ؟!

6. البنيات النحويّة

قام أركون بتقسيم سورة الفاتحة إلى أربع وحدات، هي: (بسم الله، والحمد لله) و(الرحمن الرحيم، ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين) و (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، إهدنا الصراط المستقيم) و (صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين)[4] ، وذكر أنّ الهدف من هذا التقسيم أنّه «يتيح لنا أن نوضّح أفضل ذلك الدور النحويّ المركزيّ للفاعل المقصود بكلمة الله أو بعمليّة القول: الله، وكذلك يتيح لنا أنَّ نفهم كيفيّة التوسّع المعنويّ لهذا الفاعل نفسه[5]».

7. النظم والإيقاع

وبهذا المستوى تنتهي رحلة أركون مع القراءة الألسنيّة، وحاول في أسطرٍ قليلةٍ أن يبيّن أهميّة النظم الألسنيّة، ويقول: «سأكتفي بالتنبيه على الملاحظة البسيطة التالية، وهي وجود قافلة (إيم) متناوبة مع قافلة (إين) في سورة الفاتحة[6]». 

(77)
المرحلة الثالثة: مرحلة العلاقة النقديّة.

من خلال العلاقة النقديّة حاول أركون إعادة ضبط العلاقة بين النّصّ والمتلقّي باستشكال ظاهرة الوحي وربطها بالتأريخيّة.

الأثر الاستشراقيّ يمكن أن نجد الحضور الاستشراقيّ في فهم أركون لسورة الفاتحة -إضافة لما تقدّم في (التعريفات) من بحثه الفيلولوجيّ- من خلال مناقشته لترتيب نزول الفاتحة ضمن سور القرآن، فعلى الرغم من وجود اختلاف بين المسلمين في نزولها بمكّة أو بالمدينة أو نصفها بمكّة ونصفها بالمدينة، فإنّنا نجد أركون لم يبحث فيها، بل تبنّى الترتيب الذي وضعه المستشرق الألمانيّ نولدكه في كتابه تأريخ القرآن.

2. التحليل الأنثروبولوجيّ لسورة التوبة

إنَّ سبب اختيار أركون للمنهج التأريخيّ الأنثروبولوجيّ وتطبيقه على سورة التوبة يعود إلى أمريـن[1]:

الأوّل: موضوعها الاجتماعي والسياسي.

الثاني: تجسيدها لمشروعيّة العنف وعلاقته بالتقديس كمعطى أنثروبولوجي.

وأيضًا فقد «فكّك الآية الخامسة من سورة التوبة باستخدام المنهجيّة السيميائيّة والألسنيّة التي تسعى إلى كشف العلاقة بين الله والنبي والمؤمنين؛ إذ يهدف من خلال ذلك إلى تحرير المسلم من هيمنة القراءة المغلقة، لكي يفهم العلاقات الداخليّة للنصّ بكلّ حياديّة وموضوعيّة، فيكتشف عند ذاك العلاقة التي تربط النّصّ بالتأريخ[2]».

واستند في تحليل سورة التوبة إلى المنهج الأنثروبولوجيّ والألسنيّ، ولم يلحظ البحث تأثّرًا بمناهج المستشرقين.

(78)
3. تحليل سورة الكهف

قام أركون بممارسته التحليليّة لسورة الكهف بالاعتماد على المنهج الفيلولوجيّ، معتمدًا على النتائج التي توصّل إليها المستشرق الألمانيّ نولدكه.

قام أركون بعرض قصة أصحاب الكهف، وحاول أن يتجاوز في تفكيكه المنهج الفيلولوجي الذي اعتمده إلى المدخل الأنثروبولوجيّ التأريخيّ، وفي هذا السياق أبدى إعجابه بالمستشرق الفرنسيّ ماسينون (1883-1962م). 

قسّم أركون سورة الكهف إلى وحدات سرديّة، لا يجمع بينهما موضوع واحد، فجمع الآيات من الأولى إلى الثامنة في وحدة، ومن التاسعة إلى الخامسة والعشرين في وحدة، ومن الرابعة والعشرين إلى التاسعة والخمسين في وحدة[1].

الوحدة الأولى: مؤلّفة من ثماني آيات، وهي لا تشكّل مقدمة للسورة من وجهة نظر البحث التأريخيّ لأنّ:

ـ موضوعها يختلف؛ إذ تتكلّم عن عناوين عامّة.

ـ نزولها يختلف؛ إذ إنّها نزلت بالمدينة، بينما بقيّة آيات السورة نزلت بمكّة. 

وهنا نلحظ أركون يستند في هذا التحليل إلى المنهج الفيلولوجيّ التأريخيّ الاستشراقيّ للسورة، ولذلك يتبنى أركون النتائج التي أقرّتها مدرسة نولدكة.

لقد قام بلاشير بترجمة سورة الكهف؛ لأنّها نالت أهميّةً كبرةً في الإسلام، وبحسب كلامه فهي تتلى في المساجد يوم الجمعة والتفسير خصّصها كسورة مكيّة مع إضافات مدنيّة وليس من السهل إيجاد الربط بين البداية والنهاية للربط بين الأجزاء السرديّة المقوّمة للهيكل الكليّ[2]، وهذا الرأي وافقه عليه أركون؛ إذ زعم أنّ الآيات الثماني الأولى «تقوّي وحدة النّصّ الكلي للقرآن أكثر ممَّا تتمفصل مع النّصّ

(79)

الجزئي[1]»، ونلحظ التشابه بين النظر إلى الآيات ككلّ ومحاولة إيجاد مقدّمة وخاتمة للسورة، إلى أن وصل أركون إلى نتيجة تفيد بعدم وجود رابط بين أجزاء السورة.

 

* المطلب الثاني:  فهم القرآن الكريم عند نصر حامد أبو زيد

تمهيد

للقرآن الكريم أهميّةٌ بالغةٌ في بناء الحضارة الإسلاميّة، وانطلاقًا من تلك الأهمّية حاول نصر حامد أبو زيد إعادة قراءة النّصّ القرآنيّ وفق الآليّات والمناهج الغربيّة؛ لاستخراج معانيه ومدلولاته، ويمكن التعريف بنصر حامد أبو زيد ونشأته ومؤلّفاته عبر النقاط الآتية:

ـ التعريف به: نصر حامد أبو زيد (1943 – 2010م) مفكّر وباحث مصريّ، تخصّص بالدراسات الإسلاميّة، له مجموعة مؤلّفات حول الفكر الدينيّ، والتراث، والحداثة، حاول من خلالها تقديم رؤية نقديّة تجديديّة يهدف من خلالها إلى إعادة النظر في التراث الدينيّ[2].

ـ مؤلّفاته: يمكن أن نضع مؤلّفات نصر حامد أبو زيد المتعلّقة بالنّص الدينيّ في مجموعتين:

المجموعة الأولى: هي المؤلّفات التي احتوت على التأسيسات النظريّة، والآليّات المنهجيّة الحداثيّة لتأويل النّصّ الدينيّ، وهذه المؤلّفات هي: (الاتّجاه العقليّ في التفسير)، و (التأويل عند ابن عربي)، و (مفهوم النّصّ: دراسة في علوم القرآن)، و (إشكاليّة القراءة والتأويل[3]).

(80)

المجموعة الثانية: كان الهدف من تآليفها نقد التفكير التراثيّ في نظرته إلى النّصّ، ونقد آليّات التأويل المتّبعة، أهمّها: (نقد الخطاب الدينيّ)، و (النّص والسلطة والحقيقة: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة[1]).

أولاً: المشروع التأويليّ لنصر حامد أبو زيد (المقدّمات والمنطلقات)

توطئة

لتحقيق غايته وهدفه من مشروعه التأويليّ قام أبو زيد بتوظيف المناهج الغربيّة المعاصرة التي وظّفها الغرب في فهم نصوصهم الدينيّة، واستند في ذلك على مناهج اللسانيّات وعلى نظريّات تحليل الخطاب، وركيزة مشروعه النقديّ هي التأويليّة.

1. المقدّمات

يمكن أن نضع مشروع أبي زيد التأويليّ في نقطتين: الأولى: نظرته إلى التأويلات السابقة، الثانيّة: طرحه لتأويليّته في فهم النّصّ القرآنيّ، وبيانهما الآتي:

أ. الانطلاق من التأويلات التراثيّة والمعاصرة

قبل الشروع في التأويليّة المعاصرة تتبّع أبو زيد (التأويل) في التراث الإسلاميّ، ثم قام بربطه بالتأويل المعاصر، وبيان ذلك:

ـ التأويل في التراث: يقول أبو زيد: إنَّ التأويل موجود في جميع الفترات التي مرّت، ومنها:

 . التأويل الكلاميّ: وتحدّث عنه في كتابه (الاتّجاه العقليّ في التفسير)، وسعى في هذا الكتاب إلى تأصيل التأويل عند المعتزلة، ليفيد منه في نظريّته التي أسّسها والمتعلّقة في فهم النّصّ القرآنيّ وفق جدليّة النّصّ والواقع.

. التأويل الصوفيّ: وتحدّث عنه في كتابه (فلسفة التأويل دراسة في تأويل

(81)

القرآن عند محي الدين ابن عربي)، وبحث فيه أفكار ابن عربي حول النصّ القرآنيّ، ويمكن عدّ هذه الأفكار من أساسيّات أبي زيد في تأويله للنصّ القرآنيّ.

ـ التأويل المعاصر: تطرّق أبو زيد في كتبه إلى التأويلات المعاصرة وأشار إلى التأويل عند محمد عبده وأمين الخولي وغيرهم، وبخاصّة المنهج اللغويّ التحليليّ عندهم[1].

ب. طرحه لتأويليّته المعاصرة

 بحث نصر حامد أبو زيد عن قراءة جديدة له تقوم على استخراج معاني النصّ ومدلولاته بالإفادة من المناهج والآليّات الغربيّة، وذلك بـ«إعادة ربط الدراسات القرآنيّة بمجال الدراسات الأدبيّة والنقديّة بعد أن انفصلت عنها في الوعي الحديث والمعاصر نتيجة لعوامل كثيرة أدّت إلى الفصل بين محتوى التراث ومناهج الدرس العلميّ[2]».

برز منهج أبو زيد في تعامله مع النّصّ القرآنيّ في كتابه (مفهوم النّصّ: دراسة في علوم القرآن).

2. المنطلقات

يرتكز مشروع نصر حامد أبو زيد على تأويل الفكر الديني ونقده واعتباره خطابًا تأريخيًا كالخطابات الأخرى، ووضع أبو زيد منطلقين يستدعيان تأويل الفكر الديني، هما:

أ. منطلق الحاكميّة: ويفيد منها في أنَّ «دعوة الإسلام في جوهرها دعوة لتأسيس العقل في مجال الفكر، والعدل في مجال السلوك الاجتماعيّ، وذلك بوصفهما نقيضين للجهل والظلم، وهما ركيزتا الواقع في المجتمع العربيّ الذي خاطبه الوحي أوّلًا[3]».

ويضيف في سياق كلامه عن هذا المنطلق بأنَّ الخطاب الدينيّ ظلّ «حريصاً على نفي أي تعارض يمكن أن ينشأ -بحكم حركة الواقع المستمر وثبات النصوص- بين

(82)

الوحي والعقل. واتفق الجميع تقريبًا على أنَّ النقل إنَّما يثبت بالعقل، والعكس ليس صحيحاً، العقل هو الأساس في تقبّل الوحي[1]».

ب. منطلق النصّ: يؤكّد أبو زيد على أنّ الخطاب الديني يتّفق على «أنّ النّصوص الدينيّة قابلة لتجدّد الفهم واختلاف الاجتهاد في الزمان والمكان[2]».

 ويضيف «إنَّ النصوص دينيّة كانت أم بشريّة محكومة بقوانين ثابتة، والمصدر الإلهيّ للنصوص الدينيّة لا يخرجها عن هذه القوانين؛ لأنَّها (تأنسنت) منذ تجسّدت في التأريخ واللغة وتوجّهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تأريخيّ محدّد، إنَّها محكومة بجدليّة الثابت والمتغيّر، فالنصوص ثابتة في المنطوق متحرّكة متغيّرة في المفهوم[3]».   

ونفهم من النصوص المتقدّمة لأبي زيد أنّه يجعل الحاكميّة والنصّ منطلقين لمشروعه النقديّ التأويليّ، مع ملاحظة تركيزه على البعد التأريخيّ والثقافيّ لهذه النصوص.

وممّا يجب التنبيه عليه أنَّ تأكيد نصر حامد أبو زيد على تأريخيّة الخطاب الدينيّ وأنَّ النّصّ القرآنيّ نصّ لغويّ ومنتج ثقافيّ يلزم منه التحرّر من سلطة النصوص حتى تتحقّق -بنظره- عمليّة حريّة العقل والتجديد والإصلاح في فهم النّصوص وأوّلها النّصّ القرآنيّ، فهو يصبح حينئذٍ كأي نصّ يخضع للمناقشة والتحليل والتأويل.

ثانيًا: تأويل النّصّ القرآنيّ عند نصر حامد أبو زيد

يذكر أبو زيد بأنّه يزاوج بين المناهج التقليديّة في التراث الإسلاميّ في فهم النّصّ القرآنيّ من خلال علوم اللغة والبلاغة وبين المناهج المعاصرة في تحليل النصوص[4]،

(83)

فهو لم يقطع صلته بالتأويلات السابقة له، بل إنَّ قراءته التأويليّة لها جذور في التراث الإسلاميّ، وفي الوقت نفسه أفاد من التقدّم الحاصل في الغرب فيما يتعلّق بالمناهج، وهو بذلك يعيد قراءة النّصّ القرآنيّ بناءً على مرجعيّاته الفكريّة ورؤيته النقديّة.

إنَّ منهجيّة أبو زيد الإجرائيّة لتحقيق فهم حداثيّ للنصّ القرآنيّ تستند على المناهج الحديثة «كاللسانيّات، والسيمولوجيا، وتـحليل الخطاب، وأهم مقاربة عوّل عليها أبو زيد هي الـمقاربة التأويليّة[1]»، فهو ينطلق في دراسته للنصّ الدّينيّ من التحليل اللغويّ المعتمد في الهرمنيوطيقا ويعدّه الـمنهج الوحيد فـي إنتـاج الفهم[2]، إذ يسعى إلى تأويل التراث الدينيّ من خلال بيان علاقة الـمـفسّر بالنصّ.

وسيتكفّل هذا القسم ببيان مفهوم الهرمنيوطيقا الغربيّة، وأسسها التحليليّة، وكيف استفاد منها أبو زيد في فهم النّصّ القرآنيّ. 

1. الإطار التأريخيّ للهرمنيوطيقا الغربيّة (مفهومها - نشأتها)

يرجع مفهوم الهرمنيوطيقا إلى الأصل اليونانيّ (hermeneutique) ويعني: التفسير، أي: تفسير نصوص فلسفيّة ودينيّة وبنحو خاص شرح الكتاب المقدّس[3]، وفي الاصطلاح تعني «المدرسة الفلسفيّة التي تشير لتطوّر دراسات نظريّات تفسير ودراسة وفهم النّصوص في الدراسات الدينيّة[4]»، وتستهدف الهرمنيوطيقا بيان علاقة المفسّر بالنصّ، إذ كانت النظريّات السابقة لها إمّا تبيّن علاقة المؤلِّف بالنص، أو تبيّن علاقة المؤلِّف ببيئة النصّ، أو تركّز على النّصّ فقط، وبقيت العلاقة بين المفسّر وبين النّصّ مفقودة إلى حين ظهور الهرمنيوطيقا (التأويليّة[5]).   

(84)

تمتد جذور هذا المصطلح إلى عام 1654م، إذ ظهر في الدراسات اللاهوتيّة ليشير إلى مجموعة قواعد ومعايير لفهم النّصّ الدينيّ في الغرب، ثم اتّسع هذا المفهوم لينتقل إلى العلوم الإنسانيّة كافّة.

ويمكن أن نوجز -باختصار شديد- التسلسل التأريخيّ للهرمنيوطيقا التأويليّة عبر النقاط التالية:

1. بدأت عند شلايرماخر (1843م)، وانتقلت من خلاله التأويليّة من الدرس اللاهوتي إلى التقعيد والمنهجيّة ووضع معايير لعمليّة تفسير النصوص.

2. جاء ديلثي (1911م) ليكمل ما بدأه شلايرماخر وأضاف مفهوم التجربة الإنسانية في الحياة لتقوم التأويليّة على معنى أوسع من النصّ.

3. ذهب هايدغر (1976م) إلى استنطاق النّصّ خارج مراد المتكلّم.

4. قدّم غادامير قراءة نفسيّة لا تعتمد على المنهج.

5. بول ريكور استقلاليّة المتلقّي بمعنى النصّ.

2. أهمّ أسس الهرمنيوطيقا الغربيّة[1]

أ. النصّ المفتوح ولا نهائيّة المعنى، أي انفتاح الدلالة للنصّ، وتقبّله لمختلف التأويلات[2].

ب. عدم وجود قراءة بريئة للنصّ، فالنصّ لا يرتبط بفهم واحد ولا بقراءة واحدة، وكل قراءة محتملة ولا توجد قراءة تامّة[3]

ت. موت المؤلّف[4].

(85)

ث. إلغاء مقصد النّصّ ودلالته وانتقالها إلى القارئ[1]، وإنّ نسبة النّصّ إلى مؤلفه معناها: إيقاف النّصّ وحصره وإعطائه مدلولًا نهائيًّا[2]

3. مفهوم الهرمنيوطيقا عند نصر حامد أبو زيد

يعرّف نصر حامد أبو زيد التأويل بقوله: «التأويل هو الذي يمثّل الوجه الآخر للنصّ في فهمنا المعاصر[3]»، وهذا التعريف مشابه لتعريف الغربيين للهرمنيوطيقا.

وينبغي الالتفات إلى أنّ مفهوم التأويل عنده انتقل من معنى إلى آخر، يقول في ذلك عن نفسه: «لقد بدأ الباحث دراسته الأولى من خلال المفهوم الشائع في فكرنا الدينيّ والفلسفي المعاصر، والذي يرى التأويل جهدًا عقليًا ذاتيًا لإخضاع النّصّ الدينيّ لتصوّرات المفسّر ومفاهميمه وأفكاره، وهي نظرةٌ تغفل دور النّصّ وما يرتبط به من تراث تفسيريّ وتأثيره على فكر المفسّر[4]».

ثم ينتقل في موضع آخر إلى مفهوم يختلف عن المفهوم السابق بقوله: «إنّ العلاقة بين المفسّر والنصّ ليست علاقة إخضاع من جانب المفسّر وخضوع من جانب النصّ، والأحرى القول بأنّها علاقة جدليّة قائمة على التفاعل المتبادل[5]».

فهو في الأوّل يُخضع النّصّ للمفسّر، وفي الثاني تكون العلاقة جدليّة بينهما. 

أمّا أسس التأويل عند أبي زيد، فهي لا تبتعد عن أسس الهرمنيوطيقا الغربيّة؛ إذ يعتمد على ثلاث مبادئ لفهم النصوص الدينية وتأويلها، وهي: مبدأ العقلانيّة، ومبدأ الحريّة، ومبدأ العدل[6].

(86)
4. تطبيق الهرمنيوطيقا على النّصّ القرآنيّ

سعى أبو زيد إلى تطبيق المناهج المعاصرة في العلوم الإنسانيّة وفلسفات التأويل على النّصّ القرآنيّ، من جهة أنّه خطابٌ لغويٌّ يستجيب لآليّات التحليل التي طُبّقت على مختلف النصوص.

يرى أبو زيد أنّ الخطوة الأولى في فهم النّصّ القرآنيّ هي تحديد ماهيّة النصّ، ويصف النّصّ القرآنيّ بأنّه «نصّ لغويّ يمكن أن نصفه بأنّه يمثّل في تأريخ الثقافة العربيّة نصًّا محوريًّا[1]»، وأيضًا هو «في حقيقته وجوهره منتج ثقافي»[2].

فالنّصّ القرآنيّ بحسب النّصّ المتقدّم لأبي زيد، هو نصّ لغويّ وتأريخيّ ومنتج ثقافيّ، وأكّد على هذا الكلام مرة أخرى بقوله: «يستمد مرجعيّته من اللغة ... وإذا انتقلنا إلى الثقافة قلنا: إنّ هذا النّصّ منتج ثقافيّ[3]».

إنَّ أبا زيد جمع بين «دراسة النّصّ من الداخل بوصفه بنيةً لغويّةً قائمةً بذاتها، أو تجسُّدًا بنائيًّا يعيد بناء معطيات الواقع والثقافة العربيتين في نسق جديد، ودراسة من الخارج بوصفه منتجًا ثقافيًّا من نتاج الواقع بكلّ ما ينتظم هذا الواقع من أبنية اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة[4]».

ولفهم هذا النّصّ اللغويّ، ينطلق أبو زيد من مرجعيّة غربيّة طبّقت الدّراسات الأدبيّة واللغويّة على نصوصها الدينيّة، وهو يحاول استنساخ تلك التجربة على النّصّ القرآنيّ، والهدف من إعادة ربط الدراسات القرآنيّة بمجال الدراسات الأدبية النقديّة هو «تحقيق وعي علميّ، يتجاوز موقف التوجيه الإيديولوجيّ السائد في ثقافتنا وفكرنا[5]».

(87)

ويتمّ ذلك «بإعادة قراءة علوم القرآن قراءة جديدة تتجاوز اتّجاهات الفكر الرجعيّ السلفيّ عند القدماء، كالزركشيّ، والسيوطيّ، وعند المحدثين، وذلك بتبنّي منهجيّة لغويّة تأويليّة، تتخذ من المادة الجدليّة وبعض الاتّجاهات التأويليّة أساسها النظريّ[1]».

وبحسب تتبّع البـحث لدراسة أبي زيــد التأويليّة للنصّ القرآنيّ، فــإنّه لـم يلحظ فيه أثرًا استشراقيًا، بل نجده أخذ تأويليّته من فلاســفــة الغرب، أضف إلـى ذلك أنَّ أبا زيد ركّز في دراسته لـمفهوم النّــصّ على مباحث تأريخ القرآن وعلومه، وعند التطرّق إليها فـي الفصـل الثــالث سيتّضح الأثر الاستشراقيّ فيها من عدمه.

* المطلب الثّالث: فهم القرآن الكريم عند محمد عابد الجابريّ

مدخل

تقدّم الكلام في أنَّ المتتبّع للمشاريع الحداثيّة يجد أنّهم ظلّوا يطبّقون مختلف المناهج على النّصّ القرآنيّ دون البحث عند مدى صلاحيّتها، وبقيت جهودهم مشاريع لم تنتج تفسيرًا كاملًا للقرآن الكريم وفق المناهج المعاصرة.

وأكثر من دعا لإخضاع النّصّ القرآنيّ للمناهج الحديثة هما: محمد أركون - ونصر حامد أبو زيد، سواء على مستوى الـمناهج والآليّات أو على مستوى الـجانب التطبيقي، أمّا بقيّة الحداثيّين فإنَّ أغلبهم لـم يخصّص جهدًا كبيرًا للبحث عن ذلك كمحمد عابد الجابريّ، وطيّب تيزيني، وهشام جعيط، وعبد المجيد الشرفيّ، وغيرهم. وفي هذا المطلب نتعرّض إلى محمد عابد الجابري من خلال التعريف به وبمشروعه وبمنهجيّته في فهم النصّ القرآني.

أوّلًا: التّعريف بالجابريّ

ولد عام 1936م في مدينة فجيج في جنوب شرق المغرب، تدرّج في الدراسة

(88)

إلى أن حصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة عام 1967م، ثمّ حصل على الدكتوراه في الفلسفة عام 1970م من كليّة الآداب بالرباط، ويعدّ من أساتذة الفلسفة والفكر العربيّ في المغرب، وتوفّي عام 2010م، ويعدّ كتاب (حفريّات في الذاكرة من بعيد) كتاب سيرة، ذكر فيه الجابري محطات حياته المتعدّدة[1].

ثانيًا: مشروع الجابريّ في فهم النّصّ القرآنيّ

قدّم الجابري مشروعه بعنوان (نقد العقل العربيّ)، وهذا المشروع يتألّف من رباعيّته المشهورة، وهي:

أوّلها: (تكوين العقل العربيّ)، ثانيها: (بنية العقل العربيّ)، ثالثها: (العقل السياسيّ العربيّ)، رابعها: (العقل الأخلاقيّ العربيّ).

وبعد أن انتهى الجابريّ من بحثه في التراث من خلال رباعيّة نقد العقل العربيّ، حوّل السؤال عن القرآن، على اعتبار أن القرآن لا يعدّ من التراث.

أصدر في سنة (2006م) كتاب (مدخل إلى القرآن)، ثم تلا ذلك أجزاء ثلاثة بعنوان: (فهم القرآن الحكيم التفسير الواضح حسب ترتيب النزول).

ويمكن أن نشير إلـى نقطة انمازَ بها الجابريّ عن غيره في مشروعه النقديّ، وهي مـحاولته توظيف ما يمكن استثماره من نظريات الـمـاضي فـي الحداثة الـمعاصرة كنظريات ابن رشد، وهذه النقطة محل إشكال عند بعض الحداثيّين؛ كون فكرة التوظيف للماضي تخالف روح الحداثة، وعلى الرغم من معارضة بعض الـحداثيين لـها إلا أنّها جعلت من الجابري أكثر الـمنظّرين الـحداثيّين تأثيرًا علـى الـمتنوّريين الإسلاميّين[2].

فهو «لا يدعو إلى قطيعة مع التراث بالمعنى اللغوي الشائع، إنّما يريد أن يتخلّى ويقطع مع الفهم التراثيّ للتراث[3]».

(89)

ثالثاً: منهجية الجابري في فهم النص القرآني

تقوم منهجيّة الجابري في مشروعه النقديّ بجميع مراحله على المزاوجة بين مستويات ثلاثة[1]:

المستوى الأول: المعالجة البنيويّة: والتي تنادي بفكرة موت مؤلف النّصّ بشكلٍ عام، «والقاعدة الذهبية في المعالجة البنيويّة تكمن في الابتعاد عن قراءة المعنى قبل القيام بقراءة الألفاظ، إن ذلك من شأنه أن يسهم في التحرر من الفهم المؤسس على المسبقات التراثيّة... وفي هذا المنهج وسيلة لاستنتاج معنى النّصّ من النّصّ نفسه[2]».

المستوى الثاني: التحليل التأريخيّ: وتقوم على فكرة ربط فكر المؤلف وصاحب النّصّ بإطاره التأريخيّ، من أجل فهم تأريخيّة الفكر وفهم تكوينه، ومن أجل اختبار صحة المعالجة البنيويّة التي سبقت التحليل التأريخيّ[3].

المستوى الثالث: الطرح الأيديولوجيّ: يرى الجابريّ أنَّ التحليل التأريخيّ يبقى صوريًا في حال لم يُستكمل بالطرح الأيديولوجي، أي: الكشف عن الوظيفة الأيديولوجيّة (الاجتماعية - السياسية) التي أدّاها الفكر المعنيّ الذي ينتمي إليه، إنَّ الكشف عن المضمون الأيديولوجيّ لفكر ما هو الوسيلة الوحيدة لجعله فعلًا معاصرًا لنفسه، مرتبطًا بعالمه[4].

قام الجابريّ بتوظيف جميع هذه المستويات في تعاطيه مع القرآن الكريم بوصفه نصًّا يشكّل قاعدة وأرضيّة للتراث، وانتقل الجابري من الفلسفة إلى الاشتغال بالقرآن الكريم، وما يرتبط به من مفاهيم وعلوم.

(90)

ميّز الجابري بين مستويين هما: النّصّ القرآنيّ كما هو موجود ومجموع في المصحف، والقرآن كما نزل مفرّقًا بحسب ترتيب أسباب النزول، فإذا وجدناه ينتمي للتأريخيّ أرجعناه لأسباب النزول، وإن كان لكلّ القرآن عرضناه عليه[1].

إنَّ منهجيّة الجابريّ في فهم القرآن الكريم حسب ترتيب النزول سبقها إليه المستشرق الألمانيّ نولدكه وذلك في كتابه تأريخ القرآن.

* المطلب الرابع: فهم القرآن الكريم عند طيّب تيزينيّ

أوّلًا: التعريف بالطيّب تيزيني

فيلسوف وباحث سوريّ، ولد في مدينة حمص عام 1934م، وغادر إلى تركيا ثمّ بريطانيا ثمّ ألمانيا وحصل فيها على شهادة الدكتوراه في الفلسفة عام 1967م[2].

ثانيًا: مشروع تيزينيّ ومنهجه في فهم النّصّ القرآنيّ

برز مشروع الطيّب تيزيني في فهم النّصّ القرآنيّ من خلال كتابه (النصّ القرآنيّ أمام إشكاليّة البنية والقراءة)، وقام بتوظيف مجموعة من الأدوات والآليّات المنهجيّة لإعادة قراءة النّصّ القرآنيّ وفق منظور حداثيّ، ومن أهمّ تلك المناهج:

 (المنهج التأريخيّ): إذ يعتمد تيزينيّ في مشروعه على «الوضعيّة الاجتماعيّة المشخّصة المرافقة لنزول تفسير المفردات دون النظر إلى سياق الكلام وذلك بإعادة تفسير الكليّات الدينيّة (الدين، الإسلام، الرسول، النبي) بتفسير لغويّ جديد يحيل إلى معانٍ جديدة، ثم توليد معاني جديدة من هذه الكليّات لتفسير فرعيّات الدين[3]»، ويرتكز في هذا المنهج على مجموعة أسس منها: الأنسنة، والماركسيّة[4].

(91)

لقد دعا طيّب تيزينيّ إلى إعادة قراءة النّصّ القرآنيّ وتأويله وفق التطوّرات والمستجدّات الحاصلة، وإن اقتضى الأمر تعطيل بعض الآيات والأحكام ويقول في ذلك:

«قد جرى تعليق مجموعةٍ من الأحكام والقواعد القرآنيّة على مدى قرونٍ طويلة، كانت بداياته الأولى (أي: التعليق) قد تمثّلت بصيغة (الناسخ والمنسوخ)، حين تبيّن لـمُحمّد الرسول أنَّ آياتٍ معيّنةً أصبحت دون إمكانية الاستجابة لواقع الـحال الـمشخّص الـمعني فـي حينه، وقد اكتسب هذا الأمر طابعًا قرآنـيًّا، أي مقـرًا به حكمًا، والسؤال الآن يفصح عن نفسه علـى النحو التالـي: إذا كان النبي نفسه قد ارتأى -عبر الوحي- ضرورة إعادة النظر في آيات معيّنة، فلِمَ لا يصحّ ذلك على أيدي الناس المؤمنين الخاضعين للتّغير الاجتماعي مدًّا وجزرًا، وكذلك -وهنا الدلالة البليغة- التي جاء النّصّ من أجلها (للنّاس كافّة)؟

 لقد أُوقف زواج الـمتعة، وحكم الـمؤلّفة قلوبهم، والرقّ، مــمَّا عنى –ويعني- أنَّ الوضعيّة الاجتمـاعية الـمشخّصة هي التي تـمثل الأمر الذي يُـحتـكم إليه في ذلك، وإن تمّ على نحوٍ خفيّ أو على سبيل الـمداورة[1]».

وفي موضع آخر، شكّك تيزيني في إعجاز القرآن مكرّرًا أقوال المستشرقين، يقول تيزيني: «نشكّك بترجيح حاسم في التصوّر الذي نشأ في سياق بروز الفكر الإسلاميّ وتبلوره لاحقًا بعد محمد، والذي يرى الإعجاز يكمن في أحد أوجهه الكبرى في أن محمدًا لم يكتب ولم يقرأ، أي: في أنّه كان أميًّا[2]».

هذا كلام تيزيني، وهو مشابهٌ لكلام المستشرق مونتغمري وات (1909- 2006م)، يقول وات: «إنّ الإسلام التقليديّ يقول بأنّ محمدًا لم يكن يقرأ ولا يكتب، ولكن هذا الزّعم ممّا يرتاب فيه الباحث الغربيّ الحديث؛ لأنّه قد يقال لتأكيد الاعتقاد بأن إخراجه للقرآن كان معجزًا، وبالعكس لقد كان كثيرٌ من المكيّين

(92)

يقرؤون ويكتبون، ولذلك يفترض أن تاجرًا ناجحًا كمحمد لا بدّ أن يكون قد عرف شيئًا من هذه الفنون[1]».   

إنَّ هدف طيّب تيزيني ممّا تقدّم وغيره هو إثبات تأريخيّة القرآن، وسيتبيّن الكلام أكثر حول تطبيقاته في الفصل الثالث إن شاء الله، والمتعلّق بالأثر الاستشراقيّ في فهم الحداثيّين لمباحث تأريخ القرآن وعلومه ومنهم طيّب تيزينيّ.

(93)
(94)

 

 

 

المبحث الثاني

نقد الأسس المعتمدة لدى الحداثيّين في فهم القرآن الكريم

 

 

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: أرخنة القرآن الكريم

المطلب الثاني: أنسنة القرآن الكريم

المطلب الثالث: عقلنة القرآن الكريم

 

(95)

تمهيد

تبيّن في المبحث السابق فهم الحداثيّين للقرآن الكريم، وسنكمل البحث في الجانب النظريّ في هذا المبحث من خلال استخلاص الأسس الحداثيّة لفهم النّصّ القرآنيّ؛ إذ لا يمكن الحديث عن تلقّي القرآن الكريم وفهمه من المعاصرين دون بيان الأسس الحداثيّة للفهم؛ وذلك لأنَّ مفهوم الحداثة يؤسّس لأغلب القراءات المعاصرة للنصّ القرآنيّ.

إنَّ توظيف الحداثيّين لتلك المناهج الغربيّة المستعملة في دراسة النّصّ الدينيّ كوّن عندهم رؤيةً تابعةً لتلك المناهج، وهذه الرؤية بعيدة عن الرؤية الإسلاميّة، بل هي امتداد للمركزيّة الغربيّة.

إنَّ رؤية الحداثيّين تقوم على مجموعةٍ من الأسس، سعى الحداثيُّون لتثبيتها قبل الدخول في عملية فهم النّصّ القرآنيّ، أوّل تلك الأسس: أرخنة النّصّ القرآنيّ، وثانيها: أنسنة النّصّ القرآنيّ، وثالثها: عقلنة النّصّ القرآنيّ[1]، وسيتكفّل هذا المبحث ببيانها عبر المطالب الآتية:

* المطلب الأوّل: أرخنة القرآن الكريم

تمهيد

شكّلت التأريخيّة المقولة الأساسيّة للفكر الغربيّ في إقصاء الموروث الدينيّ واستبداله بمعرفة جديدة، ومرّت التأريخيّة عند الغرب بمراحل تطوّر امتدّت إلى قرون، وطوال تلك القرون تشكّلت آليّاتها المنهجيّة وتأسيساتها المعرفيّة الفلسفيّة وصولًا لمرحلة الفلسفة الحديثة[2]، ومن خلال تتبّع تلك المراحل نجد أنَّ المفهوم

(96)

الحداثيّ للتأريخيّة الغربيّة انتهى إلى نتيجتين، الأولى: نفي وجود الحقيقة المتعالية والمطلقة، والثانية: القطيعة المعرفيّة مع تراث الماضي، فالتأريخيّة عند الغرب شرط الحداثة، والحداثة نتاج التأريخيّة[1]، وجرى تداول هذا المفهوم في الغرب بشكل واسع، ثم انتقل هذا المفهوم إلى الفكر العربيّ والإسلاميّ عن طريق القراءة الحداثيّة المعاصرة.

قام الحداثيون العرب والمسلمين بتطبيق التأريخيّة الغربيّة على التراث الإسلاميّ من أجل إعادة النظر في هذا المفهوم الغربيّ للتأريخيّة، وهذا ما أكّد عليها محمّد أركون[2]. وهذه القطيعة المعرفيّة يعبّر عنها الفكر الحداثيّ برفض سلطة النّصّ[3].

«وبعد أن قضى المفهوم الحداثيّ للتأريخيّة على مبدأ الحقيقة المطلقة والمتعالية، أصبحت مهمّة المنهجيّة التأريخيّة هي تأسيس منهج في النظر والتأويل والتساؤل المفتوح المتشعّب المستمرّ وحسب. فليس همّها بناء الحقائق أو الكشف عنها، بل رصد الإشكالات وصياغتها[4]».

إنَّ الأساس الأوّل الذي سعى الحداثيّون لتأسيسه هو إثبات التأريخيّة؛ لأنَّ إثباتها يؤدّي إلى النسبيّة ونفي الحقيقة المطلقة، ومن ثمَّ يمكنهم البدء بالقراءة النقديّة للتراث، وبما أنَّ مركز التراث الإسلاميّ هو القرآن الكريم، فكان أوّل ما اشتغل الحداثيّون على إثبات تأريخيّته هو النّصّ القرآنيّ، ولعلَّ الفكر الحداثيّ ينظر إلى التأريخيّة على أنَّها الأساس الأقوى الذي يستندون عليه في القول بضرورة فهم القرآن الكريم فهمًا حداثيًّا معاصرًا.

أوّلًا: حقيقة التأريخيّة

إنَّ مصطلحات (التأريخيّة، الأرخنة، التاريخانيّة، النزعة التأريخيّة) تعود بنا إلى مصطلح التأريخ، وهو يعبّر عن رؤيةٍ فلسفيّةٍ ويتجاوز المعنى الشائع، وهذه

(97)

المفردة التي تحمل هذه الدلالة تعود إلى أصل غير عربيّ، فهي ترجمة لمصطلح (Historicism).

عندما يوصف الشيء بأنَّه تأريخيّ، «فإنَّ ذلك يعني أنَّ ذلك الشيء له وجود حقيقي، أي أنَّه وجد فعلًا وجودًا تأريخيًا يتحدّد بالزمان والمكان، وليس مجرّد وجود افتراضيّ أو أسطوريّ، والتأريخيّة هنا هي إحدى المقولات التي ارتبطت بالتقدّم باعتبارها وصفًا للحضارة الماديّة[1]».

«فالتأريخ والتأريخيّة هي من العناوين والصفات التي إذا أضيفت إلى شيء آخر، فإنَّها كناية عن زمانيّة ذلك الشيء وعرضيّته، من حيث إنَّه وليد ظروف وأوضاع معيّنة، وأثره وفاعليّته تكون ضمن تلك الظروف. أمّا في غير تلك الظروف والأوضاع والأزمان الأخرى، فإمّا أن لا يكون له أثر وفاعليّة البتّة، وإما أنْ يفتقد فاعليّته في زمانه وتتحوّل ماهيته إلى ماهيّة أخرى مختلفة[2]».

ومن هذا الكلام المتقدّم، نفهم مراد القائلين بالتأريخيّة بأنَّ القرآن الكريم نتج لظروف معيّنة، ولذا فإنَّ الدين أو بعض تعاليمه ذات زمن محدّد.

ومنه يتّضح سبب تأكيد الحداثيّين على ضرورة توظيف التأريخيّة في فهم النصّ القرآنيّ؛ إذ أكّدَّ هشام جعيط على مركزيّة التأريخيّة بقوله: «إنَّ أهمّ شيء أتى به العلم الحديث بخصوص القرآن هو تورخته، إنَّ هذه التورخة تُعِين كثيرًا على فهم تطوّر المعاني التي أتت بها الدعوة المحمّدية[3]».

ويقول الحداثيّ الإيرانيّ شبستريّ إنَّ عمليّة فهم النصوص الدينيّة يجب أن تفهم وفق السياق التأريخيّ، «وأساس ذلك لأنّ الإنسان موجود تأريخيّ، وإذا كان الإنسان موجودًا تأريخيًّا فكلّ معارفه تأريخيّة، ومعنى قولنا: إنّه موجود

(98)

تأريخيّ: أنَّ الإنسان يتحقّق بوجود الماضي، ويتّخذ الحاضر معناه عبر وجود الماضي والمستقبل، فتكون معرفته تأريخيّة[1]».

ويضيف: «معنى تأريخيّة مفهوم النصّ هو أنَّ كل قول أو كتابة تظهر في ظروف تأريخيّة معيّنة... فإنَّ إفادته للمعنى مشروطة بتلك الظروف وذلك العالم... فلو أنَّ تلك الظروف والعالم التأريخيّ قد تغيّر، فإنَّ ذلك المعنى يتغيّر ولا يكون ثابتًا، وإنَّ ذلك القول أو النصّ المكتوب سيكون له معنى آخر[2]».

ويبيّن مترجم كتب أركون (هاشم صالح) مفهوم التأريخيّة بقوله: «نقصد بالأرخنة هنا الكشف عن تأريخيّة الخطاب القرآنيّ عن طريق ربطه بالبيئة الجغرافيّة والطبيعيّة والبشريّة لقبائل شبه الجزيرة العربية...  والبحث التأريخيّ يثبت أنَّ القرآن مرتبط بظروف عصره وبيئته، فألفاظه ومرجعيّاته الجغرافيّة والتأريخيّة تدلّ على ذلك[3]».

ويتبيّن ممّا تقدّم من كلّام الحداثيّين حول تأريخيّة النّصّ القرآنيّ، أنّهم لا يحاولون تطبيق التأريخيّة على التفاسير البشريّة التي مورست على النّصّ القرآنيّ، بل على النّصّ القرآنيّ نفسه، والبحث في كيفيّة تشكّله.

إنَّ أوّل من تحدّث من الحداثيّين عن تأريخيّة القرآن بشكلّ واضح هو محمد أركون، إذ قال: «أريد لقراءتي هذه أن تطرح مشكلة لم تطرح عمليًّا قط بهذا الشكلّ من قبل الفكر الإسلاميّ ألا وهي تأريخيّة القرآن، وتأريخيّة ارتباطه بلحظة زمنيّة وتأريخيّة معيّنة، حيث كان العقل يمارس آليّته وعمله بطريقة محدّدة[4]».

ويضيف أركون «وهذه الأرخنة سوف تكون نقطة الانطلاق لإعادة تحديد المكانة اللغويّة، والدلاليّة، والانثروبولوجيّة واحتمالًا اللاهوتيّة للوحي[5]».

(99)

وتعدّدت المداخل إلى القول بتأريخيّة النّصّ القرآنيّ بين الحداثيّين، فأركون تعلّق بمباحث علوم القرآن لإثبات التأريخيّة، كالقول بالنّسخ، وأسباب النزول، والقراءات[1].

في كلام محمد أركون عن التأريخيّة نلمس إعجابًا وتأثّرًا بعمل المستشرقة جاكلين شابي، فكتابها بنظره «يقدّم المثل العمليّ المحسوس على إمكانيّة تحقيق طفرة نوعيّة، ابستمائيّة وإبستمولوجيّة، في الكتابة التأريخيّة عن القرآن[2]».

ويؤكّد هذا الإعجاب في مؤلّف آخر بقوله: «وسوف أغتنم فرصة صدور كتاب زميلتي جاكلين شابي لكي أقوم بهذا العمل، فقد أصدرت في العام الماضي كتابًا بعنوان: ربّ القبائل إسلام محمد[3]... وحاولت أن تقرأ بطريقةٍ تأريخيّةٍ محضة وصارمة ما كانت دعته بالقرآن المكّيّ...  إنَّ تطبيق التأريخيّة المحضة على الكلام الذي أصبح نصًّا مقدّسًا ومؤسّسًا لأمّة واسعة من المؤمنين أقصد أمة المسلمين، يمثّل تحدّيًا معرفيًّا[4]».

ثم يضيف: «إنَّ المثقّفين المغاربة المعروفين بانفتاحهم على النقد التأريخيّ الحديث لم يستخلصوا بعد كلّ النتائج والدروس الناتجة عن المكتسبات الإيجابيّة لهذه الأبحاث الاستشراقيّة الكبرى[5]»، فهو يدعو إلى الاستفادة من منجزات المستشرقة شابي والتي تعتقد بأرخنة النّصّ القرآنيّ، أي ارتباطه بالقرن السابع الميلاديّ، وبيئة شبه الجزيرة العربيّة[6].

ثم يستمر أركون في مدح المستشرقين، وبيان دورهم في تفسير القرآن في ضوء

(100)

المناهج الحديثة، وبخاصّة التأريخيّة، يقول: «ولكننا نعلم أنّ القرآن كنصّ يظلّ مستغلقًا وغير مفهوم حتى بالنسبة للمؤرّخين أو المثقّفين الأكثر تخصّصًا وتبحّرًا في العلم فما بالك بجمهور المؤمنين!... ولا أحد يفكّر في شرحه أو تفسيره في ضوء المناهج الحديثة من أجل تقريبه من الأذهان والعقول، ولكن ها هو الإنقاذ يجيء مرّة أخرى من الغرب لا من الشرق، من البيئات الأكاديميّة الاستشراقيّة، لا من البيئات الأكاديميّة العربيّة أو الإسلاميّة، لقد جاءت هذه المبادرة العلميّة التي طال انتظارها من جامعة تورنتو في كندا وهكذا ابتدأ مشروع انسكلوبيديا القرآن أو الموسوعة القرآنيّة[1]».

إنَّ هذا المشروع الذي أشاد به أركون يهدف لدراسة تأريخيّة لكلّ كلمة من كلمات القرآن، ومعرفة جذور كلّ كلمة وعلاقتها بالزمان والمكان، وهو «سيلقي أضواء تأريخيّة رائعة على النّصّ القرآنيّ[2]».

أمّا نصر حامد أبو زيد، فتبتني رؤيته على أنَّ التصوّر التقليديّ يفصل النصّ القرآنيّ عن طبيعته بوصفه نصّاً لغويًا ونتاجًا ثقافيًا وتاريخيًا، ويُحوِّله إلى أمر مقدَّس وروحانيّ[3]، وتجاهل البعد التأريخيّ واللغويّ للنصّ القرآنيّ يؤدّي -بحسب زعمه- إلى عدم الفهم العلميّ لدلالات هذا النصّ، ومن ثمَّ فهو يقدّم رؤية عصريّة لفهم مضمون القرآن تنسجم مع طبيعة لغة عصر القارئ وثقافته وهذا يتمّ وفق البعد التاريخي، ومراده من البعد التاريخيّ هو تاريخيّة المفاهيم بمعنى أنَّ مضمون النصّ القرآنيّ ومفهومه هو تأريخيّ بسبب تأريخيّة اللغة المستعملة في الوحي، وهي ممتزجة بالواقع الخارجيّ والثقافيّ لعصر النزول[4].

إنَّ نقطة ارتكاز أبو زيد في استدلاله على تأريخيّة النّصّ القرآنيّ هو اللغة ونظامها الدلاليّ من جهة، وعلاقتها بالثقافة من جهة أخرى، يقول: «إذا كانت

(101)

النّصوص الدينيّة نصوصاً بشريّة بحكم انتمائها للغة والثقافة في فترة تأريخيّة محدّدة، هي فترة تشكّلها وإنتاجها، فهي بالضرورة نصوص تأريخيّة بمعنى أنَّ دلالتها لا تنفك عن النظام اللغويّ الثقافيّ الذي تُعدّ جزءًا منه، من هذه الزاوية تمثّل اللغة ومحيطها الثقافيّ مرجع التفسير والتأويل[1]».

ويمكن تلخيص رأي أبي زيد بـ«أنَّه يرى أنَّ القرآن (نتاجٌ ثقافيّ)، وعلى هذا الأساس يكون (مفهوم القرآن) مفهومًا تأريخيًّا، وعليه يجب تفسيره انطلاقًا من هذه الحقيقة. إنّ الدلالات اللغويّة الموجودة في القرآن لها قابليّة الانضواء تحت دائرة (التأويل الخلاّق)، الأمر الذي يتيح للمفسِّر إمكان أن يُعيد صياغتها طبقًا للواقعيات الاجتماعيّة واللغويّة لعصره[2]».

يسعى أبو زيد في توظيفه للتأريخيّة إلى الحصول على نتائج تختلف عن النتائج التي يقدّمها ما يسمّيه بـ (الخطاب الديني)، وهذه النتائج يمكن عدّها أهدافًا لتأريخيّة القرآن، وأهمّ تلك النتائج: ضرورة التفكيك بين المعنى والمغزى، تغيّر دلالة النصّ وعدم ثبات معنى النصوص.

يقول في هذا الصدد: «ليس معنى القول بتأريخيّة الدلالة تثبيت المعنى الدينيّ عند مرحلة تشكّل النصوص، ذلك أنَّ اللغة -الإطار المرجعيّ للتفسير والتأويل- ليست ساكنة ثابتة، بل تتحرّك وتتطوّر مع الثقافة والواقع[3]».

إنَّ بداية عمل الحداثيّين لإثبات تأريخيّة القرآن الكريم يبدأ من البحث في «كيفيّة تشكّله لأوّل مرة، وضمن أي ظروف، وما علاقته بالظروف التأريخيّة التي ظهر فيها[4]»، وهو ما بحثه نصر حامد أبو زيد، وانتهى إلى أنَّ النّصّ القرآنيّ منتج ثقافيّ[5].

(102)

الهدف والغاية: «وإنّ الغاية من تأويل القرآن يجب أن تقوم على فهم (المغزى)، دون (المعنى) المتعلِّق بعصر النزول. يترتَّب على هذه النظريّة أنْ تكون هناك في القرآن أجزاء لا يمكن تطبيقها على الواقع الثقافيّ واللغويّ المعاصر، ويجب اعتبارها مجرَّد (شواهد تاريخيّة)».

ثانيًا: مآلات القول بالتأريخيّة

إنَّ القول بتأريخيّة القرآن الكريم تترتّب عليه مجموعة لوازم باطلة، أهمّها:

1. من أبرز النتائج المترتبة على القول بالتأريخيّة هي القول بأنَّ الأحكام التي نزل بها القرآن الكريم قابلة للخطأ، وهذا يعني عدم قطعيّة الأحكام التي جاء بها، ومن ثمّ يفقد النصّ القرآنيّ مرجعيّته في فهم الحقائق، وهذا بدوره يقود إلى القول بعدم قدسيّة النصّ القرآنيّ، ممّا ينزّل هذه النصوص الإلهيّة إلى شواهد تأريخيّة.

2. إنَّ القول بالتأريخيّة ممكن أن يؤدّي إلى نفي الفهم الصحيح للنصّ القرآنيّ؛ لأنَّ كلّ نصّ متأثر ببيئته، ولا يمكن فهم ذلك النصّ إلّا من قبل من عاش في تلك الفترة التأريخيّة.

3. بناءً على القول بالتأريخيّة، فإنَّ كلّ الحقائق التي جاء بها القرآن الكريم تبقى رهينة البيئة التي نزل بها ولا يمكن تعميمها إلى البيئات الأخرى، ومن ثمّ فالقول بالتأريخيّة يعني نقض مسلّمة صلاحية القرآن الكريم لكل زمان ومكان.

ثالثًا: نقد التأريخيّة

بعد أن تقدّم الكلام فيما سبق عن التأريخيّة بعدّها أساسًا يستند عليها الحداثيّون في فهمهم للقرآن الكريم وجب تقييم هذه النظريّة والإشارة إلى أبرز الملاحظات عليها، وهي كالآتي:

1. نقد الأسس المعرفيّة للتأريخيّة

يرتكز الحداثيّون على مجموعة أسس ومبانٍ معرفيّة يحاولون من خلالها إثبات تأريخيّة القرآن الكريم، وهي:

(103)

أ. الأساس العقائديّ: إذ تبنّى نصر حامد أبو زيد نظريّة (حدوث القرآن) التي قال بها المعتزلة، ويعبّر نصر حامد أبو زيد بهذا الصدد بقوله بأنَّه إذا كان الكلام الإلهيّ فعلًا من أفعال الله تعالى، فإنَّه يعدّ ظاهرة تأريخيّة، لأنَّ كلَّ الأفعال الإلهيّة أفعال تقع في العالم وفي الظروف الزمانيّة والمكانيّة، فهي مخلوقة محدثة تأريخيّة، والقرآن كذلك ظاهرة تأريخيّة من حيث إنَّه واحد من تجلّيات الكلام الإلهيّ[1].

ويجاب عنه: إنَّ مسألة حدوث القرآن وقدمه من المسائل الخلافيّة بين المسلمين، فقالت الأشاعرة بقدم القرآن، بمعنى أنَّ كلام الله هو إحدى صفاته الذاتيّة، بينما ذهب المعتزلة إلى القول بحدوث القرآن، أي: إنَّ التكلم من صفات الله الفعليّة، أمّا الإماميّة فقد كان أئمّة أهل البيت عليهم السلام يحذّرون أصحابهم من الخوض في هذه المسألة؛ لأنَّها تحوي على طابعٍ سياسيٍّ أكثر ممّا تحمل الجنبة العقائديّة، والرأي المعتزليّ هو الذي تبنّاه نصر حامد أبو زيد، واستند عليه كأساس معرفيّ للقول بتأريخيّة القرآن الكريم.

والحقيقة أنَّ هناك فرقًا بين بحث الحدوث والقِدم وبين بحث تأثّر القرآن بثقافة عصر النزول، وهذا البحث لم يتمّ التطرّق له في العصور السابقة، وكان المعتزلة يعدّون القرآن كلام الله وأنَّه في مأمن من تدخّل العناصر غير الإلهيّة، والقول بأنَّه حادث لا يلزم منه القول بما قاله نصر حامد أبو زيد[2].

ب. الأساس اللغويّ: وملخّص فكرة استناد الحداثيّين على هذا الأساس، هو قولهم إنَّ هناك علاقة وثيقة وتامّة بين اللغة والثقافة، فالنصّ القرآنيّ ما دام يستمدّ مرجعيّته من اللغة، فهو يستمدّ مرجعيّته من الثقافة، فهو منتج ثقافيّ[3].

ويجاب عنه: بأنَّ تفسير الوحي بأنَّه مجموعة نصوص عربيّة مستمدّة من ثقافة جزيرة العرب ينتج منه القول إنَّ الوحي نتاج ظرف تأريخيّ، لكن الوحي هو «حالة إلهيّة غيبيّة يدرك بها الإنسان المعارف الإلهيّة الدالّة على سعادته الحقيقيّة، فهذا

(104)

الإدراك والتلقّي من الغيب هو المسمّى في لسان القرآن بالوحي[1]».

كما أنَّ هذا القول بالعلاقة بين اللغة والثقافة يلزم منه الدور الباطل؛ إذ إنَّ إدراك اللغة يتوقّف على إدراك الثقافة السائدة في ذلك العصر الذي تكوّنت فيه اللغة، ومن جهة أخرى فإنّ إدراك الثقافة وفهمها متوقف على إدراك اللغة وفهمها[2].

ج. مباحث تأريخ القرآن وعلومه: أفاد بعض الحداثيّين من مباحث (أسباب النزول) و (النسخ) و (المكّيّ والمدنيّ) في القول بتأريخيّة النصّ القرآنيّ، فنوع الخطاب القرآنيّ في مكّة يختلف عن نوع الخطاب في المدينة وهذا يكشف عن تأريخيّته، كما أنَّ الكثير من السور لها ارتباط بأحداث ووقائع تأريخيّة أو نزلت لحاجة ضروريّة، وعلى هذا الأساس فهي تأريخيّة.

ويجاب عنه: بأنَّ الخصوصيات التي لاحظها العلماء للتمييز بين الآيات المكّيّة والمدنيّة ليست تامّة لكلِّ الآيات، بل هي خصوصيّات جزئيّة إذ نجد بعض الآيات المدنيّة فيها نوع من الشدّة على أنَّ الأغلب هو في الآيات المكيّة وغير ذلك.

2.  إنَّ الأساس الذي يستند عليه أبو زيد هو القول بأنَّ النصّ القرآنيّ نتاج ثقافيّ، أي: إنَّ القرآن الكريم متأثّر بالواقع التأريخيّ لعصر نزول الوحي.

ويردّ عليه: إنَّ أيّ نصّ ينظر بشكل أو بآخر إلى الواقع الثقافيّ والاجتماعي لعصره، وهذا الأمر موجود أيضًا في النصّ السماويّ، إذ إنَّه ناظر إلى أحداث عصر النزول ثقافيًّا واجتماعيًّا، «فالتعاطي مع الواقع المحيط بالنصّ إلى جانب الكثير من العناصر الأخرى لفهم النصّ بحثٌ، واعتبار الثقافة والواقع المحيط بوصفه المدخل الوحيد لفهم النصّ بحث آخر[3]» والثاني هو مراد أبي زيد، فبحسب زعمه إنَّ كلَّ نصّ إنَّما هو في الأساس انعكاس للعلاقات الثقافيّة والمعتقدات السائدة في المرحلة التأريخيّة لحدوث النصّ، وأنَّ النصّ لا يمكن أن يكون غير نتاج ثقافي لعصره، وهذا الرأي لم يُسجِّل عليه أيّ دليل،

(105)

وكذلك فأبو زيد لم يحدّد تأثير العناصر التأريخيّة والثقافيّة، بل اكتفى بانتقاء بعض الأمثلة من قبيل السحر والحسد[1]، كما أنَّه «لا يحدّد معيارًا أسلوبيًّا لتعيين حجم التأثير والتأثّر بين النصّ والواقع[2]»، وأيضًا فهو (لم يذكر أيّة ضوابط ومعايير في رأيه هذا لبيان مدى تأثير العناصر التأريخيّة والثقافيّة بشكل منهجيّ، فعلى سبيل المثال تعامل مع الموضوع بانتقائيّة وبما في ذلك اعتباره بعض المفاهيم القرآنيّة مجرّد انعكاس للواقع الثقافيّ السائد في عصر نزول الوحي، لكنّه لم يذكر السبب في عدم انعكاس الكثير من المفاهيم الأخرى ومعتقدات عرب الجاهليّة في القرآن، حيث اكتفى بالإشارة إلى جانب منها مثل: الله، والرب، والعبادة، معتبرًا إياها من معتقدات المجتمع الذي نشأ النبيّ محمّد في كنفه)[3]

3. إنَّ القول بتأريخيّة الوحي يشتمل على محذور عقليّ، وهو (أنَّ لكلّ وجود في نشأة المادة مراتب وجوديّة أعلى وأسمى في عالم المثال والعقل والوجود الأسمائيّ، ويتمّ التعبير عنها بتطابق عالم الوجود. وطبقًا لهذا المبنى العقليّ هناك للقرآن بدوره مراتب ووجودات أسمى وأعلى يمكن تصوّرها، وهي التي تشكّل الحقائق المتعالية للقرآن النازل. وعلى كلّ فإنَّ الادّعاء القائل بأنَّ القرآن الكريم بأسره عبارة عن منتج للأحداث والوقائع الثقافيّة والاجتماعيّة لعصر النزول وليس له أيّ هويّة سابقة مخالف لصريح العقل)[4].

4. إنَّ هذه النظريّة تناقض نفسها بنفسها، فهي بحدّ ذاتها وليدة واقع معيّن لا يمكن أن تتعدّاه، ونشأت نتيجة لظروف زمانيّة ومكانيّة معيّنة[5]، فإذا كانت التأريخيّة تدّعي أنَّ كلّ المفاهيم غير ثابتة، فإنَّ مفهومها يبقى نسبيًّا أيضًا.

(106)

المطلب الثّاني: أنـسنة القرآن الكريم

أوّلًا: مفهوم الأنسنة

ظهر مصطلح الأنسنة بعد عصر النهضة الأوروبيّة، وكان هدف الغربيّين منها إعلان «قطيعة حاسمة مع كلّ نظرة لاهوتيّة قروسطية، صادرت كيان الإنسان باسم الإيمان، وتمثّل في الوقت نفسه تأسيسًا لفلسفة جديدة -لرؤية جديدة- تحلّ الإنسان محلّ المركز من الوجود بعد أن كان من الوجود على هامشه[1]»، وهذا ما سعى إليه الحداثيّون العرب من القول بأنسنة القرآن الكريم.

لقد تنوّعت آراء الحداثيّين في حقيقة هوية النصّ القرآنيّ إلى آراء ثلاثة[2]:

الرأي الأول: يقول ببشريّة النصّ وإلهيّة معناه، وأبرز من قال بذلك من الحداثيّين: نصر حامد أبوزيد، ومحمد أركون، وحسن حنفي، وعبد المجيد الشرفيّ، ومرادهم من بشريّة النصّ وإلهيّة معناه، أنَّ هناك معنى وصل إلى النبيّ الأكرم وهو قام بتبليغه بصياغته وألفاظه.

الرأي الثاني: بشريّة النصّ وإلهيّة معنى الأفعال الإلهيّة، وقال به شبستري، ومعنى كلامه أنَّه ليس هناك نصّ أو معنى إلهيّ يراد تبليغه بعينه، وإنَّما هي تجربة عاشها النبيّ، وفيها تأثير من الله ليكون النبيّ قادرًا على إبداع مثل هذه الآيات. 

الرأي الثالث: بشريّة النصّ وخيال المعنى واستشعاره، وهذه الرؤية تنفي عمليّة الوحي، وأبرز من قال بها عبد الكريم سروش وسيّد القمني.

هذه الآراء على اختلافها تصوّر لنا مفهوم أنسنة القرآن الكريم الذي أراده الحداثيّون، وهي تتفق على أنَّ النصّ بشريّ، إنَّ القرآن الكريم بحسب كلام نصر حامد أبو زيد:

(107)

«نصّ دينيّ ثابت من حيث منطوقه، لكنَّه من حيث يتعرّض له العقل الإنسانيّ ويصبح مفهومًا يفقد صفة الثبات، إنَّه يتحرّك وتتعدّد دلالته. إنَّ الثبات من صفات المطلق المقدّس، أمّا الإنسانيّ فهو نسبيّ متغيّر، والقرآن نصّ مقدّس من ناحية منطوقه، لكنه يصبح مفهومًا بالنسبيّ والمتغيّر، أي من جهة الإنسان ويتحوّل إلى نصّ إنسانيّ (يتأنسن)... النصّ من منذ لحظة نزوله الأولى -أي مع قراءة النبيّ له لحظة الوحي- تحوّل من كونه (نصًّا إلهيًّا) وصار فهمًا (نصًّا إنسانيًّا)، لأنّه تحوّل من التنزيل إلى التأويل. إنَّ فهم النبيّ للنصّ يمثّل أولى مراحل حركة النّصّ في تفاعله بالعقل البشريّ[1]».

فدافع أبو زيد للقول بالأنسنة- بحسب الكلام المتقدّم- هو لإمكان الحصول على فهم صحيح للنصّ القرآنيّ، وعدم القول ببشريّة النصّ القرآنيّ -بحسب زعمه- يؤدّي إلى عدم فهم دلالاته، وهذا يعدّ سببًا أساسيًّا للقول بالأنسنة.

ومن الأسباب الأخرى للقول بالأنسنة هو أنَّ عدم القول بها يمنع من تطبيق المناهج الحديثة على النصّ القرآنيّ، فالحداثيّون أرادوا إثبات أنَّ فهم النصّ القرآنيّ منذ لحظة نزوله يعدّ فهمًا إنسانيًّا غير مقدّس، ورفع عائق التقديس يمثّل الهدف الأوّل من تبنّي الحداثيّين للأنسنة كأساس للفهم.

وسلك الحداثيون مسالك عدّة لإثبات الأنسنة، منها[2]:

رفع عبارات التقديس والتعظيم ممّا يُشعر المتلقّي أنّه يتعامل مع نصّ بشريّ، ولا حضور للجانب الغيبيّ فيه.

وكذلك وضع عبارات ومصطلحات جديدة كـ (الخطاب النبويّ) بدل (الخطاب الإلهيّ)، ومصطلح (المدونة الكبرى) بدل (القرآن الكريم).

وكذلك القول بأنَّ النّصّ القرآنيّ مُشكَّل من معتقدات وثقافات أخرى كالتوراة،

(108)

والإنجيل، والسجع، والشعر الجاهليّ[1]، وهذا يبعده عن كونه نصًّا إلهيًّا ويجعله نصًّا بشريًّا.

ثانيًا: مآلات الأنسنة

إنَّ من النتائج الخطيرة التي تترتب على القول بالأنسنة هي: نقض مفهوم الوحي؛ وذلك يعدّ النّصّ القرآنيّ نصًّا لغويًّا «بكلّ ما تعنيه اللغة من ارتباط بالزمان والمكان التأريخيّ والاجتماعيّ، وما هو خارج عن اللغة وسابق عليها لا يمتّ إلينا نحن البشر بصلة، أيّ حديث عن الكلام الإلهيّ خارج اللغة من شأنه أن يجذبنا -شئنا أم أبينا- إلى دائرة الخرافة أو الأسطورة[2]».

وبحسب الكلام المتقدّم، فإنَّ النّصّ القرآنيّ يصبح نصًّا لغويًّا كأي نصّ بشريّ، تكوّن في ثقافة معيّنة، ولا يمكن فهمه إلا بالرجوع إلى تلك الثقافة.

ويؤكّد على ذلك بقوله: «إنَّ النّصوص الدينيّة ليست في التحليل سوى نصوص لغويّة، بمعنى أنَّها تنتمي إلى بنية ثقافيّة محدّدة، تمّ إنتاجها طبقًا لقوانين تلك الثقافة التي تعدّ اللغة نظامها الدلاليّ المركزيّ[3]»، وهذا يؤدّي إلى انفتاح النّصّ القرآنيّ على تأويلات غير متناهية[4].

ومن نتائج القول بالأنسنة: نفي الحقائق الثابتة للنّصّ القرآنيّ وفتح باب النسبيّة، ومنها عزل الوحي عن مصدريّته وربطه بالمتلقّي[5].

وقد لخّص محمد أركون النتيجة التي يبتغيها من الأنسنة، إلى أمرين[6]:

(109)

الأوّل: تأريخيّة كلّ العمليّات الثقافيّة والممارسات العمليّة التي يندمج الكتاب المقدّس بواسطتها داخل الجسد الاجتماعيّ ويمارس دوره فيه.

الثاني: سوسيولوجيا التلقي أو الاستقبال، أي الكيفية التي تتلقى بها الفئات الاجتماعية أو الإثنية للتراث.

 ومعنى ذلك أنَّ النصّ إذا اندرج في الحياة البشريّة يفقد الكثير من سماته المطلقة، وهذا يجعل النصّ القرآنيّ خاضعًا للزمن ، وهذا بدوره يقود إلى تعطيل الأحكام التشريعيّة[1].

ثالثًا: نقد الأنسنة

1. تبيّن في بيان مفهوم الأنسنة أنَّ أغلب الحداثيّين اتفقوا على أنَّ النصّ بشريّ، وتمّت صياغته من قبل النبيّ، ويمكن أن نتسائل أنَّه لو أمكن النبيّ صياغة نصوص القرآن الكريم لأمكن قريش ذلك أيضًا، كونهم من البيئة الثقافية والاجتماعية نفسها، وبخاصّة مع تحدّيهم بالصياغة وليس فقط في المعنى والمحتوى، وهناك شواهد قرآنيّة كثيرة تدلّ على هذا الأمر[2]، وهذا التحدّي ما كان ليتم لو كان الاختلاف بين لغة النصّ ولغة البشر في الرصانة مع بقاء الجنس، وإنما هو اختلاف في ماهية النظم البنيوية والدلالية ومبادئ التأليف وهو جوهر الإعجاز، وكذا لو كانت الصياغة من النبيّ لتغيّر اللفظ بتطور رسم الكتابة، في حين أنَّ ثبوت اللفظ وتغيّر الرسم دليل على إلهيّة اللفظ[3].

2. إنَّ الفصل بين اللفظ والمعنى، يثير جملة مشكلات يتعلّق بعضها بإمكانية فصل المعنى عن اللفظ في أي عمليّة تواصل حتى لو كانت بين الله والنبي، فاللغة ليست نظام تعبير فقط، بل هي فضاء لتشكّل المعنى، ولا يمكن للمعنى أن يحضر في الذهن بدون لفظه أو علامته، وتظهر أهميّة هذا الكلام حين نجد بعض وظائف الوحي القرآنيّ

(110)

هي وظائف لغويّة تتعلّق ببنية وتركيبة اللفظ نفسه مهما كان المعنى الذي يدلّ عليه[1].

3. وصف أبو زيد تطابق فهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع القصد الإلهيّ بأنَّه نوع من الشرك[2]، ومن ثمّ فكلام النبيّ بشريّ، ولا يمكن للنبيّ أن يدرك حقيقة القصد الإلهيّ،  وهذا الكلام مردود (لأنَّ النبيّ مكلّف من الله تعالى بنقل رسالته بحذافيرها وبالشكل الذي كُلّف به من قبل صاحبها دون أي تغيير وبدون إقحام أي رأي شخصيّ أو تأويل؛ لأنَّ هذا هو مقتضى النبوة الحقيقية، وهكذا تقتضي الحكمة الإلهيّة... إذ الشرك يمكن أن يُتصوّر فيما لو ادّعى حامل الرسالة أنَّه مستقلّ عن الله... ومن البديهيّ أنَّ كذا حالة لم تتحقق مطلقًا في رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد) [3].

* المطلب الثّالث: عقلنة القرآن الكريم

أوّلًا: مفهوم العقلنة

شكّلت العقلنة أساسًا ومبدءًا من مبادئ المشروع الحداثيّ الغربيّ، وتمّ بثّ هذا المفهوم في مجالات الحياة كلها، حتى ارتبطت «فكرة الحداثة ارتباطًا وثيقًا بالعقلنة. والتخلّي عن إحداها يعني استبعاد الأخرى[4]»، حتى وصل الأمر إلى سدّ العقل مسدّ الوحي الإلهي من خلال دمج الإنسان بالطبيعة، وهو ما اصطلحوا عليه بعقلنة الدين، ومنه تولّدت ثنائية جدليّة بين الوحي والعقل.

والحداثة العربيّة سعت إلى توظيف هذا المفهوم الغربيّ، واتّخذت من العقل المرتكز الأساسيّ في فهم النصّ القرآنيّ، وحاولت إخضاع القرآن الكريم إلى المنهجيّة العقلانيّة، دون ملاحظة الظروف التي بسببها نشأت العقلانيّة الغربيّة، ومدى صلاحيّة تطبيقها على القرآن الكريم، وهذا أدّى إلى التزام الحداثيّين العرب بنتائج العقلانيّة الغربيّة، والتي منها تغيير النظرة التقديسيّة إلى الوحي، فكان هدف

(111)

العقلنة الحداثيّة «رفع عائق الغيبيّة، ويتمثّل هذا العائق في اعتقاد أنّ القرآن وحي ورد عن عالم الغيب[1]».

وتتمّ عمليّة العقلنة بأمور، منها:

1- نقد علوم القرآن؛ إذ يعتقد نصر حامد أبو زيد أنَّ علوم القرآن تمنع الحقائق، وتصرفنا عن الرجوع إلى نفس النّصّ القرآنيّ[2]

2- تطبيق مناهج علوم الأديان على النّصّ القرآنيّ، كعلم مقارنة الأديان، وتأريخ التفسير، وتأريخ اللاهوت[3].

3- تطبيق مناهج علوم الإنسان والمجتمع، كاللسانيات، والسيميائيّات، وعلم التأريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وغيرها من العلوم المقرّرة في هذا المجال[4].

4- وكذلك تتم العقلنة من خلال الاستعانة بالنظريّات النقديّة الغربيّة، كالبنيويّة، والتأويليّة، والتفكيكيّة[5].

5- ومنها الاستعانة بالمنهج الماركسيّ، وبخاصّة عند أبي زيد[6].

ووضع شبستري تسعة مستويات ومراتب للفهم التفسيري العقلائيّ، وقبل بيانها أشار إلى «أنَّ الفهم التفسيريّ العقلانيّ للمكتوب يتكوّن على هيئة مسار يمكن توضيح مستوياته ومراتبه المختلفة... وإنَّ بعض هذه المستويات والمراتب يرتبط بالحقائق الفيزيقيّة، وبعضها يرتبط بذهن المتفهّم وبعضها يرتبط بالقواعد

(112)

والتعاقد في الحياة الاجتماعيّة والظروف الخارجيّة الحاصلة منها، التي يعيشها المتكلّم والمخاطب على السواء[1]».

ثم أوجز القول في مستويات الفهم التفسيريّ العقلانيّ، وبيان إيجازه[2]:

1- الفهم الإدراكي لجملة أو جمل مترابطة.

2- فهم ما يُسمع أو يُرى بالعين مثلًا على الورقة يشكّل سلسلة من العلامات ذات الدلالة.

3- إنَّ ما يفهم بوصفه من العلامات إنّما هو علامة من اللغة الإنسانيّة، وهي علامات تَوافق الناس على استعمالها للتواصل فيما بينهم.

4- فهم هذه العلامات يمثّل نموذجًا عن اللغة البشريّة كالعربيّة والفارسيّة، فالذي يسمعه الشخص يمثّل كلامًا بتلك اللغة.

5- وهي مرحلة علم دلالات الألفاظ وتطوّرها، وتبرز فيها مرحلة فهم المعنى.

6- إنّ الفهم لا يتمّ بسهولة دومًا، فإذا ابتلى السامع بعدم الفهم وجب القيام بجدّ للحصول على الفهم.

7- وهي مرحلة فهم الجزئيّات؛ إذ في بعض الأحيان يكون التركيز على الكليّات دون الجزئيّات.

8- فهم (فِعْل) قائل الكلام؛ إذ كلّ متكلّم يقوم بالعديد من الأفعال أثناء كلامه، وهذا الفعل يعدّ من أجزاء فهم الكلام.

9- مرحلة الفهم على المستوى العمليّ من قول شفهي أو تحريريّ وإنْ كان إطار الكلام لا يدلّ عليه.

(113)

ثانيًا: مآلات العقلنة

تغيير مفهوم الوحي: يقول أركون: «لكنّنا نعتقد أنّ أيَّ نقد حقيقي للعقل الدينيّ ينبغي أن يتمثّل في استخدام كلّ مصادر المعقوليّة والتفكير التي تُقدّمها لنا علوم الإنسان والمجتمع من أجل زحزحة إشكاليّة الوحي من النظام الفكريّ[1]»، ويقول في موضع آخر: «نحن نهدف من خلال هذه الدراسة إلى زحزحة مفهوم الوحي وتجاوزه[2]»، وبالإضافة إلى تغيير مفهوم الوحي سعى الحداثيّون إلى عزله عن إطاره العام وعقلنته، وذلك بإبعاد الجانب الغيبي عنه.

إزالة صفة التعالي عن النصّ القرآنيّ وربطه بالواقع، وإلغاء القداسة عنه.

ومن مآلاتها أيضًا التسوية بين القرآن وغيره من الكتب المقدّسة، ويعني ذلك: أنّ كلّ ما يجري على التوراة والإنجيل يجري على القرآن كالتحريف[3]، ويؤكّد أبو زيد على هذا المعنى بقوله: «إنّ كلّ الخطابات تتساوى من حيث هي خطابات، وليس من حق واحد منها أن يزعم امتلاك الحقيقة؛ لأنّه حين يفعل ذلك، يحكم على نفسه بأنّه خطاب زائف[4]». 

ومن المآلات الأخرى للقول بعقلنة النّصّ القرآنيّ، عدم اتّساق نصوصه، بمعنى أنَّ سور القرآن وآياته وردت بترتيب يخلو من الاتساق المنطقيّ، وهذا يؤدي إلى تناقضات في فهم مقاصد القرآن الكريم.

ومنها: غلبة الاستعارة في النّصّ القرآنيّ على الأدلة والبراهين؛ لأنَّ عقل هذا النصّ أقرب إلى العقل الأسطوريّ من العقل الاستدلاليّ.

 ومنها: تجاوز الآيات الصادمة للعقل، وعدّها شواهد تأريخيّة تمّ تجاوزها[5].

(114)

ثالثًا: نقد العقلنة

1. إنَّ أحد الأسباب التي دعت الحداثيّين إلى تبنّي العقلانيّة كأساس لفهم الوحي القرآنيّ هو نظرتهم إلى عقيدة الأشاعرة المتطرّفة، التي سعت إلى تعطيل العقل بالكامل، في حين هم غفلوا عن الرؤية المعتدلة التي نلتمسها في كلمات النبي وأهل البيت عليهم السلام. ففي ضمن هذه الرؤية، يمكن للعقل المضي قدمًا ما دام يمكنه الوصول إلى النتائج القطعيّة بواسطة الدليل والبرهان، أمّا حين لا يدخل الأمر في قدرة العقل يجب التمسك بالعقل الوحيانيّ، ذلك أنَّ التسليم لحكم العقل المحض يوقع في الجهل المركّب[1].

2. إنَّ المقارنة بين الإسلام والغرب في هذه المسألة غير صحيحة، فالعقل والوحي في الإسلام لا يفترقان، فالذي ساد في الغرب هو العقل المحض الذي يعارض الدين، في حين أنَّ العقل الديني في الإسلام يدعو إلى التفكّر والتدبّر والتعقّل، (فإذا كانت الحداثة تعتمد على العقل القائم بالذات، فإنَّ العقلانيّة الإسلاميّة ترتكز على ما يسمّيه بعضهم بالعقل المستقل الذي يعتمد على بديهيات العقل النظريّ في الحقل النظريّ)[2]، كما أنَّ العقل يعدّ أحد الأدلّة الأربعة لاستنباط الحكم الشرعي بالإضافة إلى دوره الأساسيّ في المسائل العقائديّة، إذ لا يمكن الإيمان بعقيدة إلا بعد إثباتها بالعقل[3].

3. إنَّ العقلانيّة الغربيّة التي استند عليها الحداثيّون العرب أخذت تتراجع بمرور الزمن، وبخاصة بعد بطلان مبادئ الحداثة فانهارت أسسها نتيجة تهديم ذاتها بذاتها، لأنَّها قامت على المعرفة الحسيّة والتجريبيّة وهذا ولّد مشكلات معرفيّة من قبيل النسبيّة والافتقار إلى رؤية كونية صحيحة ومعمقة[4].

(115)
(116)

 

 

 

 

 

المبحث الثالث

العلاقة بين الاستشراق والحداثة

 

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: النقد الحداثيّ للاستشراق

المطلب الثاني: جهات الالتقاء والاختلاف بين الاستشراق والحداثة

(117)

تقدّم الكلام فيما سبق عن فهم المستشرقين للقرآن الكريم، وتبعه الكلام عن أساليب المستشرقين ومناهجهم في دراستهم للقرآن الكريم، وتبيّن الكلام في مباحث هذا الفصل عن الفهم الحداثيّ للقرآن الكريم وأسسه التي ارتكزوا عليها، ويتكفّل هذا المبحث ببيان طبيعة العلاقة بين الاستشراق والحداثة، ويتمّ ذلك من خلال بيان الرؤية الحداثيّة الناقدة للاستشراق، ثمّ بيان جهات الالتقاء والاختلاف بين الاستشراق والحداثة عند دراستهم للقرآن الكريم. 

* المطلب الأوّل: النقد الحداثيّ للاستشراق

سعى الحداثيّون إلى توظيف أدوات النقد الحديثة في فهم النصّ القرآنيّ؛ وكان الهدف من ذلك تقديم فهم جديد ومعاصر للقرآن الكريم يستند إلى الأسس والمناهج الغربيّة، وهذا ما جعل بعضهم يلتفت في أثناء دراسته للقرآن الكريم إلى الجهود الاستشراقيّة في هذا المجال، إذ إنَّ الحداثيّين (يقاسمون المستشرقين كثيرًا من المرجعيّات والمنطلقات المعرفيّة والمناهج)[1]، وكان الغرض من ذلك الالتفات إلى الاستشراق -بحسب تعبيرهم- نقد تلك المنظومة، إلّا أنَّ هذا النقد سواء كان (بالسخط على ما اختلقه بعض المستشرقين من افتراءات، أم بتقدير المجهود العلميّ للبعض الآخر، ففي كلتا الحالتين ثمّة أثر وتأثير بنيويّ للاستشراق على منطلقات الردّ عليه عند مختلف اتّجاهات الفكر العربيّ المعاصر)[2].

وكذلك فإنَّ (مجرد انغماس نقّاد الاستشراق في دراسة التراث قرينة على أنَّ عمل المستشرقين التأسيسيّ في ميدان الدراسات الإسلاميّة نجح في توليد قضية فكريّة كبيرة لم يتوقف العرب والمسلمون عن التفكير فيها منذ ما يزيد على قرن وهي قضية التراث) [3].

عَرَف الحداثيّون الاستشراق في لحظة ازدهاره، وهذه اللحظة شكّلت صدمة

(118)

وانبهارًا بالغرب، وكان للاستشراق أثر على أفكار منظّري هذه المدارس، وهذا التأثير تارة يكون بصورة مباشرة من خلال اطّلاع الكثير من رجالها على كتابات المستشرقين في التراث الإسلاميّ وبخاصّة ما يتعلّق بالقرآن الكريم، أو من خلال التلمذة المباشرة على يد المستشرقين وبخاصّة عند التحاق بعضهم بالجامعات الغربيّة.

وتارة يكون بصورة غير مباشرة من خلال توفير المادّة التي يمكن أن يشتغلوا بها، إذ قام المستشرقون بتحقيق ونشر أمّات الكتب والمخطوطات.

ومن أبرز الذين نقدوا الاستشراق من جهة، وتأثّروا به من جهة أخرى، هو الحداثيّ (محمد أركون)؛ إذ يلتقي أركون مع الاستشراق كحقل غربيّ تخصّص بدراسة تراث الشرق، والذي أصبح مرجعيّة علميّة ومنهجيّة لأركون ولغيره من الحداثيّين، وذلك من خلال عمل أركون بتأريخ القرآن وما أنجزه نولدكه في هذا المجال.

 وأركون كثيرًا ما كتب عن الاستشراق في مؤلّفاته، لكنّه لم يخصّص مؤلّفًا يستعرض فيه أفكار الاستشراق بكلّ اتّجاهاته وتيّاراته ويحلّلها وينقدها، إلّا أنَّه كان يعرّج كثيرًا على إسهامات المستشرقين، والمتتبّع لنقد محمد أركون للاستشراق يلحظ وجود مسألتين كان البحث يدور حولها، وهي:

المسألة الأولى: الإشادة بالجهود المعرفيّة للمستشرقين في مجال الدراسات الإسلاميّة: وتنتمي هذه النزعة إلى النزعة العامّة وهي الانبهار بالمجتمع الأوروبي الحديث وأدواته، ففي كلام محمد أركون عن التأريخيّة نلمس إعجابًا وتأثّرًا بعمل المستشرقة جاكلين شابي، فكتابها بنظره «يقدّم المثل العمليّ المحسوس على إمكانيّة تحقيق طفرة نوعيّة، ابستمائيّة وإبستمولوجيّة، في الكتابة التأريخيّة عن القرآن[1]».

ويؤكّد هذه الإعجاب في مؤلّف آخر بقوله: «وسوف أغتنم فرصة صدور كتاب زميلتي جاكلين شابي لكي أقوم بهذا العمل فقد أصدرت في العام الماضي كتابًا

(119)

بعنوان: ربّ القبائل إسلام محمّد[1]... وحاولت أن تقرأ بطريقة تأريخيّة محضة وصارمة ما كانت دعته بالقرآن المكّيّ... إنَّ تطبيق التأريخيّة المحضة على الكلام الذي أصبح نصًّا مقدّسًا ومؤسّسًا لأمّة واسعة من المؤمنين أقصد أمة المسلمين، يمثّل تحدّيًا معرفيًّا[2]».

وأشاد أركون بالمشروع الاستشراقيّ الهولنديّ والذي كان يهدف إلى دراسة تأريخيّة لكلِّ كلمة من القرآن، كما عبّر أركون عن المستشرق نولدكه بأنَّه طرح لأول مرة «السؤال الذي لا مفرَّ منه والخاص بالتأريخ النقديّ للنّصّ القرآنيّ[3]».

المسألة الثانية: نقد المنهج الاستشراقيّ: يمكن أن نلخّص إشكاليّة محمد أركون على قصور المنهج الاستشراقيّ بأمرين[4]:

الأوّل: إنَّ الاستشراق يصرُّ على عمله الوصفي، ولا يتجاوز هذه المرحلة من خلال القيام بتصحيح المفاهيم الإسلاميّة، فهو قام بنقد المنهجيّة الاستشراقيّة التي طبّقت مناهج العلوم الإنسانيّة على النّصّ القرآنيّ، وزاوية النقد تمثّلت بأنَّ المنهجيّة الاستشراقيّة مصرّة على المنهجيّة الوضعيّة التي لا تهتم إلا بالكشف عن الوقائع الثابتة والماديّة، وتهمل الجانب الآخر من التأريخ، وهو تأريخ الخيالات والتصوّرات والأوهام[5].  

الثاني: إنَّ الاستشراق لا يلتفت إلى التقدّم العلميّ في دراسة التأريخ، فهو ما زال متمسكاً بالمنهج اللغويّ الفليولوجي والتأريخي[6]، ومن ثمَّ فهو يتمسّك بالبنية الداخليّة للنصوص ويتشبّث بتأريخ الأفكار الخطيّ[7]، وهذا يجعل الاستشراق

(120)

«محصورًا بالتأريخ للوقائع الخام للتراث أو استعادتها عن طريق المنهجيّة الفيلولوجيّة من نحو وصرف ومعاجم ودراسة تركيب الجملة[1] ...».

ومن أسباب نقد أركون للمنهج الفيلولوجيّ التاريخيّ هو أنَّ النظرة الفيلولوجية «تمارس اختزالًا مزدوجًا، فهي من جهة لا تأخذ بعين الاعتبار الأساطير ... والتصورات التي يتخيّلها المخيال الجماعيّ، وتفتقر بذلك للمضامين الحقيقيّة لكلّ وجود اجتماعيّ تأريخيّ كما تفتقر إلى آليّات إنتاجه، ومن جهة ثانية تنتقي الوقائع الممكن السيطرة عليها وتحديد تأريخ زمنيّ صحيح لها ومعرفة مؤلّفيها[2]».

ثم يضيف سببًا آخر بقوله: «الدوافع العاطفيّة والأيدلوجيّة لدى المستشرقين تغلب بشكلّ واضح على المشروع الثقافيّ الضخم الذي ينبغي إنجازه الذي يتمثل باستكشاف المجال العربيّ الإسلاميّ بشكلّ منتظم علميّ ابتكاريّ أصيل[3]».

وعلى الرغم من هذه الإشكاليّة إلا أنّنا نجد أركون يرجّح هذا المنهج على الدراسات الإسلاميّة، ويدعو إلى تكملته بالإسلاميّات التطبيقيّة[4]، ويعتبر أن بفضله تقدّمت الدراسات القرآنيّة[5]، «ويرى أركون أنَّه لا يجوز اليوم تطبيق المناهج الحديثة والبنيويّة من غير المرور بالمنهج الفيلولوجيّ ... لكن في الوقت عينه لا يجوز أن يتوقف المؤرّخ الباحث عند هذا المنهج؛ لأنّه يقدّم قراءة محدودة[6]».

وبحسب هذا الكلام يمكن القول إنّ منهج الإسلاميّات التطبيقيّة متأثّر بمنهج الإسلامّات الكلاسيكيّة، على الرغم من الملاحظات التي يبديها على ذلك المنهج.

ومن الحداثيّين الذين كثّفوا من نقدهم للاستشراق هو (هشام جعيط)؛ إذ حاول أن يتخلّص من تهمة تبعيّة الاستشراق كنوع من الدفاع عن تميّز أبحاثه

(121)

وأصالتها، ويظهر ذلك جليًا في ثلاثيّة السيرة النبويّة التي عكف على دراستها سنين عدّة، وعبّر في مقدّمتها عن تجاوزه للاستشراق ومناهجه، إلا أنَّه في الواقع لم يأتِ بجديد، بل قام بإعادة أفكار الاستشراق[1].

والملاحظ أنَّ أركون وجعيط وغيرهما من الحداثيّين عندما ينقدون الاستشراق، فإنَّهم لا ينقدون الأسس والمناهج التي انطلق منها الاستشراق، بل يسجّلون ملاحظاتهم على بعض النتائج الاستشراقيّة، في حين هم يشتركون مع المستشرقين في كثير من الأسس والآليّات التي وظّفوها لفهم القرآن الكريم، وسيتضح ذلك أكثر في المطلب القادم.

*  المطلب الثاني: جهات الالتقاء والاختلاف بين الاستشراق والحداثة

إنَّ الكلام في كلّ ما سبق من مباحث هذه الدراسة كان عن الإطار النظريّ للاستشراق والحداثة، وتمّ ذلك ببيان المنطلقات والأسس والمناهج التي اتّبعها المستشرقون والحداثيّون في دراستهم للقرآن الكريم، وسيُختم البحث في الإطار النظريّ ببيان جهات الالتقاء والافتراق بين الاستشراق والحداثة، على أنَّ جهات الالتقاء والاختلاف في كل مسألة من مسائل تأريخ القرآن وعلومه ستتّضح في الجانب التطبيقيّ والمتكفّل ببيانه الفصل الثالث.

وجهات الالتقاء والاختلاف، هي:

الجهة الأولى: مرّ الفكر الاستشراقيّ عند دراسته للقرآن الكريم بمراحل عدّة، وبها مرّ الفكر الحداثيّ تقريبًا، أوّلها مرحلة التشكيك بالنصّ، ثمّ تطوّرت إلى مرحلة التشكيك بالنصّ المؤسّس على النصّ الأصليّ، ثمّ مرحلة صناعة أقلام عربيّة موالية لذلك الفكر وإبرازها. أمّا الفكر الحداثيّ، فبدأ من التشكيك بالنصّ، ثمّ تطوّر إلى التشكيك بفقه النصّ، ففي المرحلة الأولى دعوة لاستبعاد الدين تمامًا، وفي الثانية دعوة لعدم تقبّل ثقافة النصّ، وفي الثالثة دعوة لتجديد الفكر المؤسّس على النصّ

(122)

في ضوء المصالح المعاصرة والعقلانيّة، وواضح ما يلحظ من تماثل في بعض الحلقات وتكامل في الحلقات المتتابعة في النشأتين ومساري التطوّر والأهداف والمقاصد، فالاستشراق والحداثة سعيًا إلى التقليل من قيمة النصّ القرآنيّ، ثم مهاجمة الأصول والقواعد التي تضبط عمليّة فهم النصّ واستبدالها بمناهج غربيّة، فخطاب الاستشراق -وتبعه خطاب الحداثة في ذلك- يعتمد على عدم التفريق بين النصّ المؤسّس وبين الثقافة المؤسّسة على فهم بشريّ للنصّ، ويوظّف أسوء الاجتهادات البشريّة لينسبها إلى الأصل المؤسس[1].

الجهة الثانية: وتتعلّق بالأسلوب: إذ إنَّ جهات الالتقاء بينهما يمكن أن تُلحظ في الأساليب المتّبعة لفهم النصّ القرآنيّ، فالمستشرقون -كما تبيّن سابقًا- وظّفوا أساليب التشكيك والإسقاط والانتقاء وغيرها من الأساليب في فهمهم للقرآن الكريم، وهذه الأساليب تكرّرت عند الحداثيّين أيضًا فقاموا بالتشكيك بالوقائع التأريخيّة وإثارة الشكوك بكلّ ما يتعلّق بمباحث تأريخ القرآن وعلومه.

 وكذلك قاموا بانتقاء الروايات التي تنفعهم في بحثهم في التراث الإسلاميّ، شأنهم شأن المستشرقين، وبخاصّة ما يتعلّق بفهم الآيات القرآنيّة، أو اقتصارهم في الغالب على مصادر أُحادية في فهم القرآن الكريم، وإهمالهم لمصادر الشيعة وفرق إسلاميّة أخرى.

كذلك طبّق الحداثيّون الأسلوب الإسقاطي، ومن أمثلة ذلك ما نجده في تفسير محمد أركون لقوله تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِين) [2]، إذ عبّر عن الآية بأنَّها «تحيل إلى نوع من الاستخدام الأسطوريّ للتاريخ، واستخدام تاريخي للأسطورة[3]» وسبب ميل أركون إلى الفهم الحسّي لهذا النصّ القرآنيّ هو «الصدمة الثقافيّة التي تعرّض لها إنْ علمنا أنَّه تأثّر كثيرًا بالظروف التي مرّ بها والتي انعكست على توجّهاته الفكريّة حيث الظروف الاجتماعيّة الصعبة وباعتباره

(123)

شخصًا غير مرغوب به في بلده وحتى في فرنسا التي سافر إليها فيما بعد كونه شخصًا مسلمًا[1]» ومنه يتّضح إسقاطه للواقع الذي يعيش فيه على فهمه للنصّ القرآنيّ.

الجهة الثالثة: يشترك الحداثيّ مع المستشرق في أنَّهما ينظران إلى الشرق بعيون غربيّة، وكذلك فإنَّ أغلب نتائج الاستشراق الغربيّة في التراث الإسلاميّ يتعامل معها الحداثيّ بأنَّها مسلّمة فكريّة، فأركون مثلًا على الرغم استطاعته التخلّص من فوقيّة الغرب ودونيّة الشرق، إلّا أنَّه ظلّ أسير العنصريّة الثقافيّة، فهو يعتقد أنَّ التراث الإسلامي متخلّف عن الغربيّ في أغلبه[2]

الجهة الرابعة: إنَّ المستشرقين عندما يدرسون النصّ القرآنيّ، فإنَّهم يهدفون إلى نقده وتقديم الأحكام عليه من حيث حقّانيّته وبطلانه. أمّا الحداثيّون، فبالإضافة إلى ذلك الهدف يحاولون دراسة معنى النصّ القرآنيّ وآليّات فهمه، في حين يبدو أنَّ المستشرقين لم يبحثوا في دلالات وتفسير القرآن الكريم.  

الجهة الخامسة: ما يميّز بينهما أنَّ الحداثة حركة فكريّة نشأت من داخل المجتمع الإسلاميّ. أمّا الاستشراق، فهو حالة خارجة عن المنظومة الإسلاميّة، والحركة الداخلية يجب أن تلتزم بالمسلّمات التي يرتكز عليها المسلمون؛ إذ يجب على الحداثيّ الالتزام بالمنظومة المعرفيّة وأصولها ومنابعها للإسلام، وعلى هذا الأساس فإنَّ ابتعاد الحداثيّ عن هذه المنظومة ومنابعها واقترابه من المناهج الغربيّة وآليّاتها، سيلزم منه انعكاس وتأثير على النتائج التي يتوصّل إليها.

الجهة السادسة: وتتعلّق بالمنهج، إذ وظّف المستشرقون عند دراستهم للقرآن الكريم مجموعة مناهج أهمّها: المنهج الفيلولوجيّ، والمنهج التجريبيّ، والمنهج الوصفيّ، والمنهج التأريخيّ، وكان الملاحظ أنَّ غاية المستشرق بتطبيق هذه المناهج

(124)

لم تكن تفسيريّة بقدر ما كانت دوافع تشكيكيّة بالنصوص التي طبّق عليها تلك المناهج، أما الحداثيّون فإنَّهم أفادوا من تلك المناهج بنسبة معيّنة، إلّا أنَّهم تجاوزوها من خلال الاستعانة بالمناهج المعاصرة كالبنيوية، والتفكيكية، والألسنيّة، والوجودية، والتأويلية.

فالاستشراق لم يتأثر بمناهج ذات طابع فلسفيّ فاستخدم في الأكثر أساليب مختلفة؛ إذ أغلب المستشرقين لم تتبلور لديهم الأسس العامة للمنهج، فبعضهم كان تلقائيًا وذا اتّجاه منهجيّ وعلى ضوء عمله يصنّف منهجه، وبعضهم كان تأمّليًّا، أي لديه رؤية مسبقة حول المنهج الذي سيتبعه ويسلّطه في قراءته للنصّ.

الجهة السابعة: وتتعلّق بالدوافع، فالمستشرق دوافعه كثيرة وبعضها خارج النطاق العلميّ، كالدافع السياسيّ والاستعماريّ والاقتصاديّ وغيرها، أمّا الحداثي فربما يفيد من الغرب ويتأثر بأهدافه، ولكن الملاحظ أنَّ دافعه علميّ بالدرجة الأولى.

الجهة الثامنة: وتتعلّق بالزمن، فكلاهما نشأ في ظروف مختلفة، والبعد التأريخي يختلف بينهما فالاستشراق أقدم من الحداثة، أمّا الحداثة العربيّة لم تتجاوز الـ50 عامًا الأخيرة.

(125)
(126)

 

 

الفصل الثالث

نماذج تطبيقيّة لتأثّر الفهم الحداثي

بالاستشراق في مباحث تأريخ القرآن وعلومه

 

عرض ونقد

 

ويتضمّن هذا الفصل أربعة مباحث:

المبحث الأول: أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ لمباحث (الوحي)

المبحث الثاني: أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ لمباحث (المكّيّ والمدنيّ)

المبحث الثالث: أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ لمباحث (جمع القرآن وتدوينه)

المبحث الرابع: أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ لمباحث (النسخ)

(127)

مـدخـل

تكمن أهميّة البحث في تأريخ القرآن وعلومه -من وجهة نظر الحداثيّين- في أنَّ هذه المباحث بمجموعها تمثّل «إطارًا من المعطيات والخلفيّات التكوينيّة المتصلة بتشكّل النصّ القرآنيّ، فالسمة الغالبة على هذا الإطار أنّه يحيل على صنفين من المعطيات، أولهما: واقعيّ يتمثّل في الأسباب والسياقات الزمنيّة والمكانيّة التي اقترنت بظرفيّات التنزيل ومناسباته، وثانيهما: من طبيعة خارقة، ويتضمّن كل ما يرجع من معطيات إلى المنشأ الإلهيّ للوحي، والطرق والكيفيّات التي أُلقي بها على الرسول»[1].

وبناءً على هذا الكلام المتقدّم، فهم يرون أنّه لا يمكن الوصول إلى فهم مقبول للنصّ القرآنيّ دون البحث في الأبعاد التكوينيّة؛ لأنّها بمثابة المفاصل العامة التي يتمحور حولها التفكير في النّصّ القرآنيّ، وما من مبحث إلا وهو مرتبط بالنصّ، ويمكن عدّ هذه المباحث بمثابة مادّة تستمد منها المعايير والشروط الموضوعية لفهم النصّ.

وعلى هذا الأساس والأهميّة، ركّز الحداثيّون جهدهم على هذه المباحث، وفصّلوا الكلام فيها، ولن يخوض البحث في تفاصيل رؤيتهم لهذه المباحث، وإنمَّا سيكتفي بالتأشير على ما فيه أثرًا استشراقيًّا، فما بحثوه ولم يلحظ له البحث أثرًا استشراقيًا فهو خارج عن موضوع البحث، وبهذا اللحاظ المتقدّم فإنَّ اختيار البحث وقع على مباحث: الوحي، والمكّيّ والمدنيّ، وجمع القرآن وتدوينه، والنسخ كنماذج تطبيقيّة، ثم يتبع ذلك تعقيب تقويميّ نقديّ لكل مسألة من مسائل البحث.

(128)

 

 

 

 

المبحث الأول

أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ لمباحث (الوحي)

 

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: الوحي في اللغة والفكر الإسلاميّ

المطلب الثاني: الوحي في المفهوم الغربيّ والاستشراقيّ

المطلب الثالث: الرؤية الحداثيّة لفهم ماهيّة (الوحي)

والأثر الاستشراقي فيها

 

(129)

المطلب الأوّل: الوحي في اللغة والفكر الإسلاميّ

أوّلًا: الوحي لغة

الوحي لفظ عربيّ أصيل، واختلف علماء اللغة العربيّة في بيان أصله، ويمكن القول: إنَّه يتردّد بين معنيين هما: الخفاء والسرعة.

 فقد ورد في لسان العرب: «أصل الوحي في اللغة كلّها: إعلام في خفاء، ولذلك سُمّي الإلهام وحيًا»[1].

أمّا الراغب الاصفهانيّ فاختار معنى السرعة، فقال: «أصل الوحي: الإشارة السريعة، ولتضمّن السرعة قيل: أمر وحي على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة بعض الجوارح وبالكتابة[2]».

وعبّر الفيروز آباديّ عن الوحي بأنَّه: «الإشارة والكتابة والمكتوب والرسالة والإلهام والكلام الخفيّ، وكلّ ما ألقيته إلى غيرك. وأوحى إليه: بعثه وألهمه[3]».

و«بالاتّجاه إلى اللغة اللاتينيّة نجد أنَّ الوحي بالمعنى اللاتيني الأصل يعبّر عنه بـ (Revealation) من الفعل (Reveal) وهو بمعنى كشف الغطاء عن أمر مجهول بقوة غيبيّة إلهيّة»[4].

ثانيًا: الوحي في المفهوم الإسلاميّ (القرآن والفكر الإسلاميّ)

تناول القرآن الكريم مفهوم الوحي بكثرة، وتحدّث عن طبيعته، وبيّن أنواعه، وأشار لمصدره، ثم فصّل في المتلقّين له.

(130)

وقد ورد لفظ الوحي بمادّته الصريحة، وبصيغه المتعدّدة، في ثمانية وسبعين موضعًا في القرآن الكريم[1].

وعُرِّف الوحي اصطلاحًا بأنَّه «عبارة عن فكرة يدركها الإنسان، مصحوبة بالشعور الواضح، بأنها ملقاة من طرف أعلى منفصل عن الذات الإنسانيّة، وشعور واضح بالطريقة التي تمّ فيها الإلقاء، مع وجود عنصر الغيب والخفاء في هذه العملية، ولذا تسمّى بالوحي[2]». 

ونلحظ ممّا تقدّم أنّ هناك صلة واضحة بين التعريف اللغويّ والاصطلاحيّ إذ «يبدو أنَّ التعريف الشرعيّ منحدر عن الأصل اللغويّ في خصوصيّة الإسرار والإعلام السريع وما يُصاحب ذلك من الإشارة والرمز اللذين يخفيان على الآخرين[3]».

إنَّ مفهوم الوحي له خصائص متعدّدة، أهمّها:

إنّه «كلام سماويّ غير ماديّ ليس للحواس الظاهريّة والعقل أن تصل إليه[4]»، ولهذا السبب تعدّدت الآراء حول فهم ظاهرة الوحي، وشكّلت هذه الظاهرة مادّة للجدل والنقاش، إذ إنّ عجز عقول البشر عن الوصول إلى فهمها، جعلهم يتّهمون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأنبياء بالجنون والسحر وغيرها من الاتهامات الباطلة.

وتميّز الوحي المحمديّ بجمعه لكلّ صور الوحي للأنبياء، واحتل الصدارة «كمًّا، ومرتبة، وأفضلية، بخصائصه وأشكاله، والأكثر من هذا أنَّ ذِكْر القرآن الكريم لأيِّ وحي إلى الأنبياء الآخرين يرد دائمًا إمّا مدخلًا للوحي المحمديّ أو خاتمة للدلالة عليه[5]»، وهذا المعنى بيّنه الله سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ

(131)

وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)[1].

ومعنى الوحي الذي نحن بصدده في هذا البحث هو وحي الله سبحانه إلى النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وقد ورد هذا النحو من الوحي في أكثر من سبعين موضعًا ويتحقَّق على أنحاء ثلاثة، كما جاء في الآية الكريمة: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)[2].

 

المطلب الثاني: الوحي في المفهوم الغربيّ والاستشراقيّ

أوّلًا: مفهوم الوحي عند الغربيّين والمستشرقين

 كان الغرب قبل عصر النهضة يؤمنون بالوحي الإلهي «فلمّا جاء العلم الجديد بشكوكه وماديّاته ذهبت الفلسفة الغربيّة إلى أنَّ مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة حتى أنكرت الخالق والروح معًا»[3].

وعلّلت ما ورد في الكتب القديمة عن الوحي بأنّه «إمّا اختلاق من المتنبّئة أنفسهم لجذب الناس إليهم وتسخيرهم لمشيئتهم، وإمّا هذيان مرضيّ يعتري بعض المتعصِّبين، فيخيّل إليهم أنهم يرون أشباحاً تكلّمهم وهم لا يرون في الواقع شيئًا[4]».

ولما ظهرت آية الأرواح في أمريكا عام (1846م) وسادت المجتمعات الغربيّة، أعاد علماء الغرب البحث في مسألة الوحي وفق العلم التجريبيّ لا وفق المفهوم الدينيّ.

واستقرّ مفهوم الوحي عند العلماء الباحثين في الروح بأنَّ «الوحي لا يكون بنزول ملك من السماء على الرسول فيبلغه كلامًا عن الله، بل يكون في تجلّي روح الإنسان عليه بواسطة شخصيته الباطنة فتعلمه وتهديه إلى الخير[5]».

(132)

وبعد ظهور حركة الاستشراق بدأ التشكيك يتسرّب إلى القرآن الكريم، وظهرت تفسيرات جديدة لظاهرة الوحي، معتمدة على المفهوم الغربيّ الماديّ، وذهب المستشرقون مذاهب شتّى في تفسير ظاهرة الوحي، إلا أنّ الغالبية منهم أنكروا الوحي والنبوة، وأثاروا الشبهات حول الحقائق الإسلاميّة.

فقسم منهم يتشبّث بالماديّات ولا يرى إمكان الوحي، وبعضهم يؤمن بوجود الله، فيبحث له عن مصادر استقى منها كلّ نبي معلوماته، ويرجعونها إلى تأريخ الأمم التي اتصل بها كلّ نبيّ، ومنهم من يرى أنه إلهام يفيض من نفس الموحى إليه لا من الخارج.

ثانيًا: شبهات المستشرقين حول الوحي

تعدّدت شبهات المستشرقين حول الوحي بتعدّد اتجاهاتهم وانتماءاتهم، ويمكن أن نشير لأبرز الشبهات بحسب تتبعها الزمنيّ على الشكلّ الآتي:

الشبهة الأولى: الوحي عبارة عن نوبات من الصرع والهوس

وصفت بعض الروايات الإسلاميّة وكتب التفسير الحالة التي كانت تصيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أثناء تلقّي الوحي، فبحسب الروايات كانت تحصل أعراض خارجية تظهر على جسم النبيّ الأكرم كالتعرّق والاحتقان[1].

وبعد اطلاع المستشرقين على هذه الروايات قالوا: إن تلك الحالة هي نوبات من الصرع والهوس، وأبرز من قال بها المستشرق غوستاف لوبون (1841 – 1931م)، إذ عبّر عن رأيه بطريقة غير علميّة، فقال: «ويجب عدُّ محمد من فصيلة المتهوّسين من الناحية العلميّة، كما هو واضح، وذلك كأكثر مؤسّسي الديانات ... فأهل الهوس وحدهم ... هم الذين ينشئون الديانات[2]».

(133)

ولاحاجة إلى الردّ على هذه المزاعم، بل يكتفي البحث بالإشارة إلى أنَّ الرد على هذه الشبهة تمّ من داخل البيئة الاستشراقيّة نفسها[1].

الشبهة الثانية: إن النبيّ أخذ تعاليمه من ديانات سابقة

قال بعض المستشرقين: إنَّ مصدر الوحي هو الديانة اليهوديّة والنصرانيّة، من خلال لقاءه ببعض اليهود والنصارى.

وأبرز من قال بهذه الشبهة المستشرق موير (1819-1905م)[2] ، والمستشرق نولدكه[3]، والمستشرق بروكلمان[4]، وكذلك قال بها المستشرق المعاصر أوري روبين، والذي ركّز على التأثير اليهوديّ والمسيحيّ في القصص القرآنيّ.

وهذه الشبهة كرّرها بعض الحداثيّين أيضًا تبعًا لمقولات بعض المستشرقين، ويرد عليها:

1. إنَّ الموقف العام للقرآن الكريم تجاه الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة هو موقف المصدّق لهما، فقد صدّق القرآن الكريم المصدر الإلهيّ لهاتين الديانتين، ولكنّه في الوقت نفسه جاء حاكمًا على ما فيهما من ضلالات، وهذه الرقابة كانت شاملة ودقيقة، ولا يمكن أن نتصوّر أنَّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يأخذ عن أهل الكتاب ويراهم أخذوا عن الوحي الإلهيّ، ومع ذلك يتمكن من أن يصفهم بالجهل والتحريف، وفي الحقيقة فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأخذ منهم شيئًا، بل تلقّى كلّ ذلك عن الوحي الإلهيّ الذي جاء مصداقًا لما سبقه من الوحي ومهيمنًا على الانحراف والتحريف معًا[5].

2. إنَّ المحتوى الداخليّ للقرآن الكريم يخالف التوراة والإنجيل في بعض المواضع

(134)

التأريخية، فيذكرها بدقّة متناهية ويتمسّك بها، في الوقت الذي كان بإمكانه أن يتجاهل بعضها على الأقل تفاديًا للاصطدام بالتوراة والإنجيل[1].

3. إنَّ الاقتباس يحصل عندما يقوم المقتبس بنقل كلّ الفكرة أو الاقتصار على جزء منها لتتحقّق عمليّة الاقتباس، وعند تتبّع موارد التشابه التي ادّعى المستشرقون أنَّها مقتبسة نجد أنَّ القرآن الكريم قام بعرض الوقائع بطريقة تختلف عمّا في التوراة، إذ إنَّ في القرآن الكريم آيات تخالف ما هو موجود في الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة، كما أنَّ القرآن الكريم جاء بأفكار جديدة غير موجودة فيما سبقه، وكذلك قام بتصحيح أخطاء عديدة وردت في التوراة، فكيف يدّعى أنَّ كلّ ما في القرآن مقتبس منهما[2]؟!.

4. إنَّ هذه الدعوى بُنيت على مقدّمة خاطئة مفادها: (ما دامت التوراة والإنجيل سابقة على الإسلام فقد أفاد واقتبس القرآن الكريم منهما)، وبخاصة بوجود مواضع تشابه بينهما، والحق إنَّ  (الأديان السماوية أصلها واحد وهو الوحي الإلهيّ، وبما أنَّ كل هذه الأديان جاءت لتدعو إلى التوحيد وتنذر البشر بالمعاد والقيامة، حتى أصبحت سمة بارزة لكلّ دين سماويّ يفترق بها عن الأديان الوثنيّة، لذلك فإنَّ هذين الأساسين هما من أهم الأسس التي أراد الأنبياء أن تسود قيمًا ثابتة في عقيدة البشر، لأنَّ هذا يكشف عن إرادة الخالق في توحيده وقدرته، ومن هنا فعندما يتّفق القرآن الكريم في هذه الأسس لا يعني أنَّه مقتبس منها، بل يكشف عن أنَّ المنشأ واحد والمصدر واحد)[3].

الشبهة الثالثة: شبهة الوحي النفسيّ

من أهم وأخطر الشبهات التي طرحها المستشرقون وتبعهم الحداثيون في الأخذ بها، هي شبهة الوحي النفسي، وملخّصها: «إنَّ القرآن فيض من خاطر محمّد، أو انطباع لإلهامه، أي: إنّه ناتج عن تأمّلاته الشخصيّة، وخواطره الفكريّة، وسبحاته الروحيّة»[4].

(135)

هذه الشبهة قال بها المستشرق (مونتيه)، وفصّلها المستشرق (إميل درمنغهام)، وسيأتي تفصيل الكلام في تحليلها ومن ثمّ نقدها في المطلب القادم.

المطلب الثّالث: الرؤية الحداثيّة لفهم ماهيّة (الوحي) والأثر الاستشراقي فيها

لم يختلف الفهم الحداثيّ لمفهوم الوحي عن الفهم الاستشراقيّ، إذ اتّفق أغلب المستشرقين قديمًا وحديثًا على أنّ الوحي لا يمكن أن يكون واقعة مستقلّة عن كيان الرسول ونفسيّته أو شعوره، وإنْ اختلفت تعبيراتهم وصياغاتهم.

والمتأمل في الرؤيتين الحداثيّة والاستشراقيّة يجد أنَّهما انعكاس للفلسفة المادة الوضعيّة التي كرّسها فلاسفة النهضة الأوربيّين.

فبعد دراسة الـمستشرقين والحداثيّين لمفهوم الوحي عند المسلمين، تولّدت نظرة أخرى غـير النظرة الـتـي تـقـدّس الوحي القرآنـيّ، وحاولت النظرة الـجديدة أن تدرس هذا الـمفهوم من خلال تطبيق الآليّات والأدوات الغربيّة الـمتعدّدة الـمعتمدة فـي قراءة النصوص الديـنيّـة، فكانت أولى الخطوات التي سبقت دراسة الوحي عند الحداثيّين هي عدّ الوحي القرآنيّ نصّاً، لتقدّم مفهومًا معاصرًا لظاهرة الوحي-بحسب زعمهم-.

إنَّ موقف الفكر الحداثيّ من الوحي يتحدد «من خلال الكشف عن تصوّره للمحدّدات الثلاثة لمفهوم الوحي: التصوّر الذي يجعله لمفهوم (الله/ الإله المتعاليّ)، وتصوره لمفهوم مبدأ التعاليّ والتنزيل، والتصور الذي يجعله لمفهوم النبوّة[1]».

ويحاول بعد ذلك أن يقدّم قراءة حداثية وفق مناهج العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة وبالتحديد منهجيّة المقاربة التأريخيّة، ومقارنة الأديان، والمنهج الأنثروبولوجيّ.

ويمكن الإشارة إلى أبرز الآراء الحداثيّة في ظاهرة الوحي:

(136)

أوّلًا: ماهيّة الوحي عند محمد أركون

قام أركون بربط الوحي بمفهوم جديد، وهذا المفهوم يكون بمثابة نقطة الانطلاق للقراءة الجديدة لنصوصه، من خلال الإفادة من ميادين العلوم الإنسانيّة في مجال فهم النصوص.

يشير أركون إلى أن «الفكر الحديث قد قضى عمليًا على إشكاليّة الكتاب السماويّ، أو العلويّ، أو الإلهيّ، مع النظرة إلى العالم والممارسات الشعائريّة والأخلاقيّة والسياسيّة، التي تنطوي عليها، ولكن هذا الفكر لم يقم حتى الآن بتقييم الوظيفة النفسانيّة الاجتماعيّة الثقافيّة التي تلعبها هذه الإشكاليّة في مجتمعات الكتاب المقدس[1]».

فأركون يعتقد بأنّ الفكر الحديث قضى على ظاهرة الوحي، إلا أنّه لم يكمل البحث في دراسة مفهوم الوحي ضمن مناهج العلوم الإنسانيّة، ولذا قام أركون بمهمة أشكلة ما يسمّيه المفهوم الكلاسيكيّ للوحي، ومن ثم إعادة دراسته وفق المناهج الحديثة.

ومن أجل إنجاز هذه المهمة قام أركون بثلاث خطوات:

الخطوة الأولى: نقد المفهوم الكلاسيكيّ للوحي، ثم تأسيس مفهوم جديد له.

إنَّ مفهوم الوحي غير واضح عند أركون ويشوبه الغموض، ولذا سعى إلى نقله من دائرة المستحيل التفكير فيه إلى إمكانية التفكير فيه، من خلال تطبيق أدوات وآليّات غربيّة لتفكيكه ودراسته[2].

وهذا الأمر يتطلّب مراجعة شاملة لمفاهيم الوحي، من تقديس وهيبة وتعالٍ[3]، وضمن الإطار المعرفيّ لمناهج الحداثة الغربيّة[4].

(137)

إنَّ أركون عبّر أكثر من مرة عن عدم تجاوزه المنهج الاستشراقيّ على الرغم من اتّخاذه من مناهج علوم الإنسان منطلقًا لقراءته للنّصّ القرآنيّ، إذ يقول في هذا الصدد: «إنَّ التحرّي الأول الذي يفرض نفسه منهجيًّا وأبستمولوجيًّا ... هو التحرّي التأريخيّ الذي يمزج بين الأداة الفيلولوجيّة والألسنيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والسيميائيّة والانتولوجيّة والسوسيولوجيّة والأنثروبولوجيّة لفهم النواة الصلبة للاعتقاد الإسلاميّ وتفكيكها من الداخل[1]».

 فهو لا يستغني عن المنهج الفيلولوجيّ الاستشراقيّ في تفكيك ما يسمّيه النواة الصلبة للاعتقاد الإسلاميّ، ويقصد بالنواة الصلبة:

«إنَّ السياق الدوغمائيّ الذي انغلق داخله الخطاب الإسلاميّ المشترك، يمكن النّصّ عليه كما يأتي: يوجد إله واحد، حي، خالق، اتخذ الإنسان كخليفة له على الأرض، وقد تكلّم إلى البشر عدة مرات أو على مراحل متلاحقة، من خلال الأنبياء الذين اختارهم، وكانت آخر مرة تكلّم فيها إلى البشر من خلال محمد (أو الرسول محمّد). وقد استمع صحابة محمّد إلى هذا الكلام الموصل بكلّ تقوى وورع وحفظوه في ذاكرتهم ونقلوه ثم دوّنوه كتابة في مجموعة نصيّة دعوها بالمصحف التي تشكّل القرآن. والقرآن يعني كلّام الله المتلوّ شعائريًا والمقروء والمفسّر والمُعاش بصفته القانون الإلهيّ الأبديّ الذي لا يتغيّر ولا يتبدل ولا يمسّ والصالح لكلّ زمان ومكان ... هذا هو ملخّص الاعتقاد الإسلاميّ كثّفناه هنا بشكلّ حرفيّ إنَّه يمثّل النواة الصلبة للاعتقاد الإسلاميّ[2]». 

وبالإضافة إلى اعتماده على المناهج الغربيّة والاستشراقيّة، قام أركون بتوظيف نظريّة خلق القرآن للمعتزلة ليثبت وجود مستويين من الوحي: المتعالي والمتجسّد، ومن ثمَّ يُستفاد من النظريّة الاعتزاليّة لتفكيك مفهوم التعاليّ[3].

(138)
الخطوة الثانية: قام بنقد المبادئ التي وضعت لفهم ظاهرة الوحي القرآنيّ.

يعتقد أركون أنَّ من أسباب التخلّف التي تعانيه الأمّة الإسلاميّة، هي عدم مقدرتها على «إعادة التفكير جذريًّا بمسألة الأسس أو الأصول عن طريق تفكيك مجمل المبادئ والقيم[1]».

قام أركون بنقد فكرة عدّ النصّ القرآنيّ يمثّل خطابًا متعاليًا مقدّسًا[2]، وكذلك قام بنقد المبدأ الرافض لإخضاع الوحي للدراسة والتحليل[3].

الخطوة الثالثة: تقديم مفهوم جديد للوحي يخضع للمناهج الحديثة فـي العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة.

وأفاد أركون من المناهج الغربيّة لإثبات دعواه، فاستعان بالمنهج الألسنيّ ليؤكد الاختلاف بين الوحي كظاهرة وبين الوحي كمصحف.

وأفاد النقد التأريخيّ حيث حاول تقديم فهم أعمق بتحليل الوقائع في فترة نزوله.

وأفاد من معطيات التحليل الألسنيّ والسيميائيّ لفهم الخطاب القرآنيّ ويحاول فهم الوحي كمفهوم شامل في الأديان الثلاثة، والمقارنة بينهما.

قدّم مفاهيم عديدة للوحي منها: بأنّه «حدوث معنى جديد في الفضاء الداخليّ للإنسان، وهو معنى يفتح إمكانيات لا نهائيّة أو متواترة من المعاني بالنسبة إلى الوجود البشريّ[4]».

وهذا التعريف يلتقي مع الشبهة الاستشراقيّة حول الوحي (شبهة الوحي النفسيّ).

(139)

ثانيًا: ماهية الوحي عند نصر حامد أبو زيد

1. مفهوم الوحي

في المرحلة الأولى من حياته اعتبر أبو زيد الوحي نصًّا ثقافيًّا إلهيًّا له ارتباط بالواقع، بحيث يتأثر به ويؤثّر عليه، وفي المرحلة الثانيّة تبنّى رأيًا جديدًا بادّعائه أنَّ القرآن الكريم ليس من كلام الله تعالى[1].

انطلق أبو زيد في كلامه حول الوحي من أنَّ «مفهوم الوحي هو المفهوم المركزيّ للنّصّ عن ذاته حيث يشير إلى نفسه بهذا الاسم في كثير من المواضع، وإذا كان ثمة أسماء أخرى للنّصّ وردت بها الإشارة مثل القرآن والذكر والكتاب، فإنَّ اسم الوحي يمكن أنْ يستوعبها جميعًا بوصفه مفهومًا دالًّا في الثقافة سواء قبل تشكّل النّصّ أم بعد تشكّله[2]».

فحقيقة الوحي، هي كونه نصًّا تشكّل في الثقافة العربيّة، وهو بذلك يؤسّس لمنهج جديد في التعامل مع النّصّ القرآنيّ، ويعدّه ظاهرةً غير متعاليةٍ تشكّلت في الثقافة البشريّة، وتهدف إلى حل مشاكلّها.

ومن أجل بيان علاقة الوحي بالواقع انطلق من مفهوم الإعلام بقوله: «إنَّ الوحي علاقة اتصال بين طرفين تتضمَّن إعلامًا - رسالة - خفيًّا سريًّا[3]».

ويضيف أبو زيد: «وإذا كان الإعلام لا يتحقّق في أي عملية اتصال إلّا من خلال شفرة خاصة، فمن الضروري أن يكون مفهوم الشفرة متضمّنًا في مفهوم الوحي[4]».

 فالإعلام يحقّق الاتصال بشفرة مشتركة بين المرسل والمتلقِّي كطرفي لعملية الوحي، وهذا الاتصال لا يختلف عن عمليات الاتصال الأخرى، و «هذا المفهوم

(140)

للوحي يمكن أن نجده في الشعر وفي القرآن نفسه»[1]. والاختلاف يكمن في أن طرفي الاتصال في القرآن الكريم لا ينتميان إلى مرتبة وجوديّة واحدة كما هو الحال في الأنواع الأخرى من الاتصال.

فهو يحاول تجاوز التصوّر الإسلاميّ عن الوحي؛ لأنّه تصوّرٌ يعزل النّصّ عن سياق ظروفه الموضوعيّة والتأريخيّة بحيث يتباعد عن طبيعته الأصليّة بوصفه نصًّا لغويًّا ويحوّله إلى شيء له قداسته.

فــ «القرآن نصّ لغويّ بكلّ ما تعنيه اللغة من ارتباط بالزمان والمكان التأريخيّ والاجتماعيّ، وما هو خارج عن اللغة وسابق عليها لا يمتّ إلينا نحن البشر بصلة؛ أي: حديث الكلام الإلهيّ خارج اللغة من شأنه أن يجذبنا شئنا أم أَبينا إلى دائرة الخرافة أو الأسطورة[2]». 

فيغدو النّصّ القرآنيّ مجرد نصّ لغويّ أُنتج في سياق الثقافة التي تنتسب إليها لغته ولا يتأتّى فهمه أو تأويله إلا في هذا المجال الثقافيّ الخاصّ.

2. تجديد فهم الوحي عند أبو زيد

بعد أن بيّن أبو زيد ماهيّة الوحي القرآنيّ بكونه نصًّا لغويًّا، بدأ بمحاولة تجديد علوم القرآن الكريم انطلاقًا من العلاقة بين الوحي (أو النّصّ) القرآنيّ مع الواقع، وسعى إلى فهمها في إطار واحد هو علاقة النّصّ بالواقع.

أصرَّ على ضرورة تفسير القرآن الكريم بناءً على الظروف التأريخيّة التي نزل فيها أوّلًا، وهذا يعني في نظره أنَّ النّصّ الدينيّ (الوحي) يفقد قدرته على إنتاج الأحكام، لأنَّه ارتبط بتأريخ زائل.

ثالثاً: ماهية الوحي عند هشام جعيط

يقول: إنَّ كلّمة «وحي، موجودة عدّة مرات في القرآن لوصف ماهيّة الخطاب

(141)

القرآنيّ وعلاقة الله بالنبيّ محمد، والإلهامات الموجّهة إلى الأنبياء من قبله، ويبدو من القرآن أنَّ الوحي الإلهيّ إلى هؤلاء يجري بصفة داخليّة وبدون وعي كامل، أي: كتأثير نفسيّ[1]»، ونجد أنَّ هشام جعيط يلتقي مع شبهات المستشرقين القائلة بالوحي النفسيّ.

رابعاً. ماهية الوحي عند عبد المجيد الشرفيّ

يصف الوحي بأنّه: «مصدر علم النبيّ، أي: تلك الحالة الاستثنائيّة التي يغيب فيها الوعي، وتتعطّل الملكات المكتسبة، ليبرز المخزون المدفون في أعماق اللاوعي بقوة خارقة لا يقدر النبيّ على دفعها، ولا تتحكّم فيها إرداته[2]». وهو مشابه لآراء المستشرقين القائلين بالوحي النفسيّ، ولا سيّما شبهة مونتغمري وات.

خامساً: تعقيب نقديّ

تبيّن ممّا تقدّم في بيان مفهوم الوحي أنَّ أغلب المستشرقين وتبعهم كثيرٌ من الحداثيّين يقولون بـ (الوحي النفسيّ) وسيحاول البحث هنا تحليل هذه الشبهة ونقدها.

1. تحليل الشبهة

لخّصها (محمّد رشيد رضا) في كتابه الوحي المحمّديّ بقوله:

«خلاصة رأي الماديّين، أنَّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الموحى إليه لا من الخارج، ذلك  أنَّه منازع نفسه العالية، وسيرته الطاهرة، وقوة إيمانه بالله وبوجوب عبادته وترك ما سواها من عبادة وثنية، وتقاليد وراثية رديئة، يكون لها في جملتها من التأثير ما يتجلّى في ذهنه، ويحدث في عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحيّة، فيتصور ما يعتقد وجوبه إرشادًا إلهيًّا نازلًا عليه من السماء بدون واسطة، أو يتمثل له رجل يلقّنه ذلك يعتقد أنه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك، وإنما يسمع ما يعتقده في اليقظة، كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي  عند جميع الأنبياء، فكلّ ما يخبر به النبيّ من كلّام

(142)

أُلقِي في روعه، أو عن ملك ألقاه في سمعه، فهو خبر صادق عنده[1]».

 ويتابع محمّد رشيد رضا نقله عن الـمستشرقين قولهم: «نحن لا نشكّ في صدق مـحمّد فـي خبره عمّا رأى وسمع، وإنّما نقول: إنَّ منبع ذلك من نفسه، وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي يقال إنّه وراء عالم الـمـادة والطبــيعة الذي يعــرفه جـميع الناس، فــإنَّ هذا (الغيب) شيء لـم يثبت عندنا وجوده، كمـا أنَّه لـم يثبت عندنا ما ينفيه ويلحقه بالـمحال، وإنّما نفسّر الظواهر غير الـمعتادة بـمـا عرفنا وثبت  عندنا دون ما لـم يثبت[2]».

ويمكن القول إنَّ الأساس المشترك بين أغلب الحداثيّين وبعض المستشرقين والذي دعاهم إلى القول بالوحي النفسيّ هو منطلقاتهم الماديّة، التي تنكر الحقائق المتعالية وما وراء الطبيعة، وعبّر العلّامة الطباطبائي عن ذلك بقوله: (وما ذكره هؤلاء هو في الحقيقة تطوّر جديد فيما كان يذكره آخرون فقد كانوا يفسّرون جميع الحقائق المأثورة في الدين بالمادّة... ففسّروا البيانات الدينيّة بما أخرجوها عن مقاصدها البيّنة الواضحة، وطبّقوها على حقائق ماديّة ينالها الحس وتصدّقها التجربة مع أنَّها ليست بمقصودة، ولا البيانات اللفظيّة تنطبق على شيء منها)[3]

2. نقد شبهة الوحي النفسيّ
أ. إنَّ الدلائل التأريخيّة تناقض نظريّة الوحي النفسيّ[4]، لأسباب عدّة، أهمّها:

ـ إنَّ المقدّمات التي بنى عليها المستشرقون والحداثيّون نظريّتهم تستند إلى قضايا ليس لها مصدر تأريخيّ، فبعضها آراء متخيّلة، وبعضها دعاوى باطلة، وغير ذلك، وإذا بطلت المقدِّمات بطلت النتائج لها، ومن تلك الأمثلة: قصّة لقاء الراهب بحيرا مع النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، ومن الأمثلة الأخرى: أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سمع من نصارى الشام

(143)

خبر أنَّ الروم سيغلبون الفرس بعد بضع سنين، وهذا مردود بدلائل التأريخ والعقل، إذ أخبرنا التأريخ أنَّ دولة الروم كانت مختلّة ولا أحد كان يتوقع أن تعود لها الكرّة وتنتصر على الفرس.

ـ  أمّا من الجانب العقليّ، فإنَّ المستشرقين قدّموا لهذه الشبهة ما مضمونه أنَّ النبيّ يمتاز بالذكاء والفطنة، وعلى أساس قولهم هذا فلا يمكن عقلًا للنبيّ الأكرم -إذا كان الوحي من نفسه- أن يجزم بأنَّ الغلب سيعود للروم على الفرس في بضع سنين قليلة مع الحالة التي كان عليها الروم.

ـ لو كان النبيّ تلقّى عن علماء النصارى في الشام شيئًا لكان أولى بالمشركين أن يحاججوا النبيّ في نسبته الرسالة إلى الوحي الإلهيّ، وهم الذين عاصروا النبي وعرفوا أخبارة وسفراته، في حين أنَّ المشركين وقفوا موقف المتحيّر المتردّد من ذلك.

ـ لم يرد في الأخبار التأريخيّة أنَّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينتظر أن يُفاجأ بالوحي، أو يكون هو النبيّ المنتظر الذي تحدّث عنه علماء اليهود والنصارى قبل بعثته، ولو حصل ذلك لوجدناه مدوّنًا في كتب السيرة النبويّة.

ـ إنَّ نظريّة الوحي النفسيّ تفرض أنَّ إعلان النبوّة والنتيجة يأتي بعد مرحلة طويلة من المعاناة والتفكير وصولًا لمرحلة تكامليّة عقليّة ونفسيّة، وهذا يلزم منه أن ينطلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ اللحظة الأولى لإعلان دعوته إلى طرح مفاهيمه ونظريّاته عن جميع مفاصل الحياة، في حين أثبت لنا التأريخ أنَّ أسلوب الدعوة بدأ بالخوف والاضطراب.     

ب. موقف النبي من الظاهرة القرآنيّة يناقض نظريّة الوحي النفسيّ[1]

كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يدرك بشكل واضح الانفصال التام بين ذاته المتلقّية والذات الإلهيّة العليا، وقد صوّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الأمر للمسلمين، وقد انعكس هذا الشعور الواعي بالانفصال في الوحي، بين الذات الإلهيّة الآمرة المعطية والذات المحمّديّة

(144)

المخاطبة المتلقّية على الظاهرة القرآنيّة ونصوص القرآن الكريم، وكان له مظاهر عديدة نذكر منها الأشكال الآتية:

الشكل الأوّل: من يطالع بعض الآيات القرآنيّة يجد بعض الصور التي يبدو فيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلال الظاهرة القرآنيّة عبدًا ضعيفًا لله سبحانه وتعالى، إذ وقف بين يدي مولاه يستمدّ منه العون ويطلب منه المغفرة ويمتثل أوامره، ونواهيه، ويتلقّى منه العقاب بمختلف مراتبه وأشكاله، والأمثلة القرآنيّة على ذلك كثيرة، منها:

1. تصوير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صورة الإنسان المطيع الذي لا يملك لنفسه شيئاً، ويعترف بعجزه المطلق عن تبديل حرف من كتاب الله، ومن الآيات الدالّة على ذلك:  قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[1] وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ...)[2] ، وقوله تعالى: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ...)[3] ، والمتأمّل في هذه الآيات يلحظ الفرق بين الذات الإلهيّة الآمرة والذات المحمّديّة المتلقّية المطيعة.

2. ويزداد الفرق وضوحاً بين ذات الله المتكلم وذات النبي في آيات العتاب، أو في آيات يُعلِمه فيها بعفوه عنه وغفرانه، ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)[4]، أو في موضع آخر حين يقول: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)[5].

(145)

3. ويبدو لنا أيضًا: كامل الوعي للفرق بين ذاته المأمورة وذات الله الآمرة، وبوعيه الكامل هذا كان عليه‌السلام يفرّق بوضوح بين الوحي الذي ينزل عليه وبين أحاديثه الخاصّة التي كان يعبّر عنها بإلهام من الله، لذلك كان يتعامل مع القرآن بطريقة خاصّة، وما كان يجول في نفسه من خواطر وأفكار كان ذا صفة إنسانيّة محضة لا تختلط بالكلام الإلهيّ.

الشكل الثاني: يبدو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن الكريم بمظهر الخائف من ضياع بعض الآيات القرآنيّة ونسيانها، الأمر الذي كان يدعوه إلى أن يعجل بقراءة القرآن، قبل أن يقضى إليه وحيه ويأخذ بترديده ويجهد نفسه وفكره من أجل أن لا يفوته شيء من ذلك، ويتّضح هذا في قوله تعالى: (... وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[1]، ومن أجل ذلك يطمئنه سبحانه ويتعهد له بحفظه وجمعه: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)[2]، ولا يسعنا إزاء هذه الحقيقة إلا أن نعترف باستقلال ظاهرة الوحي عن ذات النبيّ استقلالًا مطلقًا، وتفرّدها عن العوامل النفسيّة تفرّدًا كاملًا، فالنبيّ لا يملك حتى استخدام ذاكرته في حفظ القرآن، بل الله سبحانه يتكفّل بتحفيظه إيّاه، وقانون التذكّر نفسه بطل الآن سحره وعفا أثره اتجاه إرادة الله، فكيف لا يعي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله -بعد هذا كله- الفرق العظيم بين ذاته المأمورة وذات الله الآمرة، وهو يرى بنفسه أنَّه لا يملك من أمر نفسه شيئًا؟!.

الشكل الثالث: يبدو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلال تأريخ نزول القرآن أنَّه كان مقتنعًا بأنَّ التنزيل القرآنيّ مصحوب بانمحاء إرادته الشخصيّة، وأنَّه منسلخ عن الطبيعة البشريّة حتى ما بقي له عليه الصلاة والسلام اختيار فيما ينزل إليه أو ينقطع عنه، فقد يتتابع الوحي ويحمي حتى يشعر أنَّه يكثر عليه، وقد يفتر عنه، بل وينقطع وهو يشعر أنَّه أحوج ما يكون إليه.

وحين نلتفت إلى هذه الأشكال الثلاثة بصورها المختلفة لا يبقى لدينا مجال لأيّ تردّد في شأن حقيقة الظاهرة القرآنيّة، وانفصالها عن الذات المحمّديّة، وبطلان نظريّة الوحي النفسيّ التي ردّدها المستشرقون وتبعهم الحداثيّون في ذلك. 

(146)

 

 

 

 

المبحث الثاني

أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ

لمباحث (المكّيّ والمدنيّ)

 

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: الرؤية الإسلاميّة للمكّيّ والمدنيّ

المطلب الثاني: الرؤية الاستشراقيّة للمكّيّ والمدنيّ

المطلب الثالث: الرؤية الحداثيّة لفهم ماهيّة المكّيّ والمدنيّ

والأثر الاستشراقيّ فيها

(147)

تمهيد

اهتمّ علماء المسلمين بمبحث المكّيّ والمدنيّ اهتمامًا شديدًا لما له من صلة كبيرة بعملية فهم النّصّ القرآنيّ وبيان دلالاته، وهذه الأهمية لم يغفل عنها المستشرقون والحداثيّون في محاولتهم لفهم النّصّ القرآنيّ.

وقد بذل العلماء جهودًا كبيرة في رصد الآيات المكيّة والمدنيّة؛ وذلك لأنَّ التمييز بين المكّيّ والمدنيّ له أهميّة كبيرة في التمييز بين دلالات النّصّ، ولذا لم تكن هذه التفرقة متعلّقة بظاهرة خارجيّة فقط تتمثّل بتتبّع مواقع النزول، بل لها ارتابط وثيق بدلالات النّصّ، وبخاصّة المعايير التي وضعوها للتفريق والمستمدّة من داخل النّصّ كقِصَرِ السورة ولغتها.

إنَّ لتحديد مكان نزول السورة وزمانها أثرًا كبيرًا في عمليّة فهم النّصّ القرآنيّ، وعدم التمييز بينهما قد يؤدّي لعدم فهم دلالة بعض النصوص القرآنيّة، وبخاصّة في الآيات المتعلقة بالتشريع والفقه، ومن هنا تتضح الغاية التفسيريّة من دراسة مباحث المكّي والمدنيّ.

(148)

المطلب الأوّل: الرؤية الإسلاميّة للمكيّ والمدنيّ

سيتتبّع البحث بنظرة إجمالية الجهد الذي بذله المفسرون في هذا الجانب، حيث قاموا برصد منازل الوحي، وهي كالآتي:

أوّلًا: الآراء في المكّيّ والمدنيّ

قسّم العلماء الآيات القرآنيّة إلى آيات مكّية وآيات مدنيّة،

وتوجد ثلاثة آراء في معيار تقسيم القرآن الكريم إلى مكّيّ ومدنيّ:

الرأي الأول: إنَّ المعيار هو المكان، فالآيات المكّيّة هي التي نزلت في مكّة، والآيات المدنيّة هي التي نزلت في المدينة.

الرأي الثاني: إنَّ المعيار هو المخاطَب، فالآيات التي فيها خطاب لأهل مكة فهي مكيّة، وما كان فيها خطاب لأهل المدينة فهي مدنيّة.

الرأي الثالث: إنَّ المعيار هو الزمان، وهو الاتّجاه السائد، فالآيات النازلة قبل الهجرة فهي مكيّة، والآيات النازلة بعد الهجرة فهي مدنيّة[1].

ولكلّ رأي من هذه الآراء مبرّراته وسبب ترجيحه على الرأيَين الآخرَين، والمشهور بين العلماء هو ترجيح الرأي الثالث، وذلك لأسباب عدّة، منها:

1. إنَّ الهجرة تمثّل الحدث الأبرز في تأريخ الرسالة، فالمكّيّ ما نزل قبلها وإنْ خوطب به أهل المدينة، أو نزل حواليها كالمُنزل بمنى وعرفات، والمدنيّ ما نزل بعد الهجرة وإنْ خوطب به أهل مكّة، أو نزل في حجة الوداع[2].

2. إنَّ تقسيم الآيات إلى مكيّة ومدنيّة بلحاظ التمييز الزمني له ثمرة فقهيّة، فهو يساعد على تمييز الناسخ والمنسوخ؛ لأن الناسخ متأخر بطبيعته عن المنسوخ زمانًا، وهذه النقطة مهمّة لمن يقول بالنسخ[3].  

(149)

ثانيًا: خصائص المكّيّ والمدنيّ[1]

حدّد العلماء خصائص وعلامات تميّز الآيات المكيّة من الآيات المدنيّة، وهي ليست علامات قطعيّة، وإنَّما هي استقرائيّة اجتهاديّة، ومن تلك الخصائص:  

 خصائص المكّيّ

قصر الآيات والسور.

الدعوة إلى أصول الإيمان بالله واليوم الآخر.

السور التي فيها سجدة.

فيها عبارة (يا أيها الناس).

فيها قصة آدم وإبليس.

مجادلة المشركين.

كثرة القسم.

الدعوة إلى التمسّك بالأخلاق.

خصائص المدنيّ

طول السور والآيات.

مجادلة أهل الكتاب.

ذكر المنافقين.

ذكر الأحكام والتشريعات.

تفصيل البراهين الدالة على الحقائق الدينيّة[2].

(150)

المطلب الثاني: الرؤية الاستشراقيّة للمكّيّ والمدنيّ

اختلف المستشرقون في الأساس الذي جرى على أساسه تقسيم القرآن الكريم إلى مكّيّ ومدنيّ، وأهم محاولة في ترتيب سور القرآن بحسب نزولها قام بها المستشرق الألمانيّ نولدكه، فهو لم يقم بتقسيم سور القرآن إلى قسم مكّيّ وقسم مدنيّ، بل قام نولدكه بابتكار تقسيم جديد للقرآن الكريم؛ إذ قام (بتقسيم السور القرآنيّة نسبة للمكان إلى مكيّة ومدنيّة، ولمضمونها إلى مجموعات داخل هذا التقسيم، فجعل من المكّيّ ينقسم على ثلاثة أقسام، ولكلّ قسم منها مميّزاته وأمّا العهد المدنيّ فهو قسم واحد قائم بذاته)[1]، وتفصيل هذه المراحل كالآتي[2]:

المرحلة الأولى: تبدأ بنزول القرآن وحتى السنة الخامسة من البعثة، وتميّز هذا الأسلوب بطابع الحماسة، وغموض المعنى، وقصر الآيات، مع تنويع شعريّ[3].

المرحلة الثانية: في السنتين الخامسة والسادسة من البعثة، وامتازت هذه المرحلة بالهدوء الكبير، ويعلّل نولدكه ذلك بأنَّ الرسول أراد إبعاد أكذوبة أنَّه شاعر أو ساحر[4].

المرحلة الثالثة: تبدأ من السنة السابعة وحتى هجرة النبيّ، يرى نولدكه أنَّ هذه المرحلة اختلفت عن المرحلتين السابقتين، ككثرة الإطناب وقلَّة القصص، وطول الآيات مقارنة بالسابق[5].

المرحلة الرابعة: تشمل كلّ السور المدنيّة، بيّن نولدكه في هذه المرحلة أنَّ الطابع

(151)

العام للسور المدنيّة كان طول السور، وكثرة التشريعات، وتطوّر في اللغة، مع قوة في المفردات[1].

واعتمد نولدكه في تقسيمه على عاملين: خارجيّ وداخليّ، أمّا الـخارجيّ فهو يعتمد الروايات التأريخيّة وكتب أسباب النزول، وأمّا الداخليّ فهو النظر في الأسلوب القرآنيّ، والألفاظ الواردة في القرآن الكريم[2].

وقد أيّد كثير من المستشرقين هذا التقسيم الذي قام به نولدكه، يقول المستشرق (مونتغمري وات): «وقد قبل الباحثون الغربيّون هذا التقسيم الذي قدّمه نولدكه بشكل عام واعتبروه دليلًا لدراستهم[3]»، وعدَّ المستشرق كانون سيل تقسيم نولدكه الأفضل في هذه المجال[4]، أمّا المستشرق جولدتسهير فلم يبتعد كثيرًا عن تقسيم نولدكه، إذ تبنّاه مع قليل من الاختلاف[5].

أمّا المستشرق رودنسون فلم يأخذ بتقسيم نولدكه، (ولم يقم بالتقسيم الزماني والمكانيّ والموضوعي، غير أنه أشار في سياق الحديث عن خصائص القرآن المكّيّ الذي يمتاز –حسب رأيه- بأسلوب من النثر لم يكن معهودًا لدى العرب قبل الإسلام... وحينما يتعرض إلى سيرة النبي بعد الهجرة يشير إلى خصائص القرآن في هذه المرحلة التي يصفها إجمالًا بأنَّها انعكاس جلي لحياة الرسول في موطنه الجديد)[6].

وعلى الرغم من اختلاف معيار التقسيم بين المستشرقين إلا أنَّهم اتّخذوا من مبحث المكّيّ والمدنيّ وسيلة للقول ببشريّة القرآن، ذلك بأنَّ القرآن –بحسب زعمهم- صنعه الواقع والأحداث التي حصلت في ذلك الزمن.   

(152)

المطلب الثالث: الرؤية الحداثيّة لفهم ماهيّة المكّيّ والمدنيّ والأثر الاستشراقيّ فيها

أوّلًا: نصر حامد أبو زيد

يرى أبو زيد أنَّ «التفرقة بين المكّيّ والمدنيّ في النّصّ تفرقة بين مرحلتين هامتين ساهمتا في تشكيل النّصّ، سواء على مستوى المضمون أم على مستوى التركيب والبناء، وليس لذلك من دلالة سوى أنَّ النصّ ثمرة للتفاعل مع الواقع الحي التأريخيّ[1]».

وفي إطار معيار التصنيف بين المكّيّ والمدنيّ، يبدأ أبو زيد كلامه بإشكاليّة يسجّلها على المعايير التي وضعها العلماء كونها لا تعطي اعتبارًا لأثر ذلك في النصّ من حيث المضمون أو من حيث الشكل.

 ثمَّ يضع أبو زيد معيارًا مزدوجًا (يستند للواقع من جهة، وإلى النّصّ من جهة أخرى، إلى الواقع من حيث إنَّ حركة النّصّ ارتبطت بحركته، وإلى النّصّ من حيث مضمونه وبنائه)[2].

   وبحسب كلام أبي زيد، فإذا تأملنا الواقع نجد أنَّ مرحلة الهجرة لم تكن مجرد انتقال، بل هي مرحلة تجاوز للواقع القديم وتأسيس لمجتمع جديد[3]، ويرى أنَّ الواقع يتدخّل في عمليّة تشكلّ النصّ، وعلى هذا الأساس فرّق أبو زيد بين ما أسماه نصّ الإنذار ونصّ الرسالة، أي: بين ما هو مكّيّ وما هو مدنيّ بلحاظ الواقع.

هذا الرأي الذي اختاره أبو زيد نجده بوضوح في أقوال المستشرقين، وبالتحديد المستشرق الألماني نولدكه، إذ قام نولدكه بالنظر إلى الواقع كأساس في تقسيم السور القرآنيّة إلى مكّيّة ومدنيّة.

(153)

قام نولدكه بالنظر للواقع وميّز بين دور النبيّ ;في مكة، ودوره في المدينة، يقول نولدكه: «ففي مكّة أدّى محمّد دور النبيّ الذي لم يحسد عليه كثيرًا إذ لم يتبعه إلّا قليل من الناس معظمهم من الطبقة الاجتماعيّة الدنيا ... وها هو يصبح دفعة واحدة بواسطة الهجرة رجل دين مرموقًا وقائدًا عالميًّا بكيان كبير[1]».

نقد كلام (نصر حامد أبو زيد) و (تيودور نولدكه)

إنَّ كلام أبي زيد ومن قبله نولدكه بأنَّ الواقع يتدخّل في عمليّة تشكّل النصّ، وأنَّ الفروق بين المكّيّ والمدنيّ تدعو إلى الاعتقاد بأنَّ القرآن خضع لظروف بشريّة أثّرت على أسلوب القرآن وطريقة عرضه، تمّ «وفق معطيات منهجيّة تمثّلت بالمنهج الوضعيّ الذي اتّبعه أغلب المستشرقين في دراسة القرآن الكريم ...وقادهم إلى القول ببشريّة القرآن ... أي أنّه من تأليف محمد ; وأنَّ النّصّ القرآنيّ قد صنعته الأحداث والوقائع[2]»، وهم يسعون بذلك لإثبات تأريخيّة القرآن الكريم، ويرد عليهم: بأمرين[3]:

1. يجب التفريق بين فكرة تأثّر القرآن الكريم بالظروف الموضوعيّة كالبيئة وغيرها، وبين فكرة مراعاة القرآن الكريم  لهذه الظروف بقصد التأثير فيها، والإفادة منها في نشر الدعوة الإسلاميّة، والاعتقاد بالفكرة الأولى يؤدّي إلى القول ببشريّة القرآن، إذ تفرض أنَّ القرآن يتأثّر بالبيئة التي نزل بها كما يؤثّر فيها، في حين أنَّ الفكرة الثانية لا تعني بشريّة القرآن، إذ إنَّ النصّ القرآنيّ يهدف إلى التغيير، ولتحقيق الهدف والغاية ينبغي مراعاة الأسلوب القرآنيّ أو المادة المعروضة فيه.

2. إنَّ هذه الشبهة وغيرها من الشبهات التي أُثيرت حول المكي والمدني هي بالحقيقة تستند على أساس أنَّ القرآن الكريم نتاج بشريّ، ومن ثمَّ فهي ترتبط موضوعيًّا بمبحث الوحي، وقد تقدّم الكلام في نقد شبهة الوحي النفسيّ.

(154)

3. ذهب أبو زيد إلى أنَّ المعيار الأسلوبي هو الأساس في التقسيم إلى مكّي ومدنيّ، في حين نجد أنَّ أسلوب الآيات المدنية في بعض الآيات المكّيّة وبالعكس[1].        

ثانيًا: طيّب تيزيني

أضاف طيّب تيزيني رأيًا آخر مكمّلًا لرأي أبي زيد، إذ ادّعى وجود تناقض بين الآيات في المرحلة الواحدة.

يقول تيزينيّ: «إذ كيف سيكون الموقف حين نتبيّن أنَّه في المرحلة الواحدة توجد آيات متناقضة متعارضة تناقضًا وتعارضًا لا يمكن التشكيك فيهما من قبل من امتلك حدًّا ضروريًّا في الفهم اللغويّ العربيّ؟ بل كيف سيكون الموقف حين نواجه في السورة الواحدة بل في الآيتين المتتاليتين نصّين متناقضين[2]».

هذا الرأي لتيزيني وأبي زيد، سبقهما إليه المستشرق جولد تسيهر بقوله: «من العسير أن نستخلص من القرآن نفسه مذهبًا عقيديًّا موحّدًا متجانسًا وخاليًا من التناقضات، ولم يصلنا من المعارف الدينيّة الأكثر أهميّةً وخطرًا إلّا آثار عامّة نجد بينها إذا بحثناها في تفاصيلها أحيانًا تعاليم متناقضة[3]».

  وورد في الموسوعة البريطانية: «يصعب جدًّا تصنيف محتويات القرآن، حيث إنَّه إذا صُنّفت محتوياته حسب الفترة الزمنيّة فإنَّ هذا يؤدّي إلى تناقض، حيث إنَّ الموضوع المعالج لبعض المواد يختلف باختلاف الفترة الزمنيّة[4]».

وذكر تيزينيّ نماذج تطبيقيّة لآيات من مرحلة واحدة يرى أنّها متناقضة، من ذلك[5]:

(155)
النموذج الأول: الآيتان من نفس المرحلة (مكّيّتان)

 قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا)[1]، فالآية تنفي حريّة الإنسان في الاختيار.

أمّا في قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)[2]، فالآية تثبت حرية الإنسان في الاختيار. فهنا تناقض من نفس المرحلة بحسب رأي طيب تيزيني[3].

هذا القول بالتعارض نجده قد ورد بكثرة في مقولات المستشرقين، وورد في الموسوعة البريطانية «إنَّ مصير الإنسان كلّه بيد خالقه، كما أنّ إيمانه وكفره يعتمدان على إرادة خالقه، فالآية تقول: إنَّهم لا يؤمنون إلا إذا شاء الله، كما أنه ليس هناك حرية الإرادة للإنسان، ولا يُلام الرسول على كفرهم، لأنَّ الأمر كلّه سيعود إلى خالقهم الذي قدّر لهم أزليًّا إلا أنَّ هنالك بعض الآيات التي تركت للإنسان بعض الحريّة أنْ يستمع لما يقوله النبيّ وهو بعدها يقوم باختيار طريق الحقّ أو الضلال، فدور محمد كنذير لهم قد أُكد في الآيات[4]».

نقد شبهة التعارض بين الآيتين:

1. عند النّظر في النموذج الأوّل الذي ذكره طيّب تيزينيّ، وسبقه إليه المستشرقون نجد أنَّ الكلام بوجود تعارض بين الآيات المذكورة راجع إلى إشكاليّة عقائديّة غاص فيها علماء الكلام والفلسفة، وهذه الإشكاليّة تتعلّق بمسألة حريّة اختيار الإنسان، فالأشاعرة قالوا بالجبر وأنَّ الإنسان مسلوب الاختيار، في حين قال المعتزلة بالتفويض، أمّا الإماميّة فطرحوا مذهب الأمر بين الأمرين دفعًا لبطلان

(156)

البعث والتكليف عند القول بالجبر، وما يلزم من القول بالتفويض الثنوية والشرك، وهذا المذهب حثّ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام شيعتهم على اتّباعه، لئلّا يقعوا فيما وقع فيه الآخرون.

   وعلى أساس مذهب الأمر بين الأمرين يمكن حلّ التعارض الذي ادّعاه طيّب تيزينيّ والمتعلّق بهداية الإنسان، وتحليل كلامه أنَّه يرى في الآية الأولى أنَّ الهداية والضلال من الله تعالى ولا اختيار للإنسان، في حين أنّ الآية الثانية تثبت حرية الاختيار للإنسان، وهنا تعارض بحسب زعمه.

ويُردّ السيد الطباطبائيّ على هذا المدّعى بنقاط عدّة[1]، نلخّصها في نقطتين:

إنَّ الآية الكريمة بصدد بيان حقيقة الهدى والضلال اللذين من الله، ونوع تعريف لهما وتحديد، لا في مقام بيان انحصارها فيه وانتفائهما عن غيره، فهي في بيان ما يصنع الله بعبده إذا أراد الله هدايته أو ضلاله وأما أنَّ كل هداية أو ضلالة فهي من الله تعالى دون غيره فذلك أمر أجنبيّ عن غرض الآية.

إنَّ انتساب الشيء إلى الله تعالى من جهة خلقه أسباب وجوده ومقدماته لا يوجب انتفاء نسبته إلى غيره تعالى وإلّا أوجب ذلك بطلان قانون العليّة العام، وببطلانه يبطل القضاء العقليّ من رأس، فمن الممكن أن تستند الهداية والضلال إلى غيره تعالى استنادًا حقيقيًّا في حين أنّهما يستندان إليه تعالى استنادًا حقيقيًّا من غير تناقض.

وممّا تقدّم من بيان عدم سلب دلالة قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا)[2]، لحريّة الإنسان واختياره يرتفع التعارض بينها وبين قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) [3].

(157)
النموذج الثاني: الآيتان من نفس المرحلة (مدنيّتان)

قوله تعالى: (إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا) [1]، فالآية هنا تشير إلى مشيئة الإنسان وحرّيته.

أمّا في قوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)[2]، فالآية تشير إلى أن مشيئة الإنسان مشروطة بمشيئة الله، وهنا تناقض أيضًا بحسب رأي تيزيني[3].

نقد شبهة التعارض بين الآيتين:

يقول الشيخ الطوسي في تفسيره لقوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ  إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)[4]:

 (وليس المراد أن يشاء كل ما يشاؤه العبد من المعاصي والمباحات، لأنَّ الحكيم لا يجوز أن يريد القبائح ولا المباح، لأنَّ ذلك صفة نقص ويتعالى الله عن ذلك. وقد قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[5] والمعصية والكفر من أعظم العسر فكيف يكون الله تعالى مشيئًا له وهل ذلك إلا تناقض ظاهر)[6].

وبهذا يرتفع التعارض بين الآيتين.

(158)

 

 

 

 

المبحث الثالث

أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ

لمباحث (جمع القُرآن وتدوينه)

 

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: الآراء الإسلاميّة والاستشراقيّة فـي مسـألة

 جمع القُـرآن وتـدوينه

المطلب الثاني: الرؤية الحداثيّة في مسألة جمع القرآن وتدوينه

المطلب الثالث: الأثر الاستشراقيّ في الفهم الحداثيّ

لجمع القُرآن وتدوينه

 

(159)

تمهيد

تعدّ قضيّة جمع القرآن وتدوينه من القضايا التي كانت محطّ الاهتمام قديمًا وحديثًا، عند المسلمين والمستشرقين والحداثيّين.

يُسلَّط الضوء في هذا المبحث على طبيعة الفهم الحداثيّ لهذه القضية، وما لها من تأثير كبير في عمليّة فهم النّصّ القرآنيّ وبيان الأثر الاستشراقيّ في فهم الحداثيّين لها، وقبل ذلك يُبيّن المقصود من (جمع القرآن)، مع الإشارة إلى أبرز الآراء الإسلاميّة والاستشراقيّة لهذا المفهوم.

(160)

المطلب الأوّل: الآراء الإسلاميّة والاستشراقيّة في مسألة جمع القُرآن وتدوينه

أوّلًا: معنى جمع القرآن وتدوينه

عبّر الراغب الأصفهانيّ عن الجمع بأنّه «ضمّ الشيء بتقريب بعضه من بعض، يُقال: جمعته فاجتمع[1]».

وأمّا فيما يتعلّق بجمع القرآن الكريم، فالمقصود ضمّ آياته إلى بعضها.

أمّا التدوين لغة: فهو «مشتق من الديوان وهو مجتمع الصحف[2]».

وفي الاصطلاح، لعبارة جمع القرآن معنيان[3]:

الأوّل: جمعه في الأذهان، وحفظه في الصدور عن ظهر قلب، واستيعاب جميع آياته، وكانوا يطلقون على حفظة القرآن جُمّاع القرآن.

الثّاني: المراد بجمع القرآن: تدوينه، وكتابته وتسجيله في أوراق بشكل كامل.

وعند ذكر الباحثين لكلمة جمع القرآن، فإنّ المعنى المراد منه هو الثاني لا الأوّل.

ثانيًا: الآراء في جمع القرآن

في قضيّة جمع القرآن رؤيتان[4]:

الأولى: إنَّ القرآن لم يجمع في عهد النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، بل تتحقَّقت عمليّة الجمع في عهد الخلفاء. وهذه الرؤية تبنّتها مدرسة الخلافة، وهي المشهورة عند أتباع تلك المدرسة[5] واستندوا إلى روايات كثيرة نجدها في كتبهم الحديثيّة[6].

(161)

وسار على هذا الرأي أغلب المستشرقين، أبرزهم المستشرق الألمانيّ تيودور نولدكه في كتابه (تأريخ القرآن) والمستشرق المجريّ جولدتسهر في كتابه (مذاهب التفسير الإسلاميّ)، والمستشرق الفرنسيّ بلاشير في كتابه (القرآن نزوله تدوينه جمعه وتأثيره)، والمستشرق الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (حضارة الإسلام)، وقد استندوا في قولهم على الروايات الموجودة في كتب الصحاح.

الثانية: إنَّ القرآن جُمع في عهد النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، وهذه الرؤية تبنّتها ودافعت عنها مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام وأتباعهم[1].

ومن المستشرقين القائلين بهذ الرأي المستشرق البريطانيّ جان بورتن في كتابه (جمع القرآن)[2] ، وانتهى في آخر الكتاب إلى القول بأنَّ القرآن الذي هو موجود بين أيدينا هو مصحف النبيّ محمد الذي جمعه قبل وفاته[3].  

 وقام علماء مدرسة أهل البيت بتصحيح تلك الفكرة الخاطئة عن جمع القرآن، مستدلّين بأدلة عديدة[4].

لقد تعدّدت المصادر التي اعتمد عليها المستشرقون للقول بجمع القرآن بعد وفاة النبيّ الأكرم، وكان المصدر الأساس المعتمد عندهم هو الروايات الإسلاميّة وما تحمله من الغثّ والسمين.

ثالثًا: الآراء في تدوين القرآن الكريم

إنَّ لموضوع التدوين علاقة وثيقة بموضوع جمع القرآن، ولذا نجد بعض المستشرقين بحثها مع جمع القرآن، وأبرز الآراء التي قيلت في التدوين:

(162)

يقول المستشرق الفرنسي بلاشير:

«لا شكّ أنَّ مفهوم النّصّ المكتوب كان حاضرًا في أذهان المهتدين المكّيّين الأُول الذين لم يتجاوز عددهم المائة إبان الهجرة سنة 622م، ولقد أمدّهم بذلك المفهوم ما كانوا يعرفون من التوراة التي كانت بين أيدي المسيحيّين واليهود في المدينة، أو أناجيل نصارى نجران والحبشة الذين كانوا على علاقات تجاريّة بهم، ومع ذلك فإنَّ أنصار محمد لم يشعروا بضرورة تدوين الرسالة الجديدة[1]».

وذهب إلى الرأي نفسه المستشرق الألمانيّ كارل بروكلمان[2] والمستشرق كانون سيل[3].

وممّن يقول بتدوين القرآن في زمن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله المستشرق الفرنسي موريس بوكاي، إذ يرى أنَّ «من غير المعقول أن يشير القرآن إلى أمور لا تتفق مع الواقع، على حين يمكن التحقق منها لدى كتبة النّصّ من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، وهناك أربع سور تشير إلى تسجيل القرآن قبل أن يغادر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة عام 622م»[4].

وممّن قال بالتدوين في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المستشرق الفرنسيّ جاك بيرك، والمستشرق بودلي[5].

أمّا الحداثيّون فأغلبهم يميلون للرؤية الأولى القائلة: بأنَّ القرآن جُمِعَ ودُوِّنَ بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيأتي تفصيل رؤيتهم في المطلب القادم.

المطلب الثاني: الرؤية الحداثيّة لمسألة جمع القرآن وتدوينه

أوّلًا: التفريق بين الشفويّ والمكتوب

أولى خطوات الحداثيّين التمييز بين المرحلة الشفويّة والمرحلة الكتابيّة؛ لأنَّ

(163)

عملية الانتقال بين المرحلتين تستوجب إحداث تغيير في النّصّ القرآنيّ[1].

واستند الحداثيون في التفريق بين المرحلتين على القول بأنَّ القرآن لا يعني الكتابة، ولم تكن هناك إرادة لأنْ يكون القرآن كتابًا مدوّنًا[2]، وعلى هذا الأساس فإنَّ القرآن الحقيقيّ هو الخطاب القرآنيّ الشفويّ وليس النّصّ المدوّن[3].

وفرّق أركون بين القرآن والمصحف بقوله: «قلت: المصحف، ولم أقل: القرآن، لأنّه يدلّ على الشيء الماديّ الذي نمسكه بأيدينا يوميًّا، ولأنَّه يقابل التوراة والإنجيل بالضبط، فهو كتاب مؤلّف من صفحات سُجّل فيها الخطاب القرآنيّ بالخط المعروف[4]».

ويؤّكد الشرفيّ على ما تقدّم بخصوص لفظ القرآن بقوله: «لا يصحّ أنْ يطلق حقيقة إلا على الرسالة الشفويّة التي بلغها الرسول إلى الجماعة التي عاصرته. أمّا ما جمع بعد وفاته في ترتيب مخصوص ودوّن بين دفتين، فمن المعروف أنَّ الصحابة أنفسهم لم يكونوا في البداية متّفقين حول مشروعيّة هذا الجمع الذي لم يقم به النبيّ ولم يأمر به»[5].

وحاول أركون المقارنة بين الكتب السماويّة التوارة والإنجيل والقرآن، بقوله:

«إنَّ عمليّة الانتقال من مرحلة الخطاب الشفهيّ إلى مرحلة الخطاب المكتوب، لم تتم إلا بعد حصول الكثير من عمليات الحذف والانتخاب والتلاعبات اللغويّة التي تحصل دائمًا في مثل هذه الحالات، فليس كلّ خطاب شفويّ يدوّن، وإنَّما

(164)

هناك أشياء تفقد أثناء الطريق؛ وذلك لأن عمليّة الجمع تمّت في ظروف حامية من الصراع على السلطة والمشروعية»[1].  

وفي هذا الصدد يؤكِّد هشام جعيط على «أنَّ القرآن بذاته لم يكن مكتوبًا، بل هو أثر شفويّ، وأراد لنفسه ذلك، وعاب على اليهود أنَّهم يخطّون الكتاب بأيديهم، والمفترض أنَّ التوراة أثر شفويّ[2]»، والذي نفهمه من النّصّ المتقدم أنَّ أركون يقول: بتحريف القرآن بدلالة ما وقع من اليهود.

أمّا موقف طيب تيزيني فهو كغيره من الحداثيّين يقول: «إنَّ القرآن والحديث لم يكونا منذ البدء نصّين مكتوبين، بل مرّ كلّاهما بمرحلة القول اللفظيّ المتداول شفهيًّا عن طريق العنعنة، وهذا يعني أنَّهما خضعا لعمليّة نقل من حالة الخطاب الحرّ المرسل إلى حالة الخطاب المنصّص الـمُفقَّه المكتوب[3]».

ثانيًا: تدوين القرآن

يتّضح من النصوص السابقة أنَّ أركون اعتمد على مجموعة مسلّمات عند تعرّضه لقضيّة التدوين، منها: وجود تحريف في ظل الواقع الذي رافق عمليّة التدوين، ومنها: تأكيده على وجود مسافة زمنيّة بين التنزيل والتدوين.

ويمكن أنّ نلخّص كلام أركون عن هذه المرحلة التي مرّ بها القرآن بقوله: «هو عبارة عن مجموعة من العبارات الشفهية في البداية، ولكنّها دوّنت كتابة ضمن ظروف تأريخيّة لم توضّح حتى الآن ولم يكشف عنها النقاب، ثم رفعت هذه المدونة إلى مستوى الكتاب المقدّس بواسطة العمل الجبّار والمتواصل لأجيال من الفاعلين التأريخيّين، واعتبر هذا الكتاب بمثابة الحافظ للكلام الإلهيّ المتعالي لله والذي يشكّل المرجعيّة المطلقة والإجباريّة التي ينبغي أن تتقيّد بها كلّ أعمال المؤمنين وتصرّفاتهم وأفكارهم[4]». 

(165)

ويرى طيّب تيزينيّ أنَّ عمليّة جمع القرآن بدأت بعد وفاة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ببضع سنين، وواجهت عمليّة الجمع ظروفًا صعبة بسبب الأوضاع السياسيّة آنذاك[1].

المطلب الثّالث: الأثر الاستشراقيّ في الفهم الحداثيّ لجمع القُرآن وتدوينه

إنَّ مسألة بحث الحداثيّين لحقيقة القرآن بين الشفاهيّة والكتابيّة، يمكن أن نلمس فيها هاجسًا استشراقيًّا بدأه المستشرق الألمانيّ نولدكه في كتابه (تأريخ القرآن)، وأفاد منه المستشرقون من منطلق البحث الفيلولوجيّ، وعلى الرغم من تأكيد أركون علـى قصور المنهج الفيلولوجيّ الاستشراقيّ إلا أنَّه أفاد منه فـي عملية التدوين، خاصّة ما تعلّق بصحة المصحف.  

تبيّن فيما سبق أنّ أركون حاول التفريق بين القرآن الشفهيّ وبين القرآن المكتوب بعد عمليّة التدوين.

ومعالجة أركون لعمليّة التدوين «تردّدت بين المستوى الفيلولوجيّ لنقد المصحف أو سلامة الشرط التوثيقيّ للقرآن وبين البعد الأنثروبولوجيّ لعمليّة التدوين باعتبارها انتقالًا من الشفاهيّة بشرطها اللغويّ التواصليّ إلى الكتابة بشرطها اللغويّ الرسميّ[2]».

وأفاد أركون من التحليل الفيلولوجيّ من خلال إثارة الشكّ بعملية التدوين، وإنكار الروايات الإسلاميّة عن تدوين القرآن.

يقول أركون: «إنَّ القرآن مدوّنة منتهية ومفتوحة على معانٍ باللغة العربيّة لا نستطيع الوصول إليها إلّا عبر النّصّ المثبت تدوينًا بعد القرن الرابع الهجريّ/ العاشر الميلاديّ، ويصرّ هذا التحديد على الانتقال من الكلام إلـى النّصّ ويلفت الانتباه إلـى الشكلّ الـمتوارث الذي أدّى إلـى نشوء الفكر العربـيّ الإسلاميّ[3]».

(166)

وقوله: «تلك النسخة الرسميّة التي تشكّلت في ظل الخليفة عثمان، والتي ثبُتت نهائيًّا بعد القرن الرابع الهجريّ، العاشر الميلاديّ[1]».

ويمكن أنْ نجد الأثر الاستشراقيّ في كلام أركون من خلال ما كتبه المستشرق الفرنسيّ بلاشير، إذ يقول المستشرق الفرنسيّ: «هكذا صار مقبولًا لدينا أن نتكلّم عن نصّ قانونيّ للمصحف كان قد وضع، واعتمد نهائيًّا في منتصف القرن العاشر[2]».

ويضيف بلاشير في موضع آخر: «إنَّ هذا التدوين كان جزئيًّا ومثارًا للاختلاف، كما كان متخلّفًا على الأخصّ بسبب عدم ثبات المواد والطرائق المستعملة لذلك التدوين[3]».

وهو ما أخذه عنه أركون بقوله: «صحيح أنَّ النبيّ كان قد أمر بتدوين بعض الآيات[4]».

تعقيب نقديّ

أوّلًا: إنَّ أركون لم يبتعد عن إثارات المستشرقين وشكوكهم حول عمليّة التدوين، ومنهجهم الفيلولوجيّ، ولم يبحث بصورةٍ تحليليّةٍ علميّةٍ هذا الموضوع، ولم يستند إلى مناهج العلوم الإنسانيّة، ولم يبحث قضيّة التدوين في إطار مشروعه الذي أسماه الإسلاميّات التطبيقيّة، وهو المشروع الذي طرحه كبديل عن الإسلاميّات الكلاسيكيّة (مناهج المستشرقين)، بل اعتمد على النتيجة التي توصّل إليها المستشرق بلاشير.

ثانيًا: إنَّ هذه الشبهة التي طرحها بعض المستشرقين والحداثيّين مستندة على روايات العامّة، ولم يأخذوا بروايات الشيعة الإماميّة التي قدّمت رؤيةً عن الجمع في عهد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذا كان أسلوب أغلب المستشرقين في فهم عمليّة جمع القرآن وتدوينه أحاديًّا من خلال الاعتماد على نصوص إسلاميّة

(167)

معيّنة، وانتقائيًّا من خلال توظيف الروايات التي تنفعهم في بحثهم، وتنسجم مع أهدافهم، وبخاصّة الروايات الكاذبة والمدسوسة، ليلزم من ذلك القول بتحريف القرآن؛ إذ استند أغلب المستشرقين إلى «الرأي المشهور عند الجمهور، والتي رويت في كتبهم الحديثيّة من قبل الحشوية لا إلى الروايات الموجودة في كتب الشيعة الإماميّة... فالمستشرقون حين يتساءلون أو يشكّكون في بعض تلك النصوص والأقوال، إنما مستندهم هو تلك الروايات الموجودة في كتب الآخرين والمخالفة للعقل والفطرة والتي يدركها كل باحث[1]»، وهذا ليس دفاعًا عن المستشرقين، بل هو بيان لأسلوب خاطئ تمثّل في انتقاء بعض الروايات التي تنفعهم في جمع القرآن، والجانب العلميّ يحتّم جمع كل الروايات الإسلاميّة في هذا المجال ثم الإحاطة العلميّة التامّة بها، وترجيح ما هو موافق للعقل والفطرة السليمة.

وقدّم السيد الخوئيّ ردودًا علميّة نقديّة على روايات العامّة، ملخّصها[2]:

إنَّ تلك الروايات التي تنصّ على أنَّ الجمع لم يتمّ في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله متناقضة فيما بينها؛ إذ تشير بعضها إلى أنَّ كلّ مجموعة منها إلى أنَّ الجمع تمّ في مرحلة معيّنة وبطريقة مختلفة، فهي ليست متفقة على معنًى واحد وطريقة واحدة، فكيف يمكن الاعتماد عليها والأخذ بدلالتها؟!

إنَّ هذه الروايات معارضة لروايات أخرى وردت في كتب العامّة تنصّ على أنَّ القرآن جمع في عهد النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنَّها معارضة بالكتاب؛ إذ إنَّ كثيرًا من الآيات دلّت على أنَّ سور القرآن وآياته كانت متميّزة في الخارج بعضها عن بعض، وأنَّ النبيّ تحدّى الكفار والمشركين على الإتيان بمثل القرآن، ومعنى هذا أنَّ سور القرآن كانت في متناول أيديهم.

مخالفة هذه الأحاديث لحكم العقل، وبيان ذلك أنَّ عظمة القرآن في نفسه واهتمام النبي والمسلمين بحفظه وقراءته ينافي الجمع المذكور في تلك الروايات، فإنَّ في

(168)

القرآن جهات عديدة كل واحدة منها تكفي لأن يكون القرآن موضوع عناية المسلمين، منها: بلاغته، وإظهار النبيّ رغبته بحفظ القرآن، وإنّ حفظ القرآن كان سببًا لارتفاع شأن الحافظ بين الناس، وكذلك الأجر والثواب الذي يستحقه الحافظ، وهذه العوامل وغيرها شكّلت باعثًا قويًّا على حفظ القرآن الكريم، ومع هذا الاهتمام كيف يمكن القول بأنَّ جمع القرآن الكريم قد تأخّر إلى زمن بعد النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

(169)
(170)

 

 

 

 

المبحث الرابع

أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ لمباحث (النّسخ)

 

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: مفهوم النّسخ عند المسلمين

المطلب الثاني: النسخ في الفهم الاستشراقيّ

المطلب الثالث: النسخ في الفهم الحداثيّ وأثر الاستشراق فيه

(171)

تمهيد

يعدّ موضوع النسخ من المواضيع المهمّة في مجال البحث القرآنيّ، وخُصّصت له الكثير من المباحث في كتب علوم القرآن، والتفسير، والفقه، والأصول، ولذا نجد أنَّ كلّ عـالـم من العـلـمـاء بـحـثـه حسب اختصاصه، ومن الزاوية العلميّة التي يـحتاج إليها، وذلك لـما له من أهـمّـيّة في فهم نصوص القرآن الكريم وبخاصّة ما يتعلّق بالجانب التشريعيّ. 

 ونظرًا لما يترتّب عنه من أمور خطيرة، لم يعد الاهتمام به من قبل المتخصّصين من علماء الفقه وأصوله، والقرآن وعلومه فحسب، بل تعدّى ذلك الاهتمام إلى المستشرقين والحداثيين، وكلّ واحد منهم نظر له من زاوية التراث، وأثار بعضهم شبهات حوله للطعن بالنّص القرآنيّ.

وهدف الحداثيّين من دراسة النسخ هو تثبيت الأساس الذي وضعوه، وهو القول بتأريخيّة النّصّ القرآنيّ.

وسيتكفّل هذا المبحث ببيان المفهوم الذي وضعه علماء المسلمين للنسخ، ثم بيان التوظيف الاستشراقيّ له للطعن بالنّصّ القرآنيّ، وبيان التوظيف الحداثيّ للنسخ للقول بتأريخيّة النّصّ القرآنيّ.

(172)

المطلب الأوّل: مفهوم النّسخ عند المسلمين

أوّلًا: المدلول اللغويّ للنّسخ

وردت لفظة (النسخ) في قواميس اللغة بأكثر من معنى، إذ وردت بمعنى الإزالة[1]، قال الراغب: «النسخ: إزالة شيء بشيء يتعقّبه[2]».

أمّا ابن منظور فعبّر عن النسخ بالإبطال، قال: «النسخ: إبطال الشيء وإقامة آخر مقامه[3]».

ومن المعاني الأخرى التي وردت للنسخ في اللغة: «نقل الشيء وتحويله مع بقائه[4]».

ولعلّ «الإزالة هي أوفق المعاني اللغوية انسجامًا مع فكرة النسخ، خصوصًا إذا لاحظنا أنّ فكرة النسخ في القرآن الكريم  ورد التعبير عنها بمواد مختلفة تنسجم كلّها مع الإزالة، لأنَّ كلّ واقعة لا يمكن أن تخلو من الحكم الشرعيّ، فإذا أُزيل حكم فلا بدّ أن يحلّ محلّه حكم آخر[5]».

فقد جاءت لفظة النسخ ومشتقاتها أربع مرات في القرآن الكريم، وهي:

(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [6].   

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) [7].

(173)

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)[1].

(هَٰذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [2].

ويمكن القول: إنّ النسخ في القرآن ورد بشكلّ أعمّ من النسخ التشريعيّ والتكوينيّ.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحيّ للنّسخ

إنَّ المتتبّع للتطوّر التأريخيّ لكلمة (النسخ) يجد أنّها تختلف من زمن لآخر، ففي العصر القديم كان للنسخ مفهوم عام شامل لأدنى تغيير في بيان الحكم الشرعيّ، وحتّى تخصيص العام، وتقييد المطلق، كان يُسمّى نسخًا، ولم يكن هناك اختلاف بين المعنى اللغويّ للنسخ، وبين استخدام القرآن الكريم له، وبين معناه الاصطلاحيّ.

ولعلّ هذا الإطلاق والسعة في اللفظ بسبب الاختلاف بين علماء القرآن في تعيين الآيات الناسخة والمنسوخة[3]

ويمكن عدّ المفهوم الحالي للنسخ أحد مصاديق المعنى السابق العام للنسخ.

وفـي فترة لاحقة وبعد تطوّر الكتابة فـي علوم القـرآن الكريم، قـدّم العلماء تعاريف جديدة عدّة للنسخ، منها:

«هو رفع حكم شرعيّ متقدّم عن المكلّف بحكم شرعيّ متأخّر[4]».

النسخ: «هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدَّسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكلّيفية أم من الأحكام الوضعيّة، وسواء أكان من

(174)

المناصب الإلهيّة أم من غيرها من الأمور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنّه شارع[1]». 

والذي يتّضح من هذا التعريف أمران:

إنّ النسخ يكون برفع حكم ثابت في أصل الشريعة.

إنّ النسخ لا يكون لأمر مجهول إلى الله تعالى، بل مجرد رفع الحكم لانتهاء أمده وزمانه.  

وقد استدلّ العلماء عقلًا وشرعًا على إمكانيّة وقوع النسخ في الشريعة[2]، كما أكّد القرآن الكريم على وقوع النسخ فيه، قال تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)[3].

ثالثًا: أنواع النّسخ

ذكر العلماء ثلاثة أنواع للنسخ[4]:

الأول: نسخ التّلاوة من دون الحكم: ويقصد به: أن ترفع من القرآن مع بقاء حكمها.

واستدل القائلون بهذا القول بآية الرجم، ويعلّلون بأنَّها سقطت من غير سبب[5].

وهذا النوع لا يمكن القبول به؛ لأنّه يؤدّي بنا إلى القول بتحريف القرآن، وهو لم يصلنا إلا بطريق روايات الآحاد[6].

الثّاني: نسخ الحكم والتّلاوة: ويقصد به: نزول آية بحكم ينافي حكمًا آخر، فحذفت الآية وانتهى حكمها.

(175)

واستدلّ القائلون بهذا النّوع من النسخ، بأدلّة عديدة، منها: ما رُوِي عن عائشة أنّه نزلت على النبيّ آية بهذا النّصّ: (عشر رضعات معلومات يحرمن)، ثم نسخت بآية أخرى: (بخمسٍ معلوماتٍ)[1].

والإشكال على هذا النوع كالإشكال على النوع السابق، من أنَّه يؤدّي إلى القول بالتحريف إضافة إلى أنّ النماذج التي وردت إلينا لهذا النوع من النسخ، وردت عبر روايات غير معتبرة لا يمكن الأخذ بها.

الثّالث: نسخ الحكم من دون التّلاوة: ويقصد به أنَّ الآية موجودة في القرآن الكريم وتبقى على صياغتها وهيئتها إلا أنّ حكمها الشرعي قد رفع.

وذكر العلماء أقسامًا ثلاثة له[2].

وهذ النوع متّفق على إمكان وقوعه عند علماء المسلمين والمفسّرين، إلا أنّ الاختلاف حصل في عدد الآيات المنسوخة، وقد ناقش العلماء كلّ الآيات المدّعى نسخها[3].

ويمكن أن نلخّص ما سبق بالآتي:

إنّ مفهوم النسخ وارد في القرآن الكريم، وإنّ الاختلاف الذي حصل هو بسبب الاختلاف في بيان المدلول اللغويّ للفظة النسخ، وما تبع ذلك من اختلاف في تحديد المعنى الاصطلاحيّ، ونتج عنه وضع أنواع للنسخ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإنَّ سبب الاختلاف يعود إلى الاختلاف بين الروايات الإسلاميّة التي أشارت إلى الآيات الناسخة والمنسوخة.

هذان السببان الأساسيّان ولّدا إشكاليّة في فهم النسخ في آيات القرآن الكريم

(176)

من قبل العلماء المتخصّصين بدراسة القرآن الكريم وعلومه طوال تلك العصور، وهذه الإشكالية أفاد منها المستشرقون للقول بتأريخيّة النّصّ القرآنيّ، وتبعهم في ذلك الحداثيّون، وهو ما سيتبيّن في المطالب القادمة من هذا المبحث.

المطلب الثّاني: النّسخ في الفهم الاستشراقيّ

اتّخذ المستشرقون من النسخ وسيلة للقول ببشرية القرآن.

من المستشرقين الذي بحثوا النسخ المستشرق مونتغمري وات.

يقول: «إنَّ ثقة النبيّ بألوهيّة الوحي المنزل عليه لـم يمنعه من تنظيم هذا الوحي وترتيبه زيادة ونقصانًا، ونجد في القرآن إشارة إلى أنَّ الله قد أنسى نبيّه بعض الآيات، وأنَّ دراسة عميقة للنّصّ لا تدع مجالًا للشكّ في الاعتقاد بأنَّ هناك كلمات وجمل ومقاطع أضيفت إلى القرآن، ومن الطبيعيّ أنَّ هذه الزيادات ليست من صنع محمد، ومن المؤكد أنَّ لديه طريقة معيّنة للإصغاء إلى الوحي الذي يكشف له ما يفكّر فيه، ولا يصحّح النّصّ إلا بعد تلقّيه الوحي الذي يصوّبه، وقد اعترف المسلمون منذ البداية باشتمال القرآن على العديد من الآيات المنسوخة وإبطال أحكامها، وقصة الآيات الشيطانيّة تقدّم لنا أكبر دليل على ذلك[1]».

أمّا جولدتسهير، فيقول: إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُرغم على النسخ بسبب «تطوّره الداخليّ الخاص وبحكم الظروف التي أحاطت به إلى تجاوز بعض الوحي القرآنيّ إلى وحي جديد في الحقيقة، وإلى أنْ يعترف أنّه ينسخ بأمر الله ما سبق أنْ أوحاه إليه[2]».

ويرى المستشرق (روبير برونشنج) أنَّ سبب النسخ هو وجود تناقض في النصوص القرآنيّة[3].

(177)

المطلب الثّالث: النّسخ في الفهم الحداثيّ وأثر الاستشراق فيه

أوّلًا: محمد أركون

يقول محمد أركون: «وأمّا المعنى الثالث لكلمة النسخ، والذي يعني: استبدال نصّ بنصّ أو نصّ لاحق بنصّ سابق، فهو ناتج عن مناقشات الأصوليّين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة نصوصٍ متناقضةٍ، ومن ثمَّ فقد اضطروا لاختيار النّصّ الذي يتناسب أكثر مع التوفيق وتحقيق الانسجام بين الأحكام الشرعيّة التي كانت قد حظيت بتثبيت الفقهاء الأوائل ... وهذا أكبر دليل على كيفيّة احتيال الفقهاء على الآيات القرآنيّة التي لا تـتناسب مع مقاصدهم فيقومون بتحييدها[1]».

ويضيف: «لم يعد بإمكان الفقهاء حذف هذه الآيات بعد أن أصبحت متضمّنة في المصحف الرسميّ الذي شُكّل أيام عثمان، وبالتالي فقد راحوا يشجعون على تأسيس علم أسباب النزول من أجل القول بأنّ الآية المنسوخة قد نزلت قبل الآية الناسخة، وبالتالي فمن المشروع إبطال العمل بها[2]».

هذا الاتّهام من أركون للفقهاء بأنَّهم اخترعوا النسخ لدفع التناقض، نجده عند المستشرق يوسف شاخت (1902-1969م)؛ إذ قال: «وكان همّ الـمفسرين الـمتأخّرين التخلّص من الـمتناقضات العديدة الواردة فـي القرآن والتي تصوّر لنا تدرج محمّد في نبوته، إمّا بـمـا عمدوا إليـه من التوفيق بينها، وإمّا بالاعتراف بأنَّ الآيات المتأخّرة تنسخ ما قبلها، وذلك في الحالات التي يشتدّ فيها التناقض بين تلك الآيات[3]».

كما نُقل عن المستشرق (روبير برونشفج) قوله: (إنَّ بعض النصوص القرآنيّة تتّسم أحيانًا بالتناقض. ومن هنا، فإنَّ الأمر يقتضي إيجاد معايير قانونيّة لإزالة هذا التناقض. وفي هذا الخصوص أتى القرآن بمفهوم النسخ)[4].

(178)
نقد الشبهة

إنَّ أغلب آراء المستشرقين في قضيّة النسخ -وتبعهم أركون في ذلك- يرون أنَّ فقهاء المسلمين قد ابتدعوا قضيّة النسخ لرفع التناقض بين الآيات، ويردّ عليهم:

1. اتّضح عند بيان مفهوم النسخ عند المستشرقين أنَّهم فهموا أنَّ سبب النسخ في القرآن الكريم هو التدرّج في نزول الأحكام للموضوع الواحد، في حين أنَّ النسخ لم يكن فيه إزالة لحكم بقدر ما كان انتهاء لحكم معيّن محدّد بزمان معيّن، وإحلال حكم آخر امتدادًا له ليعالج القضايا المستجدة التي لا يقوى الحكم السابق على حلّها[1]، وهذا الفهم الخاطئ أدّى إلى قولهم إنَّ الآية الناسخة تناقض الآية المنسوخة ومنافية لها؛ لأنَّ وقوع النسخ يناقض مراد الله تعالى من الآية الأولى، وتبيّن الرد عليهم بأنَّ الآية الناسخة ليست منافية للمنسوخة بل هي امتداد لها، فلا تناقض بينهما.  

2. يشترط في الاختلاف الحقيقي (التناقض) أمور عدّة فصّلها علماء المنطق[2] منها: وحدة الزمان ووحدة الملاك والشرط، وإذا تخلّف أحدها فلا تنافي ولا اختلاف، والناسخ ظرفه متأخر وملاكه مصلحة أخرى، تبدّلت عن مصلحة سابقة كان مستدعية لذلك الحكم المنسوخ، فالتنافي ظاهريّ وبعد التأمّل والتعمّق يرتفع تمامًا[3].

ثانيًا: طيّب تيزيني

عدّ طيّب تيزيني النسخ جزءًا من عالم النبيّ الذاتيّ، «فهناك حالة من الرهافة والخصوصيّة بالنسبة إلى تصوّر الوحي وعلاقة الرسول به. إنّها الحالة التي تتمثّل في أنَّ النسخ لسورة ما يتمّ ضمن عالمه الذاتيّ الداخليّ، دونما تدخّل مباشر من خارج، وقد يكمن وراء ذلك أنَّ الرسول الداعية والفاعل اجتماعيًا يتبيّن -بإحالة من

(179)

وحيه- أنَّ سورة ما جاءته من هذا الأخير لا تستجيب لاحتياجات البشر المقدّمة إليهم، فتُلغى وتنسخ[1]».

إنَّ القول بالنسخ الذاتيّ هو نفسه القول بالوحي النفسيّ الذاتيّ الذي قال به المستشرقون وتقدّم نقده في مبحث الوحي.

(180)

 

 

 

 

 

 

الخاتمة

(181)

في رحلةٍ علميّةٍ شيّـقة، توزّعت منابعها الـمعرفيّة على الأصول الإسلاميّة، والـمناهج الحداثيّة، والآليّات الاستشراقيّة، سعت الدراسة في كلّ محطّاتها الفكريّة وبكلّ جدّ واجتهاد وصبر إلى تتبّع مدى (أثر الاستشراق في الفهم الحداثيّ لمباحث تأريخ القرآن وعلومه).

واستطاع البحث التوصّل إلى جملة ثمرات يمكن عدّها نتائج للبحث، وهذه النتائج حصيلة محاولة علميّة شاكرةً لفضل السابقين عليها، على أمل أن يفيد منها الباحثون وطلبة العلم في المستقبل.

من مجموع ما تقدّم من مباحث ومطالب تتّضح الإجابة على إشكاليّة البحث الأساس؛ إذ تبيّن أنَّ هناك أثرًا للاستشراق في الفهم الحداثيّ للقرآن الكريم، وهذا الأثر كان موزّعًا على المناهج النظريّة لتحليل النصّ القرآنيّ وعلى مباحث تكوّن النصّ وتشكّله، أي: مباحث تأريخ القرآن وعلومه. 

ونتج من البحث أنَّ الأثر الاستشراقيّ تتغيّر نسبته تبعًا للشخصيّة الحداثيّة، فـ (محمد أركون) و (طيّب تيزيني) من أكثر الشخصيّات الحداثيّة تأثّرًا بالمستشرقين وبخاصّة المستشرقين المعاصرين، بينما نلحظ أنّ (نصر حامد أبو زيد) و (محمد عابد الجابريّ) تأثّرا بالفلاسفة الغربيّين أكثر من تأثّرهم بالمستشرقين، وكانت نسبة الأثر الاستشراقيّ فيهم قليلة بحسب تتبّع البحث.

أمّا الإجابة عن الأسئلة الفرعيّة المتولّدة من إشكاليّة البحث، فيمكن تفصيلها على شكل نتائج، على أنَّ أبرز ما يمكن استخلاصه من نتائج -والتي نضعها هنا على شكل خلاصة- لا تُغني عن التفاصيل التي وصلت إليها الدراسة عبر امتداد فصول البحث.

إنَّ دراستنا لأثر المستشرقين في الحداثيين في فهم النّصّ القرآنيّ أفضت بنا إلى مجموعة من الاستنتاجات، هي:

1. لاحظ البحث أنَّ أوّل أثر للمستشرقين على الحداثيين تولّد من خلال اطّلاع

(182)

العرب على التطوّر الغربيّ، فأصبح الاستشراق رافدًا مهمًا للحداثيّين في فهم القرآن الكريم، وأنَّ التأثير الاستشراقيّ:

أ. تارة يكون بصورةٍ مباشرةٍ من خلال اطّلاع الكثير من الحداثيّين على كتابات المستشرقين حول التراث الإسلاميّ، أو من خلال التلمذة المباشرة على يد المستشرقين.

ب. وتارة يكون بصورةٍ غير مباشرة من خلال توفير المستشرقين المادّة التي يمكن أنْ يشتغل بها الحداثيّون؛ إذ قام المستشرقون بتحقيق ونشر أمّات الكتب والمخطوطات.   

2.  في أسس الفهم الحداثيّ، رصد البحث في أرخنة النّصّ القرآنيّ أثرًا استشراقيًّا، إذ صرّح الحداثيّ (محمد أركون) بإعجابه بكتاب المستشرقة المعاصرة (جاكلين شابي) وأفاد منه في قراءتها التأريخيّة للقرآن الكريم، كما رصد البحث تأييد أركون لمشروع استشراقيّ هولنديّ يهدف لدراسة تأريخيّة لكلِّ كلمة من القرآن، وموارد أخرى نلحظ للأثر الاستشراقيّ حضورًا في تأريخيّة النّصّ القرآنيّ عند الحداثيّين.           

أمّا فيما يتعلّق بالأسس الأخرى لفهم القرآن الكريم عند الحداثيّين، فلم يلحظ البحث أثرًا استشراقيًا، بل كانت المرجعيّات الحداثيّة الغربيّة حاضرة بقوّة في كتابات الحداثيّين في هذا الباب، كالماركسيّة، والبنويّة، والتأويليّة، والتفكيكيّة.

3.  خلص البحث إلى بروز اتّجاهين في طبيعة الاهتمام الاستشراقيّ بالقرآن الكريم:

الاتّجاه الأول: يهتم بالدّراسات التّأريخيّة النقديّة؛ لأنَّه تأثّر بالدّراسات التقليديّة وانتهى إلى نتيجة تأثّر القرآن الكريم بنتاج البيئات اليهوديّة والمسيحيّة، إذ برزت المرجعيّات الكتابيّة (اليهوديّة والنصرانيّة) لاصحاب هذا الاتجاه في فهمهم للنصّ القرآنيّ.

الاتّجاه الثاني: دعا إلى إخضاع النّصّ القرآنيّ لمناهج العلوم الإنسانيّة، بعد أن شعر بتخلّف المناهج الاستشراقيّة السابقة التي طُبِّقت على النّصّ القرآنيّ. 

(183)

وهذا التوجّه الاستشراقيّ أخذه منهم الحداثيّ (محمد أركون)، فقال بضرورة دراسة القرآن وفق النتائج التي توصّل إليها النقد الفيلولوجيّ التأريخيّ أوّلًا، ثم تجاوزه من خلال إخضاع النّصّ القرآنيّ للمناهج الحديثة.

4.  إنَّ الاستشراق المعاصر ينفرد عن القديم بتبنّي بعض أفراده لدعوى إخضاع النّصّ القرآنيّ لمناهج العلوم الإنسانيّة الحديثة، ويشترك معه بدراسة القرآن وفق المنهج التأريخيّ الذي يهدف إلى ربط النّصوص الدينيّة بسياقها التأريخيّ ويعدّانه أساسًا لأيّ دارس للنصّ القرآنيّ، وهذا الأمر أخذه الحداثيّون من المستشرقين كمنطلق وأساس لفهم النّصّ القرآنيّ.

فما لاحظه البحث أنَّ الحداثيّين تأثّروا بالاستشراق القديم والمعاصر معًا؛ إذ وظّفوا مكتسبات الاستشراق القديم في فهم الجانب التأريخيّ للقرآن الكريم، واستندوا إلى الاستشراق المعاصر في العلوم والمناهج الحديثة.

5.  تبيّن من البحث أنَّ الاستشراق يمثّل خلفيّةً معرفيّةً مهمّةً (لأركون)، وكان جلُّ أساتذته من المستشرقين؛ لأنَّه درس في معهد الاستشراق في السوربون، ومن مؤسّساتها: معهد الدراسات الإسلاميّة الذي كان يضم كبار المستشرقين، وكلّهم كانوا يدعون لإخضاع القرآن للمناهج الغربيّة.

6.  لاحظ البحث أنَّ (أركون) على الرّغم من نقده للمستشرقين بأنّهم يصرُّون على عملهم الوصفي، إلا أنّه يقول بأنّنا لا يمكننا أن نتجاوز جهود المكتسبات الاستشراقيّة في مجال نقد النّصّ القرآنيّ، فهو يدعو إلى الاستفادة من الاستشراق في هذا المجال ثم تجاوزه إلى مرحلة المناهج المعاصرة.

7.  إنَّ الأثر الاستشراقيّ في الحداثيّين تركّز في المنهج الفيلولوجيّ التأريخيّ، دون الأثر الكبير في الجانب التفسيريّ التطبيقيّ للنصّ.

8.  في الجانب التطبيقيّ التحليليّ لسورة الفاتحة عند (أركون) لاحظ البحث وجود أثرٍ استشراقيٍّ؛ إذ استعان أركون بالمنهج الفيلولوجيّ في دراسة الترتيب

(184)

التأريخيّ لسور القرآن، وأصرّ على إعادة تشكيل المصحف وفق رؤية المستشرق الألمانيّ (نولدكة)، والمستشرق الفرنسيّ (بلاشير).

9.  في الجانب التطبيقيّ التحليليّ لسورة التوبة عند (أركون) لم يجد البحث أثرًا استشراقيًّا، بل استند إلى المنهج الأنثروبولوجيّ والمنهج الألسنيّ.

10. لاحظ البحث أنَّ الحداثيّين يشتركون مع المستشرقين في الرؤية الغربيّة للقرآن الكريم، وفي مراحل الإجراءات التطبيقيّة على النصّ القرآنيّ، وكذلك يشتركون معهم في أغلب الأساليب التي اتّبعوها في فهمهم للقرآن الكريم، ويختلفون عنهم في توظيف بعض المناهج، كما يختلف الحداثيّ عن الاستشراق في النشأة الزمنيّة والدوافع.

11. نتج عن البحث وجود أثر استشراقيّ في فهم الحداثيّين لمباحث تأريخ القرآن وعلومه، ففي مبحث الوحي تبّين تأثّر الحداثيّين بشبهة الوحي النفسيّ التي قال بها المستشرق (مونتيه) وفصّلها المستشرق (درمنغهام)، وأبرز من قال بهذه الشبهة من الحداثيّين: (محمد أركون) و (هشام جعيط) و (عبد المجيد الشرفيّ).

12. رصد البحث أثرًا استشراقيًا في تصنيف نصر حامد أبو زيد للآيات المكّيّة والمدنيّة؛ إذ استند أبو زيد إلى المعايير التي وضعها المستشرق (نولدكه) في التفريق بين المكّيّ والمدنيّ، بالإضافة إلى ذلك فقد ردّد الحداثيّان (نصر أبو زيد) و (طيّب تيزيني) مقولة الـمستشرق (جولدتسيهر) القائلة بوجود تعارض بين آيات المرحلة الواحدة.

 وفي الجانب التطبيقي، فقد حلّل (تيزينيّ) نصوصاً من نفس المرحلة المكيّة محاولًا إثبات تعارض فيها ومعتمدًا على رأي المستشرقين، ومن الآثار الاستشراقيّة في رؤية (طيّب تيزيني) للمكّيّ والمدنيّ ما ورد في الموسوعة البريطانية في التعبير عن أسلوب القرآن في الآيات المكيّة.   

13.   وفي قضية تدوين القرآن لم يطبّق (محمد أركون) منهجه الذي أسماه

(185)

بالإسلاميّات التطبيقيّة، ولم يوظّف المناهج الغربيّة المعاصرة، بل ردّد آراء المستشرقين وشكوكهم حول عمليّة التدوين وأفاد من منهجهم الفيلولوجيّ واعتمد على النتيجة التي توصّل إليها المستشرق (بلاشير).   

14. في مبحث النسخ لاحظ البحث أنّ أركون تأثّر بالمستشرق الألمانيّ (يوسف شاخت)؛ إذ ردّد (أركون) قول (شاخت) بأنَّ العلماء اخترعوا النسخ دفعًا للتناقض بين الآيات، أمّا (طيّب تيزينيّ) فقد قال بالنسخ الذاتيّ، وهو شبيه بالوحي النفسيّ الذي قال به المستشرقون.

 

(186)

 

 

 

 

 

 

ملحق

ترجمة الأعلام

(187)

1- إجناس جولدتسيهر (1850 – 1921م) مستشرق مجريّ غزير الإنتاج، أشهر كتبه: محاضرات في الإسلام، وكتاب: العقيدة والشريعة في الإسلام[1].

2- إدوارد سعيد (1935- 2003م)، منظّر أدبيّ فلسطينيّ، نال شهرة واسعة في كتابه الاستشراق المنشور عام 1978م، إذ قام بوصف الاستشراق بعدم الدقة وأنّه تحيّز مستمرّ[2].

3- أنجليكا نيوفيرث (1943م -...)، مستشرقة ألمانيّة معاصرة، تعمل أستاذة للدراسات القرآنيّة في جامعة فراي في برلين بألمانيا، ركّزت في أبحاثها على القرآن وتفسيره والأدب العربيّ الحديث[3].

4- بوتيه (1800-1883)، مستشرق فرنسيّ، قام بدراسة القرآن الكريم، إذ قسّم الديانات الشرقيّة إلى أربعة أقسام: فبدأ دراسته بحياة العرب قبل الإسلام ثم درس حياتهم قبل تنصّرهم، ثم عكف على القرآن ودرس تأثره بالديانات السابقة، ثم المذاهب التي نشأت لدى المسلمين[4].

5- بول ريكور (1913-2005م)، فيلسوف فرنسيّ، ولد عام 1913م، يمثّل في الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة محاولة أصيلة تستلهم الوجوديّة والفينومينولوجيا وتريد بالإضافة إلى التيارات البنيويّة والعقلانيّة أن تحصر نفسها بمسألة التأويل[5].

6- تيودور نولدكه (1836-1931م)، شيخ المستشرقين الألمان، تنقّل بين العديد من الدول الأوربيّة باحثاً عن المخطوطات العربيّة ليدرسها، أهمّ مؤلّفاته كتاب تأريخ القرآن نشره عام 1860م، وهو رسالته للدكتوراه، وفيه تناول ترتيب سور القرآن وحاول أن يبتدع ترتيبًا جديدًا[6].

(188)

7- جاك بيرك (1910- 1995م)، شيخ المستشرقين الفرنسيّين وعميدهم، أهمّ إنتاجاته هو محاولة لترجمة معاني القرآن الكريم، وكتابه: إعادة قراءة القرآن، وهو عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها في معهد العالم العربيّ بباريس بمناسبة صدور ترجمته للقرآن عام 1993م[1].

8- جاك دريدا (1930-2004م)، فيلسوف فرنسيّ، نادى بضرورة تفكيك بناء الفلسفة والمذاهب الفلسفيّة، من أبرز مؤلّفاته: الكتابة والاختلاف، فـي علم القواعد أو هدم الفلسفة[2].

9- جاكلين شابي (1943م- ...)، مستشرقة فرنسية، أستاذة شرفية في مجموعة من الجامعات، تخصّصت في دراسة التاريخ الوسيط للعالم الإسلامي، ودرست أصول الإسلام بمقاربة أنثروبولوجية تاريخية، أستاذة مبرزة في العربية وحاصلة على الدكتوراه في الآداب، لديها مجموعة من المؤلفات حول الإسلام، منها : ربّ القبائل إسلام محمد[3].

10- جان بورتن (1921-2005م)، مستشرق بريطاني، اهتمّ بالتأريخ الإسلامي، محاضر في الفن والعمارة في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية[4].

11- جورج سيل (1697-1736م)، مستشرق بريطانيّ، ولد في لندن والتحق بالتعليم اللاهوتي، من أبرز أعماله ترجمته لمعاني القرآن الكريم[5].

12- جوستاف فايل(1808-1889)، مستشرق ألمانيّ، كان يُدرّس اللاهوت ثم اتّجه إلى الدراسات التأريخيّة والفيلولوجيّة، من أهمّ مؤلّفاته: مقدّمة تأريخيّة نقديّة للقرآن، وكتابه: النبي محمد حياته ومذهبه[6].

(189)

13- دير كلوني، راهب ولا هوتيّ فرنسيّ، قام بمحاولة ترجمة القرآن مع راهبين آخريين، وأنجز الترجمة عام 1143م، وتمّت طباعة الكتاب المترجم في طبعات عدّة [1].

14- روبيرت برونشفيج (1901-1990م)، مستشرق فرنسيّ، أستاذ اللغة العربيّة في جامعات فرنسيّة عدّة، وتولّى مع المستشرق (شاخت) الإشراف على مجلّة الدراسات الإسلاميّة التابعة للسوربون، له مؤلّفات غزيرة متنوّعة في الفقه الإسلاميّ[2].

15- رودي بارت (1901 – 1983م)، مستشرق ألمانيّ، درّس الساميّات والإسلاميّات في جامعة توبنجن، عمل على ترجمة القرآن إلى اللغة الألمانيّة، وكتب رسائل صغيرة عن القرآن، وكان متعاطفًا مع الإسلام، وحاول تعريف الأوروبيّين بحقيقة رسالة النبي الأكرم[3].

16- ريتشارد بل (1876 – 1952م)، مستشرق بريطاني، أستاذ اللغة العربية ورجل دين، درس تأريخ القرآن، قام بترجمة القرآن[4]

17- ريجيس بلاشير(1900-1973م)، مستشرق فرنسيّ مشهور، شغل كرسي اللغة والأدب العربيين في السوربون، من أبرز كتبه: تأريخ الأدب العربيّ ولم يتمّه وظهر منه 3 أجزاء، وترجمة القرآن إلى الفرنسية وقد رتّب القرآن في هذه الترجمة وفقًا لما ظنّه أنّه ترتيب نزول السور والآيات، وله مؤلّف لخّص فيه أبحاث المستشرقين الذين كتبوا عن النبي الأكرم[5].

(190)

18- شارل بيل (1914م-1992)، مستشرق فرنسيّ، ولد في الجزائر، وألقى محاضرات في دول عربيّة عدّة، اهتمّ بأدب العرب، وله مؤلّفات في هذا المجال[1].

19- الطيّب تيزيني (1934م -2019م)، فيلسوف وباحث سوريّ، ولد في مدينة حمص، وغادر إلى تركيا ثمّ بريطانيا ثمّ ألمانيا وحصل فيها على شهادة الدكتوراة  في الفلسفة عام 1967م[2].

20- عبد المجيد الشرفي (1942م-...)، أستاذ الحضارة الإسلامية في الجامعة التونسية في سبعينيات القرن العشرين، يحاول فهم النص القرآني بالاعتماد على مناهج العلوم الإنسانية، من أبرز مؤلفاته: الإسلام والحداثة، الإسلام بين الرسالة والتأريخ[3].

21- غوتليف برجشتريسر (1886 – 1933م)، مستشرق ألمانيّ، حاصل على الدكتوراه في اللغات الساميّة والعلوم الإسلاميّة، ودرس في هذا المجال في عدد من الجامعات، من أبرز مؤلّفاته: حروف النفي في القرآن، ومعجم قرّاء القرآن وتراجمهم[4].

22- غوستاف لوبون (1841 – 1931م)، مستشرق فرنسيّ، عني بالحضارات، من أبرز مؤلّفاته كتابه: حضارة العرب[5].

23- فريدريك شلايرماخر (1768-1834)، لاهوتي ألمانيّ، واعظ وفيلسوف، درّس اللاهوت في عدّة جامعات آخرها جامعة برلين، يعدّ مؤسّس الهِرمِينِوطيقِا الحديثة [6] .

(191)

24- فيلهلم ديلتاي (1833-1911م)، فيلسوف ألمانيّ، سعى في دراسته التي بعنوان (مدخل إلى دراسة العلوم الإنسانيّة) إلى تأمين استقلال منهجيّ لعلوم الإنسان، وقد أنشأ نظريّة في علوم الروح تستند إلى مبادئ ثلاثة: إنَّ المعرفة التأريخيّة تأمّل في الذات، والتفهم ليس تفسيرًا أو وظيفة عقليّة بل يتمّ بواسطة كل القوى الانفعاليّة للنفس، وهو حركة من الحياة إلى الحياة، وبهذه الفلسفة أثّر ديلثي بنسبة كبيرة على الفلسفة المعاصرة[1].

25- كارل بروكلمان ( 1868- 1956م)، مستشرق ألمانيّ ترك بصماته الواضحة على الاستشراق، غزير الإنتاج، أبرز مؤلّفاته مجلّد كبير بعنوان: تأريخ الشعوب والدول الإسلاميّة، إذ وصف فيه الشعوب الإسلاميّة منذ بداية الإسلام وحتى عام 1939، توفّي عام 1956م[2] .

26- كانون سيل (1839-1932م) مستشرق بريطانيّ، حاصل على الدكتوراه في اللاهوت، من جامعة ادنبرا، من آثاره: تطوّر القرآن التأريخيّ [3].

27- كلود جيليو (1940م - ...)، مستشرق فرنسيّ معاصر، ولد عام 1940م، كانت رسالتيه للماجستير والدكتوراه عن تفسير الطبريّ، وأشرف على عدد من طلبة الدراسات العليا في فرنسا والعالم الإسلاميّ، وتفرّغ للدراسات القرآنيّة[4].

28- كلود كاهين (1909-1991م)، مستشرق فرنسيّ، تخرّج من السوربون ودرّس في عدد من الجامعات الأوربيّة، غزير الإنتاج، نشر عدّة دراسات عن  التأريخ الإسلاميّ [5].

(192)

29- مارتن هايدغر (1889-1976م)، فيلسوف ألماني، ويعدّ من أهمّ فلاسفة القرن العشرين، بدأ مشروعه عام 1927م في البحث عن الوجود والزمان [1].

30- ماسينون (1883- 1962م)، مستشرق فرنسيّ، تنوّعت أعماله في الدراسات الإسلاميّة، وكان شغله الشاغل في السنوات الأخيرة بأهل الكهف، إذ ألقى بحوثاً كثيرة عنهم في مؤتمرات المستشرقين، ونشر بحوثاً حول قصة أهل الكهف في مجلة الدراسات الإسلاميّة في أكثر من عدد[2].

31- محمد أركون (1928-2010م)، وُلِد محمد أركون في أسرة فقيرة، بدأ بالدراسة الابتدائيّة وصولًا للجامعة في بلده الجزائر، ونال شهادة البكالوريوس من كليّة الآداب في اللغة العربيّة، وفي عام 1952م شدّ أركون الرحال للسوربون في باريس لمواصلة دراسته العليا، فدَرَس ودرّس فيها وأصبح أستاذاً في عدّة جامعات ومعاهد أوروبيّة إلى أن توفّي[3]، وأثناء تواجده في فرنسا حضر دروسًا في الفلسفة، وعلم الاجتماع، وقدّم أطروحته بعنوان (نزعة الأنسنة في الفكر العربيّ جيل مسكويه والتوحيديّ)[4].

32- محمد عابد الجابري (1936 - 2010م)، ولد في مدينة فجيج في جنوب شرق المغرب، تدرّج في الدراسة إلى أن حصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة عام 1967م، ثمّ حصل على الدكتوراه في الفلسفة عام 1970م من كليّة الآداب بالرباط، ويعدّ من أساتذة الفلسفة والفكر العربيّ في المغرب، ويعدّ كتاب (حفريّات في الذاكرة من بعيد) كتاب سيرة، ذكر فيه الجابري محطات حياته المتعدّدة[5].

(193)

33- محمد مجتهد شبستري، (1934م-...)، فيلسوف إيراني، وباحث في مجال العلوم القرآنية، عمل أستاذاً في كلية الإلهيات في جامعة طهران، من أبرز مؤلفاته: نقد الفهم الرسمي للدين، قراءة بشرية للدين، الهرمنيوطيقا الكتاب والسنة[1].

34- موريس بوكاي (1920- 1998م)، مستشرق فرنسيّ، ولد عام 1920م، له كتاب بعنوان التوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث المنشور عام 1976م، وكان يُشار له بأمانة البحث العلميّ والموضوعيّ[2].

35- مونتغمري وات (1909- 2006م)، مستشرق بريطانيّ، له العديد من المؤلّفات أبرزها: محمد في مكّة، ومحمد في المدينة، وموجز تأريخ الإسلام، وغيرها كثير[3].

36- ميشيل فوكو (1926-1984م)، مفـكّر فـرنسيّ حاصل على شهادة التـبريز فـي الفلسفة، مـن أبرز مـؤلّفـاته: أركيولوجيا الـمعرفـة، وإرادة الـمعـرفة[4].

37- نصر حامد أبو زيد (1943 – 2010م)، مفكّر وباحث مصريّ، تخصّص بالدراسات الإسلاميّة، له مجموعة مؤلّفات حول الفكر الدينيّ، والتراث، والحداثة، حاول من خلالها تقديم رؤية نقديّة تجديديّة يهدف من خلالها إلى إعادة النظر في التراث الدينيّ[5].

38- هانز جورج غادامير (1900 – 2002م)، فيلسوف ألمانيّ، ولد عام 1900م، من أبرز مؤلّفاته: الحقيقة والمنهج ملامح التفسير الفلسفيّ، حاول طلب الحقيقة خارج ميدان العلوم الطبيعيّة، وقدّم عرضًا تأريخيًا لمعنى التفسير،

(194)

وميّز بين التفسير اللاهوتي والتفسير القانوني [1].

39- هشام جعيط (1935م-...) مفكّر تونسي، وأستاذ في جامعة تونس، درّس بعدة جامعات أوروبية، من أبرز مؤلفاته: الوحي والقرآن والنبوة، تاريخية الدعوة المحمدية، مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام[2].

40- وليام موير (1819 – 1905م) مستشرق ومبشّر إنكليزي، نشر عدّة مقالات تناول فيها تأريخ العرب قبل الإسلام ومصادر السيرة النبويّة، ثم أصدر كتابين حول الإسلام، هما: القرآن تأليفه وتعاليمه، والثاني: الجدال مع الإسلام[3].

41- يوسف شاخت (1902-1969م)، مستشرق ألمانيّ متخصّص في الفقه الإسلاميّ، درس الفيلولوجيا واللاهوت واللغات الشرقيّة في جامعتي برسلاو وليبتسك، توزّعت أعماله بين دراسة المخطوطات، وبين دراسات في علم الكلام والفقه الإسلاميّ، وبين دراسات في الفلسفة الإسلاميّة [4].

42- يوليوس فيلهاوزن (1844-1918م)، مستشرق ألمانيّ، تخصّص في دراسة التأريخ الإسلاميّ، أبرز مؤلّفاته: تحقيق تأريخ الطبري، وتنظيم محمد للجماعة في المدينة، ومحمد والسفارات التي وجهت إليه[5].

43- يوهان فوك (1894-1974م)، مستشرق ألمانيّ، من آثاره: العربيّة: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب[6].

(195)
(196)

 

 

 

 

 

 

قائمة

المصادر والمراجع

(197)

- القرآن الكريم.

حرف الألف  

* أركون، محمد (2010م)

1.  الإسلام، أوروبا، الغرب، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة الأولى، (بدون مكان – 1995م).

2.  تأريخيّة الفكر العربيّ الإسلاميّ، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء، الطبعة الثانية، (بيروت – 1996م).

3.  العلمنة والدين الإسلام المسيحيّة الغرب، دار الساقي، الطبعة الثالثة، (بيروت – 1996م).

4.  الفكر الإسلاميّ، قراءة علميّة، ترجمة: هاشم صالح، المركز الثقافي العربيّ، الطبعة الثانية، (بيروت – 1996م).

5.  الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ترجمة: هاشم صالح، المؤسسة الوطنية للكتاب، (الجزائر – بدون تأريخ ).

6.  الفكر الأصوليّ واستحالة التأصيل، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة الثانية، (بيروت – 2002م).

7.  القرآن من التفسير الموروث إلى نقد الخطاب الدينيّ، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة، (بيروت – 2001م).

8.  من الاجتهاد إلى نقد العقل الدينيّ، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، (بيروت – 1997م).

* الأزهريّ، محمد بن أحمد أبو منصور  (ت 370 هـ)

9.  تهذيب اللغة، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربيّ، الطبعة الأولى، (بيروت – 2001م).

* الأعرجي، ستار جبر حمود

(198)

10. مناهج المتكلّمين في فهم النّصّ القرآنيّ، منشورات: المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، الطبعة الأولى، (العراق – 2017م).

11. الوحي ودلالاته في القرآن الكريم والفكر الإسلاميّ المعاصر، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلميّة، الطبعة الأولى، (بيروت – 2001م).

* أمامة، عدنان محمد

12. التجديد في الفكر الإسلاميّ، منشورات ابن الجوزي، الطبعة الأولى، (السعوديّة – 1424هـ). (أصل هذا الكتاب رسالة دكتوراة).

* ايكو، أمبرتو

13. التأويل بين السيميائيّات والتفكيكيّة، ترجمة: سعيد بنكراد، المركز الثقافيّ العربيّ، (بيروت – بدون تأريخ ).

حــرف الـبــاء  

* بارت، رودي

14. الدراسات العربيّة الإسلاميّة في الجامعات الألمانيّة، ترجمة: مصطفى ماهر، بدون دار نشر، (بدون مكان –1967م).

* بارت، رولان

15. لذّة النصّ، ترجمة: منذر العياشي، مركز الإنماء الحضاريّ، (سوريا – بدون تأريخ ).

* بدوي، عبد الرحمن

16. موسوعة المستشرقين، دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة، (بيروت – 1993م).

17. موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، (بيروت – 1984م).

(199)

* براهييه، أميل

18. تأريخ الفلسفة، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، (بيروت – 1985م)

* بروكلمان، كارل (المستشرق)

19. تأريخ الأدب العربي، ترجمة: عبد الحليم النجار، دار الكتاب الإسلاميّ، (بدون مكان – 2005م).

* البستانيّ، كرم

20. المنجد في اللغة والأعلام، المطبعة الكاثوليكيّة، (بدون مكان – 1974م).

* البعلبكيّ، منير

21. المورد قاموس إنكليزي ــــ عربي، دار العلم للملايين، (لبنان –1994م).

* بغورة، الدكتور الزواويّ

22. ميشيل فوكو في الفكر العربيّ المعاصر، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، (بيروت – 2007م).

* بلاشير، ريجيس (المستشرق)

23. القرآن نزوله تدوينه ترجمته تأثيره، ترجمة: رضا سعادة، (بيروت – 1974م).

* بلقزيز، عبد الإله

24. نقد الاستشراق والمركزيّة الأوروبيّة، مركز دراسات الوحدة العربيّة، (بيروت - 2016م).

25. نقد التراث، مركز دراسات الوحدة العربيّة، (بيروت - 2016م).

* البنداق، محمد صالح

(200)

26. المستشرقون وترجمة القرآن الكريم، دار الآفاق الجديدة، الطبعة الأولى، (بيروت – 1980م).

* البهي، محمد

27. الفكر الإسلاميّ الحديث وصلته بالاستعمار الغربيّ، مكتبة وهبة، الطبعة الثالثة، (بدون مكان – بدون تاريخ).

* بوتيه، (المستشرق)

28. تأريخ القرآن، بلا مطبعة، (بيروت – 1980م).

*بودلي، رونالد فيكتور (المستشرق)

29. الرسول – حياة محمد، ترجمة: عبد الحميد جودة السحار - محمد فرج، منشورات مكتبة مصر، الطبعة الأولى، (القاهرة – 1989م).

* بيرك، جاك

30. إعادة قراءة القرآن، ترجمة: وائل غالي شكري، دار النديم، الطبعة الأولى، (مصر – 1994م).

حــرف الـتّـــاء  

* تورين، آلان

31. نقد الحداثة، ترجمة: أنور مغيث، المجلس الأعلى للثقافة، (مصر – 1997م).

* تيزيني، طيّب

32. النصّ القرآنيّ أمام إشكاليّة البنية والقراءة، دار الينابيع، (دمشق – 1997م).

(201)

حــرف الـثّـــاء  

* الثعالبي، عبد الملك بن محمد (ت 429هـ)

33. فقه اللغة وسرّ العربيّة، المكتبة العصريّة، الطبعة الثانية، (بيروت – 2000م).

حــرف الـجـيـــم  

* الجابريّ، محمد عابد

34. بنية العقل العربيّ، مركز دراسات الوحدة العربيّة، (بيروت – 1993م).

35. التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربيّة، (بيروت – 1991م).

36. حفريّات في الذاكرة من بعيد، مركز دراسات الوحدة العربيّة، (بيروت – 1997م).

37. الخطاب العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربيّة، (بيروت – 1993م).

38. فهم القرآن الكريم التفسير الواضح حسب أسباب النزول، مركز دراسات الوحدة العربيّة، الطبعة الأولى، (بيروت – 2008م).

39. مدخل إلى القرآن الكريم، مركز دراسات الوحدة العربيّة، (بيروت – 2006م).

40. نحن والتراث، مركز دراسات الوحدة العربيّة، (بيروت – 1993م).

* الجراد، الدكتور سفير أحمد

41. الاستشراق والمستشرقون، دار العصماء، الطبعة الأولى، (دمشق – 2012م).

* الجرجانيّ، علي بن محمد (ت 816 هـ)

42. التعريفات، دار الكتب العلميّة، الطبعة الثانية، (بيروت – 2003م).

* جعيط، هشام

(202)

43. أوروبا والإسلام، ترجمة: طلال عتريسي، دار الحقيقة، (بيروت – 1980م).

44. الوحي، والقرآن والنبوة، دار الطليعة، الطبعة الأولى، (بيروت – بدون تأريخ ).

45. تأريخيّة الدعوة المحمديّة في مكّة، دار الطليعة، (بيروت – بدون تأريخ ).

* جولد تسيهر، إجناس (المستشرق – ت 1921م)

46. العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة ونشر: المركز القوميّ للترجمة، (القاهرة –2013م).

* الجوهريّ، إسماعيل بن حماد

47. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربيّة، تحقيق: أحمد عبد الغفور، دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة، (بيروت –1987م).

حــرف الـحـــاء  

* الحاج، ساسي سالم

48. نقد الخطاب الاستشراقيّ، دار المدار الإسلاميّ، الطبعة الأولى، (بيروت – 2002م).

* الحجار، عدي

49. الأسس المنهجيّة لتفسير النّصّ القرآنيّ، الأعلميّ للمطبوعات، الطبعة الأولى، (بيروت – 2012م).

* حرب، علي

50. نقد النّصّ، المركز الثقافيّ العربيّ، الطبعة الأولى، (بيروت – 2002م).

* حسن، خليفة محمد

(203)

51. آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة، عين للدراسات والبحوث، الطبعة الأولى، (القاهرة – 1997م).

* الحسن، مصطفى

52. الدين والنصّ والحقيقة دراسة تحليليّة في فكر محمد أركون، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، (بيروت – 2012م).

* الحكيم، السيد محمد باقر

53. علوم القرآن، المجمع العالميّ لأهل البيت، الطبعة الرابعة، (قم –1425هـ).

* حلّاق، وائل

54. قصور الاستشراق منهج في نقد العلم الحداثيّ، الشبكة العربية للأبحاث، الطبعة الأولى، (بيروت – 2019م).

* حمدان، عبد الحميد صالح

55. طبقات المستشرقين، مكتبة مدبولي، (بدون مكان – بدون تأريخ ).

* الحيدريّ، إبراهيم

56. صورة الشرق في عيون الغرب، دار الساقيّ، الطبعة الأولى، (بدون مكان – 1996م).

* الحيرش، محمد

57. النصّ وآليّات الفهم في علوم القرآن في ضوء التأويليّات المعاصرة، دار الكتاب الجديد، الطبعة الأولى، (بيروت – 2013م).

حــرف الـخــــاء  

* الخربوطلي، الدكتور علي حسني

(204)

58. المستشرقون والتأريخ الإسلاميّ، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، (القاهرة – 1988م).

* الخطيب، مواهب

59. تعدّد القراءات في فهم النّصّ القرآنيّ دراسة نقديّة، دار الولاء، (بيروت – 2016م).

* الخوئيّ، أبو القاسم (ت 1413 هـ).

60. البيان في تفسير القرآن، منشورات دار الزهراء عليها‌السلام ، الطبعة الرابعة، (بيروت - 1395 هـ).

* الخوليّ، أمين

61. التفسير معالم حياته ومنهجه، مكتبة الأسرة (بدون مكان – 2003م).

حــــرف الــــدال  

* درمنغهام، إميل (المستشرق)

62. حياة محمد، ترجمة: خالد زعتر، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، (بيروت – 1988م).

حــــرف الـــــذّال

* الذهبيّ، محمد حسين

63. التفسير والمفسرون، دار الكتب الحديثة، (القاهرة – 1961م).

حـــــرف الـــــرّاء

* الراغب الأصفهانيّ، أبو القاسم الحسين بن محمّد (ت 502 هـ)

(205)

64. المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان عدنان الداوديّ، الناشر: دار القلم، الدار الشاميّة، الطبعة الأولى، (بيروت - 1412 هـ).

* رسل، برتراند (الفيلسوف الغربي)

65. تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة: زكي نجيب محفوظ، الهيئة العامة المصرية للكتاب، (القاهرة – 2010م).

66. حكمة الغرب، ترجمة: فؤاد زكريا، من إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، (الكويت -1983م).  

* رضا، محمد رشيد

67. تفسير المنار، دار المنار، الطبعة الثانية، (القاهرة -1947م).

68. الوحي المحمّديّ، مؤسسة العز الدين، (  - 2008م).

* رضوان، عمر بن إبراهيم

69. آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره (دراسة ونقد)، دار طيبة، الطبعة الثانية، (الرياض -بدون تاريخ).

* الرومي، فهد بن عبد الرحمن

70. منهج المدرسة العقليّة الحديثة في التفسير، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، (الرياض - 1983 م).

* الريسوني، قطب

71. النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبّر، منشورات وزارة الأوقاف، (بدون مكان – 2010م).

* ريكور، بول

(206)

72. من النّصّ إلى الفعل أبحاث التأويليّة، ترجمة: برادة محمد حسن.

حــــرف الـــــزّاي  

* زاهد، عبد الأمير كاظم

73. قراءات في الفكر الإسلاميّ المعاصر، دار الضياء، (النجف – 2008).

* الزّركشيّ، محمّد بن عبد الله (ت 794 هـ)

74. البُرهان في عُلوم القُرآن، تحقيق: مُحمّد أبو الفضل إبراهيم، منشورات: دار أحياء الكُتُب العربيّة عيسى البابى الحلبيّ وشركائه، الطّبعة الأُولى، (القاهرة - 1376 هـ).

* زقزوق، محمود حمدي

75. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاريّ، دار المنار، الطّبعة الثانية، (القاهرة – 1989م).

* أبو زيد، نصر حامد

76. إشكاليات القراءة وآليات التأويل، مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى، (بيروت – 2014م).

77. الاتجاه العقلي في التأويل، مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى، (بيروت – 2014م).

78. الخطاب والتأويل، مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى، (بيروت – 2014م).

79. مفهوم النّصّ دراسة في علوم القرآن، مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى، (بيروت – 2014م).

80. النص السلطة الحقيقة، مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى، (بيروت – 2014م).

(207)

81. نقد الخطاب الديني، مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى، (بيروت – 2014م).

حـــرف الـسّــيـن  

* سبيلا، محمد

82. مدارات الحداثة، الشبكة العربية للأبحاث، الطبعة الأولى، (بيروت – 2009م).

83. الحداثة وما بعد الحداثة، دار توبقال، الطبعة الأولى، (الدار البيضاء – 2000م).

* السراقبيّ، وليد محمد.

84. الألسنيّة مفهومها مبانيها المعرفيّة، ومدارسها، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، الطبعة الأولى، (العراق – 2019م).

* سروش، عبد الكريم.

85. بسط التجربة النبوية، ترجمة: أحمد القبانجي، دار الفكر الجديد، (العراق – 2006م).

* السعدي، أحمد فاضل.

86. القراءة الأركونية للقرآن، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، الطبعة الأولى، (بيروت – 2012م).

* سعيد، إدوارد.

87. الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة: محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، (القاهرة – 2006م).

* السكران، إبراهيم بن عمر.

(208)

88. التأويل الحداثيّ للتراث التقنيات والاستمدادات، دار الحضارة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، (الرياض – 2014م).

* سيل، كانون (المستشرق).

89. تطوّر القرآن التاريخي، ترجمة: مالك سلماني، الطبعة الرابعة، (لندن – 1923م).

* السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ)

90. الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، (القاهرة - 1975م).

حـــرف الـشّــيـن  

* شاخت، يوسف (المستشرق)

91. أصول الفقه، ترجمة إبراهيم خورشيد، دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، (بيروت - 1981م)، ص39.

* شبستري، محمد مجتهد

92. الهرمنيوطيقا الكتاب والسنة، ترجمة: حيدر نجف، مركز دراسات فلسفة الدين، الطبعة الأولى، بغداد – 2013م.

93. مدخل إلى علم الكلام الجديد، دار الهادي، الطبعة الأولى، (بيروت -2000).

* الشديّ، عادل بن علي

94. الترجمات الاستشراقيّة لمعاني القرآن الكريم عرض ونقد، مدار الوطن للنشر، الطبعة الأولى، (الرياض – 2010م).

* الشرفي، عبد المجيد

(209)

95. الإسلام بين الرسالة والتاريخ، دار الطليعة، الطبعة الأولى، (بيروت – 2001م).

96. الإسلام والحداثة، الدار التونسية للنشر، الطبعة الثانية، (تونس – 1991م).

97. في قراءة النّصّ الديني، الدار التونسية للنشر، الطبعة الثانية (بدون مكان - 1990م).

* الشريف، عادل محمد

98. تأريخيّة النصّ الدينيّ، مؤسسة الدليل للدراسات والبحوث العقديّة، الطبعة الأولى، (كربلاء – 2019م).

* الشهرستاني، علي

99. جمع القرآن؛ نقد الوثائق وعرض الحقائق (قراءة تحليليّة جديدة)، دار الكفيل، (كربلاء – بدون تأريخ ).

حــــرف الـصّــــاد  

* الصالح، صبحي

100. مباحث في علوم القرآن، بلا مطبعة، الطبعة العاشرة، (بيروت – 1977م).

101. دراسات في فقه اللغة، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، (بدون مكان – 1960م).

* الصدر، السيد محمد باقر

102. المدرسة القرآنية، منشورات مؤسسة الهدى، الطبعة الأولى، (قم – 1421هـ).

* الصغير، الدكتور محمد حسين

(210)

103. تأريخ القرآن، دار المؤرخ العربي، الطبعة الأولى، (لبنان – 1999م).

104. المستشرقون والدراسات القرآنية، دار المؤرخ العربي، (بيروت – 1999م).

105. المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق، دار المؤرخ العربي، الطبعة الأولى، (بيروت – 2000م).

* صليبا، جميل

106. المعجم الفلسفيّ، منشورات ذوي القربى، مطبعة: سليمان زاده، الطبعة الأولى، (بدون مكان – 1385هــ).

حــــرف الـطّــــاء  

* الطباطبائيّ، مُحمّد حسين (ت 1402 ه‍ـ)

107.   الميزان في تفسير القرآن، منشورات مؤسسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدسة.

108.  القرآن في الإسلام، دار الولاء للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، (بيروت – 2001م).

*  الطّبرسيّ، أمين الإسلام أبي علي الفضل بن الحسن (ت 548 ه‍ـ)

109.  مجمع البيان في تفسير القرآن، منشورات مؤسسة الأعلميّ، (بيروت – 1995م).

* الطّبريّ، مُحمّد بن جرير (ت 310 ه‍ـ)

110. جامع البيان عن تأويل آي القُرآن، تحقيق: صدقي جميل العطّار، منشورات دار الفكر للطّباعة والنّشر والتّوزيع، (بيروت – 1995م).

* طرابيشي، جورج

111. معجم الفلاسفة، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة المفهرسة، (بيروت –2006م).

(211)

*  الطّريحيّ، فخر الدّين بن مُحمّد عليّ بن أحمد (ت 1085 هـ)

112. مَجمَعُ البَحرَينِ، تحقيق: أحمد الحُسينيّ، منشورات: مكتب نشر الثّقافة الإسلاميّ، الطّبعة الثّانية، (بدون مكان - 1408 هـ).

* الطعّان، أحمد إدريس.

113. العلمانيون والقرآن الكريم (تاريخية النص)، منشورات ابن حزم، الطّبعة الأولى، (الرياض – 2007م).

* الطوسي، مُحمّد بن الحسن (ت 460 ه‍ـ)

114.   التبيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي، (بيروت – 1995م).

حـــرف الـعـيـــن  

* العالم، عمر لطفي

115. المستشرقون والقرآن دراسة نقديّة لمناهج المستشرقين، مركز دراسات العالم الإسلاميّ، الطبعة الأولى، (بدون مكان – 1991م).

* عادل، مصطفى

116. فهم الفهم مدخل إلى الهرمنيوطيقا، مؤسسة هنداوي، (المملكة المتحدة – 2017م).

* عباس، فضل

117.قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية، دار البشير للنشر والتوزيع، (الأدرن – بدون تأريخ ).

* العباقي، الحسن

118. القرآن الكريم والقراءة الحداثية، دراسة تحليلية نقدية لإشكالية النّصّ عند محمد أركون، دار صفحات، الطبعة الأولى، (بدون مكان – 2009م).

(212)

*  عبد الباقي، محمد فؤاد

119. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الكتب المصرية، (القاهرة – بدون تأريخ ).

* عبد الرحمن، طه.

120.  روح الحداثة - المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، (المغرب – 2006م).

* عبد النور، جبور.

121. المعجم الأدبي، دار العلم للملايين، (بيروت – 1979م).

*  عبده، محمد

122.  الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، دار الحداثة، الطبعة الثالثة، (بيروت – 1988م).

* عرفان، عبد الحميد

123. المستشرقون في الإسلام، مطبعة الإرشاد، (بغداد –1969م).

* عزوزي ، حسن.

124.  آليّات المنهج الاستشراقيّ في الدراسات الإسلاميّة، مطبعة آنفو، (المغرب – 2007م).

* العقيقي، نجيب

125. المستشرقون، دار المعارف، الطبعة الثالثة، (مصر – 1964م).

*  العكيلي، الشيخ سعيد

126.  مقولات الحداثة قراءة في الجذور ومناقشة في النتائج، مطبعة الكوثر، الطبعة الاولى، (إيران – 2014م).

* علواش، محمد

(213)

127. قضية التأويل في الفكر العربي المعاصر نصر حامد أبو زيد أنموذجًا، صفحات للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، (دمشق – 2017م).

128.  مناهج تحليل الخطاب القرآني في الفكر العربي المعاصر، صفحات للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، (دمشق – 2017م).

* علي، عمر زهير

129.  القراءة الحداثية المعاصرة للقرآن الكريم وأثر الاستشراق فيها، دار العصماء، الطبعة الاولى، (دمشق – 2017م).

* العمري، مرزوق

130. إشكالية تاريخية النّصّ القرآنيّ في الخطاب الحداثي العربي المعاصر، منشورات ضفاف، الطبعة الأولى، (الجزائر – 2012م).

* عوض، الدكتور إبراهيم

131.  المستشرقون والقرآن دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين للقرآن وأراؤهم فيه، دار زهراء للشرق، الطبعة الأولى، (القاهرة -2003م).

حـــرف الـغـيـــن  

* الغزالي، مشتاق بشير

132. القرآن الكريم في دراسات المستشرقين، دار النفائس، الطبعة الأولى، (دمشق – 2008م).

* الغزاوي، إيمان أحمد خليل

133.  التوظيف الحداثي لتفسير القرآن الكريم وإشكالياته، دار غيداء، الطبعة الأولى، (بيروت – 2016م).

* غوستاف لوبون (المستشرق)

(214)

134. حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، الهيئة المصرية للكتاب، (القاهرة – 2012م).

حـــرف الـفـــــاء  

*  ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا القزوينيّ الرّازيّ (ت 395 ﻫـ)

135.  معجم مقاييس اللُغة، تحقيق: عبد السّلام مُحمّد هارون، منشورات دار إحياء التُّراث العربيّ - عيسى البابي وشركاه، الطّبعة الأُولى، القاهرة 1366 ﻫـ.

* الفاضل، أحمد محمد

136. الاتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن دراسة ونقد، مركز الناقد الثقافي، الطبعة الأولى، (دمشق - 2008م).

* فايل، جوستاف (المستشرق)

137. مدخل تأريخيّ نقديّ إلى القرآن، بلا مطبعة، (بيروت – 1980م).

* الفجاري، مختار

138. نقد العقل الإسلاميّ عند محمد أركون، دار الطليعة، الطبعة الثانية، (بيروت – 2005م).

* الفراهيديّ، أبو عبد الرّحمن الخليل بن أحمد (ت 175 هـ)

139.  كتاب العين، تحقيق: مهدي المخزوميّ، إبراهيم السّامرائيّ، المطبعة: الصّدر، النّاشر: مُؤسّسة دار الهجرة، الطّبعة الثّاني 1409 هـ.

* الفضلي، الشيخ عبد الهادي

140. خلاصة علم الكلام، مؤسسة دار الكتاب الإسلاميّ، الطبعة الثانية، (بدون مكان – 2007م).

* فوزي، فاروق عمر

(215)

141.  الاستشراق والتأريخ الإسلاميّ، دار الأهليّة للنشر، (الأردن – 1998م).

*  فوك، يوهان

142.  تأريخ حركة الاستشراق (الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا حتى بداية القرن العشرين، نقله: عمر لطفي العالم، دار المدار الإسلاميّ، الطبعة الثانية، (ليبيا – 2001م).

*  الفيروز آباديّ، مُحمّد بن يعقوب بن مُحمّد بن إبراهيم (ت 817 هـ)

143.  القاموس المحيط، بحواشي نصر بن نصر يونُس الهورينيّ (ت 1291 هـ)، دار العلم للجميع - بيروت.

حـــرف الـقــــاف  

*  القاضي، عبد الجّبار المعتزليّ (ت 405 ﻫـ)

144. شرح الأصول الخمسة، تحقيق: عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، (بدون مكان – بلا زمان).

* قانصو، وجيه

145.  النصّ الدينيّ في الإسلام من التفسير إلى التلقّي، دار الفارابي، الطبعة الأولى، (بيروت – 2011م).

* قدور، أحمد

146.  مبادئ اللسانيّات العامّة، جامعة حلب، (سوريا – 2006م).

*  القرني، محمد بن حجر

147. موقف الفكر الحداثي العربي من أصول الاستدلال في الإسلام، مجلة البيان، الطبعة الاولى، (الرياض – 1434هـ).

* قراش، محمد

(216)

148.   الخطاب القرآنيّ وإشكالية القراءة الحداثية، رؤية للنشر والتوزيع، (القاهرة –2017م).

حـــرف الـكــاف  

* ابن كثير، عماد الدّين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشيّ الدّمشقيّ (ت 774 ﻫـ)

149. تفسير القُرآن العظيم (تفسير بن كثير)، المطبعة: دار المعرفة-بيروت، الطّبعة 1412ﻫـ.

* الكلام، يوسف

150.  تأريخ وعقائد الكتاب المقدّس، دار صفحات للدراسات والنشر، (دمشق – 2009م).

* الكوراني، علي

151.  تدوين القرآن، منشورات دار القرآن الكريم، الطبعة الأولى، (إيران – بدون تأريخ).

* كيشانه، محمود

152. القصص القرآنيّ في مرآة الاستشراق دراسة نقديّة، العتبة العباسية المقدسة -المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، الطبعة الأولى، (النجف، العراق– 2020م).

حـــرف الـلام  

* لالاند، أندريه

153.  موسوعة لالاند الفلسفيّة، منشورات عويدات، تعريب: خليل أحمد خليل، الطبعة الثانية، (بيروت – 2001م).

(217)

حـرف الـميـم

* ماضي، محمود

154. الوحي القرآنيّ في المنظور الاستشراقيّ ونقده، دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، (مصر – 1996م).

* مجموعة باحثين

155.   نصر حامد أبو زيد دراسة النظريّات ونقدها، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، الطبعة الأولى، (العراق – 2019م).

* مجموعة باحثين

156.  علوم القرآن في الإبستميّة المعاصرة مقاربة تفكيكية نقدية، مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى، (بيروت – 2018م).

* مجموعة مؤلّفين

157.  الاستشراق إدوارد سعيد صورة قلميّة منحازة، ترجمة: كامل عويد العامريّ، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، (دمشق – 2017م).

* مجموعة مؤلّفين

158. سلسلة اللاهوت المعاصر دراسة نقديّة (الهرمنيوطيقا)، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، الطبعة الأولى، (العراق – 2020م).

* مجموعة مؤلّفين

159.  محمد أركون دراسة النظريّات ونقدها، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، الطبعة الأولى، (العراق – 2019م).

* مجموعة مؤلّفين

(218)

160.  نصر حامد أبو زيد دراسة النظريّات ونقدها، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، الطبعة الأولى، (العراق – 2019م).

*مراد، يحيى

161. افتراءات المستشرقين على الإسلام والرد عليها، دار الكتب العلمية، (بيروت – 2004م).

162.  معجم أسماء المستشرقين، دار كتب عربيّة، (بدون مكان – بدون تأريخ ).

* مصطفوي، محمد

163.  أساسيّات المنهج والخطاب في درس القرآن وتفسيره، مركز الحضارة لتنميّة الفكر الإسلاميّ، (بيروت – 2009م).

* المطعني، عبد العظيم

164. الإسلام في مواجهة الاستشراق العالميّ، دار الوفاء، (مصر– 1987م).

* المظفّر، محمّد رضا

165.   المنطق، مؤسسة النشر الإسلاميّ، (قم إيران – بلا تأريخ).

* معرفة، محمّد هادي

166. تلخيص التمهيد، مؤسسة التمهيد، الطبعة الثانية، (قم إيران – 2012م).

* ابن منظور، أبو الفضل جمال الدّين مُحمّد بن مكرم الإفريقيّ المصريّ (ت 711 ﻫـ)

167. لسان العرب، دار الكتب العلميّة، (بيروت – 2005م).

* الموسويّ، روح الله

168. القرآن والعقل الحداثيّ مؤسسة الدليل للدراسات والبحوث العقدية، الطبعة الثانية (كربلاء العراق – 2019م).

(219)

حـرف الـنّـون  

*  أبي نادر، نايلة

169.   التراث والمنهج بين أركون والجابري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الاولى، (بيروت – 2008م).

* نجدي، نديم

170. أثر الاستشراق في الفكر العربي المعاصر، دار الفارابي، (بيروت – 2005م).

* النشار، علي سامي

171. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، (مصر – 1965م).

* النصراوي، عادل عباس

172.   إشكالية فهم النّصّ القرآني عند المستشرقين، دار الرافدين، (بيروت – 2016م).

*  نقاز، الدكتور إسماعيل

173. مناهج التأويل في الفكر الأصوليّ دراسة تحليليّة ونقديّة مقارنة لمناهج التأويليّة المعاصرة، مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى، (بيروت – 2017م).

* النملة، علي بن إبراهيم

174.  الاستشراق والدراسات الإسلاميّة، مكتبة التوبة، الطبعة الأولى، (الرياض – 1998م). 

*  نولدكه، تيودور (المستشرق)

175. تاريخ القرآن، نقله إلى العربية: جورج تامر، دار نشر جورج إلمز، الطبعة الاولى، (بدون مكان – 2004م).

(220)

حـرف الهـاء  

* الهاشمي، علي حسن مطر

176. قراءة نقدية في تأريخ القرآن للمستشرق تيودور نولدكه، دار الكفيل، (كربلاء-العراق- 2014م).

حـرف الواو  

* وافي، علي عبد الواحد

177. علم اللغة، نهضة مصر للطباعة والتوزيع، الطبعة التاسعة، (القاهرة – 2004م).

* وهبة، مراد

178. المعجم الفلسفي، مكتبة الأسرة، (بدون مكان –2016م).

* وات، مونتغمري (المستشرق) (2006م)

179.  محمد في المدينة، تعريب: شعبان بركات، منشورات المكتبة العصريّة، (بيروت – بدون تأريخ ).

180.  محمد في مكّة، تعريب: عبد الرحمن الشيخ، منشورات الهيئة العامّة المصريّة للكتاب، (القاهرة – 1415هـ).

* بو عمامة، نجادي

181.  النصّ في القرآن بين تأويل القدامى والمحدثين دراسة تحليليّة، اطروحة دكتوراه، إشراف: د. محمد عباس، (كلية الآداب واللغات - جامعة أبي بكر بلقايد)، (2014م).

*  الدروغي، إيناس جاسم

(221)

182. التطبيق والإسقاط وأثرهما في فهم النّصّ القرآنيّ، رسالة ماجستير، إشراف: أ.د. ستار الأعرجي وأ.د. حيدر اليعقوبي، (جامعة الكوفة - كلية الفقه)، العراق، 2018م.

* الطريحي، سحر جاسم عبد المنعم

183.  الدراسات القرآنيّة في الاستشراق الألمانيّ، أطروحة دكتوراه، إشراف: أ.د. محمد حسين علي الصغير، (جامعة الكوفة - كلية الفقه)، العراق 2012م.

* الصغير، عمّار عبد الرزاق

184.  الأسس المنهجيّة للقراءة التأويليّة المعاصرة للنصّ القرآنيّ دراسة نقدية، أطروحة دكتوراه، إشراف: أ.د. علي كاظم سميسم، (جامعة الكوفة - كلية الفقه)، العراق، 2021م.

* مداقين، هشام

185.  المقاربة السيميائية في تحليل الخطاب القرآنيّ عند محمد أركون سورة الفاتحة أنموذجًا، رسال ماجستير، إشراف عباس بن يحيى، (جامعة المسيلة – كليّة الآداب والعلوم الاجتماعية)، 2010

* مصطفى كحيل

186. الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون، اطروحة دكتوراة، جامعة منتوري، الجزائر، (2008م).

* مهدي، حميد

187. فهم النّصّ القرآنيّ بين القدامى والحداثيّين، رسالة ماجستير، إشراف: أ.د. كريم شاتي السرّاج، (جامعة الكوفة – كليّة الفقه)، العراق، (2015م).

* هواري، حمادي

188. النصّ القرآنيّ وآليّات الفهم المعاصر، اطروحة دكتوراه، إشراف: بومدين

(222)

بوزيد، (جامعة وهران – كليّة العلوم الاجتماعية)، الجزائر، (2013م).

* نور الدين، باب العياط

189.      النصّ القرآنيّ دراسة بنيويّة، رسالة ماجستير، إشراف: الجيلالي سلطاني، الطعان (جامعة وهران - كلية العلوم الإنسانية والإسلامية)، (2015).

* بلعباس، مصطفى

190.      قراءة النّصّ القرآني على ضوء المنهج اللساني - المقاربة الألسنية السيميائية لمحمد أركون أنموذجًا -، مجلة الخطاب والتواصل، العدد الــ(3)، (الجزائر – 2017م) .

* بو دربالة، علي

191. قراءة النّصّ القرآنيّ عند الحداثيين العرب المعاصرين (الخلفيات الفكرية والاستراتيجيات المعرفية)، مجلة المدونة، المجلد ال(6)، العدد ال(2)، (الجزائر – 2019م).

* تاج، بالطير – بلعباس، مصطفى

192.  قراءة النّصّ القرآنيّ على ضوء المنهج الهرمنيوطيقي نصر حامد أبو زيد أنموذجًا، مجلة قراءات، العدد الــ(7)، (الجزائر – 2017م).

* بن تونسي، عادل

193.  النصّ القرآنيّ بين تأويل القدامى والمحدثين – قراءة في الضوابط والمفاهيم، مجلة المدونة، المجلد الـ(6)، العدد الــ(2)، (الجزائر – 2019م).

* جرادي، شفيق

194.   النص القرآنيّ بين قداسة المعنى وتاريخانية المعرفة، مجلة البصائر، العدد الــ(51)، (بيروت – 2006).

* جيليو، كلود

(223)

195.  مبحث الدراسات المعاصرة، النشرة الفرنسية، بحث على الانترنت.

* حسن، محمد خليفة

196.  دراسة القرآن الكريم عند المستشرقين في ضوء علم نقد الكتاب المقدّس، بحث على الانترنت، 2012م.

* حسين، محمد توفيق

197.  الإسلام في الكتابات الغربيّة، مجلة عالم الفكر، العدد الخاص دراسات إسلاميّة، الكويت.

* حميدي، خالد كاظم

198. فهم النّصّ القرآنيّ في ضوء المنهج السيميائي دراسة تنظيرية وتطبيقية، مجلة المعيار، المجلد الـ(17)، العدد الــ(33)، (الجزائر – 2013م).

* خلادي، محمد الأمين

199. قراءة النّصّ القرآنيّ بين الضوابط ومناهج الدراسة المعاصرة، مجلة علوم اللغة العربيّة، المجلد ال7 العدد ال7، (الجزائر – 2015م).

* خنوس، نور الدين

200.  الخلفيّة الاستشراقيّة لمنهج النقد التأريخيّ للنصّ الدينيّ عند محمد أركون، مجلة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، العدد 21، (الجزائر – 2015).

* رجب، الدكتور عبد الرزاق أحمد

201.  الظاهرة الفيلولوجيّة في الدراسات القرآنيّة عند المستشرقين عرض وتحليل ونقد، مجلة الجامعة الإسلاميّة للدراسات الإسلاميّة، 2015م.

* رحماني، أحمد

(224)

202. قضيّة قراءة النّصّ القرآنيّ، بحث منشور على شبكة الانترنت.

* رشيدي، محمود

203.  مناهج المستشرقين الألمان في دراسة القرآن الكريم في ضوء نظريات الترجمة الحديثة، بحث على الانترنت، 2012م.

* روابح، سعاد – جيدل، عمار

204. فقه النّصّ القرآنيّ بين خصوصيّة التأويل وقصديّة الانفتاح الدلالي عند الحداثيّين، حث مقدم إلى الملتقى الدولي الثالث بعنوان القراءات الحداثية للعلوم الإسلامية رؤية نقدية، (الجزائر – 2018م).

* زماني، محمد حسن

205.   الاستشراق تأريخه ومراحله، مجلة دراسات استشراقيّة، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، العدد الأول، (العراق – 2014م).

* شبستري، محمد مجتهد

206.   القراءة النبويّة للعالم، مجلة قضايا إسلاميّة معاصرة، العدد الــ(57-58)، (بغداد – 2014م).

207.  القراءة النبويّة للعالم، مجلة قضايا إسلاميّة معاصرة، العدد الــ(59-60)، (بغداد – 2014).

* بن عاشوراء، صليحة

208.   الخطاب القرآنيّ والمناهج الحديثة في تحليله دراسة نقديّة، بحث مقدّم إلى الملتفى الدوليّ الثالث في تحليل الخطاب، مجلة الأثر، المجلد الــ(10)، العدد الــ(11)، (الجزائر – 2011م).

* بو زيد، لخضر

(225)

209.  الدراسات الاستشراقيّة وخطرها على العقيدة والفكر الإسلاميّ، مجلة دراسات استشراقيّة – المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العدد الــ(15)، (العراق – 2018م).

* عباس، حامد رجب

210.  المقاربة الحداثيّة الأركونيّة للوحي، فاتحة الكتاب أنموذجًا، مجلة العمدة في اللسانيات وتحليل الخطاب، العدد الثاني، (الجزائر – 2017م).

* عزوزي، حسن

211.  مناهج المستشرقين البحثية في دراسة القرآن الكريم، بحث منشور على الانترنت.

* عزيزي، مصطفى

212. تأريخيّة النصّ الدينيّ عرض ونقد، مجلة الدليل، العدد الـ(8) السنة الثالثة، (كربلاء – 2020م)

* علوي، حيدر

213. فهم النّصّ في سياقه التأريخيّ، تعريب: أحمد القزويني، مجلة البصائر، العدد الــ(39)، (بيروت – 2006).

* لزعر، سليمة

214. من المناهج الحديثة في قراءة النّصّ القرآنيّ منهج الطيب تيزيني أنموجًا، بحث مقدّم إلى الملتقى الدوليّ الثالث بعنوان القراءات الحداثيّة للعلوم الإسلاميّة رؤية نقديّة، (الجزائر – 2018م).

* المحسن، عبد الراضي محمد

215. مناهج المستشرقين في ترجمة معاني القرآن دراسة تأريخية نقدية، (بحث مقدّم لندوة ترجمة معاني القرآن الكريم بالمدينة المنورة)، 1423هـ.

* محمد، ضياء الدين

(226)

216.  القرآن من النّصّ إلى الخطاب قراءة في مشروع نصر أبو زيد التأويليّ، مجلة دراسات وأبحاث، العدد الــ(27)، (الجزائر – 2017م).

* هاليبر، رون

217.  العقل الإسلاميّ أمام تراث عصر الأنوار في الغرب، (مقابلة مع محمد أركون).

* هرماس، عبد الرزاق

218.   دعوى فهم القرآن الكريم في ضوء مناهج العلوم الإنسانيّة منطلقاتها حقيقتها آفاقها، المؤتمر الدوليّ الأول لتطوير الدراسات القرآنيّة - جامعة الملك سعود، (السعودية – 2013م).   

219.  القرآن الكريم ومناهج تحليل الخطاب، بحث منشور على الانترنت، (المغرب – بدون تأريخ ).

* الوائليّ، عامر عبد زيد

220.  الضلع المفقود علاقة المفسّر بالنصّ قراءة في منطلقات تأويليّة نصر أبو زيد، مجلة فتوحات، (الجزائر – 2015م).

* واعظيّ، أحمد

221.      تأريخيّة القرآن عند نصر حامد أبو زيد قراءة نقديّة فاحصة، مجلة نصوص معاصرة، العدد الـ(28)، (بيروت – 2012م).

* هيكل، عبد الباسط سلامة

222.   دراسة القرآن عند أنجليكا نيوفيرت (من رهانات اللاهوت إلى تحليل الخطاب)، مجلة دراسات استشراقيّة، العدد الثامن عشر، العراق – 2019م.

(227)

المواقع الإلكترونيّة 

223.  الموقع الرسميّ لطيّب تيزينيّ.  

224.   موقع مجلّة هسبريس الالكترونية – المغرب

https://www.hespress.com/orbites/256584.html

225.      موقع المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة – قسم الاستشراق / مستشرقون

https://www.iicss.iq/?id=2

226.      موقع ملتقى أهل التفسير – الباحث عبد الرزاق هرماس -

 https://vb.tafsir.net/.

 

(228)
هذا الكتاب يتناول هذا الكتاب الأثر الاستشراقي في الفهم الحداثي للنص القرآني ، وما يتعلق به من مباحث في تأريخ القرآن ، وبيان ما وقع فيه الحداثيون من أخطاء وزلات نتيجة تأثرهم أو اتباعهم لمناهج المستشرقين في دراسة الدين والقرآن ومحاولة فهمها ، بالاستناد الى المناهج الغربية ، وتحليل ومناقشة ونقد مناهج وآراء المستشرقين والحداثيين في هذا المجال ، والبحث عن الآثار السلبية في فهم النص القرآني في ضوء تأثير المناهج الاستشراقية في المناهج الحداثية . المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف