فهرس المحتويات

المقدمة | 7

تمهيد | 9

مسوغات المشروع | 11

1. أزمة اللاعقلانية | 11

2. أزمة التراث | 12

3. أزمة المرجعية السلفية | 13

4. أزمة اللاتاريخية | 14

المنهج والطريقة | 14

1. القراءة الحداثية للتراث | 14

2. العقلانية | 18

3. الموضوعية | 18

4. النظرة التاريخية | 19

5. الاقتباس من الغرب | 20

6. تبيئة المفاهيم | 24

7. الانتقائية | 25

8. السرقات الأدبية | 26

9. التدرّج في الطرح | 27

نقد التراث كمقدمة للمدينة الفاضلة | 32

القطيعة الإبستمولوجية مع التراث | 34

المبحث الأول: القطيعة الفلسفية | 41

تقسيم الفلسفة إلى مشرقية ومغربية | 49

1. الفلسفة المشرقية | 49

2. الفلسفة المغربية | 69

حصيلة البحث | 91

المبحث الثاني: القطيعة الفقهية | 96

المبحث الثالث: القطيعة السياسية | 110

المبحث الرابع: القطيعة الأخلاقية | 119

1. أخلاق الطاعة | 121

2. أخلاق السعادة | 122

3. أخلاق الفناء | 123

4. أخلاق المروءة | 125

5. الأخلاق الإسلامية | 126

حصيلة البحث والملاحظات | 127

المبحث الخامس: القطيعة اللغوية | 133

1. الاقتباس من الغرب | 133

2. أصل اللغة | 134

3. الحلّ الجابري | 137

الخاتمة | 145

مصادر البحث | 147

روئ نقدية معاصرة 1 العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية معالم المدينة الفاضلة عند محمد عابد الجابري هاشم ميلاني

رؤى نقدية معاصرة 1

معالم المدينة الفاضلة 

عند محمد عابد الجابري 

هاشم ميلاني 

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

هوية الكتاب 

الكتاب: معالم المدينة الفاضلة عند محمد عابد الجابري

تأليف: هاشم الميلاني

الناشر: المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

العتبة العباسية المقدسة

الطبعة: الأولى 2018م 1439هـ

الفهرس

المقدمة7

تمهيد9

مسوغات المشروع11

1. أزمة اللاعقلانية11

2. أزمة التراث12

3. أزمة المرجعية السلفية13

4. أزمة اللاتاريخية14

المنهج والطريقة14

1. القراءة الحداثية للتراث14

2. العقلانية18

3. الموضوعية18

4. النظرة التاريخية19

5. الاقتباس من الغرب20

6. تبيئة المفاهيم24

7. الانتقائية25

8. السرقات الأدبية26

9. التدرّج في الطرح27

نقد التراث كمقدمة للمدينة الفاضلة32

القطيعة الإبستمولوجية مع التراث33

المبحث الأول: القطيعة الفلسفية41

(4)

الفهرس

تقسيم الفلسفة إلى مشرقية ومغربية49

1. الفلسفة المشرقية49

2. الفلسفة المغربية69

حصيلة البحث91

المبحث الثاني: القطيعة الفقهية96

المبحث الثالث: القطيعة السياسية110

المبحث الرابع: القطيعة الأخلاقية119

1. أخلاق الطاعة121

2. أخلاق السعادة122

3. أخلاق الفناء123

4. أخلاق المروءة125

5. الأخلاق الإسلامية126

حصيلة البحث والملاحظات127

المبحث الخامس: القطيعة اللغوية133

1. الاقتباس من الغرب133

2. أصل اللغة134

3. الحلّ الجابري137

الخاتمة145

مصادر البحث147

(5)
(6)

مقدمة المركز :

لقد تعّرف العالم الإسلامي العربي على الثقافة الغربية بشكل مباشر بعد هجوم نابليون على مصر عام ( 1798 ) بأهداف سياسية واقتصادية وعسكرية، ومنذ ذلك الحين سيما أيام محمد على باشا (1769 – 1849 ) والبعثات العلمية التي أرسلها إلى أوروبا بدأ العالم الاسلامي يتعرف على الآخر و يذعن بتفّوقه في كافة الميادين مما أدى إلى إحداث روح انهزامية عند فريق من النخب دعت إلى التمسك بالنموذج الغربي للتخلّص من التخلّف .

قد نشأ من هذا الاحتكاك جدل مستمر دام أكثر من قرنين حول (الأصالة والمعاصرة) أو (التراث والحداثة) كما شهد هذا الجدل صعودا وهبوطا تارة للأصالة وتارة أخرى للحداثة أو المعاصرة، ناهيك عن المحاولات التوفيقية بينهما حيث أصبحت المكتبة العربية مليئة بالمشاريع الفكرية والمعرفية المختلفة حول هذا الموضوع ومازال العمل مستمرا إلى يومنا الحاضر.

من هذا المنطلق ووفاءً للمنهج المتبع في المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية لرسم استراتيجيات دينية و معرفية للحال والمستقبل، باتت الضرورة قائمة لتناول هذا الجدل من جديد وفتح ملف العرض والنقد لأهم تلك المشاريع بغية تقييمها وكشف الخطأ والصواب فيها، وذلك ضمن سلسلة: ( رؤى نقدية معاصرة).

(7)

           في هذا الكتاب يتم تناول مشروع الدكتور محمد عابد الجابري (19352010) في نقده للتراث ـ طبعا بصيغته المشرقية ـ ومحاولته إحداث قطيعة معه للتخلص من مدينة الجبارين التي يعيش المسلمون في كنفها والوصول إلى مدينة فاضلة، يرسم الجابري معالمها بحيث لا تختلف عن مدينة الغرب بما فيها من أصول ومبانٍ وقيم، مستعينا بأدوات وآليات ومناهج مستقاة من الغرب أيضا.

فهل كان الجابري موفقاً في نقد التراث؟

وهل كان موفقاً في إحداث القطيعة المعرفية بين المشرق والمغرب الإسلاميين؟

وهل نجح في رسم مدينة فاضلة للعالم الاسلامي؟

هذه الأسئلة وغيرها يحاول أن يجيب عنها هذا الكتاب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الميامين.

النجف الأشرف
20 رجب 1439هـ           
(8)

تمهيد:

أثارت أعمال المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1936 - 2010) جدلًا واسعًا في الوسط العربي والإسلامي بين قادحٍ ومادح، منتقدٍ ومؤيد، وما زالت كتبه تُطبع وتباع وتُقرأ، وما زال الأتباع في الاتّباع ترويجًا ونشرًا وما زال المنتقدون في النقد والتحليل، حيث أنتج هذا الجدل الواسع كمًّا هائلًا من الكتب والدراسات.

ولو أمطنا الستار عن هذا الكم الهائل للوصول إلى كُنه مشروع الجابري، لوصلنا إلى نتيجة واحدة، وهي أنه يحلم برسم معالم ناقصةٍ لمدينةٍ فاضلةٍ على غرار من سبقه من فلاسفة ومفكرين، ولكن غاب عنه أن المدن الفاضلة لا تتحقق سوى في مخيال المنظّر والكاتب، وليس لها نصيب من الواقع إلا بهذا المقدار، ومدينة الجابري الفاضلة لم تكن بدعًا من تلك المدن، إن الجابري يرى أن مدينتنا نحن الآن في الدول العربية والإسلامية إنما هي مدينة الجبارين[1]، وعليه لا بد من التخلّص منها والوصول إلى المدينة الفاضلة.

ولأجل الخلاص من مدينة الجبارين والوصول إلى المدينة الفاضلة في مخيال الجابري؛ لا بد من إحداث قطيعة شاملة ـ بحسب مدعاه ـ مع: 1. الماضي البعيد، وهو الموروث القديم بما فيه من ثقافةٍ وسياسةٍ واجتماعٍ ومعرفة، 2. الماضي القريب، وهو الموروث النهضوي في القرنين

(9)

الأخيرين، 3. المرجعية الغربية وهيمنة الاستعمار على مجال الفكر والسياسة والاقتصاد.

ولكن النتيجة العملية الحاصلة من هذه القطيعة هي القطيعة مع الموروث الإسلامي القديم بصيغته المشرقية، ليبقى مشروعه متمسّكًا بالموروث الغربي من حيث اعتماد الآليات والمناهج نفسها، والموروث العربي بصيغته المغربية، الذي يبدأ من العصر الجاهلي ويمر بالدولة الأموية وينتهي عند ابن رشد، وكأنه يوحي بأن الحالة الرشدية أو الفترة الرشدية هي التي ينبغي أن تكون بدايةً لتشييد عصر تدوين جديد لإعادة بناءٍ شاملٍ للثقافة القومية العربية، بأن تشمل كل الثقافات المحلية والشعبية داخل الوطن العربي، طبعًا بشرط أن تكون بصيغة مغربيةٍ حصرًا، مع التفتُّح التام على الثقافات الأجنبية[1]، فكما أن مرجعية الموروث القديم تعود إلى عصر التدوين الأول في أواخر الدولة الأموية وبدايات العصر العباسي الأول، فمرجعية مدينة الجابري الفاضلة تعود إلى «الروح الرشدية» والثقافة الغربية.

هذا حصيلة مشروع الجابري، وكل ما يذكره من لزوم الاحتفاء بالتراث القديم وعدم رفضه نهائيًا إنما هو تلاعبٌ بالألفاظ، ومراوغةٌ مع التيارات الأصولية والسلفية التي كان على صلةٍ وثيقةٍ بها، سيما السعودية منها، ولكي لا يرمى بالارتداد والإلحاد.

(10)

مسوغات المشروع:

إن المسوّغات أو الأزمات الفكرية في الوطن الإسلامي عمومًا التي دعت الجابري إلى رسم مشروعه هذا وبناء مدينةٍ فاضلةٍ في مخياله، يمكن تلخيصها ـ وبالاعتماد على ما كتبه ـ فيما يلي:

1- أزمة اللاعقلانية

يرى الجابري أن سبب تخلُّف الفكر العربي المعاصر هو اللاعقلانية، لذا يقول: «إن التخلّف الذي نعاني منه فكريًا هو التخلّف المرتبط باللاعقلانية، بالنظرة السحرية إلى العالم والأشياء، بالنظرة اللاسببية، لذلك فإن تحقيق تنميةٍ في الفكر العربي المعاصر يتطلّب فلسفةً، أي يتطلّب طرحًا عقلانيًا لكلّ قضايا الفكر»[1].

ومن الطريف أنه يصف فلسفة أفلاطون وفيثاغورث وابن سينا والفلسفة العربية المعاصرة والغربية سيما الوجودية و... كلها باللاعقلانية، وفي المقابل يوحي بأنَّ الحركة السوفسطائية عقلانية وكذلك الفلسفة المغربية، ثمَّ يتساءل قائلًا: لماذا كانت المحاولات الفلسفية في الوطن العربي الحديث تنحو كلها منحًى لاعقلانيًا؟ ليجيب بأن الاتجاهات والفلسفات اللاعقلانية جاءت كرد فعلٍ، مثلًا أفلاطون جاء كرد فعلٍ على السفسطائيين الذين كان فكرهم ذا طابع تنويري، وكذلك اللاعقلانية في الفكر العربي القديم انطلاقًا من الموروث السينوي والإشراقي كانت رد فعلٍ ضد العقلانية الفلسفية التي وُظّفت في علم الكلام والفقه، كما اليوم كذلك،ش

(11)

فبرغسون اليوم ضد كانط، ونيتشه ضد هيغل[1]، والفلسفة العربیة المعاصرة كلها لاعقلانية، فهي إما أن تنتمي إلى القطاع اللاعقلاني في تراثنا الفلسفي أو إلى القطاع اللاعقلاني في التراث الغربي[2].

وسبب هذه اللاعقلانية عند الجابري هو غياب النقد، وسبب غياب النقد في الفكر العربي المعاصر يعود إلى أمرين: 1. هيمنة التراث على العقلية، 2. حضور الغير الغربي بشكل مكثّف في حياتنا الفكرية والسياسية[3].

أما هيمنة التراث فإنه يُحدث معها قطيعةً ـ كما سنرى ـ، وأما هيمنة الغرب فإنّه عند نقد التراث ومحاولة تأسيس قراءةٍ جديدة يتمسّك بالمناهج الغربية والآليات المستوردة منهم، فيقع في أحضانهم.

2. أزمة التراث

یرى الجابري أن تراثنا العربي والإسلامي ـ طبعًا بصيغته المشرقية ـ تراثٌ مأزومٌ تسيطر عليه الهرمسية والغنوصية واللاعقلانية، وهذه من أهم أسباب التخلف، إنه يقول بهذا الصدد: «إن هناك هيمنةً قويةً للموروث القديم على فكرنا، الشيء الذي جعل أدوات إنتاجنا الفكري تخضع إن قليلًا أو كثيرًا لهذا الموروث القديم بوصفه بنيةً عامة [...] إن مهمة الفكر هي التحرر من هذه الهيمنة»[4].

(12)

«اللغة، الشريعة، العقيدة، السياسة، تلك هي العناصر الرئيسية التي تتكون منها المرجعية التراثية التي قلنا إنه لا سبيل إلى تجديد العقل العربي وتحديثه إلّا بالتحرر من سلطانها»[1].

3. أزمة المرجعية السلفية

يرى الجابري أن الخطاب العربي المعاصر أصيب بالسلفية أجمعه، فهو إما يرجع إلى سلفيةٍ دينية، أو سلفيةٍ استشراقية، أو سلفيةٍ ماركسية[2].

وسبب هذه الآفة عند الجابري أن هذه القراءات وقعت جميعًا في آفتين : 1. آفةٍ في المنهج، 2. آفةٍ في الرؤية، فمن ناحية المنهج تفتقد هذه القراءات الحد الأدنى من الموضوعية، ومن ناحية الرؤية تعاني كلها غياب النظرة التاريخية.

هذه القراءات كلها من الناحية الإبستمولوجية تعتمد على طريقةٍ واحدةٍ في التفكير وهي طريقة قياس الغائب على الشاهد، الغائب هو المستقبل والشاهد هي المرجعية التي يرجع إليها كل واحد منها[3]، فهكذا يقيس العرب جميعًا مشروع نهضتهم من نوع الماضي، إما الماضي العربي الإسلامي، وإما الماضي الحاضر الأوروبي، إما التجربة الروسية أو الصينية.

فاللاتاريخية تعني إلغاء الزمان والتطور، فالحاضر يقاس على الماضي،

(13)

وكأن الماضي والحاضر والمستقبل عبارة عن بساط ممتد لا يتحرك ولا يتموج، واللاموضوعية تعني عدم فصل الموضوع عن الذات، فالشاهد أصبح حاضرًا باستمرار في العقل والوجدان على الدوام[1].

4. أزمة اللاتاريخية

وقد تبيّنت من المقطع السابق إذ إنها تعني إلغاء الزمان والتطور والجمود على الماضي وقياس الحاضر عليه لتكراره في الحاضر والمستقبل.

أزمة اللاموضوعية

وقد تبيّنت أيضًا من المقطع السابق.

 

المنهج والطريقة:

وجود هذه الأزمات التي رسمها الجابري دعته إلى القيام بإعادة قراءة التراث ورسم معالم مدينته الفاضلة، من خلال منهجيةٍ رسم معالمها على ضوء الأسس والمباني المعرفية التي ينطلق منها، ويمكن تلخيصها فيما يلي:

1. القراءة الحداثية للتراث

إن الجابري يندّد في طيات كلامه كثيرًا بالقراءة التراثية للتراث الذي

(14)

يصفه بالحالة السائدة في الوضع الحالي، وللتخلص من هذا الفهم وهذه القراءة يدعو إلى فهمٍ حداثي للتراث، وهذا لا يعني ـ بحد زعمه ـ رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي، بل هو رفعٌ للتراث إلى مستوى المعاصرة، أي مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي[1].

ويضيف قائلًا بأنّ الهدف تحرير تصوّرنا للتراث من البطانة الأيديولوجية والوجدانية التي تضفي عليه ـ داخل وعينا ـ طابع العام والمطلق وتنزع عنه طابع النسبية والتاريخية[2].

كما يواصل كلامه قائلًا: «الحداثة رسالةٌ ونزوعٌ من أجل التحديث، تحديث الذهنية، تحديث المعايير العقلية والوجدانية، وعندما تكون الثقافة السائدة ثقافةً تراثيةً فإن خطاب الحداثة فيها يجب أن يتّجه أولًا وقبل كل شيء إلى التراث لهدف إعادة قراءته وتقديم رؤية عصرية»[3].

وهذا ما يسميه بالوصل والفصل، أي الدعوة إلى قراءةٍ معاصرةٍ تجعل المقروء معاصرًا لنفسه بمعنى فصله عنّا، وتجعله معاصرًا لنا أيضًا بمعنى وصله بنا، فهي وصل وفصل كخطوتين منهجيتين رئيسيتين[4].

إذًا هدف الجابري من إعادة قراءة التراث هو نقده وسلب الإطلاق عنه وإيصاله إلى النسبية والتاريخية وعدم القطعية؛ ليصل إلى تأسيس حداثةٍ عربيةٍ لا تكون متأثرةً ـ بحد زعمه ـ بالحداثة الغربية، ولكنه نسي

(15)

أنّ الحداثة في بناها المعرفية إنّما هي حداثة غربية، وما يريد أن ينتجه الجابري ويحاول رسم معالمه لا يختلف عن الحداثة الغربية في الأسس والبنى التحتية، فالمدعى شيء والنتيجة شيء آخر، المدعى هو الهروب من الحداثة الغربية، والنتيجة هي الوقوع في أحضانها.

إن الهدف من هذه القراءة الملتوية هو تجاوز التراث ولكن تحت عباءة الحفاظ عليه، إنَّ الهدف هو الدعوة إلى الحداثة ونشر قيمها بما تحمل من بُنى في داخلها، إنّه ينادي بإعادة قراءة التراث «حتى نتمكن من تجاوزه مع الاحتفاظ بهِ»[1]، ولا نعلم كيف يمكن الاحتفاظ بما تمّ تجاوزه إلّا في المتاحف مع نوعٍ من التحنيط الذي يحدده بحدود الفردانية والروحانية الشخصيّة كما يقول: «تراثنا قد يكفينا في الميدان الروحي الديني عقيدةً وشريعة [...] أما في ما عدا هذا الميدان فتراثنا جزءٌ من التاريخ [...] أما تراثنا فهو وإن كان يزخر بأنواعٍ من الحداثة شهدتها فترات من ماضينا، فهو لا يكفينا في تحقيق الحداثة المطلوبة في عصرنا»[2].

فالطريق الوحيد هو القراءة الحداثية للتراث لإحداث قطيعةٍ معه وتأسيس تراث الحداثة لا الحداثة التي كانت في بعض ماضينا بل الحداثة الغربية الجديدة: «إن الحداثة تبدأ باحتواء التراث وامتلاكه لأن ذلك وحده هو السبيل إلى تدشين سلسلة من القطائع معه، إلى تحقيق تجاوزٍ معه، إلى تحقيق تجاوزٍ عميقٍ له إلى تراثٍ جديدٍ نصنعه، تراثٍ جديد فعلًا [...] حداثات ماضينا مفيدة لنا على صعيد ربط الحاضر بالماضي، ولكنها لا

(16)

يمكن أن تنوب عن الحداثة التي تطبع عصرنا والتي تُفرض علينا وعلى غيرنا كطريقٍ وحيد لوصل الحاضر بالمستقبل»[1].

فانظر إلى كلماته «احتواء التراث»، «تدشين القطيعة»، «التجاوز العميق للتراث»، «تراث جديد نصنعه»، «تراثنا جزء من التاريخ»، لنصل إلى بيت القصيد وهو أن «الحداثة اليوم ديدن الحياة في كل مجال»[2].

إن مشروع الجابري هو إفساد التراث وإحلال تراث الحداثة محلّه: «المطلوب منّا في ما يخصّ الحداثة ليس أن يحدّث المحدثون أنفسهم، بل أن ينشروا الحداثة على أوسع نطاق، النطاق الأوسع هو التراث، فإذا لم نكن على معرفةٍ دقيقةٍ وعامة بالتراث وأهله، فكيف يمكن أن نطمح في نشر الحداثة فيه، أن نجدّد فيه، أن ندشّن عصر تدوينٍ في مجالاته»[3].

فتبيّن أنّ الهدف من الدعوة إلى التراث ولزوم التعرف عليه، وغيرها من الدعاوي البراقة التي أطلقها الجابري، إنّما كانت بهدف إفساده ببصيرةٍ تامةٍ من خلال التعرف عليه أولًا، وضربه في الأسس والمباني بعد التعرّف عليه ثانيًا.

وهذا ما تنبّهت إليه الباحثة نايلة أبي نادر إذ قالت: «نودُّ أن نوضّح بدايةً أن الجابري لم يهتم بالتراث من أجل التراث في حدّ ذاته، إنّما في سبيل الحداثة التي يتطلّع إليها [...] إن الانشغال بالتراث له هدف تحديثي معاصر [...] [إنّه] أراد أن يبثّ الروح النقدية في كتبه ومحاضراته لأنها الطريق الأقرب إلى الحداثة»[4].

(17)

وذهب محمد المصباحي إلى صريح الأمر ليقول: «إنّ الاتصال بالتراث إنّما هو من أجل الانقلاب عليه والتخلّص منه، أو قل إن الاتصال بالتراث هو تكتيك منهجي، بينما الانفصال عنه من باب الاستراتيجية الرؤيوية»[1].

2. العقلانية

إن العمود الفقري للحداثة الإسلامية عند الجابري هو العقلانية، إذ يقول: «ونحن نعتقد أنّه ما لم نمارس العقلانية في تراثنا، وما لم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث، فإنّنا لن ننجح في تأسيس حداثةٍ خاصةٍ بنا، حداثةٍ ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة العالمية كفاعلين وليس مجرد منفعلين»[2]، إذًا لا بد من استيعاب التراث استيعابًا عقلانيًا، وهو ليس نشرَ وتحقيق النصوص، بل التعامل مع هذه النصوص بشكل عقلاني، وذلك من خلال إضفاء المعقولية على تاريخنا الفكري والسياسي[3]، وعليه إننا ما لم نؤسس ماضينا تأسيسًا عقلانيًا فلن نستطيع أن نؤسس حاضرًا ولا مستقبلًا بصورةٍ معقولة[4].

3. الموضوعية

الموضوعية التي يعنيها الجابري ويدعو اليها تتلخص في فصل الموضوع عن الذات وفصل الذات عن الموضوع، وهي قاعدته الذهبية التي يقول عنها: «يجب تجنّب قراءة المعنى قبل قراءة الألفاظ، يجب

(18)

التحرّر من الفهم الذي تؤسسه المسبقات التراثية أو الرغبات الحاضرة، يجب وضع كل ذلك بين قوسين والانصراف إلى مهمةٍ واحدةٍ هي استخلاص معنى النص من ذات النص نفسه، أي من خلال العلاقات القائمة بين أجزائه»[1].

4. النظرة التاريخية

وقد أشرنا إليها سابقًا ضمن الأزمات، وما يعنيه الجابري من النظرة التاريخية للفكر إنما تتحدّد بشيئين: 1. الحقل المعرفي؛ وهو المادة المعرفية التي يتحرك فيها الفكر: مفاهيم، تصورات.. 2. المضمون الأيديولوجي، والوظيفة السياسية والاجتماعية المتوخاة من تلك المادة[2].

كما أن الجابري يفسّر النظرة التاريخية بأنها تنطلق من أن الحقيقة ليست معطى جاهزًا متعاليًا، بل معطى تاريخي، بمعنى أنّه يتطور مع التاريخ، ومعنى هذا أن الحقيقة في كل عصر هي أقرب إلى الكمال منها في العصر السابق، وأنّ الآتي أقرب إلى الحقيقة من الراهن[3] لذا يدعو إلى اعتماد هذه النظرة في قراءة التراث ويقول: «فلننظر إلى ماضينا كله نظرةً تاريخية [...] النظرة التاريخية التي ترى الكمال صيرورةً وليس معطًى جاهزًا جامدًا»[4].

وفي مقطع آخر يدعو إلى المزاوجة بين ثلاثة أسس لينال مبتغاه:

(19)

«المزاوجة بين المنهج البنيوي والمنهج التاريخي والطرح الأيديولوجي الواعي، هي الأساس المنهجي للرؤية التي نحاول اعتمادها في معالجة بعض مشاكلنا الفكرية»[1].

والنظرة التاريخية هذه تفقد حيوية النصوص الدينية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، بل تجعلها رهينة الظروف التي ولدت فيها وغير ساريةٍ في سائر الأزمان، فهي نظرةٌ تتقاطع مع خاتمية الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان وكونه هدى للبشرية أجمع.

5. الاقتباس من الغرب

يعوّل الجابري كثيرًا على ما أنتجته المدرسة الغربية من أسسٍ ومبانٍ فكريةٍ معرفية، حيث إن أهم مبانيه التنظيرية في قراءة التراث والتأصيل الجديد مقتبسة من الغرب، حيث تأثّر بالمدرسة الاستشراقية كثيرًا، وقد أشار الباحث إبراهيم السكران إلى اقتباساته منها حيث تأثّر بهنري كوربان الفرنسي في إلقاء الخلاف بين ابن سينا وابن رشد، وتأثّر بجولد تسيهر حول الحقبة الجاهلية، كما تأثّر بما ترجمه بدوي من أعمال المستشرقين[2]، وقد أشار جورج طرابيشي إلى هذه الظاهرة أيضًا حيث إنّ الجابري رغم نقده اللاذع للاستشراق استورد ما ذكروه حول الفلسفة في المشرق، الأمر الذي أهمله باحثون في تاريخ الفلسفة أمثال مصطفى عبد الرازق وإبراهيم مدكور[3]، كما لوّح محمد مصباحي إلى هذه الظاهرة أيضًا[4]، مثلما أشار

(20)

الباحث محمود أمين العالم إلى استفادة الجابري من التراث المنهجي العلمي في الغرب أمثال فوكو، دوبريه، لوكاتش، غرامشي وغيرهم[1].

وذكرت الباحثة نايلة أبي نادر أنّه اعتمد مرجعياتٍ ومنهجياتٍ فلسفيةً متعددة، مثل طروحات ديكارت وبعض مفاهيم فلسفة الأنوار، ومفاهيم مستعارة من باشلار وفوكو وبياجي وألتوسير وغرامشي، وكان يميل إلى الاستفادة من المفاهيم الماركسية في منحاها النقدي[2].

وهذا أمر لا يخفيه الجابري وكرر الإشارة إليه من قبيل: لزوم الانخراط في الحداثة المعاصرة العالمية[3]، ومواكبة التقدّم الحاصل على الصعيد العالمي[4]، المزاوجة بين علم اللسانيات المعاصر والأنثروبولوجيا البنيوية مع المنهج التاريخي[5]، الاستفادة من الثقافة الغربية وأساليب النقد فيها[6]، الاعتماد في مباحث العرفان على دراسات الباحثين الأوروبيين والاكتفاء بالترجمة والتلخيص بمعنى تبنّي تلك الآراء والاكتفاء بها[7]، الاستناد إلى فكر العصر الحديث ومنطقه[8]، الأخذ من الفكر العالمي المعاصر ما يخدم التقدم ويسير في اتجاه تطور التاريخ ورفض ما ينفع الاستعمار[9]، الدعوة إلى نقد العقل من خلال تعرية أسسه وتطويرها

(21)

بمفاهيم واستشرافات جديدة مستقاة من الفكر الإنساني المتقدم أي الفكر الفلسفي والفكر العلمي[1]، الاعتماد على آراء فرويد وبياجي في مسألة اللاشعور[2]، الاعتماد على «هردر» في العلقة بين اللغة والفكر[3]، الاعتماد على البحوث العلمية المعاصرة في مقام تحليل التراث[4]، الاعتماد على فيستوجيير في بحثه عن الهرمسية[5]، وكذلك الباحث الفرنسي هنري شارل بويش فيما يتعلق بالغنوصية ومدارسها[6]، التصريح بتوظيف المفاهيم المستعارة من الفكر العلمي الاجتماعي والسياسي المعاصر[7]، الاقتباس من ريجيس دوبري في مفهوم اللاشعور السياسي[8]، وكذلك استعارة مفهوم المخيال الاجتماعي من علم الاجتماع المعاصر[9]، وكذلك مفهوم المجال السياسي[10]، الاعتماد على ايون بانو أستاذ تاريخ الفلسفة بجامعة بوخارست برومانيا في مسألة علاقة الفكر والواقع[11]، الاعتماد على ميشل فوكو في تحليل مسألة علاقة الراعي والرعية في الفكر السياسي القديم[12]، وأخيرًا الدعوة إلى التفتح التام على الثقافات الأجنبية الأخرى[13]، طبعًا

(22)

هذا عدا ما يتبناه من أسس ومبادئ أخرى من قبيل الديمقراطية والمجتمع المدني وما شاكل.

إذًا هذه أهم الأسس والمباني التي انطلق منها الجابري في عملية إعادة قراءة التراث ورسم معالم مدينته الفاضلة التي لا تختلف كثيرًا عن المدن الأوروبية المعاصرة، وإذا كان هناك نقد للغرب في طيات كلام الجابري فإنّه يعود إلى نقد الهيمنة الغربية والحالة الاستعمارية التي يشترك فيها الدعاة إلى القومية من اليساريين في العالم الإسلامي وغير الإسلامي، وهذا أيضًا بدوره مقتبس من الغير، إذ بما أنّ الشيوعية نقدت الرأسمالية والاستعمار الغربي، فهؤلاء المفكرون العرب اتبعوا مرجعيتهم الفكرية والسياسية ونقدوا الغرب أيضًا من هذه الجهة، أما في مقام الأسس والمباني الفكرية فإنهم ـ كما ترى ـ لا يتخلّون عنها بل هي مرجعيتهم الفكرية الوحيدة، وما يوجد في طيات كلامهم من محاولة الجمع بين التراث والحداثة لم تكن سوى مراوغاتٍ بسيطة لا تمتّ إلى الواقع بصلة، إنها محاولاتٌ بائسة إما لإسكات المعارضين من الأصوليين، أو حفاظًا على النفس والمال، أو محاولةُ استمالةِ قلوب عامة الناس من المتدينين، أو إظهار مشروعهم بصيغةٍ إسلامية كي لا تنفر عنهم الطباع.

نستخلص مما مضى أنّ مدينة الجابري الفاضلة والتي يحلم برسم معالمها ويأمل تطبيقها في الوطن العربي لم تكن إلّا سرابًا يحسبه الظمآن ماءً، إذ هي لا تختلف عن نماذجها الغربية الأخرى بل ستكون أقل منها بكثير، وذلك أنها لن تستطيع المواكبة مع ركب الحضارة بشكل مباشرٍ وسريعٍ ومع الإحاطة بالمستجدات كافة إلا بعد مرور قرن من الزمن، وهذا

(23)

ما نراه بالعيان إذ الغرب بدأ منذ مائة عام بما بعد الحداثة ونقد الحداثة، أما العالم العربي والإسلامي فبدأ ينادي بالحداثة الآن، كما أن العالم الغربي بدأ بنداء ما بعد العلمانية، النداء المغيّب تمامًا عن الساحة الفكرية العربية والإسلامية، وهذا ما لمح به الجابري نوعًا ما[1].

6. تبيئة المفاهيم

ابتدع الجابري مفهوم «تبيئة المفاهيم» عند اقتباسه من الغرب ليتخلّص من إشكالية التبعية للغرب، فضيّع المشيتَين، فلا هو الذي استخدم هذه المفاهيم في مجالها التداولي الصحيح، ولا وُفّق في هذه التبيئة أيضًا.

والسبب في هذه العملية الملتوية المقلوبة أنه أولًا يرى: «إننا لا نستطيع أن نقوم بالبحث وأن نخترع في نفس الوقت أدوات البحث أعني المفاهيم»[2]، فلذا لا بد من استيراد هذه الأدوات والمفاهيم من الغرب ثانيًا، وثالثًا بما أنّ هذه المفاهيم ولدت في بيئة غير بيئتنا تناسب واقع التجربة الأوروبية، حاول الجابري تفريغها من محتواها وتغيير توظيفها بما يتناسب مع مشروعه: «أما وسائل عصرنا المنهجية والمعرفية فيجب أن نستعين بها فعلًا ولكن لا بفرضها على الموضوع وتطويع هذا الأخير في قوالبها، بل بالعمل على العكس من ذلك، على تطويع قوالبها بالصورة التي تجعلها قادرةً على أن تمارس قدرتها الإجرائية أعني وظيفتها كأدواتٍ علمية»[3].

(24)

هذه العملية الملتوية والمقلوبة أصبحت مورد نقد أصدقاء الجابري فضلًا عن مناوئيه، فهذا عبد الإله بلقزيز يستشكل على الجابري بأنّه أخذ حريته في تضمين تلك المفاهيم دلالاتٍ جديدةً تخالف دلالاتها الأصلية، ولم يحاول أن يحافظ على الحدّ الأدنى من شخصية تلك الدلالات قبل توظيفها، أي قبل اختبار مدى قابليتها أثناء البحث لاكتساب دلالات جديدة، وهذا أدّى إلى فشله في التبيئة بل وقوعه في تناقضاتٍ ومفارقاتٍ مثيرة[1].

7. الانتقائية:

إنّ الجابري لم يتقيّد بمنهجٍ محدّدٍ بل كان ينتقي من المناهج ما ينفع مشروعه، فوقع في الانتقائية وعدم وضوح معالم العمل والنتائج، مضافًا إلى أنّه وقع في مطباتٍ معرفيةٍ كثيرة، منها ما مرّ في الفقرة السابقة في مسألة التبيئة، فقد أشار السيد ولد أباه إلى أنّ الجابري استلهم من فوكو في تحقيب التراث لكنه حرّف منهج فوكو بما يتناسب مع مشروعه[2].

وقد أشار إلى هذه الانتقائية الباحث إدريس هاني أيضًا إذ ذكر أنّ الجابري لا يلتزم بقواعد أي منهج، وأنّه يتعامل مع المنهج بصورةٍ إجرائيةٍ بحتة، أي إخضاعه إلى غايات الموضوع[3]، كما أنّه يتمسك بمنهجٍ خطابي ويستثمر كمًّا هائلًا من المصادرات الخطابية للوصول إلى غايته، إنّه مشروع تستبد النتيجة بمقدماته[4].

(25)

ومن النماذج الأخرى على انتقائية الجابري وقوعه في مغالطة الكنه والوجه، وهذا ما أشار إليه بلقزيز من أنّه «ينتقي من الكتاب/ المصدر نصًا بعينه فيعدّه بيت القصيد في الكتاب وفي فكر صاحبه، فيبني عليه استنتاجات عامة تُدخل المؤلف إدخالًا أقنوميًّا في خانةٍ معدّةٍ سلفًا، ذلك مثلًا ما نلحظه في دراساته المجموعة في كتاب نحن والتراث، دراستاه عن الفارابي وابن سينا مثلًا»[1].

إنّ «الجابري سقط في نزعة الانتقاء والابتسار، وهي نزعة أيديولوجية بامتياز يتعذّر معها القيام بأي نوع من الاستنتاج والتعميم، نظير ذلك الذي سلكه في كتابه نقد العقل العربي»[2].

8. السرقات الأدبية:

قد أشار غير واحد من الباحثين إلى سرقات الجابري الأدبية، إذ ينقل مقاطعَ وآراءً ويتبنى أسسًا معرفيةً يبني عليها بناءه، ويخيّل للقارئ أنّها من إبداعاته الفكرية.

ونحن لم نكن بصدد تتبع هذه السرقات بل نكتفي بذكر بعض الشواهد التي أشار إليها طرابيشي الناقد المناوئ وبلقزيز الصديق الحميم للجابري.

فقد أشار جورج طرابيشي إلى أنّ فكرة التفكير بالعقل وفي العقل التي تعدّ فرضيةً أساسيةً عند الجابري مقتبسٌة من محمود قاسم[3]، كما أنّ إرجاع الثقافة العربية إلى عصر التدوين مأخوذةٌ من أحمد أمين[4].

(26)

أما عبد الإله بلقزيز فإنّه ينتقد الجابري في نقطتين: 1. إحجامه في الأعم الأغلب عن التصريح بمصادره والمراجع العربية التي يعتمدها في كتابة ما يكتبه، وهي كثيرةٌ وافرةٌ بين سطور كتبه، وخاصةً ما ينتمي منها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر. 2. تجاهله مساهمات باحثين عرب معاصرين عملوا في دراسة التراث، وقد استفاد منهم الجابري كثيرًا في ما كتبه، وأحيانًا بلغت الاستفادة منهم حدّ إعادة عرض أفكارهم وأطروحاتهم في كتبه ولكن مجرّدةً من أسمائهم، والأمثلة على ذلك كثيرة.

ثمّ انّ بلقزيز يختصر الأمر ويشير إلى نماذج أربعةٍ كشاهدٍ على مدّعاه، إنّ الجابري تجاهل أحمد أمين الذي أخذ عنه تقسيمه الثقافة العربية إلى بيان وبرهان وعرفان، وتجاهل عبد الرحمن بدوي في كتبه عن الفلسفة وعلم الكلام والتصوف والنزعات الباطنية والغنوصية والهرمسية في الإسلام، وتجاهل فهمي جدعان في ما كتبه عن محنة أحمد بن حنبل، وأخيرًا عدم الإشارة إلى سبق ناصيف نصار في استخدام مفاهيم العقيدة والغنيمة والقبيلة في تحليل المجال السياسي الإسلامي[1].

9. التدرّج في الطرح

حاول الجابري أن يتدرّج في نقد التراث سيما الديني منه، كي لا يقحم نفسه في مواجهةٍ فكريةٍ معرفية مع أنصار التراث، مواجهةٍ ربما تودي بحياته أو تخرجه من كونه مصلحًا دينيًا، كما أنّ هذا المنهج يحافظ له على أواصره وعلاقاته مع المملكة العربية السعودية التي استضافته مرات عدّة، مضافًا إلى

(27)

أنّ هذه العملية الملتوية أفضل طريق للتغلّب على الأصولية ونشر العقلانية العلمانية من خلال حربٍ ناعمةٍ تستغلّ المصطلحات والمفاهيم لتضمر حقيقتها في طياتها ممّا يسهّل التخلّص من الإلزامات والإشكالات.

إنّه كان يرى من جهة أنّ الخطاب الحداثوي لم يصنع شيئًا طيلة عقودٍ عدّة رغم وجود تيّارٍ علمانيٍ ليبرالي وربما إلحادي أيضًا كاسحٍ في طبقة النخبة، ومن جهة ثانية كان يرى أنّ التيار الأصولي والمتمسك بالتراث يكتسح الساحة يومًا بعد يوم، إنه يقول: «ألم تسفر مثل هذه الدعوات [أي الدعوة إلى التحديث وإلغاء التراث] عن نتائج عكسية تمامًا؟ ألم يتعاظم مفعول السلطات المذكورة، سلطات مرجعيتنا التراثية حتى أصبحت تكتسح الساحة اكتساحًا؟»[1]، فالطريق الأمثل هو الدوران بين المطرقة والسندان والتدرّج في الطرح والاحتياط في نقد التراث، إذ لم يكن الوقت مناسبًا لنبذه تمامًا حسب وجهة نظر الجابري، وحسب قراءته للمشهد الثقافي الإسلامي والعربي طيلة هذه العقود المنصرمة.

إنّ الجابري بعد قراءته لهذا المشهد الثقافي قراءةً واعية، يرى أنّ النتائج العملية لعملية التحديث في الوطن العربي تفرض على الحداثويين العرب إعادة النظر في طريقة عرض الحداثة، كما أنّه يرى أنّ التيارات الحضارية التي تعمّم نفسها من فوق، سواء بقوة السلاح أو بالتفوّق في مجال الاتصال والإعلام، تثير من ردود الفعل والمقاومة ما يعرقل النمو الطبيعي ويدفع إلى النكوص، إلى مواقف خلفية للدفاع عن الذات وبالتالي خلق كونيّةٍ مضادة[2]، وهذا ما لا يروق للجابري وأمثاله من زعماء تحديث العالم الإسلامي.

(28)

وفي مكان آخر يصرّح ويقول: «هناك من يرى أن من الواجب معالجة اللاعقلانية في عقر دارها، وهذا خطأ في رأيي، لأنّ مهاجمة الفكر اللاعقلاني في مسبقاته، وفي فروضه، في عقر داره يسفر في غالب الأحيان عن إيقاظ، عن عملية تنبيه، عن حفزه على ردّ الفعل، وبالتالي عن تعميم الحوار بين العقل واللاعقل، والسيادة ستكون في النهاية حتمًا للاعقل، لأن الأرضية أرضيته والميدان ميدانه»[1].

وتأييدًا لكلامه يستشهد باثنين من الحداثويين رفضا التراث رفضًا تامًا ودعيا إلى الالتحاق بالفكر الأوروبي، وهما شبلي شميل وسلامة موسى، ليتساءل: «ولكن ماذا أنتج هؤلاء في حظيرة الفكر العربي؟»[2].

ومن هذا المنطلق يرفض الجابري التطرّق إلى النقد اللاهوتي، لأنه لا يرى «أنّ الوطن العربي في وضعيته الراهنة يتحمّل ما يمكن أن نعبّر عنه بنقدٍ لاهوتي، يمكن أن نمارس النقد اللاهوتي من خلال القدماء، يعني أن نستعيد بشكلٍ أو بآخر الحوار الذي دار في تاريخنا الثقافي ما بين المتكلمين بعضهم مع بعض، وما بينهم وبين الفلاسفة، ونوظّف هذا الحوار في قضايا عصرنا لإزالة بعض الضباب عن بعض القضايا وجعلها محل حوار، أما أن نقوم هكذا بهتك حرماتنا فلا يمكن، لنا حرمات يجب أن نحترمها حتى تتطوّر الأمور ونتطوّر معها حتى لا نقفز على التاريخ [...] إنّ المسألة مسألة تطوّر، وإنّ النقد اللاهوتي يجب أن يمارَس داخل كل شخص منّا، أي أن يتسلّح كل فردٍ منّا بما يكفي

(29)

من النظرة العلميّة والروح النقدية حتى يمارس في داخله في ذاته هذا النقد اللاهوتي»[1].

إنّها خطةٌ ماكرةٌ تدعو إلى عدم ممارسة النقد اللاهوتي علنًا، إذ المرحلة لا تقتضي ذلك ولا بد من التخطيط والبرمجة لتتطوّر الأمور ويكون النقد اللاهوتي علنًا جهارًا، أما الآن فيوصي الجابري باقتفاء خطوتين بغية الوصول إلى تلك الخطة الذهبية، لحظة نقد اللاهوت أو قل الدعوة إلى العلمانية والليبرالية صريحًا، الخطوة الأولى اجترار النقد اللاهوتي من التراث ونسبته إلى أصحابه، الخطوة الثانية ممارسة النقد اللاهوتي الفردي في الداخل والضمير تمهيدًا لأحداث الثورة العلنية على اللاهوت.

وشيء آخر يلزم لفت الانتباه إليه في هذه النقطة، إنّ مشروع الجابري لم يكن خطةً متكاملةً من ذي قبل، بل تولدت بحسب إملاء الظروف وبحسب الحاجة، والجابري نفسه يصرّح بذلك ويقول: «لا أعتقد أن أحدًا يستطيع الادعاء بأنّه خطط لنفسه منذ البداية ما سيعمله مستقبلًا في هذا المجال، سيكون من لغو الكلام ادعائي القول أنّني منذ البداية أردت أن أدرس الإبستمولوجيا لكي أستعملها في التراث، لا إنما من خلال الممارسة العامة للتدريس وشؤون الفكر يتبيّن الإنسان طريقه شيئًا فشيئًا»[2].

وهذا طعنٌ في المشروع من صاحب المشروع نفسه، إذ من يريد أن يدشّن مشروعًا ضخمًا يدّعي الإتيان بمعجزة لإخراج المجتمع من السبات والركود والتقليد ويعطي للأصالة حقها والمعاصرة حقّها، كيف لم يرسم لنفسه خطة عمل مستقبلية، بل يصبر حتى تملي الظروف عليه.

(30)

إنّ صغار الاستراتيجيين ـ فضلًا عن كبارهم ـ عندما يريدون رسم مخططٍ مستقبلي يضعون سيناريوهاتٍ متعدّدةً ليستشرفوا المستقبل، ويرسمون الخطة النهائية التي ربما تنال بعض التغيير بسبب بعض المتغيرات، لا أن يقعدوا مكتوفي الأيدي ليروا ماذا يحدث وماذا يملي عليهم الواقع.

هذا الأمر وغيره أوقع الجابري في التناقض والتضاد، وقد صرّح بذلك القريب والبعيد، قال محمد المصباحي: «إنّه كان مفكّرا متقلّبًا، يحلّ في فقرة ما يعقده في أخرى، يتلوّن تفكيره مع تلوّنات الواقع والفكر [...] إنّه كان مفكرًا جدليًا، حيث لا يرى مانعًا من الجمع أحيانا بين المتضادات لاستخراج موقفٍ جديد»[1].

أما عبد الإله بلقزيز فأراد أن يخفّف من الوطأة فقال: «لم يظل الجابري منسجمًا مع منطلقاته المعرفية ومقدماته المنطقية في كتابه نقد العقل العربي في جزئيه الأول والثاني خاصة، بل لقد أفضى به ذلك إلى اشتقاق نتائج مجافية ـ لئلا نقول متناقضة ـ مع تلك المنطلقات والمقدمات»[2].

أما رضوان السيد فبعد أن ذهب إلى أن الجابري محكومٌ بالنظرة الأيديولوجية قال: «ولذلك سرعان ما يتجاوز كل تدقيقاته وتصنيفاته ليصدر أحكامًا قاطعةً تلغي في كثير من الأحيان مسوّغات الجهد الكبير في الجمع والتقميش والعمارة التوليفية المحكمة»[3].

(31)

نقد التراث كمقدمة للمدينة الفاضلة:

إن عملية رسم معالم المدينة الفاضلة الجابرية يحول دون تحققها التراثُ، والتراث عند الجابري كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي، سواء ماضينا أم ماضي غيرنا، سواء القريب منه أم البعيد، وبهذا التعريف يدخل التراث المعنوي من فكر وسلوك، والتراث المادي كالآثار وغيرها، ويشمل التراث القومي والإنساني[1].

وفي عبارة أخرى يقول: «إن التراث هو ما تراكم عبر التاريخ الفعلي للأمة العربية الإسلامية، وهو مجموع أنواع الفهم الذي كوّنه المسلمون لأنفسهم عن عقيدتهم وواقعهم وتاريخهم»[2].

ومنطلق هذا الموروث القديم عند الجابري هو عصر التدوين، إذ يقول: «والثقافة العربية هي مجموع التراث الفكري المنحدر إلينا من الحضارة العربية في القرون الوسطى، أي في عصر التدوين الذي امتد زمنه ما بين منتصف القرن الثاني ومنتصف القرن الثالث الهجري، وهو الإطار المرجعي للفكر العربي بمختلف ميادينه».

وهذا الموروث تأسس من خلال نُظمٍ معرفيةٍ ثلاثة: 1. نظامٌ معرفي لغوي عربي الأصل، 2. نظامٌ معرفي غنوصي فارسي هرمسي الأصل، 3. نظامٌ معرفي عقلاني يوناني الأصل[3].

(32)

إن الجابري يقارب التراث مقاربةً إبستمولوجية، لأنه يرى أن الدراسات الإبستمولوجية هي دراساتٌ نقديةٌ أساسًا، والفكر الإبستمولوجي هو فكرٌ نقديٌ يقوم على نقد العلم للكشف عن مسبقات الفكر العلمي وخطواته وآلياته، بهذا المعنى فالإبستمولوجيا هي مراقبة الفكر العلمي لنفسه باستمرار، وبذلك فالدراسات الإبستمولوجية تمكّن الإنسان من الروح النقدية، وكذلك يذهب الجابري إلى أن الاستفادة التي يمكن أن نأخذها من الإبستمولوجيا المعاصرة في التعامل مع تراثنا تعاملًا نقديًا كبيرةٌ جدًا، لأنّنا نكتسب من خلالها روحًا نقديةً أولًا، وثانيًا نكتسب خبرةً من خلال الممارسة النقدية للعلم ولتاريخ العلم، نتسلّح بمفاهيم وأدوات عمل نستطيع توظيفها في تراثنا توظيفًا واعيًا[1].

والجابري بعد قراءته الإبستمولوجية للتراث يصل إلى لزوم إحداث قطيعة معه، وهذا ما نبيّنه لاحقًا.

(33)

القطيعة الإبستمولوجية مع التراث:

القطيعة الإبستمولوجية مفهومٌ مستوردٌ من الغرب، وعلى غرار باقي الاستيرادات استوظفه الجابري في مشروعه، بل ربما يُعد العمود الفقري في جميع مشروعه، إذ لا يمكن رسم معالم المدينة الفاضلة المعاصرة في مخيال الجابري إلا عبر القطيعة مع الموروث الماضي.

ولكن لنرى ما هو معنى القطيعة وكيف استخدمه الجابري ووظّفه في مشروعه.

شغل مفهوم القطيعة الإبستمولوجية، منذ ظهوره الأول على يد غاستون باشلار وإلى يومنا الحاضر، الساحة الفكرية كثيرًا، ودارت حوله دراسات وكتب وبحوث، وقد انعكس في وسطنا الإسلامي والعربي أيضًا في كيفية التعامل مع التراث، بحيث يرى بعض الباحثين أن هذا المفهوم يُعدّ المفتاح الأساس لعلم طبيعة النزاع الأيديولوجي الذي شهده الفكر العربي والإسلامي المعاصر حول مطلب الحداثة والموقف من التراث[1]

ظهر هذا المصطلح ليشرح كيفيّة تطوّر العلوم ونموّها، حيث نشأ أولًا في تاريخ العلوم الدقيقة قبل أن ينتقل إلى ساحة العلوم الإنسانية، ثمّ استُخدم من أجل بلورة نظرياتٍ فلسفيةٍ ضخمة، من قبيل نظرية فوكو في الكلمات والأشياء، أو نظرية ألتوسير عن ماركس الشاب وماركس الناضج، أو نظرية عالم الرياضيات رينيه توم عن الكوارث، أو نظرية توماس كوهن

(34)

عن الباراديغمات أو الثورات العلمية، حيث كلها نظرياتٌ تقوم على مفهوم القطيعة الإبستمولوجية[1].

وقد ظهرت ثلاثة تيارات في الغرب تجاه هذا المصطلح:

1- تيارٌ يذهب إلى أن القطيعة مطلقةٌ كحدّ السيف تفصل ما كان عمّا سيكون، مع إلغاء التطوّر التدريجي بين مختلف مراحل العلوم، ويذهبون إلى أن العلم يتطوّر عن طريق القفزات والطفرات المفاجئة، فالقطيعة تجبّ ما قبلها بشكلٍ كلّي أو نهائي.

2- تيارٌ آخر لا يعترف بوجود أي قطيعةٍ في تاريخ الفكر، بل يرى أن تاريخ الفكر خيطٌ مستقيمٌ متواصل من البداية إلى النهاية من دون أيّ انقطاع.

3- وهناك تيارٌ ثالثٌ يعترف بوجود القطيعة ولكن لا على النحو القاطع، وهم أصحاب الاتجاه الإبستمولوجي العقلاني[2].

ثمّ إنّ غاستون باشلار الفرنسي واضع المصطلح يتحدث عن نوعين من القطيعة:

1. تخصّ القطيعة بين المعرفة العلمية الدقيقة والمعرفة العمومية الشائعة، 2. تخصّ القطيعة بين مختلف مراحل تاريخ الفكر، أي القطيعة بين اليونان والرومان والعصور الوسطى، ثمّ القطيعة بين العصور الوسطى

(35)

وعصور الحداثة، وهكذا، وقد تحدّث عن الأولى كثيرًا واهتمّ بها أكثر من الثانية[1].

إنّ الجابري يقتبس هذا المفهوم من باشلار ويفسِّره بالمعنى الثاني إذ يقول: «قد كانت النظرة السائدة قبله [أي قبل باشلار] أن العلم ينمو بالاتصال مثلما تنمو الشجرة، لكنه حين درس العلم تبيّن أنّ العلم لا ينمو بالاتصال إنّما ينمو عبر قطائع أي على انفصالات، بمعنى أن العلم ينبني في حقبةٍ معيّنةٍ على مفاهيم تكون هي أساس إنتاج المعرفة والكشوف العلمية، إلى أن تُستنفد استنفادًا كاملًا، فتقع أزمةٌ في الفكر العلمي، وهذه الأزمة لا تحلّ إلّا بظهور مفاهيم جديدة تقطع العلاقة أو الصلة بالمفاهيم القديمة، أي يحدث بينها وبين هذه المفاهيم انفصامٌ تام»[2].

إنّ الجابري يرى نفسه مضطرًّا إلى استخدام هذه المفاهيم في مشروعه لبناء مشروعٍ جديدٍ من جهة، ومن جهةٍ ثانيةٍ يرى أنّ استخدامه كما هو لا ينفع في إنجاح مشروعه المبتني على التدرّج في الطرح، وسيوقعه في المطبات نفسها التي وقع فيها غيره وانتقدهم هو إذ تجاهلوا التراث ودعوا إلى قطيعةٍ تامةٍ معه، لذا فشل خطابهم ولم ينفذ في المجتمع وبتبعه فشل مشروعهم الحداثوي، لذا قام الجابري بخطوات عدّة:

1- انبرى الجابري لاتّباع منهج الانتقاء والتوظيف الملتوي ـ كما ذكرنا سابقًا ـ فأخذ المصطلحَ وألبَسه لباسًا آخر ليقول: «صحيحٌ أن القطيعة الإبستمولوجية مفهوم باشلار استعمله باشلار في

(36)

تاريخ العلم، حيث أعطاه معنًى محددًا بحدود هذا التاريخ، ولكنني أخذت هذا المفهوم واستعملته في مجالٍ آخر وهو تاريخ الفلسفة، وفي تاريخ فلسفةٍ خاص هو تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية، التي بيّنتُ طبيعتها كما أفهمها باعتبارها قراءاتٍ مستقلةً متوازيةً لفلسفةٍ معيّنة، وبذلك فلا تاريخ لها، هكذا وظّفت المفهوم توظيفًا جديدًا في مجال آخر، وهو بالنسبة لي مفهومٌ إجرائي مكّنني من أن ألاحظ أشياء لم أكن ألحظها من قبل طرحه كأداة للعمل»[1]، فهو إذًا يصرّح بهذه الانتقائية والتوظيف الجديد بما ينفع مشروعه.

2- أكّد مرارًا وتكرارًا على أنّه لا يريد إلغاء التراث، فقال فيما قال ـ وقد مرّ بعضه ـ: «نحن لا ندّعي القطيعة مع التراث بمعناها اللغوي الدارج، إنّ ما ندعو إليه هو التخلّي عن الفهم التراثي للتراث، أي التحرّر من الرواسب التراثية في عمليّة فهمنا للتراث [...] إنّ القطيعة التي ندعو إليها ليست القطيعة مع التراث بل مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحوّلنا من كائناتٍ تراثيةٍ إلى كائناتٍ لها تراث، أي إلى شخصيات يشكّل التراث أحد مقوّماتها»[2].

ومن هذا المنطلق جاء بعض الباحثين ووسم هذه القطيعة الجابرية بـ»القطيعة الصغرى»، إذ لم تقطع مع التراث نهائيًا، بخلاف قطيعة العروي إذ كانت قطيعةً كبرى[3].

(37)

ولكن لنرَ هل كان الجابري موفّقًا في طرحه هذا أم لا؟ فقد ذهب غير واحد إلى فشل هذا التوظيف الملتوي، فهذا هاشم صالح يرى أنّ الجابري لا ينجح في تطبيق القطيعة الإبستمولوجية كما ينبغي[1].

ورأينا فيما مضى عبد الإله بلقزيز وانتقاده لاستعمال الجابري مفاهيم عصريةً في حقل التراث مع انتزاعه لتلك المفاهيم عن سياقاتها الخاصة، ممّا أدّى بهِ إلى الإقحام القسري والتعسّف في الاستخدام، ويستشهد على ذلك بمسألة القطيعة بين الفلسفة المشرقيّة والمغربية، إذ ابتُلي بالمبالغة الشديدة في تظهير التراث العقلاني الفلسفي في الغرب الإسلامي على حساب نظيره في الضفة الشرقية، مثلما ذهبت بهِ إلى إلحاق الكثير من الحيف والإجحاف بفلسفة ابن سينا من دون مبرّرٍ مقنع، وهذا كان نتيجة إعماله غير المحسوب لمفهوم القطيعة[2].

أمّا محمد المصباحي فإنّه يصف موقف الجابري تجاه القطيعة بكونه غامضًا بل متناقضًا، إذ إنّه عندما يكون بصدد تحليل علاقة التراث بالحداثة يرفض استعمال القطيعة بمعناها الاصطلاحي، لكنه حينما يكون بصدد نقد وتفكيك زمن العقل العربي أو التحرّر من قيود عصر التدوين أو بصدد الحديث عن علاقة ابن رشد بابن سينا يعبّر بشكلٍ جازمٍ عن ضرورة إحداث القطيعة، كما أنّه يتحدّث أحيانًا عن مفهوم الانتظام الذي يضاد القطيعة[3].  والخلاصة أنّه رغم المراوغات، فإن القطيعة التي يدعو إليها الجابري، هي

(38)

قطيعةٌ تامةٌ شاملة مع الموروث الماضي، سيما الفلسفة والكلام والفقه ـ أساس الثقافة الإسلامية ـ، ونموذجه الناجح الذي يتأسّف على فواته هو النموذج الأندلسي المغربي، فتجده يقول في معرض شرحه للأزمة الثقافية العربية: «إنّ هذا يعني أنّ الثقافة العربية الإسلاميّة قد ظلّت تعيد إنتاج نفسها منذ عصر التدوين باستثناء التجربة الأندلسية التي كانت مؤهّلةً حقًا لطرق آفاقٍ جديدةٍ بسبب ما حقّقته من قطيعة مع علم الكلام وإشكاليّاته، ومع الفلسفة السينوية وميولاتها الإشراقية، وأيضًا مع المذاهب الفقهية وقياساتها، باستثناء هذه التجربة فإن الزمن الثقافي العربي قد ظلّ هو هو منذ عصر التدوين يجترّ نفسه، ويتموّج في اللحظة ذاتها حتى انتهى بهِ الأمر إلى الركود.. إلى الجمود على التقليد في الميادين كافة»[1].

فإذا كانت أزمة الثقافة العربية هو جمودها على الماضي وتقليدها للموروث القديم في الميادين كافة، فما معنى ادعاء الجابري الحفاظ على التراث وعدم رفضه تمامًا، إذ أي فائدةٍ فيه بعد أن كان أداة التخلّف؟

وهذا ما ظهر على فلتات لسانه وقلمه بين الحين والآخر، إذ ما أضمر الإنسان شيئًا إلا ظهر على فلتات لسانه ـ كما ورد عن علي عليه‌السلام ـ، فتراه عندما ينتقد الثقافة العربية وأنّها استمرار الماضي تدور مدار النظم الثلاثة ـ البيان، العرفان، البرهان ـ يقول: «دون أن يستطيع الفكر العربي تحقيق قطيعةٍ نهائيةٍ مع أيٍّ منها ولا إعادة ترتيب العلاقات بينها بصورةٍ تسمح بتدشين بدايةٍ جديدةٍ تضع فاصلًا نهائيًا بين ما قبل وما بعد»[2].

(39)

وفي عبارة قريبة منها يقول: «إنّ الثقافة العربية قد تأسّست في عصر التدوين منذ أربعة عشر قرنًا، عصر البناء الثقافي العام في التجربة الحضارية العربية الإسلامية، العصر الذي شكّل ويشكّل الإطار المرجعي للعقل العربي، فلنختم إذًا بالقول: إنّ الحاجة تدعو إلى عصرِ تدوينٍ آخر، عصرِ تدوينٍ جديدٍ بمقاييسَ جديدةٍ واستشراقاتٍ جديدة، ذلك في نظرنا هو المعنى الذي يجب أن تحمله كل دعوةٍ إلى الأصالة أو الحداثة، فالتحديث مشروط بالتأصيل والعكس صحيح»[1].

فالقطيعة النهائية هنا تكشف عن عمق مشروعه، وتبيّن أنّه إحداث قطيعةٍ تامةٍ مع الماضي وبناء مدينةٍ فاضلةٍ جديدةٍ لا تختلف عن المدن الغربية الحديثة، ولكن وفاءً منه للنزعة القوميّة العربية من جهة، وحفاظًا على سمعته وخوفًا من الرمي بالارتداد من جهاتٍ محافظةٍ وأصوليةٍ تربطه معهم صِلاتٌ حميمةٌ، سيما في المملكة السعودية، من جهة ثانية، حاول أن ينوّه من خلال التلاعب بالألفاظ بأنّه لا يدعو إلى القطيعة التامة مع التراث.

إن القطيعة التي أحدثها الجابري مع الموروث القديم لبناء مدينته الفاضلة متعددةُ الجوانب بتعدّد الموروث القديم وتنوُّعِه ليشمل الفلسفة والفقه والأخلاق والسياسة والاجتماع وجميع مفاصل الحياة، وهذا ما بيّنه الجابري في طيّات كتبه وأبحاثه إذ يقول: «اللغة، الشريعة، العقيدة، السياسة، تلك هي العناصر الرئيسية التي تتكوّن منها المرجعية التراثية التي قلنا إنه لا سبيل إلى تجديد العقل العربي وتحديثه إلّا بالتحرّر من سلطاتها»[2].

وإليك بيانه ضمن المباحث التالية:

(40)

المبحث الأول:

 القطيعة الفلسفية:

قام جدل واسع عند مؤرخي الفلسفة الإسلامية من مسلمين وغير مسلمين حول ماهية الفلسفة الإسلامية ومقوّماتها وهل هناك فلسفةٌ إسلاميةٌ أم فلسفةُ مسلمين، وهل هي تقليدٌ وترجمةٌ وشرحٌ للفلسفة اليونانية أم أنّها شرحٌ وبسطٌ وتأصيلٌ جديد؟!

فاختلفت الأقوال باختلاف المذاهب والمشارب الفكرية والمعرفية.

ونحن هنا لا نريد الخوض في هذا المضمار إذ لا يخص بحثنا، وما يهمنا هو سبب تأسيس هذه الفلسفة والقيام بترجمة كتب اليونان، وقبل التطرّق إلى ذلك لا بد من الوقوف على معنى الفلسفة ومفهومها في الصدر الأول، هل تلقاها الجيل الأول وفهمها كما نحن نفهمها اليوم أم لا؟!

يخبرنا دي بور أنّ مفهوم الفلسفة آنذاك كان يطلق على الفلسفة الطبيعية، أي على علوم تشتمل على الرياضيات والطبيعيات والطب والتنجيم، إذ يقول: «وكانت هذه الفلسفة الطبيعية التي أوجزنا الكلام فيها، هي المفهوم عند علماء القرن التاسع ـ الثالث الهجري ـ من إطلاق لفظ الفلسفة، وذلك في مقابل علم الكلام»[1].

وهذه الملاحظة الدقيقة تعيننا كثيرًا في فهم أسباب ظهور الفلسفة الإسلامية إذ كانت بدواعٍ غير ميتافيزيقية، ويؤيد ذلك ما ذكره دي بور نفسه وكذلك غيره من مؤرخي الفلسفة الإسلامية من أنّ أول ما تُرجم من التراث

(41)

اليوناني كتب الطب والتنجيم: «كانت عناية الملوك بالطب لذاته من أكبر الأسباب التي جعلتهم يعهدون إلى كثير من المترجمين بنقل كتب اليونان إلى اللسان العربي»[1].

ويقول مونتغمري وات: «يبدو أن جاذبية العلم والفلسفة الإغريقيَين للمسلمين تعزى في المقام الأول إلى منافع عمليّة، فقد كان الخلفاء يهتمّون بصحتهم وصحة من حولهم، ويعتقدون أنّ محترفي الطب اليوناني يستطيعون عمل شيءٍ يساعدهم»[2].

أما بخصوص الاهتمام بعلم النجوم، فيُعزى ذلك إلى مسألة الثورات ودوام الحكم، وبهذا الصدد يقول ماجد فخري: «إنّ وفرة المؤلفات الفلكية سمةٌ خاصةٌ ذات مغزى تتصل بعهد الرشيد، بل قل بعهود الخلفاء العباسيين الأوائل، فالانتفاضات السياسية التي تلت السلالة الأموية وانتقال الخلافة إلى بني العباس، قد أقنعت هؤلاء بأنّ مصير الإنسانية، وقيام الدول وانحلالها، هي أسرار محفوظة في ثنايا النجوم، وأنه من شأن الحكماء وحدهم حلّ رموزها والكشف عن خفاياها، ومن هنا كان اهتمامهم البالغ بحيازة مؤلفات القدماء في التنجيم وفي نقلها إلى العربية، حتى أن أكثر خلفاء العصر انفتاحًا ـ نظير المأمون ـ لم يتحرّر من هذا الاعتماد على النجوم، ولم يكتفِ بأن ألحق بخدمته منجّمًا خاصًا بالبلاط وحسب، بل كان لا يقوم بعملٍ عسكريٍ أو سياسيٍ هام إلّا بعد أن يستشيره بشأنه أولًا»[3].

(42)

كما يشير فخري أيضًا، بالاستناد على ابن النديم، أنّ أوّل من قام بالترجمة لكتب الصنعة والطب والتنجيم هو خالد بن يزيد بن معاوية، أي قبل العباسيين بعقود، إذ تحوّل هذا الأمير الأموي إلى درس الكيمياء ليسلو عن ضياع حقه في الخلافة[1].

هذا بخصوص الفلسفة الطبيعية، أما بخصوص الميتافيزيقيا ومباحث ما بعد الطبيعة، فإنها تأخّرت في الظهور عن نظيرتها، وتولّدت شيئًا فشيئًا جرّاء المساجلات والخلافات الكلامية حول الكون والله وما يتعلّق به من معرفةٍ وصفاتٍ وما يتفرّع منها.

إن عمليّة الحجاج العقلي تولّدت عند المسلمين بمرور الزمن وجرّاء الالتقاء الثقافي بين الشعوب، وما حدث من جدل بين الديانات المغلوبة وبين الإسلام، ممّا أدى إلى ظهور علم الكلام ومن بعده التمسّك بالفلسفة والمنطق اللذين تُرجما بتبع كتب الطب والتنجيم وسائر العلوم الطبيعية، حيث الحاجة إلى التسلّح بسلاح جديد استخدمه الخصم ـ اليهود والنصارى ـ سابقًا للدفاع عن معتقداتهم أمام الدهريين والزنادقة، ممّا يعني أنّ سبب الاهتمام بما بعد الطبيعة إنّما كان معرفيًا دينيًا.

أما الجابري فإنه يُرجع تاريخ الفلسفة الإسلاميّة إلى عصر الترجمة في زمن المأمون وبدافع أيديولوجي، وذلك أنّ الجابري يصوّر في مخياله قيام معركةٍ فكريةٍ ضاريةٍ بين الأرستقراطية الفارسية وبين الدولة العربية الإسلامية آنذاك، إذ إنّ الأرستقراطية الفارسية بعد أن فشلت في المواجهة

(43)

السياسية والاجتماعية، اتجهت إلى الفضاء الأيديولوجي وتسلّحت بسلاح تراثها الثقافي والديني المبني على الغنوصية المأخوذ من الزرادشتية المانوية والمزدكية، بهدف التشكيك بالدين العربي وهدمه، وصولًا إلى إطاحة سلطة العرب ودولتهم.

من هذا المنطلق قامت الدولة العباسية بهجوم معاكس، فتشجّعت المعتزلة وتبنّت مذهبهم من جهة، وقامت بترجمة كتب العلم والفلسفة من خصوم الفرس (الروم واليونان) من جهةٍ أخرى.

فالهدف إذًا من تأسيس الفلسفة الإسلامية هو: «أن تكون سلاحًا ضد الهجمات الغنوصية، أي ضدّ الهجوم الأيديولوجي الذي كان يهدف إلى ضرب الدولة في الصميم»[1].

إنّ الجابري يناقض نفسه لاحقًا بعد أن جعل الهدف سياسيًا، ليقول إن الهدف من تأسيس الفلسفة الإسلامية هو التوفيق بين العقل والنقل، أي توظيفٌ أيديولوجي من نوع آخر، لذا يحاول أن يفصل بين المحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي ليذهب إلى أنّ المحتوى مأخوذٌ من اليونان، أما المضمون الأيديولوجي فهو مأخوذ من الدين الإسلامي، إذ إنّ فلاسفة الإسلام وظّفوا المحتوى المعرفي اليوناني لأهدافٍ أيديولوجيةٍ متباينةٍ، وهذا الهدف الأيديولوجي هو إشكالية التوظيف بين النقل والعقل، بين الدين والفلسفة[2].

(44)

ويلاحظ عليه أنّ مسألة التوفيق بين الفلسفة والدين وإن كانت من فروع المسائل المطروحة في الفلسفة، غير أنّها لم تكن السبب الرئيس لتأسيسها، إذ كان بإمكان علم الكلام الإجابة على الشبهات العقلية المطروحة بالاستعانة بترسانته المعرفية الضخمة، نعم بعدما ظهرت الفلسفة واستقرت في الوسط العلمي، ظهر بعض التعارض بين بعض مبانيها وبين الدين والمباني الإسلامية، ومن هنا اتجه الفلاسفة إلى حلّ هذا التعارض، ويشهد لهذا أنّ أول الكتب المترجمة لم تكن كتبًا ميتافيزيقية، بل كانت كتب الطب والتنجيم والرياضيات، كما مرّ بيانه.

وبهذا الصدد يقول محمد مصباحي: «الفلاسفة المسلمون لم تشكّل مسألة التوفيق جوهر تفكيرهم ولا عكست مزاجهم الفلسفي، وهم وإن تعرّضوا لها فإنما يكون ذلك على نحوٍ عرضي في كتبهم الموجهة إلى الجمهور لا إلى الخواص»[1].

ومهما كان الهدف وأسباب تأسيس الفلسفة الإسلامية، فإن الجابري يضعها كلها في خانة الموروث القديم الذي يجب التخلّص منه وإحداث قطيعةٍ معه، بغية رسم معالم المدينة الفاضلة التي يبتغيها في مشروعه النهضوي العربي القومي.

لذا يقوم برسم خطةٍ ذكيةٍ ليفصل بين المحتوى المعرفي للفلسفة الإسلامية والتوظيف الأيديولوجي لها، إذ يرى أن المحتوى المعرفي واحدٌ وهو المأخوذ من اليونان، فلا بدّ إذًا من التلاعب بالمضمون الأيديولوجي

(45)

وتغيير التوظيف لهذه الفلسفة لتصبح بدل المناداة بالتوفيق بين النقل والعقل، من المنادين بالفصل بينهما، إنّه يرى أنّ عدم الفصل هذا يجعل الفلسفة الإسلامية آراءً وأقوالًا متكررةً وجامدةً وعقيمةً لا تختلف إلّا في طريق العرض[1]، ولا يمكن من خلال هذه الفلسفة بناء تصوّراتٍ جديدةٍ على أسسٍ جديدة[2]، وقد وجد ضالّته في تغيير التوظيف هذا بما يخدم مشروعه ومدينته الفاضلة عند المدرسة المغربية وفلسفة ابن رشد بالخصوص.

فالمخطّط الذي يضعه الجابري للوصول إلى النتيجة يمرّ عبر خطوات:

الخطوة الأولى: تقسيم الفلسفة الإسلامية إلى محتوى معرفي ومضمون أيديولوجي.

ويلاحظ عليه أنّ هذا التقسيم بحدّ ذاته لا إشكال فيه، إذ كل نصٍ جاء لإيصال رسالة هادفة، وكل نصٍ يستبطن توجّهًا خاصًّا، ولا يوجد نصٌ خنثى إلّا في مدرسة دعاة الهرمنيوطيقا والنسبية المعرفية، إنما الإشكال في النتائج التي يرتّبها الجابري على هذه المقدمة كما سترى.

الخطوة الثانية: عدم المساس بالمحتوى المعرفي إذ هو عيال على الفلسفة اليونانية سيّما الأرسطية التي يعترف الجابري بصحتها ويريد أن يوظفها توظيفًا جديدًا.

ويلاحظ عليه أنّ الجابري يرى تبعية الفلسفة الإسلامية للفلسفة

(46)

اليونانية تامةً، حذو القِذّة بالقِذّة، فهو في هذا الرأي عيال على المستشرقين ومن تبعهم من الإسلاميين، ولكن يوجد رأي آخر يرى الاستقلالية للفلسفة الإسلامية رغم اعتمادها في بعض الأسس والمباني على الفلسفة اليونانية، فالفلسفة الإسلامية بناءً على هذا الرأي لم تكن مجرد ترجمةٍ وشرح، بل هي ترجمةٌ وشرحٌ وتأصيلٌ وإبداعٌ جديدٌ أيضًا.

وهذا ما ذهب إليه كثير من مؤرخي الفلسفة الإسلامية، وقد قال ماجد فخري بهذا الصدد: «الفلسفة الإسلامية حصيلة عملٍ فكريٍ مركّب، اشترك فيه السريان والعرب والفرس والأتراك والبربر وسواهم اشتراكًا فاعلًا»[1].

الخطوة الثالثة: ترسيخ فكرة أن المضمون الأيديولوجي هو الذي يعطي الحركة والحيوية للفلسفة، وبالتالي يربطها بالمجتمع والتاريخ، لذا يحاول استغلال هذه النقطة وإعطاء مضمونٍ أيديولوجيٍ جديدٍ وذلك من خلال الخطوة التالية.

الخطوة الرابعة: تقسيم الفلسفة الإسلامية إلى مشرقية ومغربية وإلقاء الخلاف بينهما، فالأولى: «لاهوتيةَ الإبستيمي والاتجاه بسبب استغراقها في إشكالية التوفيق بين الدين والفلسفة، [أما الثانية فيقول] إنّ الفلسفة العربية في المغرب والأندلس كانت علميةَ الإبستيمي علمانيةَ الاتجاه بفعل تحرّرها من تلك الإشكالية»[2]، فالأولى دينية والثانية علمانية.

الخطوة الخامسة: التوظيف الأيديولوجي الجديد للمحتوى المعرفي

(47)

اليوناني في الفلسفة الإسلامية بالاعتماد على صيغتها المغربية وإحداث قطيعة مع صيغتها المشرقية.

وبخصوص هذه النقطة يقول الجابري: «نحن نعتقد أنه كان هناك روحان ونظامان فكريّان في تراثنا الثقافي: الروح السينوية والروح الرشدية، وبكيفية أعم: الفكر النظري في المشرق والفكر النظري في المغرب، وأنه داخل الاتصال الظاهري بينهما كان هناك انفصالٌ نرفعه إلى درجة القطيعة الإبستمولوجية بين الاثنين، قطيعة تمسّ في آن واحد: المنهج والمفاهيم والإشكالية»[1].

هذه الخطوة الخامسة هي عصارة مشروع الجابري في مواجهة التراث الفلسفي الإسلامي، ونظرًا لأهمية الخطوتين الرابعة والخامسة، نفرد لهما بحثًا خاصًا يتضمّن خلاصة مشروع الجابري وآراءه حول الفلسفة الشرقية والمغربية.

(48)

تقسيم الفلسفة إلى مشرقية ومغربية

1. الفلسفة المشرقية:

أ. الكندي:

تبدأ الفلسفة الإسلاميّة والمشرقية مع الكندي (ت. 256ه) المعروف بفيلسوف العرب، إذ كان مؤلفًا ومترجمًا في الوقت نفسه، وقد تبنّى الأفلاطونية المحدثة[1]، وكان ينفي التناقض بين الفلسفة والدين[2]، وكان يرى: «اتفاق الميتافيزيقيا مع الحقيقة التي أوحاها الله في القرآن الكريم، وكان متأكدًا بأنّ الفلاسفة القدماء كانوا قد وصلوا بطريقةٍ تدريجيةٍ إلى تصوّرٍ حقيقيٍ لله الخالق وحده العالم دائم الحكمة والقوة، لقد اعتبر الكندي أنّ مذاهبهم يمكن استعمالها في شرح مفاهيم علم الكلام الرئيسية، أولها مفهوم التوحيد»[3].

كما أنه قام بتعريف العالم والكون طبقًا لنظرية الفيض[4]، ومن هذا المنطلق كان مشروعه مبتنيًا على التوفيق بين معطيات الفلسفة ومعطيات الدين، كما أشار إليه غير واحدٍ من مؤرخي الفلسفة[5].

(49)

لذا عُدّ أقرب إلى المتكلمين منه إلى الفلاسفة، حتى قال عنه ماجد فخري: «لم يكن فيلسوفًا ذا ولعٍ بالكلام منه وحسب، بل كان إلى حدّ ما متكلمًا ولوعًا بالفلسفة»[1]، وبتعبيرٍ آخر عند وات إنه: «أقرب إلى مجمل الفكر الكلامي الإسلامي من معظم الفلاسفة الآخرين»[2].

فالجابري بعد أن رأى هذه النزعة الصارخة عند الكندي، لم يجرؤ أن يقدح فيه وفاءً للنظرة القومية، إذ الكندي كان عربيًا أصيلًا، ولكن حاول ـ بعد الاعتراف بمنهجية الكندي الدينية ـ أن يوجّه سهام النقد إلى الفقهاء والعلماء آنذاك، ليخلق صراعًا وهميًا كبيرًا بين الكندي وبين الفقهاء، لذا وصف الكندي بأنّ له رؤى عقلانية تحترم الدين من جهة، وتهاجم الفقهاء المتزمّتين من جهةٍ ثانية، فالكندي وظّف المادة المعرفية المنقولة من علوم الأقدمين، في الصراع الأيديولوجي ضد القوى الرجعية والمحافظة[3]، وفي مكانٍ آخر يصف موقف الكندي بالسجال والجدال مع العلماء[4]، هذا وإن كان صحيحًا نوعًا ما لأنّ طبيعة المرحلة آنذاك كانت مليئةً بالسجالات والمناظرات الفكرية والمعرفية ولكن لا على نحو الموجبة الكلية مثلما يصوّرها الجابري، وكأنّ مشروع الكندي ينحصر في مكافحة الفقهاء، بل إنّ شأن العلم هو شأن البحث والجدل ولم تتطوّر العلوم إلّا من خلال هذه النافذة.

(50)
ب. الفارابي:

ثم بعد الكندي جاء دور الفارابي الذي يعظّمه الجابري كثيرًا إذ يقول: «إنّ كل الحضارة العربية الإسلامية بأبعادها الروحية والفكرية والسياسية والاجتماعية والتاريخية تمثّلت في شخص الفارابي، إنه يشكّل قراءةً عربيةً إسلاميةً للفلسفة اليونانية تمت في زمان معيّن (الثالث والرابع الهجريين) ومكان معين (دمشق، بغداد، ومصر)»[1].

كما يرى أن الفارابي قد تمكّن من إنشاء منظومةٍ جمعت بين الميتافيزيقيا والدين والسياسة والاجتماع، تركيبًا رائعًا اندمجت فيه الثقافة اليونانية بالثقافة العربية، اندماجًا كان الدافع إليه دمج الفلسفة في الدين والدين في الفلسفة[2].

ولكن لماذا كل هذا التعظيم للفارابي مع أنّه ينتمي إلى المدرسة المشرقيّة، ويعتقد بنظرية الفيض، ومع أنّ الميتافيزيقيا التي أسّسها كانت جمعًا بين الإلهيات الهرمسيّة وبين المدينة الفاضلة الأفلاطونية[3]، وأعظم من ذلك أنه متّهمٌ بالتشيُّع على أقل التقادير، وأنّه فارسي الأصل، هي أمورٌ مرفوضةٌ ولا عقلانية عند الجابري، وواحدةٌ منها تكفي لكيل أنواع التهم على من يبوح بها عند الجابري، فكيف وإنّها كلها اجتمعت في الفارابي ومع هذا نراه يمجّده ويجعل مشروعه عقلانيًا[4].

(51)

والسرّ في ذلك أنّ الجابري وجد في الفارابي مسحةً عقلانيةً تُقدِّم العقل على الدين وبتبعه تفسّر الدين على ضوء العقل، هذه الخاصية التي استشرفها من الفارابي جعلته يرقى إلى هذه الرتبة الشامخة عنده.

يقول الجابري عن مشروع الفارابي: «يرى الفارابي أن الفلسفة أسبق زمنيًا من الملّة وأن الملّة تابعةٌ للفلسفة، كما يرى أنّ الطريق لرفع النزاع بين الفلسفة والملّة هو أن يجتهد الفلاسفة في تفهيم أهل الملّة أنّ ما في ملّتهم هو مثالات لما في الفلسفة، بمعنى أنّ الحقائق يعبَّر عنها في الملة بالطرق الخطبية والشعرية والجدلية المناسبة لإفهام الناس، أما التعبير عن ذات الحقائق بالطرق البرهانية المناسبة للخاصة فذلك ما تعطيه الفلسفة.

وللوصول إلى هذا الحلّ لا بدّ من تحليل طبيعة المعرفة الفلسفيّة وطبيعة المعرفة الدينية، لا بدّ من البحث عن المبدأ المعرفي الذي يؤسّس كلًّا من الدين والفلسفة، لما كان مصدر المعرفة الفلسفية هو العقل ومصدر المعرفة الدينية هو الوحي، فيجب البحث عن العلاقة بين العقل والوحي أي المصدر الذي يأخذ منه الفيلسوف والنبي، وقد ذهب الفارابي إلى أن ما يأخذه النبي مثالاتٌ لما يأخذه الفيلسوف، فالنتيجة أن ما في الملّة مثالاتٌ لما في الفلسفة»[1].

كما يشير الجابري في مكان آخر إلى أنّ الرئيس في المدينة الفاضلة هو قطب الرحى ويحاول أن يقوم بحكم مركزي يسود فيه العقل، ويكون قادرًا على الإمساك بجميع السلطات وبالتالي توجيه المجتمع العربي وتوحيده

(52)

فكريًا وسياسيًا واجتماعيًا، مع الإشارة إلى أنه لا بدّ أن يكون فيلسوفًا مهمته تقديم التأويلات الضرورية لما في الدين من مثالات، وبعبارة أخرى إعطاء هذه الدولة أيديولوجيتها بشكلٍ يساوق التطوّر الفكري والاجتماعي، ويفسح المجال لبناء دولة العقل حتى لو تطلّب ذلك إدخال تعديلاتٍ أساسيةٍ على الشريعة الإسلامية[1]، وسبب ذلك أنّ الجابري يقرأ في منظومة الفارابي ويستشرف من مدينته الفاضلة تقديم الفلاسفة على الأنبياء، باعتبار أن الفيلسوف يتلقّى من العقل الفعّال بواسطة العقل المنفعل حقائق الأشياء بأسبابها وترابطاتها، وأن النبي يتلقى بمخيِّلته الحقائق نفسها ولكن في صيغتها الجزئية، وفي الغالب يكون ذلك على شكل مثالاتٍ وصورٍ محاكية[2].

بعد كل هذا نصل في نهاية المطاف إلى زبدة القول في سرّ اهتمام الجابري بالفارابي المشرقي الشيعي الهرمسي الأفلاطوني، وهو توظيف الفارابي لصالح المشروع الجابري في ضرب الدين وتقليص دائرة نفوذه من خلال إعطاء أولويةٍ للعقل، وتأويل الدين بالشكل الذي يخدم التقدّم ويحقّق سيطرة العقل[3]، يقول الجابري: «لقد تطلّعت البرجوازية الفرنسية في القرن الثامن عشر إلى تشييد دولة الحرية والإخاء والمساواة، دولة العدل والعقل، وكان روسو بعقده الاجتماعي المعبّر عن تلك التطلّعات، فلماذا لا نرى في الفارابي روسو العرب في القرون الوسطى؟»[4].

(53)

هذا هو بيت القصيد، وهو ما يحاول الجابري إنجازه في عصرنا الحاضر في مدينته الفاضلة المعاصرة الجديدة، فإذا كان الفارابي فشل في أن يكون روسو العرب، فالجابري هو الذي سيتولّى هذه المهمة!!

ويلاحَظ عليه أنّ تفسير موقف الفارابي تجاه الوحي والنبوة والعقل ليس بالأمر الهيّن بحيث يتمكن الجابري من حسم الأمر بجرّة قلم، بل اعترف الكثير بأنّ الأمر شائك ولم يكن بهذه السهولة نظرًا إلى التواء ما ذكره الفارابي، الموحي لسوء الفهم والتعبير.

فهذا ماجد فخري يعترف بأن موقف الفارابي تجاه الشريعة مشوبٌ بكثير من الإبهام[1].

ولأجل استكناه الأمر لا بد من فهم المصطلحات المستعملة من قبل الفارابي وفقًا للمنظومة المعرفية التي نشأ فيها وتغذّى منها، ففي المنظومة الفارابية يتّحد الفيلسوف والنبي، وعليه فالفلسفة والدين تكونان وجهين مختلفين لأمر واحد، الفلسفة مشتملةٌ على قواعدَ وأحكامٍ برهانية يصل إليها النبي من خلال اتصاله بالعقل الفعّال، والدين هو الصورة الخطابية لتلك القواعد والأحكام يصل إليها النبي عن طريق القوة المتخيّلة ويأخذها أيضًا من العقل الفعّال، فتكون الحقائق الدينية مثالاتٍ لما في الفلسفة.

وبهذا الصدد يقول الدكتور داوري أردكاني: «ويُستشفّ من كلام الفارابي أنّ الفلسفة مقدمةٌ على الدين، إلّا أنه لم يصرّح بأن هذا التقدم شرفيٌ وإنما يقول بأنه تقدمٌ زماني، ورغم هذا فقد حُمل كلامُه بشأن

(54)

العلاقة بين الدين والفلسفة على أنه يعدّ الفلسفة أفضل من الدين، وقد أكد المحققون الجدد لا سيما المستشرقون على هذه النقطة كثيرًا، فيما أنحى باللوم عليه بسببها بعض المتقدمين من أهل النظر مثل ابن الطفيل، وقد استنبط هذا الفيلسوف الأندلسي من كلمات الفارابي أنه يضع رتبة الفيلسوف فوق رتبة النبي، غير أنّ الفارابي حينما يقول إنّ الدين مثالاتُ الفلسفة ينوّه إلى أنّ النبي لمّا كان عليه أن يتحدّث بلغة الناس، وبما أنّ العامة لا تدرك الأحكام البرهانية، يجد نفسه مرغمًا على إضفاء الصورة الخطابية على الحقائق البرهانية، وإلّا فالنبي فيلسوفٌ أيضًا»[1].

ج. ابن سينا:

لا يدخل الكندي والفارابي عند الجابري ضمن المدرسة الفلسفية المشرقية التي كوّنت الموروث الفلسفي الإسلامي العربي، بل إنّ الذي كوّن ذلك هو ابن سينا والروح السينوية، لذا كان له الحظ الأوفى والنصيب الأكبر من التهم الجابرية.

إنّ الجابري، وعلى خلاف ما يدّعيه من الدعوة إلى الموضوعية والتجرّد، لا يدرس ابن سينا بروح مجردة وبموضوعية علمية، بل يحاول أن يفتش بين السطور والكلمات ليجد ما يخدم مشروعه في الطعن على ابن سينا والفلسفة المشرقيّة، وإلقاء لوم التخلّف والانحطاط عليه، ولو لم يجد تصريحًا من ابن سينا في مورد خاص، يلتجئ إلى مخياله لينحت له أمورًا ويلصقها به تعسّفًا لإكمال خريطته التي رسمها لصالح هذا أو ذم ذاك.

(55)

ومن هذا المنطلق يدعو إلى قراءةٍ غير مباشرةٍ لآثار ابن سينا من خلال قراءته هو لمن قبله، وقراءة من جاء بعده له، فضلًا عن من يحيط به من كل ناحية، وينهى عن القراءة المباشرة بالرجوع المباشر إلى آثاره[1]، الأمر الذي يخالفه في مكان آخر ويناقض نفسه حينما يدعو إلى الرجوع المباشر لمؤلفات أرسطو دون الاعتماد على الوسائط، وامتداحه لابن رشد إذ رجع إلى الأصل؛ إلى أرسطو مباشرةً.

القراءة المباشرة أو القراءة غير المباشرة لا تهمنا كثيرًا هنا، إنّما يهمنا بشكلٍ أكثر هو الإبداع الجابري الجديد في التعامل مع ابن سينا في عدم اعتماد النصوص والبحث عن ما وراء السطور، النظرة المقاصدية التي ورثها من المدرسة المغربية على يد الشاطبي، إذ يقول: «لا يهمنا ما قاله ابن سينا في موضوع الجسم أو الحركة أو الزمان أو حول العقل أو النفس أو السماء، فهو في هذا المجال لن يخرج عن معارف عصره [...] ما يهمنا من النصوص في هذه الدراسة هو الارتكاز عليها في الوصول إلى الكشف عن قاعدتها الإبستمولوجية ومضمونها الأيديولوجي، فالنصوص بالنسبة إلينا وسيلةٌ وليست غايةً، واستعمالنا لها سيكون استعمالًا وظيفيًا لا استعمالًا معرفيًا، من هنا كان لا بدّ من الاختيار في نصوص فيلسوفنا»[2].

إنّ الجابري يعلم أنّ المراجعة المباشرة لآثار ابن سينا واتخاذ الموضوعية العلمية من خلال استنطاق النصوص تنسف ما نسجه حول ابن سينا وتنفي كثيرًا من تهمه ومزاعمه.

(56)

إنه يريد أن يوظّف ابن سينا توظيفًا مؤدلجًا رغم اعترافه الصريح بأنّ ابن سينا في معارفه ومعلوماته لا يخرج عن أقرانه، وحاله حال الكندي والفارابي وغيرهما من الفلاسفة سابقًا ولاحقًا، لذا يحاول أن يحرف مسار العمل نحو قراءة ما وراء السطور، فيقع في التأويل الهرمنيوطيقي الذي يحمّل النص ما لا يتحمّل، ويقرؤه بحسب هواه لا بحسب ما قاله المؤلف.

ولم يكتف بهذا، بل يقوم بعملية الاقتطاع والانتقاء من النصوص، وإخراج الكلام من سياقه الأصلي لوضعه في سياق آخر يرسمه الجابري في مخياله.

ومن مصاديق هذا التعسّف الجابري والانتقاء غير المقبول والتوظيف الخاطئ ما يذكره الجابري نفسه عن ابن سينا بأنه اطلع على بعض آراء الإسماعيليين في شبابه وأنّهم دعوه إلى اعتناق وجهة نظرهم، لكن نفسه لم تكن تقبل ذلك، فالجابري يصرّح أنّ ابن سينا لم يقتنع بآراء الإسماعيليين ورفض دعوتهم، لكنه مع هذا يقول: «فلنسجّل أن ابن سينا تعرّف في حداثته على الفلسفة الإسماعيلية وأنّها كانت بشكلٍ أو بآخر مصدرًا من مصادر تكوينه»[1].

كلام متعسّف غير علمي ولا موضوعي ولا يحتاج إلى تعليق، إذ كيف تكون من مصادر تكوينه العلمي وهو رافض لها؟ والعلم في الصغر كالنقش على الحجر، كما يُقال.

لذا قام الجابري باختيار بعض النصوص التي تخدمه في مشروعه

(57)

وركّز عليها من قبيل كتاب «منطق المشرقيين» الذي لم يؤلفه ابن سينا بل أشار إليه إشارةً، وإذا لم يجد نصًّا صريحًا يخدم مشروعه يلجأ إلى التأويل وقراءة ما وراء السطور إذ انّ الذي يهمه: «النصوص التي تقبل الاستنطاق، أما تلك التي تنطق بما فيها فهي لا تقبل استنطاقًا ولا تتحمله»[1].

ومن الطريف إرجاع الجابري سبب تأسيس المدرسة المشرقية على يد ابن سينا إلى النزاعات القومية والسياسية، إذ يقول إنّ الصراع بين الفرس والعرب أدّى إلى هزيمة الفرس سياسيًا واجتماعيًا، ولكن لم يهزموا ثقافيًا، فبقيت فيهم النعرة القومية حتى بعد إسلامهم، فكانت الفلسفة المشرقية السينوية أحد تجليات الوعي القومي الفارسي المهزوم المتطلّع إلى استعادة نفسه باستمرار وكبرياء[2].

كان هذا العرض ضروريًا لمعرفة منهجية الجابري في تعامله التعسّفي مع ابن سينا، وفيما يلي نشرح مشروع ابن سينا كما يراه الجابري:

يصنف الجابري كتب ابن سينا إلى صنفين:

1- المؤلفات التعليمية التي يعرض فيها ما صحّ عنده من علوم الأقدمين، كما هو في «الشفاء» و«النجاة» و«القصائد» و«الرسائل المنطقية».

2- مؤلفات عرض فيها ما سمّاه بالفلسفة المشرقية، كما في كتاب «الحكمة المشرقية»،  المفقود،  و«الإنصاف» و«الإشارات  والتنبيهات» و«الرسائل الرمزية»  ورسائله في النفس  وإلى تلامذته[3].

(58)

إنّ سبب الخلاف مع ابن سينا توظيفه لمنظومة الفارابي الميتافيزيقية بغير ما وظفها الفارابي: «إنّه أخذ تلك المنظومة فقرأ من خلالها أرسطو والفكر اليوناني كله، إنّه وظّفها لصالحه ولم يغيّر فيها شيئًا، كل ما فعله أنّه أبرز عناصر معينةً محمِّلًا إياها بالفعل ما كانت تتضمنّه بالقوة، في حين أهمل عناصر أخرى ناقلًا إلى ميدان القوة ما كانت تحمله بالفعل، وهذه العناصر هي التي أدّت إلى تغيير اتجاه تلك المنظومة وتأسيس الفلسفة المشرقية عنده»[1].

والملاحظ عليه أنّ الجابري إذ يعيب على ان سينا هذه الجريمة فقام بالاقتطاع والاقتناء من الفارابي والقيام بعمل مؤدلج، يستخدم هو أيضًا هذه المنهجية ذاتها في التعامل مع تراث ابن سينا كما صرّح بنفسه قبل قليل، فهو يقوم أيضًا بإبراز عناصر معينة من فلسفة ابن سينا وإخفاء أخرى، بل يزيد الطين بلّةً عندما يقوم بتأويل الكلام خلافًا لمراد صاحبه، كما رأينا أنّ ابن سينا صرّح بعدم ارتضائه للفلسفة الإسماعيلية لكن الجابري يذهب إلى خلاف ذلك ليستنطق ـ بحدّ زعمه ـ من هذا النص تأثُّر ابن سينا بالفلسفة الإسماعيلية!!

يشرح الجابري منظومة الفارابي وطريقة توظيف ابن سينا لها بقوله إنّ المنظومة الفارابية تربط بين الطبيعة وما بعد الطبيعة ربطًا منطقيًا لا يخلو من جمال وإحكام لتؤكّد على وحدة الكون وترابط أجزائه وجمال بنائه[2]، إنّها تقدم نموذجًا علميًا فلسفيًا لتشييد المدينة الفاضلة مدينة العقل[3]،

(59)

بحيث يرتفع فيها التناقض بين الدين والفلسفة، العقل والنقل، من خلال تحكيم سيادة العقل الكاملة[1].

أما ابن سينا فقام بتعديلاتٍ طفيفةٍ في هذه المنظومة أمكنته من إجراء تعديلٍ جذري في اتجاهها وغايتها، ومكّنته بالتالي من أنّ يؤسس عليها فلسفته المشرقية، وذلك كما يلي وضمن النقاط التالية:

إن منظومة الفارابي منصبّةٌ على إبراز التناسق والانسجام والوحدة والنظام بين عناصر المنظومة، فالموجودات تتسلسل نزولًا من الموجود الأول واجب الوجود إلى أخس أنواع المادة، وفي الجانب المعرفي اهتمّ بالعقل فجعله مبدأ النظام والوحدة، بينما ابن سينا لم يعتمد على هذه الوحدة بل على ثنائية أجراها في الكون وجميع أجزائه، فقال بالفرق النوعي بين طبيعة العالم العلوي وطبيعة العالم السفلي، وبين النفس وبدنها، بخلاف الفارابي إذ ما كان يرى تبعًا لأرسطو أي خلافٍ في النوع، ومن هنا أيضًا اختلفا في الأجرام السماوية، فذهب ابن سينا إلى أنّها تحس وتتخيّل وتعقل، بينما الفارابي ذهب إلى أنها تعقل فقط، فالقول بأنّ الأجرام السماوية تحسّ وتتخيل وتعقل من عناصر الفلسفة المشرقية بخلاف المغربيين (اليونان: أرسطو ...) إذ جعلوها تعقل فقط[2].

هذا الأمر والمعتقد في الأجرام أجرى تعديلًا طفيفًا على نظرية الفيض لدى الفارابي، إذ كانت تعتمد على ثنائية العقل والكرة السماوية (جرم ونفس) فجعلها ابن سينا ثلاثية: العقل والنفس والجرم الفلكي[3].

(60)

لأجل إجراء هذا التعديل استعار ابن سينا من الفارابي مفهوم واجب الوجود بغيره فقسّم الوجود إلى ثلاثة أصناف: واجب الوجود بذاته، ممكن الوجود بذاته، واجب بغيره، وعليه فالعقل الأول الصادر عن الله: 1- يعقل ذاته بوصفه صادرًا عن واجب الوجود بذاته فيصدر عنه عقلٌ مثله، 2- يعقل ذاته بوصفه ممكن الوجود بذاته واجب الوجود بغيره فتصدر عنه نفس سماوية، 3- يعقل ذاته بوصفه ممكن الوجود فيصدر عنه جرم فلكي، لذا تكون الأجرام السماوية تحسّ وتتخيّل.

 هذه هي القسمة العقلية التي انطلق منها ابن سينا، وافتخر بها وسماها برهان الصديقين[1]، وهي أيضًا عنصرٌ من عناصر الفلسفة المشرقية.

اهتمّ ابن سينا بمسألة النفس بخلاف الفارابي إذ كان جلّ اهتمامه على العقل، فمن العناصر الأساسية التي تؤلف الفلسفة المشرقية القول بأنّ جوهر النفس مغاير لجوهر البدن، وأن النفس إنما تتخذ البدن آلةً لها لاستكمال حقيقتها والرجوع إلى الحضرة الإلهية[2].

إنّ وجهة المنظومة الفارابية تتجه إلى تشييد المدينة الفاضلة هنا في أرض المعمورة، أمّا ابن سينا فقد حرفها إلى جهة أخرى، وهي أنّ النفس جوهر روحاني، وأن السعادة الحقيقية هي عودة النفس إلى المحل الأرفع الذي منه هبطت إلى مدينة النفوس السماوية[3].

إنّ جوهر السعادة عند ابن سينا يختلف عنه عند الفارابي، إن السعادة

(61)

عند ابن سينا تحرُّرُ النفسِ من سجن البدن والتحاقها بنفوس الأجرام السماوية، الأمر الذي نبّه الفارابي على بطلانه، فالحياة السعيدة عنده لا تتوقف على مفارقة النفسِ البدنَ بل على استكمال العقل النظري[1].

ففلسفة الفارابي عقلانيةٌ وفلسفة ابن سينا روحانية، على رغم اشتراكهما في المادة المعرفية[2]، إن ابن سينا عمد إلى تعديل نظرية الفيض الفارابية وإلى الانطلاق من فكرة واجب الوجود من أجل أن يؤسس رأيه القائل بكون الأجرام السماوية تحس وتتخيل فضلًا عن أنها تعقل، الأمر الذي لا يمكن التسليم به إلّا إذا سلّمنا بكونها ذات طبيعة إلهية[3]، فالأجرام السماوية هي بصريح عباراته واسطة بين الله وعالم ما تحت فلك القمر[4]، وهذا يستلزم القول بقِدَم الكواكب، وليس «قِدَم الكواكب» النقطةَ الفارقةَ في فلسفة ابن سينا المشرقية، إذ إن أرسطو والفارابي وابن رشد قالوا بها أيضًا، الفارق هو القول بنوعٍ خاصٍ من قِدَم العالم يقتضي القول بالروحانية للكواكب وألوهيتها، أي إحداث فلسفةٍ دينيةٍ جديدة[5].

هذا الأمر هو السبب في إهمال النبوة في الفلسفة المشرقية السينوية، إذ إن الأجرام السماوية هي التي تتولّى الوساطة بين الإنسان وواجب الوجود[6].

(62)

إنّ العنصر الأساس في فلسفة ابن سينا الشرقية والذي يفسّر باقي العناصر هو مسألة الأجرام السماوية، فهي تتخيّل وتحس وتعقل فتكون واسطةً بيننا وبين الله، والعقل الفعّال عنده يعدّ جزءًا من الأجرام السماوية أيضًا ولا علاقة له بملاك الوحي في الدين كما توهّمه البعض، لأنه عامٌّ للجميع يتصل به جميع البشر ولا يخصّ الأنبياء، فالفلسفة المشرقية ليست بحاجةٍ إلى النبوة[1].

إن الفلسفة المشرقية ليست شيئًا آخر غير فلسفة السعادة، سعادة النفوس المفارقة للأبدان البشرية الممتعة بالحياة بجوار النفوس السماوية، إنها فلسفة الحياة الأخرى التي يحياها الفيلسوف المشرقي[2].

إن جذور فكرة «الأجرام السماوية» ترجع إلى صابئة حرّان، فهي البنية الأم التي اشتُقّت منها الفلسفة المشرقية السينوية، ويوجد تطابقٌ شبه تامٍ بين بنية الفكر الفلسفي الديني الحرّاني والفلسفة المشرقية كمنظومةٍ دينيةٍ فلسفية، كما أن إخوان الصفا أيضًا تأثّروا بالفلسفة الحرّانية[3]، كما نجد تأثير هرمسية أهل حرّان على الشيعة سيما الإسماعيلية، كما هو الحال في الكندي والرازي الطبيب، والفكر السني والفكر الصوفي، وكذلك الفارابي في نظرية الفيض والعقول العشرة[4].

وسبب هذا التأثير الكبير هو أنّ الحرّانيين هم الذين تولّوا الترجمة،

(63)

فكان من الطبيعي أن ينشروا عبر عملية الترجمة وتدريس آراءهم نظرياتهم الفلسفية[1].

وصفوة القول فإن المدرسة السينوية تتحرك حول محورين: 1- محور يدور حول العلاقة بين الله والعالم وتطغى فيه الإشكالات الكلامية، 2- ومحور يدور حول علاقة الإنسان بالسماء وتطغى عليه النزعة العرفانية المشرقية[2].

وهذه المدرسة السينوية قد سادت الفكر الفلسفي الإسلامي، وارتبط الجميع بها، وأصبحت تمثل الصيغة البرهانية للفلسفة والكلام والتصوف، وبالتالي الممثّل الرسمي للبرهان في الثقافة العربية الإسلامية[3]، وذلك أنّ ابن سينا حاول أن يجمع بين أربعة عناصر: علم الكلام، التصوف، الفلسفة الأرسطية، الفلسفة الإسماعيلية الهرمسية[4].

والخلاصة أن ابن سينا ـ عند الجابري ـ أكبر مكرِّسٍ للفكر الغيبي الظلامي الخرافي في الإسلام، لقد جعل من التنجيم والسحر والعزائم والطلسمات والرقي والتعلق بالموتى وغير ذلك من مظاهر اللامعقول، علومًا تجد مكانها الطبيعي في منظومته العلمية الفلسفية[5]، وإنّه كرّس بفلسفته المشرقيّة اتجاهًا روحانيًا غنوصيًا كان له أبعد الأثر في ردّة الفكر العربي الإسلامي وارتداده من عقلانيته ـ بيد المعتزلة والكندي والفارابي

(64)

ـ إلى لا عقلانيةٍ ظلاميةٍ قاتلة[1]، إنّه المدشّن الفعلي لمرحلة الجمود والانحطاط[2]، إنّ ما دعاه بالفلسفة المشرقيّة كان بالفعل خطابًا لا عقلانيًا، ولكنه كان في الوقت نفسه خطابًا أيديولوجيًا يشكّل مشروع فلسفةٍ قوميّةٍ فارسية[3].

إنّ هذه الورقات المختصرة لا تسع للخوض في سجال فلسفي معمّقٍ لشرح منظومة الفارابي وابن سينا الفلسفية ومدى تطابقهما أو اختلافهما، إذ الاختلاف العلمي والرد والإبرام ليس جريمةً لا تغتفر، بل هو سبب تطوّر العلوم، كما أنّنا لا نعتقد بعصمة أحدهما، لا الفارابي ولا ابن سينا، فلا نتعصّب لما قالاه، فضلًا عن أنّ مؤرخي الفلسفة الإسلامية لم يلحظوا كبير فرقٍ بين الفلسفتين، يقول ماجد فخري: «ثم إنّ نظامه [أي ابن سينا] الكوني ونظريته في النفس، ونظريته في العقل، ونظريته في النبوة ... إلخ، مع ما في كل منها من تعديلاتٍ على ما يقابلها في تعاليم الفارابي، تبقى في الأساس صيغًا جديدةً لموضوعات مشابهة، لكن ابن سينا كان في تأليفه أوضح تعبيرًا وأكثر تنظيمًا من سلفه الفارابي»[4].

ويقول أيضًا: «إنّ جلّ موضوعاته الرئيسية في ما بعد الطبيعة وفي حقل الكونيات، واردة ضمنًا في مؤلفات الفارابي»[5].

ولكن يلاحَظ على ما أورده الجابري التعسّف الصارخ في قراءة ابن

(65)

سينا، حتى أنّ أصحاب التيار الحداثوي لحظوا ذلك فلم يتمكنوا من السكوت، فهذا عبد الإله بلقزيز يقول في تقييمه لنظرة الجابري حول ابن سينا: «مثلما ذهبت به إلى إلحاق الكثير من الحيف والإجحاف بفلسفة ابن سينا من دون مبرّرٍ مقنع»[1].

إنّ بيت القصيد في خلاف الجابري مع ابن سينا هو دعوة ابن سينا إلى الحكمة المشرقية، إذ يرى الجابري أنّها دعوةٌ غنوصيةٌ حرانيةٌ هرمسيةٌ وباطلة، إذًا جريمة ابن سينا الكبرى التي لا تُغتفر ليست خلافه مع الفارابي وأرسطو في بضعة مسائل إذ الخلاف كما قلنا أمرٌ طبيعي، بل إنّ الجريمة هي الدعوة إلى الحكمة المشرقية، والحكمة المشرقية تفسح المجال للميتافيزيقيا في تفسير الكون أمام النظرة المادية البحتة، وهذا ما أغاظ الجابري، لأنّ النظرة الميتافيزيقية تلغي حلم الجابري وتنسف كل ما نسجه في بناء مدينةٍ عقلانيةٍ علمانيةٍ لا يكون للدين فيها إلا الاسم.

والشاهد على ذلك أنّ الجابري رغم اعترافه بأن هرمس كان نبيًا من الأنبياء، لكن مع هذا يكيل أنواع التهم إلى الهرمسية ويصورّها بأبشع الصور، من دون أن يحاول التمييز بين ما هو صحيح من تعاليم هذا النبي، وبين ما هو مدخول، إذ حتى لو افترضنا أن شريعة هرمس وتعاليمه شابها الدسّ والوضع ـ شأنها شأن باقي الأديان دون الدين الخاتم ـ ولكن مع هذا يبقى فيها ما هو صحيح يمكن التمسك به، سيما ما يتوافق مع تعاليم الإسلام وروحانيته، ولكن بما أنّ هذه التعاليم لا تنفع مشروع الجابري حاول التخلّص منها وإعطاء رؤيةٍ ظلاميةٍ عنها.

(66)

ومن وجهة نظر ثانية، يرى جورج طرابيشي أن ليس هناك حكمةٌ مشرقيةٌ أمام حكمةٍ مغربية، وهذه التسمية إنّما تشير إلى الجانب الجغرافي حصرًا ولا تحمل أي تقييمٍ معرفي، فبما أنّ ابن سينا شرقي المولد والمنشأ والممات سمّى بعض أعماله بالرقعة الجغرافية التي نشأ فيها، شأنه شأن أبي علي الفارسي إذ أسمى معظم كتبه بأسماء المدن التي قطن فيها[1].

فالفلسفة المشرقية السينوية لا تعدو أن تكون محاولةً اجتهاديةً من داخل المنظومة الأرسطية للتميّز عنها من دون الخروج عليها، فمنطق المشرقيين هو هو منطق اليونانيين، ولكن بعد تطويره ليتسع لاجتهادات وإضافات ابن سينا الشخصية[2].

وبعبارةٍ أخرى إنّ المشرقية ليست إلا صفة النسبة إلى المشرق كاسم علمٍ لموطن ابن سينا، فهم هو، وهو هم، وفي كل مرة يقول: «قال المشرقيون» فإنما قصده أن يقول: «قال ابن سينا»، وعندما يطالب القارئ بالرجوع إلى كتب المشرقيين فإنما يطالبه بالرجوع إلى كتبه نفسه، وكل ما هنالك أنّ كناية «المشرقيين» هذه تغنيه عن استعمال ضمير الأنا الذي لا يخفى ما يمكن أن يكون في الإكثار منه من تنرجسٍ وتبجّح[3].

ثمّ إنّ جورج طرابيشي لإثبات أن ابن سينا لم يخرج على أرسطو والفلسفة المشائية، بل اجتهد في الدائرة نفسها وأضاف وجهات نظره الشخصية، وأنّ الفلسفة المشرقية لا تختلف عن المنظومة الفلسفية

(67)

السائدة آنذاك، سيما ما أورده في الشفاء ـ كما أن الجابري نفسه يعتقد بأن كتاب الشفاء كتابٌ فلسفيٌ تعليميٌ يختلف عن سائر كتب ابن سينا الهرمسية ـ، جروج طرابيشي لإثبات مدعاه يستشهد بما ذكره ابن سينا في مقدمة كتاب المنطق من الشفاء إذ يقول: «ولي كتابٌ [...] أوردت فيه الفلسفة على ما هي عليه بالطبع [...] وهو كتابي في الفلسفة المشرقية [...] أما هذا الكتاب فأكثر بسطًا وأشد مع الشركاء من المشائيين مساعدةً، ومن أراد الحق الذي لا مجمجة فيه فعليه بطلب ذلك الكتاب، ومن أراد الحق على طريق فيه ترضٍّ ما إلى الشركاء وبسطٍ كثير وتلويحٍ بما لو فطن له استغنى عن الكتاب الآخر فعليه بهذا الكتاب».

فبعد أن ينقل طرابيشي هذا النص من ابن سينا يستنتج أنّ كتاب الفلسفة المشرقية منثورٌ في كتاب الشفاء، ومن له فطنةٌ استغنى بالثاني عن الأول، وكفاه الشفاء عن كتاب الفلسفة المشرقية، وعليه فليس في الفلسفة المشرقية شيءٌ غير موجود في الشفاء، فهو انتقالٌ داخل منظومة الفلسفة المشائية[1].

كما أنّ ماجد فخري يرى أيضًا أنّ الاختلاف بين كتب ابن سينا شكلي، إذ يقول: «إنّ أكثر البيّنات الداخلية والخارجية تتعارض على ما يبدو مع القول بثنائية تفكير ابن سينا: أولًا لأنّ هذه المفارقة لمذهب المشائين كما تستشفّ من كتاب منطق المشرقيين أو الحكمة المشرقية أو كتاب الإشارات والتنبيهات ـ وهو من أواخر مؤلفاته والمفترض أنّه من أنضجها ـ لا تعدو في أكثر الأحيان كونها مفارقةً شكليةً أو لفظيةً لا غير.

وثانيًا: لأنّ تلاميذه وأخلافه، كابن المرزبان والشهرستاني والطوسي،

(68)

يرسمون لفلسفته صورةً واحدةً هي الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، مطابقةً للنمط الإسلامي المعروف، بل إنّ أعنف ناقديه وبينهم الغزالي وابن رشد، ممّن لا شك في صحة سردهم لآرائه، لا يشيرون مطلقًا إلى هذه الثنائية المزعومة»[1].

علمًا بأنّ السهروردي أيضًا كان يرى أنّ ما ذكره ابن سينا حول الفلسفة المشرقية لا علاقة له بالحكمة المشرقية الخسروانية، بل أنّها قواعد المشائيين والفلسفة العامة تمّ تغيير بعض عباراتها[2].

2. الفلسفة المغربية:

يرى الجابري أنّ الفلسفة فشلت في تحقيق حلمها في المشرق، وعليها الآن أن تبدأ من الصفر في المغرب[3]، وقد قطعت مع إشكالية المشارقة لتتبنى إشكالية المغاربة في المغرب الأقصى والأندلس[4]، إذ كانت منذ البداية تنطلق من رفض الطريق الذي سلكه فلاسفة المشرق[5]، الفلسفة في المشرق تأسست على علم الكلام ومسألة التوفيق بين النقل والعقل، أما الفلسفة في المغرب فإنّها تأسست على العلم والرياضيات والمنطق، وهذا يعني أنّها فلسفة علمية علمانية[6]،

(69)

وكانت نقطةُ الانطلاقة لها بداية الثورة الثقافية التي دشنها ابن تومرت وواصلها خلفاؤه من بعده[1].

أ- ابن حزم وابن تومرت:

أرجع الجابري سبب ظهور المدرسة المغاربية ـ التي تعدّ المرجعية العليا في رسم معالم مدينته الفاضلة ـ إلى العوامل السياسية، إذ يقول إنّه تشكّلت في الغرب الإسلامي إمارتان مناوئتان للدولة العباسية، وهما دولة الأدارسة الشيعية، ودولة الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي، إذ أسّس إمارته سنة 138هـ لتكون استمرارًا للدولة الأموية في المشرق.

هذه الإمارة الأموية كانت مهدّدةً من قبل الدولة الفاطمية والدولة العباسية معًا، الأولى تعتمد على المذهب الشيعي الباطني، والثانية على المذهب السني الأشعري، فبقيت الدولة الأموية المغربية تبحث عن أيديولوجيا لها، من هنا قاموا باستعادة الأيديولوجيا التي كانت لدولتهم في المشرق، إذ حاولوا تأسيس اتجاهٍ أيديولوجيٍ خاصٍ بهم يتجاوز العناصر والاتجاهات الفكرية الفقهية العقدية التي وظفها الآخر العباسي والفاطمي، وبما أنهما كانا يعتمدان البيان والبرهان والعرفان، كان لا بدّ من خلق مناخٍ جديد، وهذا ما صنعه ابن حزم في مذهبه الظاهري.

كان ابن حزم في طليعة الحزب الأموي، أعلن عن مشروعٍ أيديولوجيٍ عُرف باسم ظاهرية ابن حزم، سيكون منطلقًا للنهضة التي عرفتها

(70)

الأندلس فيما بعد، إنّ ظاهرية ابن حزم كانت بمثابة إعلانٍ عن المشروع الأيديولوجي ليكون سلاحًا نظريًا للدولة الأموية المغربية أمام خصومها الفاطميين والعباسيين[1].

إنّ ابن حزم ينطق باسم الخلافة الأموية ويحمل مشروعها الثقافي المستقبلي، إنّه مشروعٌ فكريٌ فلسفيُ الأبعاد يطمح إلى إعادة تأسيس البيان، وإعادة ترتيب العلاقات بينه وبين البرهان، مع إقصاء العرفان تمامًا [2]، إنّه يرفض الفيزياء الكلامية التي شيّدها المتكلمون، ويتبنّى طبيعيات أرسطو ومفاهيمها ونظرياتها البرهانية، في أفق تأسيس البيان على البرهان، على صعيدي المنهج والرؤية، وهو أيضًا لا يقتصر في الدعوة إلى اعتماد المنطق الأرسطي على العقليات وحدها، بل يدعو إلى اعتماده في الفقهيات أيضًا، إنّه لا يريده سلاحًا للجدل كما عند الغزالي، بل يريده آلةً للبرهان، يريد أن يؤسس البيان عقيدةً وشريعةً على البرهان[3]، إنّ رؤيته تحترم مبادئ الدين كما جاء بها النص، وتفسح المجال للتحرك عقديًا وعمليًا ضمن دائرة المباح التي تزداد اتساعًا مع نمو المعرفة وتطوّر المجتمع، إنّها نزعةٌ نقديةٌ عقلانيةٌ تتمسّك بالنص فيما ورد فيه نص وهو قليل ومحصور، أما الباقي وهو غير محصور فمتروكٌ للعقل[4].

ثمّ إنّ مشروع ابن حزم الظاهري كان بحاجةٍ إلى سلطةٍ تدعمه، سيما بعد أن فشلت الدولة الأموية، فجاء ابن تومرت بعد حدود خمسين سنةٍ

(71)

وقاد ثورةً اعتمدت على مشروع ابن حزم، إنّ مشروع ابن حزم كان مزدوجًا، أيديولوجيًا وفلسفيًا في آنٍ واحد، فالجانب الأيديولوجي دعمه ابن تومرت من خلال تحويله إلى نظامٍ تشريعيٍ عقديٍ للدولة، وتولّى ابن باجة الجانب الفلسفي ليضفي على ظاهريته الجانب البرهاني[1].

هذا هو مشروع ابن حزم، وهو المرجع للمدرسة المغاربية عند الجابري، إذ يرى أنّ لحظة ابن رشد تجد نقطة انطلاقتها في ابن حزم[2]، وأن ظاهريته كانت حبلى بمشروع ابن رشد بكل مضامينه العقلانية والنقدية[3]

«إنّه مما لا شكّ فيه ولا جدال أنّ تيار التجديد في المغرب والأندلس، سواء في العقيدة أو في الشريعة أو في اللغة أو في الفلسفة، كان تيارًا واحدًا ترتبط فروعه وروافده كافةً بمشروع ابن حزم»[4].

فالجابري هنا يحاول أن يخلق زمنًا ثقافيًا جديدًا في المغرب، يحدث قطيعةً مع الزمن الثقافي السائد والرسمي بالاعتماد على ظاهرية ابن حزم، ليستفيد من هذا الزمن الثقافي الجديد الذي تبلور على يد ابن رشد من إحداث قطيعةٍ معرفيةٍ مع التراث والاستفادة لمشروعه في عصرنا الراهن. 

ويلاحَظ على ما ذكره الجابري ما يلي:

1.لم تكن الفلسفة المغربية في بدايات تكوّنها بمعزلٍ عن الفلسفة

(72)

المشرقية بل كانت امتدادًا لها، وبهذا صرّح كثيرٌ من مؤرخي الفلسفة الإسلامية.

تقول الدكتورة كريستينا دانكونا بأنه: «تحت سلالة الخلافة الأموية التي حكمت معظم شبه الجزيرة الأبيرية، كانت قرطبة قد أصبحت مركزًا ثقافيًا هامًا ذات مكتبةٍ غنيةٍ جدًا بممتلكاتٍ واردةٍ سواء من بغداد أو القاهرة»[1]، ممّا أدّى إلى وحدةٍ ثقافيةٍ في العالم الإسلامي[2].

ويشرح دي بور هذه الوحدة الثقافية قائلًا: «كانت حضارة المشرق تنتقل إلى الأندلس كأنّها مسرحية تمثَّل للمرة الثانية [...] كان المغرب يعتمد في حضارته العقلية على المشرق بوجهٍ عام، ومنذ القرن العاشر الميلادي، أعني الرابع الهجري، شرع الناس يرتحلون من الأندلس إلى المشرق طلبًا للعلم، فكانوا يمرّون بمصر ويجاوزونها حتى يبلغوا أقاصي بلاد الفرس ليحضروا دروس العلماء المشهورين، وكانت حاجة أهل الأندلس إلى التثقيف تجذب إليها كثيرًا من علماء المشرق الذين لا يجدون عملًا في أوطانهم [...] أهل المغرب كانوا لا يزالون يستمدون غذاءهم العقلي من المشرق، ثم دخلت الفلسفة الطبيعية في الأندلس، وكتب إخوان الصفا، ومنطق أصحاب أبي سليمان السجستاني، وفي آخر القرن الخامس نلمس تأثير مؤلفات الفارابي أيضًا، وفي هذا القرن أيضًا عُرف قانون ابن سينا في الطب»[3].

(73)

2. وعليه فإنّ الحركة العلمية في المغرب كانت حركة تكاملٍ وتراكم، وإنّها لم تبدأ في لحظة ابن باجة من الصفر، كما أنّها لم تكن وحدةً متكاملةً تسير في مسيرٍ واحد من ابن باجة إلى ابن رشد، بل هناك شواهد كثيرة يذكرها جورج طرابيشي تدلّ على نقد ابن رشد لابن باجة، ونقد ابن الطفيل لابن باجة وما شاكل[1].

كما أنّ ابن الطفيل لا يؤرخ للفلسفة في المغرب بالقطيعة مع نظيرتها في المشرق، بل على العكس بالاتصالية التامة بها، ويضع محاولته الاجتهادية الشخصية ـ رسالة حي ابن يقظان ـ تحت اللواء المباشر للحكمة المشرقية المنسوبة إلى ابن سينا[2].

هذا ناهيك  عن الخط الإشراقي الصارخ في مدرسة ابن مسرّة وابن سبعين.

3. كما أنّ نقطة انطلاقة الحركة العلمية والعقلية لم تكن على يد ابن تومرت رغم فسحه المجال لذلك، غير أنّها كما مرّ كانت مستمرةً قبل هذا الموعد، مضافًا إلى أنّ دولة الموحدين هي التي أدخلت المذهب الأشعري الكلامي إلى المغرب وروّجت للغزالي[3]، أمور خالفها ابن حزم بجدّ، ناهيك عن أنّ المذهب الظاهري لم يُلقِ بجرانه بشكلٍ تامٍ في الدولة الموحدية: «فقد حدث تقاربٌ نحو المذهب الظاهري، على الرغم من فشل المحاولات في جعله المذهب الرسمي، نظرًا لتمسّك الأندلسيين والمغاربة بالمذهب المالكي»[4].

(74)

4. إنّ الجابري كعادته في تسييس الأمور وتضخيمها كصراعاتٍ مذهبيةٍ عرقيةٍ طائفية، صوّر سبب ظهور المذهب الظاهري في حاجة الدولة الأموية إلى مذهبٍ فقهيٍ وفكريٍ يميّزها عن خصومها الفاطميين والعباسيين.

والحال أنّ الدولة الأموية كانت متمسّكةً بالمذهب المالكي، ولن ينتشر المذهب الظاهري إلّا في دولة الموحدين كما يصرّح الجابري بذلك، وإنّما اقترب ابن حزم إلى البلاط الأموي لوشائج اجتماعية صرفة، إذ كان أبوه من مقربي البلاط الأموي، ناهيك عن أنّ فترة نضوج ابن حزم العلمي كانت بعد الفترة الأموية.

5. يشير الجابري إلى أنّ مشروع ابن حزم عقلانيٌ يحاول الجمع بين البيان والبرهان، مع تبنّي طبيعيات أرسطو ومفاهيمها ونظرياتها البرهانية في أفق تأسيس البيان على البرهان، والحال أنّا نرى أنّ مؤرخي تاريخ الفلسفة والأفكار الفلسفية يصفون ابن حزم بالضعف الفلسفي وعدم تمكُّنه منها، إذ إنّ مراجعة آثاره تكشف عن مواقفه الساذجة تجاه بعض القضايا الفلسفية وعجزه عن إدراك مكنوناتها، والسبب في ذلك يعود إلى:

أ. انتمائه إلى المذهب الظاهري، إذ إنّ هذا المذهب يضيّق التعمّق الفكري والغور في بواطن المعاني المختلفة إذ يقتصر على الظاهر.

ب. عدم تلقيه الفلسفة على يد أستاذٍ بارعٍ وفيلسوفٍ قدير، فإنّه رغم تبحّره في المنطق لم يكن له باعٌ في الفلسفة ولم يخلّف أثرًا فلسفيًا مستقلًا معتدًا به[1].

(75)

أما في مجال العقل فموقف ابن حزم مبهمٌ نوعًا ما، إذ عدّ العقل عرضًا محمولًا على النفس والعرض ليس بإمكانه أن يحكم بحلية شيء وحرمته، والعمل الوحيد الذي بإمكان العقل أن يقوم به هو إدراك كيفية الأشياء، وعليه فما ذهب إليه في مجال العقل لا يعدّ رصينًا ولا معتبرًا ومرفوضٌ من وجهة نظر كبار الفلاسفة[1].

كما أنّه ومن خلال ما يذكره حول معرفة الله تعالى يكشف عن عدم ثقته بالبرهان، إذ ذهب إلى أنّ معرفة الله لم تكن واجبةً أو لازمةً قبل بعثة الأنبياء، وهذه المعرفة التي تحصل من البرهان لا تجب على الناس أبدًا، وأشار إلى أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما دعا الناس إلى الإسلام ودين الحق لم يقل لهم إنّكم لم تكونوا مسلمين ما لم تقيموا برهانًا ودليلًا على عقيدتكم، وإنّما دعا الناس إلى الإسلام فقط، فقبلوا هذا الإسلام، كما أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتحدّث عن الدليل والبرهان في كتبه إلى الملوك والسلاطين[2].

كما أنّه عرّف الفلسفة بتهذيب النفس، وكان أكثر ما يعني في كلامه هذا العقل العملي، ولهذا لم يكن يؤمن بوجود تناقضٍ بين الدين والفلسفة[3]، ومعنى هذا أنّ ابن حزمٍ كان يفسّر البرهان والنص والعقل والفلسفة بحسب مذهبه الظاهري وما يفهمه هو، ولا علاقة له بما يطرحه أرسطو وغيره، لذا قام بمناهضة الفلاسفة والمتكلمين، وكتب أوّل ردٍّ على الكندي وناقشه، فمنهج ابن حزم في نفي القياس والعلّيّة والمقاصد و... يخالف منهج

(76)

جميع العلماء والمفكرين والفلاسفة من أرسطو إلى ابن رشد، فكيف يكون مع هذا هو رائد الفكر العلماني الذي بشّر بلحظة ابن رشد؟!          

ب- ابن باجة:

يرى الجابري أنّ ابن باجة دشّن في الثقافة العربية الإسلامية خطابًا فلسفيًا جديدًا متحرّرًا من علم الكلام وإشكالياته، ومن هاجس التوفيق والتلفيق بين الدين والفلسفة الذي استولى على فلاسفة المشرق، وألّف رسائل في الإلهيات يظهر فيها تفكيره الأصيل واختلافه مع الفارابي وابن سينا، وتحرّره من النزعة الهرمسية التصوفيّة التي نخرت من الداخل عقلانيتهم وفلسفتهم[1]، ليعود العلم كما كان مع أرسطو: الأساس الذي تبني عليه الفلسفة صرحها، فكانت مادة المعرفة عند ابن باجة مادةً علميةً بحتة، فاعتمد على طبيعيات أرسطو، أرسطو العالم الطبيعي[2].

إنّ نصوص ابن باجة تدلّ على أنّ أرسطو هو العنصر الأساسي والمرجعي فيها، لكن لا أرسطو الذي وُظّف في المشرق، بل أرسطو الحقيقي، أرسطو العالم، وفي هذا الإطار المرجعي للخطاب الباجي نلتقي بأفلاطون لكن لا مرجعًا بل صاحب رأي يُذكر للاستئناس به أو لدفعه والرد عليه، ونلتقي بالفارابي لكن لا فارابي «الجمع بين الحكيمين» بل الفارابي المعلم الثاني وشارح أرسطو، أما فارابي المدينة الفاضلة فيُذكر كما يذكر أفلاطون، أما ابن سينا فمسكوت عنه[3].

(77)

إنّ إعراض ابن باجة عن الفلسفة المشرقية السينوية وتجاوزه للعرض الذي قدّمه الشيخ الرئيس في كتابه الشفاء عن العلوم الفلسفية المنسوبة إلى الأقدمين، ورجوعه إلى الأصول، إلى مؤلفات أفلاطون وأرسطو، كل ذلك كان بمثابة إعادة تأسيس للفلسفة في الفكر العربي والثقافة العربية[1]، وهذا يناقض كلامه السابق أن ابن باجة لم يرجع إلى أفلاطون إلّا للرد عليه لا التأسيس كما رأيت.

إنّ الجابري يدرك أن ربط مشروع ابن باجة بمشروع ابن حزم سيوجّه له سهام النقد من حيث اختلاف المشروعين، لكنه كعادته يراوغ ويدلّس ليصل إلى مبتغاه، فإنّه يحاول أن يجعل ابن تومرت وابن حزم وابن باجة في صف واحد، فيقول: «إذا كان من الصعب في حدود اطلاعنا إقامة صلاتٍ مباشرةٍ بين ابن باجة وابن تومرت أو بينه وبين تراث ابن حزم، فإنّه لمما لا شكّ فيه ولا جدال أن تيار التجديد في المغرب [...] كان تيارًا واحدًا ترتبط كافة فروعه وروافده بمشروع ابن حزم»[2].

ادّعاءٌ فارغٌ لا يمت إلى الحقيقة بصلة، فلو أردنا الاستشهاد ببعض الكلام وترك الآخر لأمكننا ربط كل شيء بكل شيء.

وبما أنّ مشروع ابن باجة لو قُرئَ كما هو سوف لا يخدم الجابري، فإنّه يحاول المراوغة وتحريف الكلم عن مواضعه وليّ عنق النصوص، لذا يخالف الجابري منهجه السابق في التركيز على البعد التوظيفي والأيديولوجي الذي اعتمده في قراءة ابن سينا، إذ إنّ البعد المعرفي هو

(78)

واحدٌ لا يتغيّر وهو مأخوذٌ من اليونان، أما هنا عند ابن باجة فإنه يترك التوظيف الأيديولوجي ـ لأنّه لا يخدمه ولا يختلف عن المدرسة المشرقية ـ ليأتي ويحرّف بالبعد المعرفي حتى يتطابق مع مشروعه، فيدعو إلى القراءة المطابقة في مؤلفات ابن باجة، وهي بدعةٌ أبدعها مخيال الجابري ليتخلّص من الإشكالات والاعتراضات، والقراءة المطابقة هي التي تبحث عن الأساس الإبستمولوجي للمقروء وليس التوظيف الأيديولوجي، وفي هذه القراءة المطابقة لا بدّ من اتخاذ خطوتين: 1- ترك المسبقات الذهنية للقارئ، 2- تجريد المقروء، أي ابن باجة، وتفسيره ضمن المنظومة المغاربية.

بخصوص الخطوة الأولى يدعو الجابري إلى التحرّر من المسبقات التي تؤسّس وتوجّه الذات القارئة للفلسفة العربية الإسلامية، أي فك ارتباط المفاهيم والمصطلحات بالشايع من التأويلات والتصورات وذلك: «أنّ هذا وحده هو ما يمكن أن يضفي على قراءتنا ما نريد لها من الجدّة وتمام المطابقة»[1].

استكمالًا لهذه الخطة يستشهد الجابري بكلمة «النوابت» المستخدمة عند الفارابي، بمعنى الأشخاص غير الفضلاء، وقد استعملها ابن باجة بمعنى الفضلاء، فالجابري ينطلق من هذه الجزئية ليعمّم الأمر على باقي المصطلحات التي استخدمها ابن باجة من قبيل: «العقل الفعال»، «الاتصال»، «وحدة العقل»، وغيرها من المصطلحات ليصرفها عن معانيها المفهومة العرفية في الفلسفة إلى معاني جديدة أخرى لا علاقة

(79)

لها بتلك، وذلك ليدعم نظريته في الفصل التام بين الفلسفة المغربية والمشرقية[1].

أما الخطوة الثانية فتتعلّق بتجريد ابن باجة وقراءته من خلال المنظومة المغربية[2]، إنّه يريد أن يقرأ ابن باجة من خلال «ما بعده» وليس من خلال «ما قبله»، لأنّ ابن باجة كان له بَعدٌ ولم يكن له قَبل، كان الخطاب الباجي بدايةً لخطابٍ فلسفي جديد، فإطاره المرجعي لا يمكن أن يكون قبلَه [أي الفارابي وابن سينا] بل بعدَه، ليقطع مع الفلسفة الفيضيّة وقاموسها ويتجه إلى ابن رشد وقاموسه.

ثم يقول الجابري: «فإذا فعلنا هذا فإنّنا نحصل على: 1- قراءةٍ مطابقةٍ لفلسفة ابن باجة، 2- كون ابن باجة الإطار المرجعي الوحيد لابن رشد لقراءة أرسطو قراءةً مطابقة»[3].

انظر إلى هذا اللف والدوران للتخلّص من الحقائق والواقع، وانظر إلى هذا التوظيف الأيديولوجي لمشروعه، إذ يريد أن يقرأ أرسطو من خلال ابن رشد وابن باجة ويسمّيها القراءة المطابقة، ويعتقد أنّها هي التي تحدّد المحتوى المعرفي للمقروء، وينسى أو يتغافل عن أنّ الإنسان كيف يمكنه في قراءة نصٍ أن يعتمد على غير النص ويذهب ليجد معناه عند آخرين جاؤوا بعد قرون عدّة، ثمّ إذا كان لا بدّ من هذه القراءة المطابقة ـ بحدّ زعمه ـ وتكوين إطارٍ مرجعيٍ لفهم النصوص، فلماذا أرجع إلى الإطار

(80)

المغربي ولم يرجع إلى الإطار المشرقي، إذ الأدلة هنا متكافئةٌ طالما أن الجابري يعتقد أنّ التوظيف الأيديولوجي مسكوتٌ عنه ومنحّى في القراءة المطابقة؟!

إنّ الجابري لأجل التخلّص من هذه الإشكالية يحاول أن يوحّد بين الإبستمولوجي والأيديولوجي في قراءته لابن باجة، بخلاف ما صنعه في ابن سينا، إذ فصل بينهما تحقيقًا لمآربه العلمية الموضوعية!! ليقول: «إذا كان الفصل بين المحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي ضرورةً منهجيةً خصوصًا عند دراسة الفلسفة الإسلامية [...] فإنّ الخطاب الباجي من أشد أنواع الخطاب الفلسفي استعصاءً على هذا الفصل، ذلك أنّ ابن باجة لا يوظّف المادة المعرفية التي يتعامل معها من أجل تأسيس أيديولوجيا معيّنة كما فعل الفارابي، بل إنّ اختياره الإبستمولوجي هو نفسه المضمون الأيديولوجي لخطابه»[1].

هذه هي الدقة العلمية والموضوعية عند الجابري، إذ يبدلّ أدوات العمل بحسب ما يحلو له، فهناك يفصل وهنا يَصِل، إذ لو قال بالفصل هنا أيضًا لانتقض عليه مشروعه وأصبح حاله حال مشروع الفارابي وابن سينا مع بعض الاختلاف الطبيعي الموجود بين الفلاسفة وعامة المفكرين، اختلافات لا تغيّر جوهر المسألة.

ومن الطريف أيضًا أنّ الجابري يذكر مصادر ابن باجة وهي كتب أرسطو وأفلاطون وبعض شروح الفارابي[2]، ثم يحرف المسار ويذهب إلى

(81)

أنّ ابن باجة عند نقله عن هؤلاء لم يقصد المعاني التي قصدوها، بل يريد معانيَ أخرى، وهذه المعاني الأخرى لا يمكن أن نفهمها من خلال النصوص ابن باجة نفسه بل لا بدّ من فهمها على ضوء ابن رشد، مهزلةٌ ما بعدها مهزلة!!.

ثم إنّ الجابري يشرح المحتوى الفلسفي الذي تطرّق إليه ابن باجة في رسالة المتوحّد ليلخّصها ضمن نقاط ويخرج بنتيجة أنّ فلسفة ابن باجة أحدثت قطيعةً إبستمولوجيةً مع الفلسفة المشرقية باعتبار أنّ المواقف الفلسفية المترتبة على فلسفة ابن باجة لم تكن مجرّد وجهات نظرٍ متفرعةٍ عن الأسس السابقة نفسها، بل كانت إعراضًا تامًا عن هذه الأسس نفسها، أما أهمّ ركائز فلسفة ابن باجة عند الجابري فهي:

1- المظهر العلمي العلماني في الخطاب الباجي: إذ إنّ المادة المعرفية التي يتعامل معها مادةٌ علميّةٌ أساسًا، أي اعتماده على علوم عصره، على طبيعيات أرسطو، وإنّ ابن باجة يحرص أشد الحرص وأحيانًا إلى درجة الإلحاح والتكرار المملين على تأسيس آرائه الفلسفية على المادة العلمية، معززًا ذلك بالإشارة إلى المعطيات التجريبية ومعطيات الواقع الملموس الطبيعي منه والاجتماعي، هذا هو المظهر العلمي عند ابن باجة.

أما المظهر العلماني فيقصد الجابري به تحرُّر فلسفة ابن باجة من مشاغل التوفيق بين الدين والفلسفة، بمعنى أنّه لا يتعرض لقضايا الدين لا بالإثبات ولا بالإبطال، بل يمارس الفلسفة كفلسفةٍ لا غير، وهذا الذي

(82)

أهمله الخطاب الباجي يعدُّ الركيزة المحورية في فلسفة القرون الوسطى الإسلامية وغير الإسلامية منها[1].

ومن الطريف أنّ الجابري ينسى هذا التنظير في الفصل بين الدين والفلسفة بعد صفحات، ليجعل ـ من حيث لا يشعر ـ مشروع ابن باجة الاتحاد بين الدين والفلسفة، انظر ماذا يقول بعدما يجعل السعادة عند ابن باجة ـ كما سيأتي ـ العلمَ الأقصى الذي يعني تصوّر العقل، والعقل هو النظام الكلي للعالم، فالكمال العقلي هو شمولية المعرفة داخل المدينة الكاملة، ففي هذه المدينة وحدها: «تتحقّق شمولية المعرفة ويتم الحصول على العلم الكامل بالنظام الكلي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلما كان العلم الكامل بالنظام الكلي للعالم من أخص صفات الإله، بل إنّه ولا شيء غيره المقوّم لفكرة الألوهية، فإنّ بلوغ الإنسان درجة هذا العلم الكلي معناه الاقتراب أكثر ما يمكن من الله، بل اكتساب شيء ما من ماهيته والدخول بالتالي في عالم الألوهية الذي لا يعني شيئًا آخر يميز عالم المعرفة التامة [...] إنّ الخلود في نظر ابن باجة هو خلود المعرفة الذي يستنتج خلود العارفين، ذلك هو معنى اللقاء الإلهي»[2].

أليس لهذا معنى غير التوفيق بل الاتحاد بين الديني والفلسفي، فقد تهرمس صاحبنا الجابري ووقع فيما تنصّل منه، وأعماه حبّه للمغرب وبغضه للمشرق، وأوقعه في هذه المتاهات...

2. التوحّد والتصوف: حرص ابن باجة على تمييز التوحيد من

(83)

التصوف، سيما ادّعاء المتصوفة إدراك السعادة بطريقتهم، انطلاقًا من تحليل ظاهرة المشاهدة الصوفية وتفسيرها على ضوء معطيات علم النفس الأرسطي، فموقف ابن باجة موقفٌ عقلانيٌ صميمٌ يعتبر المشاهدات الصوفية نوعًا من التخيل القوي ليس غير، موقفٌ يرى في التصوف خروجًا عن الطبع الإنساني بمظهريه العقلي والاجتماعي، فيرفضه بكل وقاحة الفلسفة، يرفضه لا من موقع العداء والخصومة بل انطلاقًا من القطيعة مع القاعدة الإبستمولوجية التي تؤسسه، والتي لا تقول بوجود طريقٍ أخرى غير طريق العقل والعلوم النظرية لبلوغ السعادة[1].

3. نظرية النبوة: يرى الجابري أنّ بقدر ما تهتم الفلسفة الفارابية بمسألة النبوة، بهدف دمج الدين بالفلسفة والفلسفة بالدين، تسكت فلسفة ابن باجة عن مسألة النبوة سكوتًا مطبقًا، فلم يمنحها أي موقع في خطابه الفلسفي، بل يجعل مسألة الوحي والنبوة من المواهب الإلهية التي لا تقبل التفسير العقلي، ويرى أنّ الوحي متمِّمٌ للعلم ولكن في ميدان غير ميدان العقل، ومن هنا يجيء الفصل بين الدين والفلسفة[2].

4. السعادة: نظرية ابن باجة في السعادة مستلهمةٌ من أرسطو، ومشروع ابن باجة يبدأ من حيث ينتهي أرسطو في «الأخلاق إلى نيقوماخوس»، لذا يرفض ابن باجة أن يجعل السعادة مرادفةً

(84)

للّذّة أو مرتبطةً بها، لأن اللذة لا يمكن أن تكون النهاية القصوى للإنسان، لأنها غير متواصلة وتنقطع بانقطاع سببها، بل الذي يمكن أن يكون الغاية القصوى والسعادة الكاملة هو العلم الأقصى أي تصوّر العقل، وهذا إنما يكون بالاتصال بالعقل الفعّال عبر العقل المستفاد، وذلك من خلال ارتقاء الإنسان في مدارج الكمال العقلي وليس بفيض إلهي[1].

ج. ابن رشد:

يعوّل الجابري في مشروعه لرسم معالم مدينته الفاضلة على ابن رشد كثيرًا، ليخلق من خلاله روحًا رشديةً مغاربيةً تقاوم الروح السينوية المشرقية وتتقاطع معها، إذ يقول: «نحن نعتقد أنّ هناك روحان ونظامان فكريان في تراثنا الثقافي: الروح السينوية والروح الرشدية، وبكيفية أعم: الفكر النظري في المشرق والفكر النظري في المغرب، وأنّه داخل الاتصال الظاهري بينهما كان هناك انفصال نرفعه إلى درجة القطيعة الإبستمولوجية بين الاثنين، قطيعة تمسّ في آن واحد: المنهج والمفاهيم والإشكالية..

لقد كان المشروع الفلسفي لدى ابن سينا يرمي إلى دمج بنية الفكر الفلسفي اليوناني في بنية الفكر الديني الإسلامي بالاستعانة بما تبقّى من بنيةٍ فكريةٍ ثالثةٍ هي الفكر الديني الفلسفي الذي ساد مدرسة حرّان، ذلك ما كان يهدف إليه ابن سينا [...] أما بالنسبة إلى ابن رشد فالأمر يختلف، إنّ

(85)

مشروعه الفلسفي يقوم أساسًا على الفصل بين الفلسفة والدين حتى يتأتى الحفاظ لكل منهما على هويته الخاصة»[1].

إنّ ابن رشد ـ عند الجابري ـ يريد أنّ يدشّن منهجًا برهانيًا يختلف اختلافًا كليًّا عن منهج الفكر النظري في المشرق[2]، إنّ المفاهيم الأساسية التي كانت سائدةً آنذاك على الفكر الكلامي والفلسفي في المشرق كانت تتمحور حول الثنائيات: الحدوث والقدم، الممكن والواجب، العلم الإلهي والعلم الإنساني، الكثرة والوحدة، الظاهر والباطن و... إذ حاول المفكرون التوفيق بين هذه الثنائيات، أي التوفيق بين العقل والنقل عند المتكلمين، ودمج الدين في الفلسفة عند الفلاسفة (الفارابي وابن سينا)، والهدف من كل ذلك بناء بنيةٍ جديدةٍ تُرضي العقل والنقل معًا، لكن جاء ابن رشد وضمّن هذه الثنائيات معاني بديلةً أخرى تتوافق مع مبناه[3].

فإذا كانت العقلانية الإسلامية قد بلغت مرحلةً عاليةً من النمو والتطور مع الفارابي، خاصةً بمحاولتها الدمج بين الدين والفلسفة، فإنّها بلغت مرحلةً أعلى مع ابن رشد بانكبابها على الفصل فصلًا عقلانيًا متقدمًا بين الدين والفلسفة، ذلك هو السياق التطوري نفسه الذي ستعرفه العقلانية في أوروبا بعد ابن رشد مباشرةً[4].

وحصيلة القول في مشروع ابن رشد الفلسفي هو:

(86)

1. القطيعة مع الروح السينوية التي أسّسها ابن رشد في فلسفته المشرقية المبتنية على التصوف، إذ التصوف مرفوضٌ عند الطابع العربي الإسلامي، لأنّه يراه وافدًا إليه من الفرس ولا ينسجم مع دين الإسلام القائم على البساطة والفطرة، إنّ الخطاب القرآني هو خطاب عقلٍ وليس خطابًا غنوصيًا أو عرفانيًا أو إشراقيًا، وعليه لا بدّ من اتباع ابن رشد والقطيعة مع التراث السينوي والدخول معه في معركةٍ حاسمة.

ويلاحَظ على كلامه هذا أولًا ما مرّ من التفصيل في مدرسة ابن سينا ومنهجه الفلسفي الذي لا علاقة له بالتصوف والعرفان، وإن خاض فيهما كمفكّر يسبر أغوار مختلف العلوم، وثانيًا أن كون التصوّف مرفوضًا في الطابع العربي هو أول الكلام، ففي متصوفة المغرب أمثال ابن مسرّة وابن سبعين وابن عربي وابن الطفيل كفايةٌ لردّ دعوى الجابري.

2. القطيعة مع الطريقة والمنهج في التوفيق بين العقل والنقل، فقاطع ابن رشد طريقة المتكلمين والفلاسفة معًا، وذلك أنّ المتكلمين حكّموا عقلهم التجريبي التجزيئي في الدين وحكّموا فهمهم الديني في العقل، والفلاسفة حكّموا العلم في الدين وقيّدوا العلم بالفهم الديني عندهم، فأخضعوا العلم لمستوى فهمهم ولم يطوّروا مستوى فهمهم مع العلم، أما ابن رشد فإنه تجنّب تأويل الدين بالعلم وربطه به، لأنّ العلم يتغيّر ويتناقض ويلغي نفسه باستمرار، وتجنّب تقييد العلم بالدين للسبب نفسه.

(87)

3. إنّ ابن رشد سعى إلى إيجاد علاقةٍ جديدةٍ بين الدين والفلسفة، إذ دعا إلى فهم الدين داخل الدين وبواسطة معطياته، وفهم الفلسفة داخل الفلسفة وبواسطة مقدماتها ومقاصدها، وذلك في نظره هو الطريق إلى التجديد في الدين والفلسفة[1].

ونقول: صحيحٌ أنّ مسألة التوفيق بين الفلسفة والدين كانت من هواجس ابن رشد، لكنّه قدّم طريقةً يرتضيها هو ترجع بالمآل إلى تغليب جانب الدين عند التعارض الذي لا يقبل الجمع والتأويل، على خلاف مدّعى الجابري، إذ حاول أن يجعل فلسفته علمانيةً دنيوية، وهذا ما فهمه أيضًا دارسوا النص الرشدي.

فهذا علي أومليل يرى أنّ ابن رشدٍ لم يخرج عن الخطاب التقليدي العام، وأنّ الموضوعات التي دار عليها الخطاب الرشدي لم تخرج عن الموضوعات التقليدية للفلاسفة والمتكلمين جميعًا، ثم يستنتج أنّ ابن رشد لم يقطع عن أسلافه[2].

أما جورج طرابيشي فيقول: «بحكم التكوين الفقهي لابن رشد فقد نستطيع هنا أن نقول إنه يحوّل الممارسة الفلسفية إلى ممارسةٍ فقهية، فللفيلسوف كالفقيه أن يفرّع لا أن يؤصّل، وللعقل الفلسفي أن يتدخل ولكن على منوال العقل الفقهي، أي لا كعقل مشرِّعٍ بل كعقل مشرَّعٍ له، [...] فانتفاضة ابن رشد الأرسطية تقبل الوصف بأنها إحيائيةٌ أو تطهيريةٌ أو تصحيحية، ولكنّها لا تمثّل بحالٍ من الأحوال خلافًا لمدّعى ناقد العقل

(88)

العربي قطيعةً معرفيةً [...] فالرشدية نشيد ختامٍ رائعٍ وبكل تأكيد لفلسفة العصر الوسيط [...] ولكنّها ليست نشيد افتتاحٍ لفلسفة الحداثة»[1].

إنّ الجابري يستشهد بمقطع من كلام ابن رشد ويمجّده، إذ ينقل عنه طريقة التعامل مع علوم الأمم السابقة: «فقد يجب علينا إن ألفينا لمن تقدّمنا من الأمم السالفة نظرًا في الموجودات واعتبارًا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقًا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافقٍ للحق نبّهنا عليه وحذّرنا منه وعذرناهم»، ثم يعقّب الجابري على هذا المقطع قائلًا: «بهذا الإدراك الواعي لعالمية المعرفة وتاريخيتها حدّد ابن رشد طريقة التعامل مع علوم الأوائل التي كانت تشكّل علوم العصر آنذاك»[2].

أقول: إنّ من طريف التناقضات التي وقع فيها الجابري هنا، وما أكثرها، أنّه نفى بعد صفحتين هذه الطريقة في التعامل مع التراث، بمعنى أخذ ما هو صالح وترك ما هو غير صالح ـ الطريقة التي دعا إليها ابن رشد في التعامل مع علوم الأوائل ـ، ووصفها بأنّها خاطئةٌ غير موضوعيةٍ ولا تاريخية، حيث يقول: «إنّ طرح مشكلة التعامل مع التراث على أساس ما يجب أخذه وما ينبغي تركه من هذا التراث ككل، طرحٌ خاطئ غير موضوعي غير تاريخي [...] أن نبحث في ما يمكن أخذه من المعتزلة والشيعة والخوارج والأشاعرة ثم الفلاسفة، فهذا عمل غير تاريخي»[3]. هذا أولًا.

(89)

وثانيًا: إنّ ابن رشد قال «نأخذ ما وافق الحق» ولم يقل «ما وافق العصر والعصرنة»، إذ موافقة الحق أعمّ، فربما آراء توافق الحق والمنطق والبرهان لم يتقبّلها العصر لانحرافه عن جادة الصواب، مثلما أنّ السوفسطائية لم تتقبّل البراهين، ومخالفة العصر هذه لم تكن طعنًا في البرهان بل طعنًا فيهم، فلماذا يغالط الجابري ويحرف مسار الكلام ليجعل موافقة الحق تساوي موافقة العصرنة والحداثة.

وثالثًا: إنّ كلام ابن رشد هذا ينفي القطيعة التي ينادي بها الجابري ليل نهار، ولا يُبقي لها أي قيمةٍ، إذ أي قطيعةٍ هذه ونحن نأخذ من علوم الأقدمين وننهل منها؟!

رابعًا: إنّ هذه الروحية في أخذ ما طابق الحق وترك ما خالفه، لم يختص بها ابن رشد لوحده، بل هي ديدن العلماء وشيمتهم، وهذا السيد المرتضى علم الهدى (ت 436هـ) الشيعي الغنوصي الهرمسي ـ طبقًا لموازين الجابري ـ يقول في نهاية بعض كتبه: «ونقسم بالله تعالى على من تأمّله أن لا يقلّدنا في شيء من مذاهبه أو أدلّته، ويحسن الظن بنا فيلقي النظر والتصفّح والتأمُّل تعويلًا على أنّا قد كفيناه ذلك وأرضاه بما تكلّفناه من تعبه ونصبه، بل ينظر في كل شيء نظر المستفتح المبتدي، مُطرحًا للأهواء المزينة للباطل بزينة الحق المشبهة للكذب بالصدق، معادلًا فيما ينظر فيه ويتصفّحه في نفسه من أحواله، غير مائلٍ إلى أن يكون بحق من أحدهما دون صاحبه، حتى يكون ميله إلى جهة وانحرافه إلى أخرى بعد العلم الذي يثمره نظره وينتجه فكره»[1]، وكذلك قال في نهاية كتاب الشافي: «ونحن

(90)

نقسم على من تصفّحه وتأمَّله أن لا يقلّدنا في شيء منه، وأن لا يعتقد بشيء ممّا ذكرناه إلّا ما يصحّ في نفسه بالحجة وقامت عليه عنده الأدلة»[1].

حصيلة البحث:

إنّ الوصول إلى المدينة الفاضلة الجابرية كان يستدعي من الجابري استحداث خطابٍ فلسفيٍّ معرفيٍ جديد، ولكن بما أنّ القوى المحافظة وقاطبة المتدينين لا يستسيغون ترك التراث واستبداله بالتراث الغربي، حاول الجابري الاستمداد من الموروث نفسه العربي الإسلامي، فبعد الفحص والتنقيب وجد أنّ التراث المغربي أقرب إلى مشروعه وتلبية متطلبات مدينته الفاضلة من غيره، فعمد على التمسّك به وتظهيره، مستفيدًا من بعض الفجوات واختلاف الآراء الموجودة بين كل مفكّر، زائدًا التأويل والتعسّف في فهم النصوص، فأظهر فلسفةً جديدةً تتوافق مع متطلبات العصر من جهة، وتتقاطع مع الفلسفة المشرقية التي لا تخدم مشروعه من جهةٍ ثانية.

ومن طريف تناقضات الجابري أنّه من جهةٍ يصرّ ويؤكد على أنّ الفلسفة المشرقية عملت على التوفيق بين الدين والفلسفة، أما الفلسفة المغربية تبنّت الفصل وعدم التوفيق وإعطاء استقلاليةٍ لكل منهما، ولكن من جهةٍ ثانيةٍ عندما يصطدم بنصوصٍ رشديةٍ تنحو المنحى نفسه، أي منحى التوفيق بين الدين والفلسفة، يحاول أن يدور ويراوغ كي يتخلّص من هذه الأزمة بتعسّف وتأويل، انظر ماذا يقول:

(91)

«إنّ ابن رشد كان واعيًا كل الوعي بكون أرسطو خصمًا له، لقد كان واعيًا بأنّ المبادئ التي يستند إليها أرسطو في البحث عن الحقيقة لم تكن كلها على وفاقٍ تامٍ مع المبادئ التي يرتكز إليها الدين الإسلامي الذي يعتنقه ابن رشد [...] إنّ رغبة فيلسوف قرطبة في احترام المنظومة الأرسطية جعله يضطر إلى تأويل بعض آراء أرسطو تأويلًا خفيفًا ذكيًا، وذلك حتى لا يشوّهها من جهة، وحتى لا يتركها تحمل تناقضًا ظاهرًا صريحًا مع العقيدة الإسلامية، ومن هنا اكتست عملية شرح أرسطو لدى ابن رشد مظهرًا جديدًا: التقليل إلى الحدّ الأقصى من الخلاف والتباين بين وجهة نظر أرسطو والوحي الإسلامي، وعندما يتّضح له أنّ عملية التقريب بين الجانبين مستحيلة، يجتهد في طلب العذر لأرسطو مبيّنًا أنّ المقدمات التي اعتمد عليها هذا الفيلسوف تلزم عنها تلك النتائج البعيدة عن المنظور الإسلامي، وبالتالي فإنّ هذه النتائج ليست صحيحةً صحةً مطلقة، وإنما هي صادقةٌ فقط داخل المنظومة الأرسطية»[1].

كلامٌ خطيرٌ ينسف كل ما أسّسه الجابري من ذي قبل من أنّ الفلسفة المغربية تعتمد على الفصل بين الدين والفلسفة، إذ لو صحّ المدعى للزم على ابن رشد والروح الرشدية التي تعتمد العلم والعقل والبرهان من دون تدخّل الدين أن تقتفي أثر أرسطو، لا أن تحاول تفسير أرسطو بما يتوافق مع العقيدة الإسلامية، وهل يا ترى كان عمل ابن سينا غير هذا؟! ألم يكن عمل ابن رشد توظيفًا أيديولوجيًا لأرسطو مثلما صنع ابن سينا، مع قطع النظر عن مدى التوظيف سعةً وضيقًا؟!

(92)

ثمّ بعد أن يعترف الجابري بأنّ تلك النتائج التي توصّل إليها أرسطو ليست صحيحةً صحةً مطلقة، فلماذا يستشكل على من تركها واستبدلها بما يتوافق مع الدين، الأمر الذي صنعه ابن رشد نفسه؟!

ولماذا يبجّل الجابري بمدرسة أرسطو، معتبرًا إياها مدرسةً علميةً منطقيةً عقليةً بحتة، ويعتبر أنّ المدرسة المغربية رجعت إليها مباشرةً وأخذت منها وتركت شروح الفارابي وابن سينا عليها، طالما أنّ المنهجية في التعامل مع أرسطو أصبحت واحدةً بين المشرق والمغرب، وهي الأخذ بما يتوافق مع الدين والعقيدة الإسلامية وترك ما لا يتوافق، أو محاولة تأويله وتحويره وإضفاء معاني إسلامية عليه؟!

وعليه فقد انهارت القطيعة التي حاول الجابري تأسيسها بين المغرب والمشرق ومحاولة توظيفها لصالح مشروعه.

والخلاصة أنّ الجابري من دعاة الحداثة ومن المنظرين لها بكل معانيها الليبرالية والعلمانية وما تستتبع من إقصاء دور الدين إلى الفضاء الخاص، لكنه لبعض الملاحظات اتّقى التصريح بذلك وحاول أن يوظّف ما يخدمه في التراث الإسلامي ويحوّره لصالح مشروعه كي يسلم من نقد الناقدين وربما تكفيرهم من جهة، ويحافظ على صلاته الحميمة مع بعض دول الخليج المتشدّدة، ووفاءً منه بحبه العميق لابن تيمية من جهةٍ ثانية، فنراه يرسم معالم مدينته الفاضلة على أنقاض المدرسة المغربية ليوظّف منهجها ـ بحد زعمه ـ في فهم الدين داخل الدين وبواسطة معطياته، وفهم الفلسفة داخل الفلسفة وبواسطة مقدماتها ومقاصدها، للوصول إلى التجديد في

(93)

الدين والفلسفة معًا، ليقول: «فلنتعامل مع تراثنا على أساس فهمه من داخله، ومع الفكر العالمي المعاصر على الأساس نفسه أيضًا»[1].

ثمّ إنّ الجابري ينتقد أمثال عبد الله العروي وزكي نجيب محمود وغيرهما من دعاة استيعاب الليبرالية الغربية في الوطن العربي والإسلامي، ويقول إنّها طريقةٌ خاطئة: «وذلك لأنّه عندما يُطلب من العرب أن يستوعبوا الليبرالية الأوروبية فإنّ ذلك يعني أنّ عليهم أن يستعيدوا على صعيد وعيهم تراثًا أجنبيًا عنهم بمواضيعه وإشكالياته ولغته، وبالتالي لا يشكّل جزءًا من تاريخهم [...] إنّ الطرح الصحيح لهذه الإشكالية يجب أن يكون في نظرنا على الشكل التالي: كيف يمكن للفكر العربي المعاصر أن يستعيد ويستوعب الجوانب العقلانية والليبرالية في تراثه ويوظّفها جديدًا في الاتجاه نفسه الذي وُظِّفت فيه أول مرة، اتجاه محاربة الإقطاعية والغنوصيّة والتواكلية، وتشييد مدينة العقل والعدل، مدينة العرب المحررة، الديمقراطية والاشتراكية؟!»[2].

ويقول أيضًا: «إنّ التجديد الثقافي لا يتم بالأخذ من هنا وهناك مثلما تؤخذ البضاعة التجارية، وإنّما يتم من الداخل بتحريك عوامل التطوّر والتجديد فيه»[3]

إنّ سبب نجاح أوروبا وتقدّمها عند الجابري يعود إلى ثلاثة عوامل يوحي الجابري بلزوم اقتفائها والجري نحوها: 1- نضال الكنيسة ضد

(94)

الغنوص (العقل المستقيل) طيلة أربعة قرونٍ من ظهور المسيحية، من خلال توظيف المعقول العقلي اليوناني سيما المنطق، ممّا جعل العقل الكوني يبقى حاضرًا في الفكر المسيحي، 2- فصل الدين عن السياسة، 3- الفلسفة الرشدية التي عرّفت أوروبا على أرسطو الحقيقي، ونبّهت أوروبا على نظرية ابن رشد في الفصل بين الدين والفلسفة وانتصار العقل واستقلال العلم[1].  

فلنسجل للجابري في مدينته الفاضلة المعْلَم الأول، وهو استخدام وتوظيف عناصر العقلانية والليبرالية التي معناها إقصاء الدين إلى أبعد الحدود من الفضاء العام، وفسح المجال للديمقراطية والاشتراكية، مع إحداث قطيعةٍ تامةٍ مع الفلسفة المشرقية الدينية.

(95)

المبحث الثاني:

القطيعة الفقهية:

إنّ الفقه الإسلامي يعدّ حجر عثرةٍ أمام الحداثويين في رسم مدينتهم الفاضلة ـ ومنهم الجابري ـ إذ إنّ بعض الأحكام الفقهية لا تتوافق مع روح العصر بحسب زعمهم، ولا يستسيغها الفكر الغربي والحداثوي، فالأحكام الفقهية سيما في مجال المعاملات والحدود والديات عقبةٌ كؤودٌ أمام تحقّق أمنيات الحداثة من جهة، ومَعْلمٌ بارزٌ لتحقق المدينة الإسلاميّة عند الأصوليين والتقليديين من جهةٍ ثانية، وهي المدار الأبرز في الحكم على هذا أو ذاك بالارتداد والخروج من الملّة.

فعليه يلزم على الجابري، وهو في طريق رسم معالم مدينته الفاضلة، الخروج بنتيجةٍ مرضيةٍ لكلا الطرفين، توصله في الوقت نفسه إلى تجاوز هذه العقبة وتمييعها من دون خسائر ماليةٍ وبشرية، لذا يخطو الخطوات التالية لإحداث قطيعةٍ فقهية:

1. تفكيك البنى: وهو يعني اعتماد المنهج التحليلي، إذ ينطلق من النظر إلى موضوعاته لا بوصفها مجرّد مركباتٍ يتم فرزها وعزل العناصر التي يتألف منها، بل بوصفها بنًى، فتحليل البنية معناه كشف الغطاء عن العلاقات القائمة بين عناصرها بوصفها منظومةً من العلاقات الثابتة، فتحليل البنية معناه القضاء عليها بتحويل ثوابتها إلى تحولات ليس غير، وبالتالي التحرّر من سلطتها وفتح المجال لممارسة سلطتها عليها، وهذا التحليل هو ما يسمى

(96)

بالتفكيك عند الجابري، تفكيك العلاقات الثابتة في بنية ما بهدف تحويلها إلى لا بنية، إلى مجرد تحولات، وهذا يندرج تحته تحويل الثابت إلى متغيّر، والمطلق إلى نسبي، واللا تاريخي إلى تاريخي، واللا زماني إلى زمني[1].

وهذا كما ترى كسر الثوابت والقول بالنسبية وخطوة نحو النظرة التاريخانية التي تُفقد النص استمراريته وتلغي حيويته، والجابري صريح في توضيح مدّعاه المستقى من مدرسة الغرب.

2. التلاعب بأصول الفقه: يرى الجابري أنّ القواعد الأصولية ليست ممّا نصّ عليها الشارع، بل إنّها من وضع الأصوليين، إنّها قواعد للتفكير وقواعد منهجية، ولا شيء يمنع من اعتماد قواعد منهجية أخرى إذا كان من شأنها أنّ تحقّق الحكمة من التشريع في زمنٍ معيّنٍ بطريقةٍ أفضل[2].

ويلاحَظ عليه أنّ القواعد الأصولية وإن لم ينصّ الشارع على أسماء بعضها بالخصوص، لكنّها مستقاة من النصوص الدينية الثابتة، ناهيك عن أنّ بعضها منصوصٌ عليه، من قبيل قاعدة الطهارة والإباحة وما شاكل، إذ وردت الإشارة إليها في السنة المطهّرة المروية على لسان أهل البيت عليهم‌السلام، فهي ليست أصولًا وقواعد عرفيةً زمكانيةً حتى نغيّرها كيفما شئنا.

(97)

3. التلاعب بالاجتهاد: يعرّف الجابري الاجتهاد بأنّه جهد فكري، والجهد الفكري المطلوب بذله يختلف باختلاف المشاكل التي يراد حلّها، وبما أنّ مشاكل عصرنا تختلف نوعيًا عن مشاكل الماضي، فمن الضروري أن يكون الجهد الفكري المطلوب في المجتهد اليوم مختلفًا اختلافًا نوعيًا عن الجهد الذي كان مطلوبًا من مجتهدي أمس[1].

ولتجديد الاجتهاد يدعو الجابري إلى فتح باب العقل الذي تقع عليه مهمة الاجتهاد: «لا بدّ إذن من انفتاحٍ جديدٍ للعقل العربي الإسلامي كي يستطيع مواجهة الانفتاح الحضاري الذي حصل، وانفتاح العقل يبدأ بالانفتاح على الحياة، على المعطيات الجديدة التي تحملها معها والقوانين التي تحكم تطورّها، لقد كان الاجتهاد في الماضي تكفي فيه المعرفة بعلوم العربية من لغةٍ ونحوٍ وبلاغة، وعلوم الدين من تفسيرٍ وحديثٍ وفقه، أما اليوم فالأمر يختلف، إنّ التغيير الهائل الذي حصل مع الحضارة الصناعية والذي يحصل اليوم مع عصر الثورة العلمية مثلما في علوم الاقتصاد والاجتماع، يجعل الانفتاح على هذه العلوم وبكيفيةٍ خاصةٍ على أسسها المعرفية ونتائجها على المستوى الإنساني ضرورةً من ضرورات الحصول على الكفاءة التي تمكّن من الاجتهاد، وبهذا الانفتاح على فكر العصر وبه وحده يكون الاجتهاد مواكبًا للحياة وتطورها»[2].

وإذ يقسّم الجابري الاجتهاد إلى اجتهاد تقليدٍ واجتهاد تجديد، فالأول

(98)

هو الذي يعتمد على القواعد الأصولية التي ترجع إلى عصر التدوين، والفقهاء قد وضعوا تلك القواعد عن نظامٍ معرفيٍ سائدٍ في عصرهم وعن حاجاتٍ ومصالح كانت مفروضةً في عصرهم، أما اجتهاد التجديد فإنّه يبني القواعد على ظروف العصر الحاضر، والعمل من اجل الارتفاع بفكرة المصالح الى مستوى المصلحة العامة الحقيقية كما تتحدّد من منظور الخلقية الإسلامية.

انه بدون هذا النوع من التجديد سيبقى كل اجتهاد في اطار القواعد الاصولية القديمة اجتهاد تقليد وليس اجتهاد تجديد حتى ولو اتى بفتاوى جديدة[1].

أقول: إن تقسيم الاجتهاد إلى تقليدي وتجديدي نشأ من المباني التاريخانية والتفكيكية والنظرة الدنيوية التي يتبناها الجابري لكسر الثوابت والإتيان بشريعةٍ جديدةٍ يقبلها العقل العرفي الدنيوي العلماني.

وهناك خلط عند الجابري بين اجتهاد واجتهاد، فالاجتهاد الأول الذي معناه بذل الجهد لاستنباط الحكم الشرعي من أدلته الثابتة، فإنّه لا يختلف باختلاف الأزمان والأماكن، فوجوب كذا أو حرمة كذا أمورٌ ثابتةٌ يبذل المجتهد جهده للوصول إليها كأحكامٍ ثابتةٍ أبدية، نعم يمكن فتح باب الاجتهاد في تشخيص المصاديق سعةً وضيقًا لا في أصل الوجوب والحرمة، فضلًا عن وجود قواعد عامة وكلية يستنبط منها الفقيه الأحكام في المسائل المستحدثة.

(99)

أما الاجتهاد الثاني فهو يدخل في دائرة العقل العملي وما يحتاجه الإنسان لتمشية أمور معاشه وطريقة سيره وسلوكه ووضع القوانين الجزئية الاعتبارية، فإنّه يتغيّر بتغيّر الزمان والمكان لأنه اعتبارٌ يتبع العرف ويتغيّر بتغيّره، فهو مواضعة بين بني البشر، ومؤيّدٌ من قبل الشرع طالما لم يتعدّ الخطوط العامة التي يرسمها الشارع.

فطريقة المأكل والملبس والمسكن وغيرها من الأمور الجزئية يجتهد فيها العقل بما يتناسب مع عصره ومع جودة تلبية حوائج الفرد والمجتمع.

لكن الجابري خلط بين الاثنين وأصدر حكمًا عامًا ليستغلّ عدم الثبات في الثاني ويسحبه على الأول ليتمكن من تغيير الشريعة.

وخلاصة القول إنّ النظرة الإسلامية الأصيلة والنظرة العلمانية الحداثوية لا يتحدان، إذ إن الأولى تجعل المحور هو الله تعالى وهو المقنِّن والمشرِّع مع إعطاء حريةٍ للبشر في سن القوانين المدنية والعرفية، أما الثانية فتجعل الإنسان هو المحور وبطبيعة الحال سيكون هو ورغباته الخاصة والمطلقة مدار التقنين والتشريع، والاجتهاد التجديدي الذي يدعو إليه الجابري إنّما هو من نتائج النظرة الثانية.            

4. التكيّف مع المستجدات: يدعو الجابري إلى التكيّف مع المستجدات، سواء تلك التي يساهم الإنسان في إنتاجها أو تلك التي تظهر من غير أن يقصدها، والتكيّف يعني ملائمة الذات ـ فرديةً كانت أو جماعيةً ـ مع الوقائع الجديدة، ولكن لا من أجل الخضوع لها والاستسلام أمامها، بل من أجل استعادة القدرة على

(100)

السيطرة عليها نوعًا من السيطرة، مثلما يرى أنّ الدعوة إلى تحقيق الأصالة والمعاصرة معًا لم يكن لها جدوى ولم تتحقق ما دامت لم تقترن بالدعوة إلى التكيّف الواعي مع المستجدات قصد السيطرة عليها وتأصيل الأصول على ضوئها[1].

5. مقاصد الشريعة والمصالح العامة وإعطاء الأولوية للمعنى دون اللفظ: انطلاقًا من مبدأ التفكيك والتكيّف وفتح باب الاجتهاد، يلتجئ الجابري إلى مسألة مقاصد الشريعة ليوظّفها توظيفًا محرّفًا لصالح مشروعه ورسم معالم مدينته الفاضلة، ليقول: «لقد تنبّه الشاطبي في الأندلس، ودعا إلى فتح باب الاجتهاد من جديد، وإنّ هذا الانفتاح يتطلّب تأصيل الأصول، وذلك بالاعتماد على كليات الشريعة ومقاصدها بدل الاقتصار على تفهّم معنى النص واستنباط الأحكام منه أو قياس حادثةٍ على حادثة فيما لا نصّ فيه»[2].

وفيما يميّز بين الاجتهادين: القديم والجديد، يرى الجابري أنّ الفقهاء أعطوا الأولوية للّفظ على المعنى في مقام الاستنباط، فأخذوا يشرّعون انطلاقًا من تعقّب طرق دلالة الألفاظ على المعاني، وأهملوا مقاصد الشريعة [أي المعنى والروح]، فأصبحت مقاصد اللغة هي المتحكّمة، فعوضًا عن بناء التشريع على قواعد كليةٍ تستخلص الأحكام الشرعية الجزئية، وتعتمد توخّي المصلحة العامة التي تتطوّر بتطوّر العصور، فبدلًا من هذا السلوك العقلي ربطوا التشريع بقيود العلاقة بين اللفظ والمعنى،

(101)

فكان نتيجة هذا تقوقع التشريع ضمن حدودٍ معيّنةٍ لا يتعدّاها، ممّا أدّى إلى إغلاق باب الاجتهاد، لأن المواضعة اللغوية محدودةٌ ومغلقة، بينما لو اعتمدوا في التشريع على مقاصد الشريعة وهي مقاصد تؤسّسها المصلحة العامة والمثل العليا لما انغلق باب الاجتهاد[1].

إذًا، يقيّد الجابري مقاصد الشريعة بالمصلحة العامة وأنّ النصوص الشرعية إنّما تهدف إلى رعاية المصلحة العامة، حتى أنّه قال بعض أتباع الشاطبي ـ ويلوح من الجابري تأييده ـ إنّه إذا تعارض نصٌّ شرعيٌّ مع المصلحة العامة عُمل بالمصلحة العامة لأنّ النص إنّما جاء أصلًا من أجل رعايتها[2].

فالمصلحة العامة عند الجابري هي علّةٌ أولى تؤسّس جميع الأحكام الشرعية ويلزم رعايتها في كل زمان ومكان، أما تعيين المصلحة في كل نازلة وكل حكم فإنّه أمرٌ سهلٌ طالما يتعلق بميدان الأمور البشرية[3].

والجابري في حين دعوته إلى مقاصد الشريعة والتأسيس والتنظير لها للتخلّص من مقاصد اللغة التي لا تنفعه في مشروعه، فإنّه في الوقت نفسه يرى أنّ مقاصد الشريعة أيضًا لا تلبّي طموحه إلّا جزئيًا، أي إنّها ضربٌ من الاستنباط الفقهي القديم، أما الاجتهاد الحداثي فلا يمكن استنباطه من مقاصد الشريعة أيضًا، فلذا كعادته يقوم بمحاولاتٍ تعسّفيةٍ ليستنبط من «مصالح العباد» ما يحلو له، لذا يضيف على الضروريات التي وضعتها

(102)

المقاصد وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، يضيف عليها في الساحة الفردية: الحق في حرية التعبير وحرية الانتماء السياسي، الحق في انتخاب الحاكمين وتغييرهم، الحق في الشغل والخبز والمسكن والملبس، الحق في التعليم والعلاج، وكذلك الحاجة إلى توفير الصحة وتنشيط الإبداع الفكري، وفي المجال الجمعي يضيف مسألة الوحدة القومية العربية، تحرير فلسطين، التنمية والتقدّم على ضوء الديمقراطية، وهكذا.

ثمّ يعقب قائلًا: «وهكذا فعندما ننجح في جعل ضروريات عصرنا جزءًا من مقاصد شريعتنا، فإنّنا سنكون قد عملنا ليس فقط على فتح باب الاجتهاد في وقائع عصرنا المتجدّدة المتطوّرة، بل سنكون أيضًا قد بدأنا العمل في تأصيل أصول شريعتنا نفسها بصورةٍ تضمن لها الاستجابة الحيّة لكل ما يحصل من تغيير أو يطرأ من جديد»[1].

فهل يا ترى يبقى بعد هذا للدين أثرٌ سيما في جانب المعاملات، إنّ الله تعالى أرسل الدين لهداية البشر بينما مدينة الجابري الفاضلة تجعل البشر هاديًا للدين، وتفرض أن تكون رغباته وميوله وأهواؤه في كل عصرٍ هي التي تسيِّر الدين وتوجّهه، إنّها هندسةٌ عكسيةٌ بامتياز، وكرامةٌ من كرامات العصر الحديث أتحفنا بها الجابري من خلال مدينته الفاضلة، وقد تحقّقت مقولة أمير المؤمنين عليه‌السلام في حقّ الدولة الأموية الأولى من «لبس الإسلام لبس الفرو مقلوبًا» ولم يبقَ منه إلّا اسمه، فإنّها تصدق حقًا في الدولة الأموية الثالثة ـ مدينة الجابري الفاضلة ـ أيضًا.

(103)

أضف إلى ذلك أنّ الجابري وسائر من تبنّى الخطاب الحداثوي حاول توظيف نظرية المقاصد توظيفًا أيديولوجيًا لتأسيس مقاصد جديدة تختلف عن نظيرتها في البنى والمحتوى، من دون أن يكون بينهما تشابه سوى في الاسم.

إنّهم بنوا نظريتهم المقاصدية على التاريخانية وإفقاد الوحي استمراريته لكل الأزمان والأماكن، كذلك أفرغوا مسألة المصالح عن معناها المراد الذي يعني المصالح والمفاسد الواقعية المستنبطة من العقل المحض أو النص القطعي، وجعلوها مصالح تابعةً للعرف العام والفهم البشري المتغيّر بتغيّر الظروف ـ مثلما رأينا في تصريح الجابري ـ، فهذه النظرة لا تنتج مقاصد الشريعة بل تنتج مقاصد الأهواء.

إنّ الشاطبي نفسه، والذي يحاول أن يوظف الجابريُ نظريتَه المقاصدية بشكل ملتوٍ ومقلوب، يصرّح بملء فمه أنّ النص مقدّمٌ على العقل، فإنّه يقول في مقدّمة كتابه الموافقات: «إنّ الناس كانوا قبل البعثة يتخبّطون خبط عشواء ويجرون لمعرفة مصالحهم مجرى عقولهم على غير سواء، إلى أن بعث الله الأنبياء ليبيّنوا للناس طريق الحق»[1].

ثمّ بعد هذا عندما يعرّج على دور الأدلة العقلية في علم المقاصد يقول: «الأدلة العقلية إذا استُعملت في هذا العلم، فإنّما تُستعمل مركّبةً على الأدلة السمعية أو معينةً في طريقها، أو محقّقةً لمناطها أو ما أشبه ذلك، لا مستقلّةً بالدلالة، لأن النظر فيها نظرٌ في أمر شرعي والعقل ليس بشارع»[2].

(104)

ومثلما يقول أيضًا في المقدمة العاشرة: «إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدّم النقل فيكون متبوعًا ويتأخّر العقل فيكون تابعًا»، ثم يستدل على ذلك بأدلة عدّة منها: «أنّه لو كان كذلك لجاز إبطال الشريعة بالعقل وهذا محال باطل»[1]، وهذا بعينه ما يصنعه أرباب الخطاب الحداثي، وسنرى ذلك عند ذكر بعض المصاديق التي توصّلوا إليها لتغيير الشريعة من خلال نظرتهم المقاصدية الحداثية.

وهناك نص آخر عند الشاطبي يكفي للرد على مزاعم الحداثيين إذ يقول: «المصالح المجتلبة شرعًا والمفاسد المستدفعة إنّما تُعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية»[2].

فالنظرة الشاطبية للمقاصد تقوم على أساس رعاية مصالح العباد الحقيقية للوصول إلى السعادة الأخروية، أما النظرية الجابرية للمقاصد فتقوم على أساس مصالح العباد الدنيوية حصرًا، المبتنية على الأهواء والأميال من خلال إلغاء استمرارية الشريعة بكونها تجلب خير الدنيا والآخرة، واستبدالها بالقوانين العرفية والوضعية التي تمليها حوائج الناس المتغيرة.

فعند الشاطبي أنّ مصلحة حفظ الدين تفوق جميع المصالح العقلية والعرفية، حتى أنّه يصرّح بأنّ الأمر إذا توقّف ودار بين إحياء النفوس وإماتة

(105)

الدين فإنّ إحياء الدين أولى عنده وإن أدى إلى إماتة النفوس[1]، ولكن عند الجابري إذا دار الأمر بين مخالفة أهواء الناس وأميالهم العرفية وبين إماتة الدين، فإنّ الحفاظ على أهواء الناس وما توصّلوا إليه من آراء وعقائد وضعيّةٍ أولى وإن أدى ذلك إلى إماتة الدين.

وقد غفل هؤلاء عن أنّ شرائع جميع الأنبياء جاءت بما يتخالف مع عرف زمانهم، وما عليه عقول الناس من عادات وتقاليد وطقوس وقوانين، وبذلوا مهجهم لتثبيت ذلك من دون أن يتراجعوا ولو قيد أنملة، ولو كان الأمر كما توهّمه أصحاب الخطاب الحداثوي، لرأيناه وشاهدناه عند أصحاب الرسالة السماوية، أو على الأقل لورد تصريح منهم ـ لا سيما صاحب الرسالة الخاتمة ـ بأنّ هذه الأحكام والشرائع ولدت لظروفٍ خاصةٍ ولم تكن للاستمرار.

ويوجد شخص آخر من مدرسة المغرب الإسلامي يصرّح بذلك وقد أغفله الجابري ربما عن عمد، فهذا محمد الطاهر بن عاشور يقول: «معلومٌ بالضرورة من الدين أنّ شريعة الإسلام جاءت شريعةً عامةً داعيةً جميع البشر إلى اتباعها، لأنها لما كانت خاتمة الشرائع استلزم ذلك عمومها ـ لا محالة ـ سائر أقطار المعمورة وفي سائر أزمنة هذا العالم، والأدلة على ذلك كثيرةٌ من نصوص القرآن والسنة الصحيحة»[2].

فالشاطبي وغيره من أصحاب المدرسة المقاصدية يدخلون في حلقة البيان بامتياز، ولم يحدثوا أي قطيعةٍ مع ما كان قبلهم، وهذه النظرية

(106)

لا تقبل القراءة إلّا بالاستمرارية مع الفكر الأصولي البياني لا القطيعة، والشاطبي مجتهدٌ غير أنّ اجتهاده غير قابلٍ للفهم خارج إطار التراكم المعرفي لعصره[1].

إنّ القطيعة لا تقوم على إضافة جديدٍ مهما يكن جذريًا في جدّته، بل على إحداث انقلاب من طبيعة كوبرنيكية في الأنساق المعرفية والأطر المرجعية للعقل العارف وفي آليات انتاج المعرفة بالذات، فما كان الشاطبي أن يلعب دور كوبرنيكوس في الفضاء العقلي العربي الإسلامي، فهو قد أضاف إلى عمارة هذا العقل طابقًا، فهو كالمعمار أسيرٌ لهندسة العقل العربي الإسلامي[2].

6. تطبيقات ومصاديق: تطبيقًا للفقه الجديد والاجتهاد الجديد وبالاعتماد على مقاصد الشريعة والمصلحة العامة العصرية الجديدة، يشير الجابري إلى مصداقَين يرغب تطبيقهما في مدينته الفاضلة الجديدة والعصرية، نوجزهما فيما يلي:

أ. مسألة توريث المرأة أقل من الرجل: يرى الجابري انّ هذا الحكم جاء بما يتوافق ومعهود العرب آنذاك في العصر الجاهلي إذ كان النظام قبليًا، وكانت القبيلة لا تريد خروج ثرواتها إلى قبيلة أخرى سيما في حالة التزاوج بين القبائل، لأنّ الأصل السائد آنذاك كان أنّ القبيلة هي التي تملك دون الفرد، فلذا كان المجتمع الجاهلي لا يعطي للبنت من الأرث حق الولد نفسه الذي سيبقى

(107)

انتماؤه للقبيلة دائمًا، فلما جاء الإسلام أعطى حلًّا وسطًا يتناسب مع المرحلة الجديدة، إذ أعطى للأنثى الثلث مع إيجاب نفقتها على زوجها، إذًا هذا الحكم يجد تبريره ومصداقيته في المجتمع الإسلامي الناشئ، بمعنى عدم تلائمه في مجتمعنا اليوم[1].

ويلاحَظ عليه أنّنا لو افترضنا صحّة هذه الدعوى، فانّها تكون معتبرةً فيما لو كان سهم الرجل ضعف سهم المرأة دائمًا، والحال أنّ الأمر ليس هكذا، بل توجد حالات في الفقه يكون فيها سهم المرأة أكثر من سهم الرجل، وهذا يكفي لرد مزاعم الجابري.

ب. الشاهد الثاني في مسألة قطع يد السارق:

يذكر الجابري هذا النموذج على سبيل المثال وإلّا فكلامه عامٌّ يشمل جميع الحدود، لذا يمهّد بمقدمتين:

الأولى: مسألة لزوم لفت النظر إلى القواعد والمبادئ الإسلامية الأخرى من قبيل «كاد الفقر أن يكون كفرًا»، و»الناس كأسنان المشط»، وأنّ تطبيق هذه المبادئ يسبق تطبيق بعض الحدود الشرعية سيما حدّ السرقة.

الثانية: التمسك بقاعدة «ادرؤوا الحدود بالشبهات» لتشمل شبهات عصرنا الكثيرة والمتفرعة بسبب تعقّد الحياة المعاصرة، وكذلك الشبهات الراجعة إلى السياسة إذ إنّ الحدود حينئذٍ سيلتبس أمر تنفيذها بالأغراض والدوافع السياسية[2].

(108)

وكذلك التمسّك بالبحث عن أسباب النزول لإضفاء المعقولية على الحكم الشرعي، وأسباب النزول عند الجابري هي الوضعية الاجتماعية التي اقتضت نوعًا ما من المصلحة وطريقةً معيّنةً في مراعاتها، لذا يقول بأنّنا سنجد أنّ قطع يد السارق تدبير مبرّرٌ ومعقولٌ داخل تلك الوضعية، ومفهوم هذا الكلام أنّه غير معقول في زماننا الحاضر[1]، ولا بدّ من استبداله بالسجن مثلًا[2].

وهذا الرأي يبتني على النظرة التاريخية للوحي والشريعة ونفي الاستمرارية، وهو يخالف صريح القرآن والسنّة مثلما مرّ في كلام ابن عاشور.

فلنسجّل ثانيًا للجابري في مدينته الفاضلة مَعْلَم مقاصد الشريعة، وتحكيم المصلحة في مسألة تطبيق الشريعة والمصلحة هذه تؤخذ من خلال متطلبات العصر والظرف السائد في كلّ مكان، أي المصلحة العرفية، وهذه المصلحة العرفية هي التي تحدّد صلاحيات الشريعة ومدى لزوم تغييرها أو قل تمييعها لتتوافق مع العرف والعقلانية.

(109)

المبحث الثالث:

القطيعة السياسية:

تمهيدًا للدخول في معالجات العقل السياسي العربي، يمهّد الجابري ببعض المقدمات التأسيسية، فيشرح مشروعه ككل بأنّه يتبنّى عقلنة فهمنا للإسلام دينًا ودنيا، وبخصوص كتابه «العقل السياسي العربي» فإنّه يحاول أن يعقلن فهمنا للإسلام كمسيرةٍ حضاريةٍ كدولةٍ وسياسة[1].

والعقل السياسي عند الجابري يرتبط ضرورةً بالنظام أو النظم المعرفية التي تحكم عملية التفكير في هذه الحضارة، العقل السياسي ليس بيانيًا فقط ولا عرفانيًا فقط ولا برهانيًا فحسب، إنّه يوظّف مقولاتِ وآليات مختلف النظم المعرفية حسب الحاجة[2].

أما المرجعية العامة للعقل السياسي، والتي تؤطّر اللاشعور السياسي نفسه فهو المخيال الاجتماعي[3]، والمخيال الاجتماعي بما أنّه منظومةٌ من البداهات والمعايير والرموز، فهو ليس ميدانًا لتحصيل المعرفة، بل هو مجال لاكتساب القناعات، مجال تسود فيه حالة الإيمان والاعتقاد، المخيال الاجتماعي هو جملةٌ من التصورات والرموز والدلالات والمعايير والقيم التي تعطي للأيديولوجيا السياسية بنيتها اللاشعورية[4].

(110)

فموضوع البحث هنا هو العقل السياسي، والعقل السياسي يقوم على الاعتقاد دون البرهان، وهو عقل الجماعة، وعقل الجماعة يؤسَّس لا على مقاييس معرفيةٍ بل على رموزٍ مخياليةٍ تؤسّس الاعتقاد والإيمان، إنّ الإنسان يؤمن بمعزلٍ عن كل استدلال[1].

بعد هذه المقدمات المنهجية يجعل الجابري إطاره المرجعي في دراسة العقل السياسي العربي هو الدولة النبوية، على خلاف باقي أعماله إذ كان عصر التدوين هو الإطار المرجعي له، قال: «إنّ الممارسة السياسية في الحضارة العربية بدأت مع ظهور الإسلام»[2]، وأزعم أنّ سبب هذا التغيير في المنهجية، هو أنّ عصر التدوين لم ينفعه في التوظيف الأيديولوجي الذي يرنو إليه، وذلك أنّ ما يريد أن يؤسس له الجابري في مشروعه السياسي هو الحكم العلماني، وهذا ما يتوافق مع تفسيره لعصر النبوة إذ يحاول إثبات أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن له مشروعٌ سياسي، ولذا لم يعيّن خليفةً بعده، هذا الأمر وهذا التفسير الخاطئ لسيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي يخدم مشروعه، لذا يقول: «إنّ ما يهمنا من الدعوة المحمدية هنا هو المظهر السياسي فيما بعد [...] أما المسألة ما إذا كانت الدعوة المحمدية قد حملت منذ منطلقها مشروعًا سياسيًا معيّنًا فهذا من الأمور التي فيها نظر»[3].

ثم يذكر الجابري مجموعة روايات تدلّ على المشروع السياسي

(111)

النبوي ويناقشها ولا يقبلها زعمًا منه أن قبولها سيفقد الدعوة المحمدية جوهرها وروحها ـ أي كونها دعوةً دينيةً أولًا وأخيرًا ـ وسيجعل الرسول قائدًا عسكريًا أسس إمبراطوريةً، كلّا إنّ الرسول كان يؤمن إيمانًا عميقًا بأنّه نبيٌ يوحى إليه، ومكلّفٌ بتبليغ الرسالة، وليس في القرآن ما يفيد أنّها دعوةٌ تحمل مشروعًا سياسيًا[1]، لينتهي إلى القول إنّ نموذج عهد النبوة نموذجٌ مفتوحٌ يقبل إضافاتٍ كثيرةً مختلفةً ومتباينة[2]، وهذا هو بيت القصيد في جعل العهد النبوي الإطار المرجعي له، إذ إنّه ـ بتفسير الجابري ـ إطارٌ مفتوحٌ يقبل إضافاتٍ كثيرةً متباينةً ومختلفة، ليضيف إليها ما يحلو له من إضافاتٍ وإن كانت متباينةً مع المبادئ الأساسية.

ثمّ إن الجابري يرى أنّ محور السياسة في العهد النبوي يدور مدار ثلاث ركائز أساسية: القبيلة والغنيمة والعقيدة.

القبيلة: هي ما عبّر عنها علماء الأنثروبولوجيا في الغرب بالقرابة عند دراستهم للمجتمعات البدائية ومجتمعات ما قبل الرأسمالية، وهي العصبية التي عبّر عنها ابن خلدون، وهي اليوم نعبّر عنها بالعشائرية، إذ يعتمد الحكم فيها على ذوي القربى دون ذوي الخبرة والمقدرة.

الغنيمة: الدور الذي يقوم به العامل الاقتصادي ويدور حول ثلاثة أشياء متلازمة: نوع خاص من الدخل (خراج أو ربع)، طريقة في صرف هذا الدخل (العطاء بأنواعه)، وعقلية ملازمة لها.

(112)

العقيدة: لا يقصد بها مضمونًا معينًا، سواء على شكل دينٍ موحى أو على صورة أيديولوجيا يشيد العقل صرحها، وإنّما يقصد الاعتقاد، فالعقيدة فعل الاعتقاد والتمذهب، سواء كان مضمون العقيدة ماديًا أم كان مثاليًا[1].

فالقبيلة والغنيمة والعقيدة ثلاثة مفاتيح يقرأ الجابري بواسطتها التاريخ السياسي العربي الماضي والحديث: «من الدعوة إلى الدولة، دولة النبوة والخلافة، ومن هذه إلى الملك العضوض والدولة السلطانية، مسارٌ واحدٌ هو مسار تاريخ وظهور وتشكّل العقل السياسي العربي، وقد بقي هذا المسار يكرر نفسه في الوطن العربي مع اختلافاتٍ جزئيةٍ لا تغيّر من اتجاهه ولا من طبيعة حركته، لأنّ المحدّدات هي نفسها: القبيلة، الغنيمة، العقيدة»[2].

من هذا المنطلق يدعو الجابري إلى إحداث قطيعةٍ مع ميثولوجيا الإمامة الشيعية والآداب السلطانية السنيّة، واستبدالها بالديمقراطية الحديثة، وذلك من خلال تنظيره بعدم وجود نصٍ تشريعيٍ من القرآن أو السنة ينظّم مسألة الحكم، بل هي مسألةٌ اجتهاديةٌ يجب أن تخضع لظروف كل عصرٍ ومتطلبات تحقيق الشورى فيه، يرى أنّ إعادة بناء الفكر السياسي في الإسلام يجب أن ينطلق من إعادة تأصيل الأصول التي تؤسّس النموذج الذي يمكن استخلاصه من مرحلة الدعوة المحمدية: {وأمرهم شورى بينهم}، {وشاورهم في الأمر}، «أنتم أدرى بشؤون دنياكم»، «كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعِيَّتِه»، ففي العصر الحاضر ليس هناك غير أساليب الديمقراطية الحديثة التي هي إرث الإنسانية كلها.

(113)

ثمّ إنه لم يكتف بالدعوة إلى الديمقراطية بل كذلك إلى البدائل المعاصرة لكل من الغنيمة والقبيلة والعقيدة، فيدعو إلى تحويل القبيلة إلى مجتمعٍ مدني، والغنيمة إلى اقتصادٍ إنتاجيٍ يفسح المجال لقيام وحدةٍ اقتصاديةٍ بين الأقطار العربية، وتحويل العقيدة إلى مجرد رأيٍ، بمعنى التحرّر من سلطة عقل الطائفة والعقل الدوغمائي[1].

ويلاحَظ على ما ذكره الجابري في مشروعه السياسي أمور:

1- يغلب على الجابري في كتابه «العقل السياسي العربي» الطابع الأيديولوجي، فيقوم بالدعوة إلى الاصطفاف في الدعوة الإسلامية واستلهام مرحلة الدعوة المحمدية صلى‌الله‌عليه‌وآله، دون الاصطفاف في مدرسة العقلانية مثلما هو الحال في كتابيه السابقين، وهذا هو بعينه امتداد الماضي في الحاضر[2]، ولذا تراه يترك فترة التدوين لأنّها لا تخدم مشروعه الأيديولوجي ـ مثلما أشرنا إليه.

2- تأثّر الجابري كثيرًا في صياغة بنى كتابه حول العقل السياسي، بما طرحه علماء الغرب من قبيل: اللاشعور السياسي، المخيال الاجتماعي، الكتلة التاريخية، إعادة المكبوت، وما شاكل، وحتى في المفاهيم التي نحتها من التاريخ العربي (القبيلة، الغنيمة، والعقيدة) فإنّه: «يذكّرنا بالأبعاد والمستويات الثلاثة في دراسة الدولة عند بولانزاس، أي البعد السياسي والبعد الاقتصادي والبعد الأيديولوجي»[3].

(114)

ويرى محمود أمين العالم أنّ الجابري في توظيفه لهذه المصطلحات مبتلًى بالتضخيم والمغالطات[1]، بينما يرى رضوان السيّد أنّ الجابري اعتمد البنى والمحدّدات التاريخية التي لم تنضبط لديه معرفيًا أو إبستمولوجيًا، ولذا برزت لديه مصطلحاتٌ ومفاهيم تابعها جميعًا، مثل المخيال السياسي، واللاشعور السياسي، والمجال السياسي، ولذلك يرى انفصامًا قويًا بين الفصول الثلاثة الأولى للكتاب مع الفصول الثلاثة التالية[2].

3. إن الجابري في كتابه اقتبس ثالوثه من النموذج الرسمي القائم آنذاك، وأهمل نماذج سياسيةً كثيرةً أخرى: «إنّ العقل السياسي العربي لا يبرز ولا تتحدّد معالمه من خلال تجلٍّ واحدٍ من تجلياته، وإنّما من خلال تضاريس عملياته الصراعية المختلفة التي كان يتجلّى فيها، سلبيةً كانت أو إيجابية، مشرقةً أو مظلمة، مستبدةً أو مقموعة، لقد كان هناك أكثر من عقل عربي سياسي، كان هناك عقلٌ سنّي وعقلٌ شيعي وعقلٌ خارجي إلى غير ذلك... فضلًا عن هذا فإنّ العقل السياسي لا يبرز ولا يتجلّى في شكل السلطة وحدها، وإنّما يبرز ويتجلّى كذلك في أمور أخرى إدارية وتشريعية ومشروعات عمرانية وقرارات اقتصادية وأنظمة للحسبة إلى غير ذلك، ولهذا فالكتاب قد غلبت عليه القراءة السياسية للجوانب السلطوية من واقعنا التاريخي العربي أكثر ممّا كان إبرازًا وتحديدًا للمقومات الأساسية للفكر السياسي العربي على اختلاف اجتهاداته وممارساته ومنجزاته وصراعاته»[3].

(115)

4. أما بخصوص القبيلة فيرى الفضل شلق أنّ القبيلة لها تاريخٌ ولا تخضع لظروف الصحراء فقط، بل تخضع أيضًا لظروف العلاقات بينها وبين الجماعات الحضرية التي تجمعها بها ثقافةٌ واحدة، والتي تشكّل وإياها أمةً واحدة، وهذه العلاقة لا تكرر نفسها كما يزعم الجابري، بل هي تتطوّر بتطوّر المعرفة البشرية وأساليب العمل والإنتاج وغيرها، وهذا يعني وضع القبيلة خارج المجتمع والتاريخ[1].

5. أما بخصوص الغنيمة فيضعها الجابري ـ متأثرًا بالمنهج الماركسي ـ فوق كلّ شيء، حتى أنه يحاول تفسير الفترة النبوية صلى‌الله‌عليه‌وآله بمحورية الغنيمة، لا بل يجعلها هي سبب الهجرة إلى المدينة ليقول: «كانت هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة لا خوفًا ولا هربًا، بل كانت من أجل مواصلة الدعوة بوسائل أخرى: توجيه السرايا وقيادة الغزوات لاعتراض قوافل قريش التجارية، الشيء الذي يعني ضرب الحصار الاقتصادي على مكة وصولًا إلى استسلامها السياسي»[2].

وإنّ آية القتال ضد المشركين نزلت أيضًا بدافعٍ اقتصادي عند الجابري، أي لضرب المنافع الاقتصادية حتى يستسلموا ويدخلوا في الإسلام[3]، وبعد هذا بقليل يتحوّل المشهد عند الجابري لتدخل الغنيمة جزءًا أساسيًا

(116)

في الكيان المادي للأمة الإسلامية، وتكون الحافز الرئيسي للغزوات والسرايا التالية، يأخذها المسلمون ويوظفونها في تجهيز الجيوش وتحفيز النفوس على الجهاد، خصوصًا أن استراتيجية اعتراض القوافل تقتضي عملًا متواصلًا[1]، وهكذا تصبح الغنيمة ـ والتفسير الماركسي للتاريخ ـ المحور المحرّك لجميع أعمال المسلمين، من نبيهم الخاتم إلى غيره من الصحابة، ولا ترى خبرًا للدين والشريعة والدعوة.

إنّ الجابري يدعو إلى التفسير المادي للتاريخ الإسلامي ولا يتحاشى ذلك إذ يقول: «لا بدّ من الفهم المادي الجدلي للتراث سواء كان التراث تراثنا نحن أو كان تراث غيرنا، تراث الغرب بالذات بما فيه الماركسية نفسها»[2]، ثم يبدأ بالتنظير لذلك وإن لم يرتضِ تطبيق نظرية ماركس على الإسلام لاختلاف الاقتضاءات، ولكن آراءه ومواقفه تصبّ بالمآل مصب النظرة المادية التاريخية، حتى أنّه يستشهد بنصوصٍ من جمال الدين الأفغاني ليستنتج منها أنّه كان يفسّر التاريخ الإسلامي بصراع الطبقات، الصراع بين الفقراء والأغنياء[3]، فلا غرو أن يجعل العامل الاقتصادي هو المحور الأبرز في غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌ وسراياه بشكلٍ واضحٍ أو بشكلٍ خفي[4].

6. ان الجابري رغم رفع شعار «يجب ان نُخضِع النظرية للواقع لا أن نُخضِع الواقع للنظرية»[5]، فإنّه عندما يأتي إلى ذكر سيرة

(117)

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌ وهل كان صاحب مشروعٍ سياسيٍ أم لا، يحاول أن يتخلى عن شعاره ويعكس الواقع لصالح نظريته، رغم اعترافه بوجود مجموعة رواياتٍ تدلّ على وجود مشروعٍ سياسيٍ نبوي، ليقول في نهاية المطاف: «ليس هناك نصٌ تشريعيٌ من القرآن أو السنة ينظّم مسألة الحكم، بل المسألة مسألةٌ اجتهادية يجب أن تخضع لظروف ومتطلبات تحقيق الشورى فيه»[1].

ونحن لا نريد هنا الدخول معه في سجالٍ كلامي عقدي لإثبات عشرات النصوص الدالة على أنّ الإسلام دينٌ ودولة، وأنّ مسألة الإمامة هي امتداد الدين والدولة الإسلامية، إذ كتب علم الكلام كفيلة بإثبات هذا، بل ما نريد إثباته هنا تصوير وتبيين القطيعة الجابرية مع الماضي السياسي الإسلامي بشِقَّيه الشيعي والسنّي لبناء مدينةٍ فاضلة تبتنى على الديمقراطية وقيم الحداثة، حتى أن الناس إذا شاؤوا اختيار الدين وتطبيق الشريعة وفقًا لمبادئ الديمقراطية فإنه لا يجوز لهم ذلك، لأن الشريعة لا تتطابق مع روح العصر المنغمس في الماديات والداخل في عبودية النفس والهوى.

(118)

المبحث الرابع:

القطيعة الأخلاقية:

خصّص الجابري مجلّدًا ضخمًا لعلم الأخلاق، وإن كان أكثره لا علاقة له بعلم الأخلاق بل أقرب ما يكون إلى السياسة من علم الأخلاق بمعنى السلوك الأخلاقي، عدا أنّه ضخّم حجم الكتاب بما لا فائدة فيه ولا يمتّ إلى أصل الموضوع بصلةٍ من نقل الأقوال المطوّلة، وشرح المشاريع المختلفة، وتلخيص الكتب المتنوعة.

ثمّ إنه يقدّم مقدماتٍ تأسيسيةً منهجيةً قبل الشروع في العمل ليقول بأنّ العقل الأخلاقي يؤسسه ويوجّهه نظام القيم وليس النظام المعرفي، فالموضوع هو نُظم القيم في الثقافة العربية الإسلامية التي تصوغ العقل الأخلاقي العربي[1]، ونظم القيم هذه قد توقفت عن النمو والحركة، ودخلت عصر الاجترار والجمود على التقاليد ابتداءً من القرن العاشر الهجري[2]، وإنّ نظام القيم ليس مجرد خصالٍ حميدةٍ أو غير حميدةٍ يتصف بها الفرد فتكون خُلقًا له، بل هو بالدرجة الأولى معايير للسلوك الاجتماعي والتدبير السياسي ومحدّدات لرؤية العالم واستشراف المستقبل[3]، فهو يوسّع في مدارات علم الأخلاق ليشمل الفردي والجمعي والسياسي.

ثمّ إنّه يرى أنّ محاولات تشييد نظامٍ في القيم خاصةٍ بكلّ من الموروثين العربي والإسلامي، إنّما بدأ بعد أن تغلغل في الثقافة العربية الإسلامية

(119)

نظام القيم الخاصة بالموروثات الأخرى الوافدة: الفارسي، واليوناني، والصوفي، إذًا فبداية التأليف في نظام القيم الخاصة بالموروث العربي الخالص والإسلامي الخالص قد جاءت متأخرةً جدًا، لقد بدأت كنوعٍ من ردّ الفعل على هيمنة نظم القيم الوافدة على الساحة العربية الإسلامية، ولم تتجاوز مرحلة ردّ الفعل هذه إلى مرحلة العمل الأصيل إلّا بعد قرون[1].

بعد هذه المقدمة يتطرّق الجابري إلى تأسيس مقدمةٍ ثانية، ويتساءل عن المشكلة الأخلاقية التي تتلخّص في السؤال التالي: على أيّ أساس تقوم الأخلاق، وبعبارةٍ أخرى: ما الذي يؤسس الحكم الأخلاقي؟ الّلذة، العرف، الدين، العقل، الضمير؟! فقد عرف التاريخ مدارس تعتمد كلًّا من هذه الأسس[2].

يرى الجابري أنّ الدين عند الفقهاء يغطّي من الناحية المبدئية جميع مظاهر الحياة بتشريعاته وأحكامه، وهو بمثابة القانون في المجتمعات المعاصرة، لكنّه كالقانون مجاله محدودٌ بالقياس إلى المجالات الأخرى المتروكة للعرف والعادة والعقل... ثمّ إنّ الفكر الإسلامي ميّز بين أحكام الشريعة ومكارم أو آداب الشريعة، فأولى اهتمامًا كبيرًا بالأول وأهمل الثاني، ممّا يعني عند الجابري أنّ الدين في الإسلام ليس هو أساس الأخلاق، بل إنّ مصدر الحكم الأخلاقي هو العقل[3].

بعد هذا العرض السريع لبعض المقدمات، يقسّم الجابري الأخلاق في الموروث الإسلامي إلى: 1- أخلاق الطاعة، 2- أخلاق السعادة، 3- أخلاق

(120)

المروءة، 4- أخلاق الفناء، 5- الأخلاق الإسلامية؛ ليخرج بنتيجةٍ نهائيةٍ تعبّر عن مشروعه وهي أخلاق الدنيا والمصلحة.

وإليك بيانه:

1. أخلاق الطاعة:

ورث الفكر العربي والإسلامي أخلاق الطاعة من الموروث الفارسي الكسروي، وقد دخل هذا الموروث الثقافة الإسلامية أواخر العصر الأموي[1]، وسببه عند الجابري يعود إلى كثرة الفتن الحادثة آنذاك وكثرة المدارس الفكرية الجديدة، فرأى بنو أمية لزوم تجاوز هذه الأزمة إلى استحداث قيمٍ جديدةٍ تركّز على وحدة المجتمع والدولة وضرورة الانسجام بينهما، وبما أنّ ما يجمع المجتمع والدولة هو الدين، وما يحقّق الانسجام بينهما هو الطاعة لله ولصاحب الدولة، فإنّ القيم المطلوبة هي التي تربط بين الاثنين: وحدة الدين والدولة وطاعة الله والخليفة، وتلك القيم كانت جاهزةً في الموروث الفارسي، وقد أخذوه من خلال الترجمة[2].

ثمّ إنّ هذا الموروث الفارسي انتقل إلى الثقافة العربية على عهد هشام بن عبد الملك، والذي غرف منه كلٌّ من سالم وعبد الحميد الكاتب، وكذلك ابن المقفّع إذ كان أكبر ناشرٍ ومروّجٍ للقيم الكسروية وأيديولوجيا الطاعة في الثقافة العربية الإسلامية[3]، وهذه الدولة الكسروية هي التي ما زالت قائمةً إلى اليوم باسم دين الإسلام في الغالب[4].

(121)

ثمّ إنّ الجابري يرى أن النموذج الفارسي قد فرض نفسه ليس فقط على مستوى القيم الكسروية التي تبنّاها ملوك الأمويين، بل فرض النموذج الفارسي نفسه كذلك على مستوى القيم المعارضة للقيم الكسروية، فالغلاة الذين انتسبوا إلى الشيعة وتزعّموا حركاتِ معارضةٍ مسلّحةٍ ضد الأمويين على عهد هشام بن عبد الملك، كانوا يوظّفون القيم نفسها التي اعتمدتها الحركات المعارضة الكسروية في عقر دارها[1].

2. أخلاق السعادة:

إنّ أخلاق السعادة في الثقافة العربية تضرب بجذرها في الفكر اليوناني على ضوء آراء أفلاطون وأرسطو وجالينوس، وقد تشعّبت على ضوء تشعّبها في الثقافة اليونانية إلى: 1- نزعةٍ علميةٍ طبيّة (مرجعيتها جالينوس)، 2- نزعةٍ فلسفية (مرجعيتها أفلاطون وأرسطو)، 3- نزعةٍ تلفيقيةٍ تقتبس من المرجعيات الثلاث[2].

إنّ أول ما انتقل إلى الثقافة العربية من الموروث اليوناني في مجال الأخلاق والقيم هو تلك النزعة الطبية الفيزيولوجية التي كرّسها جالينوس في هذا المجال من خلال قراءة أخلاق أفلاطون قراءةَ طبيبٍ لا قراءةَ فيلسوف[3]، وذلك على يد الكندي والرازي الطبيب وثابت بن سنان وابن الهيثم، وطبعًا هذه النزعة الطبية خاليةٌ من تأثير القيم الكسروية[4].

(122)

ثم مع الفارابي ينتقل الجابري إلى أرسطو في الأخلاق، ولكن لا السعادة لجميع الناس مثلما عند أرسطو، بل السعادة التي تخصّ الفيلسوف، ومع الفارابي كذلك ينتقل إلى سياسة أفلاطون ولكن لا السياسة التي تُعنى بتشييد المدينة الفاضلة، بل إلى آراء أهل المدينة الفاضلة، أي النظريات والعقائد التي إذا عمل بها أهل المدينة صارت مدينتهم فاضلة، فنظام القيم عند الفارابي يجمع بين أفلاطون وأرسطو وأشياء أخرى[1].

ثمّ ينتقل الجابري إلى ابن باجة وابن رشد في المغرب الإسلامي، ليقول بأنّ ابن باجة أراد أن يبني الأخلاق على العلم الطبيعي بالاعتماد على طبيعيات أرسطو[2]، وبهذا لم يُحدث قطيعةً تامةً مع نوع من الأخلاق والسياسة [أي الآداب السلطانية] فقط، بل أحدث نقلةً نوعيةً في مجال القيم[3].

3. أخلاق الفناء:

يرى الجابري أنّ أخلاق الفناء وفكرة الفناء نفسها أبعد ما تكون من أخلاق الحياة كما قرّرها القرآن الكريم بآياته والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بسلوكه، مثلما أنّ فكرة الفناء لا تستقيم مع عقيدة التوحيد كما قرّرها القرآن الكريم، وعليه لا بدّ أن تكون هذه الفكرة وافدةً إلينا إما من الموروث الفارسي أو الموروث اليوناني[4].

(123)

ثمّ يسأل الجابري عن لغز انتشار أخلاق الفناء رغم تقاطعها مع قيم الحياة التي قامت عليها الدعوة المحمدية ودولة الخلفاء ودولة الأمويين، ويعزو ذلك إلى عاملين: خارجي وداخلي[1].

أما العامل الخارجي فهو العرفان والتصوّف الوافد من الخارج، العرفان دخل ضمن الموروث اليوناني عبر مدارس الإسكندرية وأنطاكية وأفامية وغيرها، والتصوف عبر الموروث الفارسي، وقد انتشر في الكوفة والبصرة، وسبب انتشاره أنّ الدولة الأموية استفادت من الموروث الفارسي الكسروي وأخذت منه أخلاق الطاعة لتثبّت حكمها، ثمّ إنّ المعارضة الأموية جاءت واستخدمت السلاح نفسه وأخذت الموروث الفارسي بشقّه الثاني، أي المناهض للكسروية، وترجمته واستخدمته ضد الحكم الأموي وهو أخلاق التصوف والفناء[2].

والجابري لا يفوته الغمز في الموروث الصوفي الفارسي، إذ يرى أنّه لم يتزهّد طلبًا للزهد والبعد عن الدنيا، بل اتخذ الزهد وسيلةً لنيل مآربه السياسية، يقول الجابري بهذا الصدد: «الجري وراء الزعامة كان إذن من جملة الدوافع التي كانت تحرِّك أمراء الزهد هؤلاء الذين ينتقلون وسط حاشيةٍ عريضةٍ من الأشياع والأتباع يطلبون زعامة الآخرة في الدنيا بعد أن لم يتمكنوا من تحقيق زعاماتٍ دنيويةٍ على قدر طموحاتهم، وبعبارةٍ أخرى، أخلاق الفناء تدّعي أنّ هدفها هو الفناء في الله، فهذا من الناحية النظرية فقط، أما من الناحية الواقعية فهي

(124)

تنتمي إلى الولاية التي هي ملكٌ روحيٌ وبالتالي مادي، لأن من يملك الأرواح يملك الأبدان، أما منزلة ملك الملوك (الله) فهي للقطب، فحقيقة القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق مطلقًا في جميع الوجود جملةً وتفصيلًا»[1].

أما العامل الداخلي في انتشار التصوف والعرفان، فيعزوه الجابري إلى الأزمات العميقة الموجودة في الضمير الديني جرّاء الحروب والفتن، وظهور شعاراتٍ ومعتقداتٍ بعيدةٍ عن روح الدعوة المحمدية، فهذه الأزمات في الضمير الديني عبّرت عن نفسها في مواقف الحياد والاعتزال والهروب إلى الأماكن المقدّسة[2].

والخلاصة أنّ القيم الأساسية التي تحكم أخلاق الفناء إنما هي قيم كسروية[3].

4. أخلاق المروءة:

أخلاق المروءة هي أخلاق الموروث العربي الخالص، ويجد مرجعيته فيما قبل الإسلام أي العصر الجاهلي، والذي عرف امتدادًا واتساعًا وحضورًا قويًا خلال العصر الأموي[4]، ومصادر هذا الموروث العربي الخالص أولًا وأخيرًا هي كتب الأدب[5]، ثمّ إنّ مصطلح المروءة لقي رواجًا في العصر

(125)

الأموي تعبيرًا عن السلوك النموذجي الأرستقراطي القَبَلي الأموي، الذي هو امتداد للأرستقراطية القَبَلية العربية في الجاهلية وصدر الإسلام[1].

إنّ مفهوم المروءة في الذهن العربي يجمع الخصال المحمودة كلّها، ويمنع من جميع الصفات المذمومة[2]، فالمروءة هي ملتقى مكارم الأخلاق، يتم تحصيلها ببذل الجهد والمشقّة، وهي تكسب صاحبها احترامًا وتقديرًا، وتجعله قدوةً وكلمةً مسموعةً وسلطةً ونفوذًا، ومن هنا كان شيخ القبيلة الجامع لصفات المروءة يتحوّل إلى سيّد، فالمروءة من هذه الناحية هي الطريق نحو السؤدد الذي هو أسمى قيمةٍ اجتماعيةٍ في المجتمع العربي الجاهلي، هذا الطابع الاجتماعي المحلي للمروءة جعلها تبدو كفضيلةٍ عربيةٍ محضة، ويؤيد ذلك أنّ جميع من تحدّثوا عن المروءة نقلوا ذلك عن شخصياتٍ عربيةٍ من العصر الجاهلي وصدر الإسلام والعصر الأموي، ونادرًا ما ينقل عن مرجعٍ فارسيٍ أو يوناني[3].

5. الأخلاق الإسلامية:

يشير الجابري إلى أنّ الدين يحمل بين طياته نظامًا للقيم الخاصة به، فالقرآن والحديث قرّر الكثير من القيم، ولكن الدعوة إلى السلوك الأخلاقي شيء والتأليف العلمي في القيم الإسلامية شيءٌ آخر[4].

إنّ الفقهاء ألحقوا بابًا في جوامعهم باسم الآداب الشرعية، وزعموا أنّه

(126)

يغني عن الكتابة في حقلٍ معرفيٍ يخصّ القيم والأخلاق، واستمر الأمر إلى ظهور التنافس بين أنصار الموروث اليوناني والموروث الفارسي للاستحواذ على الثقافة العربية، ومن خلال هذه المنافسة بدأ يتكوّن لدى بعض العلماء الشعور بالحاجة إلى علمِ أخلاقٍ إسلاميٍ يضاهي أو يمتصّ الموروثات الأخرى[1].

ثمّ يشرح الجابري ما قام به المحاسبي نحو تأسيس أخلاقٍ إسلاميةٍ معتمدةٍ على القرآن وحده، وهو بمثابة خطوةٍ أولى لتكوين أخلاقٍ إسلامية، إذ ما صنعه كان أخلاق الدين والآخرة وقد غاب عنه أخلاق الدنيا.

 

حصيلة البحث والملاحظات:

1. إنّ الجابري بعد سرده لنظم القيم في الموروث الإسلامي والعربي، يحاول أن يُحدث قطيعةً معها لتأسيس نظامٍ أخلاقيٍ قيميٍ جديد هو «أخلاق الدنيا والمصلحة العامة»، وللوصول إلى هذا الهدف يحاول أن يجمع بين أخلاق المروءة والأخلاق الإسلامية الخالصة من خلال فبركةٍ علميةٍ هو مضطلع فيه.

فمن جهةٍ يمتدح أخلاق المروءة التي يجعلها عربيةً أمويةً خالصةً بوصفها أخلاق الدنيا بقطع النظر عن الدين[2]، وهو مهما حاول أن يتلاعب ويراوغ ليقول بأنّها لا تعني معارضة الدين، لكن ينتهي في الأخير إلى

(127)

أنّها قيمةٌ إنسانيةٌ عامة[1]، ليثبت استقلاليتها مرّةً ثانيةً عن الدين، ليقول: «وبعد، هل نحتاج إلى القول إنّ المروءة قد بقيت تمثّل في الفكر العربي منذ العصر الأموي إلى اليوم القيمة العليا التي لا تتحقّق المدينة الفاضلة العربية بدونها؟»[2].

ومن جهةٍ أخرى يحاول أنّ يحمّل القرآن ويضمّنه نظريته، لذا يتجه نحو ما ورد من حث القرآن على الإيمان والعمل الصالح ليجعل العمل الصالح هو المحور الأساسي في أخلاق القرآن، ثم من خلال فبركةٍ لغويةٍ وتشابهٍ بين الحروف يجعل العمل الصالح مساويًا للمصالح[3].

ثمّ يجعل الجابري العزّ بن عبد السلام المغربي (ق7) المخترع الأول لهذا الأمر، إذ إنّه أدرك منزلة العمل الصالح أو المصالح بتعبير الفقهاء في نظام القيم الذي أقرّه القرآن[4]، إنّه أوّل من شيّد الأخلاق الإسلامية على القيمة المركزية في الموروث الإسلامي الخالص: العمل الصالح أو المصلحة العامة بكيفيةٍ خاصة[5]: «ففهم الإحسان الذي يأمر به القرآن على أنّه الفعل الحسن الذي يحقّق اللذة المشروعة للنفس والبدن والعمل الصالح الذي ينفع الناس، لقد نظر إلى أحكام القرآن وأخلاق القرآن من منظورٍ واحدٍ هو المصلحة العامة»[6].

(128)

هذه الخدعة في التسوية بين العمل الصالح الوارد في القرآن وهو سلوك أخلاقي بحت ـ يساوي باب العبادات في الفقه ـ ومسألة المصلحة ومقاصد الشريعة الواردة في الفقه السنّي ـ المساوية لباب المعاملات في الفقه ـ لا يتمكّن أن يأتي بها سوى الجابري، إذ قد ألِفنا منه التلاعب بالكلمات والجمل وتحريف المعنى والمحتوى، ولا يخفى على أحد الفرق بين المصطلحين، أي بين العمل الصالح والمصلحة العامة.

وبطبيعة الحال ستكون الأخلاق على ضوء هذه الكرامة الجابرية نسبيةً وعرفيةً تتغيّر بتغير المصالح في الأزمنة والأمكنة المختلفة.

2. ومما يؤخذ على الجابري مثلما ذكرنا في مفتتح المبحث سرد النصوص وتلخيص الكتب من دون تدوين نظامٍ عربيٍ أخلاقيٍ عقلاني، وهذا ما يورده حسن حنفي على الجابري إذ يقول: «ويغيب بناء الشعور الأخلاقي بالرغم من تعددية أنواع الأخلاق، كما يغيب وصف الشعور الأخلاقي وراء مواده المختلفة، من الكلام أو التصوف أو الأصول، ومصادره عند الفرس واليونان والعرب قرب الإسلام، وإذا أراد أحد أن يجيب عن سؤال «ما العقل الأخلاقي العربي؟» لخرج بمادةٍ تاريخيةٍ مجمعةٍ عن كتب الأخلاق من خلال علوم الكلام والحكمة والتصوف والأصول ومصادرها العربية واليونانية والفارسية»[1]، ويذهب فهمي جدعان المذهب نفسه أيضًا[2].

3. الأمر الآخر هو المبالغة في تسييس الأمور، وجعل الساحة السياسية

(129)

ساحة صراعاتٍ وأزماتٍ سياسيةٍ بين هذا الفريق أو ذاك، وللفرس القسط الأكبر من هذا التسييس، فجعل التاريخ الإسلامي تاريخ أزماتٍ مهّدت لاجتياح الفكر الفارسي واليوناني والصوفي[1].

لقد فسّر الجابري دخول الأخلاق الفارسية جرّاء نزاعٍ سياسيٍ بين الدولة والمعارضين، وهذه الرؤية المُسَيَّسَة تخرج من مناخٍ مؤدلجٍ عاشه الجابري في وهمه وتحوّل إلى هستريا فارسية، ولكن يمكن تفسير هذه الظاهرة بشكلٍ آخر مثلما قام بها مؤرخ الفلسفة والثقافة الإسلامية ماجد فخري، إذ يرى أن بعض المؤلفين الفرس في القرن العاشر شعروا بالحاجة إلى تصنيف مجموعاتٍ من الحِكم الأخلاقية والدينية لكي يعزّزوا في غمرة المشادّة القومية بينهم وبين العرب ادعاءهم بأنّ الفرس القدماء كانوا أندادًا لليونان أو العرب في مضمار الأقوال الحِكمية، أو من باب المنافسة للعرب المنشئين في التصنيف والتنميق والخطابة، مثلما صنع ابن المقفع الفارسي[2]، وعليه فتغيب النظرة المُسيَّسة الجابرية.

4. إنّ الجابري محكوم في هذا الكتاب بالنظرة القومية القوية والتوظيف الأيديولوجي: «ولذلك سرعان ما يتجاوز كل تدقيقاته وتصنيفاته ليُصدر أحكامًا قاطعةً تلغي في كثير من الأحيان مسوغات الجهد الكبير في الجمع والتقميش والعمارة التوليفية المحكمة»[3].

5. وممّا يؤخذ على الجابري أنّه اعتمد في رسم أسس العقل الأخلاقي

(130)

على الكتب والمؤلفات، ولم يستخلص سمات هذا العقل من الممارسات العقلية الجزئية والكلية التي يمكن أن يستدل عليها من المأثور من الأقوال والأحاديث والوقائع التي انتقلت بالرواية طبقةً إلى طبقةٍ حتى دوّنت[1].

6. إنّ الجابري لم يُثبت أثرًا للحديث الشريف في العقل الأخلاقي عند المسلمين، ولا أفرد لذلك بحثًا مخصوصًا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى القرآن الكريم، فلا يكاد يُلحظ إفرادٌ لذكر أثره التكويني في هذا العقل[2]، بل إنّه باعد بين الشرع والعقل، فجاءت الأخلاق لقيطةً في أرض بوار، لأنّه لا يريد أن يقترب من الشرع ويحسب العقل بعيدًا عن الشرع[3]، وكذلك فهمي جدعان فإنه يرى أنّ الأخلاق الدينية لم تحتل المكانة التي تستحقها في تحليلات الجابري[4].

7. يرى الجابري أنّ أخلاق الطاعة ما زالت مستقرةً في نفوس المسلمين، وهي من أهم أسباب التخلّف وعدم النهوض، ويستنتج أنّهم لم يدفنوا بعد أباهم أردشير، وهذه المقولة أثارت حفيظة الكثير، فقد ردّ عليه حسن حنفي بأنّ العرب إذا لم يدفنوا أباهم أردشير فكيف نمت حركات التحرُّر الوطني ضد الاستعمار، وكيف قامت الثورات والهبّات الشعبية ضد خلفاء أدرشير، كيف يمكن فهم استمرار المقاومة في فلسطين وكشمير.. ألم يسقط الشهداء الذين واجهوا السلاطين لأنّ الساكت عن الحق شيطان

(131)

أخرس، ولأن أفضل الشهادة كلمة حق ّفي وجه سلطان جائر[1]، وكذلك يرى فهمي جدعان[2]، ورضوان السيّد[3].

8. يرى البعض أن الجابري متأثّرٌ في نحت أخلاق المروءة ونسبتها إلى الجاهلية بـ»جولدسيهر» في كتابه دراسات محمدية، إذ عندما درس الحقبة الجاهلية في المجلد الأول، عدّ في الفصل التمهيدي أنّ مفهوم الأخلاق المركزي في الجاهلية أو ما يسميه نظام القيم العربية هو المروءة، وجعَلَ عنوان الفصل «مروءة ودين» وتبعه الجابري[4].

9. وأخيرًا نسجّل للجابري مَعْلَمًا آخرَ في بناء مدينته الفاضلة، وهو إحداث قطيعةٍ مع ماضيه الأخلاقي وتأسيس أخلاقِ الدنيا والمصلحة العامة، المصلحة التي تُعرف من خلال عقل الإنسان وتضرب بجذورها في الجاهلية، أما الإسلام وأخلاقياته فلا خبر عنها في هذه المنظومة وهذه المدينة الفاضلة.

(132)

المبحث الخامس:

القطيعة اللغوية:

يولي الجابري اهتمامًا بالغًا بالجانب اللغوي في مشروعه «نقد الفكر العربي»، إذ يرى أنّ اللغة هي الركيزة الأولى في تكوين الثقافة العربية المكوّنة للعقل العربي[1]، وبما أنّ اللغة العربية بأسسها نفسها ومبانيها مستمرة إلى زماننا الحاضر، فالثقافة العربية أيضًا مستمرّةٌ إلى زماننا الحاضر: «فالاهتمام بالجانب اللغوي في الثقافة العربية من هذه الزاوية ركيزةٌ أساسيةٌ من ركائز نقد العقل العربي وفهم الثقافة العربية»[2]، «إنّ العلوم العربية الإسلامية على اختلاف أسمائها وتباين أهدافها، تبدو من الناحية الإبتسمولوجية كعلم مهمته استثمار النصوص (سواء كانت العلوم الدينية أو اللغوية) وعليه ستكون العلوم العربية (التي هي علم استثمار النصوص) هي التي تصوغ العقلية العربية، وسيكون للنص أي اللغة سلطةً مرجعيةً لا شعوريةً ولكن قاهرةً على العقل العربي»[3].

يرنو الجابري من خلال هذا الاهتمام باللغة إحداث قطيعةٍ فيها ليخرج بلغةٍ تخدم مشروعه الحداثوي، وذلك ضمن الخطوات التالية:

1. الاقتباس من الغرب:

يعتمد الجابري في منهجه اللغوي على اللسانيات الجديدة، وما يطرحه

(133)

علماء السيميائيات والأنتولوجيا اللسانية، من ربط المنظومة اللغوية بالمنظومة الفكرية والمعرفية (الفرد) والمنظومة الثقافية (المجتمع) ليقول: «إنّ الكلمة [...] لا بدّ أن تحمل في معناها اللغوي قليلًا أو كثيرًا من خصائص رؤية أهلها للعالم، وكيفية مَفصَلَتِهم له، وطريقة تفكيرهم في ظواهره وحوادثه»[1].

وهذا الإطلاق من الجابري في الاعتماد على اللسانيات المعاصرة يوهم القارئ بأنّ اللسانيات المعاصرة مذهبٌ واحدٌ ومدرسةٌ واحدةٌ متوافقة، والحال أنّ الأمر على خلاف ذلك، واللسانيات لها مدارس مختلفةٌ وربما متضاربة، فضلًا عن أنّه غفل عن كثير من هؤلاء الروّاد في اللسانيات أمثال شومسكي وغاردنر وسوسور[2]، فالجابري وكعادته في توظيفه الأيديولوجي استقى من الكتب ما ينفع مشروعه لتفكيك اللغة وإيصالها إلى النسبية المعرفية وعدم القطعية الدلالية.

2. أصل اللغة:

في عملية تأصيل اللغة يعتمد الجابري على العصر الجاهلي، عصر أعراب البادية، إذ اعتمد عليهم أرباب المعاجم والموسوعات اللغوية عند تدوين اللغة بعدما بدأ اللحن يتفشّى في المجتمع لغلبة غير العرب[3].

وتتسم لغة الأعراب في العصر الجاهلي بوسامين: الأول: اللاتاريخية من خلال صبّها في قوالب جامدةٍ وتحصينها من كل تغيّرٍ وتطوّرٍ، إذ تعلو

(134)

على التاريخ ولا تستجيب لمتطلبات التطوّر، والثاني: الطبيعة الحسّية، وهي السمة التي كان يعيشها الأعرابي حياة الفطرة والطبع، حياةً حسّيةً ابتدائية[1].

وعليه، فالعالم الذي نشأت فيه اللغة العربية أو جُمعت منه عالمٌ حسّيٌ لا تاريخي، عالم البدو من العرب، هذا العالم هو كل ما تنقله اللغة العربية إلى أصحابها اليوم، وقبل اليوم، وسيظل هو ما دامت هذه اللغة خاضعةً لمقاييس عصر التدوين وقيوده[2].

فالأعرابي عند الجابري هو فعلًا صانع العالم العربي، العالم الذي كان يعيشه العرب على مستوى الكلمة والعبارة والتصوير والخيال، بل على مستوى العقل والوجدان، وإن هذا العالم ناقصٌ فقيرٌ ضحلٌ جاف، تمامًا كالعالم الذي استنسخته اللغة العربية في العصر الجاهلي[3].

وعلى الرغم من أنّ الجابري يشيد بعملية تدوين اللغة ويحسبها معجزة العرب[4]، ولكن مع هذا يشير إلى سلبية هذه العملية إذ جعلت اللغة عاجزةً عن مواكبة التطوّر وقبول ما لا بدّ منه من التغيير والتجدد[5]، وإذا تذكرنا دور اللغة في تشكيل تصوّر الإنسان للعالم وبالتالي عقله وهيكلة فكره، أدركنا أية آثار سلبية ٍكان لا بدّ أن تخلّفها في العقل العربي طريقة الخليل واللغويين من بعده[6].

(135)

يلاحَظ على ما ذكره أنّ هذه النظرة إلى اللغة العربية هي أثرٌ من آثار النظرة الغربية إلى الغير، تلك النظرة التي ترى المجتمعات الأخرى مجتمعاتٍ لا تاريخية، تعيش على الفطرة والطبيعة[1].

ثمّ كيف تمكّنت هذه اللغة الجافة الحسيّة اللاتاريخية من صنع حضارةٍ عملاقةٍ وتغذيتها مدى القرون المتتالية؟! أليس الأمر على عكس ما فهمه الجابري؟: «ليس لأن لغتنا تخلّفت تخلّفنا، بل لأننا تخلّفنا تخلّفت لغتنا، فليست اللغة عامل التخلّف بل مظهره وتعبيره، ولو كانت اللغة العربية هي العامل البنيوي اللاتاريخي للتخلّف، فكيف نفسّر أنها قدّمت الأداة اللغوية والعقلية لحضارة كانت هي الأزهى في عصرها؟ ولو كان العقل تابعًا التبعية العمياء للغة، فكيف تنجب اللغة الواحدة عقلين متفارقين: واحدٌ يمثّل التقدّم في القرون الثالث والرابع، وآخر يمثّل التخلّف من القرن السادس»[2].

أما بخصوص حسيّة اللغة ولا تاريخيتها، فيرى جورج طرابيشي أنّ الجابري أخذها من أرنست رينان[3]، ودليل الجابري على مدعاه أنّ الأعراب حسّيون عاشوا الصحراء بطبيعتها فلغتهم حسيّةٌ أيضًا، لكن يردّ عليه طرابيشي بأنّ أصحاب اللغة أمثال الخليل إنّما جمعوا اللغة من مصادر ثلاثة: القرآن، والشعر الجاهلي، وكلام العرب الذين ما كان كلهم من الأعراب ولا من سكنة الصحراء بل فيهم من قطن الحضر والمدن، كما

(136)

أنّ وصف حياة الأعرابي بالحسيّة البدائية مصادرةٌ أنثروبولوجية[1]، فضلًا عن أنّ الجذور السامية للغة العربية تنفي مدعى الجابري في حسيّة اللغة العربية، بل بين اللغة العربية والساميات تاريخٌ مشترك، والعربية من دون تاريخها السامي لا تعود قابلةً للقراءة والعلم بوصفها لغةً جذرية[2].

3. الحلّ الجابري:

للخروج من هذا المأزق الذي يكون حجر عثرةٍ أمام مشروع الجابري، لا بدّ من إيجاد قطيعةٍ مع هذا المنهج مثلما قلنا، وذلك من خلال: أ- الاعتماد على لغة الواقع، ب- أصالة المعنى.

أ. الاعتماد على لغة الواقع:

يرى الجابري أنّ النتائج العملية التي أسفر عنها تطبيق الخليل الفراهيدي في مجال اللغة كانت لها جوانب سلبيةٌ تمامًا، وذلك أنّ الخليل انطلق في جمع اللغة وتنظيمها من «الإمكان الذهني» لا من المعطى اللغوي، ففسح بذلك المجال لصنع اللغة بدل جمعها، وحينئذٍ أصبح من المستحيل وضع خطٍ فاصلٍ ونهائيٍ بين ما نطقت به العرب وما لم تنطق به، خصوصًا في جوٍّ ساد فيه الولع بالغريب، فانتهى الأمر عندئذٍ إلى تحكيم القياس بدل السماع، الشيء الذي جعل اللغة المعجمية لغة الإمكان لا لغة الواقع: «فالكلمات صحيحةٌ لأنّها ممكنةٌ وليس لأنها واقعية، وهي ممكنةٌ ما دام هناك أصلٌ يمكن أن تُردّ إليه أو نظيرٌ تُقاس عليه، وهي ليست واقعيةً لأن الفرض هنا هو في الغالب

(137)

فرضٌ نظريٌ وليس معطًى من معطيات الاستقراء أو التجربة الاجتماعية»[1].

أما بخصوص جهد الخليل واعتماده على الإمكان الذهني دون الواقعي، فيرُدّ جورج طرابيشي عليه ضمن النقاط التالية:

1- إذا صيغت العربية من قبل الخليل بمنطقٍ رياضيٍ صرفٍ على أساس الإمكان الذهني من دون اعتبار المعطى الواقعي، فهذا معناه أنّها قابلةٌ للتجريد، والحال أنّ الجابري جعلها ذات طابعٍ حسّيٍ غير تجريدي.

2- إنّ الأمر عند الخليل لم يكن قائمًا على الإمكان الذهني بقدر ما كان قائمًا على مسألةٍ صوتيةٍ قائمةٍ على جدل التآلف والتنافر بين الحروف، فالقاف والكاف مثلًا لا يجتمعان في كلمةٍ واحدة إلّا إذا كانت معرّبةً.

3- منهجُ الخليل، مثلما يصرّح هو في مقدمة كتابه، هو منهج الاستقراء لا الإمكان الرياضي والتجريد الذهني، فهو لم ينطلق من فرضٍ نظريٍ ثم راح يبحث له عن سندٍ واقعي، بل كان منهجه استقراء العربية ثم إخضاع المادة لتنظيم عقلاني.

4- إن عمل الخليل جعل اللغة العربية تاريخيةً، خلافًا للجابري، إنّه أهمل إهمالًا تامًا التقليب العقيم وغير المنتج لملايين الجذور الرباعية والخماسيّة وحصر اهتمامه بالتغليب الثنائي للجذور الثنائية وبالتغليب السداسي للجذور الثلاثية، مميِّزًا بين المهمل

(138)

والمستعمل، كما عطّل إلى حدٍّ كبيرٍ ظاهرة موت الكلمات في العربية أو ظاهرة انزياحها من سطح الوعي إلى عمق اللاوعي لتخلّي مكانها لتولد كلمات جديدة أو لاكتساب القديمة منها لدلالاتٍ جديدةٍ طردًا مع تجدّد الأحوال وتطوّر العصور[1].

والخلاصة أنّ المغزى من هذا العرض عند الجابري هو كسر هذه الحالة ليصل إلى لغة الواقع المعتمدة على معطيات الاستقراء والتجربة الاجتماعية ليصل إلى تفسير التراث والثقافة العربية الإسلامية وفقًا لمعطيات العصر الحديث ومتطلبات المرحلة، بينما الاقتصار على المنهج اللغوي السائد لا يخدمه لأنّه تقولُبٌ في قوالب مسبقةٍ لا يسمح للتلاعب بالنصوص وتحميلها ما تدعو إليه الألسنيات الجديدة والهرمنيوطيقا المعاصرة.

وفي عبارةٍ أخرى يصرّح ويقول: «اللغة العربية ظلت هي هي منذ أربعة عشر قرنًا أو يزيد تصنع الثقافة والفكر من دون أن تصنعها الثقافة والفكر»[2]، فهو يدعو إلى أنّ الثقافة والفكر المعاصر يلزم أن تصنع اللغة وتحمّلها المعنى، وهذا ما يوضحه في النقطة التالية.

ب. أصالة المعنى:

يعطي الجابري أهميةً فائقةً لثنائية «اللفظ/ المعنى» في مشروعه النقدي، إذ يرى أنّ المشكلة الإبستمولوجية الرئيسية في النظام المعرفي البياني،

(139)

المشكلة التي أسست هذا النظام وبقيت تغذّيه منذ عصر التدوين إلى اليوم، هي مشكلة اللفظ والمعنى، وكيف يمكن ضبط العلاقة بين اللفظ والمعنى في الخطاب البياني، هذه المشكلة شغلت الفقهاء والمتكلّمين والبلاغيين[1].

ويرى أنّ الخطاب البياني ينظر إلى اللفظ والمعنى ككيانَين منفصلَين أو على الأقل كطرفَين يتمتع كلٌّ منهما بنسبةٍ واسعةٍ من الاستقلال عن الآخر[2]، أي تصوّر المعاني والمسميات في جانب، والألفاظ والأسماء في جانبٍ آخر[3].

ثم يشرح الجابري بإسهابٍ علاقةَ اللفظ بالمعنى عند علماء اللغة والنحو والفقه والأصول وعلم الكلام، ليصل إلى القول بأنّ فصل اللفظ عن المعنى أدّى أوّلًا إلى إعطاء الأصالة للّفظ، وثانيًا أدّى إلى الفصل بين اللغة والفكر وإهمال فكرة كون اللغة مرآةً للفكر، الأمر الذي نفاه أولًا وأثبته هنا.

وهذا ما لا يروق خاطر الجابري، إذ إنّه يرى لزوم إعطاء الأصالة للمعنى وجعل اللغة مرآةً للفكر، بمعنى إعطاء الأولوية للتفكير على التعبير، أو أولوية المعنى على اللفظ، لكن علماء البيان لم يتوصّلوا إلى هذا، ربّما لأن عملهم يدور حول النص، وهذا يفرض اتجاه تغليب اللفظ، ولكن يردّ عليهم الجابري بأنّ النص يمكن أن يُنظر إليه كألفاظٍ

(140)

وعباراتٍ لغويةٍ ونظامِ خطاب، ويمكن أن يُنظر إليه كمعانٍ ومقاصدَ وجملة آراءٍ وأحكام[1].

ومن السلبيات التي وقع فيها علماء البيان ـ عند الجابري ـ جرّاء تأصيل اللفظ ما حصل عندهم في الفقه، إذ بدأ الفقهاء يشرعون انطلاقًا من تعقّب طرق دلالة الألفاظ على المعاني، وأهملوا مقاصد الشريعة، فأصبحت مقاصد اللغة هي المتحكّمة، فعوضًا من بناء التشريع على قواعدَ كليّةٍ تستخلص من الأحكام الشرعية الجزئية وتعتمد توخي المصلحة العامة التي تتطوَّرُ بتطوُّرِ العصور، فبدلًا من هذا السلوك العقلي، ربطوا التشريع بقيود العلاقة بين اللفظ والمعنى، فكان نتيجة هذا تقوقع التشريع ضمن حدودٍ معيّنةٍ لا يتعدّاها، مما أدّى إلى إغلاق باب الاجتهاد، لأن المواضعة اللغوية محدودةٌ ومغلقة، بينما لو اعتمدوا في التشريع على مقاصد الشريعة، وهي التي تؤسّسها المصلحة العامة والمثل العليا، لما انغلق باب الاجتهاد[2].

أما في مجال علم الكلام، فقد أدّى الانسياق مع متاهات إشكاليةِ اللفظ والمعنى والخضوع لمنطقها إلى خنق العقل وتحجيم دوره، إذ اعتمدوا على اللغة كسلطةٍ مرجعيةٍ محدّدةٍ للفكر، فيصبح ما يقوله أهل اللغة بصدد لفظةٍ هو القول الفصل في المشكلة الفكرية، وبما أنّ مسائل علم الكلام مسائلُ ميتافيزيقيةٌ تعلو على الزمان والمكان، فإنّ اللغة التي تمتلك القول الفصل سترتفع أيضًا إلى مستوى الميتافيزيقيا، فيصبح اللفظ ذا

(141)

قيمةٍ ميتافيزيقيةٍ بذاته، ممّا يفسح المجال واسعًا لتسويد اللغة على الفكر واللفظ على المعنى، ونظام الخطاب على نظام العقل، فيصبح القرآن ألفاظًا وأنغامًا وتتوارى إلى الظل معانيه ومقاصده[1].

ويلاحظ على ما ذكره الجابري:

1- إنّه يعترض على علماء البيان إذ جعلوا اللغة والمعنى ككيانين منفصلين ـ مثلما مرّ ـ يتمتع كلّ واحدٍ منهما باستقلاليته الخاصة، وهذا رغم أنّه ادعاءٌ جزافٌ إذ اللفظ والمعنى مترابطان وإلّا لم يُنتج أيّ لفظٍ المعنى المراد منه، على الرغم من هذا فإنّ الجابري يقع في الإشكال نفسه الذي أشكله على علماء البيان، إذ إنّه أيضًا فصل المعنى عن اللفظ ودعا إلى استخدام ألفاظ جديدة.

2- إنّ أرباب مقاصد الشريعة الذين يوظّف الجابري مشروعهم توظيفًا أيديولوجيًا لصالح نفسه لا يقبلون بهذا التأويل، إذ إنهم عندما يتّجهون نحو المقاصد لاستنباط الأحكام لا يخرجون عن مألوف علماء اللغة في فهم المعاني، كما أنهم لا يخرجون عن روح الشريعة ودوامها واستمراريتها ـ مثلما مرّ في مباحث الفقه.

3- إنّ مفهوم كلام الجابري هو أنّ المصالح المعاصرة العرفية بحسب فهم الإنسان المادي المنسلخ عن الغيب، تحمل معانيَ معاصرةً، وهذه المعاني تحتاج إلى لغةٍ وألفاظٍ جديدة، إذ إنّ المنظومة اللغوية القديمة لا تنتج سوى ما أنتجته لحد الآن من الأزمات والتخلّف

(142)

ـ بحسب زعمه ـ فلذا لا بدّ من منظومةٍ لغويةٍ جديدةٍ ليتحوّل فيها الوجوب إلى الحرمة والحرمة إلى الجواز، فالقصاص لا يجوز، وقطع يد السارق لا يجوز، وللذكر مثل حظ الأنثيين لا يجوز، وهكذا دواليك، وهذا هو التشريع الجديد الذي لا يمتّ إلى الإسلام بصلة.

4- إنّ ما يدعو إليه الجابري من اجتهادٍ جديدٍ إنّما هو اجتهادٌ أمام النص، وهو مرفوضٌ عند جميع العقلاء، أما الاجتهاد المقبول فهو الذي يدور مدار النص القطعي، ويحاول استكناه معناه من مختلف الطرق من دون الانقلاب عليه، ثمّ إنّ الجابري الذي يدعو إلى فتح باب الاجتهاد واعتماد المصالح، هل يقبل منّا لو أدّى اجتهادنا إلى خلاف اجتهاده؟! وهل سوف يرمينا بالتخلّف والهرمسيّة والغنوصية وغيرها من التهم؟! فهل باؤك تجر وبائي لا تجرّ؟! ولماذا صحّة الخطاب عند الاجتهاد الحداثوي تتلازم مع الانقلاب على الفقه والشريعة؟!

والخلاصة أنّ الجابري ـ تحقيقًا لمشروعه ومدينته الفاضلة ـ يدعو إلى إحداث قطيعةٍ شاملةٍ مع طريقة الاستنباط وتفسير النصوص السابقة، واستبدالها بتأصيل المعنى وتغليب خطاب العقل المبتني على المعنى والمقاصد والمصالح المعاصرة، ليتخلّص من كل أشكال التراث الذي كبّل حركة التطوّر في العالم العربي والإسلامي بحدّ زعمه، ويرسم من جديدٍ دينًا جديدًا مع لغةٍ جديدةٍ: «فإنّ تجديد اللغة [...] أمرٌ ضروريٌ للتجديد في الدين نفسه»[1].

(143)

لكن مع هذا يناقض نفسه في الصفحة نفسها، إذ يعتبر أنّ تجديد اللغة يعني الرجوع بها إلى ما كانت عليه في عهد ازدهارها وإلى أساليبها الأولى في الفصاحة والبيان[1]، وهل هذا هو غير ما فعله علماء البيان وقد انتقدهم الجابري؟!

فلنسجّل أخيرًا مَعْلَمًا آخرَ من معالم مدينة الجابري الفاضلة، وهو القطيعة مع المنظومة اللغوية القديمة وتدوين منظومةٍ لغويةٍ جديدةٍ لبناء دينٍ جديد.

(144)

الخاتمة:

توصّلنا في هذه الدراسة إلى أنّ الجابري في مشروعه الفكري، ولأجل الالتحاق بركب الحداثة بجميع تجلياتها والتخلّص من التخلّف، أحكم عمارةً جديدةً هي أشبه بالمدن الفاضلة التي رسمها المفكرون والفلاسفة، وجعل لهذه المدينة دعائم تعتمد عليها، بحيث إن بانهيار أي دعامةٍ منها ينهار جميع البناء.

لم يستخدم الجابري في بناء مدينته الفاضلة هذهِ الأدواتَ المنهجية السليمة والموضوعية كي توصله إلى بناء مدينةٍ واقعيةٍ متكاملة، بل استخدم مناهج ملتويةً واقتطع ما يخدم مشروعه من هنا وهناك، فوقع في تشويشٍ وتناقضاتٍ متعددةٍ أشار إليها أخص مقرّبيه، فأصبح مشروعه مشروعًا مؤدلجًا بامتياز رغم ادعاء الموضوعية والمنهجية الإبستمولوجية.

حاول الجابري أن يتخلّص من المنظومة الفلسفية الإسلامية باستحداث عداءٍ معرفيٍ بين المشرق والمغرب الإسلاميين من جهة، وجعل المغرب منظومةً فكريةً واحدةً تبدأ بابن حزم وتنتهي بابن رشد والشاطبي وابن خلدون، وحاول تجاهل الوحدة المعرفية الفلسفية شرقًا وغربًا أولًا، وتجاهل الخلافات العميقة الموجودة في المدرسة المغربية ثانيًا.

وحاول التخلّص من المنظومة الفقهية البيانية من خلال تحوير نظرية المقاصد وإفراغها من محتواها وإلباسها لباسًا حداثويًا جديدًا، ليتمكّن من تغيير الشريعة بحسب متطلبات الإنسان المعاصر المنزوع من الهوية الدينية، فيبقى الدين الإسلامي اسمًا دون مسمّى، فالاسم هو الإسلام

(145)

ولكن المحتوى هو القوانين والأحكام الوضعية التي سنّها العقل العرفي، وهذا يعني تبعية الله للإنسان، والدين للدنيا، وتصحّ مقولة إبليس: (أنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [1]، إذ العقل العرفي يرى نور النار أفضل من ظلمة الطين، فما يدعو إليه أرباب الحداثة هو أبلسة الفهم وليس أسلمته.

أما المنظومة السياسية فأمرها أوضح من الجميع، إذ لا مجال للدين في هذه النظرة أن يتبنّى أي شيء، سوى الدعوة إلى الله فقط، وكذلك المنظومة الأخلاقية، إذ يلزم أن تتمحور حول أخلاق الدنيا دون أخلاق الآخرة.

والبيت القصيد الذي يجمع جميع هذا الشتات هو الثورة اللغوية واستبدال المنظومة اللغوية القديمة، التي لا تستجيب لمتطلّبات الحداثة، بمنظومةٍ لغويةٍ جديدةٍ يمكن استنباط أي شيءٍ منها، شريطة أن يتوافق مع مبادئ الحداثة، إذ إنّ حكم مبادئ الحداثة عندهم حكم الوحي عند المدرسة التقليدية.

إنّ مشروع الجابري في المآل لا ينتج سوى الخروج من مدينة الإسلام والدخول في مدينة الحداثة المعاصرة.

(146)

مصادر البحث:

التراث والمنهج بين أركون والجابري، نايلة أبي نادر، ط1، 2008، الشبكة العربية للأبحاث.

مواقف نقدية من التراث، محمود أمين العالم، ط2، 2004، دار الفارابي.

التأويل الحداثي للتراث، إبراهيم السكران، ط2، 2017، مركز تفكّر للبحوث والدراسات.

نقد التراث، عبد الإله بلقزيز، ط1، 2014، مركز دراسات الوحدة العربية.

الجابري: دراسات متباينة، مجموعة مؤلفين، إعداد: علي العميم، ط1، 2011، جداول.

مجلة المستقبل العربي، لبنان، بيروت.

حوار المشرق والمغرب، محمد عابد الجابري وحسن حنفي، ط2، 2010، الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف.

خرائط أيديولوجية ممزقة، إدريس هاني، ط1، 2006، الانتشار العربي.

محنة التراث الآخر، إدريس هاني، ط1، 1998، دار الهادي.

وحدة العقل العربي الإسلامي، جورج طرابيشي، ط3، 2010، دار الساقي.

(147)

جدلية العقل والمدينة في الفلسفة العربية المعاصرة، محمد مصباحي، ط1، 2013، منتدى المعارف.

مخاضات الحداثة التنويرية، هاشم صالح، ط1، 2008، دار الطليعة، بيروت.

تاريخ الفلسفة في الإسلام، ت. ج. دي بور، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، 2010، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

الفلسفة وعلم الكلام الإسلامي، مونتغمري وات، ترجمة: كاظم سعد الدين، 2010، بيت الحكمة بغداد.

تاريخ الفلسفة الإسلامية، ماجد فخري، ط2، 2000، دار المشرق، بيروت.

بيت الحكمة: الميتافيزيقيا اليونانية وتشكيل الفلسفة العربية، كريستينا دانكونا، ترجمة: عصام مرجاني، ط1، 2014، دار توبقال.

تاريخ الفكر في العالم الإسلامي، كروث إيرنانديث، ترجمة عبد العال صالح، ط1، 2009، المركز القومي، مصر.

الفارابي مؤسس الفلسفة الإسلامية، رضا الداوري الأردكاني، ترجمة عبد الرحمن العلوي، 2004، دار الهادي.

در آمدي بر تاريخ فلسفه اسلامى، مجموعة مؤلفين، إعداد محمد فنائي اشكوري، 1390ش، مؤسسة سمت ومؤسسة الإمام الخميني، قم.

(148)

حركة الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي، غلام حسين الإبراهيمي الديناني، ط2، 2008، دار الهادي، بيروت.

في التراث والتجاوز، علي أومليل، ط1، 1990، المركز الثقافي العربي.

الموافقات، إبراهيم الشاطبي، ط1، 2014، دار ابن حزم.

مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، 2010، المكتبة الإسكندرية.

التراث العربي في الحاضر، رضوان السيّد، ط1، 2014، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة.

مجلة الاجتهاد، برئاسة: الفضل شلق ورضوان السيّد، بيروت.

العقل السياسي العربي، محمد عابد الجابري، ط8، 2011، مركز دراسات الوحدة العربية.

التراث والحداثة، محمد عابد الجابري، ط4، 2011، مركز دراسات الوحدة العربية.

بنية العقل العربي، محمد عابد الجابري، ط11، 2013، مركز دراسات الوحدة العربية.

نحن والتراث، محمد عابد الجابري، ط1، 2006، مركز دراسات الوحدة العربية.

(149)

العقل الأخلاقي العربي، محمد عابد الجابري، ط5، 2012، مركز دراسات الوحدة العربية.

تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، ط11، 2011، مركز دراسات الوحدة العربية.

وجهة نظر، محمد عابد الجابري، ط4، 2011، مركز دراسات الوحدة العربية.

المشروع النهضوي العربي، محمد عابد الجابري، ط3، 2009، مركز دراسات الوحدة العربية.

الإسلام والغرب (الأنا والآخر)، الكتاب الأول، إشراف: محمد عابد الجابري، ط1، 2009، الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

العقلانية والنهضة في مشروع محمد عابد الجابري، مجموعة مؤلفين، ط1، 2012، مركز دراسات الوحدة العربية.

التراث والنهضة: قراءات في أعمال محمد عابد الجابري، مجموعة مؤلفين، ط2، 2005، مركز دراسات الوحدة العربية.

إشكاليات العقل العربي، جورج طرابيشي، ط4، 2011 دار الساقي.

مداخلات، علي حرب، ط1، 1985، دار الحداثة. 

(150)
معالم المدينة الفاضلة عند محمد عابد الجابري ولو أمطنا الستار عن هذا الكم الهائل للوصول إلى كنه مشروع الجابري ، لوصلنا إلى نتيجة واحدة ، وهي أنه يحلم برسم معالم ناقصة لمدينة فاضلة على غرار من سبقه من فلاسفة ومفكرين ، ولكن غاب عنه أن المدن الفاضلة لا تتحقق سوى في مخيال المنظّر والكاتب ، وليس لها نصيب من الواقع إلا بهذا المقدار ، ومدينة الجابري الفاضلة لم تكن بدعا من تلك المدن ، إن الجابري يرى أن مدينتنا نحن الآن في الدول العربية الإسلامية إنما هي مدينة الجبارين ، وعليه لابد من التخلص منها والوصول الى المدينة الفاضلة . المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq info@iicss.iq islamic.css.lb@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف