فهرس المحتويات

مقدمة  المركز | 7

أوّلاً- مقدّمة البحث | 9

الفصل الأول: معنى المصطلح ودلالات المفهوم | 11

الجذر اللغويّ | 12

2. التعريف الاصطلاحيّ : | 17

3. امتداد مصطلح «الماديّة» وتجلّياته عبر التاريخ | 22

سيرورة التفكير الطبيعيّ (المادّي) عند اليونانيّين القدماء: | 24

الفصل الثاني: التطور التاريخي للفكر المادي | 27

الماديّة (الفكر الماديّ) في العصر الحديث: | 35

أسبابُ (وظروف) نشوء «الماديّة»، وأهمّ المنظّرين لها | 43

القسم الأول- أسباب فكريّة بدوافع دينيّة: | 46

القسم الثاني- أسباب موضوعيّة بدوافع معرفيّة (استطلاعيّة) | 49

الفصل الثالث: أهمّ المنظِّرين للمادّة والفلسفة المادّيّة | 53

1- طاليس (624-546) ق.م: | 55

2- هيراقليطيس (540 -480)ق.م: | 56

3- أنكساغوراس (500-428)ق.م: | 57

4- ديموقريطس «ديمقريطس» (460-370)ق.م | 58

5- أبيقور»إبيقور» (341-270)ق.م: | 59

6- فرانسيس بيكون (1561-1626)م: | 61

7- باروخ أو بنديكت سبينورزا (1632-1677)م: | 62

8- تشارلز روبرت داروين (1809-1882)م: | 63

9- جون ستيوارت ميل (1803-1873)م: | 65

10- لودفيغ فيورباخ (1804-1872)م: | 67

11- ماركس (1818-1883)م | 69

12- نيتشه (1844-1900)م: | 72

13- برتراند رسل (1872-1970)م: | 74

14- أنطونيو غرامشي (1897-1937)م: | 75

15- جان بول سارتر (1905-1980)م: | 76

16- ألبير كامو (1913-1960)م: | 78

17- هيلاري بُوتنام (1926-2016)م: | 79

18- شبلي شميل (1850-1917)م: | 80

19- حسين مروة (1908-1987)م: | 82

20- مهدي عامل (1936-1987)م: | 84

21- الياس مرقص (1924-2004)م: | 86

الفصل الرابع: المادية والعقل (ماهية الإدراك العقلي) | 93

تعريف العقل في المعجم الوسيط: | 96

الاتّجاهات المعاصرة للماديّة العلميّة | 112

برهان حدوث المادّة: | 139

خاتمة البحث: | 148

قائمة بأهم مراجع الدراسة | 154

العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية سلسلة مصطلحات معاصرة 16 المادية مقاربة نقدية في البنية والمنهج نبيل علي صالح
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها ،وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار ، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظكة الفكرية المختلفة. ثانيا:ازالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لاسيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ،ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الاخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية
(4)

الفهرس

مقدمة  المركز7

أوّلاً- مقدّمة البحث9

الفصل الأول: معنى المصطلح ودلالات المفهوم11

الجذر اللغويّ12

2. التعريف الاصطلاحيّ :17

3. امتداد مصطلح «الماديّة» وتجلّياته عبر التاريخ22

سيرورة التفكير الطبيعيّ (المادّي) عند اليونانيّين القدماء:24

الفصل الثاني: التطور التاريخي للفكر المادي27

الماديّة (الفكر الماديّ) في العصر الحديث:35

أسبابُ (وظروف) نشوء «الماديّة»، وأهمّ المنظّرين لها 43

القسم الأول- أسباب فكريّة بدوافع دينيّة:46

القسم الثاني- أسباب موضوعيّة بدوافع معرفيّة (استطلاعيّة)49

الفصل الثالث: أهمّ المنظِّرين للمادّة والفلسفة المادّيّة 53

1 - طاليس (624-546) ق.م:55

2 - هيراقليطيس (540 -480)ق.م:56

3- أنكساغوراس (500-428)ق.م:57

4- ديموقريطس «ديمقريطس» (460-370)ق.م58

5- أبيقور»إبيقور» (341-270)ق.م:59

6- فرانسيس بيكون (1561-1626)م:61

(5)

الفهرس

7- باروخ أو بنديكت سبينورزا (1632-1677)م:62

8- تشارلز روبرت داروين (1809-1882)م:63

9- جون ستيوارت ميل (1803-1873)م:65

10- لودفيغ فيورباخ (1804-1872)م:67

11- ماركس (1818-1883)م69

12- نيتشه (1844-1900)م:72

13- برتراند رسل (1872-1970)م:74

14- أنطونيو غرامشي (1897-1937)م:75

15- جان بول سارتر (1905-1980)م:76

16- ألبير كامو (1913-1960)م:78

17- هيلاري بُوتنام (1926-2016)م:79

18- شبلي شميل (1850-1917)م:80

19- حسين مروة (1908-1987)م:82

20- مهدي عامل (1936-1987)م:84

21- الياس مرقص (1924-2004)م:86

الفصل الرابع: المادية والعقل (ماهية الإدراك العقلي)93

تعريف العقل في المعجم الوسيط:96

 الاتّجاهات المعاصرة للماديّة العلميّة112

برهان حدوث المادّة:139

خاتمة البحث:148

قائمة بأهم مراجع الدراسة154

(6)

مقدمة المركز 

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية  يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف الى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً الى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحو التالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم  والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار  

(7)

سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

 *      *       *

تتناول هذه الدراسة التي تندرج ضمن سلسلة (مصطلحات معاصرة) مصطلح المادية Materialism في معناها اللغوي والاصطلاحي وكذلك في دلالاتها الأنطولوجية وظهوراتها التاريخية. وهو ما عبّرت عنه المذاهب الفكرية والمدارس الفلسفية والتيارات السياسية التي ظهرت في الغرب ابتداءً من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين ومنها على وجه الخصوص ما عبّرت عنه الماركسية على المستويين النظري والتطبيقي.

 

والله ولي التوفيق

(8)

المقدمة

أوّلاً- مقدّمة البحث

«المادّة» أو «المادّيّة» أو «الأيديولوجيا المادّية»، ثلاثة أسماء أو ثلاث كلمات تدلّ على معنىً فكريّ واحد، تتّفق في العمق المعياريّ العامّ، ومضمون المعرفة الذاتيّة، وتختلف بالتّطبيقات العمليّة ومنهجيّة البحث التحليليّ على صعيد الوعي البشريّ وتمثّلات قناعاته الماديّة في العلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع البشريّ.

يقوم التفكيرُ المادّيّ أو «الفكر الأيديولوجيّ الماديّ» على قاعدة اعتبار «الحسّ» و»العيان» (المشاهدة بالعين والإدراك بالحواسّ العضويّة المعروفة) أساس المعرفة البشريّة، بل وجوهرها الذاتي. ويعتبر (أتباع هذا الفكر الماديّ) أنّها (أي المعرفة) لا تُقوّم إلّا بالبيانات (والأرقام) الماديّة، والمثيرات الحسّيّة والشواهد التجريبيّة لإبراز وجهة نظر أو رأي ما حول أيّة ظاهرة فرديّة أو عامّة، ودعم اتّجاه أو سلوك ماديّ خالص.

والتفكيرُ المادّيّ قديمٌ قدم وجود الإنسان في الحياة، نشأ مع البذور الأولى للتفكير البشريّ.. أي منذ إنّ  بدأ الإنسان ينظر بعينه، ويعاين بحواسّه، ويتأمّل ذاته ومحيطه وكونه القريب والبعيد بعقله ومختلف الأدوات الماديّة التي توافرت له، اكتشافاً أو صنعاً واختراعاً. لكنّ تمنطقه اللغويّ والبيانيّ بأفكار عقلية ومعادلات فكريّة تحليليّة تعكس طبيعة (وآليّة) معاينته لواقعه الخارجيّ المرئيّ المحسوس..  

(9)

أقول: هذا التمنطق البيانيّ تأخّر إلى زمن لاحق، أي   حتّى ظهر مفكّرون وفلاسفة «ماديّون» في مختلف الحضارات البشريّة، خرجوا عن السّائد النمطيّ، واعتقدوا بأنَّ ما لا نراه ليس موجوداً، وأنّ الموجود هو مُعايَنٌ ومقاس بأبعاد وأحجام ومعايير ماديّة.

في هذه الورقة حول فكرة «الماديّة» ـ التي تطوّرت لتصبح فلسفة وأيديولوجيا ومشروعاً سياسيّاً قامت عليه دول وحلف عسكريّ كبير ضمّ مجموعة بلدان تلوّنت بلون الفكرة الماديّة ذاتها ـ سنحاول إيجاد قاعدة بيانات نظريّة معياريّة، حول معنى مصطلح «الماديّة» وتاريخ نشوئها، وأهمّ رموزها وشخصيّاتها، وخلفيّاتها العقليّة والعلميّة، مع مقاربة نقديّة لطروحاتها المفاهيميّة، بما يجعل منها (من هذه الورقة) مرجعيّة فكريّة في ذاكرتنا المعرفيّة، يمكن استعادتها، وتحديثها، والإضافة إليها.

 

(10)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

معنى المصطلح ودلالات المفهوم

 

(11)

الجذر اللغويّ

-معنى كلمة «ماديّ» في معاجم اللغة العربيّة:

كلمة ماديّ هي فاعل من «مدى». وجمعها: مادّات وموادُّ.

وأُصُولُ اشْتِقَاقِهَا:

مَدَدَ: هِيَ مادّةُ المداخل، مدّ، مَدَّدَ، مَدٌّ، مَدِيدٌ، مَمْدُودٌ، اِسْتَمَدَّ.. إلخ..

-مادٍ: فاعل من مدَى.

-مادّ: فاعل من مَدَّ.

 والمادَّة: كلّ شيء يكون مَدَداً لغيره. ويقال: دعْ في الضَّرْع مادَّة اللبن، فالمتروك في الضرع هو الداعِيَةُ، وما اجتمع إِليه فهو المادَّة، والأَعْرابُ مادَّةُ الإسلام. وقال الفرّاءُ في قوله عزّ وجلّ: والبحر يَمُدُّه من بعده سبعة أَبحر؛ قال: تكون مِداداً كالمِدادِ الذي يُكتب به. والشيء إذا مدَّ الشيء فكان زيادة فيه، فهو يَمُدُّه؛ تقول: دِجْلَةُ تَمُدُّ تَيَّارنا وأَنهارنا، والله يَمُدُّنا بها. وتقول: قد أَمْدَدْتُك بأَلف فَمُدَّ. ولا يقاس على هذا كلّ ما ورد. ومَدَدْنا القومَ: صِرْنا لهم أَنصاراً ومدَدَاً وأَمْدَدْناهم بغيرنا. وحكى اللحيانيّ: أَمَدَّ الأَمير جنده بالحبل والرجال وأَغاثهم، وأَمَدَّهم بمال كثير وأَغاثهم. قال: وقال بعضهم أَعطاهم، والأَوّل أَكثر. وفي التنزيل العزيز: وأَمْدَدْناهم بأَموال وبنين.  والمَدَدُ: ما مدَّهم به أَو أَمَدَّهم؛ سيبويه، والجمع أَمْداد، قال: ولم يجاوزوا به هذا البناء، واستَمدَّه: طلَبَ منه مَدَداً. والمَدَدُ: العساكرُ التي تُلحَق بالمَغازي في سبيل الله[1].

(12)

والمادّة بحسبِ أحدِ التّعريفات المعجميّة: هي كلّ جسْم له وَزن وامْتداد يَشْغَل حَيّزاً من الفَراغ، يَقبل التَّقْسيم ويتّخذ أَشْكالاً مُخْتلفَة.

ومادَّةُ الشَّيْء هي أُصولُهُ وعناصرُه التي منها يتكوَّن، حسِّيَّةً كانت أَو معنويّة، كمادَّة الخشب، ومادَّة البحث العلميّ.

وكلمة «ماديّ» هي اسم مفرد منسوب إلى مادّة ومادِّيَّة، وهو مقابل للروحيّ أو المعنويّ (غير المرئيّ بالوسائل الماديّة المعروفة). وغير المادِّيّ: بلا جسد أو جسم أو شكل أو أبعاد.. ويقال عن شخص ما إنّه ماديّ، في حال كونه مُتَشَبِّعاً بِمَا هُوَ مَلْمُوسٌ وَمَحْسُوس ومحسوب[1].

-في المعنى الاصطلاحيّ لكلمة «مادّة» أو «مادّي»:

المعنى المصطلح عليه الصحيح لكلمة «الماديّة» هو كلّ ما اتّفقَ عليه المفكّرون والعلماء من آراء وطروحات تخصّ هذا المعنى «معنى المادّة» من أجل بناء معايير فكريّة عقليّة مشتقّة منها. والمعنى الاصطلاحيّ للمادّة هو تلك النظرة الحسّيّة إلى العالم بما فيه من مكوّنات ومخلوقات وموجودات. أو هي الطريقة (method) في فهم ظواهر هذه الحياة والطبيعة المتنوّعة الهائلة القائمة، وإدراكها اعتماداً على مبادىء محدّدة مضبوطة، علميّاً وموضوعيّاً. وكذلك هي الطريقة لفهم كلّ ما يتعلّق بالحياة الاجتماعيّة والأنشطة الاقتصاديّة والنتائج العمليّة للفرد البشريّ في سياق تفاعله مع الحياة والمحيط الذاتيّ والموضوعيّ. وتصحّ هذه النظرة (الماديّة) إلى العالم في جميع الظروف والأحوال والمواقع، ما دامت تأخذ  

(13)

بالمحدّدات الماديّة التي صيّرها أصحابها فلسفة ماديّة قائمة بذاتها. فهي أساس عدد من العلوم ذات الصلة بالفرد البشريّ. وهي بهذا تكون تفسيراً عامّاً للعالم، ونظرةً معرفيّة إليه كما هو، يجعل للأعمال العالميّة أساساً متيناً. ولهذا فهي تكون نظريّة. وموضوع هذا الدرس هو تحديد أساس النظريّة الماديّة[1].

وبشكل أكثر تحديداً، تعدّ المادّة ـ من حيث هذا المعنى المحسوس ـ من مصطلحات علم الفيزياء وكذلك علم الكيمياء. وتعرَّفُ بأنّها كلّ ما له كتلة (أي يمكن وَزْنها مهما كانت خفيفة)، ويشكّل حجماً في الفراغ يمكن رصده (الحجم المرصود بمعنى له طول وعرض وارتفاع وعمق)، يَقبل التَّقْسيم، ويتّخذ أَشْكالاً متعدّدة ومتنوّعة مُخْتلفَة.

 وهذا التعريف المدرسيّ (إذا صحّ التعبير)، كانَ مقبولاً قبولاً عامّاً في الفيزياء الكلاسيكيّة.. وعليه تكون كلّ المركّبات التي نراها في حياتنا، وكلّ العناصر المفردة هي أمثلة على المادّة. فالماء مثلاً، وهو عبارة عن مادّة سائلة، مؤلّفة من ذرّتي هيدروجين (H2) وذرّة أوكسجين(O2).. الماء مركّب ماديّ.. والذهب أيضاً (عنصر صلب) هو أيضاً مادّة.

إنّ المادّة التي تكوّن عالمنا مصنوعة بشكل أساسيّ من جسيمات تدعى كواركات quarks يرتبط بعضها ببعض بجسيمات غرويّة، وهي المسمّاة تسمية مناسبة گليونات gluons، وقام الفيزيائيون بخطوات واسعة لفهم عمل الكواركات والگليونات، لكنّ بقيت  

(14)

بضعة ألغاز محيّرة تحتاج إلى حلّ. وتاريخيّاً اعتقد الإغريق القدامى إنّ الذرّات هي أصغر مكوّنات المادّة في الكون. ولكن في القرن العشرين تمكّن العلماء من تجزئة وفلق الذرّة، منتجين مكوّنات أصغر بكثير:

بروتونات protons ونترونات neutrons وإلكترونات electrons. وبعد ذلك تبيّن إنّ البروتونات والنترونات بدورها تتألّف من جسيمات أصغر عرفت بالكواركات quarks، المرتبطة بعضها ببعض بواسطة جسيمات «لاصقة»، سمّيت على نحو ملائم، گليونات. وهذه الجسيمات، كما نعرفها في الوقت الراهن، هي جسيمات أساسيّة حقيقةً؛ ولكن حتّى هذا التصوّر، فقد تبيّن أنّه غير مكتمل. وكشفت الطرائق التجريبيّة التي تنظر في أعماق البروتونات والنترونات عن أوركسترا سمفونيّة مخبّأة فيها تماما؛ إذ يتكوّن كلّ جسيم منها من ثلاثة كواركات وأعداد متغيّرة من الگليونات، إضافة إلى ما يسمّى بحراً من الكواركات، التي هي أزواج من الكواركات يصاحبها شركاؤها من المادّة المضادّة، هي الكواركات المضادّة، التي تظهر وتختفي باستمرار. وليست البروتونات والنترونات الجسيمات الوحيدة المكوّنة من الكواركات في الكون، فقد استحدثت تجارب المسرّعات خلال نصف القرن المنصرم حشداً من جسيمات أخرى تحتوي على كواركات وكواركات مضادّة تسمّى معاً، إضافة إلى البروتونات والنترونات، هادرونات hadrons [1] .

والمادّة يُمكن أن تكون في حالات مختلفة تحدّد هيئتها  

(15)

ومظهرها، وحالات المادّة الطبيعيّة هي بشكل رئيسيّ أربعة أشكال أو أطوار، هي: الشكل الصلب، والسائل والغازيّ والبلازما..

وهذا ينطبق على موادّ مثل الماء والحديد والزئبق والرصاص وثاني أكسيد الكربون والأمونيا وغيرها من الموادّ والعناصر الطبيعيّة. في حين أنّه توجد بعض الحالات التي أُنتجت مخبريّاً ولا توجد طبيعيّاً، مثل الأمصال، والموادّ المركّبة الطبيّة وغيرها. وإضافة إلى هذا، توجد بعض الحالات الطبيعيّة، والتي لا توجد إلّا في أماكن خاصّة، مثل نوى النجوم النيوترونيّة التي تكون المادّة فيها مسحوقة وشبه متلاشية بسبب الكثافة الشديدة للنجم، وهذه تشكّل حالة (أو هيئة أو تمظهر) جديد من المادّة[1].

..إذاً، يدور المعنى المصطلح عليه للمادّة ـ في أحد تعابيره ومعاييره وهو هنا المعيار العلميّ ـ حول بنيتها الذاتيّة المعيَّرة والمحدّدة بأبعاد، والمُشَاهدة بآثارها ونتائجها كما قلنا. وأمّا الفكر المادّيّ فهو الفكر القائل بأنّ المادّة (ذات البنية المعياريّة المرئيّة والمحسوسة والقابلة للشهود العيانيّ) هي وحدها أساس الوجود والكون والحياة كلّه. وأنّ الفكر الماديّ له الدور والقيمة الأكبر للحصول على الثروة وموادّ الاستهلاك، مع إغفال للقيم الروحيّة والمبادئ الأخلاقيّة التي هي انعكاس للقاعدة الماديّة كما يزعم أتباع هذا الفكر.

ويطلق على مجموعة المحدّدات والمعايير الموضوعيّة (المحسوسة) «العقيدة الماديّة» أو مذهب «أصالة المادّة»، وهي  

(16)

تعني الاعتقاد بالواقع الموضوعيّ الخارجيّ المرئيّ بأبعاده المقاسة والمحدّدة، في قبال النظرة (المثاليّة) لها كأمر ذهنيّ عرضيّ اعتباريّ غير عيانيّ، يقوم على إنكار أو رفض أن يكون للمادّة أيّ واقع خارجيّ عيانيّ، بل تعتبرها من مخترعات الذّهن وخيالاته وأوهامه.. ووفقاً لهذا المصطلح اجتمع الإلهيّون (من مسلمين أو غير المسلمين) مع الماديّين، إذ يؤمن جميعهم بأنّ الأصالة للمادّة، أي إنّ  للمادّة واقعاً حقيقيّاً موضوعيّاً محدّداً بزمان ومكان، وأنّها حقيقة عينيّة غير ذهنيّة، وذات آثار محسوسة مشَاهدة، لكن يفترق الإلهيّون عن الماديّين في أنّ هذا الاعتقاد لا ينافي الاعتقاد بالله والإيمان بالتوحيد، بل يكون (عالم الطبيعة) هو أفضل سبيل لمعرفة الله، والقرآن الكريم يعتبر الحوادث الماديّة آيات باهرة تقود للتعرّف إلى الله تعالى.. وقد تستعمل كلمة الماديّة (ويراد بها) إنكار الوجود اللاماديّ، وحصر الوجود في العالم الماديّ، والقول إنّه لا وجود في الكون إلّا هو محكوم بقوانين المادّة وواقع في إطار الزمان والمكان والحسّ البشريّ وماعدا ذلك وهم[1].

2. التعريف الاصطلاحيّ :

الماديّة، اصطلاحاً، هي توجّه فكريّ ونزعة فلسفيّة، لم تتبلور في الفكر الفلسفيّ الغربيّ -كتيار معرفيّ فلسفيّ رصين ومعياريّ- إلّا في مراحل زمنّية متأخّرة، بعد تراكمات فكريّة وإرهاصات فلسفيّة منذ أيام التراث اليونانيّ حتى نهضة أوروبا الحديثة خلال القرن السابع عشر.

وقد بلغت هذه الفلسفة ذروة تبلورها كنظريّة معرفيّة، في  

(17)

الفلسفة الماركسيّة أو النزعة الفلسفيّة الماركسيّة التي صاغها كلّ من كارل ماركس وفريدريك (فريدرش) أنجلز الذي كان يرى أنّ «النظرة الماديّة للعالم هي النظرة للطبيعة كما هي، بدون أية إضافة خارجية»[1]. أي إنّ المادية Materialism ـ وهي ككلمة منسوبة للمادّة- هي مقولة ونظرة فلسفيّة تعني الواقع العينيّ الموضوعيّ الذي يوجد مستقّلاً ومنعكساً فيه[2].

وهكذا يعتبر أتباع هذا النهج أنّ الشيء الوحيد الذي يمكن القول بوجوده في الجوهر هو المادّة، ولا شيء سواها. فالمادّة هي الحقيقة المطلقة، وما عداها عرضي ثانويّ، ناتج منها، وخارج من رحمها. فالأصالة للمادّة، وهي التي تحدّد مدارك الوعي وقنواته النظريّة في فهم الوجود الخاصّ والعامّ. بالتالي يتطوّر الوعي بتطوّر المادّة المحيطة بالإنسان. وهذا الوعي لا يُمكن تفسيره إلّا عن طريق التّغيّرات الفيزيوكيميائيّة في الجهاز العصبيّ للإنسان، وأمّا التفسيرات النفسيّة والأخلاقيّة وغيرها من العوارض الروحيّة فهي ـ بحسب أتباع هذه الفلسفة ـ مجرّد أمور خياليّة، لا وجود لها، حيث لا أساس لها في البعد العضويّ الماديّ.

وأمّا الفلسفة الماديّة الماركسيّة التي تبلورت كأعلى مراحل الماديّة الفلسفيّة، فهي ـ كما جاء في نصوص آبائها المؤسّسين ـ [3] العلم الذي يقوم بدراسة القوانين الماديّة لتطوّر الطبيعة والمجتمع،  

(18)

وهي العلم الذي يدرس ثورة الطبقات المضطَهدة المستغَلة، كما أنّها العلم الذي يصف لنا انتصار الاشتراكيّة في جميع البلدان، وأخيراً هي العلم الذي يعلّمنا بناء المجتمع الشيوعيّ[1].

ويمكن التمييز ـ لدى أتباع المنهج الماديّ الماركسيّ- بين نوعين أو شكلين من الماديّة، هما الماديّة الديالكتيكيّة والماديّة التاريخيّة.

فالماديّة الديالكتيكيّة (الجدليّة) هي النّظرة العالميّة للحزب الماديّ الماركسيّ اللينينيّ، وتوصف بأنّها ديالكتيكيّة (جدليّة) لأنّ نهجها للظواهر الطبيعيّة، وأسلوبها في دراسة هذه الظواهر، وتفهّمها هو أمر ديالكتيكيّ (جدليّ=صراعيّ)، بينما تفسيرها للظواهر الطبيعيّة، وفكرتها عن هذه الظواهر، يقوم على بعد ونظريّة ماديّة[2].

أوجد هذا الاتّجاه من الماديّة، وأعطاه معايير وانتظامات فكريّة فلسفيّة، كلّ من الفيلسوفين الماديّين «كارل ماركس» و«فريدريش انجلز» اللذين استفادا من التأسيس النظريّ لديالكتيك الفيلسوف المثاليّ الألمانيّ المعروف «هيجل»، ومن تنظيرات الفيلسوف الألمانيّ الآخر «فيورباخ» القائلة بالمذهب الطبيعيّ الذي كان ذروة التطوّر في الماديّة الميكانيكيّة آنذاك. وعن هذا يقول ماركس: «إنّ أسلوبي الديالكتيكيّ لا يختلف عن الديالكتيك الهيغليّ وحسب، بل هو نقيضه المباشر. فهيغل يحول عمليّة التفكير، التي يطلق عليها اسم الفكرة   حتّى إلى ذات مستقلّة، إنّها خالق العالم الحقيقيّ، ويجعل العالم الحقيقي مجرّد شكل خارجيّ ظواهريّ  

(19)

ُللفكرة. أمّا بالنسبة إليّ، فعلى العكس من ذلك، ليس المثال سوى العالم الماديّ الذي يعكسه الدماغ الإنسانيّ ويترجمه إلى أشكال من الفكر»[1].

واعتمدت الماديّة في تطوّرها ـ كما زعمت ـ على المكتشفات والاختراعات العلميّة التي أعقبت الثورة الصناعيّة في الغرب، لذلك تجدها من أكثر النظريّات الفلسفيّة تأييداً للعلم، وتمسُّكاً بنظريّاته وحقائقه المعروفة، لكونها (أي الفلسفة الماديّة) تعتقد بأنَّ العلم يثبت فحوى مقولاتها وآرائها الفكريّة. فالعلم (بما هو تجارب ماديّة، أي ما اكتسب بملاحظة جادّة وتجربة موضوعيّة من حقائق أو قوانين أو قواعد لسلوك الظواهر الكونيّة من حيث حدوثها وتكرارها متعلّقة بجوانبها النظريّة والعمليّة لميدان معيّن ومنهج معيّن معترف به ومتّفق عليه عند أهل ذلك الاختصاص)[2] يلتقي مع أصل فكرة الماديّة التي تقول بأصالة الحسّ والتجربة، وتهدف إلى سيطرة الإنسان على الطبيعة ومحاولة تسخيرها لنفسه، وشاركت في تجميع المعارف العلميّة المختلفة لتشكّل صورة واقعيّة للعالم الماديّ.

والمادّيّة التاريخيّة، التي هي مذهب فلسفيّ وطريقة معرفيّة في فهم التاريخ امتداد لمبادئ الماديّة الديالكتيكيّة، تُعنى بدراسة

(20)

الحياة الاجتماعيّة، وتطبيق مبادئ هذه الماديّة على مختلف ظواهر الاجتماع البشريّ، ودراستها وتحليلها في ضوء قوانين المادّة. وتتّجه هذه الماديّةُ التاريخيّة إلى تفسير التّاريخ (كفعلٍ بشريّ في البعد الزمانيّ) برأي أو وجهة نظر أو اتّجاه فكريّ واحد يُعتبر ـ بحسب نظر أصحاب هذه المدرسة ـ كالمفتاح السحريّ الذي يفتح أقفال كلّ شيء في الحياة ومختلف شؤونها وفواعلها واتّجاهاتها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة[1].

وبناءً على معطيات هذه المدرسة وأفكارها، تُدرَس الظواهر الاجتماعيّة والإنسانيّة في ضوء ما سمّي بـ«مبادئ التحليل الماركسيّ» بصورة عامّة، و»مبادئ الماديّة الجدليّة» المعنيّة بظواهر الكون والطبيعة بصورة خاصّة، فهي تستمدُ من المادّيّة الجدليّة مبادئها في تحليل الظواهر والوقائع الاجتماعيّة، إذ تعتمد اعتماداً أساسيّاً على المقولات الثلاث الأساسيّة المتمثّلة بأنّ عمليّات التراكم الكميّة تؤدّي إلى تغيّرات كيفيّة، وأنّ التناقض بين مكوّنات الأشياء يعد الأساس في حركتها، وما من شيء في الطبيعة والحياة الاجتماعيّة إلّا يحمل في مكوّناته قدراً من التناقض، ينتج صراعاً مستمرّاً بينها، وأنّ هذا الصراع بين المكوّنات يؤدّي باستمرار إلى ما يعرف بـ «نفي النّفي». فكلّ مرحلة من مراحل التطوّر تنفي بالضرورة المراحل السابقة، ولا يمكن إنّ  تتعايش المراحل بعضها مع بعض إلا فتراتٍ مؤقّتة توصف بالتناقض، ولا يمكن أن يكون بينها أيّ وفاق أو استقرار.

بهذا المعنى، تكونُ المادّيّة التّاريخيّة نتاج تطبيق المنطق الجدليّ (منطق الصراع والتناقض) على حركيّة التطور التاريخيّ  

(21)

للمجتمع، حيث يرى الماركسيّون أنّ البناء الفوقيّ للمجتمع (القوانين والأخلاق والسياسات العامّة) ناتجٌ من البناء التحتيّ (وهو هنا الأسس والعلاقات الاقتصاديّة الماديّة).. بما يعني أنّ أخلاق المجتمع تتأثّر جوهريّاً بالعلاقات الاقتصاديّة وما فيها من تعقيدات وشؤون وإشكاليّات (بل هي نتيجة لها)..[1].

وما ينطبقُ في التحليل الماديّ التاريخيّ على مفهوم «الوعي الاجتماعيّ»، يندرج بدوره على دراسة الشخصيّة، فالإنسان دائماً ابن زمانه ومجتمعه وطبقته، فيتحدّد جوهر الشخصيّة ويتّضح تمام الوضوح بالمجتمع الذي تعيش فيه، وكلّ تشكيلة اجتماعيّة تضع قضية العلاقة بين المجتمع والشخصيّة على نحو مختلف وتحلّها وفق نمط معيّن...[2].

3. امتداد مصطلح «الماديّة» وتجلّياته عبر التاريخ.

إنّ وَضعَ تحقيبٍ زمنيّ أو تحديد مراحل زمنيّة مُعَيَّرة ومضبوطة بدقّة لسيرورة «الفكرة الماديّة» أو لتطوّرات حركة «الفلسفة الماديّة» عبر التاريخ، هو بحدِّ ذاته توثيق لتطوّر الفلسفة عموماً بجميع اتّجاهاتها ومذاهبها وتياراتها. لأنّ النظرة الماديّة أو الرؤية الماديّة للأشياء رافقت ظهور الفكرة الفلسفيّة منذ بداياتها الأولى، وارتبطت بحريّة العقل في الوصول إلى المعرفة ومحاولة إدراك الحقيقة من دون مرجعيّات فوقيّة أخرى. ولأنّ التراكم الفلسفيّ أيضاً كان

(22)

متداخلاً بعضه ببعض عبر مسيرة التاريخ خاصّةً في بداياته الأولى، ولم تظهر هناك حدود فاصلة واضحة وقائمة بذاتها بين الماديّة وغيرها من الأفكار والفلسفات الأخرى إلّا في زمن متأخّر.. ففي السّابق ـ وقبل ظهور معالم محدّدة للفلسفة الماديّة التي تمظهرت بأعلى مراحلها وأجلاها في الفلسفة الماركسيّة ـ كان الفكر الماديّ يسمّى بالفكر الوضعيّ أو الطبيعيّ وهو الفكر الذي ينظر إلى الحياة والإنسان نظرة طبيعيّة قائمة على التجربة والحسّ والنظر العقليّ فحسب.. بعيداً عن أيّة تفسيرات ومعانٍ وفلسفات أخرى إلهيّة ميتافيزيقيّة حتّى انتزاعيّة وضعيّة.

فقد ظهرت الفلسفة في بلدان الشّرق القديم قبل حوالَى ثلاثة آلاف سنة. منذ أنْ بدأ الإنسان يتأمّل ذاته والآفاق من حوله، ويتفكّر في محيطه الكونيّ والحياتيّ. كانت معطيات وجوده الموضوعيّ الخارجيّ تثير عنده أسئلة مفتوحة لا حدود لها، لم يكن يملك إجابات عنها، مع أنّه قدّم تفسيرات وتأويلات عقليّة شتّى لمظاهر تلك الوجودات وتنوّعاتها الهائلة.

برز في الفلسفة اتّجاهان رئيسان متضادّان ومتناقضان هما الماديّة والمثاليّة في معرفة العالم والوجود، ديالكتيكيّ ماديّ وضعيّ (وضعه الإنسان بمرجعيّة العقل والتفكير العقليّ والتجربة الحسيّة) وميتافيزيقيّ (بمرجعيّة النصّ الدينيّ المقدّس).

طبعاً هذا التقسيم والفصل بين رؤيتين هما أساساً رؤيتان وموقفان معياريّان متناقضتان (أو على الأقلّ غير متّفقتين في أصل الفكرة وآليّات تشكُّل الوعي) في البِنية والمنهج وآليّات

(23)

التفكير، ربّما لا يكون (هذا التقسيم) صحيحاً من الناحية المنهجيّة والتاريخيّة بسبب التّداخل والتشابك بين الرؤى والتفسيرات التي لم تكن مؤطّرة بمدارس تفكيريّة ومناهج فلسفيّة واضحة، حيثُ إنّ لكلّ مذهب فلسفيّ أو نظريّة معرفيّة رؤيتها الخاصّة بها، التي تعالج من خلالها مختلف الظواهر الخارجيّة.

 سيرورة التفكير الطبيعيّ (المادّي) عند اليونانيّين القدماء:

ظهرتْ في بدايات التفكير الفلسفيّ الإنسانيّ، إرهاصاتٌ وبنيات أوليّة للتفكير الطبيعيّ الماديّ، إذا صحّ التعبير. وجاءَ ظهورها في بلاد اليونان (حيثُ كانَ شعبُ اليونانِ من أوائل الشعوب التي أبدتْ لوناً من ألوان الاستطلاع والكشف وإثارة الأسئلة الإشكاليّة الذاتيّة والموضوعيّة)[1] كعناوين عامّة وعريضة دونما تنهيج موصوف بتفصيل دقيق، واشتهرت مقولات وأفكار معرفيّة لأكثر من فيلسوف إغريقيّ حول مواضيع وجوديّة وكونيّة تخصّ قضايا تفكيريّة كالتغيّر والثبات والحركة والوجود وغيرها، خالفت آراء «مثاليّة» كانت تقول بالتجرّد والثبات كفلسفة أفلاطون وغيره، اعتُبرت ـ في نظر

(24)

فلاسفة الحركة الطبيعيّين الماديّين ـ مجرّد اعتقادات وهميّة وخرافات أسطوريّة. وبرز من هؤلاء «الماديّين» كلّ من الفلاسفة «هيراقليطس»، و»ديموقريطس» (ديموقريطوس) و»أبيقور، و«طاليس»، كأحد الحكماء الطبيعيّين (الماديّين)، ممّن أرجعوا أصل الوجود إلى عناصر ماديّة طبيعيّة.

طبعاً، هذه الفلسفة الطبيعيّة الماديّة (فلسفة التغيّر) ـ التي آمنت بالمرئي، وأعادتْ كلّ شيء إلى جذره الطبيعي (أي إلى القانون الطبيعي المادي) ـ كانتْ هي الفكرة الفلسفيّة المسيطرة قبل سقراط، أي كانت محورَ التفكير الفلسفيّ منذ بدْءِ التفلسف وظهوره كخطّ معرفيّ ممنهج وأصيل. وقد بدأ الفلاسفة قبل سقراط بالردّ على التساؤلات التي طرحها عن أصل الكون، وتغيّر ظواهر الطبيعة من حولهم، بالملاحظة والتأمّل العقليّ المجرّد غير التجريبيّ.. فقد اتّجه هذا الاهتمام ليعالج المشكلات التي تتعلّق بطبيعة العالم وتغيّر ظواهر وثباتها.

ظهر بعد ذلك الفيلسوف المجدّد سقراط[1]، مُحدِثاً ثورة كبرى، في نطاق الفلسفة ومعناها وعملها. إذ صبّ اهتمامه على الإنسان، بدل الطبيعة. فكان يقول: «أيّها الإنسان: اعرف نفسك بنفسك». ونظراً لما قدّمه وأنتجه من معارف ونظريّات منطقيّة وفلسفية حول الذات الفرديّة (الفرد البشريّ)، ووجوده الطبيعيّ، قال عنه شيشرون: «...إنّه أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، وأدخلها إلى صميم

(25)

المدن والبيوت»[1]. ومعنى هذا أنّ سقراط، اهتمّ بالسياسة والأخلاق والاقتصاد. بدلاً من البحث في الفلك والطبيعة، مستخدماً منهج التهكّم والتوليد، مصطنعاً الجهل أمام محاوريه، الذين يدّعون المعرفة.

أمّا أفلاطون (وهو لم يكن ماديّاً بطبيعة الحال) ـ فقد أضحت الفلسفةُ عنده متمحورةً حول البحث في معنى الوجود، ولا سيّما الوجود الحقيقيّ الثابت الذي لا يتغيّر، مستخدماً منهج الحوار السّقراطيّ. تميِّز الميتافيزياء الأفلاطونيّة بين عالمين: العالم الأول، أو العالم المحسوس، هو عالم التعدّدية، عالم الصيرورة والفساد.. وهكذا ظهر في العصر اليونانيّ والرومانيّ كثير من الفلاسفة الماديّين، أمثال ديمقريطس وأبيقور ولوكريتوس، يقرّرون أنّ الموجود ينحلّ إلى أجزاء لا تتجزّأ هي الذرّات، والذرّات تنتقل في الخلاء. كذلك يرون أنّ كلّ موجود يخضع لقوانين ضروريّة، والإنسان يندرج في هذا الوضع. وكان الهدف منه الصراع ضدّ الخرافات وضدّ الخوف من الموت[2].

(26)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

التطور التاريخي للفكر المادي

 

(27)

ينقسم التراث أو التاريخ الثقافيّ والحضاريّ الغربيّ ـ بحسب التحقيب الزمنيّ الذي وضعه فلاسفة التفكير الغربيّ ـ إلى ثلاث مراحل أساسيّة، الأولى منها، هي مرحلة العصور القديمة (عصر الإغريق اليونانيّين حيث الفترة الذهبيّة للفلسفة والعقل وتمتد من هم 500 ق.م، حتّى عام 400 للميلاد الذي تبنّى فيه الرومان الدين المسيحيّ. والمرحلة الثانية الأطول وهي مرحلة العصور الوسطى، وتبدأ من تاريخ سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة في الغرب   حتّى فتح إسطنبول إيذاناً بسقوط الحضارة الرومانيّة البيزنطيّة في الشرق على يد السلطان محمد الفاتح في عام 1453م. وهي كانت مرحلة ظلاميّة على الغرب عموماً. والمرحلة الثالثة المسمّاة (مرحلة العصور الحديثة) وتبدأ من منتصف القرن الخامس عشر حيث تفجّرت معالم النهضة الأوروبيّة (مع الدعوة إلى إحياء الفلسفة والعلوم اليونانيّة)، مروراً بعصر الأنوار في القرن الثامن عشر، حتّى العصر الحاليّ.

يعدّ مصطلح العصور الوسيطة أو القرون الوسطى مصطلحاً غربيّاً بامتياز، لا علاقة لنا نحن (في اجتماعنا العربيّ والإسلاميّ) به، لا تأسيساً ولا نحتاً فكريّاً. حيثُ ظلّت (تلك العصور الوسطى) تُعْتَبر ـ بالنسبة إلى الفكر الأوروبيّ ومؤرّخيه على الأقلّ ـ عصوراً مظلمة بكلّ معنى الكلمة، انحدرت فيها البشريّة الأوروبيّة  ـ إذا جاز التعبيرـ لأدنى غرائزها ووعيها، حيث سادتْ فيها الكنيسة (بتعاليمها وقدادستها) في أكثر تجليّاتها رجعيّة[1]، معبّرة عن نفسها خصوصاً

(28)

بمحاكم التفتيش التي وقفت متصديّة لكلّ فكر حرّ ولكلّ محاولة لأنسنة الأفكار والصعود والارتقاء بالمجتمعات، فكان إنّ  حُرّم الفكر الحرّ، وحُظر أيّ تجديد في المفاهيم. لكنّ الإرادة البشريّة والحضور العقليّ ورفض البقاء في سجون الفكر القروسطيّ، دفع العقلاء مجدّداً إلى تسليط الضوء العقليّ على العصر الإغريقيّ في محاولة  لإعادة لإعادة اكتشافه، فتراكمت التطوّرات وتفجّرت ينابيع المعرفة فلسفات إنسانيّة راقية بايعت العقل مرجعيّة للتجديد والإصلاح الدينيّ.

وبالاستطراد قليلاً، يمكن القول إنّ اهتمامَ الغربِ في العصور الوسيطة كان منصبّاً على الدين والوحي والتقاليد الدينيّة الموروثة من عهود سابقة، وكانت الثقافة والعقل آخر اهتمامات النخب المفكّرة وهي نخب الدين من رجالات الإكليروس القروسطيّ ممّن كانت لهم آراء وتوصيفات ونصوص ومفاهيم مقدّسة حول مختلف شؤون الناس الخاصّة والعامّة، كانوا يمنعون انتهاكها بحجّة الحافظ على قدسيّتها وعذريّتها التاريخيّة إذا صحّ التعبير، بل كانوا يعاقبون عليها أشدّ ألون العذاب وأقساها حتّى اشتهرت عنهم محاكم التفتيش الصوريّة التي أسهمت في دفع الناس إلى ترك الدين، والابتعاد عن طقوسه وتعاليمه، والسير وراء فلسفات وضعية، وتبنّي رؤى مجتمعيّة مغايرة للدين، صاغتها عقول رواد التنوير الأوروبيّ في ردٍّ معرفيّ عقليّ على ترّهات وأباطيل الأفكار الكنسيّة المتخلفة.

(29)

من هنا حاول فلاسفة العصر الوسيط، ومفكّروه الكبار من مسيحيّين ومسلمين، القيام بما يمكن القيام به من عمليّات فكريّة واجتهادات عقليّة للتوفيق بين مرجعيّتين متصادمتين، مرجعيّة العقل ومرجعيّة النقل، بين العقل والنصّ، بين النسبيّ والمطلق. فبذلوا كلّ جهدهم، وصرفوا كلّ وقتهم، لتكييف النصّ الدينيّ مع التغيّرات والمستجدّات الحياتيّة، مجمعين على أنّ العقل والنقل، مصدران أساسيّان وضروريّان للمعرفة.

وهكذا وجدنا ـ مثلاً ـ فيلسوفاً كبيراً كالفيلسوف النصرانيّ (المسيحيّ) القدّيس «أوغسطين» يبذل معظم جهوده للتوفيق بين فلسفة أفلاطون وفلسفة أفلوطين من جهة، والعقائد المسيحيّة من جهة أخرى، والشيء نفسه فعله القدّيس «توما الأكوينيّ» حين انصرفَ بجهوده إلى التوفيق بين تعاليم أرسطو وعقائد المسيحيّة.. مثلما فعل الفلاسفة والحكماء المسلمون في محاولاتهم التوفيق بيت حكمة الإغريق ونصوص القرآن.

وخلال هذه المرحلة لم تظهر معالم واضحة للفكر الماديّ، بل كانت أهمّ الأسئلة التي انشغل بها فلاسفة العصر الوسيط، في محاولتهم الإجابة عنها، متركّزة حول طبيعة العقل، وحدوده، وماهيّة شروط المعرفة العقليّة..؟!.. وتبيان أسباب وجود تعارض العقل مع النقل؟ وبأيّ منهما يمكن الأخذ، العقل أم النقل؟.

وعلى صعيد التّاريخ الإسلاميّ والفلسفة «العربيّة ـ الإسلاميّة» (التي تعمّقت وتألّقت خلال فترة الجمود والانحطاط الغربيّ ـ مرحلة العصر الوسيط)، فقد تمظهرتْ الفلسفة والحضارة بأشكال دينيّة. أي إنّها ارتبطت بالتاريخ الدينيّ برغم احتكاكها وتفاعلها

(30)

الخصب والثّريّ مع باقي الحضارات والفلسفات الأخرى التي ظهرت على مسرح الأحداث، كحضارة اليونان التي كانت حضارة العقل، وحضارة الرومان التي كانت حضارة القانون.

وقد نجم عن هذه التفاعلات الحضاريّة، قراءات جديدة للمعرفة، وأسسها وأصولها، وعن دور الفرد البشريّ فيها، ومعنى وجوده، وإرادته ومسوؤلّياته وحريّته.. ونحن نتحدّث هنا عن تطوّر فكريّ وعقليّ حدث في عمق التاريخ الإسلاميّ الذي يحيط النصّ بأحداثه من كلّ الاتّجاهات الفرديّة والعامّة، فمثلاً  رأينا كيف تحدّثَ المعتزلة عن الحريّة عموماً، وخاصّة عن حريّة الإنسان ومسؤولّيته عن أفعاله، وأنّ العدالة الإلهيّة تقوم على حريّة هذا الإنسان، وتحكيم العقل، لأنّ الثواب الحقيقيّ العادل يقتضي حريّة الفعل والسلوك والمسوؤليّة الكاملة عنه.. كما نتحدّث عن الإضافة الفكريّة النوعيّة لابن خلدون حول «تاريخانيّة» الحدث، وتأثير الظروف الماديّة على الإنسان، وعن قربه من المعتزلة برغم أشعريّته، حيث وضع الأساس لما يقترب من علم تاريخ اجتماعيّ حقيقيّ، في ربطه المدنيّة والتمدّن بالعمران. كما نتحدّث عن الفيلسوف الفارابي والحكيم ابن سينا اللذان اعتمدا في العمق على حكمة العقل، قبل انْ يطوّرها ابن رشد إلى مقولة رائدة في وقته وهي: «إن العالم يتطوّر على أساس العقل...». كما يمكن الحديث هنا عن منعطف أبي بكر الرازي الطبيب الحاذق والتجريبيّ، حيث إنّ ما يميّزه هو ظهور بعض الآثار «الماديّة» في فلسفته التي ظهرتْ في القرن العاشر الميلاديّ.. ثمّ طبقة ابن حزم الأندلسيّ الظاهريّ (القرن 11م) وفخر الدين الرازي (القرن 13م).

الخصب والثّريّ مع باقي الحضارات والفلسفات الأخرى التي ظهرت على مسرح الأحداث، كحضارة اليونان التي كانت حضارة العقل، وحضارة الرومان التي كانت حضارة القانون.

وقد نجم عن هذه التفاعلات الحضاريّة، قراءات جديدة للمعرفة، وأسسها وأصولها، وعن دور الفرد البشريّ فيها، ومعنى وجوده، وإرادته ومسوؤلّياته وحريّته.. ونحن نتحدّث هنا عن تطوّر فكريّ وعقليّ حدث في عمق التاريخ الإسلاميّ الذي يحيط النصّ بأحداثه من كلّ الاتّجاهات الفرديّة والعامّة، فمثلاً  رأينا كيف تحدّثَ المعتزلة عن الحريّة عموماً، وخاصّة عن حريّة الإنسان ومسؤولّيته عن أفعاله، وأنّ العدالة الإلهيّة تقوم على حريّة هذا الإنسان، وتحكيم العقل، لأنّ الثواب الحقيقيّ العادل يقتضي حريّة الفعل والسلوك والمسوؤليّة الكاملة عنه.. كما نتحدّث عن الإضافة الفكريّة النوعيّة لابن خلدون حول «تاريخانيّة» الحدث، وتأثير الظروف الماديّة على الإنسان، وعن قربه من المعتزلة برغم أشعريّته، حيث وضع الأساس لما يقترب من علم تاريخ اجتماعيّ حقيقيّ، في ربطه المدنيّة والتمدّن بالعمران. كما نتحدّث عن الفيلسوف الفارابي والحكيم ابن سينا اللذان اعتمدا في العمق على حكمة العقل، قبل انْ يطوّرها ابن رشد إلى مقولة رائدة في وقته وهي: «إن العالم يتطوّر على أساس العقل...». كما يمكن الحديث هنا عن منعطف أبي بكر الرازي الطبيب الحاذق والتجريبيّ، حيث إنّ ما يميّزه هو ظهور بعض الآثار «الماديّة» في فلسفته التي ظهرتْ في القرن العاشر الميلاديّ.. ثمّ طبقة ابن حزم الأندلسيّ الظاهريّ (القرن 11م) وفخر الدين الرازي (القرن 13م).

(31)

وعلى الرغم من أنّ الفلاسفة العرب والإسلاميّين عاشوا في ظلّ عدم القدرة على الفصل ما بين الفلسفة واللاهوت، إلّا أنّه ظهرت لدى بعضهم أفكار ونزعات عقلانيّة (غير دينيّة) صرفة. فكان الكنديّ أوّل مفكّر عربيّ وضع قضية المعرفة في إطار يتجاوز معناها ومظهرها اللاهوتيّ..

كما ظهرتْ -خلالَ هذه الفترة الزمنيّة- شخصيّات كثيرة أخرى «قلقة شاكّة» –إذا صحّ التعبير- ذهبت أبعد مدىً من مجرّد اتّخاذ العقل كبديل للنصّ المنقول المتوارث، بل يمكن القول إنّها نهجت النهج الماديّ الصريح تقريباً، وأثارتْ كثيراً من الأسئلة والإشكاليات اعترضت من خلالها على طبيعة المقدّس والنصّ الدينيّ الإسلاميّ، كانت تسمّى بالزنادقة أو الهراطقة، آمنت بأفكار مخالفة بل مناقضة لتوجّهات الدّين الإسلاميّ وتعاليمه، ومع أنّها لم تتحوّل إلى خطّ واضح وبارز على صعيد الاجتماع الدينيّ الإسلاميّ، فقد أثارت كثيراً من المخاوف لدى أئمة الدين الإسلاميّ وعلمائه.

ومصطلح الزندقة أو الزنادقة، هو مصطلح عامّ كان يطلق على حالات عديدة، يعتقد أنّها أطلقت تاريخيّاً لأوّل مرّة من قبل المسلمين لوصف أتباع الديانات المانويّة أو الوثنيّة والدجّالين ومدّعي النبوّة، والذين يعتقدون بوجود قوّتين أزليّتين في العالم وهما النور والظلام. ولكنّ المصطلح بدأ يطلق بالتدرّج على عموم أصحاب البدع والملحدين، كما يطلق بعضهم على كلّ من يعيش ما اعتبره المسلمون حياة المجون من الشعراء والكتّاب، واستعمل بعضهم تسمية زنديق لكلّ من خالف مبادئ الإسلام وتشريعاته الأساسيّة. ويعتبر ظهور حركة الزندقة في الإسلام من المواضيع

(32)

الغامضة التي لم يسلّط عليها اهتمام يذكر من قبل المؤرّخين بالرغم من قدم الحركة التي ترجع إلى زمن العباسيّين. وهناك كتبٌ تاريخيّةٌ تتحدّثُ بصورة سطحيّة عن أشهر الزنادقة والمحاربة الشّديدة التي تعرّضوا لها في زمن خلافة أبي عبد الله محمّد المهديّ، ومن هذه الكتب كتاب «الفهرست» لابن النديم، وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهانيّ، وكتاب مروج الذهب للمسعوديّ. ومن الجليّ للمتتبّع لتاريخ تلك الحقبة الزمنيّة، أنّ يعي أنّ الزندقة أضحت تهمة التهم التي يرمى بها أحياناً أي مخالف للآراء السائدة (التقليديّة) في زمانه، دون النظر حتّى لجوهر الرأي[1] .

وكان من أبرز رموز الزنادقة الذين ذكرهم ابن النديم في فهرسه[2] كلّ من: صالح بن عبد القدوس، وأبي عيسى الورّاق، وابن أبي العوجاء، وابن المقفّع، وغيرهم.

وأمّا «الدّهريّون»، فهم أشخاص كانوا ينفون الخلق الإلهيّ، ويعتقدون بالخلق الطبيعيّ، أي الخلق الماديّ. وقد أطلقَ القرآنُ الكريم لقب أو مصطلح «الدهر»[3] على تلك القوّة التي يؤمنون بها، والتي يعتقدون بأنّها هي التي تُمِيْتُهم وتحييهم في دلالة على الخلق الطبيعيّ لا الإلهيّ.. كما أطلق عليهم علماء الكلام المسلمون مصطلح (الدهريّين)، يقول تعالى: ﴿وقالوا ما هي إلا

(33)

حياتنا الدنيا موت ونحيا وما يهلكنا إلّا الدهر[1](سورة الجاثية: 24). وقوله تعالى: ﴿أيعدكم أنّكم إذا متّم وكنتم تراباً وعظاماً أنّكم مخرجون(سورة المؤمنون: 35).. وقوله تعالى: ﴿وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنّا لمبعوثون خلقاً جديداً(سورة الإسراء: 49).

ويُشتقّ المصطلحُ من كلمة «الدّهر»، حيث إنّ أتباع هذا النهج كانوا يرون أنّ الزمان (أو الدّهر) هو السّببَ الأوّل للوجود، وأنّه غير مخلوق ولا نهائيّ. وأنّ المادّة لا فناء لها.

بما يجعلنا نفترض إمكانيّة أن نعتبر «الدهريّة» شكلاً قريباً من اعتقاد «اللادينيّة» و«الإلحاد» والفكر الماديّ الذي كان ينتشر في كثير من حضارات العالم  وأممه.. يبقى أن نقول هنا حول الدهريّين، أنّ ظهورهم سبق مرحلة ظهور الإسلام، وهم لم يتحوّلوا إلى نهج وخطّ فكريّ فاعل ومؤثّر في حركة التاريخ، بل بقي دورهم محدوداً وضعيف الأثر[2] حتّى خلال العصر الوسيط وما بعده.

كلّ هذا كان يعني أنّ التّاريخ العربيّ والإسلاميّ لم يكن تاريخاً ناصعاً مليئاً بقيم الدين والإيمان بتعاليمه ومقدّساته الإسلاميّة،

(34)

والاقتناع التامّ والمطلق بالشريعة التي جاء بها هذا الدين فقط. فقد وجدت في هذا التاريخ ـ خاصّة في المرحلة الوسيطة غربياً والذهبيّة إسلاميّاً- الكثير من الشخصيّات الفكريّة والفلسفيّة المعروفة التي شكّكت ليس في السلوكيّات والأفعال، وإنّما في جوهريّة الدّين وأصل الخلق، بما يعني أنّها كانت ذات نهج فكريّ ماديّ طبيعيّ (تعيد الخلق لقوّة الطبيعة يعني المادّة). وقد لاحظنا إنّ  كثيراً من المؤرّخين لم يسلّطوا الضوء الكافي على تلك الشخصيّات التي كانت بأغلبها تخفي قناعاتها خوفاً، وبعضها الآخر كان يُعلنها فتقتل وتحرق كتبها. لكنّ المفكّر المشهور «عبد الرحمن بدوي» حاول في كتابه المرجعيّ «تاريخ الإلحاد في الإسلام» من مصادر عدّة تجميع أفكار «الدهريّين» أقوالهم، وتوثيق ما يمكن توثيقه من أخبارهم وحوادثهم، باعتبارهم جزءاً من هذه الحضارة العربيّة والإسلاميّة الكبيرة والغنية التي أثّروا فيها وتأثروا بها، وكوّنوا حالةً وحراكاً في داخلها تأثّر به ربّما، حتّى المدافعون عن الدين أنفسهم من شيوخه والمتكلّمين به، بحيث اضطرّتهم إلى تطوير أدواتهم وسبل مواجهتهم حتّى تتناسب قدر الإمكان مع العلم الحديث، والفلسفة الوافدة، وروح العصر، ممّا وقع في مصلحة العامّة وأثرى حضارتهم.

الماديّة (الفكر الماديّ) في العصر الحديث:

مرّ الغرب الحديث بتجارب كبرى سياسيّة واجتماعيّة كان من أبرزها حضوراً وتدفّقاً وجودةً وتأثيراً، تَفَجُّر النهضة العقليّة والفكريّة في القرنين الخامس عشر، والسادس عشر. وقد أسهمت (تلك النهضة) في بروز تجارب غير معهودة من قبل بنيت على

(35)

قاعدة الحسّ والمعاينة والاختبارات، كما أدّت تلك النهضة إلى نشوء نظريّات فكريّة وفلسفيّة جديدة، لم تكن لتأتي وتُبتكَر وتخليقها لولا التّحرّر من سُجون الكبت الفكريّ والدينيّ الكنسيّ الذي كانت سيطرته مهولة على البشر والحجر والشجر.. وهذه هي الفلسفة الحديثة التي نشأتْ ـ في واقع الأمرـ على يد كثير من فلاسفة الأنوار والحداثة العقليّة، وبخاصّة «رونيه ديكارت»، بشكّه المنهجيّ، وحقائقه الثلاث (الله، والنّفس، والجسم)، وتأمّلاته عن الكوجيطو (الكوجيتو)، و«فرانسيس بيكون» بدعوته إلى التخلّي عن الميتافيزيقا باعتبارها دراسة عقيمة ولا جدوى منها، وبدء الحديث عن خطوط المنهج التجريبيّ القائم على المشاهدة والملاحظة والتجربة والاستنتاج العلميّ الذي يأتي على هيئة قانون علميّ صريح وواضح. وهذه الفلسفة الحديثة أخذتْ عنواناً عريضاً لها، مارسته بقوّة وفاعليّة وهو عنوان النقد والحفر الفكريّ المعرفيّ المعتمِد على العقل وحده. وبذلك قطعتْ صلتها بالفكر الفلسفيّ الميتافيزيقيّ السابق ذي الصبغة اللاهوتية، والذي كان منشغلاً ـ كما قلنا ـ بمشكلة الوجود والميتافيزيقا دونما التّطرّق والبحث لمشاكل الإنسان وحاجاته الدنيويّة وهمومه ومتطلّباته الأرضيّة.

وهكذا بدأت العقول والأفكار الحديث تهتمّ بمشكلة المعرفة وخدمة الإنسان، التي كان ديكارت يقول عنها بأنّها معرفة مفيدة في الحياة، تجعل من أنفسنا سادة الطبيعة وملاكها[1].

وبدءاً من القرن السابع عشر، ستّتخذ الماديّة اتّجاهاً ملحداً

(36)

واضحاً، يقوم على التعارض بين المادّة والجوهر المفكر. وفي نظريّة المعرفة ترد المعرفة إلى الحواسّ وحدها. وهي تتصوّر الكون على أنّه كلّ مؤلّف من أجسام ماديّة، فيه تجري أحداث الطبيعة وفقاً لقوانين موضوعيّة ضروريّة. والزمان والمكان والحركة تعدّ أحوالاً للمادّة. وكلّ ظواهر الوعي (الفكر) تتوقّف على التركيب الجسمانيّ للإنسان[1]. وقد تجرّأ وقتها العديد من الكتّاب والفلاسفة على طرح مفاهيم لا دينيّة، والإعلان الصريح عن طبيعة أفكارهم وتوجّهاتهم الماديّة الإلحاديّة المعادية للدين (أو للمثاليّة التجريديّة)، ونذكر منهم «لامتري» و»هولباك» و«هيلفيتيوس» وكلّ من «دولباخ» و«نيتشه». وقد صُنِّفَتْ هذه النظريّات حينذاك بالميكانيكيّة، كما ستُصنَّف لاحقاً أفكار فويرباخ بالمقارنة مع المنظومة الجدلية للماركسيّة، لأنّها كانت تتجاهل مبدأ الفعل وردِّ الفعل، ولا تقرّ إلّا بما في الطبيعة من تغيّرات كمّيّة. وفي القرن التاسع عشر، أدان الفيلسوف «أوجست كونت» الماديّة لأنّها -على حدِّ زعمه ـ تُنزِل الأعلى إلى الأسفل. لكنّنا نلاحظ -في المقابل- أنّ هذا المفهوم (أي الماديّة) قد ساد في فروع عدّة من العلم: كالبيولوجيا التي رفضت كلّ غائيّة، وأعادت تفسير كلّ شيء استناداً إلى مسبِّباته الفيزيائيّة والكيميائيّة؛ أو كعلم النفس، حيث صار الوعي مجرّد ظاهرة طارئة، وصار النفسانيّ مجرّد اشتقاق لما يمكن مراقبته فيزيائيّاً (كبسيكولوجيا السلوك، على سبيل المثال)[2].

إذاً، لاحظنا إنّ  فلاسفةَ الحداثة الغربيّة وقفوا عموماً موقفاً سلبيّاً

(37)

من الدين. ولم يكونوا ـ في غالبيّتهم ـ مؤمنين به، ولا بوجود الإله الّذي جعَلوه معطىً مخلوقاً، وجعلوا الإنسان مجرّد كائن آليّ تحرِّكه غرائزه الوحشيّة المظلمة القابعة داخله كما يصوّره (داروين)، أو تدفعه القوانين الآليّة التي لا يمكن تجاوزها كما تصوّره الفلسفة الماديّة، بعد أن فعل ما فعل بهذا المخلوق الكريم قوَّض علاقته بخالقه، وجعلها علاقةَ تناقضٍ لا علاقةَ انسجامٍ، وعلاقةَ صراعٍ لا علاقةَ عبوديّةٍ. وبسببٍ من هذه الثقافة التفكيكيّة، استشكل الفكر الغربيّ الحديث والمعاصر علاقةَ العقل الإنسانيّ بالدِّين الإلهيّ، ووصل بذلك إلى وصف تلك العلاقة بالتنافر والتضادّ، بل التناقض، لكنّه انقسم في محاولة حلّه هذه المشكلة المفتعلة إلى اتّجاهين[1]:

الاتّجاه الأوّل: اتّجاه (مادّي) صرف، حدّيّ ومتطرِّف في تناوله للدين ومعالجته للمسائل المرتبطة به سلباً أم إيجاباً. وكان هدفه متمحوراً حول القضاء على الدِّين من أساسه، وسحق مصدره جملةً وتفصيلاً، مع تأليهه للعقل الإنسانيّ. وهذا الاتّجاه وإنْ كان قد ضعف تأثيره الفكريّ في فكر السّواد الأعظم من الشّعوب الغربيّة، إلا أنّ طروحاته ما زالت قائمة، وقد مثله لفيف من مشاهير الفلسفة الغربيّة باختلاف اتّجاهاتهم الفلسفيّة من وضعيّة وماديّة تقليديّة وماركسيّة.. فمنهم على سبيل المثال، «دولباخ»، و«نيتشه»، و«لاميتري»، كما مثّلهم لاحقاً فلاسفة كُثر، مثل «ماركس» و«لينين».. وغيرهم.

ولو استطردنا قليلاً هنا، في تحليل هذا الاتّجاه، فسنلاحظ أنّ ماديّة هؤلاء قد سلكت مسلكين مختلفين، وانقسم أتباعها إلى طائفتين:

(38)

الماديّة الميكانيكيّة (العلميّة): تقوم الرؤية الماديّة الميكانيكيّة (التقليديّة) على قاعدة أنّ كلّ حادثة أو واقعة خاصّة أو عامّة لا بدّ لها من سبب خارجيّ تسبب بها، أو علّة خارجيّة أحدثتها. فطبيعة هذه الفلسفة تستلزم وجود علّة من خارج الحدث الواقع.

وتاريخيّاً، أسند أتباع هذا المسلك نظريّتهم إلى الفيلسوف اليونانيّ  «ديموقريطس»، والذي تنسب إليه النظريّة الذريّة، وحاصلها أنّ المادّة عبارة عن جزيئات صلبة صغيرة لا تقبل التغيّر ولا الانقسام. فالمادّة الأوليّة هي مجموع تلك الذرّات الصلبة والجواهر الفردة. وأمّا الظواهر الطبيعيّة ـ ككون شيء إنساناً أو حيواناً أو نباتاً ـ  فهي ناتجة من انتقال تلك الجواهر الفردة من مكان إلى آخر. ويعتقدُ أصحابُ هذه الفلسفة بالإدراكات الصحيحة المطلقة، وأن أدوات الإدراك، كالحسّ، ليس لها دور إلّا كونها وسائل انتقال من الخارج إلى الذهن. وقد تبنّى هذا المنهج جلّ الفلاسفة الماديّين في القرن الثامن عشر الميلاديّ[1].

الماديّة الديالكتيكيّة (الجدليّة): وهي النّظريّة العامّة للحزب الماركسيّ اللينينيّ. وقد سمّيت بالماديّة لأنّ أسلوبها في النظر إلى حوادث الطبيعة، أو طريقتها في البحث والمعرفة هي ديالكتيكيّة، ولأنّ تعليلها حوادث الطبيعة وتصوّرها لهذه الحوادث، أي نظريّتها، هي ماديّة[2].

وهذه الفلسفة الديالكتيكيّة تختلف ـ في العمق ـ عن الرؤية أو الفلسفة الماديّة الميكانيكيّة (العلميّة) التي ترجع علّة الحدث

(39)

إلى داخل الذات، بينما تحيل الفلسفة الميكانيكيّة كلّها حدث أو صيرورة إلى سبب خارج الذات. وهذه النظريّة ـ التي باتت مذهباً فلسفيّاً- ادّعى أنصارها أنّها تنطبق على كلّ شيء، وعلى نطاق شامل. وقد أدّى ذلك، كما هو متوقّع، إلى قدر كبير من التفكير النظريّ الفلسفيّ، على الطريقة الهيجيليّة، حول مسائل كان من الأفضل تركها ـ كما يقول الفيلسوف برتراندرسل[1] ـ للبحوث العلميّة التجريبيّة. ويظهر أوّل مثال لذلك في كتاب إنجلز «ضدر دورنج/دوهرنج anti-duhring» الذي انتقد فيه نظريّات الفيلسوف الألمانيّ دورنج.

ولم يكتف ماركس (منظر الفلسفة الديالكتيكيّة الجدليّة والتاريخيّة) بتحديد موقف فلسفي وعلميّ ـ كما يُزعم ـ من ظواهر الوجود والحياة على الصعيد العلميّ، بل جرى توسيع نطاق مبادئها (الديالكتيكيّة) حتّى تشمل دراسة الحياة الاجتماعيّة، وتطبّق هذه المبادئ على حوادث الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة ومجمل فعليّات النشاط البشريّ الأخرى، أي على درس المجتمع، وعلى درس تاريخ المجتمع، معيداً (ماركس) كلّ التطوّرات فيه إلى الجدل والديالكتيك الذاتيّ الأساسيّ عندها وهو النشاط الاقتصاديّ. فالتطوّر السياسيّ، والحقوقيّ، والفلسفيّ، والدينيّ، والأدبيّ، والفنيّ يرتكز ـ كما يرى أنجلز ـ على التطوّر الاقتصاديّ[2].

تاريخيّاً، ظهرت الفلسفة الديالكتيكيّة (الجدليّة) في القرن التاسع عشر، وتعاملتْ روادها مع الكون كلّه ماديٍّ متماسك وديناميٍّ،

(40)

مؤكّدة تبادل التفاعل بين العناصر (حيث يصبح كلّ فعل سبباً بدوره، والعكس صحيح)، وحيث يؤدّي تراكُم التغيّرات الكميّة للحياة إلى تغيّرات نوعيّة في الوجود؛ ممّا يعني ـ ضمن إطار ذلك ـ التصوّر للواقع، الحلَّ المتدرّج للتناقضات الداخليّة كأساس للتاريخ.. من تصوّر كهذا جاءت الماديّة التاريخيّة كمفهوم (ماركسيّ) مطبَّق على التاريخ كتحصيل حاصل، وكإحدى النتائج الرئيسيّة للماديّة الجدليّة. لذلك نراها تركّز في أهميّة العامل الاقتصاديّ في الوجود الإنسانيّ (لأنّ ما يعرِّف بالإنسان عمليّاً هو ما ينتجه من أدوات كينونته)، وتؤكّد أنّ ما يميِّز التاريخ هو الصراع الطبقيّ، الناجم أيضاً عن العلاقات الاقتصاديّة بين البشر. لكن يبقى أنّ هذه البنية التحتيّة الاقتصاديّة لا تعيِّن تعييناً ميكانيكيّاً تطوّرَ البُنى الفوقيّة: فبالعكس، يجب التفكّر في تفاعلها المتبادل، وذلك على الرغم من بقاء العامل الاقتصاديّ هو العامل الحاسم في نهاية الأمر[1].

الاتّجاه الثّاني: وهو الاتّجاه التوفيقيّ الذي اعترف بطرفَيْ المشكلة التي استشكلها، لكنّه أقصى الطرف الثاني وهو الدِّين من ميدان المعرفة البشريّة، وربطه بالوجدان القلبيّ المجرّد من معنى العقل والتعقُّل.

وقد بلّور هذا الاتّجاه الموقف العامّ للفكر الغربيّ المعاصر من الدِّين والوحي. فقد أصبح مفهوم الدِّين عند الغربيّين مثل مفهوم الأدب والفنّ القائم على معايير ذاتيّة ترفض إقامة البراهين العقليّة على صِدْقها، ويستحيل الإقناع بصِدْقها إقناعاً عقليّاً.

(41)

وقد ذهب إلى هذا الاتّجاه، كثيرٌ من الفلاسفة الغربيّين على اختلاف اتّجاهاتهم الفلسفيّة، فمنهم على سبيل المثال[1]، باسكال، وإيمانويل كانت (عمانوئيل كانط) وبرتراند رسـل، وجورج سنتيانا.

إذاً، يتّضحُ ممّا تقدّم أنّ هناكَ مراحلَ وأدواراً عدّة عبر التاريخ الإنسانيّ مرّتْ بها الفكرة الماديّة بتطوّرات عديدة مختلفة، حيث كانَ هناك فلاسفة تبنّوا الماديّة منهجاً حتّى في فترة ما قبل الميلاد (من دون أن يظهر هذا التبني كخط معرفي معياري رصين)، وتابعهم على هذا المنوال والخط، فلاسفةٌ محدثون ومعاصرون. وقد تميّزت الماديّة القديمة عن المعاصرة والحديثة من حيث إنّ الفلاسفة القدماء كانوا يفسّرون الوجود الخارجيّ تفسيراً ماديّاً مطلقاً كانطباع من الحواسّ الماديّة. فالأشياء لها وجود خارجيّ مستقلّ عن إدراكنا لها، أو إنّ إدراكنا للأشياء لا يؤسّس وجودها بأيّة حال، ومن ثَمّ فقد فُسِّرت الموجودات كلّها بالمادّة.. وأمّا الفلاسفة الماديّون في العصر الوسيط فقد قالوا بوجود علم فيزيائيّ أو وجود علم ميكانيكيّ تحديداً يدرس انتقال الأجسام في المكان، ووجود ديناميّة كونيّة للعلم الرياضيّ الذي أصبح نموذجاً للمعرفة أيضاً بالنسبة لكلّ العلوم بدءاً من هذه المرحلة.. وأمّا الفلاسفة المحدّثون فقد حاولوا إيجادَ رابطٍ بين الأشياء وبين إدراكنا لها ليخرجوا بنتيجة مُفادها: أنّنا لا ندرك سوى المحسوسات، وأنّ التجربة العقليّة هي أساس معرفتنا، وأنّ المحسوسَ هو الحقيقة، بما يعني أنّهم لمْ يجعلوا للعالم الخارجيّ وجوداً مُسْتقلّاً عن إدراكنا.

(42)

أسبابُ (وظروف) نشوء «الماديّة»، وأهمّ المنظّرين لها

لمْ تأتِ فكرةُ «الماديّة» -كأيّ فكرة تفتّق عنها الذهن أو العقل البشريّ- من فراغ، أو من إرهاصات ذاتيّة ومقدمات أوليّة، بل كانت لها ظروفُ نشأةٍ، ومناخاتُ تفجّرٍ، ودوافعُ نفسيّةٌ وماديّةٌ مجتمعيّةٌ وفكريّةٌ وتاريخيّةٌ أنتجتها تلك التفاعلات والسجالات مع المحيط الطبيعيّ والبشريّ، حتّى تحوّلت إلى فكرةٍ معياريّةٍ قائمة بذاتها، ومشروعٍ أيديولوجيّ وفكرة خلاصيّة تماميّة لدى أتباعها وأصحابها ومريديها خلال مراحل زمنيّة طويلة.

وقد قلنا سابقاً إنّ هذه الفكرة بدأتْ منذ أنْ بدأ العقلُ البشريّ يحتكّ ويتفاعل وبالتالي يفكّر ويتأمّل ويستنتج، محاولاً إيجاد إجابات ما (واضحة أو حتّى ضبابيّة قليلاً) عن كمّ كبير من الأسئلة المتراكمة في ذهنه التي أثارتها طبيعة وجوده الخاصّ والعامّ. وقد جاءت الإجابات ـ في حالاتٍ كثيرة منها ـ على شكل نصوص دينيّة ما ورائيّة، وهذا ما نجده من خلال ما وصلنا من آثار قديمة، أو ما كشفته التنقيبات الأثريّة من عادات وطقوس دينيّة للشعوب والحضارات البشريّة التي كان الدينُ فيها المحور الرئيس الذي يدير حياة الناس ويمحور وجودهم الذّاتيّ والموضوعيّ. 

هذه النقاشات والأفكار والإجابات والتّراكمات الفكريّة عبر مراحل التاريخ حولَ قضايا الوجود والإنسان والحياة ـ التي كانت تُطرح وتقدّم من خلال الكهنة ورموز الدين في تلك الأزمان ـ تعطينا فكرة عن أنّ تفكير الإنسان القديم كان ـ إلى حدود كبيرة- تفكيراً خياليّاً أسطوريّاً قائماً على ما أسماه «اليونانيّون» بـ«الميتوس»، كما كان تفكيراً شاعريّاً يعتمد على الخيال والمجاز الإحيائيّ.. ولكن في

(43)

العصور اللاحقة جاء تفسير تلك الظواهر بصيغ قريبة من العقل أو عقليّة تعتمد على البرهان الذهنيّ والمنطق الاستدلاليّ و«اللوغوس» في فهم الوجود وتفسيره.

طبعاً نحنُ في بحثِنا هنا عن دوافع نشأة الفكر المادّيّ، وأسباب وظروف تفجّر الماديّة كمنهج ونظريّة «للمعرفة» في التاريخ البشريّ، يجب أنْ نشير إلى نقطة مهمّة وحيويّة على الصعيد المنهجيّ والبحثيّ، وهي أنّ الخطّ العامّ للمسيرة التصاعديّة البشريّة منذ فجر الخليقة كان خطّاً مؤمناً بالدين وبوجود إله أو بوجود قوّة مدبّرة للكون والحياة، فيما يعبّر عن الحالة الطّبيعيّة للفطرة البشريّة التي هي الإيمان بالإله أو بالله كخالق وواجب الوجود وعلّة الخلق، في حين أنّ الإيمان بالمادّة كان هو الحالة الطّارئة، أو السّياق الاستثنائيّ في حركة التاريخ البشريّ.. وهذا ما أشار إليه الشهيد الشيخ مرتضى مطهري(رض) (أحد أبرز مفكّري المدرسة التجديديّة الحديثة في تاريخ الفكر الإسلاميّ الحديث ومن نخبها) في بحثه المهمّ حول «الماديّة»[1]، مؤكّداً أنّ التساؤلَ عن الدوافع نحو الماديّة يفترض أنّ التّصوّر عن الطبيعة الإنسانيّة هي طبيعة موحّدة، وأنّ المادّيّة هي خلاف الطبع والقاعدة الإنسانيّة. فيكون الاعتقاد بالله تعالى هو ما يمثّل صحّة الإنسان وسلامته فى حين أنّ الاتّجاه الماديّ هو الحالة المرضيّة المنحرفة عن الصّحّة، وبالتّالي فإنّ الطّبيعيّ أنْ يبحثَ الإنسان عن علل الانحراف والمرض دون البحث عن علل السلامة، لأنّها توافق السير الطبيعيّ لنظام الخلقة.. وهذا ما يخالف النظريّات المطروحة في علم (تاريخ الأديان) الذي يبحث فيه الباحثون عن

(44)

علل الاتّجاه الدينيّ، وهو ما لا نرى فيه مجالاً للتساؤل، لأنّه الأمر الذي تدفع إليه الفطرة الإنسانيّة، وإنّما ينبغي البحث عن سرّ الاتّجاه اللادينيّ عند بعض الناس (الاتّجاه الماديّ).. على أنّه يجب الالتفات إلى أنّه مع الادّعاء بفطريّة الدين، إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ الدين عندما يطرح على الصعيد الفلسفيّ والعلميّ فإنّ التساؤلات والإشكاليّات والشكوك لن تُثار حوله، وأنّ مسألة الدين وإنْ كانت تؤيّدها الغريزة الفطريّة (وهي الفطرة التوحيديّة، أي الصفة الوجوديّة المميّزة لنوع الإنسان التي لها المكانة الخاصّة بين سائر الصفات الإنسانيّة من الفكر والإرادة، والاستعدادات المتقابلة)، إلّا أنّ هذه الإشكالات والشبهات ينبغى أن يُرَدّ عليها بحلول من المستوى نفسه، وهي تعتبر أمراً طبيعيَّ الحصول إذا كانت دافعةً للتحقيق والبحث والدّقة، لأنّ الشكَّ فى هذه الحالة سيكونُ مقدّمةَ اليقين والاطمئنان، وإنّما يذمُّ الشكّ الذى يتحوّل إلى وسواس هدّام وشاغل للإنسان فكراً وعملاً. ولذلك فإنّ هذا البحث يوجّه إلى من لجأوا إلى الشكّ كملجأ أخير، كما نعتقد أنّ الماديّة وإنِ ادّعتْ لنفسها مذهباً قاطعاً وجازماً، وأنّ للمعرفة قيمتها الحقيقيّة عندها، إلّا أنّها فى الواقع هي من مذاهب الشكّ، وهو مقصد نفسه الآية الكريمة: ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إنّ  يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً(النجم: 28).

إنّ البحثَ الجدّيّ في تحديدِ أسباب نشوء فكرة «الماديّة» -التي هي أساساً نوعُ من الشكّ واللا يقين في البحث عن المعنى والغاية- متعدّد الاتّجاهات والدوافع، وله قنوات وانطباعات شتّى.. فهناك من يؤمن بالمادّة تقليداً وعادة أو عرفاً، وهناك من يؤمن بها عن حالةِ قناعةٍ فكريّة أو قناعة فلسفية وعلميّة، وهناك من اندفع للإيمان

(45)

بها كردّ فعل على واقع دينيّ رثّ ومتخلّف يحمّله مسؤوليّة الفشل الحضاريّ لمجتمع أو أمّة.. وووإلخ.. ولكنّنا هنا سنحاول تركيز البحث في هذه النقطة فكريّاً وعقليّاً وفلسفيّاً نبتعدُ بموجبه عن الذاتيّ لندخل في صُلب الموضوعيّ قدر المستطاع[1].. والموضوعيّ هنا هو دراسة السبب المعرفيّ بعيداً عن النتيجة والغاية المبتغاة، والتي هي نقد الفكرة الماديّة كفكرة دخيلة على الفطرة الإنسانيّة.

انطلاقاً ممّا تقدّم أعلاه، يمكنُ تقسيم أسباب نشوء الماديّة (أو أسباب ترك الدين) ودوافعها، والاتّجاه نحو تبنّي الفكر الماديّ، إلى عدّة أقسام، مع ملاحظة أنّ عواملَ النشوء تتداخل والدوافع الذاتيّة والموضوعيّة تتشابك بعضها مع بعض:

القسم الأول- أسباب فكريّة بدوافع دينيّة:

الواضح من دراسة تاريخ الفكرة والفلسفة الماديّة، أنّ كثيراً من المفكّرين الماديّين لهم موقف فكريّ حقيقيّ من موضوع الدين كإشكاليّة معرفيّة قارّة، حيث لم يتمكّنوا ـ بحكم ما توفّر بين أيديهم من اطّلاعات ومعارف نظريّة واجتهادات فكريّة ـ من حسم المسألة الدينيّة في وعيهم، لناحية الاقتناع من عدمه، خصوصاً مع تفجُّر كمّ كبير من الأسئلة والاستفسارات «المنطقيّة ظاهريّاً وغير المتماسكة بنيويّاً» حول موضوع الدين ذاته، تثار في وجه الفكر الدينيّ وعلمائه ونخبه المفكّرة، كشكوك وشبهات لم يتمكّن (رموز الدين ذاتهم) ربّما من الردّ عليها منطقيّاً وعقلانيّاً، أو إيجاد حلول لها، لتكون دافعة للعلماء ومحرّضة للعقول على بذل مزيد من الجهود في

(46)

البحث والتمحيص والتحقيق والتدقيق. وفي اعتقادي أنّ الّذي أسهم (ويسهم) بصورة أكبر في تركيز الشكّ وتوسُّع مَديات الفكر والوعي المادّيّ لدى الماديّين الفكريّين ـ إذا صحّ التعبير ـ هو وجود عدد كبير من رجالات الدين ـ من كلّ الأديان والمذاهب والانتماءات الدينيّة ـ قدّموا (ويقدّمون) الدين بأبشع الصفات والممارسات، ويفسّرون النصوص الدينيّة بطريقة أسطوريّة خرافيّة، بل ويسهبون في شرح معطيات الدين بطرائق متخلفة (ساذجة) لا يمكنُ إنّ  يتقبّلها عقلُ طفل، بعيدة عن معنى الغائيّة والحكمة والعلم، وغير مقبولة في عالم اليوم، عالم القدرات الذاتيّة المفتوحة، والتواصل الواسع اللا محدود، والعلم المتجذّر، والمكاشفة والحداثة العقليّة والتقنيّة، يعني أنّهم يقفون ما ليس لهم به علم كما تقول الآية: ﴿وما لهم به من علم إنْ يتّبعون إلّا الظنّ وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً(النور: 88).
بمعنى إنّ  طرائقَ (وأساليب) عرض الدين ـ الذي كانَ متنُه بسيطاً، ثمّ أضحت حاشيته ضخمة جدّاً نتيجة الشرح والتعديل والتفسير والتأويل ـ كانت (في كثير من معانيها وأساليبها وأدواتها حتّى رموزها) خاطئة في الصميم، في الفكر والسلوك والدعوة والشرح.. ويزداد الموضوع تعقيداً مع تفتُّح الوعي البشريّ، ونضجِ الحياةِ الإنسانيّة، وتوسّع التفاعلات الحضاريّة والفكريّة والفلسفيّة، وتطوّرات الحضارات البشريّة بعد فتوحات العقل والعلم الحديث. فما كانَ مقبولاً بالتسليم (وتحييد التفكير العقليّ)، لن يكون مقبولاً حتّى مع توافر كثير من الشروحات والأدلّة والتأويلات العقليّة والمحاكمات المنطقيّة.

(47)

أصلاً لا يجب إنّ  يؤاخذ الإنسان على ما يسأله ويستشكل حوله، ويستفسر عنه حتّى لو بلغ مداه حدّ إثارة الريبة والشكّ واللا يقين في مواضيع الوجود والماهيّة وأصل الخلق والإله، لأنّه (كمخلوق بشريّ أودع الله فيه العقل كأمانة) مفطورٌ على البحثِ والمعرفة وحبّ السؤال والاستطلاع، وهذا من أهمّ دوافع اكتشاف وسائل عيشه واستقراره الحضاريّ والمجتمعيّ. أي إنّ الإنسان الشّاكّ بأيّ شيء، والسائل عن أيّ شيء حتّى عن الدين والخالق وأفعاله وصفاته، وطبيعة وجوده وووإلخ، يجب أن لا يتهمّ أو يلام، بل يلام من يواجهه ـ وهم كثيرون في مجتمعنا الدينيّ ـ بأجوبة خرافيّة غير منطقيّة بعيدة روح الحبث ومعايير المحاكمات العقلانيّة والمنطقيّة.. ويلام أيضاً من يعطي تصوّرات (طوطميّة سحريّة خرافيّة) غير ذات معنى عن السؤال الدّينيّ، أيّاً كانت نوعيّته، كما كانت تفعل الكنيسة ورجالاتها، وكما كان يفعل أيضاً ـ وما زال يفعل ـ كثير من فقهاء الإسلام الوعظيّين الإخباريّين. حتّى إنّ الإسلام نفسه حمّل مسؤوليّة من يدعون إلى الله، أن تكون دعوتهم مقرونة بالحكمة والمسؤوليّة والموعظة الحسنة، والحكمة هنا تعني التوازن والوعي، ووضع الأمور في نصابها وموازينها العادلة الصحيحة.. بحيث يتمكّنون من الإجابة عن الأسئلة الاستطلاعيّة والتأمليّة الأساسيّة لأيّ إنسان يتأمّل ويبحث ويدقّق ويشكّ.

وهل الدّين غير السّؤال والبحث عن المعنى الوجوديّ والطبيعيّ؟.. فالدّين لا يقفل عقولَ الناسِ على السؤال، على عكس ذلك، دعا الإسلامُ ـ كرسالة هداية وتأمّل عقليّ ـ الإنسانَ إلى أنْ يشكّ في كلّ شيء، بحثاً عن الحقّ والحقيقة، حتّى إنّه لم (ولا)

(48)

يؤاخذ الإنسان الشاكّ في وجود الله تعالى، وفي الرسول والرسالة، ما دام هدفَه وغايته الوصول إلى الحقيقة والنتائج الحاسمة، وليس الشكّ لغاية الشكّ.

القسم الثاني- أسباب موضوعيّة بدوافع معرفيّة (استطلاعيّة):

يريدُ الإنسانُ (أيّ إنسان) أن يبحث عن معنى لوجوده، وعن غايه له، وهو لا يستطيعُ العيش من دون «روحنة» هذا الوجود وعقلنته ووعيه. وحيثُ إنّ الأسئلة تتّسع وتزدادُ مع تقدّم حياته العمليّة فكراً وعقلاً، فقد يجد إجابات ما في الدين، أو في غيره. قد يتقبّل إجابات الدين عمّا نسمّيه بــ»أسئلة الخلْق الأولى» (من أنا؟! ما هي الروح؟! من أينَ جئتُ؟! وإلى أينَ المسير؟! وما الغاية من وجودي؟! ما الموت؟! ماذا بعد الموت؟!.. ووو..إلخ)..

وعندما يعجزُ الدينُ ـ أيّ دينٍ ـ عن تقديمِ إجابات شافية وكافية ومنطقيّة على تلك الأسئلة التأمليّة الكثيرة، ترضي فضول الإنسان، وتلبّي حاجته الداخليّة في بحثه عن استقرار المعنى في عمق روحه المتفجّرة بأسئلة شتّى، فقد يبحث (بل سيبحث) هذا الإنسان عن مواقع أخرى قد يجد عندها، غذاءه الفكريّ، وما يسدّ ثغراته المعرفيّة خصوصاً مع وجود القابليّة والاستعداد الذاتيّ، وتوفّر مُناخات خارجيّة تحرّض وتثير. ومن هذه العوامل التي نعتقد أنّه كان له دور كبير في اتّباع المنهج الماديّ أو اللاديني، هو التّأثّر السلبيّ بالدِّين الكنسيّ أو بالمفهوم الكنسيّ للدين، والذي أقامت الكنيسة أصوله على الخصومة بين الدِّين والعقل عن سوء (أو عن حسن) نيّة (وغالباً عن حسن نيّة)، ويشهد لذلك التاريخ الكنسيّ الأسود ـ

(49)

إذا صحّ التعبير ـ في حربه الشعواء وظلمه الفادح للعلم والعلماء، ولكلّ من تجرّأ على الإشارة بشيء من التفكير المنطقيّ لمسلَّمة من مسلّمات الكنيسة الدينيّة القروسطيّة.. فالمقالات الفكريّة التي كانت تدعو إلى فصل الدِّين عن العقل، جاءت بمجملها ردّ فعل على تخلُّف الفكر الكنسيّ وابتذالاته، وانحداره الحضيضيّ ـ إذا جاز التعبير- إلى أدنى المستويات المجتمعيّة إسفافاً وتفاهةً، فقد صادر هذا الفكر المنحطّ العقلَ البشريّ في تلك الفترة، واحتكرَ مجالات المعرفة، وأقامَ اعتقاداته وقناعاته على تفكيك الوحي عن العقل، حتّى أصبحت كلمة «الدِّين» ـ بسبب هذا الشؤم الكنسيّ ـ في عصور الغرب الحديثة تعني: عداوة كلّ تفكير. لكنّ فلاسفة الغرب المعادين والمهمّشين للدِّين وقعوا في خطأ منهجيّ فادح، وذلك بتعميمهم الموقف الكنسيّ على كلّ الأديان الأخرى، وهم لم يتأمّلوا ولم يخبروا من الأديان إلّا النصرانيّة، ولم يعرفوا الدِّين النصرانيّ إلّا من رجال الكنيسة[1].

وهكذا بقي رجالات الكنيسة (الكهنة ومجمل الأكليروس الكنسيّ التقليديّ المعروف) المصدرَ الوحيدَ للمعرفةِ لمراحلَ زمنيّة طويلة، امتدّت قروناً منذ بدايات القرن الخامس الميلاديّ حتّى نهايات القرن الرابع عشر الميلاديّ. 

وخلال هذه الفترة الطويلة الممتدّة في الزمن الغابر المحكوم من قبل رجال الكنيسة، انغلقت الأفكار، وتجمّدت الرؤى، وتكلّست المعارف والرؤى الكنسيّة، وظلّت المفاهيم التي يتحرّك

(50)

الناس على أساسها بعيدة عن نور الشمس، والهواء الطلق، وتفتح الحياة في تسارع مستجدّاتها وتطوّراتها الهائلة، فمسيرة العقل البشريّ تتقدّم، والكنيسة بآرائها ومفاهيمها بقيت جامدة مسجونة على مقولات عفا عليها الزّمن، ولمْ تستطع مواكبة تلك التطوّرات الهائلة، فكان من الطبيعيّ أن تُكسر القيود ويفِرّ النّاس من معتقلات القداسة الكنسيّة المزيّفة، لتلبية حاجتهم ومتطلّبات وجودهم عن غير طريق الكنيسة، مستجيبين في ذلك لنداء العقل والتّفكير الحرّ الذي بدأ يتحرّك بقوّة لبناء معايير صحيحة للاجتماع البشريّ بعيدة عن الكنيسة (والدين عموماً) التي أساء رجالاتها للدين ما يمكن أن نطلق عليه الإساءة الكبرى، عندما دفعوا الناس ـ حتّى من من أتباعهم والدائرين في فلكه ـ لترك الدّين، والانطلاق لتنظيم حياتهم ومنهجتها على أسس ومعايير أخرى جديدة غير دينيّة.. ولنا أن نتخيّل حجم الضغوط غير المسبوقة التي ظلّتْ تمارسها الكنيسة القروسطيّة حوالَى تسعة قرون من الزمن على (رعاياها) ومجتمعاتها التي كانت مملوكة لها، بما دفع الناس للسير عكس نداء فطرتها التي تميل لعالم الكمال المطلق..!!. وازداد الوضع تردّياً مع إعطاء طابع معرفيّ فلسفيّ (علميّ) للفكرة الماديّة خاصّة في القرن التاسع عشر مع اتّساع نطاق الحداثة العلميّة وظهور الآثار الإيجابيّة للعقلانيّة الوضعيّة العلميّة في حياة الناس والمجتمعات الغربيّة، فكان ظهور الماديّة كمدرسة معرفيّة، بما قطع علاقة الإنسان بالحقيقة المطلقة، وأطلق العنان للمادّة واختيار العلم بدلاً عن الدين..

وهذا يعطينا فكرة عن أمرين، أولّهما، حجم الدمار النفسيّ والفكريّ

(51)

الذي تسبّب به استبداد الكنيسة في تاريخها الطويل، وثانيهما، مسؤولّيتها عن إخراج الماديّة في أوروبا من حيّز الكمون التساؤليّ وإثارة السؤال، إلى حيّز المفهوم والطرح الفكريّ (والرؤية المعرفيّة الصلبة والمتماسكة نظريّاً)، وتمهيد الطريق أمام تحوّل «الماديّة» إلى مدرسة معرفيّة يتبعها الكثيرون. وهذا البعد المعرفيّ أو «الابستمولوجيّ» في تمتين الصلة بالمادّة والفكر المادّيّ، يأتي على خلفية أنّ التفسير المادّيّ للظواهر سهل (كما يقول عبد الوهاب المسيري) [1]، ويمكن الحصول بشكل سريع على المعلومات عن العالم المادّيّ وقياسها ومعلوماتها، والتّرابط المادّيّ بينَ الظّواهر أمر يمكنُ رصده بشكل موضوعيّ محسوس وحركة المادّة نتيجتها مباشرة. 

(52)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

أهمّ المنظِّرين للمادّة

 والفلسفة المادّيّة

 

(53)

يَقع كثير من الأخطاء الفكريّة في تقدير قناعات الفلاسفة ومعتقداتهم الفكرية ومعرفتهم، خاصّة على صعيد التصنيف الثنائيّ المعروف، ماديّ (ملحد بالله)، أو مؤمن (معتقد بالله). وقد أفرزتْ لنا عصور التنوير كثيراً من الفلاسفة العقلانيّين ممّن اعتُبروا ماديّين، مع أنّهم لم يكونوا ملحدين، والمشكلة هنا كانت تنبع من اعتبار إيمان هؤلاء مثل إيمان باقي أفراد الشعب أو الجماهير. فكثير من هؤلاء (مثل فولتير وروسو وكانط وديدرو) كانوا مؤمنين بوجود إله (قوّة عاقلة تتحكّم بالكون والحياة والوجود) ولكنّ قناعاتهم لم تكن قناعات بسيطة ساذجة، بل أسّسوها على العقل والتفكير والتأمّل وإثارة الأسئلة الباحثة عن إجابات عقلانيّة رصينة. كانوا –على عكس العامّة- يعبدون إلهاً فوقيّاً (مفارقاً) متعالياً وغير معروف، إلهاً مفرغاً من الشحنة الإيمانيّة اللاهوتيّة التقليديّة المعروفة لدى النسُّاك والكهنة وعموم الناس. حيث كان هؤلاء الناس (والأصوليّون تحديداً منهم) يؤمنون بإله قريب تجسّد عندهم في المسيح.

ولكن برغم ذلك فقد لمعتْ أسماء كثيرة في عالم الفكر المادّيّ، يمكن توثيقهم فيما يلي بحسب سيرورتهم الزمنيّة منذ فجر الحضارة الإغريقيّة إلى عصرنا هذا، مع ملاحظة أنّنا وضعنا معياراً لمن سيجري تدوينه أو توثيقه تحت صفة «منظّر»، وهو أن يكون له شأنٌ فكريّ حيويّ وأثر منتج فلسفيّ معياريّ رصين في البناء المعرفيّ والمنهجيّ الماديّ:

(54)

1 - طاليس (624-546) ق.م:

هو طاليس الملطيّ، فيلسوف ماديّ. وعالم فلك ورياضيّ وحكيم يونانيّ. ومن أوائل الفلاسفة في التاريخ الذين آمنوا بالمعاينة والمشاهدة الماديّة. أي إنّه أعطى القيمة الكبرى (في نظريّة المعرفة) للتجربة من خلال ملاحظاته المتعدّدة واستنتاجاته النظريّة.

اكتشف عدداً من النظريّات الهندسيّة. رفضَ الأخذ بالخرافات والأساطير، وهو أحد الحكماء السبعة الذين اشتهروا في العصر اليونانيّ كما جاء في كلّ المؤلّفات التي تحدّثت عن سيرته ومناقبه وإبداعاته الفكريّة والعلميّة.

كان طاليس (أبو الفلسفة كلّها) فلكيّاً، وقد أدهش «ملاطيا» عندما ذكر لهم أن الشمس والكواكب (التي ينبغي عليهم أن لا يعبدوها كآلهة) ليست سوى كرات من النار[1].. وقد اتّفق مؤرّخو الفكر الفلسفيّ على اعتبار طاليس أوّل فيلسوف في تاريخ الإنسانيّة.

انتقل طاليس بالفكر الإنسانيّ من المرحلة الأسطوريّة إلى مرحلة التفكير العقلانيّ المنظّم (من الميتوس إلى اللوغوس). تعلّم الهندسة من خلال زيارته لمصر وبابل، واشترك مع قومه في قتال الفرس.

صاغ تصوّراً فلسفيّاً شاملاً عن الكون، لا يخلو من بقايا أسطوريّة قديمة، وصلَ من خلاله إلى تحديدٍ أوليّ في معرفة الوجود، ردّ فيه الموجودات إلى الماء، فاعتبره الجوهر الأوحد في الكون، منه تتولّد الأشياء وتعيش عليه. كما وحّد طاليس بين الآلهة، أو على الأقلّ،

(55)

جعل زيوس فوق الآلهة جميعاً، فالعالم مملوء بالآلهة، على حدّ تعبير طاليس، والله هدف المادّة الحية[1].

يقول الفيلسوف الألمانيّ نيتشه عن طاليس: «إنّ طاليس أوّل فيلسوف في التاريخ لأنّه قال بثلاث حقائق:

1-حديثه عن أصل الأشياء أو عن الأصل الذي تصدر عنه جميع الأشياء.

2-كان كلام طاليس عن هذا الأصل خالياً من الأساطير.

3-قوله: إنّ كلّ الأشياء تساوي الواحد، وإن لم يكن هذا واضحاً في كلامه.

كما حاول تحديد الأفلاك السماويّة بالنسبة للأرض، فجعل النجوم أقربها إلى الأرض، ثمّ القمر وبعده الشمس[2].

2 - هيراقليطيس (540 -480)ق.م:

فيلسوف «طبيعيّ ـ ماديّ» إغريقيّ، وُلد في عصر ما قبل سقراط. لقب بالفيلسوف الباكي، لأنّه كتب بأسلوب غامض ويغلب عليه طابع حزين. تأثّر بأفكاره بعض الفلاسفة اليونان الذين جاؤوا بعده، كسقراط وأفلاطون وأرسطو. من أبرز أفكاره أنّه يقول بالحركة الدائمة (التغيّر الدائم) وعدم الثبات، وأنّ كلّ شيء في حالة سيلان دائم، وأنّ النار هي الجوهر الأوّل، ومنها نشأ الكون. وضع كتاباً وحيداً، لم يصلنا منه غير شذرات. ولا يعرف المؤرّخون عن حياته إلاّ القليل[3].

(56)

التزم هيراقليطس بفكرة التغيّر الوجوديّ والحياتيّ، في حين انساق أسلافه من الفلاسفة السابقين وراء نظريّة الثبات في هذا الوجود، معتبراً أنّ فكرة الثبات بحدّ ذاتها، وهم، وهي لا تمثل شيئاً من ذلك، ولا ينبغي لأحد أن يرغب في وجود عالم راكد. فحيثما تكن هناك حياة فإنّها تحيا على تدمير شيء آخر. فالنار تحيا بموت الهواء، والهواء يحيا بموت النار؛ والماء يحيا بموت الأرض، والأرض تحيا بموت الماء[1]. أيّ إنّ كلّ شيء ضدّه ويحتويه كما يقول هيراقليطس. لأنّ كلّ شيء حين يتغيّر، يتغيّر من ضدّ إلى ضدّ، فلا بدّ له إذاً من أن يكون حائزاً قبلاً الشيء الآخر لكي يمكن هذا التغيّر أن يحدث[2].

3- أنكساغوراس (500-428)ق.م:

كان اهتمام كلّ الفلاسفة الذي جاؤوا قبل سقراط –ومنهم الفيلسوف أنكساغوراس- منصبّاً على فهم أصل العالم والوجود والحياة، ومحاولة فهم تركيبها، وماهيّة المبدأ والأصل (أي العلّة). كما برز أيضاً في فكرهم حجج أساسيّة حول التمييز بين الوحدة والكثرة، إضافة إلى إمكانيّةِ التغييرِ[3].

انطلق الفيلسوف «أنكساغوراس» من فكرة تحليل العقل والجزئيّات للوصول إلى المبادئ في سياق رفضه لفكرة التغيير

(57)

المطلق. ويعد كتاب أنكساغوراس «في الطبيعة» من أهمّ ما تركه هذا الفيلسوف اليونانيّ. وقد أشار أفلاطون لهذا الكتاب في محاورة الدفاع. إذْ فسّر فيه الاختلاف والذرّات من خلال علّة غير ماديّة، وهذه العلّة هي ما سمّاها أنكساغوراس العقل[1].

4- ديموقريطس «ديمقريطس» (460-370)ق.م:

فيلسوف يونانيّ. كانَ غنيّاً ومحبّاً للسفر. اهتمّ بعلم الفلك والرياضيّات، وتعلّمها من علماء مصر. كان ديموقريطس أحد فلاسفة الطبيعة الأوائل الذين حاولوا إعادة الكون إلى جوهر واحد أو مبدأ واحد، فهو يفسّر عمليّة الكون والفساد تبعاً لنظريّته الذريّة. وبرأيه أنّه باتّحاد الذرّات ينشأ الكون[2]، وبافتراقها يفسُد ويزول. ألّف الفيلسوف الذرّيّ ديمقريطس، كثيراً من الكتب، تحدّث في بعضها عن الأخلاق، وفي بعضها الآخر عن  العلم الطبيعيّ، وألّف في الطبيعة والرياضيّات والأدب[3].

اعتقد ديمقريطس بأنّ الأرض دائرية، وأنّ الكون ليس أكثر من ذرّات دقيقة في حالة فوضى، ومن ثمّ أخذت تتصادم بعضها ببعض، فتلتقي وتتجمّع معاً في صورة كبيرة. وهذا التصوّر الميكانيكيّ للذرّات يشمل الأرض وكلّ شيء. آمن ديموقريطس بوجود عوالم

(58)

عديدة، منها ما هو في حالة نموّ، ومنها ما اندثر وتلاشى، ومنها دون شمس أو قمر، وبعضها له شموس وأقمار عديدة، وأنَّ كلّ العوالم لها بداية ونهاية. كما يرى أنّ العوالم ممكن أن تتعرّض للدمار، وذلك من خلال اصطدام بعضها ببعض[1].

5- أبيقور»إبيقور» (341-270)ق.م:

حكيم وفيلسوف ماديّ «إلحاديّ» يونانيّ، وصاحب مدرسة فلسفيّة سمّيت باسمه (الفلسفة الإبيقوريّة)، تقوم على نهائيّة الطبيعة والمادّة. عاش في فترة العصر الهيلينيّ. كتب حوالَى ثلاثمائة منجز، لم يصلنا منهم إلّا بعض الأجزاء والرسائل، ومعظم ما وصلنا من هذه الفلسفة (الإبيقوريّة) مستمدّ من التابعين لها، وبعض المؤرّخين، ومن أهمّها رسالته إلى «هيرودوت» في الطبيعيّات، ورسالة موجّهة إِلى «فيتوكليس» في الآثار العلويّة، ورسالة موجّهة إِلى «ميناقايوس» في الأخلاق؛ ومئة وإِحدى وعشرون فكرةً هي ملخّص المذهب. وقد لخّص كتاب التاريخُ الفلسفيّ، الفلسفةَ الإبيقوريّة في ثمانية مفاهيم، هي: لا تخف من الآلهة- لا تخف من الموت- لا تخف من الألم-عش ببساطة-ابحث عن المتعة بحكمة- اعقد صداقات وابحث عن أصدقاء وكن حسن المعاملة لأصدقائك-كن مخلصاً في حياتك وعملك- ابتعد عن الشهرة والطموح السياسيّ[2].

طبعاً كان «أبيقور» ينكر تدخُّل الآلهة في شؤون العالم، وينطلق من الاعتراف بخلود المادّة، التي تملك مصدراً داخليّاً للحركة. وقد

(59)

أحيا أبيقور المذهب الذرّيّ عند ليوكيبوس وديمقريطس مضيفاً تغييراته الخاصّة. فقد أدخل فكرة ‹الانحرافات» الآنيّة (المشروطة بظروف داخليّة) للذرّات عن مسارها، لكي يفسّر إمكان تصادم الذرّات المتحرّكة في الفضاء الحاوي بسرعة متساوية. وهذا هو أساس نظرة أعمق للتداخل بين الضرورة والصدفة، وخطوة للأمام مقارنةً بالحتميّة الآليّة عند ديمقريطس.. وأبيقور حسّيّ في نظريّة المعرفة، فالأحاسيس صادقة بذاتها لأنّها تنطلق من الواقع الموضوعيّ: أمّا الأخطاء فتنشأ عن تفسير الأحاسيس، وليست عن الأحاسيس الماديّة التي لا تخطئ أبداً بنظر أبيقور[1].

كان أبيقور يعتبر أنّ آيةً الفلسفة هي الوصول إلى الحياةِ السّعيدة والمطمئنة، وهذه الحياة المطمئنة السعيدة والرغيدة لها خاصّتان أو ميزتان وعنوانان هما: «Ataraxia»، وتعني الطمأنينة، والسلام، والتخلّص من الخوف، و«Aponia» وتعني غياب الألم، والاكتفاء الذاتيّ محاطاً بالأصدقاء. كان يقول: «إنّ السعادة والألم هما مقياس الخير والشرّ، وإنّ الموت هو نهاية الجسد والروح، ولهذا لا ينبغي أن نرهبه، وإنّ الآلهة لا تكافئ أو تعاقب البشر، وإنّ الكون لا نهائيّ وأبديّ، وأنّ أحداث الكون تعتمد بالأساس على حركات وتفاعلات الذرّات في الفراغ»[2].

(60)

6- فرانسيس بيكون (1561-1626)م: 

فيلسوف إنكليزيّ، آمن بالمنهج الحسّيّ التّجريبيّ، وبناء عليه قاد ثورةً علميّةً عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على معايير المنهج الحسّيّ. وكان يقول -ردّاً على تعاليم وعلوم القرون الوسطى الكتبية (النّصّية) التي وقف ضدّها- أنّه «يجب إنّ  ندرسَ العلم في كتاب الطبيعة الكبير»[1]. وهو كتاب لا يدرس ولا يقرأ بحسب بيكون إلّا باعتماد «الملاحظة والتجربة»، الملاحظة بالعين وأدوت المشاهَدة، والتجريب بالمختبرات والقوانين العلميّة.

كان بيكون يؤكّد أنّ الإنسان هو الموكَّل بالطبيعة والمفسّر لها، وهو بهذه الصفة لا يملك أن يفعل أو يفهم إلّا بالقدر الذي تتيحه له ملاحظته التي قام بها لنظام الطبيعة، سواء كان ذلك في الواقع أو الفكر. وليس بوسعه أن يعرف أو يعمل أكثر من ذلك[2]. وهذه الملاحظة هي أساس معرفة هذا الإنسان. إنّها معرفة تُحصّل ـ كما سَلَفَ القَول ـ بالتجربة الحسّيّة (وبالنظرة العينيّة المادّيّة للأمور) التي تعملُ على إثرائها بالملاحظات الدقيقة والتجارب العمليّة في المختبرات، ثمّ يأتي دور استخراج النتائج منها بحذر وعلى مهل، ولا يكفي عدد قليل من الملاحظات لإصدار الأحكام، كما لا يكفي دراسة الأمثلة المتشابهة، بل تجبُ دراسة الشواذّ من الأمور الجوهريّة في الوصول إلى قانون عامّ موثوق به.

كما انتقدَ بيكون المنطقَ القياسيّ الأرسطيّ كاشفاً عن عجزه

(61)

ولا جدوائيّته، ومؤمناً بالقدرة اللا نهائيّة للعلم الماديّ وقوانينه على كشف الحجب، وتحسين حياة البشر.

7- باروخ أو بنديكت سبينورزا (1632-1677)م:

فيلسوف هولنديّ من فلاسفة القرن السابع عشر الذي اتّسعت فيه فلسفة العقل والعقليّين. كان يعتقد بأنّه لا يوجد في الكون سوى حقيقة واحدة خالدة، وهي عبارة عن قانون عامّ شامل لا ينقص ولا يزيد. هذه الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن أن يعبّر عن نفسه، ويفصح عن حقيقته، إلاّ بواسطة الأجسام الماديّة، فاتّخذ من تلك المادّة التي تملأ جوانب الكون، قوالب وأشكالاً لكي يبرز عن طريقها إلى عالم الواقع المحسوس. والمعرفة عند «سبينوزا» هي الإدراك الصحيح، ولذلك فهو يبدأ بالبحث في أنواع الإدراك وهي تتمثّل في أربعة[1]: 

الإدراك الشائع.

الإدراك النابع من الخبرة.

الإدراك الذي يرجع إلى معرفتي أنّ شيئاً ما ينتج من شيءٍ آخر لكن دون معرفة السبب.

الإدراك النابع من معرفة الأشياء انطلاقاً من ماهيّتها.

فرّق سبينوزا بين الجوهر أو الوجود غير المشروط وعالم الأشياء أو الأحوال النهائيّة الفرديّة وكلاهما جسمانيّ ومفكّر. إنّ الجوهر واحد في حين أنّ الأحوال متعدّدة إلى ما لا نهاية. والعقل اللانهائيّ

(62)

يستطيع أن يدرك الجوهر اللانهائيّ في جميع أشكاله ومظاهره. غير أنّ العقل الإنسانيّ النهائيّ لا يدرك ماهيّة الجوهر كشيء لانهائيّ إلّا في مظهرين: كـ«امتداد»، وكـ«فكر». وهاتان صفتان ملازمتان للجوهر. وتعاليم سبينوزا فيما يتعلّق بصفات الجوهر ماديّة على وجه العموم، غير أنّها ميتافيزيقيّة نظراً لأنّه لا يعدّ الحركة صفة من صفات الجوهر. وكان لسبينوزا تأثير قويّ في ماديّة القرنين السابع عشر والثامن عشر الميتافيزيقيّة، وأثّر تفكيره الحرّ الدينيّ في تطور الإلحاد. وقد أثنى أنجلز ثناءً كبيراً على آراء سبينوزا الفلسفيّة، فكتب: «إن أكبرَ ثقةٍ في فلسفة العصر أنّها ـ ابتداءً من سبينوزا إلى الماديّين الفرنسيّين العظام- قد أكّدت تفسير العالم من العالم نفسه، وتركت تأويل التفاصيل للعلم الطبيعيّ في المستقبل»[1].

مؤلّفاته الرئيسيّة:

-البحث اللاهوتيّ السياسيّ.

-علم الأخلاق.

8 - تشارلز روبرت داروين (1809-1882)م:

عالم تاريخ طبيعيّ وجيولوجيّ بريطانيّ. نشأ في عائلة علميّة. يُعدّ من أشهر علماء علم الأحياء. ألّف عدّة كتب في ما يخصّ هذا الميدان، لكنّ نظريّته الشهيرة واجهت انتقادات حادّة، خاصّة من جانب رجال الدين في جميع أنحاء العالم. اكتسب داروين شهرته كمؤسّس لنظريّة التطوّر المعروفة، والتي تنصّ على أنّ كلّ الكائنات

(63)

الحيّة ـ على مرّ الزمان ـ تنحدر من أسلاف مشتركة. وقام باقتراح نظريّة تتضمّن أنّ هذه الأنماط المتفرّعة من عمليّة التطوّر ناتجة من عمليّة وصفها بالانتقاء (الانتخاب) الطبيعيّ، وكذلك الصراع من أجل البقاء له تأثير الاختيار الصناعي المساهم في التكاثر الانتقائيّ للكائنات الحيّة نفسه.

اعتمد داروين على ما كتبه لامارك في كتابه «فلسفة الحيوان» سنة 1809م، الذي بيّن فيه تأثير الظروف المحيطة ـ وما ينجم عنها من آثار ـ في إحداث انحرافات عن الطريق المعتاد للطبيعة. كما اعتمد على تشارلز ليل في كتابه «مبادئ الجيولوجيا» سنة 1833م. اعتمد داروين (دارون) على الكتابين، وراح يقوم بالتجارب العديدة، ويسجّل المشاهدات الدقيقة عن أحوال الحيوان والنبات في مختلف المناطق التي زارها ممّا أدّى به إلى الأخذ بفكرة «التحوّل» البطيء في أنواع الحيوان والنبات[1]. حيث أقام في كتابه «أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعيّ (أو حفظ الأجناس المنفصلة في الصراع من أجل الحياة 1859م)، أقام القضايا الأساسيّة لنظريّة التطوّر.

وبعدما نشر داروين كتابه عن «أصل الأنواع» اهتزّ العالم القديم ورجال الدين الأفاضل اهتزازاً كبيراً، حيث لم يكن هذا الكتاب مجرّد عرض لفكرة غامضة عن تطوّر الأنواع العليا من أنواع سفلى، ولكنّه جاء مفصّلاً وحافلاً بالأدلّة عن حقيقة عمليّة التطوّر بواسطة الانتخاب الطبيعيّ أو بقاء الأجناس المفضّلة في تنازع البقاء[2].

ويمكن القول إنّ ما توصّل إليه داروين من أفكار تطوّريّة،

(64)

جعلته يرفض المثاليّة واللاهوت الدينيّ التقليديّ السائد، ليتحوّل إلى الفكرة الطبيعيّة، وينهج طريق الإلحاد. وربّما أسهمت أعمله وتحقيقاته العلميّة ـ وتأسيسه للعلم الطبيعيّ ـ في التمهيد لظهور الماديّة الجدليّة.

9- جون ستيوارت ميل (1803-1873)م:

فيلسوفٌ ومنطقيٌ واقتصاديّ إنجليزيّ، من دعاةِ الوضعيّة ومذهب المنفعة. كانَ في الفلسفة من أتباع هيوم وبركلي وكونت. بحث في الماديّة والمثاليّة على أنّهما قطبان «ميتافيزيقيّان»، فاعتبر المادّة قوة دائمة للإحساس، بينما الروح قوّة دائمة للشعور. وذهب إلى أنّ الأشياء لا توجد خارج إدراكها الحسّيّ. إنّما يدرك الإنسان «ظواهر» (إحساسات) فحسب، ولا يمكنه أنّ يتجاوزها. وفي المنطق كان ميل نموذجاً للداعين للنزعة الاستقرائيّة الخالصة. فقد أنكر الاستنباط كمنهج لاكتساب معرفة جديدة، وبالغ بدور الاستقراء. وقد طوّر ميل منهج البحث الاستقرائيّ في الروابط السببيّة (حيث وضع له لوائح وقوانين تضبط إجراءه حتّى يؤدّي إلى المعرفة العلميّة، وهذه القوانين أو اللوائح هي: منهج الاتّفاق-منهج الافتراق ـ منهج التّغيّرات المساوقة ـ المنهج المشترك «للاتّفاق والافتراق» ـ منهج البواقي). وفي علم الأخلاق تأثر «ميل» بالمذهب النفعيّ عند «بنتام». وفي الاقتصاد السياسيّ استعاض عن نظريّة القيمة عند ريكاردو بالنظريّة الساذجة عن الثمن والتكاليف؛ كما دافع عن نظريّة مالتوس في السكان[1].

(65)

مؤلّفاته الرئيسيّة:

-نظام المنطق (1843)م. 

-مبادئ الاقتصاد السياسيّ (مجلدان) (1848)م.

-مذهب المنفعة (1864)م.

-وربّما يكون كتابه حول «أسس الليبراليّة السياسيّة»[1]، من أهمّ المؤلّفات التي كتبها. ويحتوي الكتاب على وجهات نظر وآراء الفيلسوف «ستيوارت مل» فيما يخصّ نظريّة المنفعة والحريّة. حيث توضح أطروحته (نظريّة المنفعة) خصائص الكتابة عنده. فالمبدأ الذي يتعلّق بمعنى المنفعة، هو قضية تعبّر عن موقف «بنتام» العمليّ في أنّ العقيدة التي تأخذ المنفعة كأساس للأخلاق
 ـ أو أعظم قدر من السعادة ـ ترى أنّ الأفعال تكون صواباً بقدر ما تزيد السعادة، وتكون خاطئة بقدر ما تنتج ما هو عكس السعادة، وهذا ما تدافع عنه أطروحته في نظريّة المنفعة.

وفي هذا القسم من الكتاب وُضع مبدأ بالغ الأهميّة لنظريّة مل السياسيّة، وهو الاعتقاد بأنّ «المنفعة» هي المعيار الأوّل لجميع القيم.

أمّا أطروحته عن الحريّة فهي تأكيد بليغ لمبدأ هو أحد الأسس الحقيقيّة للسعادة الاجتماعيّة. ويظهر هنا تعاطف مل واحترام لشخصيّة الآخرين، فالحريّة ليست مجرّد تعبير سلبيّ، بل هي مثل أعلى إيجابيّ. والمواطن الذي ينشأ في جوّ من الحريّة، ويحترم الآخرين، يتقبل الآراء المخالفة والمناوئة لمعتقداته، وهذا المواطن هو القادر على أن يحيا حياة إنسانيّة رفيعة.

(66)

10- لودفيغ فيورباخ (1804-1872)م:

فيلسوف وعالم اجتماع ألمانيّ ماديّ. درس اللاهوت، وقدّم دروساً حول تاريخ الكنيسة التي اعتبرها لاحقاً مجرّد سفسطة فتوقّف عن الحضور إليها. انتقل لدراسة الفلسفة في برلين، حيث أخذ عن هيغل وشلايرماخر ومارهنك، ونال شهادة الدكتوراه من جامعة «ارلانغن». عاش في إحدى قرى بافاريا وانشغل بالكتابة، واهتمّ أيضاً بمواضيع تتّصل بالنقد الدينيّ، كانت منطلقاً لكتابه حول جوهر المسيحيّة. وكانت كتاباته كلّها تأكيداً لاهتماماته الدينيّة التي لازمته طوال حياته والتي وضعته في مرتبة أعلى من معظم الفلاسفة المحدثين كما يتّضح من كتاباته عن الإنجيل وعن رعاة الكنيسة وخاصّة مارتن لوثر. ولم يتعمّق أحد من فلاسفة عصره في الوضع الحاليّ للدين بالفاعليّة نفسها كما تعمّق فيه فيورباخ؛ فهو ضمن القلّة الذين تحدّثوا أو كتبوا عن الدين بأسلوب راقٍ. ورأى فيه إبرازاً للحاجة الإنسانيّة وتعبيراً عن حزن الروح. وانتهج فرويد فيما بعد هذا النهج والفكر وطوّره[1].

تطوّرت آراء فيورباخ حول الموقف من الدين من أفكار الهيغليّين الشبان إلى الماديّة. وقد أثّر إعلانه الماديّة ودفاعه عنها تأثيراً عظيماً على معاصريه. وكتب أنجلز عن أثَرِ كتاباته: «كانت الحماسة عامّة وصرنا جميعاً فيورباخيّين دفعة واحدة»[2]. وكان المذهب الطبيعيّ في دراسة الإنسان سمة مميّزة لماديّة فيورباخ التي كانت نتيجة

(67)

للظروف التاريخيّة في ألمانيا ما قبل الثورة، وكانت تعبّر عن المثل العليا للديمقراطيّة البورجوازيّة الثوريّة.

أكّد «فيورباخ» الرابطة بين المثاليّة والدين. وانتقدَ بشكلٍ حادّ الطبيعة المثاليّة للجدل الهيغليّ. وقد فتح هذا الطريق إلى الاستفادة من المضمون العقليّ للفلسفة الهيغليّة، وساعد في هذا الصّدد على تشكيل الماركسيّة. ولكنّ فيورباخ نفسه في الحقيقة قد نحا جانباً ببساطة فلسفة هيغل، لهذا أخفق في أن يلاحظ إنجازها الأساسيّ، وهو الجدل. وقد كانَ المضمون الأساسيّ لفلسفة فيورباخ إعلان الماديّة والدفاع عنها.

وهنا تبدّى المذهب الطبيعيّ في دراسة الإنسان في مشكلة جوهر الانسان ومكانته في العالم، حيث يوجد في مكان الصدارة. ولكنّ فيورباخ لم يتابع السير على خطّ ماديّ متماسك في هذه المسألة لأنّه كان يعتبر الانسان فرداً مجرّداً، ككائن بيولوجيّ بحت. وفي نظريّة المعرفة طبّق فيورباخ تطبيقاً متماسكاً التجريبيّة والحسّيّة. وكان يعارض اللاأدرية معارضة حازمة. ولم ينكر في الوقت نفسه أهميّة الفكر في المعرفة، وحاول أن يتناول الموضوع في علاقته بنشاط الذات، وأعلن بعض الافتراضات بشأن الطبيعة الاجتماعيّة للمعرفة والوعي الإنسانيّين[1].

اعتبر فيورباخ أنّ الدّينَ مقترنٌ بالرؤية (أو النظرة) المحدودة، والكسل، والاسترخاء وانعدام القدرة على الإبداع. يقول في كتابه

(68)

«جوهر الدين»[1]: كلّما كانت رؤية الإنسان محدودة، وكلّما جهل بالتاريخ والطبيعة والفلسفة، ارتبط أكثر بدينه. ولهذا السبب فإنّ الإنسان المتديّن لا يشعر بحاجة إلى الثقافة. لماذا لم يكن لدى اليهود فنّ أو علمٌ، مثلما كان لدى اليونان؟ لأنّهم لم يشعروا بأيّ حاجة لهذه الأشياء. فبالنسبة إليهم فإنّ هذه الحاجة كان يشبعها إلههم يهوة. في الإله كلي العلم يرفع الإنسان نفسه خارج حدود معرفته؛ وفي الإله كليّ الحضور، يرفع نفسه خارج حدود نقطة ارتكازه المحلّيّة؛ وفي الإله الخالد يرفع نفسه خارج حدود زمانه. إنّ الإنسان المتديّن سعيد في مخيّلته، فلديه كلّ شيء ضمنيّا، وكلّ ممتلكاته محمولة، في خياله.

مؤلّفاته الرئيسيّة:

- في نقد الفلسفة الهيغليّة (1939)م.

-جوهر المسيحيّة (1841)م. 

-الموضوعات الجارية لإصلاح الفلسفة (1842)م.  

-أسّس فلسفة المستقبل (1843)م.

11- ماركس (1818-1883)م:

فيلسوف واقتصاديّ ومفكّر ماديّ ألمانيّ، ذاع صيته بحكم أنّه كان أوّل من وضع المباني الفكريّة والفلسفيّة للفلسفة الماديّة الماركسيّة.

(69)

انحدر ماركس من أسرة يهوديّة، تحوّلت إلى البروتستانيّة. امتهن الصحافة وبرع في علم الاجتماع، وكان مؤرّخاً ومؤسّساً للاشتراكيّة الثوريّة في العالم. ويعد من أبرز مؤسّسي منهج الفكر الماديّ، والشيوعيّة العلميّة، وفلسفة الماديّة الجدليّة، والماديّة التاريخيّة، والاقتصاد السياسيّ العلميّ، وزعيم (معلّم) البروليتاريا العالميّة.

تأثّر ماركس بقوّة ـ خلال مراحل دراسته وحياته الجامعيّة- بالفلسفة الهيغليّة (نسبة إلى الفيلسوف المثاليّ الألمانيّ جورج فريدريش هيغل)، وهي الموجة أو الموضة الفكريّة التي كانت سائدة آنذاك في أروقة الفكر والثقافة الغربيّة. ثمّ اشتغل بالصحافة، وبعدها سافر إلى باريس، وتعرّف عن قرب إلى أفكار كبار الاشتراكيّين الفرنسيّين كسان سيمون وشارل فورييه، وغيرهما. وهناك في باريس قابل من سيصبح رفيق دربه ونظيره الفكريّ والسياسيّ، الفيلسوف فريدرش إنجلز الذي كان أبوه يملك مصانع في ألمانيا ومانشستر. وكان انجلز يدير المصنع الأخير، ممّا أتاح له أن يُطلع ماركس على مشكلات العمل والصناعة في إنجلترا. وقد نشر ماركس «البيان الشيوعيّ» عشيّة ثورة 1848م، وشارك بنشاط في الثورة، في فرنسا وألمانيا[1].

ويمكن القول هنا إنّ فكر ماركس ووعيه المعرفيّ الفلسفيّ تشكّل بفعل عدّة مؤثّرات، منها ارتباطه بالراديكاليّين الفلسفيّين، والمذهب الهيجليّ المثاليّ حيث كان الأمر المهمّ عنده هنا هو النسق الكليّ لا الفرد. أي النسق أو النظام الاقتصاديّ الذي هو ما ينبغي التصديّ له لا الشرور أو الأضرار الجزئيّة. كذلك كان هيجل هو الأصل الذي

(70)

استمدت منه نظرة ماركس التاريخية إلى التطور الاجتماعي. فهذه النظرة التطورية ترتبط بالجدل (الديالكتيك) الذي اقتبسه ماركس بلا تغيير عن هيغل. وبناءً عليه، استعاض ماركس عن الروح (الحامل الفكريّ عند هيغل) بأساليب الإنتاج، وعن المطلق بالمجتمع اللا طبقي. أيّ إنّه صاغ عدّة أدوات نظريّة وتحليليّة، وجملة من المفاهيم في إطار نقده للمجتمع الرأسماليّ الذي عاش فيه، ودعوته إلى الثورة البروليتاريّة بُغية التحوّل إلى الإشتراكيّة، وسعيه إلى تأكيد أنّ هذا التحوّل حتميّة تاريخيّة إضافة إلى كونه ضرورة. كما وظّف مفهوم الجدل والماديّة الجدليّة لكي يقدّم تصوّراً ماديّاً للتاريخ الإنسانيّ بعيداً عن الدين ومعناه الروحيّ والعمليّ، وشرح مفهوم الاغتراب (الاستلاب) الاقتصاديّ، الذي يؤدّي بدوره إلى اغتراب اجتماعيّ وسياسيّ للإنسان وفقاً لأطروحته. وسُمّي هذا التصوّر الفكريّ الذي توصّل إليه ماركس مع رفيقه أنجلز بالماركسيّة، وهي صفة أطلقها عليه خصومه (وليس أتباعه) من أنصار باكونين، لمّا دبّ النزاع بين الفريقين.

لقد حلّل ماركس الدين أو الظاهرة الدينيّة انطلاقاً من نقد فيورباخ للدين، وكان يقول إنّ الدين لا يعيش في السماء بل على الأرض، وهذا المنطلق جعل ماركس يتخطّى نقد الدين في حدّ ذاته، ويتوصّل بسرعة إلى نقد المجتمع والظروف الاجتماعيّة والسياسيّة، ويعنى بتعرية الصلات المعقّدة بين الظروف الاجتماعيّة والأفكار الدينيّة لعصر معيّن[1].

يقول: «الدين هو تأوّهات المخلوق المضطهد وسعادته المتخيّلة

(71)

لرسم روح عالم بلا روح وقلب عالم بلا قلب. ونقد الدين هو نقد هذا الوادي من الدموع المليئ بالزهور الخياليّة، والذي يمثّل الدين الهالة الضوئيّة التي تحيط به. ونقد الدين يقتطف هذه الورود الخياليّة التي يراها المضطهد في القيد (الجنزير) الذي يكبّله، ولكن لا يفعل النقد ذلك ليحرم الرجل المضطهد من سعادته برؤية الزهور الخياليّة، وإنّما يفعل ذلك ليمكّن الانسان من التخلّص من القيد (السلسال) الذي يكبّله حتّى يستطيع الحركة بحريّة ليقتطف الزهور الحقيقيّة»[1].

وعلى الرغم من أنّ نظريّة كارل ماركس عُرفتْ ونُوقشتْ في روسيا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فنادراً ما نجد استعمال لفظ «ماركسيّة» للدلالة على مذهبه وآرائه. ولا نجد اللفظ في كتابات بليخانوف الذي صار ماركسيّاً بعد أن كان شعبيّاً، بل يقول مثلاً: «الجزء الفلسفيّ التاريخيّ من مذهب ماركس». وإنّما بدأ يظهر استعمال اللفظ «ماركسيّة»؛ في كتابات الروس خلال التسعينيّات من القرن التاسع عشر(1890 وما يليها)[2].

ألّف ماركس العديد من الكتب، منها: «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسيّ»، «نظريّات فائض القيّمة»، «بيان الحزب الشيوعيّ»، «بؤس الفلسفة»، «الأيديولوجيا الألمانيّة»، «أطروحات حول فيورباخ»، و»المسألة اليهوديّة»، و»حول الدين» بالاشتراك مع أنجلز.

12- نيتشه (1844-1900)م:

فيلسوف ألمانيّ، كانت حياته مليئة بالتقلّبات الفكريّة والعمليّة. وهو صاحب فلسفة القوّة. وبرغم إيمانه بمبدأ القوّة، فقد وصفه

(72)

برتراندرسل بأنّه امتلك نزعة إنسانيّة أرستقراطيّة بالمعنى الحرفيّ للكلمة. حيثُ كانَ أول ما يحرص على تأكيده هو علوّ الإنسان الأفضل، أي الأوفر صحّة والأقوى شخصيّة. وأدّى هذا بنيتشه إلى إبداء الاهتمام بالصلابة في مواجهة البؤس. حيث يمكن القول إنّ أعماله عموماً مستوحاة في المحلّ الأوّل من المثل العليا اليونانيّة في عصر ما قبل سقراط، وخصوصاً في إسبرطة، وقد استحدث في كتابه الأوّل «ميلاد التراجيديا»(1872)، التمييز المشهور بين الحالتين الأبولونيّة والديونيزيّة للروح اليونانيّة[1].

وبرغم وصفه بالإنسانيّة، كان نيتشه ماديّاً ملحداً، بل تمادى في نزعته الإلحاديّة، وقرّر أنّ الإنسان في لحظةِ تعاسة من حياته اخترع خرافةً أسماها (الله)، وظلَّ منذ ذلك الحين مكبّلاً بقصّة من خلقه هو، إلّا أنّه ليس من إله غير الإنسان لو وأتته الشجاعة على أن يعرف قدره. ولذلك أعلن في كتابه «هكذا تكلَّم زرادشت» موتَ الإله، إذ يقول: «جميع الآلهة قد ماتت، أو بأنّ الله قد مات»[2]. وعنده أنّ العبوديّة تخصّ «جوهر الثقافة»، على حين أنّ الاستغلال «يرتبط بجوهر كلّ شيء حيّ». أعاد نيتشه تقدير مبادىء الأيديولوجيّة البورجوازيّة الليبراليّة ومعاييرها الفلسفيّة العقلانيّة، وعلم الأخلاق التقليديّ، والدين المسيحيّ. واعتبر أنّ هذه المسائل إنّما تضعف إرادة الصراع، وأنّها غير قادرة على سحق الحركة الثوريّة الصاعدة. واقترح صراحة أن تحلّ محلّها المبادىء اللا إنسانيّة وغير الديمقراطيّة.

ميّز نيتشه تمييزاً صارماً بين الأيديولوجيا المخصّصة لتغذية روح

(73)

الخنوع بين الشعب العامل «أخلاق العبيد»، والأيديولوجيا التي ترمي إلى تربية «فريق من السادة»، «أخلاق السادة». ودافع عن هذه النزعة الفرديّة الجامحة في القانون والاخلاق. وفلسفة نيتشه هي فلسفة الإراديّة، حيث عارض إرادة الفعل. واعتبر «الصراع من أجل الوجود» (الذي كبر وتضخّم فأصبح «إرادة القوة») القوّة الدافعة الكليّة للتطوّر. وقد وضع نيتشه أسطورة «العود الأبديّ لجميع الأشياء» مقابل النظريّة العلميّة للتّقدّم.

وفي السياق نفسه، كان نيتشه يعتبر أنّ الغاية من الإنسانيّة هي خلق الإنسان الأعلى. ومن أجل هذا كان لا بدّ للقيم الجديدة التي نضعها من أن تكون عاملة على إيجاد هذا النوع، مهيّئة لظهوره[1].

أعماله الرئيسيّة:

-ميلاد التراجيديا(1872)

-هكذا تكلّم زرادشت(1883)

-فيما وراء الخير والشرّ(1886)

13- برتراند رسل (1872-1970)م:

فيلسوف وعالم منطق ورياضيّ ومؤرّخ وناقد اجتماعيّ بريطانيّ، أعلن رفضه للدين، ومشى في طريق الإلحاد والماديّة انطلاقاً من رؤيته العلميّة والتشكيكيّة. كان «راسل» ـ في مراحل مختلفة من حياته ـ ليبراليّاً واشتراكيّاً وداعية سلام، إلّا أّنه أقرّ أنّه لم يكن أيّاً من هؤلاء بالمعنى العميق. آمن بالفلسفة التحليلة، وامتاز بغزارة الإنتاج وخاصّة في مجالات الميتافيزيقيا والمنطق وفلسفة الرياضيّات

(74)

وفلسفة اللغة والقيم ونظريّة المعرفة. تُوفّي «راسل» عن عمر ناهز سبعة وتسعين عاماً[1].

14- أنطونيو غرامشي (1897-1937)م:

 منظّر ماركسيّ ومؤسّس الحزب الشيوعيّ الإيطالي. لعب غرامشي دوراً بارزاً في كشف النزعة الآليّة والأساس الأيديولوجيّ لما تسمّيه العقيدة الماركسيّة بــــ«الانحراف اليمينيّ». وقد انتشرت كتاباته لدى بعض الأحزاب الشيوعيّة في أوروبا خلال العقد الثاني من القرن العشرين.

دخل غرامشي السجن، وكتب هناك أغلب تأمّلاته وفلسفته وافكاره الناضجة، ونشرت فيما بعد تحت عنوان «دفاتر السجن الأولى» و«دفاتر السجن الثانية».. ولعلّ أبرز ما ورد فيها نظرته للمجتمع الإيطاليّ، وتفكيره في النظريّة الماركسيّة وعوامل التغيير للواقع، وأحكامه في الأدب والنقد وتربية الأجيال.

درس غرامشي مشكلات الماديّة التاريخيّة، وشغف بعلم الجمال، وعلم الاجتماع، وتاريخ الفلسفة.. وكان لدراسته في تاريخ الثقافة الإيطاليّة ونقده للكاثوليكيّة أهميّة كبيرة. وكانت له رؤيته النقديّة لواقع المثقّفين حيث ميّز بين المثقّفين من الناحية الوظيفيّة، وقسّمهم إلى جماعتين: فهناك أولاً المثقّفون المحترفون «التقليديّون» «traditional-intelellectuals» كالأدباء، والعلماء، وغيرهم، ممّن تحيط بهم هالة من الحياد بين الطبقات، تخفي وضعهم الحقيقيّ الناشئ في النهاية عن علاقاتهم الطبقيّة السابقة

(75)

والراهنة، كما تخفي تعلّقهم بالتكوينات الطبقيّة التاريخيّة المختلفة. وهناك ثانياً المثقّفون «العضويّون» «organic-intelellectuals» ذلك العنصر المفكّر والمنظّم في طبقة اجتماعيّة أساسيّة معيّنة. ولا يتميّز هؤلاء المثقّفون العضويّون بمهنهم، التي قد تكون أيّة وظيفة تتميّز بها الطبقة التي ينتمون إليها، بقدر ما يتميّزون بوظيفتهم في توجيه أفكار وتطلّعات الطبقة التي ينتمون إليها عضويّاً[1]. وقناعته هذه جاءت على خلفيّة القناعات الصلبة للحزب الثوريّ الذي هو وحده القادر على تكوين تلك الطبقة الجديدة من المثقّفين العضويّين المرتبطين بهموم الناس وقضايا العمال والفلّاحين. وهم الذين يمكن أن يشكّلوا هيمنة بديلة عن الهيمنة الرأسماليّة. ومن هنا نستطيع القول إنّ غرامشي هو الوحيد الذي اعتقد بأهميّة المثقّفين ودورهم في التغيير، إذ كان يؤمن بأنّهم قادرون على صنع المعجزات، إذا ما التزموا بقضية الشعب الأساسيّة التزاماً عضويّاً وحيويّاً. يقول غرامشي: «إنّ البورجوازيّة تخشاهم، وتعرف أنّ نفوذهم كبير، ولذلك تحاول أن تشتريهم بأيّ شكل»[2].

15- جان بول سارتر (1905-1980)م:

فيلسوف وكاتب فرنسيّ. وهو داعية لما يسمّى بـ«الوجوديّة المُلحدة». تشكّلت آراؤه تحت تأثير هوسرل وهايدغر، كما يوجد ارتباط وثيق بين فلسفته ومذهب «كيركغارد»، بجانب أنّ مذهب

(76)

فرويد في التحليل النفسيّ كان له تأثير كبير فيه أيضاً. كان يؤكد حالة العبثيّة واللا معنى والطريق الإلحاديّ، وهنا يقول: «كلّ موجود، وُجد بلا مبرر، ويستمرّ في الحياة من خلال الضعف، ويستمرّ عن طريق المصادفة»[1].

إذاً تتميّز فلسفته بنزعتها العبثيّة المتمركزة في الإنسان وحده والذاتيّة، فهو يتصوّر الإنسان على أنّه «كائن لذاته»، منه تشتقّ أشكال الوجود مثل «الوجود في ذاته» (أي العالم الموضوعيّ) والمكان والزمان، والكمّ والكيف، ولما كان العالم الموضوعيّ لا عقلانيّاً ومحدّداً فهو عكس النشاط الإنسانيّ الذي هو حرّ ولا يعتمد على القوانين الموضوعيّة. ومثل هذا المفهوم للحريّة (وجوهره قائم على مبدأ «الإنسان هو ما يصنعه بنفسه») يشتمل على فلسفة الأخلاق السارتريّة. ويبذل سارتر في عديد من مؤلّفاته جهوداً ضائعة لإثبات صحّة الوجوديّة مستعيناً في هذا بالفلسفة الماركسيّة. وكانَ سارتر من بين صفوف حركة المقاومة الفرنسيّة خلال الحرب العالميّة الثانية، وهو يشنّ نضالاً مُثمراً ضدّ إحياء الفاشيّة ومن أجل السلام، كما أنّه عضو مجلس السلام العالميّ[2].

من أهمّ مؤلّفاته:

الوجود والعدم (1943)م.

الوجوديّة نزعة إنسانيّة (1947)م.

نقد العقل الجدليّ (1960)م.

(77)

16 -ألبير كامو (1913-1960)م:

فيلسوف وكاتب فرنسيّ، وممثّل للوجوديّة الملحدة. وتقوم فلسفته  ـ كما نقرأها من خلال كتبه، خاصّة كتابيه «أسطورة سيزيف» و«المتمرّد»، على فكرتين رئيسيّتين هما العبثيّة والتمرّد.

ويتّخذ كامو من أسطورة سيزيف رمزاً لوضع الإنسان في الوجود. وكامو يرى أنّ الشقاء بلا جدوى قدرٌ محتوم للإنسان عموماً. أي قُدّرت عليه (على الإنسان) الحياة بلا طائل، الأمر الذي يدفعه إلى الفرار إمّا إلى موقف شوبنهاور (حيث تكون الحياة عبثيّة بلا معنى، لا يقضى عليها إلّا بالموت الإرادي أو بالانتحار)، وإمّا إلى موقف الآخرين الشاخصين بأبصارهم إلى حياة أعلى من الحياة، وهذا هو الانتحار الفلسفيّ. ويقصد به الحركة التي ينكر بها الفكر نفسه، ويحاول أن يتجاوز نفسه في نطاق ما يؤدّي إلى نفيه، وإمّا إلى موقف التمرّد على اللا معقول في الحياة، مع بقائنا فيها غائصين في الأعماق ومعانقين للعدم، فإذا متنا متنا متمرّدين لا مستسلمين. وكما هو واضح، تشبّعت آراء كامو ـ في مجال الأخلاق ـ بالتشاؤم المتطرّف، فالإنسان عنده هو دائماً في «حالة عابثة»، ويواجهُ «مواقف عبثية» (الغيرة والطموح والأنانيّة والحسد). وأمّا التمرّد فهو ليس نزعة عبثيّة كما يراها كامو، وإنّما هي حالة تكامل للذات، حتّى لو كانت بلا معنى[1]. كما أنّه مقدّرٌ على المرء أنْ يقوم بنشاط لا معنى له ولا هدف ولا غاية. وتتجلّى في أعمال كامو النزعة الفرديّة والنزعة اللا عقلانيّة بصورة متطرّفة للغاية.

(78)

ومن أشهر أقواله: «لا أبغضُ العالم الذي أعيش فيه، ولكن أشعر بأنّني متضامنٌ مع الذين يتعذّبون فيه... إنّ مهمّتى ليستْ أنْ أغيّر العالم فأنا لم أعط من الفضائل ما يسمح لى ببلوغ هذه الغاية، ولكنّني أحاول أن أدافع عن بعض القيم التى بدونها تصبح الحياة غير جديرة بأن نحياها ويصبح الإنسان غير جدير بالاحترام»[1].

17- هيلاري بُوتنام (1926-2016)م:

فيلسوف ورياضيّ أمريكيّ، يعدّ من أهمِّ الفلاسفة المعاصرين (من ذوي النزعة العلميّة الماديّة). اهتمّ بمواضيع الرياضيّات والمنطق والفلسفة، واشتغل على فلسفات الذهن واللغة والعلوم، وفلسفة المنطق والرياضيّات. وعرف عنه جذريّته المنطقيّة، وصرامته النقديّة التي دفعته إلى ممارسة النقد لكثير من أفكاره، بل العمل على تجديدها، حتّى تغييرها.

درس «بوتنام» الرياضيّات والفلسفة في جامعات بنسلفانيا، ثمّ تابع دراسة الفلسفة في جامعة هارفارد ثمّ جامعة كاليفورنيا، وفي عام 1951 حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة والرياضيّات.

درّس بعدها مادة الرياضيّات، ثم درّس الفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا من عام 1961 إلى 1965، فـالمنطق الرياضيّاتيّ والفلسفة بجامعة هارفارد إلى حين تقاعده عام 2000. وهو عضو في جمعية الرياضيّات والفلسفة، وهي أقدم الجمعيّات الأدبيّة الأميركيّة.

رفض هذا الفيلسوف التجريبيّ الرياضيّ (الماديّ) دعوى

(79)

المُماثَلة بين الذهن والدماغ، بين الحالات الذهنيّة والحالات الدماغيّة، حيث عرض ـ في هذا الاتّجاه ـ دليلاً قائماً على قابليّة التحقٌّق المتعدّد لخصائص ما هو ذهنيّ. كما تبنّى عدّة نزعات، منها النزعة الواقعيّة، النزعة الواقعيّة الباطنيّة، وفي نهاية المطاف، تبنّى الرؤية التعدّديّة للفلسفة، فدأب على طرح الكثير من المشكلات الفلسفيّة، بوصفها لا تزيد على كونها التباسات لغويّة يخلقها الفلاسفة باستخدام لغة عاديّة خارج سياقها الأصليّ[1].

لـهيلاري بوتنام العديد من الكتب والدراسات الفلسفيّة، منها:

-فلسفة المنطق1971م.  (Philosophy of logic).

-العقل، الحقيقة والتاريخ1981م. (Reason، Truth، and History).

-الواقعيّة بوجه إنسانيّ 1990م (Realism with a Human Face).

-الفِعْلانيّة: سؤال مفتوح 1995م. Pragmatism: An Open Question))

-التنوير والفِعْلانيّة 2001 (Enlightenment and Pragmatism).

ومن المنظّرين العرب للفلسفة والفكر الماديّ:

18- شبلي شميل (1850-1917)م:

هو من رموز أعلام النهضة العربيّة التي تفجّرت خلال نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وأحد طلائعها، مع بدايات تعرُّف مجتمعاتنا العربيّة (من خلال كثير من الدارسين والمثقفين ورجال الدين) واصطدامها بالثقافة والاجتماع المدنيّ الغربيّ المتطور.

(80)

نشأ شميّل منذ بداياته الأولى على الفكر الماديّ الماركسيّ، ليكون لاحقاً أحد روّاد هذا الاتّجاه الفكريّ العلمانيّ الملحد، وربّما من أبرز دعاته وأهمّ مشاهيره الذين أسهموا في رسم المشهد الفكريّ والثقافيّ في النهضة العربيّة وتشكيله.

تخرّج شبلي شميل في الكليّة البروتستنتيّة (الجامعة الأمريكيّة) في بيروت، ثمّ توجّه إلى باريس لدراسة الطبّ، ثمّ استقرّ في مصر، أقام في الاسكندريّة، طنطا، ثمّ القاهرة.

أصدر مجلّة (الشفاء) سنة 1886م، وكان أوّل من أدخل نظريّات داروين على العالم العربيّ من خلال كتاباته في المقتطف، ثمّ مؤلّفه (فلسفة النشوء والارتقاء). كما أصدر هو و»سلامة موسى» صحيفة أسبوعيّة اسمُها «المستقبل» سنة 1914م، لكنّها أغلقت بعد ستة عشر عدداً.

دافع «شميّل» بقوّة عن نظريّة التطوّر، كأحد مباني فلسفة المادّة التي آمن بها، معتبراً أنّ المادّة وحدها أصل الكون ومنها تتكوّن كلّ الكائنات. ولم يقبل بأيّة علّة أخرى مفارقة للمادّة يعلّل بها الوجود، كما يظهر في كتابه «فلسفة النشوء والارتقاء». وكان يقول: «إنّ الموجود في الطبيعة لا يُسلّم بشيء غريب عنها، فاعل فيها أو مفعول عنها»[1].

كانَ من العلامات الأخلاقيّة المعروفة. دافع عن العلمانية كنظام سياسي، اذ كان يرى أنّ الوحدة الاجتماعيّة، ضرورة أساسيّة لتحقيق إرادة شعبيّة عامّة، تستلزم الفصل بين الدين والحياة السياسيّة على

(81)

اعتبار أنّ الدين كان عامل فرقة. والجدير ذكره هنا أنّ اعتناق شميّل للنظريّة الداروينيّة مكّنه من امتلاك منهج نقديّ سلّط من خلاله السهام على العالم الشرقيّ مستبدلا بهذا الأخير العالم الغربيّ الأوروبيّ الحديث في أيديولوجيّته الفكريّة والدينيّة والسياسيّة القائمة على العلوم[1].

من مؤلّفاته:

- «فلسفة النشوء والارتقاء».

- «مجموعة مقالات». ممّا نشره في المقتطف والهلال.

- «المعاطس». رسالة.

- تحقيق لكتاب (فصول أبقراط).

- تحقيق لكتاب (أرجوزة لابن سينا).

19- حسين مروة (1908-1987)م:

مفكّر ماركسيّ، وأحد أبرز رموز الماديّة الفكريّة العربيّة. تقلّب في قناعاته وانتماءاته الفكريّة والسياسيّة، فبعد أن بدأ رجل دين دارساً للفكر الإسلاميّ في النجف الأشرف (إحدى حواضر الفكر والفقه الإسلاميّ)، انتقل للفكر الماديّ، مؤمناً وباحثاً ومنظّراً وسياسيّاً، ليكون عضواً في اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعيّ اللبنانيّ سابقاً.

ألّف كتباً عديدة، وقد انكبّ جيلٌ واسع من الشباب العربيّ على دراسة تلك الكتب التي كان من أهمّها وأوسعها انتشاراً كتابه حول «النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة»، الذي أثار بعد

(82)

صدوره نقاشاً واسعاً وجدلاً كبيراً في مختلف أروقة الثقافة والسياسة العربيّة، وبين صفوف المثقّفين والشارع الدينيّ العربيّ والإسلاميّ.

ترأّس «مروة» تحرير مجلّة الطريق الثقافيّة من عام 1966 حتّى شباط 1987 (تاريخ اغتياله). كان عضواً في مجلس تحرير مجلّة النهج الصادرة عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكيّة في العالم العربيّ.

درس حسين مروة التاريخ العربيّة بشكل واسع، واستلّ منه حوادث واقعيّة ووقائع تاريخيّة ماديّة بهدف تأييد طرحه ورؤيته المنهجيّة القائمة على النظريّة الماديّة بشكلها الجدليّ الديالكتيكيّ، متخطّياً في هذا الوعي السلفيّ التقليديّ الساذج في فهم التاريخ ومختلف طبقات التراث الدينيّ الإسلاميّ المتراكمة عبر العصور، كما انطلق في عمليّة قياس وإسقاط على الحاضر لإخراج تلك الأحداث وإعادة إنتاجها مجدّداً بعيداً عن الصور الماورائيّة والمشهديّات الغيبيّة، بحيث تقوم على البعد التاريخيّ الماديّ، ودور الفعل والإرادة البشريّة في الفعل والإنجاز والحضور. وهذه المعرفة للتراث هي «المعرفة التي تجيئنا من الكيفيّة الواقعيّة التاريخيّة التي تكوّنت عناصر التراث في بيئتها الاجتماعيّة وفقاً لفعل القوانين التي تنظّم حركة صيرورتها، بعمليّة ليست خارج التاريخ، بل هي جوهر حركة التاريخ»[1].

استمرّ مروة في ممارسة عمله الفكريّ والسياسيّ حتّى حدث اغتياله من قبل جماعات إسلاميّة متطرّفة في عام 1987م.

(83)

من مؤلّفاته:

-النزعات الماديّة في الإسلام (ثلاثة أجزاء).

-تراثنا كيف نعرفه.

-دراسات نقديّة في ضوء المنهج الواقعيّ.

20- مهدي عامل (1936-1987)م:

اسمه الحقيقيّ حسن عبدالله حمدان. مفكّر ماركسيّ لبنانيّ. كان أحد رموز العقل الفكريّ الماديّ في عالم الثقافة العربيّة. حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ليون الفرنسية.

‎انتسب عامل إلى الحزب الشيوعيّ اللبناني منذ عام 1960م، ومارس فيه عضويّة حزبيّة وسياسيّة إلى أن انتُخِب في اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعيّ اللبنانيّ في المؤتمر الخامس للحزب عام 1987م.

وتعتبر الفترة من عام 1968 إلى عام 1976 من الفترات الفكريّة والسياسيّة الغنيّة والحيويّة في حياة المفكّر مهدي عامل، حيث بدأ فيها ممارسة مشروعه الفكريّ، وانطلق كاتباً باللغة العربيّة، في وطنه، موظّفاً تراكمه المعرفيّ في دراسة واقع بلده الاجتماعيّ دراسة علميّة، محاولاً تقديم فكر نهضويّ عربيّ قائم على العلميّة والموضوعيّة، مبتعداً عن القولبة، وتكرار المقولات والمفاهيم الجاهزة والمعلّبة. ويبدو أنّ مهدي عامل قد أدرك متأخرك ربّما، خطورة ما كان يشرّحه فكريّاً ومعرفيّاً، حيث جرت تصفيته في بيروت (عام 1987م)، بعدما درس أسباب الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وهزّ (ومسّ بقوة) ثوابت النظام الطائفيّ اللبنانيّ. ويقول عامل عن هذا النظام الطائفيّ الذي أعمل فيه النقد المعرفيّ من خلال كتابه «في

(84)

الدولة الطائفيّة» حيث يؤكّد ضَرورة التمييز في حركة التاريخ بين مجراها الموضوعيّ وأشكال الوعي الأيديولوجيّ التي فيها تتحقّق. لذا يجب التمييز، في تلك القوى الاجتماعيّة (الواعية)، بين الموقع الفعليّ الذي تحتلّه في حقل الصراع الطبقيّ، في مناهضتها الهيمنة لفاشيّة الطائفيّة، وبين الشكل الأيديولوجيّ من الوعي الذي فيه هذه الهيمنة، والذي هو، عند بعضها، شكل طائفيّ...»[1].

واشتغل عامل على تعرية النصّ من تكلُّفه التاريخيّ ورهاناته اللا موضوعيّة، معتبراً أنّ «أول فعل للنقد، هو إسقاط الحصانة عن النصّ. ليس من نصّ مقدّس، ولتكن اللعبة مكشوفة. لكنّ النصّ يراوغ، والنقد يراوغ حتّى يضع النقدُ النصّ في موقعه، في حقل الصراع الطبقيّ..»[2].

من مؤلّفاته:

-مقدّمات‎ ‎نظريّة‎ ‎لدراسة‎ ‎أثر‎ ‎الفكر‎ ‎الاشتراكيّ‎ في‎ ‎حركة‎ ‎التحرّر‎ ‎الوطنيّ.

-أزمة‎ ‎الحضارة‎ ‎العربيّة‎ ‎أم‎ أزمة‎ ‎البرجوازيّات‎ ‎العربيّة.

-‎‎النظريّة‎ ‎في‎ ‎الممارسة‎ ‎السياسيّة-بحث في أسباب الحرب الأهليّة اللبنانيّة.

-مدخلٌ‎ ‎إلى‎ ‎نقض‎ ‎الفكر‎ ‎الطائفيّ.

‎-القضية الفلسطينيّة ‎في‎ أيديولوجيا البرجوازيّة‎ ‎اللبنانيّة.

-في‎ ‎الدولة‎ ‎الطائفيّة.

-هل القلب للشرق والعقل للغرب.

(85)

21- الياس مرقص (1924-2004)م:

مفكّر ماركسيّ، من مدينة اللاذقيّة الساحليّة الواقعة شمال غرب سوريا. حصل على إجازة في العلوم البيداغوجيّة (التربويّة التعليميّة) في عام 1952م من جامعة بروكسل الحرّة. مارس الياس مرقص تعليم الفلسفة معظم عمره. وخلال خدمته العسكريّة الإلزاميّة تعرّف الياس مرقص إلى ياسين الحافظ والذي سيترك أثراً دائماً في حياة الرجلين، حيث سيتعرّف ياسين الحافظ من خلال مرقص إلى الماركسيّة. بدأت علاقة الياس مرقص بالحزب الشيوعيّ السوريّ خلال دراسته في بلجيكا، واستمرّتْ بعد عودته إلى سوريا حتّى 1956م.. حيث طُرِدَ لمطالبته بالديمقراطيّة الحزبيّة وبسبب آرائه النقديّة المتعلّقة بالماركسيّة السوفييتيّة الستالينيّة.

أسهم في إنشاء مجلّة الواقع الفصليّة، الفكريّة الثقافيّة، في بيروت 1980-1982م. وفي إنشاء الشّهريّة (مجلّة الوحدة) التي صدرتْ عن المجلس القوميّ للثقافة العربيّة في باريس 1984م. إضافةً إلى تأليفه العديد من المؤلّفات المتعلّقة بالماركسيّة العربيّة، قام بنقد الفكر القوميّ العربيّ، يضاف إليها عمله في الترجمة، حيث ترجم العديد من الكتب من الفرنسيّة إلى العربيّة مع مقدّمة مطوّلة منه، وهي التي كانت توازي في أهميّتها الكتاب المترجم نفسه.

كتب الياس مرقص الكثير في مجال اختصاصه، وقصد بالفلسفة شيئين أساسيّين:

أوّلهما، نظريّة المعرفة، بما تنطوي عليه من رفض للأيديولوجيا، خاصّة حين يعتقد بعضهم أنّها تعادل الفكر[1]. فالأيديولوجيا

(86)

الماركسيّة ليست، بوصفها كذلك، حاملة الحقّ، ولا الأيديولوجيا البورجوازيّة حاملة الباطل. وعليه، فقد قال «ليس ما ينقصنا هو الأيديولوجيا بل المنطق والمعرفة والثقافة والأخلاق، و... أيديولوجيا تحترم وتثمّن بالأساس المنطق والمعرفة والثقافة والأخلاق. الاقتصادية تتصوّر أنّ الإنسان جملة العلاقات الاجتماعيّة، هذا معناه علاقات الإنتاج، أي الطبقات، وهذا باطل. فكرة الاجتماع أكثر أساسيّة وأكثر شمولاً من فكرة الطبقات. الطبقات كفعليّة وراهنيّة وسياسيّة تسقط بسقوط فكرة الاجتماع. نظريّاً، صراع الطبقات يمكن أن يقود إلى مجتمع أرقى، ويمكن أن يقود إلى سقوط المجتمع وحسب. لا توجد حتميّة، توجد ضرورة يجب أن تُوعَّى، توجد ضرورة احتماليّة»[1].

وثانيهما، هو تصوّر للإنسان وتاريخه ومصائره، وهذا مفقود في الفكر العربيّ المعاصر، في معظم الحالات. فلئن كانت ماركسيّة ستالين وآخرين قد أعطت صورة مغلوطة عن وحدة تاريخ الإنسان، فإنّ قسماً كبيراً من الفكر العربيّ تبنى، فعليّاً وعمليّاً، موقف نفي لهذه الوحدة. إذ هناك شرق وغرب، فكرة النوع الإنسانيّ ملغاة، أي ليس لها قيمة نظريّة وتاريخيّة «من المحال والعبث والحماقة أن نخرج خارج تاريخ البشريّة، خارج مصائر الإنسان اليوم، هذا التاريخ الكونيّ لا يخرج: إمّا أن نصير ذاتاً وفاعلاً وصانعاً له وفيه، وإمّا أنْ نكون وأنْ نعود كما كنا قبل قرن مادّة وموضوعاً وسَماداً لتاريخ ننخلع عنه وينخلع عنّا»[2].

خامساً ـ  بين المادّة والروح.. مقاربة نقديّة في الذات والموضوع

(87)

تقتضي المقاربة النقديّة للمذهب الماديّ أو للفلسفة الماديّة معرفة بنية الفكرة المؤسّسة، والتأمّل في جذورها المعرفيّة، وتفكيكها إلى مادّتها الخام الأولى.

تنطلق الفلسفةُ الماديَّة في تفسير ظواهر الوجود والحياة والإنسان من نقطة مركزيّة يعتبرها أتباع هذا المنهج (حقيقة راسخة) هي أسبقيّة المادّة والطبيعة على الإنسان والروح، وأنّ كلّ ما في الوجود من مظاهر له خلفيّته الماديّة المحسوسة، فالإنسان موجودٌ مادِّيّ متجسّد، وكلّ فعاليّاته ترتكز على المعطيّات الماديّة الطبيعيّة البحتة.

وهذا الارتكاز على البعد الماديّ الطبيعيّ نجده ارتكازاً بنيويّاً أصيلاً في كلّ الفلسفات الماديّة (الماركسيّة والداروينيّة وغيرها) التي تدور في إطار المرجعيّة الكامنة خصوصاً في الغرب، وهذا المفهوم (الطبيعة) هو تعبير مهذّب يحلّ محلّ كلمة «المادّة».. وأمّا الفلسفة الماديّة فهي المذهب الفلسفيّ الذي يقبل المادّة فقط، باعتبارها الشرط الوحيد للحياة الطبيعيّة والبشريّة، ومن ثمّ فهي ترفض الإله بوصفه شرطاً من شروط الحياة، وترفض وجود وسائل للمعرفة خارج حيّز المادّة المشاهَدة والمعايَنة،  كما أنّها ترفض الإنسان نفسه، إنْ كانَ متجاوزاً للنظام «الطبيعيّ/الماديّ». ولذا فالفلسفة الماديّة تردّ كلّ شيء في العالم (الإنسان والطبيعة) إلى مبدأ ماديّ واحد هو القوّة الدافعة للمادّة والسارية في الأجسام والكامنة فيها، والتي تتخلّل في أثنائها وتضبط وجودها، فهي قوّة لا تتجزّأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروريّ والكليّ للأشياء؛ نظام ليس فوق الطبيعة وحسب، ولكنّه فوق الإنسان أيضاً.

(88)

وإن دخل عنصر آخر ماديّ على هذا المبدأ الواحد، فإنّ الفلسفة تصبح غير ماديّة[1].

طبعاً، نقدَ طروحات الفلسفة الماديّة وتفكيك مقولاتها المعرفيّة يحتاج إلى وقت طويل وصفحات أكثر، ولكنّنا هنا في هذا البحث، نبقى مؤطّرين ومقيّدين بعدد قليل من الصفحات، ولهذا سنحاول التركيز في معايير أساسيّة في بنية التفكير الماديّ الغربيّ، وخصوصاً موضوع الإدراك الماديّ، وأصل المعرفة والإدراك، هل هو ماديّ بحت أم عقليّ روحيّ؟! وهل التجربة هي الأساس في عمليّة المعرفة والتطوّر المعرفيّ، وبالتالي بأيّ قانون ماديّ هي محكومة؟ هل هي محكومة بذاتها أم بقوانين عقليّة خارجة عنها؟ وما هو دور قانون العليّة في ذلك؟ وهل هذا القانون العقليّ «البديهيّ» تجريبيّ أم هو مبدأ عقليّ لا حسّيّ وفوق تجريبيّ؟

سنركز إجابتنا ـ في سياق نقد النظريّة أو الفكرة الماديّة- على هذا المحور (قبل الانتقال لمحاور نقديّة أخرى مهمّة تتعلق بأسس الفلسفة الماديّة الأخرى المتّصلة بالبعد الاقتصاديّ ولاجتماعيّ والأخلاقيّ)، لأنّه الأساس الذي يقوم عليه مجمل البنيان الفلسفيّ الماديّ الذي يعتبر أنّ المادّة قديمة وهي علّة العلل، بل هي الحقيقة الوحيدة في هذا الكون، وأنّه لا حقيقة سواها، وهذا بلا شكّ، مصادرة على العقل والحرّيّة العقليّة، والتطوّر العقليّ، وهو نوع من التضييق على العلم، وحصر لاشتغاليّته في نطاقي الحسّ والاستقراء فقط.

(89)

المحور النقديّ الأول: ماهيّة الإدراك العقليّ عند الإنسان (النزعة العقليّة في مواجهة النزعة الحسّيّة):

احتلّ الكائنُ البشريّ الرتبةَ «النوعيّة» الأعلى، وموقع الصدارة الأوّل في درجات التطوّر الطبيعيّ، وسلّم المخلوقات وتصنيفات الكائنات الحيّة، وذلك بالنظر إلى حيازته «العقل» والمواهب الكامنة والقدرات الذاتيّة والامتيازات والطاقات النفسيّة، والقابليّات العمليّة المختزنة في داخله، والتي جعلت منه «جرماً كبيراً»[1] في عالم الكينونة والوجود، منتجاً للمعرفة، وصانعاً للأدوات، ومفجّراً للطاقات الطبيعيّة، ومحقّقاً للإبداعات الحياتيّة العمليّة.. فالإنسان يمتلك مجموعة حواسّ وإدراكات ذاتيّة وحواس طبيعيّة خُلقت معه، كالسمع والبصر والشمّ والتذوّق وغيرها، وهي حواسّ لا تختصّ بالإنسان وحده بل هي موجودة في باقي المخلوقات، ولكنّ ما يميّز الجنس البشريّ والإنسان هنا عن باقي المخلوقات، هو أنّه «مخلوق عاقل»، أنعم عليه الخالق بنعمة «العقل» (الناقد والمبدع والمجدّد)، وامْتِلاك المَقْدِرة على التفكير المنطقيّ السليم، والمحاكمات المنطقيّة، نتيجة امتلاكه لناصية اللغة التي هي وعاء التفكير، بما يعني إمكانيّة أن تكون حواسّه العضويّة مرهونة للعقل وحده، ومعايَرة بأولويّاته ومحدّداته ومختلف ضوابطه.

ولا تقتصر الموجوداتُ الذّاتيّة والقابليّات الإدراكيّة لهذا المخلوق على العقل فحسب، بل لديه أيضاً استجابات معنويّة ومشاعر وعواطف وأحاسيس يشعر من خلالها بالواقع الخارجيّ، يتفاعل معه، يتأثّر به، يميّز ويقارن، يفكّك ويركّب، يحلّل ويستنتج، ويتعقّل حركة ذاته والخارج.. أمّا الحيوانات فهي تحسّ وتستشعر

(90)

غريزيّاً فقط، ولا تفكّر أو تتعقّل حركتها الذاتيّة الداخليّة، وليست لديها معايير واستعدادات ذاتيّة مسبقة لإدراك وجودها الذاتيّ، والبيئة المحيطة بها إدراكاً عقليّاً.

إنّ حركةَ المعرفة الذاتيّة الإنسانيّة والموضوعيّة الوجوديّة، ببعديها: الذرّيّ (الخلويّ: من الخليّة) والكونيّ (المجرّاتيّ: من المجرّة)، انعقدت لمن يمتلك أدوات المعرفة ووسائلها ومعاييرها المنطقيّة وحسب، ويستخدم طاقاته وعقله ليفكّر ويتدبّر ويتأمّل ويجرّب، وهو الإنسان صاحب هذا العقل الذي تفرّد بالمعرفة وحده دون غيره من الكائنات والمخلوقات المعروفة الأخرى كما قلنا.. لأنّها معرفة مرتبطة بالتأمّل والتفكّر وإعمال حركة العقل، وحيازة معادلات المنطق السليم، وقوانين العلم وقواعده وحقائقه ونظريّاته التي اكتشفها هذا العقل... وأمّا الإحساس، أو الشعور، وإنْ كان عاملاً مشتركاً بين الإنسان‏ والحيوان، فإنّ الحيوان قد يتفوّق على الإنسان في مسألة الإحساس ببعض ظواهر الحركة العامّة في الكون، كالصوت والرؤية والشمّ وغيرها.

من هنا كانَ للعقلِ هذا الدور الحيويّ والأهميّة الوجوديّة الكبرى في حركة الإنسان والحياة، خاصّة دوره النوعيّ على مستوى تأسيس معرفة إنسانيّة شاملة حيويّة ومفيدة عن الكون والوجود والإنسان والحياة كلّها، في ما يمكن أن تعطينا -كأفراد في المجتمع البشريّ الكبير- دوافع قويّة للعمل والتطوّر، ومستلزمات أساسيّة وسبل عيش مثمرة للتحرّك الفاعل والمؤثّر والمنتج في جميع خطوط الحياة، ومواقعها، وامتداداتها الحاضرة والمستقبليّة.

وهكذا، دعا الدين (منذُ انطلاقته الأولى في حياة الإنسان) إلى ضرورة اتّباع طريق العقل، بوصْفه (أي العقل) وسيلة أساسيّة من أجل الوصول إلى المعرفة المعتبرة القيّمة المفيدة للإنسان على

(91)

طريق تكامله الماديّ والمعنويّ، التي تنطلق في أجواء الحياة المتحرّكة من خلال ضوابط هذا العقل، وأحكامه، ومعاييره، على أساس أنّه الأعظم في البراهين والنتائج والحقائق.. ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(النحل: 78)[1]. والسمع ‏والأبصار، في هذه الآية، كناية عن الإدراكات الحسيّة الماديّة، بينما الأفئدة كناية عن العقل والإدراكات الفكريّة المعنويّة الخارجة عن حدود المادّة ونطاقها، بحيث يتكامل الجانبان (الماديّ والمعنويّ) في الفعل ‏الحياتيّ لتحقيق المعرفة الغائيّة المعتبرة.

ونحن عندما قلنا إنّ طريقَ العقل سبيل أساسيّ ومعيار رئيسيّ للمعرفة (التي تُوصِلنا إلى حقيقة الإيمان) لم نقصد ترك الطرق والسبل والبراهين والإثباتات الأخرى أو إهمالها، بما فيها السّير والتطلّع في الآفاق وفي الأنفس[2]، والتّفكّر المتدبّر في الخلق والتأمّل في الوجود، لأنّ الأمر يتعلّق هنا بأهميّة الحديث عن العقل، ودوره الحيويّ في تأسيس المعرفة الإنسانيّة على مبانٍ معرفيّة راسخة ورصينة، وذلك من خلال ضرورة‏ ممارسة حركة الفكر والواقع استناداً إلى معطيات السلوك العقليّ والمعرفيّ البرهانيّ والاستدلاليّ، بقواعده المتعدّدة وأبعاده المتنوّعة.

(92)

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

المادية والعقل

(ماهية الإدراك العقلي)

(93)

ليس جديداً التطرّق لموضوع العقل، ومحاولة التعرّف إلى معناه، في الفكر الإسلاميّ، فقد كان لهذا المفهوم مجالات بحث واسعة عند المسلمين في الفلسفة وعلم الكلام وغيرهما من المعارف الفكريّة، جرى التوصّل من خلالها إلى نتائج عديدة، برزت فيها توجهات مختلفة ومتنوّعة الاتّجاهات؛ إلّا أنّ التوجّه الأكثر رواجاً، والذي يمكن القول إنّه يمثّل وجهة النظر الإسلاميّة التقليديّة المعروفة، هو ذلك الذي ينظر إلى العقل بوصفه فعلاً غريزيّاً فطريّاً "غير مكتسب"، وهو الذي يُكسِب الإنسان إنسانيّته. وهذا الفعل يُبنَى على وجود مسلّمات موجودة فيه لكونها «علماً ضروريًّاً».

واعتماداً على هذا العلم الضروريّ القائم يستطيع الإنسان بناء المعرفة التي توصف بـ"المكتسبة"؛ ممّا يعني أنّ العقل ليس مفهومًا عضويّاً فيزيولوجيّاً، وإنّما هو "فعل" وقدرة وطاقة تتطوّر بالعمل والاكتساب والتجارب المعيشة.

أمّا بنية العقل في منظورها الإسلاميّ فهي تتألّف من العلم الضروريّ والقدرة على المعالجة (التحليل والتركيب والحفظ والمقارنة).

لم ترد كلمة عقل في القرآن الكريم، بصيغتها أو بلفظها هذا (العقل)، ولكنّها وردت بعدّة ألفاظ لغويّة أخرى، منها عقلوه، تعقلون، يعقلون، نعقل، ويعقلها، اعقلها.. وهكذا. وبلغ عدد المواضع التي وردت فيها كلمة العقل في القرآن الكريم ما يقارب الخمسين موضعاً. وتشير غالبيّة تلك المواضع إلى أهميّة التمييز بين الحقّ والباطل، وضرورة إدراك الحقّ الباطل، على

(94)

حقيقتيهما، وذلك خلال الدعوة العقليّة إلى التدبّر في الكون والخلق، والتأمّل في الوجود، والتفكير في ملكوت السماء والأرض، ومخلوقات الله الأخرى، يقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون(البقرة: 242). ﴿والنجومُ مسخّراتٌ بأمره*إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون(النحل: 12).

وإذا أخذنا مرادفات العقل الأخرى، التي أُشير إليها سابقاً، فإننّا نجد القرآن، قد تناولها بصيغ أخرى من قبيل: يتفكّرون، يتدبّرون، والحكمة. وهذه بلا شكّ تؤكد الحاجة إلى الوعي والبصيرة، فيما يتعامل معه الإنسان ممّا يحيط به، ويتفاعل معه، ويتحرّك في ضوئه.

وردتْ لفظة «عقل» في كثير من المعاجم اللغويّة العربيّة، وبعدّة تصريفات منها: عاقلة، عقال، عاقول، عقول، وغيرها. ومن المعاني الواردة، قولهم: عقل عقلاً: أي أدرك الأشياء على حقيقتها، والغلام أدرك وميّز. ويقال: ما فعلت هذا منذ عقلت. والعاقل هو الشخص المدرِك. ومن المعاني، أنّ العقل هو ما يقابل الغريزة، التي لا اختيار لها. ومنه قولهم: الإنسان حيوان عاقل. ومنها ما يكون به التفكير والاستدلال، وتركيب التصوّرات والتصديقات. كما أنّ من المعاني الواردة حول موضوع العقل، أنّه ما يتميّز به الحسن من القبيح، والخير من الشرّ، والحقّ من الباطل. كما أنّ معنى القلب، والحصن، والملجأ، كلّها من المعاني المعبّرة عن العقل، في بعض الاستخدامات.

(95)

تعريف العقل في المعجم الوسيط[1]:

جاء في هذا المعجم، عقل الأمر: تدبَّره، فهمه وأدركه على حقيقته:  ـ ظنّ العاقل خير من يقين الجاهل ـ ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ـ ﴿يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوه.

عقل البعير ونحوه: ضمَّ رُسْغَ يده إلى عَضُدِه وربطهما معًا :

- اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ [حديث].

عقل الغلام: أدرك ومَيَّز، بلغ سِنَّ الرُّشْد:- الصلاة فرض

عقّل الأب ابنه: جعله يفهم الأمورَ على حقيقتها ويتدّبرها: ـ المصائبُ تُعقِّل النَّاسَ ـ حاول تعقيل ابنَه الطائش.

ع ق ل: العَقْلُ الحِجر والنُّهى، ورجل عاقِلٌ وعَقُولٌ، وقد عَقَلَ من باب ضرب، ومَعْقُولاً أيضاً وهو مصدر، وقال سيبويه هو صفة، وقال: إنّ المصدر لا يأتي على وزن مفعول البتّة. والعَقْل أيضاً الدية، والعَقول بالفتح الدواء الذي يمسك البطن. والمَعْقِل الملجأ، وبه سُمِّي الرجل. ومَعْقِلُ بن يسار من الصحابة رضي الله عنهم، ينسب إليه نهر بالبصرة، والرطب المَعْقِلِىّ أيضاً. والمَعْقُلة بضمّ القاف الدية وجمعها مَعاقلُ، والعَقِيلَةُ كريمة الحيّ، وكريمة الإبل وعقيلة كلّ شيء أكرمه، والدرّة عقيلة البحر، والعِقَالُ صدقة عام...الخ.

أمّا معجم ويبستر (Webster)[2] فقد أورد معاني عدّة لكلمة

(96)

«عقل»، تحت الكلمة الإنجليزيّة (Mind)، ومن هذه المعاني: الذاكرة، التذكّر أو الاسترجاع. وقد تعني ما يفكّر به الشخص، أو رأيه في موضوع من المواضيع. ومن المعاني الواردة: أنّه يعني الإدراك، الشعور، الانتباه، الذكاء، الملاحظة. وقد قصرت بعضُ التعريفات في هذا القاموس العقلَ على ما يمكن التفكير به، أو إدراكه، ممّا يمكن تصنيفه على أنّه جزء من الشعور، إلاّ أنّ تعريفاً آخر، يضيف الخبرة اللاشعوريّة، كعمل من أعمال العقل. والتعريف الشامل الذي ورد في قاموس وبستر هو: طريقة، وحالة، واتّجاه للتفكير والشعور، الذي يكون عليه الفرد. وقد وردت معانٍ مثل الانتباه، الطاعة، الاهتمام، الملاحظة، الاعتراض، الكره، كمعانٍ معبّرة عن العقل.

أمّا المعاجم المتخصّصة في التربية وعلم النفس، فتعريف المصطلح فيها يتشعّب بين الذكاء، والفهم، والقدرة العامّة، والقدرات المتخصّصة، إضافة إلى القدرات الشعوريّة واللاشعوريّة.

لقد حاول العلماء والمفكّرون أن ينطلقوا، في فهم حقيقة العقل، من خلال المعنيين: الماديّ والروحيّ، في ما يمتاز كلّ منهما بسمات خاصّة وخصائص عامّة استند إليها علماء المذهبين (المذهب الروحيّ والمذهب المادّيّ) في وعيهم لمعنى العقل، وحقيقته، وماهيّة الإدراكات الحسيّة ‏والمعنويّة المتنوّعة التي تلتقي لتؤسّس عمليّة التفكير والاختزان على قواعد معيّنة خاصّة بهذا الطرف أو ذاك، لتخرج ـ نتيجة المحاكاة- على هيئة صيغة قانونيّة، أو جملة مفيدة، أو نتاج إنسانيّ معيّن.

ومن هؤلاء العلماء الفلاسفة (فلاسفة العرب والإسلام) الذين تناولوا العقل بالتعريف، الفارابيّ، وابن سينا، وابن رشد.. كان الفارابيّ

(97)

«أرسطيّ» المذهب ومشبّع بقوّة الأفلاطونيّة المحدثة، وبخصوص تعريفه للعقل، فيلاحظ أنّه ارتبط مع الفيلسوف الكنديّ، بتصوّر الاعتماد المباشر على العقل الفعّال (الصّادر الإلهيّ الأخير) وعلى ثلاث مراتب للعقول البشريّة: العقل بالقوّة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد. والعقل بالقوّة ينتقل بواسطة العقل الفعّال ومساعدته إلى مرتبة العقل بالفعل، والعقل المستفاد يتعامل بشكل محض مع المفاهيم التجريديّة التي توصّل إليها العقل بالفعل. مع الجدير بالعلم أنّ أنشطة المعرفة البشريّة مستمدّة من العقل الفعّال المبدع وهو أساس العقول. فالعقل ملكة، وبه تحصل النّفس على معرفة بالحقائق المطلقة، والذي نتلقّاه من الخارج كالهواء الذي نتنفّس. محدوديّة عقولنا بحاجة إلى إلهام من عقل مفارق كليّ غير متغيّر، والذي سمّاه الفارابيّ بالعقل الفعّال (العقل الفاعل عن أرسطو).

وأمّا ابن سينا فكان يقول إنّ العقل عبارة عن العقل القدسيّ المتجرّد عن المادّة، وهو «كالعقل الهيولانيّ، يكون فيه شديد الاتّصال بالعقل الفعّال، كان كلّ شيء من نفسه. وأمّا القوّة النظريّة فهي قوّة من شأنها أن تنطبع بالصور الكليّة المجرّدة عن المادّة. فإن كانت مجرّدة بذاتها فأخذها لصورتها. وإن لم تكن فإنّها تصير مجرّدة بتجريدها إيّاها حتّى لا يبقى فيها من علائق المادّة شيء»[1]. بينما يعرف ابن رشد العقل بأنّه عبارة عن «قوّة تجريد، من شأنه أن ينتزعَ الصور من الهيولى، ويتصوّرها مفردة، على كنهها، لا ظاهرها، وهناك صور عديدة للعقل، منها العقل بالفعل، والعقل بالقوّة، والعقل بالملكة»[2].

(98)

أمّا الفلاسفةُ الغربيّون فانقسموا (في هذا المجال) إلى صنفين أو فئتين، الأولى تعتقد بأصالة العقل في المستوى الروحيّ، وامتلاكه القدرة على إدراك مفاهيم الكون وحقائق الوجود ذاتيّاً وجوهريّاً دون الحاجة إلى اعتماد قضايا الحسّ وقوانين المادّة. ويأتي كلّ من الفيلسوفين («ديكارت» و»كانت») على رأس المنتمين لهذه الفئة.

أمّا الفئة الثانية فتقول إنّ الإنسان خُلق وليسَ في ذهنه شيءٌ يذكر، بل إنّ  صفحة ذهنه بيضاء لم تُخطّ فيها كلمة واحدة. أي إنّ الإدراك‏ العقليّ ماديّ بالذات. وقد قال بذلك الفيلسوف الانكليزيّ المعروف «جون لوك» (1632-1704) الذي قسّم المعرفة إلى قسمين: معرفة وجدانيّة وتأمليّة (روحيّة)، ومعرفة حسيّة ناشئة من وقوع الحسّ على المعنى المعلوم[1]. وكان يعتقد بأنّ الذهن البشريّ لا يستقبل إلّا الإحساسات والإدراكات الحسّيّة، أمّا مفاهيم «العلّة» و«السّببيّة» و«الجوهر» و«الأعراض» و«الأحوال» فلا يستقبلها الذهن من الخبرة، بل يتوصّل إليها عن طريق التركيب والدمج بين ما تلقّاه من مدركات[2]. واشتهر «جون لوك» (زعيم الحسّيّين) بعبارته المشهورة: «إذا سألك سائل: متى بدأت تفكّر؟ فيجب أن تكون الإجابة: عندما بدأت أحسّ»[3].

كما استبعد ديفيد هيوم (تُوفّي سنة 1777م) مفهوم المعرفة الفطريّة

(99)

(العلم الضروريّ) جملةً وتفصيلاً.. وكان يعمل جاهداً لأخذ المنطق الوضعيّ إلى نهايته؛ مبيناً أن مبادئ العقل وعمليّاته، هي بحدّ ذاتها ليست فطريّة، وإنّما اكتسابيّة.. لكنّ إنكار «هيوم» أدّى إلى إنكار الرابطة الضروريّة بيّن السبب والمسبّب، وتحويلها إلى رابطة شكليّة ظاهريّة ناتجة من مجرّد الألفة والعادة.. وهو ما يؤدّي بالفكر الوضعيّ إلى نسبيّة مطلقة. فالعقل لم يعد ينطوي على مبادئ ثابتة، بل على مجموعة من القواعد المستمدّة من العادة والألفة.

وقد عالج، بعد ذلك ـ بعض المفكّرين المتخصّصين ـ هذه المسألة من خلال البحوث والدراسات العلميّة التجريبيّة التي أريد لها أن تصبغ الإدراك العقليّ بالصبغة المادّيّة البحتة من حيث المستويات الخاصّة في‏ الأحداث والمعادلات الفيزيائيّة الكيميائيّة والفيزيولوجيّة، بناءً على أنّ المادّة هي الحقيقة الوحيدة الواضحة في هذا الكون. وأنّ ما يكتسب في مجال الطبيعة والبشر والحياة  ـ وما ينتج منه من قوانين فيزيائيّة ورياضيّة وعلميّة واجتماعيّة ـ يجب إنّ  يقوم قائماً على الحسّ والتجربة فحسب، ليكون صادقاً وحقيقيّاً وفاعلاً ونافعاً.

ولكن يلاحظ على تلك المستويات التي ركّزت فقط في البعد الحسّيّ والمادّيّ (العضويّ) في فهم ماهيّة الإدراك ومعنى العقل وتعريفه، ما يلي:

أولاً: إنّ ادّعاء الفلسفة الماديّة، في البداية، أنّ المادّيّ هو ما تدركه الحواسّ، وأنّ ما لا تدركه غير ماديّ، وبالتالي غير موجود، هذا الادّعاء ناقضه التطبيقات العلميّة ذاتها، فمثلاً الذرّات وجزئيّاتها ـ التي تقول العلوم الفيزيائيّة الذرّيّة بوجودها ـ لا تُدرك بالحواسّ والإدراكات الحسّيّة، وبعضها لا كتلة له، وحركة الذرّة لا تتبع نمطاً

(100)

محدّداً، والثقوب السوداء تحطم قوانين الزمان والمكان. من هنا جرت إعادة تعريف الماديّ بأنّه كلّ شيء يوجد وجوداً موضوعيّاً؛ أي إنّه الشيء الذي لا يعتمد في وجوده على عقلنا أو وعينا به. وبهذا المعنى، فإنّ الفلسفة الماديّة لا يمكنها إنّ  تستبعد العناصر غير الماديّة إنْ تجلّت موضوعيّاً في واقعنا[1].

ثانياً: إنّ معالجة مسألة الإدراك العقليّ ـ في جوهره الفلسفيّ- ليست من شأن أو اختصاص العلوم الماديّة فقط. لأنَّ العلمَ الماديّ ينحصر نشاطه الفكريّ ومجال اختصاصه العمليّ في نقطة مركزيّة واحدة أو في بؤرة محدّدة ومعيّنة وحيدة، وهي أنّه يبحث  ـ من خلال قوانينه الخاصّة به، ومخابره، وأساليبه التجريبيّة‏، ووسائله العلميّة المعيارية الحسّية ـ في ماهية الأشياء كما هي في الواقع، أو كما تظهر وتبدو في الواقع العينيّ التجريبيّ، وتظهر للإدراكات الخارجيّة، مع دراسة آثارها ونتائجها الظاهرة والمضبوطة بواسطة الحواسّ الماديّة، وتجارب المختبرات، وقوانين الفيزياء أو الكيمياء أو غيرها من معايير العلوم الماديّة الحسّيّة. لذلك لا يمكن أنْ نثبت أحداث الأجهزة المتعلّقة بماهيّة التفكير والإدراك (وظواهرها المتنوّعة) استناداً إلى ما تقدّمه تلك العلوم من وسائل وأدوات وقوانين، على ‏أساس أنّها هي نفسها الإدراكات التي نحسّها من تجاربنا في الواقع العامّ.. وإنّما الحقيقة التي لا يرقى إليها شكّ ولا جدال، هي أنّ هذه الأحداث والعمليّات الفيزيائيّة والكيميائيّة والفيزيولوجيّة، ذات صلة‏ بالإدراك وبالحياة السيكولوجيّة للإنسان، وهي تلعب دوراً فعّالاً في هذا المضمار.. بمعنى أنّ العلم (بما

(101)

هو معادلات وقوانين ومعايرات وقياسات ونظريّات وتجارب في مختبرات، تبحث في الجانب الحسّيّ التجريبيّ) لا يثبت ماديّة الإدراكات العقليّة، على أساس أنّ هناك فرقاً واضحاً بينَ كون الإدراك شيئاً تسبقه (أو تقارنه)‏ عمليّات تمهيديّة في مستويات ماديّة عضويّة، وبين كون الإدراك بالذات ظاهرة ماديّة، ونتاجاً للمادّة في درجة خاصّة من النموّ والتطوّر والحركة[1].

ثالثاً: هناك مجموعة من المفاهيم والمقولات والقضايا العقليّة لا تستند عمليّاً إلى الحسّ والمادّة والتجارب «المخبريّة» التحليليّة القياسيّة (معايرات وقياسات ونسب ومعدلات) لإثبات مصداقيّتها وحقيقتها الخارجيّة، من قبيل مفاهيم وقضايا (العلّة والمعلول، الجوهر والعرض، الإمكان والوجوب، الوحدة والكثرة، الوجود والعدم، وما إلى ذلك من تصوّرات تصديقيّة ومفاهيم فلسفيّة أخرى).. الأمر الذي يجعل النظريّة الحسيّة تُخفِق إخفاقاً ذريعاً في إرجاع جميع قضايا الإدراك الذهنيّ البشريّ ومفاهيمه وبديهيّاته إلى المادّة، لأنّ تلك المفاهيم هي مفاهيم «انتزاعيّة» أوليّة وثانويّة، ينتزعها العقل البشريّ من خلال تأمّله وملاحظته لحركة الواقع الكونيّ والإنسانيّ، وعلى ضوء المعاني المحسوسة أيضاً.

رابعاً: عندما يقول أصحاب النظريّة الحسيّة عبارتهم التالية: «العقل ماديّ بالذات، وهو مادّة في إدراكه للوقائع كافّة».. هذه العبارة أو المقولة، هل هي (بحدّ ذاتها) معرفة أزليّة (أو أوليّة) حصل عليها الإنسان من دون الرجوع إلى تجربة سابقة، أم هي

(102)

ليست معرفة فطريّة (غير ضروريّة) بل هي تجريبيّة؟! فإذا كانتْ معرفة أوليّة سابقة على التجربة، فقد سقط المذهب التجريبيّ برمّته، وبطلتْ مزاعمه وأسانيده جميعها، وبالتالي ثبت وجود معلومات ذاتيّة وأفكار فطريّة أوليّة وإدراكات غير ماديّة سابقة على المادّة، في مستوى معنويّة العقل وروحانيّته. وأمّا إذا كانت هذه المعرفة تحتاج أساساً إلى تجربة كي تقرّر صحّتها ومصداقيّتها (الحقيقيّة)، فمعنى ذلك: أنّنا لا ندرك في بداية الأمر أنّ التجربة (ومعايير الحسّ) مقياس منطقيّ، مضمون الصدق، فكيف يمكن البرهنة على صحّته ‏(واعتباره مقياساً) بتجربة، ما دامت (هذه التجربة) غير مضمونة الصدق بعد؟!.. بمعنى أنّ «التجربة لا تؤكّد مصداقيّة نفسها وقيمتها وفاعليتها»، فكيف بغيرها؟.. وبناءً على ذلك ستحتاج كلّ تجربة إلى تجربة أخرى،‏ وهكذا دواليك، حتّى نصل إلى التسلسل، والتسلسل باطل ومحال عقلاً؟![1].

يضاف إلى ذلك أنّ المذهب التجريبيّ عاجز (في مستوى إيضاحه للإدراك العقليّ الماديّ) عن إثبات حقيقة المادّة بالذات. لأنّ العلماء لم يصلوا حتّى الآن، في جميع مستويات بحوثهم التجريبيّة ونتاجاتهم العلميّة (وتنوّعاتها وتفرّعاتها واختصاصاتها الدّقيقة) إلى الدرجة التي تؤهّلهم لمعرفة حقيقة المادّة، وبيان جوهرها، والكشف عنها بالذات. بل كلّ ما استطاعوا معرفته أساساً هو وجود مجموعة من الظواهر العرضيّة المختصّة بحركة المادّة في بعديها المتناهي في صغره (الذرّة والخليّة) والمتناهي في كبره وضخامته (المجرّة والكون).. ولذلك فالحقائق الميتافيزيقيّة، وقولنا: «إنّ العقل جوهر

(103)

روحانيّ» في مستوىً ماديّ، ليسَ هو وحده المحتاج إلى البرهنة والمفتقر إلى الإثبات، بل المادّة هي نفسها بحاجة إلى إثبات صحّة مقولاتها وبرهان حقيقة ادّعاءاتها.

خامساً: هناك جانبان يرتبطان بموضوع «ماديّة» الإدراك العقليّ، وحسّيّته، أو روحانيّته ومعنويّته. وهما الجانب العلميّ والجانب الفلسفيّ. والملكات العقليّة الإنسانيّة تتّصل عمليّاً بالجانبين معاً.

أمّا الجانب الفلسفي فإنّه يتجلّى في نظريّة «‏الملكات والإدراكات» التي تقسم العقل الإنسانيّ إلى قوى إدراكيّة، وملكات ذاتيّة عديدة، من نشاط العقل والذهن وفاعليتهما، كالانتباه والذاكرة والتفكير والإرادة والصبر والعزيمة وغيرها. فهذه الفكرة تدخل في»‏النطاق الفلسفيّ لعلم النفس»، وهي ليست فكرة علميّة بالمعنى التجريبيّ العلميّ البحت. لأنّ التجربة (سواء كانت ذاتيّة كالاستبطان، أو موضوعيّة كالملاحظة العلميّة لسلوك «الغير» الخارجيّ) غير صالحة وغير مؤهّلة، علميّاً، للكشف عن ‏تعدّد المَلَكَات أو وحدتها. وكثرة القوى العقليّة أو وحدتها، لا تقعان في ضوء التجربة مهما كان لونها وطبيعتها. أمّا الجانب العلميّ من مسألة المَلَكَات فيعني نظريّة التدريب الشكليّ في التربية، وهي تنصّ على أنّ المَلَكَات (ومجمل القوى الإدراكيّة) ‏العقليّة يمكن تنميتها جميعاً، وبلا استثناء، بالتدريب في مادّة واحدة، وفي نوع واحد من الحقائق. وقد أقرّ هذه النظريّة عدد من علماء النفس التربويّين المؤمنين بنظريّة المَلَكَات، التي كانت تسيطر على ‏التفكير النفسيّ (السايكولوجيّ) إلى القرن التاسع عشر، افتراضاً منهم أنّ المَلَكَة

(104)

إذا كانت قويّة أو ضعيفة عند الشخص، كانت قويّة أو ضعيفة في كلّ شيء. ومن الواضح أنّ هذه النظريّة داخلة في النطاق التجريبيّ لعلم النفس.

سادساً: «استحالةُ انطباع الكبير في الصغير». حيث إنّ الإدراكَ العقليّ يرتكز على الخصائص الهندسيّة للصورة المدرَكة، والمشتملة على طول، وعرض، وارتفاع، وعمق.. ولكنّ هذه الخصائص الهندسيّة (وعلى أساس ظاهرة الثبات في الإدراك البصريّ للصور التي تنعكس في أذهاننا) ليست هي نفسها كما هي في الخارج، إذا أخذنا بعين الاعتبار ما توصّل إليه العلم الحديث من إنّ  الأشعة الضوئيّة تنطلق من المرئيّات إلى العين، ثمّ تنعكس منها على الشبكيّة[1].

من هنا نجدُ أنّ إدراك العقل لماديّة الأشياء، كما هي بذاتها شكلاً ومقاسات، أمر مستبعد. لأنّ هذه الأشياء ـ ومعها جميع الصور المُدْرَكة ـ لها صفات هندسيّة، وخصائص مكانيّة، وأبعاد ماديّة حسيّة محدّدة ومعيّنة من الطول، والعرض، والعمق والامتداد. لذلك يستحيل أنْ تنطبع (تلك الصور) في فكرنا وذهننا كما هي في حقيقة الأمر لعدم التناسب المادّيّ.. كأنْ يدرك عقلك مثلاً طائرة أو سيارة أو حديقة، بوصفها نتاجاً مادّيّاً قائماً في عضو الإدراك المحدّد ضمن الجهاز العصبيّ، وهو أمر غير وارد بالمطلق. لأنّ العقل (مع ‏إدراكه لحقيقة الأشياء كما هي بحجمها وأبعادها) سيظلّ يصدر أسئلته الفلسفيّة العميقة حول ماهيّة هذه الصورة العقليّة، وحول طبيعتها الذاتيّة، التي كوّنها الإحساس البصريّ مع أحاسيس

(105)

وحركات أخرى، ويسأل: أينَ هو المكان أو الحَيّز الذي توجد فيه تلك الصور؟! وأين يحتويها؟!! هل هي قائمة في عضو مادّيّ، أو في ‏صورة ميتافيزيقيّة مجرّدة عن المادّة. ثمّ إنّ خلايا الإنسان تتجدّد بالكامل، كما ذكر العلماء، كلّ حوالَى عشر سنوات[1]. لذلك من أين لنا أنْ نصدّق أو نؤمن بأنّ صورةً تمتدّ إلى كيلومترات عديدة يمكن إنّ  تنطبعَ كما هي (بحجمها وامتدادها الطبيعيّ) على صفحة‏ «وُريقيّة» صغيرة جدّاً من الذهن أو الدماغ؟!..

ويجبُ ألّا ننسى هنا أنّ الصورة العقليّة والإدراكات المتعلّقة بها تميل إلى الديمومة والثبات، ولا تتغيّر طبقاً لتغيّرات الصورة المنعكسة عن الجهاز العصبيّ.. فمثلاً إذا جئنا بقلم كتابة، ووضعناه على بعد متر واحد منّا، انعكستْ عنه صورة ضوئيّة خاصّة، لها أبعاد محدّدة معروفة. وإذا ضاعفنا المسافة التي تفصلنا عنه (عن القلم) ونظرنا إليه من على بعد مترين، فإنّ الصورة التي يعكسها سوف تقلّ إلى نصف ما كانت عليه في حالتها الأولى، مع إدراكنا لعدم تغيّر البعد المادّيّ للقلم (حجم القلم). بما يفيدنا بأنّ الصورة العقليّة للقلم  ـ التي نبصرها أمامنا ـ تبقى ثابتة بالرغم من تغيّر الصورة الماديّة المنعكسة. وهذا يبرهن بوضوح على إنّ  العقلَ (أو الإدراك) ليس ماديّاً، وأنّ الصورة‏ المدرَكة المنطبعة في الذهن هي صورة غير ماديّة (ميتافيزيقيّة).

[1]- قد يقول بعضهم يمكن للخلايا القديمة، في مستوياتها الماديّة، أن تعطي الخلايا الجديدة منها آثارها السابقة، بحيث ترث الجديدة المخزون الخلويّ لمثيلاتها القديمة. طبعاً هذا القول لا يحلّ الإشكال والتساؤل المطروح أساساً، وهو: أيّة قوة ماديّة أو غير ماديّة يمكن لها إنّ  تدرك قضايا الوحدة أو التشابه بين الصورة السابقة واللاحقة؟ ثمّ ما هي الطاقة الأساسيّة (الواعية المدركة) التي تقرّر (في العمق الخلويّ) انتقال مثل هذا الميراث من خليّة إلى أخرى؟.. إن التذكّر لا يمكن أن يحصل بمفرده من دون هذه المقارنة، وحتماً هذا هو الإدراك.

(106)

ومن الواضح أنّ هذا التفسير الفلسفيّ لظاهرة الثبات لا يتعارض مع أيّ تفسير علميّ لها يمكن أن يقدّم في هذا المجال. فيمكنك أنْ تفسّر الظاهرة بأنّ ثبات الصورة المدركة -في مظاهرها المختلفة- يرجع إلى الخبرة والتعلّم، كما يمكنك أنْ تقول ـ في ضوء التجارب العلميّة ـ إنّ هناك علاقات محدّدة بين الثّبات في مختلف مظاهره، والتنظيم المكانيّ للموضوعات الخارجيّة التي ندركها.

طبعاً هذا التفسير لا يعني حلّ المشكلة ‏من الناحية الفلسفيّة، إذْ إنّ الصورة المبصرة (التي لم تتغيّر طبقاً للصورة الماديّة، بل ظلّت ثابتة بفضل خبرة سابقة أو بحكم تنظيمات مكانيّة خاصّة) لا يمكن أن تكون هي الصورة المنعكسة عن الواقع الموضوعيّ، على مادّة الجهاز العصبيّ. لأنّ هذه الصورة المنعكسة تتغيّر تبعاً لزيادة البعد بين العين والواقع، وتلك الصورة البصريّة ثابتة.

وهكذا نجد أنّ العقل، وإدراكاته المتعدّدة والمتنوّعة، ليسا ماديّين بالذات أو قائمين بالمادّة، بل إنّ الحياة الفعليّة (بما تتضمّنه من صور وأفكار وإدراكات) تتكامل في الحياة من خلال ممارسة حركة الفكر والواقع، على صعيد الإنسانيّة المفكّرة. وليست هذه الإنسانيّة المفكّرة شيئاً من المادّة كالدماغ أو المخّ، بل هي درجة نوعيّة من الوجود مجرّدة عن المادّة، يصل إليها الكائن الحيّ في حركيّة تطوّره وتكامله. فالمدرك والمفكّر هنا هو هذه ‏الإنسانيّة اللاماديّة (الروحيّة)، وإنْ كان العضو الماديّ يهيّئ لها شروط الإدراك، للصلة الوثيقة بين الجانبين الروحيّ والماديّ في الإنسان[1].

وقد حاول بعض الماديّين الإجابة عن هذا الدليل -كما عبّرنا

(107)

سابقاً- من خلال اعتقادهم التجريبيّ بأنّ ما نراه هو صورة صغيرة (مثل الميكروفيلم) توجد في الجهاز العصبيّ، ثمّ نحن نتعرّف إلى حجمها الواقعيّ ‏بمساعدة القرائن، وقياس النسب[1].

ولكن يلاحظ على هذا الجواب ما يأتي:

ألف: هناك فرق واضح بين الحجم (والبعد) بوصفه بعداً ماديّاً، وبين طبيعة الرؤية، رؤية الصورة المكبّرة الحائزة والممتلكة لهذا الحجم (وهو بعدٌ معنويّ في مستوى المادّة). أي إنّ معرفة حجم صاحب الصورة تختلف تماماً عن رؤية‏ الصورة الكبيرة.

باء: لم تصل الأبحاث العلميّة، إلى درجة الحسم والقطع في ما يتعلّق بمسألة وعي حقيقة المادّة المدركة ومعرفتها بالذات، بل كلّ ما هنالك هو وجود أبحاث تتمحور حول ‏دراسة النتائج الخارجيّة، والظواهر والخصائص المختلفة المرتبطة بالمادّة من حيث العلاقة العرضيّة لا الذاتيّة الجوهريّة. وهذا أمر بحثيّ موجود في جميع العلوم الإنسانيّة النظريّة والتطبيقيّة.

جيم: لو سلّمنا جدلاً بأنّ الصورة المرئية التي نريد إدراكها صغيرة جدّاً، ثمّ قمنا بتكبيرها ماديّاً في الذهن من خلال القرائن وقياس النسب، فإنّنا سنبقى نتساءل عن ماهيّة احتواء الذهن على الصورة الكبيرة وانطباعها فيه.. بمعنى أنّنا سنجد دائماً في ذهننا صورة كبيرة، حيث سيتكرّر الدليل المذكور بعينه بالنسبة لهذه الصورة الذهنيّة والخياليّة.

سابعاً: إنّ الإنسان يستطيع أنْ يدرك عمليّاً صورتين مرئيّتين

(108)

في آن واحد، بحيث يمكنه القيام بعمليّات المقارنة أو التماثل أو الاختلاف أو التساوي.. وما إلى ذلك. فلو فرضنا أنّ للصورتين حيّزاً ماديّاً «ينتقش» في‏البدن، وأنّه يمكنُ إدراكهما عن طريق الارتسام أو الحلّ الخاصّ، فلازم ذلك أنْ يصبح -كلّ جزء من جسم المدرك- قادراً على إدراك تلك الصورة «المرسومة» فيه وحسب، وأن لا يكون له علم بالصورة الأخرى مع ‏وجود عمليّات المقارنة بينهما[1]. فأيّ قدرة مدركة تدركهما معاً، وتقيس إحداهما إلى الأخرى؟!. ولو فرضنا وجود عضوّ مادّيّ آخر يدرك الصورتين معاً، فسنتساءل، مرّة أخرى، عن ماهيّة هذا الإدراك‏ الجديد؟! لأنّ لكلّ عضوّ مادّيّ آخر مستوىً مادّيّاً يدركهما معاً، ويقيس إحداهما إلى الأخرى؟! ثمّ إنَّ لكلّ عضو ماديّ أجزاءً. فإذا كان الإدراك عبارة عن «تجسيد» الصورة في محلّ ماديّ، فكلّ جزء منه يدرك تلك ‏الصورة المرتسمة فيه، وبالتالي فإنّه لا تحصل أيّة مقارنة. إذاً لا بّد من أن نسلّم بوجود قوّة مدركة بسيطة تدركهما معاً، وبالتالي يثبت عدم انطباع الصورة في محلّ ماديّ، الأمر الذي يؤدّي إلى الإيمان بتجرّد الإدراك‏ العقليّ وتجرّد النفس المدركة.

ثامناً: هناك قضية تتّصل بماديّة الإدراك العقليّ، وهي أنّ المادّة (والإدراك العقليّ جزء منها) أزليّة.. ولكنّ العلم نفسه بات يشكّك اليوم بهذه الأزليّة، فالمادّة تتحوّل إلى طاقة والطاقة تتحوّل إلى مادّة، وقابليّتها للتحوّل تعني أنّ بقاءها في هيئتها المعيَّنة كان معتمداً على ظروف خارجة عن ذاتها، فلما زالت تلك الظروف زالت تلك الهيئة. ومن ثمّ فالمادّة ليست معتمدة في وجودها على نفسها، بما يعني

(109)

أنّها يستحيل أن تكون آليّة، فكلّ ما يتحلّل ويتحوّل فليس بأزليّ غير حادث، بل هو حادث غير أزليّ.

وعلم الكونيّات استقرّ على هذه نظريّة «نظريّة حدوث المادّة» وعدم قدمها، من خلال ما توصّل إليه العلم الحديث من تفسير لنشأة الكون بناء على نظريّة «الانفجار العظيم» التي صمدت أمام جميع الاختبارات إلى وقتنا الحاضر، وحظيت بالقبول الواسع في تفسير بدء خلق الكون، ونفي أزليّته وتقرير أنّه حادث. حيث أقرّ أصحاب النظريّة بعدم أزليّة الكون، وأنّ للكون بداية بدأت من نقطة الصفر، ولو أصابوا في التعبير لقالوا من لا شيء، أي: من العدم.

نخلص ممّا تقدّم إلى أنّ العقلَ Mind عبارة عن جوهر روحانيّ أو ملكة روحيّة بمستوى ماديّ متقدّم، تمثّل معياراً للتمييز والمقارنة بين الأشياء، وأداة ‏معرفيّة أساسيّة يمكن أن يصل الإنسان عن طريقها إلى نيل مطالب والوصول إلى غايات تعجز إدراكاته الماديّة الحسّيّة عن الوصول إليها. إنّه قدرة وطاقة ذهنيّة فائقة النوعيّة، منحها اللّه تعالى للإنسان، بها يميّز ويوازن ويحكم ويدرك الأشياء والموجودات وسائر الكائنات الحيّة. الأمر الذي يوجب على الإنسانيّة كلّها أن تتحرّك بكلّ نشاط وفاعليّة على ضوء تكريم اللّه لها بميزة العقل ونعمة التفكير من أجل تحقيق غاية الخلق والوجود الإنسانيّ..﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً(الإسراء: 70).

وجاء في بعض الأحاديث ما يلقي ضوءاً على حقيقة العقل: «العقلُ عقلان، عقلُ الطبع وعقلُ التجربة، وكلاهما يؤدّي‏إلى

(110)

المنفعة»[1]. وهو يكشف لنا عن عمق الشخصيّة النفسيّة الإنسانيّة التي يشكّلها أساسان نفسيّان يتحرّكان في داخل ذواتنا، وهما العقل الواعي (الشعور، التجربة)، والعقل الباطنيّ (اللاشعور، الطّبع).

فالأوّل مسؤول مسؤوليّة مباشرة عن سلوكّيات الإنسان ومختلف تصرّفاته الاختياريّة الحياتيّة، في ما ينتجه من أفعال وحركات وسَكَنَات في إطار الوعي والصحوة واليقظة، أيّ حال كونه متيقظاً بحواسّه ومداركه. أمّا الثّاني فهو مَلَكَة روحيّة، وليس شيئاً ملموساً..أي ليس له أيّ واقع ماديّ مشهود ومعاين. بل يتكوّن من مجموعة من المكبوتات والروحيّات المكنونة في أعماق نفس الإنسان، التي لا تظهر إلّا في حالات غياب سيطرة العقل الواعي (الشعور).

ويطلق اسم المكبوتات على جملة ميول الإنسان وأسراره ورغباته الخاصّة. أمّا الروحيّات فهي عبارة عن فطريّات إنسانيّة ودوافع مثلى كحبّ العلم وحبّ الخير والنفور من الشرّ، وكذلك العقد النفسيّة المختلفة‏ كعقدة الكبر والعجب.

إذاً، عرفنا ممّا تقدّم أنّ نظريّة المعرفة في الإسلام تختلف عن نظريّة المعرفة الماديّة، ففي حين تتبنّى المدرسة الماديّة منهج «ماديّة الإدراك»، ومعلوليّته لذاته، تتبنّى مدرسة الإسلام منهج المعرفة العقليّة دون ترك العلم ومقولاته وحقائقه الصحيحة القائمة على مبادئ العقل والعلّة والمعلول وغيرها، حتّى على نتائج المختبرات العلميّة الحسيّة.

وقد اتّضحَ لنا ـ بالبرهان العقليّ والفلسفيّ ـ عدم صوابيّة المنهج

(111)

الحسّيّ التجريبيّ في الوصول إلى الحقائق والمعارف المعتبرة دونما اعتماده على مبادئ العقل وبديهيّاته الفطريّة المعروفة وعلى رأسها مبدأ العلّيّة الذي هو بدوره شرط أساسيّ وجوهريّ للعلم بوجود واقع موضوعيّ خاصّ بهذا الحسّ أو ذاك، بل هو ما يكسبُ الإحساس بعده الحقيقيّ.

 الاتّجاهات المعاصرة للماديّة العلميّة

لا بدّ من أنْ نشير أخيراً  ـ في سياق ما تحدّثنا عنه في السابق حول تيّارات الفلسفة الماديّة ـ إلى نشوء فروع عديدة منها (من الفلسفة الماديّة) خلال العقود القليلة الأخيرة، عملتْ على دراسة موضوع العقل والإدراك العقليّ، والبحث عن ماهيّته، ومحاولة إعطائه بعداً ماديّاً بحتاً، استدعتْ -لدى فلاسفة غربيّين آخرين- ردوداً بحثيّة عميقة أيضاً.

وقد نشأتْ هذه الفروع الفلسفيّة الجديدة على خلفيّة ما حقّقه العلم والبحث العلميّ الدقيق (علم التشريح البنيويّ) من اكتشافات مهمّة لإمكانات مذهلة خاصّة بتحديد خارطة المخّ البشريّ، ووظائفه المتعدّدة، وآليّاته المعقّدة، والتي ما زالتْ محاولةُ تعميق اكتشافها وتحديدها بدقّة أكبر، وطموح دراستها، من أكثر مواضيع العلم الطبيعيّ حيويّةً وفاعليّة، بحيث إنّها جعلتْ الحديث عن العقل -ككيان مختلف عن الجسد- أمراً يحتاج إلى مراجعة في نظر كثير من الفلاسفة.

تركّزتِ انشغالاتُ تلكَ الفروع الجديدة (التي كانَ منْ أبرزِ رموزها الفلاسفة: هربرت فيجل، آرمسترونج، جون سمارت، هيلاري بُوتنام،

(112)

ويلارد كواين، دانيال دينيت، دونالد دافيدسون وغيرهم) على دراسةِ طبيعةِ العقل والأحداث والوظائف والخصائص الذهنية الخاصّة به، إضافة إلى الوعي، وعلاقة ذلك كلّه، بالحالة الجسديّة الماديّة للدماغ تحديداً. حيث أجمعَ فلاسفة هذا المنهج والاتّجاه الفيزيائيّ أو الطبيعيّ (الماديّ)، على أنّ العقلَ هو مجموعة من الخصائص الماديّة المنبثقة عن الدماغ، وأنّه ليس جوهراً منفصلاً، بل هو والجسد جوهر واحد. ويتبنّى معظم هؤلاء الفلاسفة (فلاسفة العقل الحداثيّ) الرأي الفيزيائيّ سواء بشكل اختزاليّ أو لا اختزاليّ، محافظين بطرائقهم المختلفة، على أنّ العقل ليس شيئاً منفصلاً عن الجسد[1]. وقد أثّرت هذه المناهج بشكل خاصّ على العلوم، وخصوصاً في علم الأحياء الاجتماعيّ، وعلم الحاسوب، وعلم النفس التطوّريّ، إضافة إلى مختلف مجالات العلوم العصبيّة. وتؤكّد الفيزيائيّة الاختزاليّة أنّ الحالات والخصائص العقليّة يمكن تفسيرها دائماً عن طريق تقديرات علميّة للحالات والعمليّات الفيزيولوجيّة.. أمّا الفيزيائيّة اللا اختزاليّة فهي تناقش أنّه على الرغم من أنّ العقل ليس جوهراً منفصلاً، إلّا أنّ الخصائص العقليّة تابعة حتماً للخصائص الفيزيائيّة (بما هي مستويات مادّيّة)، أو أنّ الإسنادات والألفاظ المستخدمة في التفسيرات والأوصاف العقليّة تكون متلازمة، ولا يمكن اختزالها في اللغة والتفسيرات الدنيا لتفسير العلوم الفيزيائيّة. وساعدَ تطوّر العلوم العصبيّة المستمرّ على توضيح بعض هذه المشاكل، إلّا أنّه على الرغم من ذلك تظلّ تلك المشكلات بعيدة عن الحلول. بالتالي لا تزال قضية فلسفة العقل إحدى القضايا التي

(113)

يستمرّ فلاسفة العقل الحداثيّ في إلقاء الأسئلة من أجل تفسير كلّ من الإمكانيّات الذاتيّة والخصائص والحالات العقليّة القصديّة، وذلك بمصطلحات المذهب الطبيعيّ. إلّا أنّ الفيلسوف كارل بوبر،[1] أكّد أنّ الوضعيّين بنَوا نقدهم للواقعيّة العلميّة على مفهوم ضيِّق للحقيقة، حقيقة الأجسام والحركات والألوان والأصوات المحيطة والمدركة إدراكاً مباشراً بواسطة الحواسّ.. إلا أنّه لم يعمد إلى مواجهة ذلك التصوّر بتصوّر مقابل للحقيقة يجعلها قائمة في النظريّات الفيزيائيّة المجرّدة، بل ذهبَ إلى القول بعدم قبول إضفاء الحقيقة على أيّة معرفة، سواء كانت حسّيّة أم نظريّة، قائلاً إنّ كلّ المعارف البشريّة في الظاهرات تقبل الدحضrefutation، لكنّها لا تقبل البرهان؛ وإنّ نموّ المعرفة العلميّة ليس عمليّة تراكم متواصل للحقائق بقدر ما هو إزالة مطَّردة للأخطاء. ولوحظ أنّ عدم إضفاء الصدق على أيّ من المعلومات، كان الوسيلة التي اعتمدها بوبِّر لإلقاء الشكّ حول صدقيَّة المعلومات الأكثر شفافيّة لدى الوضعيّين، وهو يسخِّر المنطق الصوريّ لهذه الغاية، مثلما يسخِّر التطوّريّة الداروينيّة للهدف ذاته، الذي هو النيل من صفة الإطلاق في صحّة الأوصاف الناتجة من الملاحظات العيانيّة والحسّية[2].

لكن في مواجهة ازدهار هذه النظرة الفلسفيّة الجديدة (النزعة الفيزيائيّة: Physicalism القائمة على قوانين الفيزياء

(114)

ومعادلات الكيمياء) طرح مفكّرون وعلماء وفلاسفة آخرون أسئلة وإشكاليّات فلسفيّة ونظريّة معياريّة كبرى أمامها.. فالوعي البشريّ، وجملة آرائنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وقراراتنا المتنوّعة التي نجدها لدينا، ما زالت تمثّل الرقم الصعب في معادلة العقل والجسد. حيث بقي من الصعوبة بمكان الإجابة عن السؤال الذي طرحه الفيلسوف الأمريكيّ «توماس ناجل»؛ وهو: كيف يبدو أن تكون خفّاشاً؟ فالإجابة عن هذا السؤال غير ممكنة إلّا بأنْ يملك الإنسان الحالات العقليّة نفسها Mental States  التي يشعر بها الخفّاش. وهو الأمر الذي لا يمكننا أيضاً رصده تجريبيّاً. بل إنّنا لا يمكن أنْ نصف وعي إنسان آخر بالشيء نفسه الذي نعيه نحن، فكلّ منّا عندما ينظر مثلاً إلى وردة تنشأ لديه حالات عقليّة خاصّة به، وهذه الكيفيّة الخصوصيّة هي ما يطلق عليه الكواليا qualia. وهناك أيضاً ما يسمّى بحجّة الزومبي. فإذا كانَ بإمكاننا أنْ نتخيّل الزومبي، أي جسد يخضع لكلّ القواعد الفيزيائيّة، لكنْ دون وعي، أيْ دون حالات عقليّة يعيها الإنسان، فإنّ هذا يعني أنّ تلك الحالات لها وجودها الخاصّ دون الجسد. وفي المقابل يبقى تصوّر وجود العقل ككيان مستقلّ أمراً صعباً. فإذا كنّا نعلم وفقاً للتجارب الحديثة أنّ ثمّة مناطق في المخّ يمكن ـ من خلال استثارتها أو إتلافها ـ الحصول على حالات عقليّة معيّنة أو التّأثير فيها، وثمّة موادّ كيميائيّة (النّواقل العصبيّة) يمكن إذا زادت أو نقصت أنْ تؤثّر في حالاتنا العقليّة. أي إنّ تلك الحالات هي مرتبطة بلا شكّ بالحالات أو الأحداث العصبيّة، وبالتالي فلا حاجة إلى الاعتقاد

(115)

بوجود مستقلّ لها، بحسب أولئك الذين يعتقدون بأنّ تطوّر الدراسات العصبيّة سيكشف عن طبيعة تلك الحالات تماماً[1].

وإضافة إلى ما تقدّم، يمكن الإشارة هنا أيضاً (ولو سريعاً) إلى ما قدّمته أبحاث «الفيلسوف جول سيرل» في كتبه المتعدّدة، وأبرزها كتابه حول (العقل)[2]. وقدّم فيه طروحات ثار من خلالها على المفاهيم القديمة، واستحدث معاني ومفاهيم جديدة للتفكير بها في قضايا الفلسفة المهمّة، معتبراً أنّ مفاهيم مثل (الماديّة، العقل، اليقينيّة، الموضوعيّة، الكليّة...) تأخذ معانيَ مختلفة عن السائد في السّجالات الفلسفيّة، معاني  جديدة لابدّ من الانتباه لها، وإلّا فإنّ اللبس وسوء الفهم سيكون مصير كلّ الحوارات. ويلاحظ أنّه دائماً تأتي مفاهيم «سيرل» الجديدة متّصلة بنظرة علميّة حديثة من خلال اتّصاله بالمنجز العلميّ خصوصاً في علم الأعصاب والبيولوجيا الدقيقة. حيث يعتبر أنّ الوضع المثاليّ للبدء في الفلسفة البنّاءة هو البداية في دراسة طبيعة العقل الإنسانيّ. وأنّ السؤال المركزيّ للفلسفة في القرن الحادي والعشرين هو: كيف نفسّر وجود الإنسان البارز كشخص مسؤول واعٍ وحرّ وعاقل وناطق واجتماعيّ وسياسيّ في عالم مكوّن، وفق العلم، من جسيمات مادّيّة لا عقليّة؟ ما العلاقة بين الواقع الإنسانيّ وبقيّة الواقع؟ للإجابة عن هذه الأسئلة أكّد سيرل أنّه لا بدّ من دراسة العقل، لأنّ الظواهر العقليّة تشكّل الجسر الذي يربطنا بالعالم. كما أنّ ابتكار حقل العلم المعرفيّ الذي يهتم بدراسة طبيعة العقل علميّاً، جعل من الضروريّ إيجاد أساس فلسفيّ لدراسة العقل.

(116)

وفي محاولاته للإجابة عن سؤال العقل، يشير «سيرل» إلى فشل التصوّر الثنائيّ للعقل والعالم، حيث كان يلجأ الكثير إلى التصوّر الأحاديّ: إمّا العقليّ «المثاليّون» وإمّا الماديّ. والرأي الذي تقرّ به الماديّة هو: الواقع الوحيد الذي يوجد هو الواقع المادّيّ أو الفيزيائيّ، مؤكّداً أنّه إذا نظرنا إلى المادّيّة بمعنى خاصّ، يمكن القول إنّها أصبحت «ديناً» في هذه الأيّام، على الأقلّ بين المهنيّين في حقول الفلسفة وعلم النفس والعالم المعرفيّ. وبهذا المفهوم فشلت الماديّة، بسبب أنّها واجهت دائماً الواقعة الواضحة وهي، أنّ الصيغ المختلفة للماديّة تتجاهل صفة عقليّة جوهريّة معيّنة للكون، والتي نعرف أنّها موجودة بصورة مستقلّة عن اعتقاداتنا الفلسفيّة. والصفات التي يتجاهلونها عادة هي الوعي والقصديّة[1]. يقول سرل: «نعلم بصورة مستقلّة أنّ ما تحاول الثنائيّة قوله صحيح، وأنّ ما تحاول الماديّة قوله صحيح. الماديّة تحاول أن تقول إنّ العالم يتشكّل من جزيئات في حقول الطاقة، والثنائيّة تحاول أن تقول إنّ هناك صفاتٍ لا يمكن اختزالها وحذفها من العالم، أي الوعي والقصديّة بصورة خاصّة. ولكن إذا كانت كلّ منهما صادقة، يجب اكتشاف طريقة لصياغتهما معاً بصورة متّسقة، ولكن إذا لجأنا إلى المقولات التقليديّة، فإنّه ليس من السهل صياغتهما بصورة متّسقة»[2]. وينتهي سيرل إلى أنّ الميزة العامّة للعلاقة بين الوعي والدماغ (ومنه الحلّ العامّ لمشكلة العقل والجسد)، ليس من الصعب صياغتها. حيث إنّ الوعي ينتج من عمليّات على المستوى الجسميّ في الدماغ، ويتحقّق في الدماغ كصفة هيكليّة، أو

(117)

ذات مستوى أعلى. لكنّ تعقيد الجهاز ذاته والطبيعة الدقيقة لعمليّات الدماغ المرتبطة بها تبقى غير قابلة للتحليل بهذا الوصف.. الوعي هو جوهر معنى وجودنا بذاته، وإذا لم يدمّر ديكارت معنى الجملة يمكن أن نقول، جوهر العقل هو الوعي.

لقد حاول سيرل أن يعطي تفسيراً للعقل ينظر للظواهر العقليّة بوصفها ـ كما يؤكّد [1] ـ جزءاً من العالم الطبيعيّ، كما حاول أن يقدّم تصوّراً للعقل بجميع نواحيه (الوعي ـ القصديّة ـ الإرادة الحرّة-السببيّة العقليّة ـ الإدراك ـ الفعل القصديّ...إلخ) طبيعيّ بهذا المعنى. أولاً: يعتبر الظواهر العقليّة كجزء من الطبيعة فقط، حيث علينا أنْ نفكّر بالوعي والقصديّة (الغائيّة) كجزء من العالم الطبيعيّ أيضاً، كما أنّ التخليق أو الهضم جزءان من الطبيعة. ثانياً: الآليّة التفسيريّة التي استعملها سيرل لتقديم تفسير سببيّ للظواهر العقليّة هي الآليّة التي تحتاج إلى تفسير الطبيعة عامّة. 

المحور النقديّ الثاني ـ اللهُ (جوهرٌ وواجبٌ)، المادّة (ممكنٌ وعرضٌ):

الله علّة الحركة الجوهريّة:

عندما نتحدّثُ عن الفكر المادّيّ فنحنُ نقفُ في مواجهة رؤيةٍ لها أسس ومبادئ فكريّة ومبانٍ فلسفيّة، تلزم أتباعها بنظام فكريّ، محدِّد لطبيعة (ونوع) سلوكهم العمليّ في الحياة، وتحاول أن تبرهن الواقع الموضوعيّ بالتجربة والأساليب العلميّة.

وبناءً على هذه الرؤية الماديّة يصبح الكونُ معلولاً لذاته الماديّة

(118)

(الأزليّة)، وليس لأيّة علّة أخرى خارجة عنه، وهذه القاعدة تستتبع تفسيراً حسّيّاً للحياة والإنسان والوجود بكلّ مواقعه وامتدادته، انطلاقاً من الإدراك المادّيّ (الذي أثبتنا في المحور النقديّ الأوّل تداعي فرضيّاته البنائيّة القائمة على البعد التجريبيّ، ومعاييره المستندة إلى الحسّ والملاحظة العينيّة). وينظر التفسير الحسّيّ بمنظار العدم واللا جدوى، إلى قضايا الروح والمعنويّات والأخلاقيّات الدينيّة.

وأمّا النظرة الدينيّة أو الرؤية الإلهيّة فهي تقوم ـ في الجوهر ـ على وجود علّة مستقلّة بذاتها، هي علّة الوجود بكليّته، وتسمّى واجب الوجود، هذه العلّة هي الله مطلق الكون والوجود والحياة. وعلى عكس المادّيّة ترى الإلهيّة أنّ المادّة حادثة غير أزليّة، وأنّ المطلق
ـ واجب الوجود ـ هو الأزل وهو الوجوب الذاتيّ، وإليه تنتهي المادّة حدوثاً وبقاءً. كما تقول هذه المدرسة الإلهيّة إنّه من غير الممكن إثبات التجربة والحسّ (وهو المنهج الذي تلتزمه المدرسة المادّيّة) إلّا بالمذهب العقليّ ذاته، الذي يقول بوجود مبادئ عقليّة ضروريّة مستقلّة عن التجربة[1]. بل لا قيمة عمليّة للتجربة من دونها.

ويعني مبدأ العليّة ـ وهو أحد أهمّ المبادئ العقليّة- توقُّف كلّ موجود ممكن على علّة لوجوده وحدوثه، وهو من «البديهيّات العقليّة» التي يدركها العقل البشريّ بالفطرة. وما نعنيه بالفطرة أنّ كلّ شخص يجد في عمق طبيعته الذاتيّة وصميمها ما يدفعه إلى تعليل الأشياء والظواهر، والسعي لاكتشاف دوافعها وأسبابها. وهو مبدأ

(119)

ضروريّ لإعطاء العلم وقوانينه مصداقيّة وصحّة حقيقيّة. ولا يمكن الاستدلال على ردّه، وذلك لأنّ الدليل علة للعلم بالشيء المستدلّ عليه، إذاً محاولة الاستدلال على ردّ مبدأ العليّة تنطوي على الاعتراف بمبدأ العليّة وتطبيقه.. والخلاصة هنا أنّ مبدأ العلّة والمعلول ليس مبدأً حسّيّاً، ولا تجريبيّاً، ولا يمكن نقضُه بأيّ دليل، وإنّما هو مبدأ عقليّ ضروريّ فوق الحسّ والتجربة، وثابت بصورة متقدّمة على جميع الاستدلالات التي يقوم بها الإنسان[1].. وهذا المبدأ تخضع له كلّ الموجودات الممكنة ولا تستغني عنه. وعلاقة العليّة (بين علة ومعلول) يتوقّف عليها ـ كما يقول الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رض)[2] ـ إثبات الواقع الموضوعيّ للإحساس، وكلّ النظريّات أو القوانين العلميّة المستندة إلى التجرية، وجواز الاستدلال وإنتاجه، في أيّ ميدان من الميادين الفلسفيّة أو العلميّة. فلولا مبدأ العلّيّة، وقوانينها، لما أمكن إثبات موضوعيّة الإحساس، ولا شيء من نظريّات العلم وقوانينه، ولما صحّ الاستدلال بأيّ دليل كان، في مختلف مجالات المعرفة البشريّة.

ولا تنبع الحاجة إلى علّة خارجيّة ـ بالنسبة للحقائق الخارجيّة ـ إلى حدوثها، ولا إمكان ماهيّاتها، بل السرّ كامن في كنهها الوجوديّ، وصميم كيانها (البنيويّ). فلأنّ حقيقتها الخارجيّة عين التعلّق والارتباط، والتعلّق أو الارتباط، لا يمكن أن يستغني عن شيء يتعلّق به ويرتبط. ونعرف في الوقت نفسه ـ طبعاً ـ أنّ الحقيقة الخارجيّة، إذا لم تكن حقيقة ارتباطيّة وتعلّقيّة، فلا يشملها مبدأ

(120)

العلّيّة، إنّما يحكم مبدأ العلّيّة على الوجودات التعلّقيّة، التي تعبّر في حقيقتها عن الارتباط والتعلّق[1].

إذاً هناك اختلاف بين رؤيتين (إلهيّة وماديّة)، وهو اختلاف في البنية والجوهر الذاتيّ والمنطلقات الأصليّة، مع اختلاف في المعطيات والنتائج والمآلات.

فعلى صعيد الاختلاف في ضوء الأصول والمنطلقات الجوهريّة: نلاحظ أنّ الرؤية المادّيّة تعتمد على المذهب الحسّيّ، أي على التجربة والمختبرات والمقايسة الماديّة المعياريّة بالنسب والقرائن المادّيّة (كما قلنا سابقاً)، وتحصر (هذه الرؤية) الوصول إلى المعرفة بالتجربة، وتصادر بقيّة المناهج والمعايير المعرفيّة. بينما المذهب الدينيّ أو الرؤية الدينيّة تتقوّم بالعقل والبديهيّات العقليّة والأفكار الماورائيّة غير الخاضعة للحقيقة العلميّة.. وهنا يبين السيد الشهيد محمد باقر الصدر(رض) الآتي، مقارناً بصورة منهجيّة بين النظريّة الماديّة والرؤية الإلهيّة[2]:

1-إنّ المدرسة الماديّة تفترق عن المدرسة الإلهيّة في ناحية سلبيّة، أي: الإنكار لما هو خارج الحقل المعرفيّ.

2-إنّ الماديّة مسؤولة عن الاستدلال على النفي، كما يجب على الإلهيّة الاستدلال على الاثبات.

3-إنّ التجربة لا يمكن إنّ  تعتبر برهاناً على النفي، لأنّ عدم وجدان السبب الأعلى في ميدان التجربة، لا يبرهن عدم وجوده في مجال أعلى لا تمتدّ إليه يد التجربة المباشرة.

4-إنّ الأسلوب الذي تتّخذه المدرسة الإلهيّة للاستدلال على

(121)

مفهومها الإلهيّ هو الأسلوب نفسه الذي تثبت به علميّاً جميع الحقائق والقوانين العلميّة.

وتفترق الرؤية الماديّة أيضاً عن الرؤية الإلهيّة في المنطلقات التي تعتمد عليها كلّ واحدة في تفسيرها للوجود والإنسان، وهي عبارة عن أربع ركائز[1]:

(1) المساوقة: تذهب الماديّة إلى أنّ الواقعيّة مساوقة للوجود الماديّ، وبالتالي يكون كلّ ما وراء المادّة خارجاً عن وعاء الواقعيّة وحدودها، وغير قابل حتّى للتحقيق على مستوى الاحتمال والثبوت.

وهذا بخلاف ما تذهب إليه الإلهيّة، من أنَّ الواقعيّة مساوقة للوجود السعي، وهو ما يشمل جميع مراتبه، الماديّة والمثاليّة والعقليّة والواجبيّة. وهذا يبقى على مستوى التصديق الثبوتيّ، حتّى يجري الاستدلال عليه، على عكس الماديّة التي تخرجه عن موضوع الاستدلال، كما قلنا.

(2) الأزليّة: تحكم الماديّة على المادّة نفسها بالوجوب الذاتيّ، ويعني: عدم ترشّحها عن علّة تفيض عليها الوجود وتستند إليها حدوثاً وبقاءً، وهذا الاستغناء عن العلّة المُوجِدة، يلازم عدم مسبوقيّة وجودها بالعدم/ وهو معنى أزليّتها. بينما ترى الإلهيّة أنّ المحكوم عليه بالأزليّة والوجوب الذاتيّ، ليس ذات المادّة، وإنّما موجود ما ورائيّ (غيبيّ) تنتهي إليه المادّة حدوثاً وبقاءً.

(3) السببيّة: تحدّد المادّيّة قانون السببيّة (المعلول يحتاج إلى

(122)

علّة) بالموجود الماديّ، وعليه يكون مناط الاحتياج إلى العلّة عبارة عن الظاهرة الماديّة، ومفاد القانون كالتالي: كلّ موجود ماديّ محتاج إلى علّة، أمّا مناط الاستغناء فلا يشمل إلّا المادّة نفسها. بينما الإلهيّة، ترفض تخصيص موضوع القانون بالظاهرة الماديّة، وترى إمكانيّة توسعته بالنحو الذي يشمل ذات المادّة، وماوراءها من الموجودات التي لا استقلاليّة لها.

(4) الفاعليّة: تفسّر الماديّة العلّة الفاعليّة بـــ»معطى التحرّك» بينما تفسّرها الإلهيّة بـ«مَاْ مِنْهُ الوجود» وحينئذ يكون دورها عند الإلهيّ إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، بينما يقتصر دورها عند الماديّ على عمليّة التحريك والتأليف والجمع بين أجزاء المادّة.

وأمّا على  صعيد الاختلاف في المعطيات وبالتالي المآلات، تنتهي النظرة الإلهيّة حول الكون إلى النتائج التالية[1]:

1-مجال البحث المعرفيّ حول الكون يتجاوز الظواهر الماديّة، ليصل إلى العوالم العليا، التي تنتهي إلى المبدأ الأوّل وصفاته، وأفعاله، وهو الله سبحانه وتعالى.

2-الكون في نفسه، ليس قائماً بذاته، ولا يمتلك خصوصيّة الاستقلاليّة الوجوديّة المطلقة بل هو سنخ واقعيّة ارتباطيّة، ووجوده تعليقيّ.

3-ثمّ للكون والعالم مراتب متعدّدة تغاير الوجود المادّيّ في الحقيقة والأحكام، وإن كانت جميعها تشترك في ضرورة انتهائها إلى سنخ حقيقة قائمة بذاتها، وهي الحقيقة الإلهيّة المطلقة،

(123)

التي تترشّح عنها تلك العوالم، وتفتقر إليها في التشكّل والاستمرار. أمّا النظرة الإلهيّة حول الإنسان، فإنّها تنتهي إلى أهمّ نتيجتين:

1- تبعيّته لإرادة عليا، وافتقاره إليها، وعدم استقلاليّته عنها، قال تعالى: (يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد)(فاطر: 15) بالنحو الذي يحافظ على خصوصيّة كونه فاعلاً مختاراً.

2-مبدأه الحركيّ والغائيّ عبارة عن كمال وجوديّ يفوق اللا متناهي، يجد معه هويّته وذاته، وانتماءه الحقيقيّ، بحيث لا يطلب غيره؛ قال تعالى: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون) (البقرة: 156).

وهذا كلّه بخلاف كا يقوله أصحاب النظرة الماديّة وأتباعها التي تؤمن بأنّ المادّة ـ بظواهرها المتنوّعة ـ هي الواقع الوحيد، وكلّ ما يدخل في نطاقها (من أفكار، ومشاعر، وتجريدات) ليس إلّا نتاجاً ماديّاً، وحصيلة للمادّة في درجات خاصّة، فأفكار الإنسان، ومحتوياته الروحيّة، والطبيعة التي يمارسها على أساس هذا المفهوم الفلسفيّ، ليستْ كلّها إلّا أوجهاً مختلفة للمادّة، وتطوّراتها ونشاطاتها[1].

لكنّ المادّة في عمقها ليست ساكنة أو ثابتة على بعد ماديّ، فهي تتحرّك دائماً، أي هي في حالة سيرورة مستمرّة كما يقول العلم ذاته (خاصّة ما بيّنه أينشتاين من أنّ المادّة هي نفسها الطاقة والطاقة هي نفسها المادّة من خلال معادلته المشهورة، الطاقة تساوي الكتلة مضروبة بمربّع سرعة الضوء). والحركة (وهي الطاقة العميقة) بحسب مبدأ العليّة، تحتاج إلى علّة وفاعل مُوجِد

(124)

لها، تتحرّك به ومن خلاله.. فما هو سبب الحركة؟ هل هو سبب ذاتيّ في صميم المادّة وخاصّ بها؟ أم هو سبب آخر خارجيّ؟ وهل هو ما يمدّ المادّة بالتطوّر والسيرورة؟ هل سببُ الحركة يعود إلى تلك التناقضات الذاتيّة كما تقول نظريّة الجدل الديالكتيكيّ الماركسيّ التي تنصّ على أنّ التناقض والصراع هو القوّة الداخليّة، الدافعة للحركة والخالقة للتطوّر. فالحركة ـ بحسب أنجلز[1] ـ هي نفسها تناقض، وأبسط تغيّر ميكانيكيّ في المكان لا يمكن أن يحدث إلّا بواسطة كينونة جسم ما، في مكان ما، في لحظة ما، وفي تلك اللحظة نفسها كذلك، في غير ذلك المكان، أي كينونته وعدم كينونته معاً في مكان واحد، في اللحظة الواحدة نفسها، فتتابع هذا التناقض تتابعاً مستمرّاً، وحلّ هذا التناقض حلّاً متواقتاً مع هذا التتابع، هو ما يسمّى بالحركة.. فما هي هذه الحركة؟ وما سبب وجودها؟ ومن مُوجِدها؟!

ماهيّة الحركة:

تعرّف الحركة بالمصطلح الفلسفيّ بأنّها «خروج الشيء من القوّة إلى الفعل على سبيل التدرّج».. وهذا التعريف يتكوّن من ثلاثة عناصر رئيسيّة هي:

أ) الخروج من القوّة.

ب) إلى الفعل.

ج) على سبيل التدرّج.

ويقصد بالقوّة قابليّة الشيء وإمكانيّته. فإنّ قولنا: إنّ هذا الطفل

(125)

طبيب بالقوّة، يقصد منه أنّه قابل لأنْ يكون طبيباً، وذلك ممكن وليس بمحال. أو كقولنا: إنّ هذه البذرة شجرة بالقوّة، ونقصد بذلك أيضاً‏ أنّها من الممكن أن تكون شجرة، أو إنّ لها القابلية أو الاستعداد كي تصبح شجرة لاحقاً في المستقبل.

أمّا معنى الفعل فهو عبارة عن وجود الشيء حقيقة[1]. ومنه اشتقّت كلمة الفعليّة، ومثال ذلك قولنا: إنّ هذه الشّمعة مشتعلة بالفعل إذا كانتْ مشتعلة حال كلامنا عنها، حيث نراها متجسّدة بفعل الاشتعال أمام ناظرينا.

أمّا معنى قولهم: «على سبيل التدرّج» فهو أنّ هذا الانتقال من حال القابليّة إلى حال الفعليّة لا يكون دفعة واحدة وخارج إطار الزمن بل لا بدّ من أن يكون متدرّجاً في حصوله درجة درجة ومرحلة مرحلة.

وبهذا يمكننا القول: إنّ الخروج من حال العدم إلى حال الوجود لا يسمّى حركة وإلّا لزم وجود حالة ثالثة بين الوجود والعدم كما توهّمه بعضهم. والحقيقة أنّ الوجود والعدم مفهومان لا يجتمعان (يثبتان) ولا يرتفعان (يسلبان) عن موضوع واحد من جهة واحدة.

ويمكننا إعادة صياغة تعريف الحركة على أنّها تحقّق قابليّة الشيء بالتدرّج.

ويصدق هذا التعريف على كلّ أنواع الحركة كالحركة في المكان والحركة في الكيف والحركة في الكمّ والحركة في الجوهر الذي هو محلّ حديثنا.

أمّا معنى الجوهر، فيُعرّف بأنّه «الموجود لا في موضوع» على

(126)

العكس من العرض المعرّف بأنّه «الموجود في موضوع». وتوضيح معنى العرض أولاً ضروريّ لفهم معنى الجوهر تبعاً.

إذاً فالعرض ماهيّة مستقلّة بحسب نفسها، ومفهومها، وليست مستقلّة بحسب وجودها، إذ هو بحاجة في وجوده إلى الوجود في غيره. ومثال ذلك: اللون الذي يمتلك معنىً مستقلّاً بذاته عقلاً، إلّا أنّه في الخارج لا ينفكّ عن الحلول في جسم ما. أمّا الجوهر فهو الماهيّة المستقلّة مفهوماً‏ ووجوداً. وفي مثالنا السابق يكون الجوهر هو الجسم. والجسم ذو معنىً مستقل ولا يحتاج في وجوده إلى الحلول في غيره إذ هو مستقلّ بذاته، والعرض والجوهر عنوانان عامّان أحد مصاديقهما اللون والجسم تبعاً، ولهما مصاديق أخرى كثيرة[1].

وتؤكّد كلّ الدراسات العلميّة التي ارتكزت على حقائق شبه حاسمة أنّ المادّة حادثة وليست أزليّة، فنظريّة الانفجار العظيم (big-bang)، أكّدت أنّ المادّة الأولى اتّسعت وامتدّت بسرعة كبيرة إلى ما لا نهاية، بعد مرورها بمراحل متعدّدة.. وتبعاً لذلك أشار العلماء إلى زمن بدء الكون بما يقرب من (12–20 مليار سنة) حيث كانت المادّة قبل عمليّة البدء موجودة كلّها في حيّز (وفراغ متناهٍ في صغير) لا يتجاوز حجم جسيم البروتون الذي هو أحد مكوّنات الذرّة (وزن البروتون يعادل 1836 مرّة ضعف وزن الإلكترون.. ووزن الإلكترون يساوي إلى واحد مقسوم على واحد

(127)

وأمامه تسعة وعشرون صفراً من الغرام).. وهذا يدلّ على عدم أزليّة المادّة وبالتالي حدوثها، بمعنى أنّ بداية الزمان أمر لا مناص منه، هذا من جهة العلم ونظريّاته الحديثة واكتشافاته وتطبيقاته التجريبيّة المذهلة.

أمّا من جهة الحركة الجوهريّة، فالأمر لا يختلف كثيراً عن المنحى السابق، فعالم الوجود المادّيّ في تطوّر وتجدّد وتغيّر مستمرّ، بمعنى:

كلّ متحرّك حادث.

الكون متحرّك.

الكون حادث.

إنّ المقدّمة الأولى تثبت وجود زمان لم يكن فيه المتحرّك موجوداً، على أساس أنّ الحركة تعني الانتقال والسير من حدّ إلى آخر ومن موقع أول إلى موقع ثانٍ.. وأمّا المقدّمة الثانية فهي معروفة ومثبتة لأنَّ الكون يساوي الحركة فقط.. إذن فقد وجد زمان لم يكن فيه الكون والعالم موجوداً، وهذا ما تؤكّده الدراسات العلميّة الحديثة.

لقد أظهرت نظريّة الحركة الجوهريّة عمق العلاقة العضويّة بين الحركة والمادّة والتجرّد[1]، وخاصّة فيما يتّصل بواقع عمق الأنا

(128)

الذاتيّة للموجود الإنسانيّ مثلاً، على أساس أنّها تشكّل الأساس لتحقّق حركة المصداق الوجوديّ لها، من خلال مجموعة من الشروط والمقدّمات الأساسيّة للوصول إلى كمال فاقد للماديّات الأوليّة، وداخل في مستوى بعدي جديد متجرّد، وبصفات وشروط وخصائص أخرى جديدة تتناسب والمستوى الجديد.

والروح ـ كما أثبتت نظريّة الحركة الجوهريّة ـ ليست إلاّ نتاج الحركة الجوهريّة الاشتداديّة في عمق المادّة حيث أنّ المادّة تنتقل وتتبدّل من وضع أوّليّ إلى أوضاع أخرى. ونتيجةً لتأثير الحركة الجوهريّة فيها تتكامل وتصعد في مستويات مُتدرِّجة انتقاليّة متتابعة حتّى تصل إلى مرحلة تفقد فيها (هذه المادّة) خصائصها الماديّة وشروطها الجسمانيّة فتدخل في بعد جديد، يحتويها ـ مفهوماً وليس وقعاً ـ وتتركّز في طاقة حيويّة تحرّك وتوجّه في مستوى تصعيد وتركيز أعلى نحو الأمام..

أي إنّ المادّة في مسيرة تطوّرها وتكاملها، تمتدّ، فضلاً عن أبعادها الثلاثة التي نسمّيها بالأبعاد المكانيّة، وفضلاً عن البعد الزمانيّ الذي يمثّل مقدار الحركة الذاتيّة الجوهريّة، إلى بعد جديد، وهو بعد جديد مستقلّ عن الأبعاد الأربعة المكانيّة والزمانيّة، ونحن إذ نسمّي هذا الامتداد بعداً فليس لأنّه نوع من أنواع الامتدادات، أو لأنّه مثل سائر الكميّات (الأشياء ذات المقدار) قابل للتجزئة العقليّة، بل المقصود هنا هو أنّ المادّة تعثر على اتجاه جديد تمتدّ فيه، ذلك الاتّجاه الذي تفقد فيه كلّ خصائص المادّة كليّاً»[1].

(129)

صحيح أنّنا لا نرى إلّا المادّة، ولم نستطع حتّى الآن أن نمتلك وسائل وأدوات عينيّة لاستكناه حقائقها كاملةً أو لتفسير ظواهرها، حيث يقتصر تعاملنا مع المحسوسات والماديّات.. إلخ، لكنّ هناكَ فرقاً بين أن نلاحظ الشيء لنقف عنده، وأنْ نلاحظه بغية ملاحقته من قبلُ ومن بعد، لنفكّر فيه، ونعي حقيقة ما وراءه، وماذا هناك بعده.. فالمادّة البسيطة ـ التي هي عنصر وحيد ـ معدومة الحياة، لكنّها في مرحلة لاحقة عندما تتحوّل إلى مركّبات عديدة ذات عناصر مختلفة، تتفاعل فيما بينها (أجزائها) وتتكامل في حركتها، فتصبح على أثر ذلك، مستعدّة ـ كما أسلفنا ـ لتقبّل الطاقة الحيويّة الحياتيّة الأصليّة وظهورها، وبالتالي حدوث الحياة، وظهور خصائصها وشرائطها.. يقول كريسي موريسن في كتابه سرّ الخليقة: «إنّ المادّة لا تؤدّي عملاً إلاّ إذا كان هذا العمل ضمن قانونها ونطاقها.. فالذرّات تقع تحت سيطرة قوانين جاذبيّة الأرض والتفاعلات الكيماويّة وتأثيرات الهواء والكهرباء، لا تبتكر المادّة شيئاً بذاتها، إنّما الحياة هي وحدها التي تبتكر شيئاً جديداً في كلّ لحظة وتعرض بدائعها إلى عالم الوجود..» و«ليس للمادّة قدرة على الابتكار بحدّ ذاتها إنّما الحياة هي التي تبتدع في كلّ لحظة خطّة جديدة بديعة»[1]. يقول تعالى: (ما لكم لا ترْجُونَ لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً) (نوح: 14).. إذاً هل هناك مانع يمنع من إمكانيّة تجرّد المادّة من مراحل تكاملها، وتحوّلها إلى كائن آخر جديد له خصوصيّة ذاتيّة ومستوى حركيّ محدّد ومعيّن؟.. وهل هناك حدود فاصلة بين المستويين؟..

في الواقع: إنّ الحركة ـ التي هي في الأساس سير مُتدرّج من

(130)

القوّة إلى الفعل كما يقول الفلاسفة ـ تؤسّس من خلال حركة التكامل الممنوحة في الذات الجوهريّة، لحركات عارضة أخرى، الأمر الذي يؤدّي إلى ظهور مختلف أنواع الأجسام وتكوّنها على أساس هذا القانون (أي الحركة الجوهريّة).. من هنا نجد أنّ الروح هي أيضاً من حاصلات قانون الحركة. إنّ مبدأ تكوّن المادّة نفسها جسمانيّ، وللمادّة القدرة على أن تربيّ في أحضانها كائناً يتوافق مع ما وراء الطبيعة، بل ليس هناك حائل أو جدار بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، فليس ثمّة ما يمنع أنْ يتحوّل كائن مادّيّ في مراحل تطوّره وتكامله، إلى كائن غير ماديّ.. إنّ علاقة الروح بالجسد أشبه بعلاقة بعد ما بسائر الأبعاد.. يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر في هذا الصدد: «.. وهذه الحركة  الجوهريّة هي الجسر الذي كشفه الشيرازيّ بين المادّة والروح، فإنّ المادّة في حركتها  الجوهريّة تتكامل في وجودها وتستمرّ في تكاملها حتّى تتجرّد عن ماديّتها ضمن شروط معيّنة وتصبح كائناً غير مادّيّ. أي تصبح كائناً روحيّاً، فليس بين المادّيّ والروحيّ حدود فاصلة بل هما درجتان من درجات الوجود والروح بالرغم من أنّها ليست ماديّة ذات نِسَب مادّيّة لأنّها المرحلة العليا لتكامل المادّة في حركتها الجوهريّة[1]. لكنّنا نتساءل، كيف يمكن إظهار طبيعة العلاقة الكائنة بين متحركيّة البعدين الماديّ والروحيّ؟.

إنّ الروح ليست من خصائص المادّة وآثارها، وإنّما هي كمال جوهريّ يتحقّق للمادّة، وتكون هي بدورها منشأ المزيد من آثار المادّة وتنوّع تلك الآثار. وبديهيّ أنّ هذا لا يقتصر على الإنسان

(131)

أو الحيوان بل هو عامّ ومطلق في كلّ حياة. بمعنى أنّ الحركة الجوهريّة لا تنشأ أصلاً من المادة نفسها، لأنّ الحركة (كلّ حركة) خروج الشيء من القوّة إلى الفعل (والقوّة لا تصنع الفعل– الإمكان لا يصنع الوجود).. ولهذه الحركة الجوهريّة سببها خارج نطاق المادّة المتحرّكة، والروح التي هي الجانب غير الماديّ في الإنسان نتيجة لهذه الحركة والحركة نفسها هي الجسر بين الماديّة والروحيّة.

بتلخيص ما تقدّم نقول: إنّ الوجود واحد لا يتجزّأ ولا يتعدّد، بل هناك انتقال لحركة الموجود في عمق وجوده من وضع إلى آخر، بحيث إنّه عندما تتكامل المادّة في ذاتها تتكوّن في داخلها درجة معيّنة من الوجود، تكون أكمل من سابقتها، بحيث تفقد خصائص ومزايا المادّة والجسميّة، وتتحوّل عندئذ إلى لا ماديّة ولا جسمانيّة فتكون الخصائص الروحيّة وآثارها متعلّقة بتلك الدرجة من الوجود[1]. أي إنّ المادّة فاقدة للحياة (للطاقة الحياتيّة) بذاتها، ثمّ تظهر حركة الحياة وتدبّ الروح في المادّة عندما تظهر في داخلها استعدادات وقابليّات لهذا الطور الجديد. 

والآن يمكن أن نتساءل: ما دامت الحركة الجوهريّة تسبّب عمليّة الحدوث والتغيّر المتدرّج في خطّ التكامل، فما هي العلاقة بينها وبين مسألة أصالة الحياة والطاقة الحياتيّة؟ هل تمثّل الطاقة الحياتيّة البعد الآخر في مستوى أعلى متقدّم فيما يتّصل بتكامل المادّة بالذات؟ أم هي الحياة في استقلالها بذاتها بعيداً عن تأثيرات الداخل والخارج؟ إذاً نحن الآن أمام ثلاثة احتمالات تساؤليّة:

الأوّل: هل يمكن اعتبار الطاقة الحياتيّة مجرّد طاقة تتميّز

(132)

بخصائص وسمات محدّدة، تماماً كبقيّة الطاقات الأخرى المعروفة (ضوئيّة، نوويّة،.. ) وهي التي تعطي الحياة في حركة الإنسان والوجود؟.

الثاني: هل هناك فرق وتمايز بين طاقة الحياة وبين الشيء الذي هو يمتاز بالحياة..؟!. أي هل هناك استقلاليّة بين الطاقة وبين الشيء الذي أضيفت إليه في بعد معنويّ روحيّ متقدّم؟.

الثالث: هل الطاقة هي الحياة وحدها كمقدار ثابت وكميّة ماديّة انتقاليّة تكامليّة؟.

في الواقع، إنّ الكائنات الحيّة التي ظهرت، بل تدرّجت في ظهورها، منذ الآماد البعيدة، امتازت بخاصيّة التكيّف مع البيئة التي عاشت فيها، هذا التكيّف الذي هو في الواقع مجموعة من الآثار والخاصيّات والفاعليّات المتعدّدة التي يقوم بها الكائن الحيّ تجاه التغيّرات الحاصلة في المستوى الخارجيّ، وهذه «الفاعليّات» لا تحدث إلاّ في الكائن الحيّ الذي يتمتّع بخاصيّة الحياة «الحركة».. وهذه الخصائص الفعليّة الموجودة في الكائن الحيّ والتي يفقدها الكائن الميّت، هي السبب الكامن وراء تجدّده وتكامله، حيث يزيد الكائن من طاقته، حتّى يصل إلى مرحلة للإبقاء على النوع عن طريق زواله هو وبقائه في الجيل الذي ينتجه.. وهذا الشيء ـ بظروفه وامتداداته ـ ينبئ بوجود هدف وغاية متقدّمين في الحياة، على أساس إرادة الحياة لهذه الكائنات التي تعرف طريق حركتها ووجهة سيرها نحو هدف التكامل اللازم والخاصّ بها.. كلّ حسب إمكانيّاته وقابليّاته في قاموس الحياة.

(133)

ضمن هذا الإطار، أجرى الباحثون والعلماء تجارب مختلفة لإدراك حقيقة أصالة الحياة والطاقة النفسيّة، وظهر ذلك من خلال تجلّيات بحوثهم «أنّ طاقة الحياة تضاف على المادّة خلال مسيرة الطبيعة، وإنْ آثار الحياة تنشأ عن هذه الطاقة، ولكن ليست هي كلّ العلّة لتركيب أجزاء المادّة وجمعها وتحليلها وتأليفها، فتركيب أجزاء المادّة وجمعها وتحليلها وتأليفها شرط لازم من شروط ظهور آثار الحياة ولكنّه ليس شرطاً كافياً[1].. حتّى إنّنا نتصوّر أنّ نظريّة داروين النوعيّة تثبت هذه الأصالة للطاقة الحياتيّة لكونها أبرزت ظاهرة الانتقاء والاصطفاء الطبيعيّ، وأظهرت التكيّف (تكيّف الكائن مع بيئته ومجاله الحيويّ الطبيعيّ) كقوّة ذات فاعليّة وهدفيّة في الحياة الحيّة.. وكأنّ هناك منهجاً تكامليّاً للإنسان وللطبيعة يسيران في وحدة للتحقّق والتجسيد. وقد يتساءل بعضهم: كيف ولماذا تسير هذه الكائنات في هذا الاتّجاه المتحرّك، وكأنّه مسبق في الوجود فعلاً؟. إنّنا نعتقد أنّ أصالة طاقة الحياة (حيث إنّ الحركة مظهر أساسيّ فعّال من مظاهر الطاقة)، تتميّز بوجود بعدين متكاملين:

الأوّل: البعد الماديّ: من خلال تركيز خصائص المادّة في مرحلة أدنى ثمّ حدوث التطوّر والتكامل في مراحل متقدّمة أعلى.

الثاني: البعد المعنويّ (الروحيّ): فيما وراء الطبيعة والمعرفة المادّيّة، باعتبار أنّها ـ المعنويّة ـ ليست من خصائص المادّة، بل هي تظهر الحياة في المادّة لاحقاً. أي تتركّز طاقة الحياة الممنوحة في مرحلة عليا، في المادّة، لتظهر آثار الحياة عندما تستعدّ لتقبّل ذلك .. قال تعالى: «ربنا الذي أعطى كلّ شيء خَلْقَه ثمّ هدى»[طه: 50].

(134)

وقال تعالى: (الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى)[الأعلى: 3].

إنّ الفصل بين المادّة من جهة وطاقة الحياة ـ في مظهرها الأعلى ـ من جهة أخرى، سيوقعنا في قضايا فلسفيّة وطروحات خاطئة قال بها بعض الفلاسفة (كما ظهر لدى أفلاطون في نظريّته المسمّاة بنظريّة الاستذكار وهبوط النفس من عالم المجرّدات والمثل والتحاقها بالمادّة).. ثمّ إنّ العلم الحديث قد وصل إلى حدّ تأكيد استحالة الوصول إلى حالة الخلق في المادّة غير الحيّة، وتحويلها إلى مادّة حيّة متحرّكة من قبل البشر. حيث كان ظهور الإنسان العاقل المفكّر بين الحيوانات أمراً أخطر وأشدّ غموضاً من أن نتصوّره على أنّه نتيجة لما يطرأ من تحوّلات، وأن ليس لخالق يد في الأمر، وإلاّ فإنّ الإنسان ينبغي أن يكون آلة ميكانيكيّة تديره يد أخرى، فلنَر من الذي يدير هذه الآلة؟ وأيّ يد هذه التي تديره؟!.. «فالعلم التجريبيّ الحسيّ (القائم على المشاهدة والمعاينة والمقايسة والمعايرة فقط) لم يستطع حتّى الآن أن يصل إلى معرفة هذه اليد المدبرة والقوّة المحركة الأولى، ولكنّ الذي يسلّم به العلم هو أنّ هذا المدير والمدبّر والقويّ ليس تركيباً ماديّاً بالمعنى الذي نعرفه»[1].

نعم يمكن للعلماء أنْ يوصلوا قابليّة المادّة إلى مستوى الاستعداد لتقبل إفاضة الحياة، وارتفاعها إلى درجة الكمال.. فالإنسان كما قيل: «فاعل الحركة لكنّه ليس فائضاً للوجود»، يقول تعالى: (أفرأيتم ما تُمْنون أنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) [الواقعة: 59].. أي إنّ إفاضةَ الحياة وقبضها بيد الله، وقد يستطيع الإنسان أن يكتشف قوانين إفاضة الحياة وقبضها، وبها يستطيع أن يهيّئ في

(135)

المادّة القابليّة والاستعداد لاستقبال الحياة أو طردها.. لكنّ هذا الأمر لا يعني ـ كما ذكرنا ـ أنّ هناك حجماً ومقداراً تشغله طاقة الحياة بخصائصها المختلفة، في خطّ التكامل عبر النقل والانتقال في الطاقات..الخ، لأنّ الحياة منذ أن نشأت على الأرض آخذة في التصاعد والازدياد.

ولا شك في أنّ الحياة والموت نوع من البسط والقبض، ولكنّه بسط وقبض ينبع ممّا هو فوق درجة وجود الطبيعة. إنّه قبض يأتي من الغيب ويعود إلى الغيب كما يقول العلّامة مطهري.. فالله تعالى هو منشئ الحركة (علّتها الجوهريّة)، ومانح الحياة ومبدأ الوجود وخالق المادّة، قال تعالى: (ربّي الذي يُحيي ويميت) [البقرة: 258]. وقال تعالى: (الذي خلق الموت والحياة) [الملك: 2].

لكنّ الفلسفة المادّيّة، وتحديداً الماركسيّة دأبت على اعتبار أنّ الحركة معلولة لذاتها، وأنّ الواقع الموضوعيّ المادّيّ القائم لا يمكن أن يدرك إلّا عن طريق حركة التناقض (تطوّرات ذاتيّة المادّة وحركيّتها التناقضيّة) التي هي أساس الماديّة التاريخيّة، وأنّ هذا الاتّجاه هو وحده الاتّجاه الواقعيّ في مضمار البحث الفلسفيّ؛ لأنّه اتّجاه قائم على أساس الإيمان بالواقع الموضوعيّ للمادّة، وليس للمسألة الفلسفيّة جواب إذا انحرف البحث عن الاتّجاه المادّيّ، إلاّ المثاليّة التي تكفر بالواقع الموضوعيّ، وتنكر وجوده المادّة. فالكون إمّا أن يفسّر تفسيراً مثاليّاً لا مجال فيه لواقع موضوعيّ مستقلّ عن الوعي والشعور، وإمّا أن يفسّر بطريقة علميّة على أساس المادّية الديالكتيكيّة.. يقول ستالين: «إنّ الديالكتيك -خلافاً للميتافيزيّة- لا يعتبر الطبيعة حالة سكون وجمود، حالة ركود واستقرار، بل يعتبرها

(136)

حالة حركة وتغيّر دائمين، حالة تجدّد وتطوّر لا ينقطعان، ففيها دائماً شيء يُولد ويتطوّر وشيء ينحلّ ويضمحلّ. ولهذا تريد الطريقة الديالكتيكيّة أن لا يكتفى بالنظر إلى الحوادث من حيث علاقات بعضها ببعض، ومن حيث تكييف بعضها لبعض بصورة متقابلة، بل أن ينظر إليها ـ أيضاً ـ من حيث حركتها، من حيث تغيّرها وتطوّرها، من حيث ظهورها وإخفائها»[1]. ويقول لينين: «فالديالكتيك هو إذاً  ـ في نظر ماركس ـ علم القوانين العامّة للحركة، سواء في العالم الخارجيّ أم في الفكر البشريّ»[2]. أي إنّ الطريقة الوحيدة لفهم العالم والحياة في تطوّرها المستمرّ وتغيّرها الدائم هي الطريقة الديالكتيكيّة. ويقولون إنّها منهج فلسفيّ لفهم الواقع ومعرفته معرفة حقيقيّة واقعيّة. وهي تقول إنّ كلّ شيء في العالم يوجد في تطوّر وتغيّر. كلّ شيء يجري، كلّ شيء يتغيّر، كما قال الفيلسوف اليونانيّ القديم هيراقليط. ويعرف لينين المادّة بأنّها مقولة فلسفيّة للدلالة على الواقع الموضوعيّ الذي أعطى للإنسان في إحساساته.. هي أيضاً ما يؤثّر في أعضاء حواسّنا ويثير الإحساس؛ المادّة هي واقع موضوعيّ، أعطي لنا في الإحساس، وما إلى ذلك[3].

لكنّ الإيمان بالحقيقة الموضوعيّة للمجتمع، ولأحداث التأريخ، لا ينتج الأخذ بالمفهوم المادّيّ، فهناك واقع ثابت لأحداث التأريخ وكلّ حدث في الحاضر أو الماضي قد وقع فعلاً بشكل معيّن خارج شعورنا بتلك الأحداث، وهذا ما نتّفق عليه جميعاً. وليس هو من

(137)

مزايا المادّيّة التأريخيّة فحسب، بل يؤمن به كلّ من يفسّر أحداث التأريخ أو تطوّراته بالأفكار، أو بالعامل الطبيعيّ، أو الجنسيّ، أو بأيّ شيء آخر من هذه الأسباب. كما تؤمن به الماركسيّة التي تفسّر التأريخ بتطوّر القوى المنتجة[1]. فالإيمان بالحقيقة الموضوعيّة هو نقطة الانطلاق لكلّ تلك المفاهيم عن التأريخ، والبديهة الأُولى التي تقوم تلك التفسيرات المختلفة على أساسها. كما أنّ أحداث التأريخ ـ بصفتها جزءاً من مجموعة أحداث الكون ـ تخضع للقوانين العامّة التي تسيطر على العالم. ومن تلك القوانين مبدأ العلّيّة، القائل: إنّ كلّ حدث، سواء أكان تأريخيّاً أو طبيعيّاً، أم أيّ شيء آخر، لا يمكن أن يوجد صدفةً وارتجالاً، وإنّما هو منبثق عن سبب. فكلّ نتيجة مرتبطة بسببها، وكلّ حادث متّصل بمقدّماته. وبدون تطبيق هذا المبدأ ـ مبدأ العلّيّة ـ على المجال التأريخيّ يكون البحث التأريخيّ غير ذي معنى. وهنا يكمن الفارق بين الرؤية الإسلاميّة والرؤية الماركسيّة وباقي وجهات النظر التي تعلّل الحركة وتطوّراتها بقوانين الديالكتيك ونقض النقض. فالحركة ليست صراعاً بين فعليّات متناقضة دائماً، بل هي تشابك بين القوّة والفعل، وخروج متدرّج للشيء من أحدهما إلى الآخر، نستطيع أن نـدرك أنّ الحركة لا يمـكن أن تكتفي ذاتيّاً عن السبب (الذي تسبّب بها)، وأن الوجود المتطوّر لا يخرج من الفعل إلّا لسبب خارجيّ (علّة فاعلة)، وليس الصراع بين التناقضات هو العلّة الداخليّة لذلك، إذ ليست في الحركة وحدة للتناقضات والأضداد لتنجم الحركة عن الصراع بينها. فما دام الوجود المتطوّر في لحظة انطلاق

(138)

الحركة خالياً من الدرجات أو النوعيّات، التي سوف يحصل عليها في مراحل الحركة، ولم يكن في محتواه الدّاخليّ إلّا إمكان تلك الدرجات والاستعداد لها، فيجب أنْ يوجد سبب لإخراجه من القوّة إلى الفعل، لتبديل الإمكان الثابت في محتواه الداخليّ إلى حقيقة[1]. وبهذا نعرف أنّ قانون الحركة العامّة في الطبيعة يبرهن بنفسه ضرورة وجود مبدأ خارج حدودها الماديّة، ذلك أنّ الحركة بموجب هذا القانون هي كيفيّة وجود الطبيعة. فوجود الطبيعة عبارة أخرى عن حركتها وتدرُّجها، وخروجها المستمرّ من الإمكان إلى الفعليّة. وقد انهارت لدينا نظريّة الاستغناء الذّاتيّ للحركة بتناقضاتها الداخليّة، التي تنبثق الحركة عن الصراع بينها -في زعم الماركسيّين- إذ لا تناقض ولا صراع، فيجب أن يوجد التعليل، وأن يكون التعليل بشيء خارج حدود الطبيعة، لأنّ أيّ شيء موجود في الطبيعة فوجوده حركة وتدرّج، إذ لا ثبات في عالم الطبيعة بموجب قانون الحركة العامّة، فلا يمكن أنْ نقف بالتعليل عند شيء طبيعيّ[2].

برهان حدوث المادّة:

الإيمانُ بالله تعالى فطرة في ذات الإنسان، تولد معه في عمق كينونته، وهي لا تزال على صفائها ونقاوتها الأولى ما لم تتعرّض –في سياق سيرورة الإنسان الوجوديّة- للشكوك والارتيابات والاهتزازت الحياتيّة لأسباب ذاتيّة وموضوعيّة تنطلق أساساً من أسئلة مثارة حول أصل الخلق وعلّته ومعناه، والسبب الكامن وراءه. وحدوث هذا الشكّ (النسبيّ) أمر طبيعيّ في سياق الحركيّة البشريّة والتفاعلات

(139)

الإنسانيّة، ولكنّ الأمر غير الطبيعيّ هو بقاء المرء (الشاكّ والباحث والسائل) واقفاً ومتيبّساً عند لحظةِ الشّكّ دونما بحثٍ جدّيّ عن معالجات جديّة وإجابات حقيقيّة موضوعيّة  عمّا تطرحه ـ حالة الشكّ- من استفسارات وتساؤلات حول موضوع الخالق والخلق والإيمان.

وقد تصدّى العلماء والمتكلّمون المسلمون لمحاولات إثارة تلك الشكوك، (قبل أن تتوسّع رقعتها، وتتحوّل إلى ما يشبه الظاهرة الكلاميّة والفكريّة القويّة والمتجذّرة في الوجدان العامّ)، وأبدعوا كثيراً من البراهين[1] حول مسألة وجود الله بالذات. ومنها برهان الحدوث.

وجاءت فكرة هذا البرهان (برهان حدوث المادّة، وعدم قِدِم العالم) لدحض فكرة «أزليّة المادّة» التي طرحت من قبل أصحاب النظريّة الماديّة (في محاولة منهم لتثبيت فكرة قدِم العالم وعدم حدوثه)، من خلال الردّ على تلك المحاولات الفكريّة التي تنفي وجود الخالق الصانع، وتثير جملة شكوك حول علّة الخلق والوجود والكون، حيثُ تتمثّل النّظرةُ الماديّة في رفض وجود علّة للكون سوى المادّة، والتي انتهوا فيها إلى القول بـ«أزليّة المادّة وقِدَمها».

وكان القرآن الكريم نفسه قد أشار في آيات عديدة ـ فيما يتعلّق بإثبات وجود الله ـ إلى هذا النمط من البراهين الكلاميّة «برهان الحدوث» من خلال دعوته الإنسان إلى ضرورة إمعان حسّه ونظره (وعموم إدراكاته) في آيات الله الكثيرة الحادثة كلّها، كدلائل على

(140)

أصل الخلق الإلهيّ.. يقول تعالى: «هَلْ أَتى على الإِنْسانِ حِينٌ من الَّدَهْرِ لم يَكُنْ شَيْئاً مذكوراً»[الدهر: 1]. (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الاْرْضِ مِثْلَهُنَّ..)[الطلاق: 12].

وتأتي هذه الآيات ليتمكّن هذا الإنسان من إدراك حدوث العالم ككلّ، (وبالتالي الوصول إلى حقيقة أنّه مخلوق وحادث وعرضيّ) وبالتالي أنّه معلول للعلّة الأولى (الله تعالى)، عن طريق إدراك حدوث أعيان الأشياء وتغييرها، كحدوث السحاب المسخّر بين السماء والأرض، وكإنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض بالنبات، كما في قوله تعالى:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كلّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة: 164].. وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)[الحج: 46]. والملاحظ أنّه في كلّ الآيات التي كان يتحدثّ القرآن فيها عن مسألة الحدوث، كانَ يختمُ الآيات بجملة (..إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الرعد: 4]، «يتدبّرون»، «يتفكّرون»، في دلالة واضحة على أهميّة الإدراك العقليّ والنظر والمعاينة في الآفاق للوقوف على «حدوث الأعراض»، فالرياح أعيان، وتصريفها وحركتها أعراض لها، وكلاهما يدرك بالحسّ. كما في قوله: (فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِق،َ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) [الطارق: 5-6]. وقوله: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)[الطور: 35].. وصولاً بهم إلى أنّ الله تعالى هو علّة الكون، وهو واجب الوجود

(141)

والأزليّ الخالق لكلّ شيء، يقول: (الله خَالِقُ كلّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)[الزمر: 52].

كما وردت أحاديث كثيرة عن النبي الكريم (ص) وأهل بيته الطاهرين في موضوع حدوث الكون:

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «الحمد لله الذي لا إله إلاّ هو الملك الحقّ المبين... كنت قبل كلّ شيء. وكوّنت كلّ شيء. وابتدعت كلّ شيء»[1].

وقال الإمام عليّ (عليه‌السلام):

“الحمد لله الدالِّ على وجودِه بخَلْقِهِ، وبمُحْدَثِ خَلْقِه على أَزَلِيَّته»[2].

«لا يجري عليه السّكونُ والحركةُ، وكيفَ يَجْري عَلَيْهِ ما هُو أَجراه ويَعُودُ فيه ما هو أَبداهُ ويحدُثُ فيه ما هو أَحْدَثَه»[3].

«يا من دلّ على ذاته بذاته»[4].

وقول الإِمام الحسن بن علي(عليهما السَّلام): “خَلَقَ الخَلْقَ فكان بديئاً بديعاً، ابتدأ ما ابتَدَعَ، وابتَدَعَ ما ابتَدَأَ»[5].

وقول الإمام محمّد بن عليّ الباقر(عليهما السلام): «إنّ الله تبارك وتعالى لم يزل عالماً قديماً خلق الأشياء لا من شيء. ومن زعم أنّ

(142)

الله تعالى خلق الأشياء من شيء فقد كفر. لأنّه لو كان ذلك الشيء الذي خلق منه الأشياء قديماً معه في أزليّته وهويّته كان ذلك الشيء أزليّاً. بل خلق الله تعالى الأشياء كلّها لا من شيء...»[1].

ويروى عن الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه‌السلام) أنّه دخل عليه رجل، فقال: يا بن رسول الله، ما الدليل على حَدَث العالم؟ فقال الإمام(عليه‌السلام): «أنت لم تكن ثمّ كنت، وقد علمت أنّك لم تُكوِّن نفسك ولا كوّنك من هو مثلك»[2].

وكان للفلاسفة والمتكلّمين المسلمين صولات وجولات في إبراز هذا الموضوع البرهانيّ «الكلاميّ ـ الفلسفيّ»، حيث سعوا لإثبات الصانع عزّ وجلّ ببراهين عدّة كما أسلفنا، منها هذا البرهان «برهان الحدوث»، وعدم أزليّة المادّة، أي عرضها، وعدم جوهريّتها، ووجود بداية لها، حيث ما قبلها كانَ عدماً محضاً. وتختصر حقيقة هذا البرهان بقالب أرسطيّ: العالم متغيّر، وكلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث. بما يعني أنّ للعالم والكون (والوجود كلّه) علّة أولى وخالقاً أزليّاً أخرج الكون والعالم من العدم إلى الوجود، ومنحه صفةَ الحياة (الوجود) التي تظهر من خلال الحركة والسكون والاجتماع والاقتران[3]، وهي مظاهر واقعة للمادّة، وأعراض محدثة عليها، لأنّ العرض لا يكون

(143)

إلّا حادثاً فقط[1]. والحادث جائز الوجود؛ إذ يجوز تقديره عدماً قبل الوجود، فلمّا اختصّ العالم بالوجود الممكن بدلاً عن العدم الجائز، احتاج إلى موجد وافتقر إلى صانع، وهو الله تعالى.

حتّى على صعيد العلم التجريبيّ والنتائج العلميّة المختبريّة والتجريبيّة القائمة على الحسّ والملاحظة والتجربة، فقد علمنا أنّ السّمات والخصائص (أعراض المادّة وتحوّلاتها التي تظهر بها وعليها في مختلف مجالات وجودها) هي صفات وخصائص (طارئة) غير ذاتيّة، بل عرضيّة للمادّة الأصليّة، أو للواقع المادّيّ المشترك، خاصّة وأنّه يمكن سلب أيّة واحدة من تلك الصفات أو الخصائص عن المادّة، بما يعني نزع الأزليّة عنها، وبالتالي حدوثها. وعندما نقول: هذا الشيء «حادث»، معنى ذلك: أنّ هذا الشيء لم يكن ثمّ كان، أي: كان «معدوماً» ثمّ صار «موجوداً. وعندما نقول: هذا الشيء «قديم»، معنى ذلك: أنّ هذا الشيء موجود في الأزل، ولا بداية لوجوده، وهو «الموجود» الذي لم يسبقه «العدم»[2].

ويشير العلامّة الشيخ جعفر السّبحانيّ في موسوعته الكلاميّة والفلسفيّة (الإلهيّات)[3] إلى أنّ الحدوث وصفٌ للوجود باعتبار كونه مسبوقاً بالعدم. وهو على قسمين، الأوّل: الحدوث الزمانيّ وهو مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم الزمانيّ كمسبوقيّة اليوم بالعدم في أمس، ومسبوقيّة حوادث اليوم بالعدم في أمس. والثاني: الحدوث الذّاتي وهو مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم في ذاته، كجميع

(144)

الموجودات الممكنة الّتي لها الوجود بعلّة خارجة من ذاتها، وليس لها في ماهيّتها وحدّ ذاتها إلّا العدم، هذا حاصل ما ذكروه في تعريف الحدوث وتقسيمه إلى الزمانيّ والذاتيّ والتفصيل يطلب من محلّه[1]. ثمّ إنّ مرجع الحدوث الذاتيّ إلى الإمكان الذاتيّ، فالاستدلال بالحدوث الذاتيّ راجع إلى برهان الإمكان والوجوب.

وقد ظهر أنّ هناك حدوثاً للحياة في عالم المادّة، فقد أثبت العلم بوضوح أنّ هناك انتقالاً حراريّاً مستمرّاً من الأجسام الحارّة إلى الأجسام الباردة، ولا تتحقّق في عالم الطبيعة عمليّة طبيعيّة معاكسةً لذلك، ومعنى ذلك أنّ الكون يتّجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأجسام من حيث الحرارة وعند ذلك لن تتحقّق عمليّات كيميائيّة أو طبيعيّة، ويستنتج من ذلك: أنّ الحياة في عالم المادّة أمر حادث ولها بداية، إذ لو كانت موجوداً أزليّاً وبلا ابتداء لزم استهلاك طاقات المادّة، وانضباب ظاهرة الحياة المادّيّة منذ زمن بعيد. وإلى ما ذكرنا أشار «فرانك آلن» أستاذ علم الفيزياء[2]، من أن قانون «الترموديناميكا» أثبت أنّ العالم لا يزال يتّجه إلى نقطة تتساوى فيها درجة حرارة جميع الأجسام، ولا توجد هناك طاقة مؤثِّرة لعمليّة الحياة، فلو لم يكن للعالم بداية وكان موجوداً من الأزل لزم أن يقضى للحياة أجلها منذ أمدٍ بعيدٍ، فالشَّمس المشرقة والنجوم والأرض المليئة من الظواهر الحيويّة وعمليّاتها أصدق شاهد على أنّ العالم حدث في زمان معيَّن، فليس العالم إلّا مخلوقاً حادثاً[3]

(145)

وهذا يؤكّد عرضيّة المادّة، أي إنّ وجودها ليس نابعاً من تلقاء نفسها أو من ذاتيّتها. هو شيء خارجيّ عليها. أي منوط بغيرها. بمعنى أنّ لها بداية ولها نهاية. والعلوم التطبيقيّة كلّها (حتّى على مستوى قوانين علوم الطاقة والمادّة، وعلى رأسها قوانين الديناميكا الحراريّة) كلّها تقول بفناء المادّة، وتؤكّد انتهاءها وبرودتها، بما يعني حدوثها وعدم أزليّتها، وأنّ الوجود طارئ عليها، وليس ذاتيّاً فيها. وهذا ما يقصد من حدوث المادّة باختصار شديد.

وبشيء من الاختصار المنطقيّ، نقول:

يتشكل برهان الحدوث من مقدّمتين ونتيجة:

المقدّمة الأولى: العالم حادث.

المقدّمة الثانية: كلّ حادث يحتاج إلى مُحدِث.

النتيجة: العالم يحتاج إلى مُحدِث.

تتحدّث المقدّمة الأولى عن التغيّر (الحدوث) الذي يلفّ الكون والوجود كلّه، وهذا ما جرى التوصل إليه علميّاً (تجريبيّاً) من قبل كلّ العلماء التجريبيّن ممّن عملوا على اكتشاف قوانين الطبيعة وقوى المادّة الطبيعيّة (المناطيسيّة والكهربائيّة والكهرومغناطيسيّة والنوويّة) التي تتحكّم بالكون والوجود والحياة كما قلنا.

وتتحدّث المقدّمة الثانية، عن قاعدة عقليّة لا يمكن إثباتها تجريبيّاً، بل هي خارج اختصاص البحوث المادّيّة التجريبيّة، وهي تعتمد على البديهيّات العقليّة، وأساسها قانون «العلّيّة»، وهو قانون عامّ شامل، ويعتبر الأساس للحركيّة البشريّة ومختلف المساعي

(146)

والنشاطات والفعاليّات العلميّة والعاديّة التي تقوم بها، وقد جرى بحثه في موضع سابق من هذا البحث.

وهكذا نصل إلى النتيجة العقليّة المتوخّاة وهي أنّ العالم مفتقر بذاته، ويحتاج إلى محدث له، وهو الصانع عزّ وجلّ، العلّة الأولى للخلق والوجود والحياة. 

 

(147)

خاتمة البحث:

حين تتحدّثُ الفلسفات المادّيّة الغربيّة عن حيويّة التفكير المادّيّ، وعلميّته، ورصانته، وأسبقيّة فكرة «المادّة» ذاتها، وتستغرق في شروحات أسباب رفض الدين والأفكار الدينيّة والمثاليّة الدينيّة، نجدها تفشل فشلاً ذريعاً في تقديم طرح بديل عقلانيّ لجوانب أخرى تخصّ الطبيعة البشريّة في أصلها وبنيتها وجوهريّة وجودها الدائم، بحيث تتجاوز الطبيعة الماديّة، وما بعد المادّة، وتتجاوز الذاتيّة الغرائزيّة لها.. وهي تفشل أيضاً في تقديم طرحٍ حقيقيّ محمي من جهة العقل، يعطي للحياة معنى حقيقيّاً مرتبطاً بالكمال الوجوديّ النفسيّ والروحيّ، ويستأصل من الأذهان فكرة العبث في الحياة وأفكار اللا جدوى والفراغ والضياع، وهي تعجز عن تقديم طرحٍ يحيي الآمال الحقيقيّة (لا المزيّفة) في نفوس الناس، ويشعل حماستهم الذاتيّة، ويبعث طموحهم العمليّ، ويعطيهم الشعور بالمسؤوليّة بعضهم تجاه بعض وغايتهم التكامليّة.. بحيث يكون هذا الطرح غير خاضع فقط للقوانين التي ترتبط بعالم الإنسان، حيث يبرز ذلك من خلال نشاط الإنسان الحضاريّ مثل: الاجتماع الإنسانيّ والحسّ الخلقيّ والحسّ الجماليّ والحسّ الدينيّ.. ويرصد لنا الدكتور عبد الوهاب المسيريّ هذه المظاهر الإنسانيّة في كون الإنسان هو[1]:

(148)

- كائن دائب التنقيب عن تساؤلات عما يسمّى العلل الأولى، وليس عن معلولاتها ومآلاتها وحسب.

- كائن دائم البحث عن الغرض (والهدفيّة والغائيّة) من وجوده في الكون.

- كائن واعٍ بذاته، مدرك (بفطرته) لضرورة (روحنتها)، ومدرك أيضاً للكون، وقادر على تجاوز ذاته الماديّة.

- كائن صاحب إرادة حرّة (وعاقلة)، برغم الحدود الطبيعيّة والتاريخيّة التي تحدّه.

- كائن قادر على تطوير منظومات أخلاقيّة غير نابعة من البرنامج الطبيعيّ/الماديّ.

- كائن يطوّر ويبدع أنساق من المعاني الداخليّة والرموز التي يدرك من خلالها الواقع.

- كائن متميّز فيه كلّ فرد بخصوصيّات لا يمكن محوها أو تجاهلها.

ونضيف إليه: كائن إنسانيّ يسعى لتحقيق ذاته وخصوصيّاته وفرديّته ومصالحه، وليس تحقيقه لإرادة الجماعة وحسب، كما هي النظرة المادّيّة الماركسيّة التي أرادت أن يكون هذا الكائن مجرّد جزء من آلة يذوب بالاتّحاد مع العالم بواسطة العمل، ليفقد –من خلال ذلك- إرادته ووعيه ومسؤوليّته كرمى لعيون أدوات الإنتاج، وأرباب وسائل (وأدوات) الإنتاج.

وهذه كلّها لا يمكن للمادّة والتجارب المادّيّة الوصول إلى ماهيّتها ومعرفتها بالذات، حتّى الإجابة عنها بالعرض، لأنّها قضايا

(149)

تتّصل بالمعنى والغاية والمقاصد العليا[1]، تتّصل بالتكامل الروحيّ للإنسانيّة. وهو أمر لا صلة بينه وبين المادّة، سوى من جهة أنّ العلم (المادّيّ) قد يملك تطبيقات ووسائل حسّيّة يمكن أن تساعد في الوصول إليها.

إنّ النظرة الماديّة محدودة، لا تفكّر إلّا بالماّدة، فكراً وسلوكاً، وهي تربط الناس بأشكال ومظاهر شتّى من المادّيّات الحياتيّة، مبعدةً إيّاهم عن أصالتهم الروحيّة، ومعنى وجودهم الأصيل. تربطهم بغايات مادّيّة محدودة وقاصرة، وتدفعهم ليتكيّفوا روحياً وفكرياً وفقاً لتطوّرات الإنتاج، ونوعيّة لقوى المنتجة، دونّما إسهام في حلّ أصل مشكلة الاجتماع البشريّ القائمة على محاولة  تقديم الجواب الصحيح على ذلك السؤال الأساسيّ: ما هو النظام الذي يصلح للإنسانيّة، ويمكنُ أن تسعد به في حياتها الاجتماعيّة، خاصّةً في ظلّ هيمنة الدوافع الذاتيّة والشخصيّة على الإنسانيّة (كحبّ الذات، والطمع، والشهوة، والملك، وحبّ الشهرة، والمتعة، واللذّة، وووإلخ)، وعدم قدرة الإنسان (العمليّة) على التحرّر منها في سياق بحثه عمّا يصلح له من قوانين وأنظمة اجتماعيّة يمكن أن تحقّق له السعادة الحياتيّة الحقيقيّة المنشودة؟!!

(150)

حقيقةً، من يقرأ تاريخ الحضارات ويتمعّن في أفعال وسلوكيّات الاجتماع البشريّ فيها، سيدرك أنّ مجمل هذه الحضارات البشريّة التي صنعها الإنسان، عجزت واقعيّاً ـ برغم كثير ما حقّقته وأنجزته لراحة الإنسان ماديّاً ـ عن وضع نظام قانونيّ يقاوم في الإنسان عبوديّته لشهوته، ويرتفع به إلى مستوى إنسانيّ أعلى فكراً وسلوكاً أخلاقيّاً، ويجعل البشريّة تعيش في مأمن من الحروب والصراعات والفوضى والقتل والدمار بين كلّ وقت وآخر.

إنّ الإنسانيّة لن تتمكّن فكريّاً وعمليّاً من السير على طريق الخلاص وتنظيم دوافع الذات المهيمنة والمسبّبة أصلاً للأزمات والصّراعات، ما دام التفسير المادّيّ المحدود للحياة طاغياً على حركة الفرد في وعيه وسعيه، فكلّ فرد في المجتمع (أيّ مجتمع) إذا آمنَ بأنّ ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم هو حياته الماديّة الخاصّة، وآمنَ أيضاً بحريّته في التصرّف بهذه الحياة واستثمارها، وأنّه لا يمكن أن يكسب من هذه الحياة غاية إلاّ اللذة التي توفّرها له المادّة.. وأضاف هذه العقائد الماديّة إلى حبّ الذات، الذي هو من صميم طبيعته، فسوف يسلك السبيل الذي سلكه الرأسماليّون وينفذ أساليبهم كاملةً ما لم تحرمه قوّة قاهرة من حريّته وتسدّ عليه السبيل[1]. وحبّ الذات هو الغريزة التي لا نعرف غريزةً أعمّ منها وأقدم، فكلّ الغرائز فروع هذه الغريزة وشعبها، بما فيها غريزة المعيشة. فإنّ حبّ الإنسان ذاته ـ الذي يعني حبّه للذّة والسعاة لنفسه، وبغضه للألم والشقاء لذاته ـ هو الذي يدفع الإنسان إلى كسب معيشته، وتوفير حاجياته الغذائيّة والماديّة. ولذا قد يضع حدّاً

(151)

لحياته بالانتحار، إذا وجد أنّ تحمُّل ألم الموت أسهل عليه من تحمُّل الآلام التي تزخر بها حياته. والواقع الطبيعيّ الحقيقيّ إذاً، الذي يكمن وراء الحياة الإنسانيّة كلّها ويوجهها بأصابعه هو: حبّ الذات، الذي نعبّر عنه بحبّ اللذّة وبغض الألم. ولا يمكن تكليف الإنسان أنْ يتحمّل مختاراً مرارة الألم دون شيء من اللذّة، في سبيل أنْ يلتذّ الآخرون ويتنعّموا، إلاّ إذا سلبت منه إنسانيّته، وأعطي طبيعة جديدة لا تتعشّق اللذّة ولا تكره الألم[1].

كذلك لن تتمكّن الإنسانيّةُ من صنع إنسان جديد مغاير لطبائعه وأمزجته وأهوائه، أي لن يكون بمقدورها وتبديل الإنسان الحاليّ بإنسان آخر لضمان السيطرة على تلك المفاهيم الماديّة المستحكمة (وما ينبثق عنها من مقاييس للأهداف والأعمال) من أجل أن تتحقّق العدالة وإنسانيّة الإنسانيّة.. ولهذا لا بدّ من تقديم طرح فكريّ مفهوميّ يقوم على تنظيم هذه الطبائع وربطها بغايات إنسانيّة نبيلة، وهذه توّفرها النظرة العلويّة، نظرة المعنى والهدفيّة، أي النظرة الدينيّة المناقضة -كما رأينا- للنظرة والفلسفة المادّيّة، وهي نظرة وفلسفة واقعيّة، تربطُ الإنسان بغاية ونموذج فعّال، ومثل أعلى مرتفع، وتُركّز التفسير الواقعيّ للحياة، بما يؤدّي إلى إشاعة فهمها في لونها الصحيح، كمقدّمة تمهيديّة إلى حياة أخرويّة، يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه، في سبيل تحصيل رضا الله. وعلى هذا الطريق يجري العمل على تربية هذا الإنسان لتعميق الفهم المعنويّ الغائيّ لهذه الحياة. وهذا هو المعنى الحقيقيّ للدين في سعيه لتوحيد المقياس الفطريّ للعمل والحياة،

(152)

وهو حبّ الذات، والمقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل والحياة، ليضمن السعادة والرفاه والعدالة[1].

وهذا المثلُ الأعلى المرتفع (بتعبير الشّهيد السّيد محمد باقر الصّدر) هو الله تعالى مطلق الكون والوجود والحياة، وغاية الغايات. والغايات بنفسها محرّكة للتاريخ، وهي بدورها نتاج لقاعدة أعمق منها في المحتوى الداخليّ للإنسان، وهو المثل الأعلى الذي تتمحْور فيه كلّ تلك الغايات، وتعود إليه كلّ تلك الأهداف، فبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشريّة صالحاً وعالياً وممتدّاً تكون الغايات صالحة وممتدّة، وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً. وهذا المثل الأعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامّة إلى الحياة والكون، يتحدّد من قِبَل كلّ جماعة بشريّة على أساس وجهة نظرها العامّة نحو الحياة والكون. على ضوء ذلك تحدِّد مَثَلها الأعلى[2].

(153)

قائمة بأهم مراجع الدراسة

1- القرآن الكريم.

2- نهج البلاغة.

3- ابن سينا. «كتاب الشفاء». المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، طبعة عام 1988م، بيروت/لبنان.

4- ابن رشد. «فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». الطبعة الأولى 1997م، مركز دراسات الوحدة العربيّة.

5- أمين، أحمد .«طريقنا إلى الحريّة، محاورة زكي نجيب محمود». «عين» للدراسات والبحوث الإنسانيّة والاجتماعيّة، القاهرة/مصر، الطبعة الأولى عام 1994م.

6- أحمد ثابت. «نقد النموذج الماديّ الغربيّ المعادي للتاريخ، في عالم عبد الوهاب المسيري: حوار نقديّ حضاريّ». دار الشروق، القاهرة/مصر، الطبعة الأولى 2004م.

7- اسبينوزا، باروخ. «رسالة في اللاهوت والسياسة». ترجمة: حسن حنفي، دار التنوير، بيروت/لبنان، طبعة عام 2005م.

8- إسلام، عزمي. «مدخل إلى الميتافيزيقيا». مكتبة سعيد رأفت، القاهرة/مصر، طبعة عام 1977م.

9- أنجلز، فريدريش أنجلز. «الماديّة التاريخيّة: رسائل حول الماديّة التاريخيّة 1890-1894». ترجمة: إلياس شاهين، دار التقدّم، موسكو، طبعة عام 1980م.

10- أنجلز، فريدريش. «ضدّ دوهرنك». ترجمة: محمد الجنديّ، دار التقدم، موسكو، طبعة عام 1984م.

11- ابن منظور، جمال الدين. «لسان العرب». المجلد: 12، دار صادر، بيروت/لبنان، الطبعة الثالثة، 1993م.

12- الأهواني، أحمد فؤاد. «فجر الفلسفة اليونانيّة قبل سقراط». الهيئة المصريّة للكتاب، القاهرة/لبنان، طبعة عام 2009م.

13- بدوي. عبد الرحمن. «موسوعة الفلسفة». المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر. بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 1984م.

14- بدوي، عبد الرحمن. «مدخل جديد إلى الفلسفة». وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثانية عام 1979م.

15- برييه، إميل. «تاريخ الفلسفة». المجلد الأول (العصور القديمة والوسطى)، طبعة باريس 1935.

(154)

16- بيكون، فرانسيس. «الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة». ترجمة د. عادل مصطفى، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة/مصر طبعة عام 2013م.

17- برتراند رسل. «تاريخ الفلسفة الغربيّة». ترجمة: زكي نجيب محمود، راجعه: أحمد أمين، ط: 2، لعام 1967م، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة، الكتاب الأول: الفلسفة القديمة.

18- برتراند رسل. «حكمة الغرب: عرض تاريخيّ للفلسفة الغربيّة في إطارها الاجتماعيّ والسياسيّ». الجزء الأول، ترجمة: د. فؤاد زكريا، عالم المعرفة: سلسلة كتب ثقافيّة شهريّة يصدرها المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب-الكويت، (364)، حزيران2009م.

19- بيغوفتش، علي عزت. «الإسلام بين الشّرق والغرب». طبعة مؤسّسة العلم الحديث، بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 1994م.

20- بوليتزر، جورج. «أصول الفلسفة الماركسيّة». ترجمة: شعبان بركات. منشورات المكتبة العصريّة، صيدا/لبنان، طبعة بلا تاريخ.

21- البستانيّ، بطرس. «أدباء العرب في الأعصر العباسيّة». دار الجيل، بيروت/لبنان، طبعة: 4، عام 1998م.

22- بدوي، عبد الرحمن. «من تاريخ الإلحاد في الإسلام». دار سينا للنشر، القاهرة/مصر، طبعة ثانية سنة 1993م.

23- بيومي، أشرف. «الاتّجاه النقديّ في الفكر الفلسفيّ المعاصر». دار المعرفة الجامعية. مصر/القاهرة، طبعة: 2009م.

24- بدوي، عبد الرحمن. «مدخل جديد إلى الفلسفة». وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثانية عام 1979م.

25- بدوي. عبد الرحمن. «موسوعة الفلسفة». المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر. بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 1984م، الجزء الثالث.

26- بدوي، عبد الرحمن. «موسوعة الفلسفة». الجزء الثاني، الناشر: ذوي القربى، الطبعة الثانية، 2008م، قم/إيران.

27- بروكلمان، كارل. «تاريخ الأدب العربي». تحقيق: عبد الحليم نجا، ورمضان عبد التواب، دار المعارف، القاهرة/مصر، طبعة عام 1977م.

28- بُوتنام، هيلاري. «العقل والصدق والتاريخ». ترجمة: حيدر حاج إسماعيل، مراجعة: هيثم غالب

(155)

الناهي، المنظمة العربيّة للترجمة، الطبعة الأولى، لبنان، بيروت، طبعة عام 2012م.

29- بوبر، كارل. «النفس ودماغها». ترجمة: د. عادل مصطفى، رؤية للطباعة والنشر، مصر/القاهرة، طبعة عام 2012م.

30- بوبر، كارل. «أسطورة الإطار: في الدفاع عن العلم والعقلانيّة». ترجمة: يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة الكويتيّة، الكويت، العدد: 292، شهر إبريل/مايو 2003م.

31- بودون، ر. وبورّيكو، ف. «المعجم النقديّ لعلم الاجتماع». سليم حدّاد، مترجم، الطبعة الثانية، بيروت/لبنان، مجد المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، طبعة عام 2007م.

32- ثابت، أحمد. «نقد النموذج الماديّ الغربيّ المعادي للتاريخ، في عالم عبد الوهاب المسيريّ: حوار نقديّ حضاريّ». دار الشروق، القاهرة/مصر، الطبعة الأولى 2004م.

33- الجسر، نديم. «قصة الإيمان”. بيروت، لبنان، منشورات المكتب الإسلاميّ، ط: 3، سنة النشر 1969م.

34- حمد، إنصاف. «المعرفة والتجربة: دراسة في نظريّة المعرفة عند ديفيد هيوم». منشورات وزارة الثقافة السوريّة، طبعة أولى عام 2006م، ص: 345.

35- الخطيب البغدادي. «تاريخ بغداد». دار الفكر، طبعة مصورة، بلا تاريخ.

36- ديورانت، ول. «قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون ديوي». ترجمة: فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت/لبنان. الطبعة السادسة عام 1988م.

37- دلّو، برهان الدّين. «جزيرة العرب قبل الإسلام». منشورات آنيب/الجزائر، وبيروت/ دار الفارابي. ج: 1 و 2، طبعة عام 2004.

38- ديكارت، رينيه. «مقال عن النّهج». ترجمة: محمود الخضيريّ، مراجعة وتقديم: د. محمد مصطفى حلمي، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة/مصر، طبعة عام 1985.

39- الدّعجانيّ، عبد الله بن نافع. «جدلية العقل والدين بين الفكر الغربيّ والدين الإسلامي». دار جداول للنشر، طبعة أولى عام 2013م.

40- السّبحانيّ، جعفر. «نظريّة المعرفة». بقلم: الشيخ: حسن محمد مكي العامليّ. الدار الإسلامية، بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 1990م.

41- السبحانيّ، جعفر. «الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، الدار الإسلاميّة، بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 1989م.

42- سعيد، حكيم محمد. «أعلام ومفكّرون: لمحات عن مشاهير العلماء والمفكّرين في عصور الإسلام

(156)

الذهبية»، ط: 2، لعام 2000م، الأكاديميّة الإسلاميّة للعلوم، عمان/الأردن.

43- ستيس، والتر. «الدين والعقل الحديث». ترجمة وتعليق وتقديم: أ.د. إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة/مصر، طبعة عام 1998م.

44- ستيس، والتر. «تاريخ الفلسفة اليونانيّة». ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة، القاهرة/مصر. بلا تاريخ.

45- ستالين، جوزيف. «الماديّة الديالكتيكيّة والماديّة التاريخيّة». طبعة 2005م.

46- ستالين، جوزف. «الماديّة الديالكتيكيّة والماديّة التاريخيّة» المكتبة الاشتراكيّة، تقديم: خالد بكداش، دار دمشق للطباعة والنشر، طبعة (إهداء) 2007.

47- ستالين، جوزيف. «آخر المؤلّفات.. حول الماركسيّة وفقه اللغة». طبعة باريس، 1953م.

48- ستيوارت ميل، جون. «أسس الليبراليّة السياسيّة». ترجمة وتقديم وتعليق: د. إمام عبد الفتاح إمام،  د. ميشيل متياس، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى 1996م.

49- سبينوزا، باروخ. «رسالة في اللاهوت والسياسة». ترجمة: حسن حنفي، دار التنوير، بيروت/لبنان، طبعة عام 2005م.

50- سيرل، جون. «العقل». ترجمة: ميشيل حنا متياس، سلسلة عالم المعرفة الكويتيّة، المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 343، أيلول 2007م.

51- شمس الدين، محمد مهدي. «مطارحات في الفكر الماديّ». تحقيق: محمد صادق الغريريّ، إشراف: سامي الغريريّ. طباعة: مؤسّسة دار الكتاب الإسلاميّ، طبعة عام 2006م.

52- شميّل، شبلي. «فلسفة النشوء والارتقاء». المجموعة، الجزء الثاني، دار نظير عبود، طبعة جديدة، بيروت/لبنان، طبعة عام 1991م.

53- شالين، أوليفييه .»فرنسا في القرن الثامن عشر». دار بيلان، باريس/فرنسا، طبعة عام 2006م.

54- الصدر، محمد باقر. «فلسفتنا». مؤسّسة دار التعارف للمطبوعات والنشر، لبنان/بيروت، طبعة عام 1992م.

55- الصدر، محمد باقر. «اقتصادنا». تحقيق المؤتمر العالميّ للإمام الشهيد الصدر، قم/إيران، طبعة عام2004م.

56- الصدر، محمد باقر. «المدرسة الإسلاميّة». الناشر: دار الكتاب المصريّ (القاهرة)، دار الكتاب اللبنانيّ (بيروت)، سنة النشر2011م.

(157)

57- الصدر، محمد باقر. «المدرسة القرآنيّة». مؤسّسة دار الكتاب الإسلاميّ، طبعة ثانية عام 2013م.

58- صليبا، جميل. «من أفلاطون إلى ابن سينا». طبعة: 4، لعام 1951، دار الأندلس، بلا بلد نشر.

59- الطباطبائي، محمد حسين. «بداية الحكمة». دار المعارف الإسلاميّة، طبعة بلا تاريخ.

60- طارق، قصي. «أفلاطون». مجلّة دراسات دوليّة، العدد: 80، عام: 2006م. 

61- عبود، علي. «الرؤية الكونيّة الإلهيّة: دراسة في الدوافع والمناهج». نور للدراسات والنشر، الطبعة الأولى عام 2012م. بلا بلد نشر.

62- عرابي، أسامة. «كارل بوبِّر، مدخل إلى العقلانيّة النقديّة». الناشر: المؤتمر الدائم للحوار اللبنانيّ، سلسلة قضايا معاصرة وشخصيّات، بلا تاريخ.

63- عامل، مهدي. «في الدولة الطائفيّة». دار الفارابيّ، بيروت/لبنان، الطبعة الثالثة 2003م.

64- غادامير، جورج هانز. «بداية الفلسفة». ترجمة: علي حاكم صالح وحسن ناظم، طبعة أولى عام 2002م.

65- فيورباخ، ل. «أصل الدين». دراسة وترجمة: أحمد عبد الحليم عطيّة، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 1991م.

66- فروخ، عمر. «تاريخ الفكر العربيّ إلى أيّام ابن خلدون». دار العلم للملايين، بيروت/لبنان، طبعة عام 1983م.

67- فضل الله، هادي. «مدخل إلى الفلسفة». دار المواسم، بيروت/لبنان، طبعة 2002م.

68- فيرنك، أندرو.«أوغست كونت ودين البشريّة». مطبوعات جامعة كامبردج، عام 2005م.

69- الفيروز آبادي، مجد الدين. «المعجم الوسيط». الطبعة الثامنة، مؤسّسة الرسالة، 2005، بيروت/لبنان.

70- كرم، يوسف. «تاريخ الفلسفة اليونانيّة». القاهرة/مصر، طبعة خامسة عام 1970.

71- كامو، ألبير. «الإنسان المتمرّد». ترجمة: نهاد رضا، منشورات عويدات، بيروت/لبنان، طبعة ثالثة عام 1983م.

72- ل.لاندوا وأ.كيتايجورودسكي. «الفيزياء للجميع»، نشر في الاتّحاد السوفيتيّ السابق/موسكو، الترجمة العربيّة من «دار مير للطباعة والنشر» طبعة عام 1978.

73- لويس، جون. «مدخل إلى الفلسفة». ترجمة أنور عبد الملك، الدار المصريّة للكتب، القاهرة/مصر، طبعة عام 1957م.

74- مطهري، مرتضى. «الدّوافع نحو الماديّة». ترجمة: الشيخ محمد علي التسخيري، طباعة دار التعارف،

(158)

بيروت/لبنان، طبعة عام 1991م.

75- مجموعة من المؤلِّفين . «عبقريّة الحضارة العربيّة، منبع النهضة الأوروبيّة». ترجمة عبد الكريم محفوض، منشورات وزارة الثقافة السوريّة، دمشق: 1972م.

76- مجموعة من نخبة العلماء. «الله يتجلّى في عصر العلم». ترجمة: الدمرداش عبد المجيد سرحان، دار القلم، بيروت/لبنان، طبعة بلا تاريخ.

77- المسيريّ، عبد الوهاب. «قراءة في كتاب الفلسفة الماديّة وتفكيك الإنسان». دار الفكر، دمشق/سوريا، طبعة ثانية عام 2007م.

78- «موسوعة الفلسفة». المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 1984م. الجزء الثاني.

79- المعجم الوسيط (الصادر عن مجمع اللغة العربيّة)، مدير النشر: عبد العزيز النجار، الطبعة الرابعة عام 2004م، مكتبة الشروق الدوليّة، القاهرة/مصر.

80- مرقص، إلياس. «الماركسيّة في عصرنا». بيروت/لبنان، دار الطليعة طبعة عام 1969م.

81- مرقص، إلياس. «نقد العقلانيّة العربيّة». دار الحصاد للنشر والتوزيع، 1997، دمشق/سوريا.

82- مروة، حسين. «تراثنا كيف نعْرفه». مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت/لبنان، طبعة 2، 1986م.

83- محمد بن بابويه (الشيخ الصدوق). «التوحيد». دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت/لبنان، طبعة بلا تاريخ.

84- مجمد بن بابويه (الشيخ الصدوق). «علل الشرائع». دار المرتضى، بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 2006م.

85- مصباح، محمد تقي الدّين. «المنهج الجديد في تعليم الفلسفة». دار التعارف للمطبوعات، لبنان/بيروت، طبعة أولى عام 1990م.

86- المجلسيّ، محمد باقر. «موسوعة بحار الأنوار»، دار إحياء الكتب الإسلاميّة، لبنان/بيروت، طبعة عام 1996.

87- المسيري، عبد الوهاب. «الفلسفة الماديّة وتفكيك الإنسان». دار الفكر، دمشق/سوريا، الطبعة الثانية عام 2003م.

88- ماركس، كارل. «رأس المال»، الجزء الأول، مكتبة النهضة المصريّة، طبعة عام 1947م.

89- الموسوعة العربيّة، المجلد الثاني عشر، التصنيف: الفلسفة وعلم الاجتماع والعقائد، النوع: إعلام

(159)

ومشاهير، الناشر: هيئة الموسوعة السوريّة (رئاسة الوزراء السوريّة)، طبعة أولى عام 2009م.

90- الموسوعة الفلسفية، وضع لجنة من العلماء والأكاديميّين السوفياتيّين، النسخة العربيّة، الطبعة الأولى، دار الطليعة-بيروت/لبنان، تشرين أوّل: 1974م.

91- «موسوعة الفلسفة». الجزء الثاني، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 1984م.

92- موسوعة اليهود واليهوديّة والصهيونيّة. الجزء الأول، دار الشروق الطبعة الأولى عام 1999م، القاهرة/مصر.

93- النشار، علي سامي، (وآخرون). «ديموقريطس فيلسوف الذرّة، وأثره في الفكر الفلسفيّ حتّى عصورنا الحديثة». طبعة الهيئة العامّة المصريّة للكتاب، منطقة الاسكندريّة. عام 1998م.

94- نجيب محمود، زكي. «فلسفة سبينوزا». مجلّة الرسالة، العدد: 12، تموز/يوليو 1933م- مجلّة الرسالة العدد: 15، أب/أغسطس 1933م.

95- نعمة، طلال. «إلياس مرقص: حوارات غير منشورة». المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة/قطر، طبعة أولى، تشرين الثاني 2013م.

96- ابن النديم، محمد بن اسحاق. «كتاب الفهرست لابن النديم في أخبار العلماء المصنفين من القدماء والمحدّثين وأسماء كتبهم». مؤسّسة الفرقان للتراث الإسلاميّ، لندن/إنكلترا، طبعة عام 2009.

97- نصّار، ناصيف. «نحو مجتمع جديد». دار الطليعة، بيروت/لبنان، طبعة عام: 1955م.

98- نجيب محمود، زكي. «فلسفة سبينوزا». مجلّة الرسالة، العدد: 12، تموز/يوليو 1933م- مجلّة الرسالة العدد: 15، أب/أغسطس 1933م.

99- ويبستر. «قاموس ويبستر (إنكليزيّ-إنكليزيّ)». مكتبة لبنان ناشرون، طبعة عام 1993م.

100- ويلرايت، فيليب. «الفلاسفة قبل سقراط». نيوجرسي، طبعة 1966م.

101- وين، فرانسيس. «كارل ماركس، قصة حياة:

 Karl Marx - A Life». ترجمة: د. سعدي عبد اللطيف، طبعة لندن عام 2012م.

(160)
المؤلف في سطور نبيل علي صالح نبذة علمية نبيل علي صالح: كاتب وباحث سوري، حاصل على الإجازة (بكالوريوس) في هندسة الطاقة الكهربائية . مهتم بقضايا النقد الفكري والتجديد الديني، ومختلف إشكاليات الثقافة العربية والإسلامية. نشر (وينشر) مقالاته وبحوثه في كثير من الصحف والمجلات والدوريات العربية والدولية، وفي كثير من المواقع الإلكترونية. شارك في مؤتمرات (وندوات) فكرية وعلمية عديدة. . صدر له عدة كتب ، نذكر منها : . كتاب: ((طيب تيزيني....من التراث إلى النهضة)) . وكتاب: ((العرب والتحديات المعاصرة(العولمة ، الهويات الثقافية ، مجتمع الثورة المعلوماتية))) . وكتاب: ((المجتمع المدني الإسلامي...هموم وقضايا معاصرة)) . وكتاب: ((العقلانية والحوار من أجل التغيير)) . وكتاب: ((الحداثة والعقلانية والانفتاح في فكر الشهيد الصدر والعلامة فضل الله))
هذا الكتاب المادية مقاربة نقدية في البنية والمنهج تتناول هذه الدراسة التي تندرج ضمن سلسلة (مصطلحات معاصرة) مصطلح المادية Materialism في معناها اللغوي والاصطلاحي وكذلك في دلالاتها الأنطولوجية وظهوراتها التاريخية. وهو ما عبرت عنه المذاهب الفكرية والمدارس الفلسفية والتيارات السياسية التي ظهرت في الغرب ابتداء من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين ومنها على وجه الخصوص ما عبرت عنه الماركسية على المستويين النظري والتطبيقي . المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف