الماديّة: مُقَاْرَبَةٌ نَقْدِيّةٌ فِي الْبِنْيَةِ والمنْهَج
تأليف
نبيل على صالح
مقدمة المركز
تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.
وسعياً إلى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.
أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحوالتالي:
أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.
ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أويجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.
ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.
رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.
* * *
تتناول هذه الدراسة التي تندرج ضمن سلسلة (مصطلحات معاصرة) مصطلح المادية Materialism في معناها اللغوي والاصطلاحي وكذلك في دلالاتها الأنطولوجية وظهوراتها التاريخية. وهو ما عبّرت عنه المذاهب الفكرية والمدارس الفلسفية والتيارات السياسية التي ظهرت في الغرب ابتداءً من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين ومنها على وجه الخصوص ما عبّرت عنه الماركسية على المستويين النظري والتطبيقي.
والله ولي التوفيق
المقدمة
أوّلاً- مقدّمة البحث
«المادّة» أو «المادّيّة» أو «الأيديولوجيا المادّية»، ثلاثة أسماء أو ثلاث كلمات تدلّ على معنىً فكريّ واحد، تتّفق في العمق المعياريّ العامّ، ومضمون المعرفة الذاتيّة، وتختلف بالتّطبيقات العمليّة ومنهجيّة البحث التحليليّ على صعيد الوعي البشريّ وتمثّلات قناعاته الماديّة في العلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع البشريّ.
يقوم التفكيرُ المادّيّ أو «الفكر الأيديولوجيّ الماديّ» على قاعدة اعتبار «الحسّ» و»العيان» (المشاهدة بالعين والإدراك بالحواسّ العضويّة المعروفة) أساس المعرفة البشريّة، بل وجوهرها الذاتي. ويعتبر (أتباع هذا الفكر الماديّ) أنّها (أي المعرفة) لا تُقوّم إلّا بالبيانات (والأرقام) الماديّة، والمثيرات الحسّيّة والشواهد التجريبيّة لإبراز وجهة نظر أو رأي ما حول أيّة ظاهرة فرديّة أو عامّة، ودعم اتّجاه أو سلوك ماديّ خالص.
والتفكيرُ المادّيّ قديمٌ قدم وجود الإنسان في الحياة، نشأ مع البذور الأولى للتفكير البشريّ.. أي منذ إنّ بدأ الإنسان ينظر بعينه، ويعاين بحواسّه، ويتأمّل ذاته ومحيطه وكونه القريب والبعيد بعقله ومختلف الأدوات الماديّة التي توافرت له، اكتشافاً أو صنعاً واختراعاً. لكنّ تمنطقه اللغويّ والبيانيّ بأفكار عقلية ومعادلات فكريّة تحليليّة تعكس طبيعة (وآليّة) معاينته لواقعه الخارجيّ المرئيّ المحسوس.. أقول: هذا التمنطق البيانيّ تأخّر إلى زمن لاحق، أي حتّى ظهر مفكّرون وفلاسفة «ماديّون» في مختلف الحضارات البشريّة، خرجوا عن السّائد النمطيّ، واعتقدوا بأنَّ ما لا نراه ليس موجوداً، وأنّ الموجود هو مُعايَنٌ ومقاس بأبعاد وأحجام ومعايير ماديّة.
في هذه الورقة حول فكرة «الماديّة» ـ التي تطوّرت لتصبح فلسفة وأيديولوجيا ومشروعاً سياسيّاً قامت عليه دول وحلف عسكريّ كبير ضمّ مجموعة بلدان تلوّنت بلون الفكرة الماديّة ذاتها ـ سنحاول إيجاد قاعدة بيانات نظريّة معياريّة، حول معنى مصطلح «الماديّة» وتاريخ نشوئها، وأهمّ رموزها وشخصيّاتها، وخلفيّاتها العقليّة والعلميّة، مع مقاربة نقديّة لطروحاتها المفاهيميّة، بما يجعل منها (من هذه الورقة) مرجعيّة فكريّة في ذاكرتنا المعرفيّة، يمكن استعادتها، وتحديثها، والإضافة إليها.