فهرس المحتويات

مقدمة المركز | 7

التمهيد | 9

المفهوم الاصطلاحي | 11

الفصل الأول: إرهاصات نهضة الإصلاح الديني وتاريخ شروعها وأسبابها | 23

المبحث الاول: الصراع بين السلطتين الدينيّة والزمنيّة | 23

المبحث الثاني: الأزمات الأخلاقية والعنف لدى الكنيسة | 23

المبحث الاول: الصراع بين السلطتين الدينيّة والزمنيّة | 24

أوّلاً: ظهور الطبقة البرجوازيّة | 27

ثانياً: ثورات الفلاحين | 29

ثالثاًـ ظهور الحركة الإنسانويّة (Humanisime) | 32

رابعاًـ زيادة الثروة والتقدم التقني وظهور مفهوم الدولة القوميّة | 37

المبحث الثاني: الأزمات الاخلاقيّة والعنف لدى الكنيسة | 39

1 - الاسباب الأخلاقيّة | 40

2 - «ظاهرة العنف الرمزي» | 46

الفصل الثاني: رجال الإصلاح الديني | 51

المبحث الأول: آباء الإصلاح الديني الأوروبي | 51

المبحث الثاني: رجال الإصلاح الديني الأوروبي | 51

المبحث الثالث: الكنائس الإصلاحية (البروتستانت) | 51

المبحث الاول | 52

آباء الإصلاح الديني الأوروبي | 52

الشخصية الأولى: جون وايكلفwyclef jean | 53

الثاني: جون هاس john hus | 64

المبحث الثاني: رجال الإصلاح الديني | 72

انضواء كالفن تحت لواء الإصلاح الديني | 90

نقد فكر كالفن | 94

المبحث الثالث: الكنائس الإصلاحيّة (البروتستانت)protestant | 99

الفصل الثالث:  الكنيسة والإصلاح | 119

المبحث الاول: موقف الكنيسة من الإصلاح الآليات | 119

المبحث الثاني: موقف الكنيسة حاليا بعد التغيير | 119

المبحث الأول : موقف الكنيسة من الاصلاح | 120

الإصلاح الكاثوليكي | 120

أولا/ أنسنة الإصلاح | 121

ثانيا/إجراءات الكنيسة ضد الإصلاح | 126

المبحث الثاني: موقف الكنيسة حاليا | 136

أولا- التحولات العلمية وموقف الكنيسة منها | 136

مواقف المراجعات التي قامت بها الكنيسة | 140

الخاتمة | 146

العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية سلسلة مصطلحات معاصرة 15 الإصلاح الديني قراءة المفهوم في التجربة المسيحية الغربية عامر عبد زيد كاظم الوائلي
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها ،وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار ، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظكة الفكرية المختلفة. ثانيا:ازالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لاسيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ،ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الاخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

 

الفهرس

مقدمة المركز7

التمهيد9

المفهوم الاصطلاحي11

الفصل الأول: إرهاصات نهضة الإصلاح الديني وتاريخ شروعها وأسبابها

المبحث الاول: الصراع بين السلطتين الدينيّة والزمنيّة23

المبحث الثاني: الأزمات الأخلاقية والعنف لدى الكنيسة23

المبحث الاول: الصراع بين السلطتين الدينيّة والزمنيّة24

أوّلاً: ظهور الطبقة البرجوازيّة27

ثانياً: ثورات الفلاحين29

ثالثاً: ظهور الحركة الإنسانويّة (Humanisime)32

رابعاً: زيادة الثروة والتقدم التقني وظهور مفهوم الدولة القوميّة37

المبحث الثاني: الأزمات الاخلاقيّة والعنف لدى الكنيسة39

1 - الاسباب الأخلاقيّة40

(4)

 

الفهرس

2 - «ظاهرة العنف الرمزي»46

المبحث الأول: آباء الإصلاح الديني الأوروبي51

المبحث الثاني: رجال الإصلاح الديني الأوروبي51

المبحث الثالث: الكنائس الإصلاحية (البروتستانت)51

الفصل الثاني: رجال الإصلاح الديني

المبحث الاول52

آباء الإصلاح الديني الأوروبي52

الشخصية الأولى: جون وايكلفwyclef jean53 

الثاني: جون هاسjohn hus64

المبحث الثاني: رجال الإصلاح الديني72

انضواء كالفن تحت لواء الإصلاح الديني90

نقد فكر كالفن94

المبحث الثالث: الكنائس الإصلاحيّة (البروتستانت) protestant99

(5)

 

الفهرس

الفصل الثالث: الكنيسة والإصلاح

المبحث الاول: موقف الكنيسة من الإصلاح الآليات119

المبحث الثاني: موقف الكنيسة حاليا بعد التغيير119

المبحث الأول : موقف الكنيسة من الاصلاح120

الإصلاح الكاثوليكي120

أولا/ أنسنة الإصلاح121

ثانيا/إجراءات الكنيسة ضد الإصلاح 126

المبحث الثاني: موقف الكنيسة حاليا136

أولا- التحولات العلمية وموقف الكنيسة منها136

مواقف المراجعات التي قامت بها الكنيسة 140

الخاتمة146

(6)

مقدمة المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً إلى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحوالتالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أويجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام

(7)

الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

 ** *

تدرس هذه الحلقة من سلسلة (مصطلحات معاصرة) مفهوم الإصلاح الديني كمصطلح نشأ في البيئة الدينية للغرب المسيحي، والظروف التاريخية التي افترضته إثر الانشقاق الكبير الذي شهدته الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر الميلادي وأدت إلى ظهور البرونستانتية عبر مارتن لوثر وجون كالفن كحركة احتجاج على سكونية الكنيسة وتأخرها عن اللحاق بحركة الحداثة.

 

والله ولي التوفيق

(8)

التمهيد

التمهيد بقصد البحث عن معنى  «الإصلاح الديني» كما تجلّى في الدين المسيحي، وسعينا إلى التأصيل المفهومي وما أصاب المفهوم من تراكم تطوري؛ نتيجة لتفاعله مع المفاهيم والأفكار والأحداث الرابطة والمسوغات والتأويلات؛ نتيجة لتنوع القراء وتباينهم في المنهج والرؤيّة والأفكار التي انطلقوا منها مدحاً أو قدحاً وعرض للأسباب والمسوِغات التي قادت أوربا الى الإصلاح الديني؛ لكن لا يكتمل تحليل النص أو المفهوم إلّا بامتلاك معرفة موسوعيّة نسبياً توضح ما أصاب المفهوم من تطورات من خلال معرفة التاريخ والفكر الغربييّن؛ لأنّ القراءة التي ننشدها تقوم على تحليل المفهوم؛ بهدف البحث عن الحقيقة وإيصالها للقارئ وله حق الفهم والتقويم، لذلك علينا أن نلتزم بمقتضيات التواصل الكلامي، فإن الحقيقة من خلال الاجتهاد والدربة المتواصلة تمكننا من تحليل المفهوم وكشف ما هو غير مفكر به. سواء كان هذا على سبيل الشرح أم التحليل أوالتقويم لما يقوله النص أو المفهوم، فإن الشرح يبقى هو البحث فيما اذا كان ما يقوله النص او المفهوم حقيقياً أم لا.

أما على صعيد الفهم والتأويل فإن محاولة القراءة تسعى قدر المستطاع إلى توخي الموضوعيّة على الرغم من كون الموضوعيّة 

(9)

ـ أحياناً ـ تحول من دون تحقق القراءة وتمنع تحققها. الا إننا نسعى الى التقديم لهذه الدراسة نسعى الى التقديم للإصلاح الديني بوصفها ظاهرةً ثقافيّة ودينيّة؛ لأن التقويم للنص ونقده تسهم الى حد بعيد في بيان مكاسبه ورسم حدوده الإشكاليّة التي ولد داخلها على صعيد المفهوم والإشكاليّة الثقافيّة والاجتماعيّة التي ولد المفهوم داخلها. واللغة التي نكتب بها تبقى تحمل في الفاظها خزينها الثقافي والاجتماعي؛ فهذه اللغة تؤكد في تعريفها «الإصلاح لغة»، فالإصلاح وصفاته ومجالاته المتعددة: (السياسيّة والدينيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والثقافيّة)، الإصلاح: (هو تغيير الأحوال من السيئ إلى الأحسن، ومن الفوضى والمخالفة إلى الالتزام والاستقامة) [1].  فهو إذاً تقويم ما هو قائم وإزالة ما يعتريه من خلل ونقص وفساد: (الإصلاح هو ضد الفساد وأصلح الشيء أي أقامه، زال عنه الفساد، وأصلح ذات بينهما زال ما بينهما من عداوة وشقاق) [2] ؛ إلا إننا نجد أن الإصلاح بحسب الممكنات اللغويّة في لغة العرب يقابل بالضد من مفهوم الثورة على الرغم من كونهما يتفقان أي: (الإصلاح والثورة): بأنهما يهدفان إلى تغيير الأحوال، إلا أن التغيير في الإصلاح لايعتمد على (العنف منهجاً، ولا الاستعجال طريقاً، بينما تقوم الثورة على العنف والتغيير السريع[3]).  وعلى صعيد الاصطلاح فإن الإصلاح: (هو تحسين

(10)

وضع أو تعديل ما هو خطأ، أو الفاسد، أو غير المرضي، وما إلى ذلك. ويتميز الإصلاح عن الثورة بكون هذه الأخيرة تسعى للتغيير الشامل اوالجذري، في حين أنّ الإصلاح يهدف لمعالجة بعض المشاكل والأخطاء الجادة من دون المساس بأساسيات النظام. وبهذا فإن الإصلاح يسعى لتحسين النظام القائم من دون الإطاحة به بالمجمل. (فالعصر الوسيط كان يمتلك جوانب مشرقة رغم أن العقليّة القروسطيّة لم تمتلك إلا أقل الكلمات للتعامل بها وكانت اكثر عنايّة في تعريفها ولغتها [1]) .

المفهوم الاصطلاحي:

كل مفهوم أو نص هو شبكة من المفاهيم تربط بينها مفاهيم يعبر عنها على نحو صريح أو ضمني في كلمة أو جملة أو فقرة وعلى التحليل أن ينسج خيوط تلك الشبكة، وانطلاقاً من هذا التصور نجد أنّ مصطلح الإصلاح الديني Reformation دخل هذا المصطلح في التداول لوصف الحركات الدينيّة التي اجتاحت أوربا في القرن السادس عشر الميلادي. إذ كانت كلها تدعو إلى إصلاح الكنيسة، وتخليصها من الشوائب والممارسات الخاطئة، بتمسكها بحقها وحدها في تفسير أحكام الدين وتطبيقاتها على النحو الذي تراه، ومنع الآخرين من هذا الحق، ولاسيما قضايا الإيمان، وممارسة الأسرار المقدسة، وسيطرة الكنيسة على تربيّة الأفراد والتزامهم حيالها، واحتكارها منح صكوك الغفران. تمخضت حركة الإصلاح

(11)

عن ظهور ما يعرف بالكنائس الإنجيليّة. تلك الكنائس التي جاءت بتأويل جديد يفقد الكنيسة احتكارها النص وتفسيره وإقامتها الطقوس التي تحول من دون فهم النص وتفسيره وخصوصاً عبر إصرارها على ابقائه باللغة اللاتينيّة، حتى تكون وحدها من يفسره ويفهمه، مما خلق صراعاً بين الكنيسة وخصومها على امتلاك الصراط المستقيم بين الدين الطقسي الكنسي أو الإيمان كديانة ضمير فرديّة.

فإنّ الاصطلاح الذي يقدِمه الإصلاح الديني يقوم على مسار من الحجج بعدِه نظاماً للبرهنة مهمته تأسيس موقف أو دحضه أو التمهيد معاً وعلى القارئ أن يكشف عن معنى النص سواء باعتماد برهنة في فهم النص أم فهم المصطلح من أجل اكتساب المعنى أو الصراط المستقيم، فهذا الصراع ليس فقط رمزياً بل هو صراع على الثروة وإدارة المجتمع في العصر الوسيط، وانطلاقا من تلك الأفكار يمكن النظر الى مفهوم الإصلاح، اذ في الوقت الذي نجد الدلالة اللغويّة للاصلاح في الانجليزيّة بين مفهومين Repair تصليح: أي إدامة وإصلاح ما هو قائم ترقيع ما هو قائم عبر التغير الجزئي وهو حال المطالب الأولى التي جاء بها أهل الإصلاح من داخل الكنيسة ومنهم أصحاب المذهب الانسانيوي من المسيحيين التابعين الى الكنيسة الذين كانوا يطالبون بإصلاح أخلاقي وإداري وحريات عامة وReform إصلاح: وهو تغير وإعادة تشكيل بشكل كامل وهو قريب من مفهوم الثورة الجذريّة. يبدو أنّ ظاهرة الإصلاح الديني تقع بين المفهومين فهي وإن كانت توصف بكونها حدثاً مثل قطيعة

(12)

في نسق سياسي ومعرفي معين استمر عهد طويل، لعل هذا يظهر من خلال الحفر في دلالة المفهوم Larousse التي تعني الإصلاح بوصفه تغييراً عميقاً وجذرياً لشيء ما، سواء كان بخصوص مؤسسة ما قصد تحسين أدائها أم غير ذلك. [1] لكن على الرغم من هذا فإن الإصلاح يبقى هو عودة نظام ديني للنظر في قواعده الأولى على سبيل التحليل، والنقد بقصد المراجعة، والتقويم . وهذا ما يظهر في أصل المفردة الفرنسيّة (reforme) القادمة من اللاتينيّة، والتي تدل على معنى «إعادة البناء وعلى التشكيل من جديد [2]. ، أي يبقى الإصلاح تقويماً ومراجعةً ولم يصل الى الثورة التي تحدث قطيعة مع القواعد، بقدر ما هي حركة تقويم وعودة الى الأصول المشتركة وهي هنا النص المقدس.

اما إذا نظرنا من زاوية تأليفيّة نحاول بها أن نربط المفهوم بالوقائع من خلال ترجمة المعنى الحقيقي للاصلاح هل كان فعلا لفظة (المفهوم Larousse) التي تعني الإصلاح بوصفه تغييراً عميقاً وجذرياً قد تحقق فعلا على أرض الواقع، اذ نجد أن الإصلاح كان قد ارتبط بكثير من الأحداث الاجتماعيّة وأثّر فيها بعمق باعتماده على الأدوات العنيفة الحادّة من الطرفين (الكنيسة الرومانيّة وأهل الإصلاح معا)، في أوروبا في القرن الخامس عشر الميلادي. يبدو أن هناك عوامل معينة كانت تكمن في الإصلاح الديني والتي قد أسهمت بتحويلهِ من إصلاح جزئي إلى إصلاح جذري بل دموي

(13)

خلّف كثيراً من الويلات والدمار في ظل تحشيد عاطفي للناس يولد عنفاً رمزياً ضد المخالفين ـ الذين أطلق عليهم ـ بالضالين أو الهراطقة، وهي تسمية تمارس تنميطهم وتهيِج الناس ضدهم فقد عاقب الغوغاء الضالين قبل أن تشرَع الكنيسة في إضطهادهم بزمن طويل، حتى أنهم كانوا يتذمرون من تهاون الكنيسة مع الضالين، ويبين المؤرخ كاولتون في كتابه: «خمس قرون من التدين» :«إنهم كانوا  ـ  أي الغوغاء  ـ  يختطفون المنشقين عن الديانة المسيحيّة من أيدي القساوسة الذين يحمونهم 178-ج1، ص 308 [1]؛ لكنّ هذا الكلام وإن كان يكشف التشدد الاجتماعي إلا إنه انعكاس للتشدد الديني، وهذا ما نجده في هذا القول (صاح البابا بولص الثالث (1534-1539م) من شدة الهلع الذي اصابه عندما سمع بكثرة أعداد المهرطقين وانتشارهم في الأصقاع جميعها: «لو أن أبي ذاته كان مهرطقاً؛ لجمعت الحطب لحرقه» (179-ج27، 42))[2] من ضمن هذه الأجواء تم تفعيل محاكم التفتيش من جديد؛ بسبب الفساد الذي ساد الكنيسة الكاثوليكيّة، وعدم تسامحها مع مخالفيها، وقد كان لظهور البروتستانتيّة والكنائس المسيحيّة الأخرى المخالفة، التي قامت في الأساس بالإصلاح الديني الأثر الكبير في ذلك الا أنه إصلاح لا يسعى الى تغيير ما هو قائم من نظام إقطاعي من خلال هيمنة الأمراء، فقد وقف لوثر بمقابل أي ثورة للفلاحين ضد الأمراء حلفائه في حربهِ على الكنيسة؛ لهذا نجد لوثر (قد برّر مثلاً، النهب

(14)

والذبح، واعتبرها فعلاً إلهياً هدفه محاربة الأشرار، واعتبر أن كل مقاومة للملك السيد جريمة قدح في الذات الإلهيّة؛ لأن السيد يحمل صولجان الله) [1] لقد كانت تلك التأويلات قد عمّقت الصراع وجعلت التغير عنيفاً بل دموياً، وعلى الرغم من هذا يعده البعض بداية العصر الحديث، فالإصلاح كان يعبر عن ظروف اجتماعيّة وسياسيّة بغض النظر ان كانت ايجابيّة أو سلبيّة؛ إلا إننا نحاول هنا استقصائها حتى نتبين هل الإصلاح كان عميقاً ام مجرد ترقيع ما هو قائم فيظهر أن هناك صراعات على صعيد المؤسسة الدينيّة أي الصراعات الداخليّة في المؤسسة الدينيّة، والتي كانت في البداية بمثابة محاولة لإحداث التغيير في الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة؛ لكن كان من نتائجها مولد البروتستانـتيّة. فقدت الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة قدراً كبيراً من نفوذها خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين إذ أضعفتها النزاعات الداخليّة وخصوصاً من رجال الدين الشبان الذين تلقوا تعليماً بإحدى الجامعات اللاهوتيّة كانوا من المطالبين بالإصلاح، فيما كان رجال الدين الكبار الذين شكلوا تيارات متصارعة على داخل الكنيسة الكاثوليكيّة خصوصاً في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، كل هذه الممارسات الى جانب تعاظم ثيوقراطيّة الكنيسة أسهمت في رغبة من داخل الكنيسة لدى رجال الدين بالانعتاق من هيمنة الكنيسة وقسوتها على العلماء الذين تمّ حرقهم، وهم أحياء بدعوى مخالفتهم لتعاليم الكنيسة فضلاً عن حرق كتبهم مما أسهم في تقييدها للعقل خصوصاً بعد ابتداع

(15)

الكنيسة لنظام “محاكم التفتيش”. الى جانب بعض الممارسات الخاطئة المتمثلة بانحراف رجال الدّين ونسيانهم لدورهم الأخلاقي والدّيني، إصدار الكنيسة لصكوك الغفران، فضلاً عن فرض الكنيسة للكتاب المقدَّس باللغة اللاتينيّة واحتكارها لفهمه وتفسيره. علاوةً على انتشار العامل القومي، كل هذا وفّر الظروف في تقبُّل الإصلاح من داخل المؤسسة الدينيّة.

أما على الصعيد السياسي فقد أصبحت قوة الملوك المتزايدة تمثل تهديداً صارخاً لسلطة البابا والإمبراطور الروماني. أي هناك صراع بين الدولة والكنيسة [1] . تلك العلاقة الصراعيّة بين الاثنين التي بدأت منذ ربيع 1075م إذ أصدر جوريجوري مرسوماً يقضي بالغاء التقليد العلماني، أي النظام السابق والذي كان يقوم فيه الحكام العلمانيّون بتعيين رجال الدين من كهنة وأساقفة في وظائفهم الكنسيّة، هذا المرسوم جعل الخاتم والصولجان في يد البابا، او بعبارة أخرى فرض هيمنة البابا على رجال الدين. [2] وهذه الهيمنة تعود الى أمرين الأول كونها حاكميّة متوارثة عن المسيح لأنّ الكنيسة مُمَثَّلَةً بشخص البابا إنما هي خليفة الرسول “بطرس” ووريثة صلاحيّاته، وإنّ هذه السّلطة المتوارَثة منصوصٌ عليها في إنجيل متّى، ومنها ما يأتي: ما ورد على لسان المسيح (عليه‌السلام) (أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وقُوَّاتُ الجحيم لن تقوى عليها وأُعطيكَ مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه

(16)

على الأرض يكون قد رُبط في السماء، وما تحلُّه على الأرض يكون قد حُلَّ في السماء) (إنجيل متى 16: 18  ـ  20). ما ورد على لسان المسيح (أقول لكم: إنَّ كلَّ ما تربطونه على الأرض، يكون قد رُبِطَ في السماء ما تحلّونه على الأرض يكون قد حُلَّ في السماء). (إنجيل متى 18: 18). ؛ والثانية كونها تمثل قدرة روحيّة كما تجلّت في صكوك الغفران في كونها تقوم على أساس أنّ (البابا قادرٌ على إصدار صكوك غفران تجب الخطايا من كلَّ نوعٍ مستمدةٌ من النظريّة القائلة بأنّ القدّيس “بطرس” وخلفاءه قد خُلِعتْ عليهم مَيَّزةُ توزيع فيضٍ لا ينضبُ من الثواب على المؤمنين. وهذا الفيض من الثواب يرجع أصلاً إلى تضحيات المسيح؛ ثم زاد على مرِّ السنين بالأعمال الخَيّرة التي قامت بها أجيالٌ متعاقبةٌ من المسيحيين المؤمنين)[1].   بهذا تم تأبيد سلطة البابا وتحويلها الى سلطة مطلقة متعاليّة على النقد.

ولم يكن أمام رجال الإصلاح سوى التعاون مع الملوك أو الأمراء من أجل مواجهة البابا والانحرفات، وهذا ما يمكن رصده في بحثنا عن ظاهرة الإصلاح تاريخياً إذ نجد نماذج “الإصلاح الديني”يوم طالب لوثر عبر رسالة الى حاكم مدينته “الدوق جورج” [2] يقول فيها: (يجب القيام بإصلاحٍ دينيٍ عامٍ للطبقات الروحيّة والزمنيّة) [3]. في أوروبا ضد هيمنة الكنيسة والإقطاع وتسلطهما على

(17)

العقل الإنساني والعمران البشري في العصور الوسطى المظلمة في أوروبا. وقد علَّق المؤرِّخُ “ول ديورانت” على ذلك بقوله: “وقد أضفت هذه الكلمة على ثورة لوثر اسمها التاريخي”. [1] وهناك من يربط الإصلاح الديني بين 1517 إذ علّق لوثر مقالاته الخمسة والتسعين على باب كنيسة وتنساغ Wittanberg في ألمانيا الى 1570م [2] إذ كان حدث الإصحاح قد مثّل قطيعةً في نسق سياسي ومعرفي معيّن استمر عهداً طويلاً، لعل هذا يظهر من خلال الحفر في دلالة المفهوم Larousse التي تعني الإصلاح بوصفه تغييراً عميقاً وجذرياً لشيء ما، سواء كان بخصوص مؤسسة ما قصد تحسين أدائها [3]

فكان الإصلاح محاولةً الى مراجعة القواعد التي قامت عليها سلطة الكنيسة والدولة وإعادة تشكيل البناء على أسس جديدة، وهذا يعني وضع حد فاصل بين المناظرة الثنائيّة التي يمثلها كل من «الإمبراطور» و«البابا» من أجل تسييج مجال تحرك كل منهما، وهو ما من شأنه أنْ يترتب عليه عدم تدخل البابا في الشأن السياسي الزماني، وكذلك عدم تدخل الإمبراطور في الشأن الديني.

الجديد هنا ظهور بعد ثالث في العلاقة هو الفرد Individu فرد لم تكن في البدايّة إذاً سوى اسم أو الإطار الذي يسمح بحماية

(18)

التجربة الدينيّة من تدخلات السلطة السياسيّة إلا إن هذا الإطار يمكن أن يتطور ليصبح عندئذ إطاراً يحمي الإنسان من تدخل الدولة والكنيسة معاً. [1] لقد كان مع لوثر تأكيدٌ على الايمان والتجربة الدينيّة التي أدركها بالعودة الى نصوص المؤسسة لدى المسيحيّة إذ وجد بولص يؤكد على أنّ  «الخلاص لا يتحقق إلا بالايمان» فاقتفى لوثر أثره بلزوم أن تكون المسيحيّة مقتصرة على الإيمان وحده. [2] والجماعة التي التحقت بلوثر تحدث نفسها للايمان مثلما طالب بولص المؤمنين بقبول النشور ومثلما طالب يسوع الحشود بالإيمان بأن معجزاته ملكوت الله قد جاءا. . . الحياة وسط هذه التحديّات بالايمان هي معركة داخليّة لتحقيق اليقين. [3] كان منهج الايمان هذا مختلفاً عما كان سائداً في الفلسفة المدرسيّة وتأكيدها على أرسطو (كان لوثر يؤكد «من العبث أن يضع أحدهم منطقا للايمان؛ » لاننا لسنا بحاجة إلى البراهين العقليّة كي نؤمن. [4] ؛ لكن هذا الاعتزاز بالفرد واستقلاله كان لابد من أن يصل في الغرب إلى ما سوف يُمهِد الى نمو الروح الفرديّة، منذ ذلك الحين، لم يعد الإنسان يعنى ببلوغ المطلق بقدر عنايته بدراسة الطبيعة؛ بغية السيطرة عليها. . . ولكي يهتدي إلى الخليقة)[5]

(19)

كانت تلك الأفكار الإصلاحيّة قد ظهرت في أوروبا وعلى وجه التحديد في ألمانيا في القرن السادس عشر الميلادي. وكان لهذه الحركة آثارها البعيدة في تاريخ أوروبا، عندما اعتنق كثير من الأوروبيين المبادئ التي أعلنها مارتن لوثر وغيره من المصلحين من أمثالـ  «جون كلفن» و «أولرنج زونجلى»، ومن ثمّ فإن المذهب الكاثوليكي لم يعد هو المذهب السائد في أوروبا إذ بدأ المذهب البروتستانتي ينتشر في أوروبا، وكان لذلك أثره في قيام الحروب الدينيّة في أوروبا طوال القرن السادس عشر الميلادي والنصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي، كما أدّت إلى تفتيت الوحدة الدينيّة التي كانت تتمتع بها أوروبا في العصور الوسطى. ولما كانت الحروب الدينيّة قد اصطبغت بالطابع السياسي إلى حد كبير؛ (لقد أدّى الإصلاح إلى إضعاف المسكونيّة المسيحيّة فلم يعد العالم المسيحي صفاً واحداً إلا أنّ علاقاته مع الاسلام، إنّ ماتم بعد الآن هي الدول التي يتوزع العالم المسيحي فيما بينها، وكل هذه الدول تجسد ارادتها في الوجود وفي الحياة..) [1] ؛ وبهذا فإن الإصلاح كان يعني أحداث مقاربة مختلفة لما هو سائد في الكنيسة الرومانيّة، وليس الامر إصلاحات طفيفة؛ بل أن الامر كان عنيفاً ومؤلماً، لكن لم يتجاوز المطالب التي أقرّتها السلطة السياسيّة ونظامها الاقطاعي، الا ان الظروف التي جعلت من الإصلاح يحقق كثيراً من مراميه ويغدو صاحب اثر بعيد المدى هو جملة من الظروف

(20)

الاجتماعيّة والتقنيّة منها إنّ انتشار الطباعة ساعد في ترويج الثقافة المحليّة والكتب ولاسيما الكتاب المقدّس الذي غدا بين أيدي الجمهور، اذ كان لاختراع الطباعة أحد العوامل لإنجاح الإصلاح والنهضة، فمثلاً طباعة الكتب اصبحت أسهل من ذي قبل. [1] ؛ لكن رافق وأسهم في توسيع ظاهرة الإصلاح الديني في الغرب متمثلة في انتشار الطباعة في أوربا الغربيّة، وفي العام 1453م، فقد اخرجت مطبعة غوتنبرغ أول كتاب مطبوع، الكتاب المقدس، وسرعان ما بدأت آلات الطباعة بالانتشار في أرجاء اوروبا معيدةً لإنتاج جميع المواد القديمة التي تدفّقت من الشرق. [2] فضلاً عن ظهور الحركة الانسانيويّة، وهي حركة كانت تهدف إلى تحقيق الاحياء، وهي تضم مجموعة من العلماء الذين اوقفوا كل ما يملكون من مال وجهد في سبيل ازدهار هذه الحركة؛ لذلك كانوا يبحثون عن القديم بكل شغف وشوق دون ان ينظرون إلى المقابل المادي يصبغونه بطابعهم الخاص. وهناك حدث ثالث كان له أثر عميق في التحول الثقافي والحضاري على أثر انتقال عدد كبير من العلماء الإغريق إلى ايطاليا بعد فتح العثمانيون القسطنطينيّة 1453م، من أمثال كريزلوراس (manvel chrisoloras) والعالم يساريون (bessarion)[3]. وقد رافق هذا تحول اجتماعي رابع تمثّل في صعود البرجوازيّة ومن ثمّ ظهور النزعة القوميّة، والتي قادت إلى تغذية روح التمرد على سلطة

(21)

الامبراطور والبابا، للاستقلال بشؤونهم الماليّة وبناء قوات مسلحة خاصة بهم.

لا يمكن أن نفهم الإصلاح الديني من دون الحديث عن العوامل التي مهّدت الأرضيّة الى تطور الخطاب الإصلاحي وتأويله الجديد للدين الذي حاول أن يتجاوز وساطة الكنيسة بين المؤمنين والله باعتماد الكتاب المقدس بوصفه بديلاً عنها فهو كافٍ ليدل المؤمن على الله، أما الخلاص فهوعمل فردي ومجاني ينعم الله به على المؤمن، أما الكنيسة بتعاليمها ورجالها وباباواتها فليست بالضرورة وسيطاً بين الإنسان وربه وليس لها أي سلطان.

حاولنا في التمهيد استعراض المباني لخطاب الإصلاح الديني المسيحي وهو ما سوف نستعرضه بشكل موسع في الفصول الثلاثة لهذا الكتاب.

(22)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

إرهاصات نهضة الإصلاح الديني

وتاريخ شروعها وأسبابها

 

 

ـ المبحث الاول: الصراع بين السلطتين الدينيّة والزمنيّة وأثره في الإصلاحات الكنسيّة

ـ المبحث الثاني: الأزمات الأخلاقيّة والعنف لدى الكنيسة «أسباب نهضة الإصلاح الديني «

 

(23)

الفصل الاول

إرهاصات نهضة الإصلاح الديني

وتاريخ شروعها وأسبابها

 

المبحث الاول

الصراع بين السلطتين الدينيّة والزمنيّةوأثره في الإصلاحات الكنسيّة

إنّ العلاقة بين السلطتين السياسيّة والدينيّة سادتها كثير من حالات الصراع الدموي عبر التاريخ، اذ يجد المتأمِل في تاريخ الكنيسة الرومانيّة بأنها كانت معرّضة لتأثيرات السلطة منذ اعتراف قسطنطين بالمسيحيّة. كما أن الظروف السياسيّة التي أتاحت لكنيسة روما التخلص من التدخل الروماني المباشر فإنّ ظروفاً سياسيّة أخرى أوقعتها تحت تأثيرات ثيودوريك Theodoric I (ت 451م )وأباطرة الشرق. هذا وقد اعتمدت الكنيسة الغربيّة اعتماداً كلياً على دولة الفرنجة في عهد الأٌسرتين (الميروفنجيّة والكارولنجيّة) والتي عدّت حكام الفرنجة حماةً لها. ولم يكن هناك مجال لتطبيق نظريّة (السيفين) حينما تُوِج شالمان أمبراطوراً؛ لأنّ الأخير كان في واقع

(24)

الأمر حاكماً ثيوقراطياً وإنّ الكفّة الراجحة بجانب السلطة الزمنيّة[1].  

لهذا نجد أنّ تلك العلاقة قد أثّرت في أول إصلاحات قامت بها الكنيسة من قبل اذ تعد حركة الإصلاح التي بدأت في الكنيسة بصورة فعليّة قبيل الحروب الصليبيّة بأنها من مظاهر النهضة الأُوربيّة التي لاحت بشائرها في الأفق الأوربي منذ بداية القرن الحادي عشر الميلادي وازدهرت في القرن الثاني عشر الميلادي، وذلك على أثر الاستقرار النسبي الذي ساد أقسام أوروبا الغربيّة من بعد أزمات وكوارث الغزوات.

وكانت قد تناولت الإصلاحات الكنسيّة ثلاثة أمور مهمّة هي: (إصلاح المؤسسة البابويّة، واصلاح المسلك الكهنوتي، ومنع العلمانيين من استثمار المراكز الدينيّة)[2].  

يبدو أَن تلك الإصلاحات هي عبارة عن محاولة الكنيسة لفرض سيطرتها على مؤسساتها وأملاكها ومن ثم الهيمنة على السلطة السياسيّة، وليس عبر الاكتفاء بالتبعيّة، ولكن الصراع استمرّ بين السلطتين الدينيّة والسياسيّة وظهرت تأويلات متنوعة لنظريّة السيفين، ولكل جهةٍ تأويلها، فقد فسّر «جون أوف سالسبوي «نظريّة السيفين بقوله: إنهما يعودان في الاصل للكنيسة وإنّ الكنيسة صاحبة الحق في منح السلطات الزمنيّة للحكام. واعتمد أيضاً على

(25)

القانون الروماني لاثبات رأيه مستشهداً بالقاعدة الرومانيّة (إن الذي يملك حق إعطاء السلطة يملك أيضاً استعادتها [1] ).

ومن البحوث التي تطرّقت إلى هذا الأمر بين انصار الكنيسة أو انصار الامبراطور نجد (أنّ أنصار البابويّة عمدوا لإثبات حقهم بطريق فلسفيّة حسب منطق أرسطو للتدليل على أن السلطة الروحيّة أعلى شأناً من السلطة السياسيّة فاستعانوا بالقانون الطبيعي حسبما فهمه أرسطو. . . . أما الأبحاث المؤيدة لوجهة النظر الامبراطوريّة فدارت أولاً حول الالتزام بنظريّة السيفين حسب الاوضاع الموروثة الراهنة. وإن الامبراطور يستمد سلطته من الله ولا يمكن إقالته الا إذا خالف العقيدة). [2]

تبدو هذه ارهاصات نهضة الإصلاح الديني فقد كان لهذه الخلافات أثرها في الواقع الاجتماعي والسياسي والديني ونجد أنّ (وليم آوف أوكام William of Ockham «(1295-1349م) سوف يخوض في هذا الصراع بين السلطات السياسيّة والدينيّة بعد التحاق أوكام بالامبرطور وقد أخذ يدوِن كتابة الرسائل السياسيّة منكراً على البابا تدخله في الشؤون المدنيّة. [3] كان لهذا الفيلسوف المجدِد أثره في الإصلاح الديني من خلال تأثيرهِ في لوثر كما سوف نبين فيما بعد.

يبدو أن هناك جملةً من الارهاصات التي كان لها أثرها في

(26)

تطور الفكري الاوربي، وقد تركت تأثيرها في الإصلاحات وتقويض المؤسسة الدينيّة والاستبداد السياسي فيما بعد وقد عرضنا لها بشكل عام وسوف نحاول هنا ان نحلل تلك الأحداث وأثرها في التحول الثقافي والفكري، ومنها:

أوّلاً: ظهور الطبقة البرجوازيّة:

البرجوازيّة معناها في الثقافة الفرنسيّة (المدينة) وأصلها من كلمة bourg أي السكان الذين يتمتعون بالحقوق المدنيّة، ولهم حق العيش داخل المدن وهم أعلى شريحة في الطبقة المتوسطة ومنهم الموظف ومنهم التاجر. والبورجوازيّة: هي طبقة اجتماعيّة من ضمن طبقات كثيرة مثل طبقة النبلاء وطبقة الأرستقراطيين. وهي طبقة اجتماعيّة ظهرت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، فهي تمتلك رؤوس الأموال والحرف، كما تمتلك كذلك القدرة على الإنتاج والسيطرة على المجتمع ومؤسسات الدولة؛ للمحافظة على امتيازاتها ومكانتها، وقد كان لها أثرها في العصر الوسيط إذ (نافست بثرائها نفوذ الأشراف، وناصرت العلم والفن، وقامت الكاتدرائيات البديعة تملأ أرض أوربا، وازدهر الأدب المحلي باللغات الحيّة في قصص نثريّة وشعريّة تفيض بأفكار العصر وأخلاقه وعواطفه). [1] وكان لها اثر كبير في الصراع بين السلطتين السياسيّة والدينيّة، فهي وإن كانت ترفض الاستبداد؛ إلا أنها وقفت أيضاً مواقف قويّة من المؤسسة الدينيّة وخصوصاً

(27)

في حقبة الإصلاح الديني اذ كان أغلب أتباع الطبقة البروتستانتيّة من رجال الاعمال لهذا (كانت هناك نيّة في التأسيس لمجتمع جديد؛ تلبيّة لمتطلبات هذه الطائفة الجديدة التي يعد أغلبها من رجال الأعمال، فقد اختلفت مع الكنيسة في تحريم الربا في الوقت الذي حرّمت الكنيسة الربا؛ لأنها صاحبة الأرض وحاجتها مستمرة الى الاقتراض. . . اما البروتستانتيّة يعد أغلب أفرادها من رجال الأعمال؛ لذلك نجد كالفن مثلاً، يتخذ موقفاً مناصراً لتحليل الربا. . . ؛ لأنّ القروض باتت ضروريّة). [1]

في وقت نجد أن لوثر وقف ضد ثورات الفلاحين المطالبة بتغيير الأوضاع الإقطاعيّة[2] كما بيّنا هذا في التمهيد، بمعنى أن الإصلاح ورجاله كانوا يتأثرون بالموقف الاجتماعي والانتماءات الطبقيّة في تأويلاتهم. لكن قد لا يكون لهذا التأويل الذي يغلب مصالح الطبقة على المعتقد كما هو الحال مع البرجوازيّة متوافق مع تأويل ماكس فيبر (1864-1920م) Maximilian Carl Emil Weber، الذي يغلب أثر المعتقد في السلوك كما جاء في كتابه  «الاخلاق البروتستانتيّة»، التي استعرض فيها بروز «التقليد» المتعلق بشكل معيّن من الاقتصاد، وقد أخذ هذا مثلاً على تلك العلاقة بين روح الحياة الاقتصاديّة الحديثة وبين الاخلاق العقلانيّة لدى البروتستانيّة

(28)

النسكيّة [1] . ويقول ماكس فيبر: (فقد كانت القوى السحريّة والدينيّة، إضافة إلى أفكار أخلاقيّة مبنيّة على أساسها، تعد من بين العناصر الأكثر أهميّة في تكوين السلوك )[2] .

ثانياً: ثورات الفلاحين

تعد هذه الثورات من النماذج المميزة التي نستطيع من خلالها أن نميِز هذا الحدث الاجتماعي ألا وهو ثورة الفلاحين أو تمرد وات تايلر 1389م، الذي وقع في انكلترا في نهايّة العصر الوسيط وهو أُنموذج يُمثِل هذا الغليان الذي كان يدور في أكثر من مكان في أوربا في (المانيا وبريطانيا)، وقد أشرنا الى موقف لوثر منها، وما قاله في هكذا أحداث فيبدو أنّ الاقتصاد الاقطاعي الذي يمنح كل الحقوق الى أهل الإقطاعي من (ملوك أو أمراء) كما كان الحال في ألمانيا وكانت الكنيسة شأنها شأن الامراء، فهي تمتلك أراضي كمقاطعات، وتخوض صراعاتٍ مع الأمراء الراغبين بالاستيلاء عليها من ناحية وبالثورات التي يقوم بها الفلاحون من ناحية أخرى ولعل هذا الامر عمّق الكراهيّة التي تشعر بها هذه الطبقة من الأُمراء ورجال الدين معاً؛ لأنّ مصالحهم تتقاطع مع هؤلاء الفلاحين وحياتهم المعدومة.

ومن الأمثلة على هذه الثورات كانت الثورة التي حدثت في انجلترا وهي واحدة من عدد من الثورات الشعبيّة التي وقعت في

(29)

أواخر العصور الوسطى في أوروبا، وتعد أول ثورة شعبيّة كبرى في تاريخ إنكلترا، قام بها الفلاحون في الأجزاء الجنوبيّة الشرقيّة من إنكلترا، وذلك عام1381م في عهد الملك ريتشارد الثاني؛ وسببها المباشر فرض ضريبة الرؤوس[1] ؛ فهذه الثورة تبين واقع الحالة الاجتماعيّة في ظل هيمنة النظام الإقطاعي، وما يخلقه من تنافس بين الأمراء، والملوك، من حروب من أجل الهيمنة على الارض كما حصلت بين (انجلترا وفرنسا) وما جلبته تلك الحرب من آثار مدمرة اجتماعياً وسياسياً الى جانب الأمراض التي كان لها أثرها المدمر والتي نجم عنها نقص كبير في عدد الذكور العاملين في الحقول كل هذه الظروف مجتمعةً أدّت الى التدهور الإقتصادي والاجتماعي الشديدين في القرن الرابع عشر الميلادي ويعد ذلك أحد الأسباب الرئيسيّة التي غذّت ثورة الفلاحين. [2] فهذه الثورات الغربيّة عامّة وفي انكلترا خاصة تظهر طبيعة النظام الاقطاعي بالتحالف مع الكنيسة اذ كان يُنظم الإنتاج حول المقاطعات الزراعيّة التي يسيطر عليها اللوردات المحليين- بما فيهم والنبلاء ورجال الكنيسة ـ ويحكمها نظام من المحاكم الإقطاعيّة [3] وهذا النمط من العلاقة يظهر واقع يطلق عليه بـ (النظام الاقطاعي) وقد ظهر بعد زوال الدولة الرومانيّة منذ نهايّة القرن الرابع الميلادي إذ تعرّضت

(30)

الى غزوات القبائل الجرمانيّة، مما أدّى إلى انهيارها سنة 476م، وعجز الملوك الذين ظهروا فيما بعد، من حمايَة شعوبهم أمام الغزوات القادمة من أماكن متنوعة (خلال القرنين التاسع والعاشر ضد هجمات النورماندين من الشمال، والهنغاريين من الشرق والمسلمين من الجنوب؛ لعجز الملوك عن توفير الأمن، والإستقرار لشعوبهم، ما دفع الناس إلى الإحتماء بالزعماء المحليين وبذلك ظهر النظام الاقطاعي). [1] وقد اقام هذا النظام تراتبيّة يعد بها الملك هو بمثابة السيد على؛ الرغم من كونه، قد لا يكون أقوى، أو أغنى من باقي الأمراء حكام المقاطعات ؛ لكنه هو من (يمنح الأسياد الإقطاعات، ويتنازل لهم عن حق جباية الضرائب بمقابل دعمه في الحرب، وهذا الملك السيد له أرض شاسعة وقصور أما الفرسان فيجنِدهم الأسياد؛ لمساعدتهم في المعارك مقابل إقطاعيّة يمنحها لهم السيد وفي أسفل الهرم نجد الفلاحين الأحرار الذين يعانون من ثقل الضرائب. ثم الأقنان الذي تفرض عليهم أنواع عديدة من السخرة والعديد من الضرائب والواجبات تجاه الأسياد والفرسان ورجال الدين). [2]، وكان بعض السكان عبيداً في الارض لا يملكون حريّتهم وعليهم العمل في أراضي الفرسان لمدّة من الزمن كل عام، لكن هذا لم يكن الحال في كل نواحي إنجلترا فالتوازن بين الأحرار والعبيد كان متنوعاً، فمثلاً في الجنوب الشرقي كان هناك عدد قليل

(31)

من العبيد نسبياً [1] . وكان يولد بعض العبيد غير أحرار ولم يستطيعوا أن يتركوا مقاطعاتهم؛ ليعملوا في مكان آخر من دون موافقة الفارس /اللورد المحلي، أما القسم الآخر فقبلوا القيود على حريتهم كجزء من اتفاق حيازة أراضيهم الزراعيّة. [2] وازداد النمو السكاني مما ولّد ضغطاً على الأرض الزراعيّة المتاحة مؤدياً إلى زيادة نفوذ أملاك الأراضي للمحليين، أي أصحاب المقاطعات من الإقطاعيين، ويبدو أنّ هذه الثورات من الارهاصات المهمة التي أثّرت في بزوغ ظاهرة الإصلاح، فالصراع مع الكنيسة وخصوصاً الأمراء الألمان الذين  ـ  وكما سوف نتطرق له في سياق البحث  ـ  لم يحصلوا على حصّتهم من الاقطاعيات الكنيسة ولم يشتركوا في تعيين رجال الدين كما هو الحال في فرنسا، هذا من جهة ومن جهة ثانيّة الشعور بالظلم لدى الطبقة الفلاحيّة التي لا ترى في الكنيسة انصاف بقدر ما تلمس العنف والقسوة والهيمنة على الثروات التي يحرمون هم منها. وبالآتي فإنّ أمنيات الإنسان لنيل حقوقه في مجتمع يقوده الظلم تبقى حلماً من اﻷحلام المهدورة، وهكذا سوف تكون هذه الطبقة من الغاضبين على الكنيسة ووقود في الحروب الدينيّة.

ثالثاًـ ظهور الحركة الإنسانويّة (Humanisime)

 من الحركات التي كان لها اثرها، في نقد سلطة الكنيسة، ومهّدت الى إحداث الإصلاح الداخلي، وابتداءاً من الإصلاح الذي

(32)

قام به البروتستانت، الى الإصلاح الذي قامت به الكنيسة الرومانيّة، كان هناك الحركة الإنسانويّة (Humanisime)، وهي نظريّة ترفض تبنِي كل أشكال الاغتراب والاضطهاد وتطالب باحترام الكرامة الإنسانيّة وحق الأشخاص في أن يعاملوا كغايات في ذاتها. [1]، إلا أنها تبقى حركة مهتمة بإحياء التراث العقلي القديم سواء كان يونانياً أم رومانياً، وهو ما سوف يعرف بالنصوص الكلاسيكيّة التي تعبِر عن نزعة محافظة على الروح والأخلاق الغربيّتين، الذي كان له اثره في عصر النهضة الغربيّة حتى أصبحت بمثابة الثقافة التي ميّزت إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين والتي نقلت إنجازاً فريداً بعد ذلك إلى كافة أوروبا، وهي تتمثل في دراسة الأدب الإغريقي واللاتيني بوصفهما نمطاً مثالياً من التربيّة والحضارة، إن الموقف الفكري المركزي للنزعة الإنسانيّة هو الرجوع إلى أصالة نصوص القدامى”) [2]، ومن هنا جاءت حركة الإحياء، والآتي هي الأكثر تعبيراً عما صدر عن المصطلح الغربي من إحياء الآداب القديمة وبعث الإنسان من رقاد القرون المظلمة [3]، تلك القرون التي تمثلها القرون الوسطى في ظل هيمنة الكنيسة وهيمنة اللاهوت على حساب الإنسان. وفيما يأتي آثار هذه الحركة في الفكر المسيحي:

(33)

1. فهذه الحركة النشوريّة كان شغلها الشاغل هو التمذهب حول الانسان والتحرر، وإن اتّخذت وسائل تعبير، وقد ولّدت ردود فعل من داخل المؤسسات التعليميّة من خلال الفصل بين الفلسفة واللاهوت، إذ أصبحت الرغبة إلى العقل والانفتاح على الحقيقة التي تختلف الطرق المؤديّة اليها مما يجعل فسحةً امام العقل، وهو مطلب الأساتذة من غير أهل اللاهوت في الجامعات الفرنسيّة التي كانت تبحث عن متنفس لها سواء كان هذا في كليات الفنون أم الرشديّة اللاتينيّة والردود على دليل الأحمق الذي قدّمه القديس انسلم Canterbury (1033-1109م) في إثبات الله. [1]

2. تعمّقت الرغبة في المحاكاة؛ لكن هذه المرة ارتبطت بجملة من التحوّلات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة أسهمت فيها الدول مثل: ايطاليا، وفرنسا، وانكلترا، وغيرهما في بزوغ حركة النهضة التي رافقت ظهور الدولة؛ فكانت مطالب الحركات الإحيائيّة التراث اليوناني والتراث الانساني مطالبَ حيويةً من أجل خلق منافذ أخرى غير سرود الكنيسة المتعاليّة.

3. أمّا في عصر النهضة فقد كانت تظهر التحول الاقتصادي والفني والثقافي وقد اتّخذ مسارب متنوعة في التعبير

(34)

عن تمذهبه الانساني وإن كان التوجه الأساسي لهم أدبياً وفنياً؛ فدعوا إلى بعث الإنسان من رقاد القرون المظلمة، وقد كانت تمثل ذروة ما وصل إليه التفكير الإنساني حتى عصر النهضة، وكذلك دافعَ إنسانيو النهضة عن حرّيّة الفكر والنشاط الإبداعي، ودعوا إلى استقلال (السياسة، والمجتمع، والثقافة، والعلم، عن الكنيسة ورجال الدين).[1]

4. وكانت هناك نزعة الإنسانيّة المؤمنة: لقد كان للمذهب الإنساني دور في خدمة الدين على مستوى توظيف الفنون في خدمة الدين اذ كثير ـ إن لم يكن الأغلب - من الفن الجديد كان مفوضاً بوساطة الكنيسة أو مكرّساً لأجلها. أمّا المستوى الثاني فإن لهذا المذهب وما جاء به عنصر النهضة قد أثر بعمق في علم اللاهوت المعاصر، وبالتحديد في الطريقة التي ينظر إليها الناس في علاقة الإنسان مع الإله. العديد من اللاهوتيين الأوائل في تلك الحقبة كانوا متبعين للمذهب الإنساني، مثل: (إراسموس، توماس مور، مارتن لوثر، وجون كالفن).

وقد حصل جمع وتوظيف بين الكتابات الدينيّة من جهة، وكتابات أدباء اليونان والرومان وفلاسفتهم من جهة أخرى وكان لها دورها في نقد الكنيسة، وكانت تمثل تيار حرّض على الإصلاح ودفع رجال الإصلاح؛ الا إنّه انتقد العنف الذي قام به لوثر وكالفن وما اعتمدوه من عنف.

وقاد هؤلاء اصحاب النزعة الإنسانية اصلاح بديل مسالم؛

(35)

اذ يعد الإنكليزي توماس مور Thomas More (1478-1535م)، والهولندي إراسموس Desiderius Erasmus Roterodamus (1466-1536م) من أبرز رموز هذا الإصلاح وقد قدّما التضحيات في سبيله، فقد كان مور قد سقط صريع الإصلاح في انكلترا على الرغم من كونه قد قدّم تصوراً يوتوبي مسالم عبّر فيه عن إرادة مجتمع بديل يتمتع بالتحرر من إرادة الكنيسة. 
أمّا أراسموس فقد عُرف بعلاقته الطيبة مع توماس مور وعُرف بتصوراته الإنسانويّة ونقده التهكمي للكنيسة، ومحاربته للفساد فيها وقد ظهر هذا في كتابه «مديح الحمق» الذي يعد واحداً من أشهر الأعمال الأدبيّة لعصر النهضة، وأفكاره مهّدت للإصلاح البروتستانتي. في كتابه هذا يعتمد على المنهج التهكمي الساخر إذ يعتمد على التوريَة في التعبير عن موضوعاته ، ويرجع بعض الدارسين إلى أنّه كتب رسالةً بعد وفاة البابا مع إغفال تدوين اسم الكاتب، يصور فيها القديس بطرس عند أبواب الجنة ودخول البابا إليها، ويقيم حواراً بين البابا والقديس بطرس حارس الجنة يخبره فيها الأخير برفضه دخول الجنة؛ لأنّه كان متكبراً وعاش حياةً مترفةً وعنيفةً ملطّخةً بالدماء؛ سعياً وراء القوة السياسيّة وتوسيع أراضي البابويّة.  

 

(36)

رابعاًـ زيادة الثروة والتقدم التقني وظهور مفهوم الدولة القوميّة

تعد الاكتشافات من أهم النتائج العلميّة للنهضة الأوربيّة ومن أعظم مظاهرها، وأهم هذه الاكتشافات اكتشاف العالم الجديد سنة 1492م، واكتشاف الطريق من أوروبا إلى الهند بحراً حول أفريقيا (طريق رأس الرجاء الصالح) سنة 1498م. وهناك عوامل أدّت إلى قيام حركة الاكتشافات الجغرافيّة منها:

أ: العوامل السياسيّة: ظهور الدول القوميّة الأوربيّة ورغبة هذه الدول في السيطرة على أراضي جديدة؛ بغية التوسع فيها، واستعمارها واستيطانها. بمقابل إضعاف العالم الإسلامي والقضاء على قوّته ونزع تجارة الشرق من أيدي تجار المسلمين.

ب: العوامل الاقتصاديّة: وقد تمثلت هذه العوامل في حاجة أوروبا إلى بضائع الشرق من (التوابل والبهارات والمعادن والسكر والعاج). وكان التجار المسلمون يحتكرون التجارة بالتعاون مع المدن الإيطاليّة، وكذلك محاولة الأوروبيين الوصول إلى آسيا بطريق مباشر. وسعي الدول الأوروبيّة للتخلص من دفع الرسوم والضرائب التي كانوا يدفعونها للعرب والمسلمين. وقد رفض الأوروبيون سيطرة الأتراك العثمانيين على طريق التجارة المار بآسيا الصغرى وجنوب شرق أوروبا.

ت: العامل الديني: كان لهذه التحولات التي جاءت بها الفتوحات الجغرافيّة آثار عميقة في الواقع المسيحي، وخصوصاً الكنيسة الرومانيّة التي كانت الدول التي حققت نجاحات في

(37)

الفتوحات الجغرافيّة مثل اسبانيا والبرتغال على الرغم من كونهما لم يتأثرا بعمق بانجازات عصر النهضة إلا أنهما كانا يتحركان باسم المسيحيّة والغرب عامّةً وقد أسهم هذا في تأمين الموارد الماليّة اللازمة لعصر النهضة [1] وغالباً ما كانت الحملات الاستكشافيّة تتم بمباركة الفاتيكان مما أدّى إلى تدفّق الذهب نحو إيطاليا، وتحوّلت المدن الإيطاليّة وعلى رأسها روما إلى عواصم الثقافة العالميّة، وأثّر هذا في الفنون والآداب وما قامت به الكنيسة من توظيف الفنون في خدمة أهدافها الدينيّة اذ يمكن أن نذكر من البابوات الذين دعموا توظيف الفنون في خدمة الدين: (إينوسنت الثامن وإسكندر السادس وبيوس الثاني) وقد اهتمت الكنيسة بالفتوحات الجغرافيّة للعالم الجديد فأرادت الكنيسة الرومانيّة بسط سيطرتها على الأقطار المكتشفة غير المسيحيّة، وزيادة أتباع الكنيسة فأرسلت مع الحملات الاستكشافيّة القساوسة والرهبان ويوليوس الثاني وليون العاشر وأدريان السادس وكليمنت السابع وبولس الثالث. وكان من نتائج هذا الاجراء: إنتشار الديانة المسيحيّة عن طريق التنصير القسري لبعض المسلمين من سكان أفريقيا والسكان الأصليين للبلاد المكتشفة (أمريكا الشماليّة). وبهذا انتشر المذهب الكاثوليكي في العالم الجديد.

وعلى الرغم من كل هذا النجاح؛ لكن كانت هناك جوانب سلبيّة قوّضت الكنيسة ومكانتها المعنويّة في الغرب إذ جاءت تلك الارهاصات في كشف عيوب داخليّة داخل الكنيسة لم تستطع أن تقدِم فيها الكنيسة البدائل المناسبة مما مهّد الظروف الى انقسامات داخليّة عنيفة وهذا ما سوف نبحث به في المبحث الثاني.

(38)

المبحث الثاني

الأزمات الاخلاقيّة والعنف لدى الكنيسة

" أسباب نهضة الإصلاح الديني"

إنّ الموضوع المركزي الذي نود أنْ نقفَ عنده والذي قد شغل كثيراً من مؤرخي الأفكار سواء كانوا مع الكنيسة أم ضدها، وهو يتمركز على الأسباب الآتيّة: (الفساد الاخلاقي، والعنف، واحتكار الوساطة بين الله والبشر)، هذه الأسباب الثلاثة هي الأسباب التي شرعنت إلى الخروج عما هو مقدس، لكن ثمّة أسباب غير مباشرة قد أشرنا إليها في التمهيد والمبحث السابق منها: (الصراع على المنافع الماديّة بين السلطتين الدينيّة والسياسيّة، الثورات التي قام بها الفلاحون؛ نتيجة قسوة حياتهم بفعل الاقطاعيين من الملوك والأمراء والكنيسة، ظهور الطبقة البرجوازيّة، ظهور أفكار الإنسانويّة وما صحبها من تطور علمي) وقد تطرقنا الى هذه الاسباب بوصفها تمثل إرهاصات كما تطرّقنا في المبحث السابق، ونحاول هنا التنويّة؛ لأنّ الفصل بين تلك الأسباب وهذه ليس حتمياً بل هو مجرد إجراء اجرائي قمنا به من أجل توضيح الأسباب المباشرة من تلك التي تبدو غير مباشرة وسوف نتطرق هنا الى الأسباب المباشرة، لأنّها سوف تشير الى حضور الأسباب غير المباشرة ضمنياً من خلال الشرح والتحليل.

(39)

1-الاسباب الأخلاقيّة:

تشكِل الأخلاق عاملاً مهماً في تحديد مكانة الفرد أو الجماعة من خلال التزامهم بالثوابت من عدمه والتي يقرّها الدين المسيحي كتقوىً أخلاقيّة وتبتُّلٍ وميلٍ إلى العبادة وكلها تضفي على رجل الدين سمة القدسيّة ومما يجعله تجلي للنصوص المقدّسة، وسيرة القديسين والآباء الذين تحتفل بهم المؤسسة الدينيّة وتجعل منهم رموزاً يقينيّة في تحقق الأخلاق والتقوى التي مثّلها المسيح ومن بعده الصحابة والآباء، فهذه السيرة تسهم في منح المؤسسة الكنسيّة بعداً معنوياً يجعلها فوق النقد وبالآتي يمنح سلوك رجالها بعداً قدسياً غير قابل للرد من قبل الناس؛ لهذا تحوّلت تلك المؤسسة من صفتها الدينيّة الى صفة الوصايَة على الناس بوصفها تجلي للمطلق، لكنّ التنازع مع خصومها يدفعهم الى تصيُّد نواقص وعثرات المؤسسة ويظهر ما هو مسكوت عنه بفعل التحريم أو غير مفكر به؛ لأنه من غير الممكن توقع ما هو مقدّس أن يكذب، ويزني، وينتفع من المال العام ويشرع للسرقة على حساب الدين كما هو الحال في «صكوك الغفران  « وهذا أظهر أنّ هناك كثيراً من النقود الأخلاقيّة التي منحت الحق للنقاد أن ينتقدوا الكنيسة ويشرعوا للخروج عليها بوصفها مؤسسةً لا توافق الشرع الإلهي ومنها النقود الآتية:

1.1. ظاهرة الانحراف الأخلاقي والتشريعي:

إذ ظهرت كثير من الإشارات التاريخيّة التي يذكرها نقّاد الكنيسة عن فساد الحياة الشخصيّة لما يعد رمزاً من رموز التقوى اذ يبدو أنّ (السمعة الأخلاقيّة لبعض هؤلاء لم تكن كما يليق «للحبر

(40)

الأعظم  « أن تكون، فنسبة البعض لإسكندر السادس وجود عدد من الخليلات له) [1]، وقد كان لمسيرة الصراع بعدٌ طويلٌ ومثال ذلك إذا أراد الخصوم أن يسقِطوا أحد الأطراف المهيمنة، فهم يحاولون البحث في حياته الخاصّة أو معاملاته الماليّة أو سلوكه مع الآخرين فهذا بالآتي من الممكن النيل منه في أعين من يجدون به مثال التقوى، ولعلّ الاضطرابات الدينيّة أخذت بالظهور في الوقت الذي أخذ عصر النهضة بالظهور ويبدو أنّ الامر مرتبطٌ بالفروقات التي حصلت في الحياة اليوميّة وخروج رجال الدين من حياة التقوى الى الاهتمام بالحياة الدنيا على مستوى المباني وطريق العيش المرفّهة التي تجعلها إرادات الكنيسة وعقاراتها ممكنةً؛ وقد نتج عن هذا تضاد مع ما كان يعرف حياة القديسين والرهبان، وميلهم الى التقشف وبين رجال الدين المتنعمين والأكثريّة من الناس محرومة كما هو حال الطبقات الفقيرة. ومن ناحية ثانيّة تطور وعي الذات جعل العقول أكثر ميلاً الى التشكك، وعدم قبول الروايات الكنسيّة للأحداث فضلاً عن الخصومات التي تقع بين رجال الكنيسة أو الخصومات التي تحدث بين الكنيسة والمخالفين لها والمشككين في حاكميّة رجالها وخصوصاً البابا.

فعلى المستوى الداخلي كانت هناك صراعات داخليّة اذ شهدت حقبة أواخر العصور الوسطى عدداً من المكائد السياسيّة المحيطة بمنصب البابويّة، وبلغت ذروتها في الانشقاق الغربي، حين إدّعى

(41)

كلٌّ من ثلاثة رجال في وقت واحد أنه الأسقف الحقيقي لروما. في حين تم حل الانقسام من قبل مجلس كونستانس (1414م)، وشهد القرن الخامس عشر الميلادي نتاج حركة الإصلاح المعروفة باسم كونسيليارزم، والتي سعَت للحد من سلطة البابا. وعلى الرغم من كون البابويّة خرجت بمكاسب قويّة في القضايا الكنسيّة التي نوقشت في مجمع لاتيران الكنسي الخامس في (1511م)، إلا أنها قوبلت بسيل من الاتهامات بالفساد، وبالذات ضد البابا إسكندر السادس الذي اتهم بشراء المناصب الكهنوتيّة والمحسوبيّة وإنجاب أربعة أطفال غير شرعيين وهو على كرسي البابويّة، وتزويجهم بغرض كسب المزيد من السلطة. (تمثِل فقدان الكنيسة قيادتها الروحيّة للجماهير) [1].

فهذه الصراعات تحاول استثمار الانحراف الأخلاقي من أجل التشكيك بشرعيّة رجال الدين المتصدين الى قيادة الكنيسة والمتنعمين بخيراتها إذ أخذ المؤرخون على سبيل المثال على:

 (يوليوس الثاني شبقه نحو الحروب خصوصاً تلك التي قادها في مواجهة إمارة البندقيّة) [2] وأخذ أيضاً على ليون العاشر ولعه الشديد بالعمارة ووضعه صكوك الغفران؛ لتأمين التمويل اللازم لاستكمال المشاريع العمرانيّة الفنيّة الضخمة[3] ؛ إثر تراجع كميّة

(42)

الذهب المورد إلى أوروبا عن طريق البعثات الاستكشافيّة. ويذكر أن الأوضاع الاقتصاديّة كانت مزريّة للغايّة قبل عصر النهضة البابويّة خلال القرن الثالث عشر الميلادي. [1]

 قد لا تكون هذه سبباً حتى ينحرف رجال الدين وينسوا دورهم الأخلاقي والديني فهذا دانتي كتب في القرن الثالث عشر الميلادي في الكوميديا الإلهيّة، وفي رسالته الملكيّة، التي ألًّفها باللغة اللاتينيّة، ينعى العالم انحرافه على سواء السبيل الذي ارادته العناية الإلهيّة للناس، إذ رأى أنّ البابويّة قد أفسدتها الثروة وإنّ الإمبراطوريّة قد تهدمت. . . . [2] . أما فيما يتعلق بالانحراف الأبرز أخلاقياً وتشريعياً بنظر المعارضين للكنيسة فهو  « صكوك الغفران «

1.2. ظاهرة صكوك الغفران: تم تعليل ظاهرة صكوك الغفران من أجل تمويل أمرينـالأول منهما بناءُ كنيسة جديدة تحمل آسَم القّديس "بطرس" وذلك؛ بسبب قِدَم الكنيسة الحاليّة وعدم صلاحيتها للترميم. وأمّا الأمر الثاني: فتمويلُ الحروب الصليبيّة التي كانت موجّهةً نحو الشرق بهدف القضاء على الجيش العثماني وإقامة إمارةِ صليبيّة مقرُّها بيت المقدس؛ الا أنّ الأمر قد تجاوز تلك الأسباب السابقة إلى أمور هي بالأساس تتعارض مع الدين وتكشف عن عمق الانحراف الاخلاقي الذي يعاني منه طرفي المعادلة رجال الدين الذين يمنحونها والناس الذين يشترونها وكأنها تُعطِل الحياة

(43)

الدينيّة وتحولها من بعدها الديني المعنوي إلى بعدٍ نفعي يُخرِب الحياة الدينيّة، ويجعلها سمسرة ومن نماذج هذه الصكوك والتي اشتهرَ بتوزيعها الراهب الدومينيكاني "بوحنا تيتزل" بأمرٍ مباشرٍ من البابا "ليو العاشر" ما يأتي:

"ألا فليرحمك الربُّ يسوعُ المسيح ويغفر لك بفضل ما لقى من آلامٍ مقدّسةٍ. وإنَّا بتفويض منه ومن رسولَيه المبارَكين "بطرس وبولس "، ومن البابا المقدَّس مُنحَ لي وعَهدَ به إليَّ في هذه الأجزاء أن أُحِلَّك أولاً من كل لَومٍ دينيٍ مهما كانت الطريقُة التي تعرَّضتَ لها، ثم من كل خطاياك ومن كل تجاوزٍ للحدود وكل إفراط في الملذات مهما بلغَتْ من الجسامة، بل حتى من أي إثمٍ تحتفظ بتقريره وإدراكه السدّةُ البابويّة، وبقدر ما يمتد نطاق سلطان الكنيسة المقدّسة أعفيكَ من كلَّ عقابٍ تستحقُّه في المَطْهَرِ. [1]

اعتقد هذا هو الموت المعنوي الذي يشير إليه السيد المسيح روي عن عيسى عليه‌السلام قوله: "لا تجالسوا الموتى فَتَقْسُوا قلوبُكُم قيل: ومَنْ الموتى ؟! قال: طالبو الدنيا المحبّون لها “ونجد فشر يطرح اسئلة تعبِر عن الحال البائس بقوله: هل أضحت الكنيسة البابويّة بابل الكبرى، وأضحى البابا المسيح الدجال، كما قالت فئة الفراتيسلي، هل تنزه الرسل جميعاً عن المنافع الدنيويّة من مال وعقار وبنين؟ كما قرر الإخوان الفرنسكانيون. . . ؟ [2]

(44)

1-3-احتكار المعنى المقدس من قبل الكنيسة: ومن علامات هذا الاحتكار فرض الكنيسة للكتاب المقدَّس باللغة اللاتينيّة واحتكارها لفهمه وتفسيره. وهذا الاحتكار جعل منها تنوب عن السماء وجعلها تمتلك الحريّة في تفسير المعنى الحرفي أو الرمزي للنص ويمكن فهم هذا الأمر انها اصبحت بفعل هذا المركز الوسيط تمتلك سلطة رمزيّة معنويّة وتمتلك الهبات والعطايا والحقوق التي تحوّلت إلى أراضي شاسعة، لهذا نجد أن أول معاول النقد كانت تقوم على نقد المركزيّة للكنسيّة أخلاقياً وسياسياً وفكرياً وكان من أبرز الآراء في هذا المجال (آراء جون وكلف) وتأثر به (جون هوس) وهي آراء تنتقد من سلطة الكنيسة وشرعيّتها وقد خلّفت ثورات فلاحيّة في انكلترا وبوهيميّة. 

وعلى الرغم من المنع والقسوة إلا أنّ هذا قد أشاع عقلانيّة تؤمن بالتعدد نلمسها في قول الرشديّة اللاتينيّة التي تقول (إن العقول المختلفة تستطيع التعاطي مع رواياتٍ مختلفة عن الحقيقة)، ولعل هذا ما دفع اتيين جيلسون في عام 1938م الى القول: (تُعدُ قائمة الآراء برهاناً كتابياً على حقيقة أن العقلانيّة المحضة كانت تتقدم بثبات في أواخر القرن الثالث عشر). [2]

(45)

2- «ظاهرة العنف الرمزي»:

النقطة الثانية التي كان لها اثرها المدمر وحرّضت النفوس على رفض الكنيسة فهي والتي ترتبط بنظر النقاد بالنقطة السابقة وتظهر فساد الكنيسة وتفشِي الفساد وتكشف الانحراف بنظرهم هي «ظاهرة العنف الرمزي» التي هيمنت على سلوك رجال الدين في الكنيسة المسيحيّة، وقد تمثلت هذه الظاهرة في تعامل الكنيسة مع خصومها سواء كانوا من الأمراء أو العلماء المنشقين عليها أو من المتمردين في الثورات الزراعيّة التي قامت ضد الفقر والجوع والظلم.

2-1- أما على مستوى الأمراء: لقد كانت الكنيسة في صراع دائم مع الملوك والأمراء إنّ عصر الدولة الأوربيّة الجامعة غداً في الإول - كما أشار دانتي  ـ ع لى حين أشرقت مطالع عصر جديد مزاجه الدولة القوميّة، بدليل الإجابات العنيفة التي أجابت بها إنجلترا وفرنسا بعدها على البابا بونيفاس الثامن Bonifacius VIII (1235-1303م) وتدخله البابويّة في شؤون كل منهما. [1]

فهي قد تعرضت الى صراع طويل مع الملك الفرنسي وقد نتج عن هذا الصراع حدوث جملة من الانشقاقات كان أولها ما يعرف بـ«الأسر البابلي»  سميَت تلك الحقبة بهذا الاسم؛ للاعتقاد السائد بأن إقامة البابوات في آفينون كانت إجباريّةً وتحت النفوذ الفرنسي تشبيها لها بسبي بني اسرائيل من قبل نبوخذ نصر وإجبارهم على السكن في بابل. [2] وكانت هذه المرحلة متمثِلةً بهيمنة دول فرنسا

(46)

على المؤسسة الكنسيّة وجعلتها خاضعة لها، وبما أن فرنسا خصوصا فليب الرابع وحاشيته في حرب مع انكلترا فقد أدّى هذا إلى ظهور صراع عنيف بين الإنجليز والكنيسة؛ وقد تصاعد هذا الصراع بعد مطالبة البابوات في آفينون السلطات الانكليزيّة بتسديد ما بذمتها من المبالغ للبابويّة منذ عهد الملك جون. [1]

وقد أدّت هذه الصراعات إلى إضعاف الكنيسة على الرغم من زوال الأسر البابلي وعودة البابويّة الى روما؛ إلا أنّها قد تعرضت الى انقسام خطير؛ وهو نتيجة الحقبة السابقة التي جعلت أغلب رجال الدين من الفرنسيين الذين رفضوا العودة إلى روما التي وجدوها غير آمنة وتعيش اضطرابات وكانوا يأملون بالعودة الى مدينتهم  «آفينون» السابقة القريبة من الحدود الفرنسيّة وهي اكثر أماناً ؛ لهذا على أثر وفاة البابا كريكوري 1378م قام الكرادلة وغالبيتهم من الفرنسيين على انتخاب أحدهم ليعود بهم الى آفينون. غير أنّ السكان الهائمين في روما أجبروا الكرادلة على انتخاب اوربان السادس سنة 1378م، لكن الكرادلة انتخبوا لهم بابا هو كلمنت السابع ـ بعد مدّة وجيزة  ـ  مبررين عملهم بأنّ أوربان السادس قد فرضته عليهم الجماهير، ولهذا أخذ كلمنت السابع يعد العدة للرجوع الى آفينون. [2]

كان من أسباب هذا الضعف هو الصراع مع الملوك والأمراء على العوائد الماليّة التي تنتج عن المقاطعات العائدة التي هي حقوق كبيرة أراد الملوك التحكم بها واستثمارها وقد خلق هذا صراعات

(47)

كبيرة مع الأمراء الألمان والملك الانجليزي وأمراء أركون في أسبانيا وخلق ثورات فلاحيّة ترفض التعنت والقهر السياسي والديني ويزيد من تمزق الكنيسة التي اجتمع رجالها من أجل التوحد بين الطرفين فانتخبوا بابا جديد في مؤتمر ديني في مدينة بيزا سنة 1409م إلا إنّ البابوين السالفين رفضا التخلي عن مركزيهما، وبذلك فقد اصبح للعالم المسيحي نتيجة لمساعي مؤتمر بيزا ثلاثة بابوات في وقت واحد مما زاد الوضع حراجة. [1]

2-2- على مستوى العلماء: إن العلاقة بين الخطاب الأصولي والعلم ظهر في العصر الوسيط من خلال سلوك الكنيسة التي تعاضده مع الدولة وعملت على فرض رؤيتها وتأويلها للدين وجعلت منه يتعارض مع العلم، وكانت رؤيتها هي الدين نفسه في حين رؤيتها رؤيّة بشريّة منحازة الى مصالح ومفاسد رجال الدين المسيحيين في الكنيسة الرومانيّة، وهذه الرؤيّة وتلك السلوكيات تتعارض مع ثوابت النصوص وأيضاً مع طبيعة السيرة الاخلاقيّة التي سار عليها الآباء؛ فهذا التعارض وتلك العلاقة مع الدين وكأنه ملك على رجال الكنيسة كلها خلقت خطاباً متشدداً كان لابدّ له أن يجد نقاطاً للاختلاف من قبل الفلاسفة فَلِعلماء للدين مساحتهم، وللفلسفة مجالها، وللعلم مجاله هو الآخر لا يمكن للعلم أن يصادرهما. . . [2] ؛ لكن هذا أيضاً لا يعني قبول الأصوليّة المسيحيّة المتشددة في أحكامها وتفسيراتها مثلما وهناك أصوليّة علمانيّة؛ لأنّ

(48)

المشترك بين الأصوليات، كما يرى «جان ديبوا» ومن هذه التعريفات يمكن استخلاص المكوِّنات الأساسيّة للأصوليّة: الجموديّة «رفض التكيّف» و«جمود معارض لكل نمو، لكل تطور. والعودة إلى الماضي و«الانتساب إلى التراث» و«المحافظة». وعدم التسامح، الانغلاق، التحجّر المذهبي: «تصلب»، «كفاح»، «عناد».[1] بالتأكيد هكذا أصوليّة تحاول مصادرة كل جديد وتحول الى خطاب يقوم على النفي والإقصاء ويعتمد على العنف في مواجهة المختلفين معها ومع تأويلها الأيديولوجي اذ تبقى الأيديولوجيا مخالفة للدين والفلسفة؛ لأن الفلسفة الحقيقيّة هي تساؤل عن مشكلة الوجود الجوهريّة وعن وضعيّة الإنسان الوجوديّة. . . فيما الايديولوجيا نسقاً مقفلاً على نفسه متمحوراً حول بعض أشباه الحقائق، ساعياً إلى إشهار قيمتها الكونيّة والمطلقة على الرغم من كل ما يثبت العكس. وبالآتي، فالايديولوجيا ليست فكراً جدلياً؛ لأنها تفرغ من السلبيّة وتكتفي من المنطق بتماسك الأفكار المسبقة وما يترتب عنها من نتائج. [2] فالكنيسة تستثمر حاجة الإنسان إلى أمرين: أولهما حاجته إلى الاعتقاد والثاني تفسير الاعتقاد وتبريره هنا، وقد استثمرت الكنيسة هذا الامر واحتكرت تأويل النص الذي ابقته باللغة اللاتينيّة وحاربت أي اختلاف مع سياستها بعنف ومن أشكال

(49)

وآليات المراقبة والمعاقبة التي اعتمدتها الكنيسة مع الفلاسفة والعلماء. ويمكن أنْ نرصد هذه الممارسات الى عنفها قبل العصر الوسيط وفي أثنائه وهو ما تجلّى بأشكال متنوعة من الحرمان والنفي والتعذيب والقتل بصورة بشعة وهي تستند على نصوص في العهد القديم والعهد الجديد.

خلاصة ختاميّة للفصل.

أولاً: إرهاصات الإصلاح الديني: (ظهور الطبقة البرجوازيّة، ثورات فلاحين، ظهور الحركة الانسانويّة (Humanisime)، زيادة الثروة والتقدم التقني وظهور مفهوم الدولة القوميّة).

ثانياً: أسباب نهضة الإصلاح الديني: (أولاً -الأسباب الأخلاقيّة: ظاهرة الانحراف الأخلاقي والتشريعي، ظاهرة صكوك الغفران، احتكار المعنى المقدس من قبل الكنيسة، ثانيا - ظاهرة العنف الرمزي: أمّا على مستوى الأمراء، على مستوى العلماء).

(50)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

رجال الإصلاح الديني

 

 

ـ المبحث الاول: آباء الإصلاح الديني الأوروبي

ـ المبحث الثاني: رجال الإصلاح الديني الأوربي

ـ المبحث الثالث: الكنائس الإصلاحيّة (البروتستانت)

(51)

الفصل الثاني

رجال الإصلاح الديني

 

المبحث الاول
آباء الإصلاح الديني الأوربي

مقدمة

يعد هؤلاء هم بمثابة آباء الإصلاح الديني الأوربي؛ لكونهم جاءوا بأغلب المقولات الإصلاحيّة إن لم يكن معظمها؛ لهذا نجد من الضروري أن نبين كيف تطوّر الفكر الإصلاحي؟ وما هي الإرهاصات والأسباب التي حاولنا ان نتطرق اليها في الفصل السابق؟ والتي نحاول تلمس مصداقيتها في هذا الفصل الذي سوف نتطرق فيه الى الفكر الإصلاحي من خلال تقسيمه على مبحثين الأول نحاول أن نتطرق فيه الى الجذور التي انطلقت منها المقولات الإصلاحيّة فيما سوف نتطرق في الثاني إلى الفكر الأصلاح كما عرف، في هذا المبحث سوف نتناول شخصيتان هي: جون ويكلي، وجون هوس .

(52)

الشخصية الأولى: جون وايكلف Wyclef Jean

في مجال بحثنا عن آباء الإصلاح الديني الاوربي نجد المصلح الانجليزي جون وايكلف Wyclef Jean (1320-1384م) [1]، فهو الرجل الذي وضع أغلب مقولات الإصلاح الديني موضع التنظير والتطبيق معاً، كانت هذه المرتبة قائمة على مكانة علميّة اكتسبها بحركته التي لاتستكين مشهور بجهده ومثابرته فهو عرف بكتاباته الادبيّة كمترجم وأستاذ جامعي له مؤلّفات، فقد كتب رسائل في الفلسفة المدرسيّة عما وراء الطبيعة، وعن اللاهوت، والمنطق، وكتب مجلدين في فن الجدل، وأربعة مجلدات في المواعظ، ورسائل كثيرة متنوِعة قصيرة التأثير منها رسالة في السلطة المدنيّة. وقد وصف بأنّ «معظم ما كتبه بلغة لاتينيّة خاليّة من الرشاقة عسيرة الفهم»؛ ويبدو أن هذه الصفة كانت مقصودة من أجل التوريّة وإخفاء المقاصد الحقيقيّة له عن أعين خصومه والمتربصين به؛ لأنهُ ـ بحسب المؤرخين  ـ  (كان يخفي في ثنايا هذا الغموض أفكاراً جداً خطيرة، كانت تفصل بريطانيا عن الكنيسة الرومانيّة قبل أن يفصلها هنري الثامن)[2] فضلاً عن تراجم عدّة (أول مترجم للإنجيل إلى

(53)

الإنجليزيّة، أقرب إلى الفلاسفة منه الى فقهاء الإنجيل أو الناشطين الدينيين، لكن اسمهُ ارتبط بثورة الفلاحين التي قامت عام 1381م، وبجماعات الكولارد السريّة [1]، التي نشرت تراجم غير مصرحة للكتاب المقدس لم يكتبها ويكليف بقلمه. شكّك ويكليف في أحقيّة الكنيسة في السيطرة على أملاك المواطنين، ورأى أنّ القس الفاسق يفقد حقه في ممارسة مهامه ويحتمل أن يُقصى عن عضويّة الكنيسة بمفهومها الحقيقي، كمجتمع من المؤمنين الصالحين الذين قدّر لهم الرب سلفا الخلاص). [2]  ففي هذه المؤلفات نجده يعكس أمرين: درايّة في مجال اللاهوت؛ فهو متمكن لا يستطيع أحد من المؤسسة الدينيّة ان يقلل من شأنه، والأمر الآخر كان له كتابات فيما يعرف في فن الجدل والمناظرة؛ فهو خبير في مقاربة أفكار الخصوم نقدياً وتبيان تهافتها المنطقي، ومن ناحيّة ثالثة كان له رسالة واضحة سوف تجير كل خطاب إصلاحي إنها نقد وتقويم للمؤسسة الكنسيّة وترتيب علاقتها بالمؤسسة الزمنيّة أي الدولة ممثلة بالملك وهذا ما يخبرنا به عنوان رسالته في السلطة المدنيّة وهي الموضوعة التي شغلت كثيراً من الفلاسفة قبله وبعده في ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة وحدود كل منهما وهو مشروعه الأساسي الذي قال به من قبل الفيلسوف المدرسي«أوكام» ـ كما عرضنا له في الفصل السابق ـ وسوف يقول به رجال الإصلاح فيما بعد من تلاميذ وليم أوكام.

(54)

فكان مشروعه هذا على الرغم من كونه لا يعلم بوجود مؤيدين له أولهم الملك والحزب المعارض للكنيسة وأكثريّة من الناس سوف يكون له موقف، وهم الفلاحون كما عرضنا إلى صراعهم مع المؤسسة الكنسيّة وخصوصاً في انكلترا وهو قريب من ويلكيف وارتبط بمشروعه المقاوم للانحراف في الكنيسة وخطابه الإصلاحي لها، لكننا يمكن أن نلمس أول نقطة تتمخض في كون الرجل هو رجل دين وأستاذ جامعي وموظف حكومي تابع للملك وليس إلى المؤسسة الدينيّة وبهذا، فهو مستقل عن المؤسسة ولكنه مرتبط بالقصر وسلطته الزمنيّة وهي أوّل علاقة بين سلطة زمنيّة ورجل دين منفصل عن المؤسسة الدينيّة ـ سوف نجدها فيما بعد عند رجال الإصلاح الديني - فقد كان إنجليزياً ومستشاراً لاهوتياً لملك انجلترا، هذا عن علاقته بالملك وسلطته الزمنيّة العلمانيّة. [1]

والنقطة الثانيّة كون قربه من تلك السلطة واستقلاله عن الكنيسة ومؤسساتها قائم على أساس فكري فهو كان يتقاطع تماما مع تلك المؤسسة الدينيّة؛ اذ هاجم سلطة البابا المطلقة، وقد قام بتدبير يكسر احتكار الكنيسة للوساطة بين السماء والأرض عبر كونها تقوم بالطقوس وتلقين الأسرار المقدسة وهي الوحيدة القادرة على تفسير الكتاب المقدّس المكتوب بلغة لا يفقهها الشعب الانكليزي فالكتاب يكتب باللاتينيّة، وكان تدبيره يعد أيضاً لدى مؤرخي الأفكار وأعظم إسهاماته تمثّلت في ترجمة الكتاب المقدس إلى

(55)

اللغة الإنجليزيّة الدارجة. ثارت الكنيسة عليه؛ بسبب ذلك ومنعت نشر الكتاب لاحقاً. أما التدبير الثاني فهو يحل الكتاب المقدّس بدل الكنيسة، فنحن نستطيع التواصل مع الله من خلال كلام الله وهو الكتاب المقدّس فقد اصبح مفهوماً وليس لغزاً وغير خاضع الى تأويلات الكنيسة الذراعيّة بحسب أهوائها، لهذا قال ويكليف بقول سوف يصبح حجر الزاوية في كل الإصلاح الديني بعد الترجمة هو أنّهـ» آمن بأنّ سلطة الكتاب المقدس هي فوق كل سلطة أخرى». 

النقطة الثانيّة في نقد المؤسسة الدينيّة وهي النقطة التي انطلق منها كل خطاب الإصلاح الديني، إنها نقد السلوك غير «الأخلاقي»  لدى المؤسسة الدينيّة ورجالها وتعريته مما يبدو متناقضاً تماماً مع ما تسوقه تلك المؤسسة من شعارات وأقوال لا تصمد عند مقارنتها بالحجج والوقائع؛ فعلى الرغم مما هو معلن من أدبيات الرهبنة إنّ رجال الدين قد رضوا بأن يعيشوا حياة العزوبة والتبتل والانقطاع عن زخرف الحياة في الأدبيات الدينيّة.

والأمر لا يقف عند البعد الاخلاقي بل له أبعاد أكبر اذ يدخل في معترك الصراع بين السلطة الزمنيّة الانكليزيّة وعلاقتها بالسلطة الدينيّة الخاضعة الى عدوّة انكلترا إنها فرنسا، وبالآتي فإن المصلح ويكلف أدخل اليّة جديدة سوف يتابعه بها كل رجال الإصلاح وهي قوامها التحالف مع السلطة الزمنيّة من أجل مواجهة السلطة الدينيّة مستثمراً الصراع بينهما على الموارد الكنسيّة .

يوصل أسباب الفساد الأخلاقي لدى رجال الدين، وهو ما فصلهم عن الناس إنهم يقبضون على موارد الكنيسة المجبيّة من

(56)

مقاطعاتهم في انكلترا، وهي موارد تفوق مايحوزه الملك كبير الاقطاعيّة في انكلترا، وهذه الموارد خارج حدود سيطرة الدولة الضريبيّة بفعل وجود رجال تلك المؤسسة في مؤسسات القار التشريعيّة والتي جعلتهم يحمون مصالحهم جيداً امام أي تشريع من الممكن أن يضر بها، نعم إن رجال الدين كانوا يسهمون بأداء عشر إيرادهم للدولة، ولكنهم كانوا يصرون على ألا تفرض عليهم ضريبة إلا بموافقة مجامعهم الدينيّة.

في هذا الصراع الذي كان دائر بين الملك وحاشيته من جهة والبابا ومؤسسته الدينيّة من جهة أخرى، كان أنموذجاً للصراع الذي أصّلنا له في الفصل السابق وقلنا إنه من الأسباب التي دفعت الى الإصلاح الديني.

في ظل تلك الظروف التي أطّرت الواقع الذي كان يعيشه ويكلف في محاولته إلى تقديم حلول في مقاربة كان أصولها الرؤية التي انطلق منها ويكلف؛ فهو كان متاثراً بالجبريّة وبالتالي كان قد تقبّل هذه الأوضاع من ضمن رؤية جبريّة اتّخذها من أوغسطين مرجعا لها، وفي ذلك يقول ويكلف: (إن الله يمنح بركته ورحمته لمن يشاء، وقد كتب على كل إنسان مصيره المحتوم في الأزل قبل مولده كتب عليه الخسران أو النجاة إلى الأبد. وليست الأعمال الصالحة هي التي تنجي صاحبها، بل إنها تدل على إن من يعملها قد تلقّى رحمة الله ونعمته وأنه ممن اختارهم وخصهم بهذه النعمة وتلك الرحمة ونحن نصدر في أعمالنا حسبما قسمه الله لنا، ومصيرنا هو خلقنا وليس خلقنا هو مصيرنا كما قال هرقليطس. وكان آدم وحواء

(57)

وحدهما هما الذين استمتعا بحريّة الإدارة، ثم خسرا وأبناؤهما من بعدهما هذه الحريّة بمعصيتهما). [1] فعلى الرغم من هذه الجبريّة العميقة؛ الا إنه كان يحاول استثمار ما تتيحه من ضوء من خلال سعيه الإصلاحي إلى أن يكون له دور إذ يحاول التقرب به من الله، ولعلّ هذا هو الأساس في مقاومته العنيفة للفساد الديني الذي يتعارض أشد المعارضة مع الرغبة بالإصلاح والتقرب من الله، والفوز بعطفه. هذه ناحية ومن ناحية ثانيّة، إنه لايؤمن بوساطة بين الله وبينه، بحسب رؤيته (فلله سيدنا ذو السلطان الكامل علينا، وولاؤنا له ولاء مباشر أشبه ما يكون باليمين التي يقسمها كل إنجليزي أمام الملك، وليس هو ولاء غير مباشر عن طريق ولاء لسيد تابع كما هي الحال في فرنسا الإقطاعيّة. ومن ثم كانت العلاقة القائمة بين الإنسان والله علاقة مباشرة لا تحتاج إلى وسيط، ولذلك يجب أن يرفض كل ما تدعيه الكنيسة أو يدعيه أي قس من أن تكون هي أو يكون هو واسطة لا بد منها. وبهذا المعنى يكون كل مسيحي قسيساً وليس في حاجة إلى أن يرسم كذلك والله مالك الأرض وما عليها، وليس في مقدور الآدمي أن يمتلك شيئاً منه بحق إلا بوصفه تابعاً له طائعاً لأمره.)، هذه الرؤية تعزز موقفه السابق في نفي دور الكنيسة تماما واتخاذ الكتاب المقدس الطريق المباشر إلى الله.

كانت هذه الرؤيّة النقديّة الإصلاحيّة تدعمها رؤيّة أخرى هي رؤيّة البرلمان الذي يهيمن عليه مؤيدون الملك، والتي وجدت في العلاقة بين الدولة والكنيسة التي كانت وقتها خاضعة الى دولة فرنسا

(58)

عدوة انكلترا وقد دخلت معها في حرب استمرت مائة عام، وجد الملك وأنصاره الفرصة سانحةً من أجل ضرب الكنيسة وممتلكاتها في انجلترا، لقد أكّد ملوك انكلترا والبرلمان الانكليزي في تلك الحقبة على السيادة الداخليّة وذلك بالحد من الامتيازات البابويّة. وهناك جملة عوامل ساعدت على ذلك منها:

1. إنّ إقامة البابوات في أفينيون في حقبة الأسر البابلي (1305-1377م)، وهم تحت تأثيرات ملوك فرنسا أعداء السلطات الانكليزيّة خاصة أثناء حرب المائة عام وادعاء البابوات بتبعيّة انكلترا لهم اقطاعيا منذ عهد الملك جون من الامور التي كدرت العلاقة بين الطرفين.

2. الاتجاه الاقتصادي الداخلي للاحتفاظ بثروة البلاد من المعادن الثمينة، فالسياسة التجاريّة Mercantilism أخذت تتوضح شيئاً فشيئاً قبيل نهايّة العصور الوسطى في الأقطار المتقدمة اقتصادياً.

3. الحيلولة من دون وقوع الأموال المجباة باسم الدين في أيدي بابوات آفينيون حلفاء ملوك فرنسا.

4. إنّ النمو الاقتصادي الذي تميّزت به الأقطار الأوربيّة عامة وبخاصة انكلترا والاتجاه؛ لطلب الأرباح والإعراض عن سياسة الكفاف الاقتصادي الدينيّة شجّعت على المواقف السلبيّة من البابويّة.

5. إن التنظيمات الكنسيّة في انكلترا واتصالها المباشر بكنيسة

(59)

روما مدعاة للصدام وبدت لملوك الانكليز وكأنها تدخلات خارجيّة. [1]

إذ كانت هذه الرؤية تمنح الصراع بين الملك والكنيسة مشروعيّة كما فهمها الملك وحزبه المناهض للكنيسة، وخصوصاً عندما رفض البرلمان الانجليزي مرة أخرى أن يؤدِي الخراج الذي تعهّد أن يؤديه الملك جون للبابا سنة (1366)[2].

في ظلِ هذه الظروف كانت هناك حاجة الى رجل دين إصلاحي يضفي المشروعيّة على مطالب الملك وأنصاره، وكان ويكلف يمثِل ذلك الرجل المناسب بمكانته الدينيّة والعلميّة وأفكارهِ؛ لهذا عُين ويكلف قساً في خدمة الملك؛ ليعد دفاعاً عن هذا العمل، وعيّنه إدوارد الثالث في عام 1374م رئيساً لكنيسة أبرشيّة لوثر وورث ويبدو أنه قصد بذلك أن يكون إيرادها أجراً له يحتفظ به لنفسهِ. ثم عُين ويكلف في عام 1376م عضواً في اللجنة المكلّفة التي أُرسلت إلى بروج؛ لتبحث مع عمال البابا ما تصر عليه إنجلترا من رفض أداء الخراج، وبعد أن اقترح جون جونت مصادرة الحكومة لبعضٍ من أملاك الكنيسة، دعا ويكلف إلى الدفاع عن هذا الاقتراح في سلسلةٍ من الخطب الدينيّة يلقيها في لندن. ولبّى ويكلف الدعوة (في سبتمبر من عام 1376م)، [3] وكان جزاؤه أن وصفه الحزب المناصر

(60)

لرجال الدين بأنه آلة بيد الحكومة، وقرر كورتناي أسقف لندن أن يشن هجوماً غير مباشر على ويكلف، فاتّهمه بأنه رجل مارق خارج عن الدين. واستدعي الواعظ للمثول أمام مجلس من الأحبار في كنيسة القديس بولس في شعر فبراير من عام 1377م. وشجر نزاع بين الجنود وبعض النظارة، قامت على أثره ضوضاء، فرأى الأسقف أن من الحكمة تأجيل المحاكمة، وعاد ويكلف إلى أكسفورد من دون أن يمسسه سوء. وبعث كورنتاي إلى روما إتماماً مفصّلاً نقل فيه اثنتين وخمسين عبارة من كتب ويكلف، فلما كان شهر مايو أصدر جريجوري الحادي عشر مراسيم بابويّة يطعن فيها بثمانيّة عشر قولاً من أقوال ويكلف، معظمها من رسالتهِ «عن الحكم المدني»، وأمر سدبري كبير الأساقفة والأسقف كورنتاي أن يبحثا الأمر؛ ليعرفا هل لا يزال ويكلف معتنقاً لهذه الآراء، فإذا تبينا أنه لا يزال يعتنقها فعليهما أن يلقيا القبض عليه ويحتفظا به في الأغلال حتى تصدر إليهما تعليمات أخرى.

وكان ويكلف في هذه الأثناء قد كسب تأييد طائفة كبيرة من الرأي العام وكان البرلمان الذي اجتمع في شهر أكتوبر مناهضاً للكنيسة أشد المناهضة. وكانت فرنسا وقتئذ تستعد لغزو إنجلترا، وكانت الخزانة الإنجليزيّة تكاد تكون خاوية، وبدا أنّ من الحمق أن يسمح لوكلاء البابا بأن يجمعوا الأموال من الأبرشيات الإنجليزيّة لبابا فرنسي ولمجلس من الكرادلة كثرته الغالبة من الفرنسيين.

تبدو اللحظة الحاسمة التي تحوّل بها ويكلف الذي منح الشرعية الدينية، للسلطة الانكليزيّة ممثلةً بالملك والحزب المؤيد

(61)

للمواجهة مع البابا، وقد ظهر الأمر بوضوح عندما سأل مستشارو الملك ويكلف «هل يحق لمملكة إنجلترا شرعاً، إذا كانت الضرورة تحتم عليها لتعمل لصد ما يتهددها من الغزو الفرنسي، أن تمنع أموال الدولة من الوصول إلى البلاد الأجنبيّة، وإن طلبها البابا وهدّد من يمنعها بالعقاب معتمداً في ذلك على وجوب طاعة أوامره؟»

وكانت أجابة ويكلف عن هذا الاستفتاء بمنشور كان في الواقع دعوة لفصل الكنيسة الإنجليزيّة عن البابويّة وقد جاء في هذا المنشور:

 «إن البابا لا يستطيع أن يطلب هذا المال إلا على سبيل الصدقة.. ولما كانت أهل البلاد أولى من غيرهم بهذه الصدقات، فإن توجيه صدقات الدولة إلى البلاد الخارجيّة إذا كانت البلاد نفسها في حاجة إليها، يخرج بها عن نطاق الصدقات ويجعلها حماقة وبلاهة. »

وقد ردّ ويكلف على الدعوة القائلةـ» بأنّ الكنيسة الإنجليزيّة جزءٌ من الكنيسة العالميّة الكاثوليكيّة وإن من واجب الكنيسة الإنجليزيّة؛ لهذا السبب أن تطيعها وتخضع لأوامرها» وهذا الرأي يمثِله أتباع الكنيسة وموظفيها.

 ردّ ويكلف على هذه الدعوة بأن أوصى باستقلال إنجلترا الكنسي وقال: «إن الدولة الإنجليزيّة، بنص الكتاب المقدس يجب أن تكون هيأة واحدة، وأن يكون رجال الدين، واللوردات، والسكان العاديون أعضاء في هذه الهيئة». [1]

(62)

فهذا الموقف المتقدِم كان من الجرأة حداً جعل من مستشاري الملك يطلبون إلى ويكلف أن يمتنعوا عن الإدلاء بآراء جديدة في هذا الموضوع.

لماذا؟ لأنّ ويكلف وصل بالأمر الى نهايته القائمة على المفاصلة التامة مع الكنيسة الرومانيّة وكان موقف متقدم على زمانه.

فولّد موقفاً من قبل الملك وأنصاره وهذا ما أظهر في البرلمان الذي واصل جلساته في يوم 8 نوفمبر.

أمّا موقف المؤسسة الدينيّة الانكليزيّة التابعة للكنيسة فقد أعلن في الثامن عشر من ديسمبر عندما نشر الأساقفة - وكانوا قد أعدوا العدة للقتال- قرارات التنفيذ التي أصدرها البابا، وأمروا مدير جامعة إكسفورد أن ينفِذ أمر البابا القاضي باعتقال ويكلف.

بالمقابل كان هناك موقف ثالث متمثل بالجامعة التي رفضت الانصياع الى طلب المؤسسة الدينيّة، وكانت الجامعة وقتئذ في ذروة استقلالها العقلي، وكانت في عام 1322م قد اتخذت لنفسها حق خلع أي مدير لا ترضى عنه من دون أن تأخذ في ذلك رأي أسقف لنكولن رئيسها الرسمي الأعلى، وكانت في عام 1367م قد نبذت كل ما كان للأساقفة من إشراف عليها. وأيّدت نصف كليات الجامعة حق ويكلف في أن يجهر برأيه على الأقل ورفض مدير الجامعة أن يطيع الأساقفة، وأنكر كل حق لحبر من الأحبار على الجامعة في المسائل الخاصة بالعقائد، ولكنّه

(63)

أوصى ويكلف في الوقت نفسه بأن يبقى إلى حين في عزلة متواضعاً، غير أنه قلما يوجد بين المصلحين من يستطيع الصمت، حتى ظهر ويكلف في شهر مارس من عام 1378م أمام مجلس الأساقفة ليدافع عن آرائهِ. . [1] .

الثاني: جون هاس «John Hus”

حياته

جون هاس «John Hus” 1369- 1415م، هو كاهن البوهيمي، ولد هوس في قرية هوسينتز، جنوب غربي بُوهِيميا، (جمهوريّة تشيسلوفكيا الآن)، ونسبة الى قريته عرف باسم «جون الهوسينتزي» الذي اختصره فيما بعد إلى «هس»، قبل خمسة عشرة عاماً من موت أستاذه «جون ويكليف»، الذي كان يحترمه ويقدّره. كان هوس مفكراً، وفيلسوفاً ومصلحاً تشيكياً، درس في جامعة تشارلز في براغ. ونتيجةً إلى أفكاره الإصلاحيّة التي تعد امتداداً الى أفكار  «جون ويكلف».

بدأ يلقي مواعظ تتسم بالدعوة الى الإصلاح الديني في براغ، واستطاع أن يجذب إليه كثيراً من تابعيه. وقد هاجم هوس نظم الأساقفة والكرادلة، والباباوات ودعا إلى القيام بإصلاحات في نظام الكنيسة. على الرغم من كونه يخالف ويكلف في رأيه فهو لم يهاجم

(64)

القربان المقدس؛ إلا أنه ف ترك تاثيراً كبيراً في مواعظه تلك إذ (بدأ كثير من المتدينين يتساءلون عن مدى أحقيّة السلطة البابويّة. بل إن هوس ذهب إلى أبعد من ذلك حيث وصف البابويّة بأنها مؤسسة الشيطان). [1] ولعل هذا التأثير في الوسط الشعبي قد خلق له أتباعاً كثيرين، وكان لهم اثرهم في الإضطرابات التي حدثت في أثناء حياته والحروب التي شنّتها الكنيسة على بُوهِيميا باسم الحروب الصليبية كانت مدمرةً على كل الأطراف، ولعل هذا التأثير هو ما جعل السلطات الدينيّة والمدنيّة تتحسس الخطر منه ومن خطابه الإصلاحي، لهذا اتُّهم بالهرطقة؛ لأنّه يعد امتداد لما عرف من أفكار دينيّة وإصلاحيّة، جعلته تلك الافكار يتعرّض الى الحرمان الكنسي ثم إلى الطرد في عام (1410م)، ثم استُدرج بحيلة المحاكمة إلى روما بالتعاون مع الإمبراطور إذ سجن ثم تمّ حرقه بتهمة الهرطقة في عام 1415م.

وعلى الرغم من كل ما أصابه؛ فإنّه يبقى أحد الشخصيات صاحبة الحضور الرمزي الكبير في نفوس اتباعه، وهذا الحضور يعود الى ما تمتع به جون هوس الذي يعد أنموذجاً للراهب المثقّف الذي وقف في وجه البابا ونادى بإصلاح الكنيسةِ وطقوسِها. على الرغم من كون الإرهاب والعنف الضاري الذي كانت تقوم به الكنيسة في محاربة من كانت تشك بنواياه، كيف بمن يصرِح، ويحرِض، ويتهكم على نواقص الكنيسة ورجالها. وقد كان الرجل كما قلنا

(65)

مثقفاً له حضور ممزوج بثقافة واسعة في ميادين اللاهوت والفلسفة واللغات الكلاسيكيّة.

وقد جمع بين الخطابة والتدريس الجامعي، اذ حصل عام 1396م على إجازة أستاذ في الآداب، وبدأ يدّرِس في الجامعة، وفي عام 1409م أعاد ملك بوهيميا جامعة براغ إلى التشيك، وأصبح هوس كاهناً في الكنيسة. واختير عام 1401م، عميدًا للدراسات الإنسانيّة، في كليّة اللاهوت بمدينة براغ. وقد تعرّض الى اعتراضات من قبل الأساتذة الألمان الذين كان لهم حضور في هذه الكليّة، ولكن هذا التصرف أغضب المدرسين والطلبة الألمان في الجامعة، فقاموا بمغادرتها وأسسوا جامعة ليبزج. وقام الألمان بعد ذلك فأشاعوا أنّ هوس منشق عن العقيدة الأصليّة وذا سمعة سيئة. وقد يكون هذا نتيجة لمواقفه التي تعود الى التنافس أو لأنّه قد اخذ يبشِر بموقف الإصلاح من منبر الجامعة؛ لكن على الرغم من هذا فقد رسم في العام نفسه قسيساً، لكنيسة بيت لحم. وكانت تلك رغبة الحكومة التي تريد هيمنة الجانب القومي في مؤسساتها.

أفكاره الإصلاحيّة

يمكن التعامل مع فكر هوس واحتجاجاته على الكنيسة الرسميّة من خلال مرحلتين رئيسيتين: ففي المرحلة الأولى، التي أنجز فيها ترجمةً للإنجيل إلى اللغة التشيكيّة، وسلسلةً من المؤلّفات حول المشكلات الدينيّة مثل «عبادة الصور»، و»حياة المسيح»، وعددٍ من الشروحات حول النصوص المقدّسة، كان قد عبَّر بها عن مجموعة من الانتقادات بخصوص هذه النصوص والممارسات الدينيّة.

(66)

أما المرحلة الثانيّة فقد انطلقت ابتداءاً من سنة 1408م، إذ أقدمَ على التنديد بشكل صريح بامتيازات الإكليروس. وأهم ما يميز هذه المرحلة على المستوى الفكري الجرأةُ التي أبان عنها في كتاباته المنتقِدة للكنيسة، وفي طليعتها: كتاب «نداءٌ إلى البابا»، وكتاب: «قراءةُ كتب الدعاة لا إحراقها»، الذي دافع فيه عن أفكارِ الإصلاحي الإنجليزي جون يكليف. وبالآتي نجد أنّه في هذه الأفكار الإصلاحيّة يسير على نهج أستاذه جون ويكلف ومنها:

ـ تأكيده على الرؤيَة الجبريّة التي قام بها ويكلف متأثراً بأوغسطين؛ لهذا نجد هوس يعرب عن اعتقاده في الأقدار.

ـ ويرفض الوساطة الكنسيّة في الخلاص وأقام بدلاً عنها سلطة «الكتاب المقدّس والمسيح» اذ عدّ أنّ الكتاب المقدّس هو السلطة الدينيّة في نهاية المطاف.

ـ ويقول بأنّ المسيح، وليس أي مسؤول كنسي آخر، هو الرئيس الحقيقي للكنيسة. وبحسب استعارات هس فإنّ المسيح هو رأس الكنيسة، والشعب هو جسدها، بمقابل أنّ البابا هو رأس الكنيسة والكرادلة هم جسدها.

ـ فهذه الأفكار التي ترجمها من مؤلّفات جون ويكليف كانت أيضاً ترديداً للموقف نفسه من الكنيسة والذي فحواه رفض الكنيسة وتقديم رؤيَة إصلاحيّة جذريّة؛ لأنه كان يرفض جذرياً، نظام السلطة الذي نما داخل الكنيسة.

ـ نادى جون هوس في كتاباته بتحديد البدع بالنظر إلى ما هو واردٌ

(67)

في الإنجيل، وليس بالنظر إلى ما تسِير عليه الكنيسة الرسميّة. وفي سنة 1412م، لما روَّجت الكنيسة لتجارة  «صكوك الغفران»، التي كان البابا في حاجة إليها؛ لتمويل حربِه ضد ملك نابولي، انتفض بقوة ضد ما أسماه بتجاوزات الكنيسة، وأعلن عصيانه لبلاط روما.

موقف الكنيسة من جون هوس:

قدّم رئيس الأساقفة شكواه قبل أن يرى البابويّة، متّهماً و«يكليف» و«هوس» بالتحريض على جميع الاضطرابات الكنسيّة في بوهيميا. ثمّ أصدر البابا تحريم في 20 ديسمبر من عام 1409م، الذي مكن رئيس الأساقفة للمضي قدما ضد جميع الكتب  «ويكليف»  والعمل على إبطال مذهبهِ، ووقف «هوس»  عن الوعظ الحر في الكنيسة.

في هذا الوقت وخصوصا بعد انتشار الثورة في عام 1410م، ناشد «هوس» البابا، أملاً في إصلاح موقفه من الأوضاع في بلاده وعموم الكنيسة ولكن عبثاً.، كان موقف الكنيسه أكثر تشدداً اذ أحرقت جميع الكتب والمخطوطات القيمة العائدة الى ويكليف، ووضع هوس وأتباعه تحت الحظر.

تسبب هذا الإجراء إلى توتر لا يوصف بين الناس وقد شمل أغلب الطبقات وخصوصاً الفقراء؛ إذ وقعت في بعض الأماكن مشاهد مضطربة. وقد وقفت الحكومة إلى جانب هوس، وزادت من قوّة أتباعه من يوم إلى يوم. وكان هوس قد واصل الوعظ في كنيسة بيت لحم، وأصبح أكثر جرأة في اتهاماته للكنيسة. وزادت السلطة الكنسيّة من إجراءاتها إذ تمّ وضع كنائس المدينة تحت الحظر

(68)

البابوي، وصدر الحكم ضد براغ، ولكن من دون نتيجة. [1] ؛ فهذا التشدد الكنسي جاء بفعل الموقف المتشدد من قبل رجال الدين المؤيدين للكنيسة الرومانيّة وكانوا قد عبّروا عن موقف متشدد من أفكار جون هوس الإصلاحيّة، اذ قام رجال الدين هؤلاء بالتصعيد يوم رفعوا شكواهم أمام البابا، وقد جلبت تلك الشكاوى مواقف متشددة من قبل البابا الذي أمر كاردينال أنجيلو المضي قدماً ضد جون هوس وأتباعه، كانت أجواء التحريم التي تقوم بها الكنيسة قد صاحبها تأثير نفسي في الشعوب التي كانت تجد في التحريم مجلبة الى غضب الله والعصيان وأجبرت هوس على الخروج من براغ، ولكن غيابه لم يكن ليضعف من الأثر المتوقع في النفوس؛ لهذا استمرّت الإثارة.

وقد بذل الملك جهوداً كبيرة لتحقيق الانسجام بين الأطراف المتعارضة، إذ كان يحزنه سمعة بلاده بسبب البدعة. في عام 1412م استدعى رؤساء مملكته للتشاور، وبناءاً على اقتراحهم أمر المجمع الذي سيعقد في بوهميا ـ برود في 2 فبراير 1412م. الذي ضمّ الأساقفة فقط في براغ، أمّا جون هوس فقد كان غير مدعو الى الاجتماع.

أما موقف جون هوس من كل هذه الضغوط التي قام بها رجال البابا في براغ، فقد وقف موقفاً عنيداً مقاوماً لكل هذه الضغوط ويطالب بأن تكون بوهيميا لها مالغيرها من الدول الحرّة، فيما يتعلّق بالشؤون الكنسيّة، وبالآتي لا ينبغي أن يتم الإعلان عن الموافقة

(69)

والإدانة إلا بإذن من سلطة الدولة. وقد تجسّد هذا الموقف عندما، قال أمام مبعوثي البابا: “أنا مستعد للامتثال للبابا إذا كانت أوامره توافق أوامر المسيح، لكن إذا حصل العكس فلن أمتثل ولو أقيمت المحرقة أمامي». [1]

محاكمته وإعدامه:

وفي عام 1414م استُدْعِي هوس أمام مجمع كونستانس، وهو اجتماع ضم زعماء الكنيسة بكونستانس في ألمانيا. عُقد مجمع فى مدينة كنستانس عام 1414 م استمر لمدة ثلاث سنين ونصف وكان من أغراضه القضاء على التعاليم المنسوبة لويكليف وهوس. ودُعي هوس للحضور إلى المجمّع، وقد أعطاه  « الامبراطور سيجسمند «جواز أمان للسفر.

بناءاً على هذا التعهد من الامبراطور حضر هوس إلى المجمع مؤملاً استعمال تلك الفرصة لإيضاح تعاليم الكتاب المقدّس أمام هذا الجمع الحاشد، ولكن على الرغم من الوعد الامبراطوري قُبض على هوس وطُرح فى سجن قذر فى جزيرة فى وسط البحيرة. فقد كتب كاتب كاثوليكي متعصب يصور موقف هوس وجيروم من المجمع الذي انعقد بشأنهما قائلاً:»… وكان المجمع قد عرض عليه «على هوس» صورة الرجوع عن ضلاله فأبى أن يمضيها وبقي مصراً على غيّه… على عناده ورفيقه جيروم حتى نالا العقاب نفسه”.[2]

(70)

وقد أصدر المجلس المذكور حكمًا بإعدام هوس، وتمّ إحراقه في مدخنة فوق سطح أحد المباني، على الرغم من أنّه قد وُعِدَ بأن يكون في مأمن إذا ماحضر اجتماع المجلس للدفاع عن نفسه. [1]

(71)

المبحث الثاني

رجال الإصلاح الديني

المبحث الاول: مارتن لوثر، Luther 1483-1546

كان فيبر يشكِل موقفاً ودوراً حيوياً في علاقته القويّة بالخطاب الكنيسي والشرعيّة الدينيّة، فالرجل مشتبك بهذا الخطاب بعمق فهو راهب أوغسطيني لاهوتي ومفكر وكاتب، بدأ الإصلاح الديني في ألمانيا، وانفصل عن الكنيسة في صك الغفران وسلطة البابا والتبتل وإكرام القديسيين والمظهر والقدّاس، نقل التوراة الى الألمانيّة فكانت الترجمة حدثاً دينياً [1].

فهذه المواصفات كانت تمكِنه من أن يكون له اثر عميم من داخل الشرعيّة الدينيّة وهو يعمل على نقدها وتأسيس حراك ديني باتجاه مختلف وهذا الحراك يمكن أن نتلمس خريطته من المؤلفات التي تنسب له إذ يمكن أن نتلمس أنه كان يؤسس الى قراءة دينيّة لها أبعادها المعنويّة والتي تؤسس الى خطاب لاهوتي مختلف عن المركز وهو يعيد ترتيب البيت عبر تأكيد علاقته بالدولة وعلاقتها بالدين؛ فهو بهذا يمنح الدولة شرعيّة من داخل الدين حتى يكون لها مسوغ بالتدخل الذي حرّمه عليها البابا منذ قراره الشهير.

لقد تأثّر لوثر بفكرة كون الملكوت الأرضيّة شريرة والسماويّة

(72)

خيّرة، وقد يكون هذا بفعل أوغسطين فهو راهب أوغسطيني [1]؛ لكن بتوجه فكري مغاير للقديس أوغسطين إذ أكّد على حريّة الضمير؛ لأنه من دون الحريّة قد يتأثّر الضمير بالسياسة كما عدّ المملكة الأرضيّة شريرة، ولا يجب التدخل بشؤونها، لقد استند لوثر على قانون الإيمان اوجسبرج Augesbarg Confession الصادر سنة 1530م بحسب لوثر ترتبط المملكتان بالإنجيل والشريعة، فقد عدّ المملكة الأرضيّة جزءاً من الإلهيّة، لذلك على المؤمن  ـ  بحسب لوثر  ـ  الطاعة للسلطة مهما كانت بشرط عدم إرتكاب الخطيئة. [2]

ويمكن رصد اهتمامات لوثر الإصلاحيّة من خلال العديد من المؤلفات المنسوبه له، نذكر منها: النبلاء المسيحين في ألمانيا، في الأسر البابلي للكنيسة، وكان هذا سنة1520 م، ترجمة الكتاب المقدس عام 1521م، في عبوديّة الإرادة. المجامع الدينيّة والكنائس. فضلاً عن رسالة ضد مجددي التعميد، ورسالة بعنوان: بابويّة روما أسسها الشيطان، وكان هذا عام 1539م. [3]، علاوةً على ذلك أصول تعليم الدين المسيحي، شرح أصول الدين ألمسيحي واليهود وأكاذيبهم .

(73)

يظهر واضحاً أبعاد الحركة التي قام بها والعلاقات التي استثمرها والجهات السانده له والتي كانت تبحث عن شرعيّة دينيّة قدّمها هو لها بمقابل مساندتها وحمايتها لثورته الإصلاحيّة، والتي تأبّدت في مذهب ديني عمّق الانشقاق داخل الجسد الكنيسي الغربي، إنها «البروتستانيّة Protestantism» أو مذهب المحتجين، وهو المذهب الذي يفصل بين الدين والدولة، وبين الحب والواجب، والقانون والأنجيل، والفلسفة واللاهوت، والعقل والإيمان، تأسيساً على نظريّة إن الحقيقة ذات وجهين؛ وتنكر اللوثريّة المفاهيم الآتيةـ إن المسيح يحل في بدن من يأكل العشاء الربّاني؛ وتنكر استحالة الخبز إلى عظام المسيح المكسَّرة، واستحالة الخمرة إلى دمه، وحلولهما في جسم الآكل؛ ولا تستسيغ الرهبنة لرجل الدين، ولا تجعل لبابا روما سلطة عليه في البلاد التابعة لدولة أخرى؛ ولا تقول بالاعتراف، وإنّ بقدرة رجل الدين أن يحل المعاصي من ذنوبه، فلا شيء يستر الذنب إلا الندم عليه، والتوبة منه، ورجاء رحمة الديان. [1]

لكن متى بدأ هذا الحدث الإصلاحي في الفكر الغربي حتى يصبح له كل تلك الآثار العميقة في حياة الغرب والتي كانت تشكِل حركةً ثقافيّةً وحضاريّةًعميقةَ الحضور والتي باتت تحول مجتمعي وسياسي واقتصادي سوف يغير الغرب بشكل كبير ويحدث عواصف وحروب وصراعات عميقه في التكوين الغربي.

تزعم تواريخ الأفكار أنّ حركة الإصلاح ابتداءاً من عام 1517م. ارتبطت حركة لوثر بتكوينه الديني من خلال زيارته لروما إذ

(74)

عاد بانطباع سيء عن حياة البابويّة إذ وقف على مظاهر الفساد والانحلال الخلقي من خلال ممارستهم لحياة البذح والملذّات، ورفضه لصكوك الغفران؛ لأن المغفرة مرتبطة بالإيمان.

تبدو هذه الرحلة هي بمثابة الاكتشاف الذي أثّر بعمق في وجدان لوثر؛ لكنها بالتاكيد ليست الوحيدة في تشكيل قناعاته التي لها آثار سابقة منها كونه ينتمي الى تيار يمثل قراءة أصوليّة متشددة هو التيار الأوغسطيني، ومن ناحيّة ثانيّة كونه ينتمي الى تيار له قراءة تجديديّة هو وليم آوف أوكام. 1295- 1349م الذي له حضور عميق التأثير في أساتذة لوثر، فضلاً عن الحاضنة الاجتماعيّة والسياسيّة التي كانت تعيشها ألمانيا في ذلك الوقت. تجد كل هذا كان يعبر عنه لوثر من خلال انشداده اللاهوتي الجديد المتمثل بالبحث عن خلاص للإنسان، والذي يحيلنا الى جون ويكليف وجون هوس، وغيرهم وبالآتي كانت القاعدة الأساسيّة لحركته هي عقيدة التبرير بالإيمان وتتلخص فيما يأتي:

1-نفي العظمة عن رجل الدين: جاءت هذه الرؤية النقديّة على أثر زيارته إلى روما إذ وجد حالة البذخ والرفاهيّة التي يعيشها رجال الدين في الفاتيكان وهي تتعارض مع المنظومة القيميّة المسيحيّة القائمة على دعامة التقوى.

 فالكنيسة كانت تعاني من ثلاثة أمراض خطيرة، هي: (السيمونيّة وزواج رجال الدين والتقليد العلماني). أما السيمونيّة فالمقصود بها شراء الوظائف الدينيّة بالمال، وهو: داء تفشّى بشكل خطير بين رجال الدين حتى وصل كثير من المجرحين وغير الصالحين الى

(75)

المناصب الدينيّة الكبرى عن طريق المال، مما أضعف الكنيسة وشوّه سمعتها. أما عن زواج رجال الدين فالمعروف أنّ معظم الأساقفة ظلوا عزابا، في حين أقبل على الزواج معظم القساوسة وصغار رجال الدين، وقد كانت التشريعات تؤيد مبدأ العزوبة. وهي تشريعات لم يكن تنفيذها بالأمر السهل، وهكذا ظلّت الكنيسة ترى ضرورة إلزام رجال الدين بحياة العزوبة أُسوة برهبان الأديرة؛ لأنها رأت أن هذه الحياة من شأنها أن تطهِر النفس، وتزيد في دعم النظام الكنسي نفسه. فقد قام رجال الدين المتزوجون بتوريث وظائفهم الدينيّة لأبنائهم، الأمر الذي جعل منهم طبقة وراثيّة وأنزل أبلغ الضرر بالنظام الكنسي، وفي هذا كان لوثرـ محتشماً، مضيفاً للغرباء، صالحاً للتعليم، غير مدمن الخمر ولا ضرّاب، ولا يطمح بالربح القبيح، بل حليماً، غير مخاصم ولا محب للمال، يدير بيته بتدبير، له أولاد في الخضوع بكل وقار، غير حديث الإيمان ملازماً للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم؛ لكي يكون قادرا على أن يعظَ بالتعليم الصحيح، ويوبِخ المتناقض»[1]

2-منع ترويج صكوك الغفران: تلك الصكوك التي ظهرت لأول مرّة في أثناء الحروب الصليبيّة، وهي عبارة عن صكوك تبيعها الكنيسة الى الخطاة من أتباعها، فهي بهذا غفران من كل الخطايا التي ارتكبها، بمقابل مبلغ من المال يزيد أو ينقص بحسب ما تراه الكنيسة والغاية من هذه الصكوك من أجل تمويل الحروب الصليبيّة، غير أن نجاح الفكرة شجّع أصحابها على الاحتفاظ بها،

(76)

فتحوّلت إلى مشروع ربحي، على الرغم من خطورة هذه الآليّة على مصداقيّة العقيدة.

3-عارض لوثر كل الصدقات والأموال التي يستغلها رجال الدين بطرق غير شرعيّة.

4-الرجوع إلى الكتاب المقدس وفهمه فهماً صحيحاً؛ لأنّ الغفران مرتبط بالعمل الصالح. . .

5- الإيمان مسألة فرديّة. [1] إنّ نقد السلوك الكنسي كان لابدّ من أن يقوده إلى وضع قيّم جديدة من اين يأتي بهذه القيم ؟ سؤال كان لابد من الإجابة عنه، وكان جوابه من الإنجيل؛ لكن بلا وساطة الكنيسة وتأويلها الذي مارس النسيان وحذف القيّم الأصيلة في الإنجيل والتي وجد لوثر من واجبه إحيائها كبديل عن سلطة المؤسسة الكنسيّة الرومانيّة التي تقدم نفسها كوسيط بين السماء والأرض.

6-وكانت البداية بالترجمة للنص: أي الإنجيل من اللاتينيّة إلى الألمانيّة الدارجة التي يفهمها الألمان مما أسهم في كسر احتكار الكنيسة لمعنى الإنجيل؛ وذلك لأنّ الناس أصبحت تفهم الانجيل ولا تحتاج الى وساطة.

الأمر الآخر إنه بهذه الترجمة مارس إحياء الهويّة الألمانيّة عبر مخاطبة الأمراء الذين كانوا ينشدون هذه الرابطة القوميّة كبديل عن الرابطة الدينيّة التي تحررهم من المؤسسة الدينيّة، وقد حقق لهم

(77)

لوثر هذا الأمر عندما ترجم العهد القديم (1522م) والعهد الجديد (1543م). وهو أمر استنكرته الكنيسة؛ لأنه كسر احتكارها للتأويل.

وبعد الترجمة قام بنقد النص الديني العهد القديم والجديد ومارس إخراج الأسفار المنحولة من الكتاب المقدس، اذ أصبح العهد القديم بتسعةٍ وثلاثين سفراً بعد ان كان ستةً واربعين سفراً وقد عدّها منحولةً وهي أسفار: (طوبيا، ويهوديت، وحكمة سليمان يشوع بن سيراح، باروح، المكابيين) أما العهد الجديد فقد خرج منه: (رسالة بطرس الثانيّة ورسالة تيماتوس الثانية).

 إنّ الرجوع الى الكتاب المقدس كان له معاني كثيرة منها أنّه التعريف بالكتاب المقدس من خلال الضمير. الانجيل هو تلك العقيدة في الكتاب المقدّس، التي يخبرنا الله فيها بالأخبار السارّة، المتعلِقة بخلاصنا في المسيح يسوع»[1]، كما نجده يفرِق بين الإنجيل والناموس في ثلاث نقاط أساسيّة، يحددها بقوله:

"إنّ الناموس يعلّمنا، ما ينبغي علينا أن نعمله، أو ما يجب علينا أن لا نعمله، أما الإنجيل فإنه يعلّمنا ما عمله الله من أجلنا، ومازال يعمله من أجل خلاصنا.

يبين لنا خطيئتنا، وغضب الله، أما بشارة الانجيل، فإنها تظهر لنا المسيح مخلصاً، وتبين لنا نعمة الله.

يجب أن نكرز بالناموس لكل الناس، ولا سيما الخطأة غير

(78)

التائبين، أما بشارة الإنجيل، فيجب أن يُكرّز بها إلى الخطأة المضطربين فكرياً؛ بسب خطاياهم"[1] .

5- إصلاح حال التعليم: أي تحول معرفي لابد له من عمق في المؤسسة التعليميّة فبعد جهوده الكبيرة في مجال الترجمة والتي استثمرت التحولات العلميّة التي تمثلت في اختراع الطباعة مثلما استثمرت قوة النبلاء بعد اختراع البارود؛ فكان عصر يعج بالتحولات وهو يبشِر بتغير عميم، فكان ارتباط لوثر بالمؤسسة السياسيّة ومطالبته باهتمامها بالمؤسسات الكهنوتيّة لم يأتِ من فراغ بل لابدّ من ربط كل هذه الأحداث بخيط يضمُّها في نسق جامع مانع إنّه حضور جديد للمؤسسة العلمانيّة داخل الفضاء الديني القومي الألماني.

ومن أجل تحقيق هذا التحول لابدّ من إحداثة في المؤسسة التعليميّة اذ (كتب مارتن لوثر كتاب «الصغير التعليم المسيحي»، وهو دليل بسيط من التعليم في الإيمان المسيحي، في 1529 م بعد واحدة من خيبة الأمل الكبيرة من حياته. في 1527م و1528م لوثر ورفاقه وطلب من قبل الأمير لتفقد كنائس ساكسونيا. وكانت النتائج مخيبة للآمال بشدة. ساد الجهل بين رجل الدين والعلماني على حد سواء، وكانت المدارس في حالة خراب. . . . . . وعندما له اكد على ضرورة توفير المواد التعليميّة). [2] كانت تلك أولى المعاجات التي أكّد عليها على صعيدين الأوّل بناء المؤسسة التعليميّة والثاني

(79)

رفع همم الناس من أجل الحرص على التعليم وخصوصاً الديني؛ لأنه وجد فيه الحقل الواجب حرثه من أجل ظهور أجيال تحمل الإصلاح وتجعله عقيدة لها.

6- تأويل جديد للإنجيل: أصبح نص الإنجيل الآن ملك كل إنسان، حتى في وظيفته العامة، وأصبح بإمكانه الإبتعاد عن تعقيدات الدراسة وتقييدات الكهنوت. ولكن علينا أن لا نستعجل، فلوثر كما إيراسموس، كان عالماً قروسطياً بالقدر نفسه الذي كان فيه مُصلحاً، بل كان لاهوتياً قروسطياً بامتياز، فمثلاً قراءة الإنجيل عنده لم تخرج عن عرض الأبعاد الأربعة للنص، بل رفض لوثر تدريجياً القراءات الرمزيّة Allegorial والتشبيهيّة Analogieal، مُعلنا أنها «ليست سوى قُمامة». [1]، اهتمام لوثرـ بالمقارنة مع توما الاكويني(1225-1274م) ـ  كان منصباً على إطلاق الحريّة للإنجيل في التفاعل مع تجربة القارئ الذاتيّة، لا لتثبيت وترسيخ لاهوت الكنيسة كما فعل توما، على الرغم من أنّ عمل لوثر لم يكن متماسكاً، لوثر لم يكن مفكراً أنيقاً فقد انصبت اهتماماته الرئيسيّة على دلالات الإنجيل الحرفيّة والأخلاقيّة. . . أصرّ لوثر على أن الإنجيل هو المعيار والمرجع النهائي للتقليد الديني، والذي يُفهم فقط من خلال المعنى الظاهر والمباشر للنص. تركيز لوثر على مبادئ النحو وقواعد التفسير التاريخي واهتمامه بتقاليد آباء الكنيسة، لم يكن يعني أنه تعامل مع تقليد

(80)

الآباء بصفته إرثا شرعياً مُلزما، ولكن على أساس أن الآباء أنفسهم هرمينوطقيون منافسون. [1]

أصرّ لوثر على أن يكون لكل تلميذ نسخة عن الإنجيل كمرجع خاص به وكانت نصيحته لتلاميذه» «التجربة»  ضروريّة لفهم الكلمة، التي لا تتحصل بمجرد تكرارها أو معرفتها، ولكن بأن «ًتعاش أو تُتَحَس». [2]

وعلى الرغم من ذلك، فقد تم تثبيت مبدأ «حصريّة النص المقدس» بقوّة. فلا حاجة إلى أيّ مرجعيّة أخرى أو أي تعليق، فالنص المقدّس يفسر نفسه بنفسه، والنص يفسر النص، وهو مرجع ومصدر كل تفسير كتب لوثر:

«حجر الرحى الحقيقي في الحكم على جميع الكتب، هو ما إذا كان يُطلب فيه المسيح أم لا، مثلما فعلت النصوص الدينيّة في إظهار المسيح وتعريفه، وكما قال القديس بولص «أم أعرف أن أعرف شيئا بينكم إلا المسيح وإياه مصلوباً  «(كورنثيوس 21:2)» [3]

لم يكن الإنجيل بالنسبة إلى لوثر كلمة الله بهذه البساطة، بل هو طريق للوصول إليه، فقد كان متحرراً من جودة السبك. علينا أن نركِز على مهمة التفسير، التي ستُحول ببطء، ومن خلال المسيح، نظرتنا إلى العالم، موفرةٌ لنا رؤية موحّدة في تخطي تناقضات النص. [4]

(81)

تفسير لوثر بسمة هرمنيوطيقا الأيمان فإنّ وضعيّة القارئ النفسيّة والذهنيّة تبقى ذات أهميّة أساسيّةـ علينا أن نمهِد لقراءتنا بالصلاة ونستمر في النظر بعيون الإيمان، عندها سيقوى إيماننا بالقراءة. يقول لوثر في كتابه «كلام الطاولة  «Table Talk»: «النصوص المقدّسة مليئة بهدايا وفضائل إلهيّة، فكتب الوثنيين لا تُعلِم شيئاً عن الإيمان المأمول فيه، أو الإحساس، ولا تُقدِم أيَّ فكرة عن هذه الأشياء، إنها تتأمل الراهن فقط، الذي يدرك الإنسان معانيه من خلال إستعمال لفطرته، فلا تتوقع أن تحصل من أفكارهم على الأمل والثقة بالله، بل أنظر كيف يتعامل كتاب المزامير وكتاب الأعمال مع الإيمان، الأمل، الإستقامة، والصلاة، بكلمة واحدة، النص المقدس هو أعلى وأفضل الكتب، يفيض بالراحة وراء كل العذابات والآلام والاختبارات والابتلاءات. يُعلمنا أن نرى ونتحسس أو نشعر أو نلتقط، وأن نستوعب الإيمان والأمل والفضيلة بنحو أبعد وأعمق مما تقدِمه التعليلات البشريّة. يُعلمنا النص المقدس، كيف نقذف هذه الفضائل النور في وجه الظلمة عندما يستضعفنا الشر، ويُعلِمنا أيضا أن وراء حياتنا البائسة والفقيرة على الأرض هناك حياةٌ أخرى أزليّة.

علينا أن لا ننتقد، نشرح أو نحكم على النص المقدس من خلال عقولنا، ولكن لنقاربه بعمل، وبالصلاة، ونتأمل فيه ونسعى لتحصيل معناه». [1]

7- أهم الأطروحات التي رفعها: كان التحول الإصلاحي الذي

(82)

أحدثه لوثر مرتبطاً بمجموعةٍ من الأطاريح التي كتبها ورفعها على جدران المكان الذي يحتل قداسةً لدى الجميع هو الكنيسة، فكان بهذا يدعو من يتقبل الحوار وبالتأكيد يشاركه القناعة والغاية، أن يخوض حواراً تحت قيادته طبعاً، وهو بهذا يرسم خارطة التحولات التي سوف تترابط والتي تبدأ من جله المرجعيّة ليست للبابا بل للكتاب المقدّس، فهو يعدّ رأسمال معنوي يتجاوز البابا بوصفه الكتاب المقدس، (ولا سيّما من رسائل القديس بولس، مركزاً عمله على لوثر. العثور على ما يرام مع التعرف على اللاهوت المدرسي وتعاليمه التي تباينت بشكل متزايد من المعتقدات التقليديّة للكنيسة الرومانيّة. دراساته قد أدّت به إلى الاستنتاج بأنّ المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والإنسان، وإنه مغفرةٌ للخطيئة والخلاص ويجري كل من غريس وحدها، ويتم تلقيها من الله بالإيمان وحده من جانب الرجل. وجهة نظر تحول هذا له ضد اللاهوت المدرسي، الذي شدّد على دور الرجل في نفسه خلاص له، وضد ممارسات الكنيسة الكثيرة التي أكّدت تبريراً من جانب الخيرات. النهج اللاهوتي له قريباً أدّت الى الصدام بين لوثر والمسؤولين عن الكنائس، مما عجّل أحداث الإصلاح المثيرة) [1].

بهذا يكون لوثر قد وضع حدوداً فاصلةً بين الكنيسة والنشاط الديني الجديد على الرغم من أن لوثر بدأ ينظر الى نفسه بوصفه مؤسساً للهيأة الجديدة للكنيسة، لكن عندما، بدأ أول أتباعه وفي 1522م الى استعمال اسمه للتعريف بأنفسهم، أقرّ بأنّه ليس معهم

(83)

للقيام بذلك. وقال إنّه كتبـ «دعونا إلغاء جميع أسماء الأحزاب، وندعو أنفسنا مسيحيين . . . . وتعاليم الجميع واحدة من المسيح الذي هو سيدنا الوحيد. [1]، وهذا الانفصال المذهبي واللاهوتي كان له بداية تمثلت (في 31 تشرين الأول 1517م، إذ علّق مارتن لوثر، على باب الكنيسة الجماعيّة في فيتمبرغ «Wittemberg» بساكس “Saxe”، إعلاناً يتضمن خمساً وتسعين أطروحة ضد صكوك الغفران البابويّة؛ ودعا لمناقشتها شفهياً تحت رئاسته. .) [2]. وقد نصَب بعض هذه المقولات.

طلب المؤمن المغفرة من خطاياه يكون من الرب ولا من البابا، (المقالة 6).

إن من يبيع صكوك الغفران او يشتريها؛ طمعاً في الخلاص يُعتبر ملعونا. (المقالة 31، 32).

على المسيحيين أن يعلموا أنهم أحرار في طلب المغفرة، وليسوا ملزمين بذلك أبداً (المقالة 47).

إن الكنز الحقيقي للكنيسة هو الأنجيل فقط. المقالة 62 .

أن لا يكون للكنيسة غنائم كبيرة لو أن البابا، بدلاً من أن يمنح غفرانه وشفاعته مرة واحدة للمؤمن، يقدم بتوزيع مائة مرة كل يوم على كل أهل الايمان. (المقالة 88).

يجب على المسيحيين اتباع قائدهم المسيح. (المقالة 94).

(84)

على العروج إلى السماء بوساطة المحن لا بالركوب إلى طمأنينة وليدة سلام مغلوط. (المقال 95).

8- المقاربة السياسيّة للإصلاح لدى لوثر: لا يمكن نسيان أنّ الإصلاح مهما كانت محركاته الدينيّة والاخلاقيّة إلا أنه يبقى له انشداد الى الجسم السياسي، ونحن بيّنا حضور السياسة في خطاب الإصلاح، منذ اللحظة التي دعا لوثر الداعيّة إلى كنيسة الدولة، والذي سيقوم، من الآن فصاعداً، بالطلب الى الأمراء إضفاء طابع «المؤسسة» الرسميّة على الدين الذي جرى إصلاحه. إن أحد المفاهيم الأساسيّة في علم اللاهوت اللوثري، وهو مفهوم الإكليروس الشامل، كان يقوي، بشكل خاص، وبحد ذاته، من وضعيّة السلطة الزمنيّة. فلوثر يُعلم بأننا كلنا أصبحنا كهاناً بوساطة التعميد. لقد أصبح كل مسيحي قادراً على أن يحكم بنفسه على أمور الإيمان، تماما مثل رجال الدين. فالمسيح لم يكن جسمين، ولا نوعين من الأجسام، الأول زمني والآخر كنسي إن الجسم الكنسي المنفصل إذاً هو أمر غير معقول. وقد نجم عن هذا أنّ الأمير أصبح متحرراً من كل مراقبة روحيّة منظمة من جهة خارجيّة بالنسبة له. [1]

في «بحث حول السلطة الزمنيّة وحدود الطاعة الواجبة» 1523م نقرأ أنّ من المناسب النظر الى السيف أو إلى السلطة بالطريقة نفسها التي ننظر فيها إلى حالة الزواج أو الزراعة أو أيّ مهنةٍ أخرى أسسها الله أيضاً. فبما أن السيف والسلطة هما في خدمة الله، فإن كل ما هو ضروري للسلطة من أجل استعمال السيف هو أيضاً في

(85)

خدمته. وينجم عن هذا أن الجلادين والعملاء والفقهاء والمحامين، وخًدامهم يمكن أن يكونوا مسيحيين، وأن يصنعوا خلاصهم في هذا. [1] فهو يؤيد السلطة المدنيّة ضد البابا بقوله «ليس هناك أي شخص مؤهل أكثر من هذا الامير، ومن هذه السلطة المدنيّة من أجل قيادة الإصلاح وحمايته من البابا وأنصاره»[2] ؛ الا أنه اعتبر من ناحيّة ثانيّة إنّ كل مقاومة نشيطة للملك السيد هي بنظر لوثر جريمة قدح في الذات الإلهيّة بحسب قوله «إن رفض القيام بالحرب باسم الضمير، ولا يمكن أن يكون إلا ذريعة سيئة لعدم طاعة السلطة، ولرفض السيف أسسه الله»[3]

بل إنه يمضي بعيداً في توخي الطاعة الى الأمير ويقر الخضوغ له على الرغم من استبداد الأخير فيقولـ»على المسيحي أن لايدع نفسه يضطرب إذا كانت السلطة سيئة. وعليه أن لا ينسَ أنّ العقاب والتعاسة هما أقرب لها مما يمكن تصوره؛ لأن الله موجود، وهي لن تفعل الشر من دون عقاب، وفي حالة من السلام والفرح، إن الله قريب جداً من الطغاة، وهو يمسك بهم  «بين المهاميز وباللجام»[4] يبدو أنه أراد إحياء دور السلطة الدنيويّة من أجل مواجهة البابا.

النتيجة في علاقته بالكنيسة الرومانيّة:

ولقد أدّت انتقادات مارتن لوثر وأتباعه إلى انفصالهم النهائي عن الكنيسة الكاثوليكيّة. وفي أقل من أربعين عاماً أدّت حركة

(86)

الإصلاح الديني اللوثري إلى قيام الكنائس البروتستانتيّة في نصف بلدان أوروبا تقريباً. في الوقت نفسه انبثقت حركة إصلاح أخرى من الكنيسة الكاثوليكيّة التي عرفت بحركة الإصلاح المضاد. انتشرت البروتستانـتـيّة انتشاراً واسع النطاق في أقاليم أوروبا الشماليّة، بينما ظلّ معظم أهل الجنوب على المذهب الكاثوليكي. فأدّى هذا الانقسام في الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة إلى اندلاع سلسلة من الحروب الدينيّة بين البروتستانـتـيـين والكاثوليك الرومان التي انتهت بحرب الثلاثين عاماً. ولقد اشتركت دول أوروبيّة عديدة في تلك الحرب التي امتدت من عام (1618م إلى عام 1648م). انظر: حرب الثلاثين عاما. وهي حرب دينيّة فهو رفض الحركات الفلاحيّة 1542م التي تحاول الخروج على الأمراء فعارضها لوثر معارضة شديدة؛ لإيمانه بضرورة الخضوع للسلطة الدنيويّة لأنها هبة من الله؛ لأنّ لوثر كان يرى مبدئياً إن الكنيسة اللوثريّة يجب أن تمتنع عن التدخل في السياسة فهذا عمل السلطات في الدول اللوثريّة. [1]

المبحث الثاني: جون كالفن Calvin، jean 1509-1564م

حياته حياة الإصلاحي الفرنسي جون كالفن في 27 مايو (أيار) سنة 1509م في ليون بفرنسا، وتوفي في 27 مايو (أيار) سنة 1564م بجنيف. هي بمثابة ترجمان عن أفكاره من الدين والكنيسة من ناحيّة، والدولة المدنيّة، من ناحيّة ثانيّة والتي من الممكن أن تكشف عن كثير من المسكوت عنه في سلوكه ومواقفه التي سميت بالإصلاحيّة وتكشف عن الضعف البشري الذي ينتاب الإنسان، فقد قدم إلى

(87)

الحياة؛ ليجد واقعاً أوروبياً تسيطر عليه الكنيسة الرومانيّة. ودفع من قبل ابيه الى دخول عالم الكنيسة بكل سحره وجبروته اذ كان والده من موظفي الكنيسة الرومانيّة، هو سبب تقرب كالفن من الكنيسة وهو سبب ابتعاده وحقده على الكنيسة كذلك، فقد كان قد وجه وقد يكون أكره، على ذلك بحسب نتائج العلاقة التي تجلّت بين كالفن والكنيسة بعد ذلك؛ لأنه في البداية وجهه إلى دراسة اللاهوت؛ غير أنه سرعان ما عدل عن رأيه ووجهه ثانية لدراسة القانون، فغادر كالفن إلى مدينة أورلينز، إذ درس الحقوق، [1] وبدأ يدرس الفلسفة الرواقيّة، [2]. وأُعجب جون بالفيلسوف «سينيكا» الذي كان يُغَلِّب جانب الروح على جانب الجسد ويهتم جداً بالنواحي الإنسانيّة. (وقد أوّل ملفاته، وهو عبارة عن شرح لكتاب سنيكا في التسامح وقد نشره سنة 1522م، وفيه أثبت كالفن أنّه علّامة ضليع من مستوى إراسموس وبوده، إنّه عملُ أنسي أعرفه الاخلاقيّة الرواقيّة واستحوذ على اهتمامه المفهوم الروماني عن السيادة، سيبقى كالفن، حتى نهاية حياته، وفياً لمنهج الأنسيين، وإلى حد كبير لروحهم ولإعجابهم بالقدماء). [3]

الا إنه لم يستمر بهذه الدراسة نتيجةً لتوتر العلاقة بين الأب والكنيسة وكان كالفن يومها في السابعة عشرة من عمره كانت

(88)

العلاقات بين والده والكنيسة قد بدأت تسوء؛ لذلك طلب منه أبوه أن يترك دراسة الفلسفة التي تقوده إلى الكهنوت، ويدرس القانون.. لذلك أرسله إلى جامعة «اورليان». . وبدأ جون يدرس القانون؛ لكي يصبح محاميًا، ولكنه لم يكمل دراسته في المحاماة، فقبل الثانية والعشرين من عمره توفي أبوه سنة 1531م فترك دراسة القانون وتخصّص في الأدب والعلوم الإنسانيّة، وحقق رغبته التي كان يتمناها. . [1]، عاد إلى باريس لمتابعة دراسة اللاهوت في جامعة باريس. ناصَر الحركة الإصلاحيّة، وأخذت تهمة الهرطقة تلاحق كل من يشتبه في تأييده لأفكار الإصلاحيين؛ ومنهم مارتن لوثر الألماني.

كانت هنالك مواقف من الكنيسة ليست نتيجةً للانحياز العلمي النقدي بل كان يشوبها موقف الكنيسة من أبيه وما قامت به من طرد وحرمان بحقه. قد يكون هذا الموقف فضلاً عن جوانب أخرى وراء رفضه الكاثوليكيّة وتحوله إلى البروتستانتيّة في الحقبة من نوفمبر 1533م إلى مايو 1534م، وتصوّر أن إيمانه بالكاثوليكيّة كان مجرد خُزعبلات. . فيقول في مذكراته:” بينما كنت شديد التمسك بالخزعبلات البابويّة بصورة يصعب معها إخراجي من هذه الحمأة العميقة، حوَّل الله فكري إلى تجديد مفاجئ»[2]

(89)

انضواء كالفن تحت لواء الإصلاح الديني:

يبدو أنّ تلك اللحظة ينتابها كثيراً من الغموض في معالجاتها التاريخيّة اذ (اقترح له الدارسون تواريخ متباينة جداً، لا يمكن أن يوضح قبل ربيع 1534م، يوم تنازل عن امتيازاته الكهنوتيّة، وعن خطأ ـ فيما يبدوـ يُسنِب إليه الخطاب المشهور الذي ألقاه في عيد جميع القدسيين سنة 1533م صديقه الخوري نيقولا كوب. وكان هذا الخطاب التحريضي يعكس في الحقيقة أفكار الإصلاحيين الكاثوليكيين أكثر مما يعكس أفكار البروتستانتيين. وقد اضطر كالفن الذي كانت علاقاته بكوب معروفة، إلى مغادرة العاصمة، وطلب الملاذ لدى صديقه الكاهن تييه. [1] وبهذا الحدث بحسب مرويات تواريخ الأفكار فإنّ كالفن أصبح أحد قادة الحركة الإصلاحيّة إلى جانب رئيس الجامعة نيكولا كوب، الذي اتُّهم بالهرطقة إثر محاضرة ألقاها وعًدّت تأييداً لأفكار لوثر؛ وهو ما اضطره إلى الفرار صحبة كالفن إلى سويسرا.

أخلى التسامح النسبي الذي كانت تبديه الحكومة بإزاء «اللوثريين»، مكانه لاضطهاد فظ، عندما علِقت الملصقات ضد القداس حتى على باب القصر الملكي تشرين الأول 1534م. واضطرّ جميع أولئك الذين كان يشتبه بأنّ لهم، علاقةٌ من قريب أو بعيد الى اللواذ بالفرار، وبما أن كالفن كان من  « ارتداده  « يقوم بدعاية نشطة لصالح الأفكار الجديدة، لم يجد هو الآخر مناصاً من

(90)

مبارحة المملكة. [1]، وخلال تلك الحقبة،  «نشر كتاباً من أهم كتبه: «أسس الدين المسيحي»  «Institutio Religionae»، [2]

 كان هو كتاب حياته، وضعه باللاتينيّة، وتُرجم إلى الفرنسيّة العاميّة  «Institution de la religion chretienne»، فكان أول كتاب في اللاهوت بهذه اللغة. [3] الذي ظهرت طبعته الأولى باللاتينيّة سنة 1536م، وترجمه إلى الفرنسيّة بعد خمسة أعوام، ليكون الكتاب الثاني بعد الإنجيل من حيث التداول بين الناس وقد كتب كالفن هذا الكتاب وقد بلغ خمسةً وعشرين عاما؛ لتنتشر أفكاره خارج سويسرا وتجد صدىً واسعاً في أنحاء متفرقة من العالم؛ على الرغم من أنّ إشرافه المباشر على تنظيم الحياة الدينيّة كان محصوراً في جنيف وحدها من خلال ما يقوم به من مواعظ وما يلقيه من خطب ومحاضرات. إلا أن رحلته مع هذه المدينة مرّت بمد وجزر حتى أصبح هو المهيمن عليها، وقد كانت تلك هي البداية إذ مكث في جنيف مدّةً عمل خلالها مستشاراً لدى غيوم فاريل، الزعيم الروحي لأنصار حركة الإصلاح الديني، الذي طلب منه أن يساعده في ترتيب كنيسة إصلاحيّة في المدينة. ولكن كالفن كان حازماً أكثر من اللازم، فأخضع تنظيم الكنيسة والعبادات والتعليم والاعتراف لرقابة مجلس

(91)

المدينة، وربما كان مقصده من ذلك إخضاع الكنيسة إلى الرقابة وتحويل أوامرها وعملها إلى شأن عام يمكن قبوله أو رفضه؛ ولكن المدينة لم تقبل بإصلاحاته وثار عليه مجلسها، وطرد منها.

ولما عاد إلى جنيف جعل منها عاصمة للبروتستانتيّة، بل أعظم مركز بروتستانتي في أوربا، إذ كان يشار إليها بأنها «روما البروتستانتيّة». وقد حاول كالفن، باستمرار، أن يشجع انتشار المذهب البروتستانتي في أقطار أخرى وخصوصاً فرنسا، مستغلاً منصبه كزعيم ديني وسياسي أيضاً، إذ صار حاكمها الفعلي حتى وفاته في 1564. [1]

كان من مواقف كالفن الإصلاحيّة كونه عارض العنف الرمزي والجسدي التي تتخذه الكنيسة بحق خصومها أو المنشقين عنها، ومنهم والده لهذا أعدّ خطبةً الى صديقة زميل الدراسة الواعظ الكاثوليكي الشهير «نقولا كوب» اذ وقف نقولا كوب يعظ في كنيسة الماتورين ووجَّه هجوماً عنيفًا ضد الكنيسة الكاثوليكيّة التي ترفض الحوار مع الخارجين عنها، وتستعمل أسلوب القمع بالسيف والنار لإسكات أصواتهم. . وقد اختار كوب المكان والزمان لإلقاء عظته الهجوميّة هذه. . فقد ألقى عظته في جامعة باريس التي تجمع أكثر علماء الكاثوليكيّة تعصباً، وتعدُ مركزاً لصد هجمات البروتستانتيّة. . أما الزمان فكان الأول من نوفمبر 1533م إذ يوافق الذكرى السادسة عشر على تعليق لوثر احتجاجاته الخمسة والتسعين على باب

(92)

كنيسة فيتمبرج. . وعقب العظة أحسّ نقولا بالخطر فهرب إلى مدينة بازل الألمانيّة المدينة الحرة التي لا تخضع لسلطان الكنيسة الكاثوليكيّة.[1]

 وقد كان كالفن له موقف من «»الدفاع عن المنشقين” ضمّنه في الخطبة  ـ  السابقة الذكر ـ هرب كالفن من فرنسا إلى ألمانيا، وفي بازل سمع ما تثيره الكنيسة الفرنسيّة ضد المنشقين عن الكاثوليكيّة. . فكتب كتاب  « المبادئ» يدافع عن الخارجين عن الكنيسة، وأيضاً يشرح بعض الحقائق المسيحيّة في الكتاب نفسه. على الرغم من هذا إلا أننا نجد أنّه خاض صراعاً؛ بسبب موقفه من الانشقاق اذ لم يمكث كالفن مع صديقه وليم لأكثر من أربعة أشهر في جنيف، وخلال هذه الحقبة دار صراع بين وليم وكالفن من ناحيّة وجماعة المنشقين عن الكاثوليكيّة من ناحيّة أخرى. . وبانتهاء هذه الحقبة القصيرة كان قد تم طرد جون ووليم من جنيف. .

ظل جون كالفن هارباً. . وفي هروبه استعمل أسماء مستعارة ليخفي شخصيته، فاستعمل اسم «تشارلس دي اسبريل»، «ماركيانوس لوكانيوس». . وعلى الرغم من محاولات تخفيه وهروبه إلا أنه سقط في أيدي الشرطة التي كانت تطارده عدة مرات، وقضى بعض الأوقات في السجن. .

أقام جون في استراسبورج، وكان ينوي التفرغ للدراسة الدينيّة إلا أن لوثر ألحّ عليه كثيراً للمشاركة في الخدمة، وعندما رفض جون

(93)

هدده لوثر بسقوط غضب الله عليه إن لم يشترك في خدمة الرب، فقبل جون الخدمة فألغى صلوات القداس الإلهي وأحلّ محلها صلوات أخرى، ووضع نظاماً للترانيم والاجتماعات وحفلات الزواج والافتقاد. . وبعد أن كان النظام المتّبع في قبول أو رفض أي عضو للكنيسة أو من الكنيسة هو من اختصاص مجلس المدينة.. انتزع جون هذا الحق وأطلق على كنيسة استراسبورج بالكنيسة الحرّة. . أي الحرّة من السلطة المدنيّة. . ظلّ جون يخدم في هذه المدينة لمدة ثلاث سنوات عاد بعدها إلى جنيف. .

دخل جون جنيف للمرة الثالثة والأخيرة في 31 سبتمبر سنة 1541م، وظلّ فيها حتى نهاية حياته في 17 مايو 1564م أي مكث بها حوالي ربع قرن وقد تحوّل اصلاحه الى استبداد.

نقد فكر كالفن:

فلسفة كالفن تنكر مذهب المؤلهة وتدعو إلى قيوميّة الله على العالم، وتنكر مذهب وحدة الوجود؛ لأن كالفن يقول بشخصانيّة الله وعلوه عن العالم؛ وتنكر الكالفينيّة حريّة البشر، وتقول إننا بمعرفة الله نعرف أنفسنا، ومعرفة الله ليست بمجرد تأكيد وجوده تعالى، بل هي تقوى الله وعبادته وطاعته؛ والإنسان لديه شعور باطن بالآلوهيّة، يعني أنه يحدس وجود الله بالفطرة، وبوسعه أن يميز الخير من الشر، إلا أن معصية آدم أفسدت فطرته.

وتقول الكالفينيّة بالقضاء والقدر، ولكنّها تنكر أن يكون الشر من فعل الله، وإنما هو بسبب خطيئة آدم، وهذه الخطيئة فساد وراثي في

(94)

طبيعة البشر، وهي فساد شامل لكل البشر، والإنسان فقد بالخطيئة حريته وصار عبداً لشهواته، ولا يتحرر من الخطيئة إلا بالايمان بالله، والتوكل عليه، والتسليم لقضائه وقدره وأحكامه؛ والله قد خلق الإنسان على صورته ليجعله قادراً على أن يكون على علاقة مع شخص الله، أي أنّ الإنسان بالإيمان يصبح في أُنس ومُشاركة مع الله.

وقد عاشَ كالفن مطارداً من الكنيسة والسلطات، وعاش في المنفى يتنقل بين (ستراسبورج، وبازل، وزيورخ، وجنيف)، وفي هذه المدينة الأخيرة صارت له الأمور فيها، فتحوّل إلى طاغيّة مستبد باسم الدين، وبعد أن كان معروفاً بأنه إصلاحي، وارتكب أبشعَ جريمة في هذا المجال، بأن أمر بإحراق من اختلف معه في الاعتقاد من أمثال الطبيب ميشيل سيرفيت. [1] فتعامله مع هذا المنشق يكشف البشاعة والعنف الرمزي الذي يحمله كالفن والذي لايختلف مع الأسلوب الذي انتقده لدى تعامل الكنيسة الرومانيّة مع خصومها من المنشقين، وبالآتي (كان مذهب كالفن ومن نهج عليه، وهو صورة متزمِتة من بروتستانيّة مارتن لوثر). [2]  فعلى الرغم من تلك الإصلاحات التي نتلمسها في رؤيته النقديّة إلا أنّ التشدد الذي تجاوز به لوثر بكثير، ففي الوقت الذي رسمت أبعاد الإصلاح في مبادئ أربعة، هي:

1. المسيح وحده: يرى كالفن أنّ المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والإنسان؛ فإذا كان الأصل في الإنسان الخطيئةُ،

(95)

فإن إيمانه بالمسيح «رباً وإنساناً» هو الكفيل بتخليصه منها وتحصيل الخلاص يتم عن طريق النعمة الإلهيّة.

2. النعمة الإلهيّة وحدها: ما دام الإنسان كائناً خطاءاً ناقصاً ضعيفاً، فإنه لا يستطيع تحصيل خلاصه إلا بالحصول على النعمة الإلهيّة التي يرى كالفن أنها «هبة» إلهيّة يعطيها لمن يختار من عباده.

3.  الإيمان وحده: يرفض كالفن نظريّة «التبرير بالأعمال» التي كانت سائدة بعدما وظفتها الكنيسة على مدى قرون من الزمن، ليؤسس لنظريّة يلتقي فيها مع مارتن لوثر؛ أي التبرير بالإيمان وحده، أي بتلك الثقة التي يضعها المؤمن في ربه.

4. الكتاب المقدس وحده: كما أسلفنا، يرى كالفن أن الكتاب المقدس هو المرجع الحصري الوحيد الذي يتأسس عليه الإيمان المسيحي وتستمد منه الأشياء قيمتها بما في ذلك الكنيسة المطالبة بتجديد الإيمان وتحيين أفكارها ونظرتها إلى العالم باستمرار. [1]

كانت قراءة كالفن للإنجيل تقوم على أرضيّة: (الإنعكاس العقلاني، الفهم الذاتي، والحس المشترك)، وقد أكّد ذلك بقوله: «بدون معرفة أنفسنا، فإن معرفة الله لن يكون لها مكان» وعلى الرغم من أنّ فردانيّة القارئ عند كالفن هي أقل مما كانت عند لوثر، إلا أن القارئ عند كالفن، ومن خلال تفسيره للإنجيل، يجلب إلى النص خياله الخلاق، ولكن داخل سياق المجتمع، في حين كان لوثر يبدأ بتفسيرات كريستولوجيّة للإنجيل، كان كالفن، بذهنه القانوني،

(96)

يعتمد على التفسير الذي توفره  « شهادة الروح القدس الباطنيّة». وحين كان لوثر يعطي الحق للجميع في فهم الإنجيل، كان كالفن يصر على أنّ الإيمان وفهم كلمات الإنجيل لا يمنح لأيٍ كان. [1]

واختلف الاثنان (لوثر وكالفن) في النهاية أيضاً في كيفيّة إيجاد الأفكار وتفسيرها للناس وهذه الأفكار مثل: (المعمدانيّة، كيفيّة العصيان، العنف، الحرب، الدفاع عن تفسير العهد القديم، والجديد، معنى الحياة على الأرض، معنى الطاعة، التقوى والتمييز بين الناموس والنعمة. . . الخ) أدّى كل هذا إلى نتائج ونزاعات وحروب. [2]، إلا أنه تعامل مع الناس بعنف يتعارض مع حريّة الضمير الفردي والتأويل الفردي للنص من دون أي وصاية للكنيسة، إلا أنّه مارس عنفاً ضاري على سلوك الناس على المستوى الفردي وصلت به الحدود والعقوبات على من يجدهم أنّهم شقوا عصا الطاعة من الذي أعدمهم أو نفاهم أو هربوا أو قرروا هجران ديارهم بفعل الحيف والشدة في الحدود والتهديد بالإعدام ويقول ايريل كيرنز: “إلاّ أن مثل هذه العقوبات ثبت أنها قاسيّة جداً حيث بلغ الذين تم إعدامهم ثمانيّة وخمسين شخصاً، وتم نفي ستة وسبعين آخرين مع حلول عام 1546م»[3]

ولعل أبرز جريمة كانت بحق المنشق  «سرفتيوس» الذي انتقد كتاب كالفن «المبادئ» وادَّعى سرفتيوس أنه يستخلص الحق المسيحي من الزيف الذي أحاطه به كلفن. كان هذا النقد اوغر قلب كالفن عليه على الرغم من أنّ  «سرفتيوس» قد مارس حقه في القراءة

(97)

بحسب حريته الفرديّة التي دافع عنها قادة الإصلاح وكتب عنها كلفن في دفاعة عن المنشقيّة، لكن عندما مارسها «سرفتيوس » أنكر في كتابه الثالوث وكذلك أزليّة الابن، وظن أنه يحسن صنعاً بذلك؛ لأنّه كان يعتقد أن هذين الأمرين هما سبب امتناع اليهود والأتراك عن اعتناق المسيحيّة.

إلا أنّ الأمر لم يكون مقبولاً لدى كالفن الذي كان يتبجح بالإصلاح فكانت النتيجة عندما جاء المنشق من أجل ان يحتمي بديار كالفن يبدو انه كان يضمر في نفسه موقفاً منذ اللقاء السابق الذي جمعهم معا عندما كانوا مجرد طلاب في باريس وقد لاحظ أن كلفن هو الشخصيّة الحاكمة في حركة الإصلاح اليوم أنّ الاخير سخر منه عندما كتب كتاب، وأسماه بقصد السخريّة بكالفن وبآرائه «رد الشيء إلى أصله» وقصد أن يكون صفعة مباشرة لكتاب كلفن «المبادئ» وادَّعى سرفتيوس أنه يستخلص الحق المسيحي من الزيف الذي أحاطه به كلفن.

وقد جاء متخفي الى موطن كالفن جنيف في 1553م؛ وهروباً من محاكم التفتيش الكاثوليكيّة، فعرفوه في الحال وألقوا القبض عليه وسجنوه اعتماداً على اتهامات قدّمها ضده سكرتير كلفن. . ولكنها كانت مكتوبة بخط كلفن»[1] .

(98)

المبحث الثالث
الكنائس الإصلاحيّة البروتستانت Protestant

في سبيل التعريف بالطوائف التي تنتمي الى البروتستانت، والكلمة أصلها الإنجليزي هو: Protestant من كلمة Protest أي يعترض، فيصبح المعنى هو المعترضون أو المحتجون! يُطلق عليهم أيضاً بالطائفة الإنجيليّة، أوبـ (الإنجيليين).

وقد عرضنا الى أبرز مقولاتهم من خلال زعماء الإصلاح نحاول هنا فقط تحديد تجليات هذه الطائفة وما ظهر منها من طوائف فرعيّة. هي عبارة عن تأويلات وإفهام جاء بها بعض رجال الدين، وقد أطلقوا على احتجاجهم هذا بعداً اصلاحياً. . . .، في مواضيع أخرى قامت على تأويلات مختلفة في مواضيع بعضها في العقيدة والإيمان، وبعضها فى الطقوس، والبعض الثالث في النظام الكنسي، وفي أمور العبادة. وبعضها خلافات بالنسبة إلى الكتاب المقدس، على الرغم من اهتمام البروتستانت بالكتاب اهتماماً كبيراً، على الرغم من كلامهم عن (الحق الكتابي)، إلا أنّ المسيحيين الآخرين يأخذون عليهم أمرين مهمين:

 الأول: عدم إيمانهم ببعض أسفار الكتاب مثل: (طوبيا، يهوديت، يشوع بن سيراخ، باروخ، سفر الحكمة، المكابين الأول والمكابين الثاني، وبعض أجزاء أخرى من الكتاب.) . . واعتبارها

(99)

إنها أبوكريفا، وعدم ضمِها إلى الكتاب، مثلما تضم فى ترجمة الكاثوليك للكتاب...

والثاني: إنهم بنظر المسيحيين المتبقين لا يتعاملون مع العهد القديم بالاحترام اللائق لكلِ تعاليمه، كما لو كان السيد المسيح قد نقض الناموس أو الأنبياء، أو اعتبار أشياء جوهريّة في العهد القديم، وكأنها كانت مجرد رموز، وانتهت فى العهد الجديد! فإذا أثبتنا عقيدة بآيات من العهد القديم، لا يقبلون ذلك على اعتبار أنه من العهد القديم! وعلى هذا فإن الخط الذى يفصل بين الرمز والحقيقة الثابتة فى العهد القديم، غير واضح أمامهم أو نختلف نحن معهم فيه.

وهم وإن كانوا يؤمنون بـ«الحكم الألفي»؛ القائم على أساس أنّهم يؤمنون بأنّ السيد المسيح، سيأتي فى آخر الزمان، ويحكم ألف سنة على الأرض، يكون فيها الشيطان مقيّداً. ويسود فيها السلام، ويرعى فيها الحمل مع الأسد. . . ؛ ولكن توجد اختلافات بين البروتستانت فى تفاصيل الحكم الألفي. [1]

ويمكن إجمال المشتركات التي تجمع الكنائس الإصلاحيّة:

كنائس مستقلة: إذ يوجد أكثر من هيأة تنسيق بين بضعة كنائس. وحدات مستقلة يشرف عليها قساوسة حول العالم؛ في بعض الأماكن قد تُنسِق الكنائس البروتستانتيّة فيما بينها من ضمن هيآت محددة.

(100)

2. تؤمن بالثالوث الأقدس. عقب حركة مارتن لوثر، 1517م.

3. لا تؤمن بشفاعة مريم العذراء أو القديسين، وتشكِك بعض هذه الطوائف في عقيدة البتوليّة الدائمة.

4. ليست كنيسة طقسيّة ما عدا الأنكليكانيّة، إذ تكتفي بعضها بسري العماد والإفخارستيا؛ غير أنه لا وجود لأي طقس في أغلبها.

5. كهنوت لجميع المؤمنين: كان المبدأ كهنوت لجميع المؤمنين له فضلٌ كبيرٌ في الإصلاح، إذ يعلمنا الكتاب المقدس أن المؤمنين هم ” الكهنوت المقدّس ”، وإن كل المؤمنين هم الكهنة أمام الله من خلال رئيس الكهنة العظيم يسوع المسيح، وقال ” هناك إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، هو الإنسان يسوع المسيح”، وعلينا جميعاً كمؤمنين، الوصول المباشر إلى الله من خلال المسيح وليس هناك ضرورة لوسيط دنيوي، إذ كان ينظر إلى مفهوم الرومانيّة الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة الشرقيّة من الكهنوت وجود أي أمر آخر في الكتاب المقدّس، وينظر إليها على إنّها انحراف وسوء تطبيق إلى العهد القديم؛ ولكنّ الكهنوت هو الذي أتمّ الوفاء بالعهد بشكل واضح في صورة المسيح.

ونتيجة لهذه المبادئ، رفض الإصلاحيون سلطة البابا، والفضل في الخيرات، والانغماس، ووساطة مريم والقديسين، ولكن كل اثنين من الأسرار التي وضعها

(101)

المسيح” هي المغطس والعشاء الرباني ”، والمذهب من الاستحالة، والمطهِر، والصلاة على الميت، واعترافات كاهن، واستعمال اللاتينيّة في الخدمات، وجميع أدواتها تعبير عن هذه الأفكار.

ويمكن استعراض هذه الكنائس:

1- الكنيسة المورافيّة او الهوسيون (بالإنجليزيّة) Hussites: هم أتباع رجل الدين اللوثري التشيكي جون هوس 1369-1415م الذي حاول إصلاح الكنيسة الكاثوليكيّة من الفساد والشرور بالرجوع إلى الكتاب المقدس وأخلاق ووصايا السيد المسيح. بيد أنه أضطهِد وحورب من قبل رجال الكنيسة، وانتهت حياته بالحكم عليه بالإعدام حرقاً في مجمع كونستانس الكنسي في عام 1415م لا يزال تقليد الهوسيين قائماً من خلال الكنيسة المورافيّة، والكنيسة الهوسيّة التشيكوسلوفاكيّة. [1]

الكنيسة تتخذ حمل الله محاطاً بكلمات لاتينيّة شعاراً لها والشعار هو(Vicit agnus noster، eum sequamur أي حملنا يقودنا، فلنتبعهُ). وقد تبنّى جون هوس ذلك ورفض الإنغماس في الشريعة وبهذا أصبحت الكنيسة المورافيّة كنيسة بروتستانتيّة. ونتيجة؛ لإتِهام الهوسيين بالهرطقة خاض الهوسيون عدة حروب ضد الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة وسُميت بحروب الهوسيين وانتهت بهزيمة الهوسيين وقتل عدد كبير منهم، ظهور هذا المذهب

(102)

أدّى إلى اعتناق مارتن لوثر وثم جون كالفين لهذه الأفكار، اليوم أتباع هذه الكنيسة لا يتجاوزون 750،000 ألف نسمة في العالم. [1]

2- الكنيسة اللوثريّة: متمثلةً بالإصلاح اللوثري ـ الألماني الذي كان مرتبطاً بالراهب الأوغسطيني مارتن لوثر (1483-1546م)، وقد نتج عنه الكنائس اللوثريّة.[2]

وقد بدأ إطلاق هذه التسميّة على المؤمنين بأفكارومعتقدات مارتن لوثر في القرن السادس عشرالميلادي، وذلك على الرغم من مقاومة لوثر نفسه لهذه التسميّة، وأصبحت جامعة وتنبرج المهد الأساسي لها.

اهتمَّ مارتن لوثر بقضايا الإيمان، وترك الأمر الإداري للكنيسة لغيره يقوم به، لكنه عيَّن بعض المراقبين ليتعاونوا مع حكام الدولة في الأقضيّة، وبذلك كان أول ظهور لنظام السينودس.

ارتبطت اللوثريّة في ألمانيا ارتباطاً وثيقاً بالحالة السياسيّة منذ أن دعا لوثر إلى إشراف الدولة على الكنيسة، ولذلك فإن الحكومة الألمانيّة تدخَّلت لأكثر من مرة لحلِّ الخلافات بين أعضاء الكنيسة، أو للاتفاق مع الكنائس المصلحة.

كان لظهور الكنائس المعمدانيّة في القرن السابع عشر الميلادي أثره في إثارة الخلافات بين البروتستانت مرة أخرى.

(103)

في زمن فريدريك وليم الثالث ملك بروسيا تمَّ الاتحاد بين الكنائس اللوثريّة والمصلحة، ومن هذا الإتِحاد تشكَّلت الكنيسة القديمة، غير أنّ جماعة كبيرة من اللوثريّة لم تنضمْ إلى هذه الكنيسة، وعُرفوا باللوثريين القدماء.

والكنيسة اللوثريّة: هي كنيسة الدولة في الدنمارك وأيسلندا والنرويج والسويد وفنلندا.

 يصدر الاتحاد اللوثري العالمي مجلّة اللوثريّة العالميّة بالألمانيّة والإنجليزيّة.

3- الكنائس المصلحة: الإصلاح السويسري ـ الفرنسي الذي نتجت عنه الكنائس الإنجيليّة المصلحة Reformed/ Reformee والمتأثر بالمصلح السويسري أولريخ زوينغلي Ulrich Zwingli 1484-1531م ولكن إلى حدٍ أكبر بالمصلح الفرنسي جان كلفن 1506-1564م وبالفكر الكالفيني عامة. [1]

اعتراف الإيمان في جنيفا 1536م لمحة تاريخيّة: بعد أن انضمت مدينة جنيفا إلى المدن السويسريّة التي اعتنقت الإصلاح الإنجيلي دُعي المصلح جون كلفن 1509-1564م إليها للمساعدة في إعادة تنظيم المدينة على أسس الإصلاح الجديدة. فكان إسهام كالفن مهماً في تثبيت الإصلاح في جنيفا. وقد صدرت عنه ثلاث وثائق إصلاحيّة: (مبادئ لنظام كنسي وكتاب تعليم مسيحي واعتراف إيمان ملزم لجميع أبناء المدينة). وقد قيل إن كالفن هو المؤلِف الوحيد لاعتراف الإيمان هذا؛ ولكن بعض المؤرخين في الحقبة

(104)

الحديثة يقولون إن المؤلِف كان زميله وليام فاريل 1489-1565م الذي كان قد أصرّ على بقاء كالفن في جنيفا وسلّمه مركزا قياديا فيها. ولكن الرأي السائد اليوم هو أنّ كالفن كان المؤلِف الرئيسي أو على الأقل كانت له اليد الطولى في تأليف هذا الاعتراف الإيماني. وقد كتب أولا بالفرنسيّة ثم ترجمه كالفن إلى اللاتينيّة سنة 1538م.  

 الكنيسة المصلحة الهولنديّة (بالهولنديّة Nederlandse Hervormde Kerk أو (NHK): كانت طائفة مسيحيّة كالفينيّة في هولندا. وتطوّرت خلال الإصلاح البروتستانتي. وقد تأسست في العقد 1570م، واستمرت حتى عام 2004م، وفي هذا العام اندمجت هذه الكنيسة مع كنائس البروتستانتيّة في هولندا والكنيسة الإنجيليّة اللوثريّة في مملكة هولندا لتشكيل الكنيسة البروتستانتيّة في هولندا..[1]

وإن كان يُقصَد بها جميع الكنائس البروتستانتيّة (بوجهٍ عام)، إلا أنه من الناحيّة التاريخيّة تقتصر على الكنائس البروتستانتيّة التي يرتكز أصلها على عقائد كلفن، وعلى أساس النظام الكنسي المشيخي الذي تركِّز فيه السلطات على سلسلة مجالس من الشيوخ العلمانيين ورجال الأكليروس، وتنزع إلى الشكل البسيط في العبادة. وقد قويت هذه الكنائس في إنجلترا في القرن السادس عشر الميلادي، وخصوصاً في أسكتلندا وشمال أيرلندا، وسمِّيت كنائس

(105)

سويسرا وهولندا وعدد من كنائس ألمانيا بالمصلحة، كما توجد في الولايات المتحدة الأمريكيّة كنائس تحمل لقب المصلحة.

الإصلاح الإنجيلي و«الاعتراف»: يتضح مما سبق أنّ فكرة الاعتراف بالإيمان بشكل إعلان خطي لم تكن وليدة حركة الإصلاح مع كونها شهدت إعادة إحياء مهمة في زمن الإصلاح الإنجيلي واتّخذت معه منحىً جديداً. ومرجع ذلك إلى سببين: أولاً، لقد شعرت الكنائس الإنجيليّة الناشِئة بالحاجة إلى اعترافات إيمانيّة؛ وذلك بسبب احتجاجها لتوجيه لاهوتي وعقائدي ولمقاييس تعليميّة واضحة تشرح الموقف الإنجيلي الحقيقي الصحيح  وتدافع عنه. فهي إذاً قبل كل شيء محاولة لشرح كلمة الله والعقائد التاريخيّة المسكونيّة في أزمن جديدة وأوضاع متغيّرة وفي مجابهة أخطاء وانحرافات جديدة. وثانياً، لقد احتاجت الكنائس الإنجيليّة الفتيّة بأن تدافع عن نفسها أمام السلطات الزمنيّة ضد تهمة الهرطقة فأرادت من خلال هذه الاعترافات أن تبين اتفاقها مع تعاليم الكتاب المقدس والكنيسة الأولى. فبهذا المعنى هي أيضاً شهادة دفاع عن استقامة رأيها وكذلك شهادة في وجه الاضطهاد. وهذا ما يفسِر طول بعضها وإطالة الشرح فيها وهو ما يجعلها غير مناسبة للاستعمال في العبادة بل هي أنسب للكرازة والتعليم. وهنا ينبغي الإشارة إلى أنّ أهل الإصلاح لم يصيغوا اعترافاتهم كبدائل للاعترافات القديمة أو لقوانين الإيمان القديمة. بل عدّوا وآمنوا إنهم يحاولون قول الحقيقة ذاتها التي عبّرت عنها القوانين القديمة بشكل جديد ولغة جديدة: يسوع هو الرب. إذاً يعد الإنجيليون المصلحون أنّ اعترافاتهم تفسير

(106)

لاهوتي للاعترافات الكتابيّة والمجمعيّة المسكونيّة. وهي اعترافات كنيسة جماعيّة لا فرديّة خاصّة وهي تعبِر عن مفهوم الكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسوليّة للبشارة. فهي إذاً ليست بديلة عن قوانين إيمان الكنيسة القديمة ولكن لا يمكن للإنجيليين أن يعودوا إلى القوانين القديمة إلا عبر اعترافاتهم التاريخيّة، وكلاهما خاضعان لمقياس واحد وحيد هو كلمة الله الحيّة المشهود لها في الأسفار المقدّسة. [1]

عانت الحركة الإنجيليّة في فرنسا من اضطهادات مريرة قاسيّة في القرن السادس عشر الميلادي. وقد ظهر أول اعتراف إيمان أبان الاضطهادات التي حصلت في باريس في شهر أيلول من سنة 1557م حين القي القبض على خمسة وثلاثين عضواً من الكنيسة الإنجيليّة في المدينة وأعدم سبعة منهم على الفور. فكتب الإنجيليون رسائل إلى إخوانهم في سويسرا يحثونهم فيها على التدخل لدى ملك فرنسا لوقف الاضطهاد. وأرسلوا أيضاً إلى جون كلفن في جنيفا بياناً موجزاً يتضمن إيمانهم في ثمانيّة عشر فصلاً، وقد ضمّ مقدِمةً إلى ملك فرنسا، وكان قد طلب مراراً من كلفن سابقاً أن يصوغ اعتراف إيمان الإنجيليين في فرنسا إلا أنّه لم يكن يحبِّذ ان يتفرد إنسان واحد بكتابة إعتراف بهذا الإيمان. والمرجّح أنّ ما صدر عنه كان عملاً مشتركاً ضمّه هو وتيودور بيزا Th Bezaوبيار فيريه P. Viret. وقد صاغ هؤلاء خمسةً وثلاثين بنداً أو فصلاً وضموا إليها ما كان قد أرسله إليهم الإنجيليون الفرنسيون سنة 1557م. وحين هدأت

(107)

الاضطهادات في 1558-1559م دعت الكنيسة الفرنسيّة الإنجيليّة إلى مجمع عام لكل كنائسها؛ لغرض وضع دستور للكنيسة الإنجيليّة في فرنسا على أساس اعتراف واحد للإيمان. وهكذا فقد اجتمع سرياً في آيار سنة 1559م في بيت خاص في باريس عشرون مندوباً يمثِلون اثنتين وسبعين كنيسةً وبعد أربعة أيام من المداولات تبنّى المجتمعون النص الذي وصل بهم من جنيفا مع بعض التعديلات القليلة؛ فأصبح عدد الفصول أربعين فصلاً بدلاً من خمسةٍ وثلاثين. وقُدم هذا الاعتراف إلى ملك فرنسا فرنسوا الثاني في سنة 1560م، مرفقاً بمقدمة بليغة من كنيسة مضطهدة تستصرخ عدله. وقد تبنّت هذا النص كل كنائس فرنسا الإنجيليّة سنة 1571م في المجمع الوطني المنعقِد في لا روشيل La Rochelle؛ لذلك يدعى أيضا «اعتراف لا روشيل». ومن ثمّ تمّ الاعتراف به في ألمانيا في مجمعي فيزل Weselسنة 1568م وأمدن Emdenسنة 1571م. وقد أثّر هذا الاعتراف في الكنائس المصلحة في هولندا واسكتلندا وإنكلترا. وأعيد تأكيده سنة 1936م من قبل الكنائس المصلحة في فرنسا. وكتب النص الأصلي باللغة الفرنسيّة. [1]

4-الكنائس الأسقفيّة:

الإصلاح الإنكليزي الذي نتجت عنه الكنيسة الانكليكانيّة Anglican والذي يعود في منشأه إلى خلاف الملك هنري الثامن 1491-1547م مع بابا روميّة وانفصاله عن روميّة. وقد تأثّر هذا

(108)

الإصلاح بالفكر الإنجيلي اللوثري والمصلح مع إبقائه على كثير من تراث الكنيسة الرومانيّة وتقليدها. [1]

يطلق مصطلح الكنيسة الأسقفيّة عند الحديث عن الكنيسة الإنجليزيّة، ويتبعها في أمريكا عدد من الكنائس الأسقفيّة، وتتبع هذه الكنائس النظام الأسقفي على أنه نظام إلهي، خلافاً لسائر الفرق البروتستانتيّة، وذلك في تعيين أو اختيار أو عزل القساوسة، والشمامسة، أو تدشين الأراضي والأبنية الدينيّة، وإدارة تركات الموتى لحين وجود وصي شرعي للميت. ويلقّب أساقفة إنجلترا بلقب لورد إذ يُعدون من أشراف المملكة، ويرأس ملوك إنجلترا الكنيسة الإنجليزيّة، وبذلك يعيِّنون الأساقفة الذين يتمُّ انتخابهم من القسوس بعد ذلك، ورئيس أساقفة كانتربري هو رأس الكنيسة، ويليه في المرتبة رئيس أساقفة يورك، أما أساقفة الولايات المتحدة الأمريكيّة فينتخبهم نُوَّاب من قسوس الأسقفيّة وأهاليها قبل عرضهم على مجمع الأساقفة أو على مجمع نوّاب مؤلف من السينودس والأهالي. [2]

ويطلق على الكنيسة الأسقفيّة أيضاً بـ»الكنيسة الإنجليكانيّة» وترجع هذه التسميّة إلى عام 1852م عندما اجتمع مائة وثمانية من أساقفة الكنيسة الأسقفيّة؛ للاحتفال باليوبيل الذهبي لمؤسسة نشر الإنجيل فدعوا كنيستهم باسم الإنجليكانيّة إذ يجمع الاسم بين الإنجيل والإنجليزيّة وتتكون الكنيسة الإنجليكانيّة في انجلترا

(109)

من ثماني عشرة كنيسة مستقلة فضلاً عن عدد من الإيبارشيات فيما وراء البحار، وقد انتشرت الكنيسة الإنجليكانيّة (في أمريكا والهند وباكستان وبورما وسيلان وغرب وشرق وجنوب ووسط أفريقيا واستراليا ونيوزيلندا والصين واليابان وهونج كونج والفلبين ومدغشقر. . . . . الخ). وجميع هذه الكنائس المستقلّة تخضع شرفياً لرئاسة أسقفيّة كانتربري كما أنّ جميع هذه الكنائس أعضاءٌ في المجمع الإنجليكاني. . [1]

يُعد أتباع الكنيسة الأسقفيّة من الطوائف الدينيّة الأكثر تعلماً وثراءً في الولايات المتحدة، وتُعَد الكنيسة أول كنيسة بروتستانتيّة تعين امرأةً في منصب مطران كنيسة. اشتهرت الكنيسة بـ: (مباركة زواج المثليين ومعارضة العبوديّة وعقوبة الإعدام وتأييد الحقوق المدنيّة وتعد أول كنيسة أمريكيّة تبارك زواج قساوسة)؛ وسبب هذا حدوث جدل في الكنائس الأنجليكانيّة في العالم. [2]

تعود جذور الكنيسة إلى حقبة الثورة الأمريكيّة فقد أنشئت بعد استقلال الولايات المتحدة من بريطانيا عام 1783م. على الرغم من كونها انفصلت عن كنيسة إنجلترا إلا أنها ظلّت تتمسك بالإيمان الأنجليكاني، وحافظت على الأنجليكيين في أمريكا. وعدّت نفسها كنيسة بروتستانتيّة وأصبحت فيما بعد عضواً في الكنائس

(110)

الأنجليكانيّة، وأصبحت من أكبر الكنائس وأكثرها انتشاراً، وأصبح لكل ولاية أمريكيّة أسقف وكل أسقف ولايّة يتزعّم الكنائس الموجودة في مقاطعات الولاية. إنّ تاريخ الكنيسة الأسقفيّة طويل وعرفت بأنها من أقدم وأشهر الكنائس في تاريخ الولايات المتحدة كما أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة كان أغلبهم من أبناء الكنيسة الأسقفيّة مثل: (جورج واشنطن وبنجامين فرانكلين وغيرهم). واشتهرت بكثرة رؤساء الأمريكيين ومشاهير المؤمنين بها، كما اشتهرت بكثرة العلمانيين والليبراليين وقلّة المحافظين منهم. يُعَدُ أتباع الكنيسة الأسقفيّة الطائفة المسيحيّة الأكثر تعلماً وثراءً في الولايات المتحدة وأفضل تعليماً من معظم الجماعات الدينيّة الأخرى في الولايات المتحدة)). [1]

في تاريخ لاحق من الكنيسة الأسقفيّة التي هي إلى حد كبير من توسعها مع النمو للولايات المتحدة في الإقليم والسكان، والتنقيحات من التنظيم السياسي، والقوانين، والقدّاس. الالتزامات والكنيسة التبشيريّة أدّت إلى التأسيس الداخلي والخارجي وجمعيّة التبشير في عام 1821م. وكان رئيسها الأعلى المطران، ورئيس مجلس النواب من الأساقفة. وكانت هذه بداية وطنيّة دائمة التنفيذ للكنيسة. في عام 1919م تمّ عقد الاتفاقيّة العامّة للمجلس الوطني، ودعت في وقت لاحق إلى المجلس التنفيذي، واستوعبت هذه

(111)

الاتفاقيّة تبشيريّة المجتمع والمجتمعات الأخرى من أجل التعليم والاهتمامات الاجتماعيّة. في عام 1976م وافقت كل من الاتفاقيّة العامة على تنقيح كتاب صلاة مشتركة سابقاً المنقّحة في 1892م و1928م، وقبول المرأة في وزارة رسميّة. أثارت هذه الإجراءات خلافاً على نطاق واسع، مما يسبب إجازة بعض أعضاء الكنيسة الى الكنائس الأخرى أو لإنشاء كنيسة جديدة، والكنيسة الانجليكانيّة في أمريكا الشماليّة. وأثار تكريس باربارا هاريس بوصفها أول امرأة للمطران في 1989م تشكيل لسينودس الأساقفة من أمريكا، وهي مجموعة معارضة تدعمها عدّة أساقفة من الكنيسة الاسقفيه. [1]

6- الكنيسة المعمدانيّة: الإصلاح المتطرف أو«المعمداني» Anabaptist وهو الذي أُطلق على حركات وجماعات عدة في القرن السادس عشر الميلادي في أوروبا، وقد تميّزت هذه الجماعات برفضها معموديّة الأطفال وأصرت على معموديّة البالغين فقط حتى لو أدّى ذلك إلى إعادة تعميد الناس، كما فصّلت نفسها عن حياة المجتمع وشدّدت على العلاقة الفرديّة بين المؤمن والله بوساطة روح القدس مباشرة من دون أي وسائط تاريخيّة كنسيّة وإنسانيّة. وقد نتج عن هذا الاتجاه الإصلاحي المتطرف جماعات دينيّة كثيرة مثل أتباع طوماس مونتزر (1490-1525م) Thomas Muntzer وجمعيّة الأصدقاء أو الكويكرز Quakers، وحركة الأخوة السويسريّة وجماعة المينونيين Mennonites، ومن ثم الكنائس

(112)

المعمدانيّة التي تنظمت ونشأت في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين في إنكلترا. [1]

الكنيسة المعمدانيّة الإنجيليّة: هي كنيسة بروتستانتيّة تؤمن بالكتاب المقدّس وبقانون الإيمان النيقاوي الذي تُجمع عليه الكنيستان الأورثوذكسيّة والكاثوليكيّة. تؤمن الكنيسة المعمدانيّة أنّ المعموديّة يجب أن تتم للبالغين فقط، وتمارس بالتغطيس وذلك بعد اقتناع الإنسان بالإيمان المسيحي عن حق واعترافه أمام الملأ أن يسوع المسيح هو ابن الله وأن يؤمن بعقيدة الثالوث[2] .

وبما أنّ الكنيسة المعمدانيّة تتمتع بالاستقلاليّة فهي اذاً متنوعة ومن خلال النظرة الافقيّة نرصد أنّ هناك ثمة أنواع من الكنائس المعمدانيّة وهذه بعضها: (المعمدانيّة العامة، المعمدانيّة الشماليّة، المعمدانيّة الجنوبيّة، المعمدانيّة المستقلة، المعمدانيّة المُصلِحة، معمدانيّة حريّة الإرادة، المعمدانيّة الوطنيّة).

اما إذا بحثنا في الأصول التاريخيّة لهذه الكنيسة سنجد أنّ تاريخها يعود إلى بداية الكنيسة المعمدانيّة إلى أيام الرسل كعقيدة وبعدها ظهرت كمجموعات مثل: الدوناتيين، الوالدانسيين، مكرري المعموديّة وغيرها ولكنها لم تبرز ككنيسة معمدانيّة إلا في عام 1609م عندما نظّمها جون سميث ككنيسة في إنكلترا.

اذ كان المعمدانيون منذ القرن الأول الميلادي. يعيشون في

(113)

جماعات بسيطة يعبدون الله في ضوء التعاليم الكتابيّة على الرغم من كونهم لايتمتعون بتسميّة خاصّة. . في القرن الرابع ظهر قسطنطين الذي خلط الدين بالدولة، وأنا في اعتقادي إنه كان إنسانا مزوِرا لم ينل المعموديّة إلا قبل موته بيوم واحد بحجة الحصول على مغفرة جميع خطاياه مع أن المعموديّة طبعاً لا تغفر الخطايا. . إنّه إنسان شرير أضرّ بالكنيسة، ولكن لعل الله يكون قد افتقده في اللحظات الأخيرة ولعلي أراه معي في السماء. . أما في العصور المظلمة فقد تعرّضت هذه المجموعات المعمدانيّة لاضطهاد عظيم فوصل عدد الشهداء منهم إلى خمسين مليوناً على مر التاريخ. . الغالبيّة العظمى منهم على أيدي الكاثوليك ثم البروتستانت. . الآن عددهم في العالم وصل إلى 125 مليون. [1]

ونجد أنّ العلاقة بين المعمدانيّة والإصلاح تبين أنّ هذه الكنيسة تعود في الغرب إلى القرن السابع عشر الميلادي في إنكلترا وقد ظهرت بتأثير حركة مجددي المعموديّة -أنابابتست. منشقاً منها بقيادة جون سميث، بحريّة الاختيار، بينما آمن قسم آخر بالجبريّة متأثرين بالإيمان الكالفني. اضطهدت السلطات البريطانيّة هذه الحركة حتى عام 1689م أسوةً بحركات دينيّة أخرى. خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين تمّ التقارب في وجهات نظر شقي الكنيسة المعمدانيّة وتمّ اتحادهم في سنة 1891م.

ومن انجلترا انتشرت الكنيسة المعمدانيّة إلى البلاد الأخرى

(114)

وبخاصة إلى الولايات المتحدة الأميركية التي تم تأسيس الكنيسة المعمدانيّة فيها عام 1639م. وفي سنة 1932 تمّت إقامة أول كنيسة معمدانيّة في إيطاليا، وفي عام 1834م في ألمانيا وفي عام 1888م في إسبانيا.

وطريقة انتشارها تعتمد الى حد بعيد على الاتجاه التبشيري منذ عام 1792م. إذ نشط مبشرون منذ ذلك العام (في الهند، أفريقيا والصين). وقد برز العديد من الكهنة المعمدانيين في نضال جقوق السود في الولايات المتحدة.

إن أوجه اختلاف هذه الكنيسة عن الكنائس المتبقيّة يكمن في الأصول المؤسِسة للكنيسة اذ أوّل الفِرق، التي ذكّرت بشيعة الدوناتيّين: هو رفضها لمعموديّة الأطفال؛ لعدم وجود قناعة وإدراك لهم، شيعة عرفت باسم «الأنابابتست». ونادى أتباعها في العام 1520م، إلى إعادة معموديّة البالغين، وقبول انتسابهم الحر إلى الكنيسة، باعتبار أنّ معموديّة الأطفال برأيهم تخلق كنيسةً عدديّة.

ونادوا بحرّيّة الضمير، وفصل الكنيسة عن الدولة، واستقلال الكنائس المحلّيّة. وفسّروا الكتاب المقدّس تفسيرًا حرفيًّا. وأنكر بعضهم لاهوت المسيح (وقلّةٌ منهم أنكرت عقيدة الثالوث القدّوس). وتمسّك بعضهم الآخر بمذهب وحدة الوجود، أي وحدة الله والكائنات Pantheism. وجاهر آخرون بـ«الحكم الألفيّ». وبعد اضطهاد أصاب هذه الشيعة، وشُرّد أعضاءها، تفرّعت منها فرق عديدة، من أبرزها «المعمدانيّين»، أيضًا أنغليكانيّين، وبالمعمدانيّين الشموليّين General baptists، وبالمعمدانيّين الخاصّين Particular baptists ؛ والمانونايتِس.

(115)

إنّ معظم أتباع هاتين الفرقتين توحّدوا في العام1891م، وأنشئ، نتيجة لتوحّدهم: الاتحاد المعمداني البريطاني الأيرلندي. وأمّا الذين لم ينضمّوا إلى هذا الاتّحاد، وعرفوا بالمعمدانيّين المدقّقين. وبعد انتشار المعمدانيّين، ولا سيّما في الولايات المتحدة الأميركيّة، ظهرت فرق معمدانيّة عديدة، من أشهرها، أو من أكبرها، المعمدانيين الجنوبيين والمعمدانيين الشماليين (وهاتان الفرقتان انفصلتا في العام1845م). أمّا المعمدانيّون، اليوم، فهم فرق غنيّة جداً تمتلك، دُوراً عديدة للنشر في العالم، ومؤسّسات تربويّة وإعلاميّة واستشفائيّة، وملاجئ للأيتام، ودوراً لراحة العجزة، وغيرها.

أفضل ملخّص لتعليم المعمدانيّين استوحاه أحدهم من أبجديّة اللفظة الإنكليزيّة Baptist، وذلك باستعمال كلّ حرف من أحرفها، ليعبّر عن المعتقدات المعمدانيّة السبع. والملخّص هو:

Bible sole authority :B (1سلطة الكتاب المقدّس الحصريّة.

Autonomy of the local church :A (2استقلاليّة الكنيسة المحلّيّة.

Priesthood of the believers (3كهنوت جميع المؤمنين.

Two ordinances in the church: baptism and the Lord’s Supper (4فريضتان في الكنيسة: المعموديّة وعشاء الربّ.T

Individual soul liberty :I (5 الضمير الفردي.

Separation of church and state :S (6فصل الكنيسة عن الدولة.

(116)

Two offices in the church: pastors and deacons (7  منصبان في الكنيسة: القساوسة والشمامسة.

غير أنّ هناك أموراً كثيرة يعلمها المعمدانيّون تتفرّع من هذا الملخّص، أو تزيد عليه.

ويعرف من قرأ كتاباتهم بأنّهم «يطمحون، ليكونوا ضمير المسيحيّة المعاصرة في تمهيدهم لمجيء المسيح ثانية، تماماً كما كان يوحنّا المعمدان الصوت الصارخ في البرّيّة وضمير المجتمع المعاصر للمسيح في مجيئه الأوّل». وهذا دفعهم إلى أن يتفاخروا بقولهم إنّه «بين الطوائف الكبيرة في العالم لا تجد التزاما حقيقياً، لحرّيّة المعتقد والعبادة، إلاّ عند المعمدانيّين”.

خلال القرن العشرينـكان المعمدانيون، كأغلب البروتستانت، قد اختلفوا في الأمور اللاهوتيّة؛ فالحركة العصرانيّة والقائلون بمذهب العصمة، اختلفوا في طريقة فهم الإنجيل. أكد العصرانيون على دراسة الإنجيل تاريخياً أكثر من الدراسة الموضوعيّة، بينما رأى القائلون بمذهب العصمة أنّ الطرق الحديثة لدراسة الإنجيل والأخذ بالنظريات العلميّة الحديثة تعمل على تقويض أركان النصرانيّة. [1]

العلاقة مع الكنائس المسيحيّة الأخرى: لطالما نظرت الكنائس المسيحيّة التقليديّة للمعمدانيين نظرة شك وحاولت تهميشها متّهمةً إياها بسرقة خرافها. كان للمدرسة المعمدانيّة في الناصرة خلال عدة عقود دورٌ كبيرٌ في إعطاء شرعيّة للمعمدانيين في عاصمة الجليل (وكنتيجة لذلك أيضاً في الجليل برمته) لتقديمها خدمةً تربويّةٌ

(117)

عامّةً ومتميزةً لكل فئات المجتمع. ولكن هذه الشرعيّة المحدودة للمعمدانيين لم تتحول لانطلاقة في تلك العلاقة التي بقيت محدودة للغاية ويحكمها الشك والقطيعة. [1]

الانتشار ومواقع النفوذ: تنتشر الكنائس البروتستانتيّة في: (ألمانيا، هولندا، بريطانيا، الولايات المتحدة الأمريكيّة، سويسرا، الدنمارك)، وتوجد أقليات بروتستانتيّة في باقي الدول الأخرى. [2]

(118)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

الكنيسة والإصلاح

 

 

ـ المبحث الاول: موقف الكنيسة من الإصلاح الآليات المواجهة والحروب الدينيّة

ـ المبحث الثاني: موقف الكنيسة حالياً بعد التغيير في معنى النجاة والايمان

 

(119)

الفصل الثالث

الكنيسة والإصلاح

المبحث الاول: موقف الكنيسة من الإصلاح

 (الآليات المواجهة والحروب الدينيّة )

الإصلاح الكاثوليكي

الحديث عن الإصلاح الكاثوليكي يعني الحديث عن موقف الكنيسة من الإصلاح والآليات الدفاعيّة التي اعتمدتها، لاشكّ ان للكنيسة موقفاً من الأحداث، فكانت تعتمد على مواقف متباينة من الإصلاح في المانيا وسويسرا قياساً مع ما كان يدور في انجلترا مع هنري الثامن وما انتهت إليه الاحداث هناك وكيف كان موقفها من كل الأحداث في القارة.

فإنّ الكنيسة كانت مؤسسةً دينيّةً تمتلك حضوراً كبيراً معنوياً واقتصادياً في الغرب وقد استمرّت الى أوقاتٍ طويلة مهيمنة، وقد كانت هناك ظروف مهمة مهّدت الى التحول وأسهمت الى حدٍ كبير في ظهور حركات الاحتجاج والإصلاح احتجاجات من قبل الفلاحين ورجال الاقطاع من الأمراء الألمان وغيرهم، وقد تحالف هؤلاء كما مرّ بنا مع رجال الدين والفكر وأسهم هذا في مواجهة كبيرة

(120)

في الغرب وخصوصا بعد التحوّلات التي حدثت في انجلترا التي تحولت من دولة مساندة للبابا الى دولة معارضة وقد شنّت حملة صعبة وقاسيّة على أنصار الإصلاح من الكاثوليك والبروتستانت.

يبدو هنا من الضروري أن نؤكِد على إنه لما حصل الإصلاح حصل فعل المراجعة من قبل الكنيسة، بمعنى أنّه فعل يقوم على المراجعة من أجل أمرين، الأول: احتواء الاصطلاحيين الكاثوليك باعتماد الإقناع والمراجعة والإكراه بالقوة كما حصل بحق العلماء ورجال الفكر، وترصين الجبهة الداخليّة وتوحيدها من أجل شن الحرب على الإصلاحيين من البروتستانت، وهنا نجد أنّ من الضروري التأكيد على إنّ الإصلاح الكاثوليكي كان هو السبّاق وقد سبق غيره وكان مؤثراً وإنّ غيره نبع منه، وكان الإصلاح الكاثوليكي متأثراً بالنزعة الانسانيّة أو ما يعرف (بالأنسنة) المؤمنة التي سبقت وحرّضت على الإصلاح وأيضاً واصلت مقاومة أشكال الإصلاح الأخرى وردّت عليها، ومن هنا يمكن متابعة الإصلاح الكاثوليكي تكوينياً:

أوّلاً / أنسنة الإصلاح:

في حفرنا عن تقدم الإصلاح الكاثوليكي نجد أنفسنا بإزاء مصطلح الأنسنة humanistas الذي يفضي بنا إلى تجلي ماهيّة الإنسان المتمثِلة في الصفات التي يتميز بها النوع الإنساني، وهو في الوقت نفسه فرع معرفي يسعى إلى تخطي العصر الوسيط من خلال قطيعة معرفيّة مع المركزيّة اللاهوتيّة وسرديّاتها الكبرى

(121)

المتمثلة في: (الأدب المقدّس والفلسفة واللاهوت والفنون المسيحيّة) مثل: استعمال الحكايات المجازيّة أو الأسطوريّة، أو الشعائر والطقوس وخلع التقديس على الأشياء، والترميز، والتحوير والأساليب المجازيّة، ولأجل تحقيق تلك القطيعة جاءت تلك اللحظة في استعادة الخطاب العقلاني الوثني اليوناني والروماني بكل حمولته العقليّة من فلسفة وفنون لتكون بمثابة البديل الدنيوي بمقابل الخطابات الدينيّة المسيحيّة التيولوجيّة التي كانت بمثابة مجموعة من الاعتقادات التي أصبحت تمارس سلطة النفوذ. كان له تأثير كبير في الإصلاح الذي كانت بدايته بحسب كلام أصحابة بمثابة رد فعل على سلوكياّت الكنيسة وعلاقاتها التي اتٌّهمت بأنها غير أخلاقيّة، وإن كانت هناك أسباب أخرى منها الجانب الاقتصادي والهيمنة السياسيّة للكنيسة، واحتكارها البعد المعنوي وتطور الفكر السياسي الذي مهّد إلى شكل جديد من السلطة السياسيّة. وهناك جانب غير مفكر به أنّ الإصلاح أساساً جاء من داخل الكنيسة الكاثوليكيّة ذاتها؛ نتيجة ما قامت به الكنيسة الرومانيّة من تجاوزات تعرضنا لها؛ لكنّ الإصلاح داخل الكاثوليك كان له اثار ومحرِضات مختلفه منها:

1- الجانب الاقتصادي: وهو ما يظهر في باريس التي كانت تشتعل بها حركة الإصلاح الكاثوليكيّة اذ كانت باريس تعيش في ظلِ إرهاصات رافقت حركات الإصلاح الألمانيّة مع لوثر الا إن الوضع الفرنسي له سمات مختلفة عما هو حال الأمراء الألمان إذ كان الامراء الفرنسيون يتمتعون بحقوق لا يتمتع بها نظرائهم من الألمان إذ يبقى

(122)

للظروف الداخليّة أثرها في انتشار الأفكار من عدمها ويمكن تلمس ذلك في ألمانيا إذ استغل أمراء الولايات المختلفة الحركة لمد نفوذهم إلى مناطق النفوذ الكنسي الذي كان يسيطر عليها اتباع البابويّة.

2-الاستقلال في أمورها الدينيّة والدنيويّة عن السلطة البابويّة: اذ كانت الأوضاع الاقتصاديّة والدينيّة في فرنسا مختلفة فالكنيسة الفرنسيّة تتمتع باستقلال في أمورها الدينيّة والدنيويّة عن السلطة البابويّة، وليس هناك من هيأة دينيّة يمكن أن تقاد من حركة التغيير، وطالما كانت حركة الإصلاح الديني لا تهدد السلطة الملكيّة ولا السلطة الدينيّة بشكل عام، فإنّ مفهوم الإصلاح إذا ما بدأ الخروج عن المسار الذي رسمته الدولة [1].

1- لكن تلك الظروف لم تحول من دون ظهور خطاب اصلاحي داخل جامعة باريس اذ شغل ليفيفر منصب المساعد للأسقف بريسونيه وبدأ بالوعظ الديني المنصب على تعديل مسار القضيّة الدينيّة وأكثر، وقد أكّد في كتاباته وترجمته للكتاب المقدس، على إنّ الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد للعقيدة المسيحيّة. [2]، وهذا الكلام مقارب مع ما سوف يقوله «مارتن لوثر» في ألمانيا؛ وهذا دليل على تزامن حركة الإصلاح في البلدين وما تمخض عنها من أحداث مهمّة ولعل من أهمها موقف لوثر المتحدي للسلطة البابويّة. [3]

(123)

-2 بعد حوار لوثر مع عالم اللاهوت "جون ايك" في مدينة لايزبك سنة 1519م والتي أنكر فيها لوثر الحق الموروث للسلطة البابويّة بتفسير الكتاب المقدّس وأعلن أنّ لكل فرد مسيحي الحق في اتباع ما يفهمه من الكتاب المقدس، هذا كان له اثر في تحفيز «بريسونيه” إلى مواصلة عمله وطلب من كل أتباعه عدم الخروج عن مبادئ الكنيسة الكاثوليكيّة. [1] هكذا يظهر واضحاً أنّ الإصلاح قد كانت بدايته في الأوساط الكاثوليكيّة والمتأثِرة بحركة الأنسنة، إلا أنّ العنف والإكراه كانت له آثار في إسكات أغلب رموزها بفعل قوة الكنيسة وحلفائها ومنهم الدولة الفرنسيّة كل هذا أسهم في إرغام الأصوات الإصلاحيّة التي كانت تطالب بالإصلاح من أجل الكنيسة أي أنّ حركة الإصلاح كانت ملتزمةً باحترام الكنيسة الرومانيّة؛ إلا أنّ سلطات باريس اتّخذت أمراً بحلِ حلقة ميوكس واعتقال قادتها في سنة 1523م على الرغم من أنّ الإصلاح كان فرنسياً خالصاً، ولم يكن متأثراً باللوثريّة. [2] أي أنّ بواعثه من الداخل الفرنسي وليس من الخارج. وهذا الصوت كان صوتاً عميق الحضور منذ بزوغ حركة النهضة في إيطاليا وما تبعه من إحياء الأدب القديم الذي تعرّض الى الحذف والنسيان؛ بحجّة كونه وثني، بمعنى أنّ البعد الأنسي عنصرٌ أصيل في حركة

(124)

الإصلاح وهي حركة تركت تأثيراً عميقاً في داخل الكنيسة وقد كان لها انصار من داخل الكنيسة، إلا أنّهم كانوا على تواصل مع أفكار الانسانينة ومقولة الانسان الفطري إذ (انتشرت الأفكار والأخلاق رأى فريق كبير من الغربيين صورة إنسان الفطرة والطبيعة وعدّوا دراسة القدماء كفيلة وحدها بتكوين الإنسان بمعنى الكلمة، فسميّت هذه النزعة بالإنسانيّة أي المذهب الإنساني، وسمّيت الآداب بمعنى القديمة بالإنسانيّة). [1]  ثم إن (دراسة الفنون كانت تمهيداً وإعداداً للدراسات اللاهوتيّة أو الفقهيّة أو الطبيّة، فيتقدمون فيها إلى الدرجات الثلاث. وكان بوسع كل حاصل على درجة أن يفتح مدرسة، فكانت حريّة تامة فاتّسع نطاقها. وكان الحد الأدنى في دراسة الفنون ست سنين، وفي دراسة اللاهوت ثماني سنين. وكان الحد الأدنى لسن الأستاذ العشرين للفنون، والرابعة والثلاثين للاهوت). [2] ولعل إن ماشفع للحركة الإصلاحيّة أنّ الملك فارنسوا الأول كان متأثراً بالحركة الإنسانيّة، وهذا ما جعله يرفض قرار البرلمان الباريسي والسوربون، ويساند الحركة الإصلاحيّة التي تبنّتها حلقة ميوكس. [3] ؛ لكنّ هذا الدفاع عن الإصلاح الفرنسي لم

(125)

يحول من دون تعرضه لحركة لوثر، وكان يفصل بين حركة الإصلاح الديني في فرنسا وحركة لوثر، على الرغم من أنه ليس من السهولة وضع حدود واضحة ودقيقة للفصل بين الحركتين [1] .

لكنّ هذه الحماية التي وفّرتها الملكيّة للإصلاح لايمكن أن تدوم فالسياسة عرضة للتغيرات المستمرة على وفق المتغيرات الخارجيّة ولاسيما في المناطق المحاذيّة للحدود الفرنسيّة ومدى تأثيرها في الداخل الفرنسي. وخصوصاً الأحداث التي رافقت حركة الفلاحين في ألمانيا سنة 1525م، ونجاح لوثر في استمالة عدد من أمراء المقاطعات الألمانيّة.

ثانياً: إجراءات الكنيسة ضد الإصلاح:

يبدو جلياً أنّ حركات الإصلاح الثلاث الألماني والانجليزي وهذا الكاثوليكي الفرنسي كانت تهيمن عليها أعمال العنف والحروب فجاءت الكنيسة على سبيل مواجهة الإصلاح اللوثري وكالفني والانجليزي فاتّخذت أشكالاً متنوعةً من المراجعة للمؤسسة من ناحيّة ومن ناحيّة أخرى كانت هناك أشكال من المواجهة التي رافقت الصراع وقد اتّخذت أشكالاً عنيفةً صاحبت الحروب الدينيّة التي استمرت زهاء ثلاثين عاماً تمّ خلالها ارتكاب أبشع المجازر والانتهاكات وقد اتُّخذت تسمية الحروب الدينيّة خلالها وتمّ اتخاذ

(126)

اجراءات افترضتها حالة الصراع تلك، وقد كانت هناك اجراءات تمثلت بالنقاط الآتيّة:

مجمع ترانت: وهو تجمع يعرف أيضاً باسم «المجمع التريندي». عقد في مدينة تورنتو في إيطاليا، وتعده الكنيسة الكاثوليكيّة المجمع المسكوني التاسع عشر. عقد بين 13 ديسمبر 1545م و4 ديسمبر 1563م على ثلاث دورات. دعا إلى انعقاده البابا بولس الثالث؛ انعقد لما يفوق العقدين، على ثلاث دورات منفصلة، خلال هذا التجمع تجد أنّ هناك مواقفاً تبدو متشددة في أوّل الدورات السنويّة ثم أخذت تقترب من الإصلاح وقبول الآخر. وقد كانت كل المراسيم التي صدرت عن المجمع، قد شكّلت ما يعرف بالإصلاح المضاد. (Counter- Reformation) [1] وهذا الإصلاح هو بمثابة محاولة من البابا والمؤسسة من أجل احتواء الانشقاقات الداخليّة، وقد تكوّن هذا المجلس من لجنة من الكرادلة كلفت بالإصلاح المؤسسي، ومعالجة القضايا الخلافيّة مثل فساد بعض الأساقفة والكهنة، وصكوك الغفران، والتجاوزات الماليّة الأخرى.

1.1. اذ انعقد أول مرّة في سنة 1545م وهنا نجد أنّ موقف الكنيسة هو الذي خلق الأزمة نفسه مع لوثر وكالفن وهنري الثامن إذ رفض ترجمة الكتاب المقدّس الى اللغات المحليّة المحكيّة الإنجليزيّة والألمانيّة وهذا يعني تقريب معنى النص من الناس، وهو يقود الى كسر احتكار الكنيسة للتأويل والأمر الآخر تمثّل بصكوك الغفران التي ثارت عليها الثائرة من قبل لوثر، إلا إن موقف المجمع كان

(127)

راديكالي اذ أكّد على الاعتراف بالترجمة اللاتينيّة للإنجيل واستمرار الهرميّة وصكوك الغفران. مما يعني أنّه موقف رافض للإصلاح.

1. 2. ونجده أيضاً في إصدارات أخرى يقترب من كتاب هنري الثامن قبل خروجه على الكنيسة يوم أصرّ التجمع على عدة دساتير تعد جزءاً من التعليم اللاهوتي للكنيسة الكاثوليكيّة في شرح الكتاب المقدّس والأسرار السبعة. وهنا يقترب من ماهو مستقر في العقيدة الكاثوليكيّة وهو ما أكّد عليه المجمع في هذه الحقبة الأولى يوم أعلن أنّ الكتاب المقدّس والتقليد المتوارث من آباء الكنيسة هما: المصدران الصحيحان للإيمان الكاثوليكي وإنّ للكنيسة الحق الأوحد في تفسيرهما. وهو تماما ما انتقده كل من لوثر وكالفن ـ بحسب سياق هذا البحث ـ يوم انتقدا احتكار الكنيسة للتأويل وطالبا بالعودة الى الانجيل[1] مباشرة فإنّ الكنيسة تردّ في أثناء صراعها مع لوثر وتؤكد على ما جاء في المجمع وترفض وجهات النظر البروتستانتيّة حول الخلاص والخطيئة.

1. 3. أما في الدورة الثانيّة التي امتدت من سنة 1551م إلى سنة 1552م، فقد عرف المجمع طبيعة الأسرار السبعة وأعاد تأكيده على مبدأ التحوُّل الجوهري في القداس الإلهي مشكِلاً الأساس لفهم الافخارستيا بالمعنى المعاصر.

1. 4. وأمّا في الدورة الثالثة من 1562م إلى 1563م، فقد دافع المجمع عن صحة سر التوبة، وأقرّ شرعيّة طلب شفاعة القديسين، وعَرَّف ذبيحة القُداس، وكثيراً من العقائد الخلافيّة مع المصلحين البروتستانت.

(128)

وكانت كل قرارات هذا المجلس قد عالجت الجوانب التي تعاني من الضعف من أجل ترصينها في مواجهة الكنائس المنشقّة ولم يظهر في تلك الدورات التي عقدت أي تنازل وقبول باعتراضات الكنائس المنشقّة الأخرى . بل أنّ المجمع نادى بعودة الكنيسة إلى الهيكل الكنسي للعصور الوسطى بتعاليمها الدينيّة ونظامها المقدّس. ورفض أن يضع حلولاً وسطاً مع المذهب البروتستانتي وبدلاً من ذلك فقد أعاد صياغة المبادئ الأساسيّة للعقيدة الكاثوليكيّة الرومانيّة. واختلف مع البروتستانيّة في مبدأ التبرير بالإيمان، أجل فالخلاص يأتي من خلال الإيمان ولكن لابد من أن يصاحبه عمل، فالإيمان من دون عمل لا يوصل إلى الخلاص كما جاء في رسالة يعقوب (1- 22:26).

2-منظمة اليسوعيين Societas Iesuكان آخر شكل من أشكال الإصلاح الكاثوليكي في إحياء القواعد الروحيّة الكاثوليكيّة العتيدة وكانت هذه المنظمة قد مثّلت مرحلة من الفتوة في الكنيسة في مواجهة خصومها وقد أسسها جندي بعد تحوله الى رجل دين يدعى  «أغناطيوس دولويولا» سنة 1534م وقد ضمّت مجموعةً من رجال الدين الذين دافعوا عن البابا والكنيسة والقيام بالتبشير الديني، في أسبانيا التي كانت تحالف البابا، وتخالف انجلترا . ومن الأعمال التي قامت بها هذه المنظمة:

2-1- هي واحدة من أهم الرهبنيات الفعالة في الكنيسة الكاثوليكيّة، ومن أكبرها، كجزء من الإصلاح المضاد، في محاربة حركات الانشقاق سواء بالدعوة أم بالقوة؛ لهذا يُذكر أنها اكتسبت مسيحيين من البروتستانت وأعادتهم إلى الإيمان المسيحي الروماني.

(129)

2-2- كانت إحدى قنوات التبشير بالكاثوليكيّة اذ أخذت على عاتقها مهمّة التبشير فضلاً عن نشر الديانة في العالم الجديد. [1]

2-3-عند تأسيسها عَدّت الرهبنة اليسوعيّة «الأكثر حداثة ودلالة، لقد جسّدت الكفاءة والفاعليّة اللتين ستصبحان سمتين مميزتين للحضارة الحديثة». [2]

2-4-كما قلنا في تعريف هذه المنظمة التي كانت تظهر حركات الحروب الدينيّة إذ ظهرت الحاجة الى قوات مقاتلة وهي ظواهر ظهرت من قبلُ في الحروب الصليبيّة وهذا ما ظهر في هذه المنظمة التي نظمها اليسوعيون أنفسهم على وفق الخطوط العسكريّة، وجسّدوا الروح الأوتوقراطيّة في تلك الحقبة، وتميّزوا بالاختيار المتأني، والتدريب الصارم، والانضباط الشديد، وأكّدوا على أن الدنيويّة والعلمانيّة التي كانت تفشّت في كنيسة عصر النهضة لم يعد لها دور في النظام الجديد. [3]

2-5- واليسوعيون هم في الواقع هم ورثة لتقاليد الإصلاح الفرانسيسكاني، فقد قطعوا على أنفسهم عهوداً من الرهبانيّة والعفّة والطاعة، والفقر، وضربوا مثلاً أسهم في تحسين فعاليّة الكنيسة

(130)

بأسرها. وأصبحوا دعاةً وآباء باعتراف الملوك والأمراء، ومربين على غرار المربين المصلحين الإنسانيين [1].

2-6- وقد أدّت جهودهم إلى حد كبير إلى وقف البروتستانتيّة في: (بولندا، وبوهيميا، والمجر، وجنوبي ألمانيا، وفرنسا، وهولندا الإسبانيّة)، كما أنّهم شاركوا بقوة في توسيع الكنيسة في الأمريكيتين وآسيا، وقدّموا جهوداً ضخمة في المجال التبشيري الذي فاق بكثير البروتستانتيّة المتشددة للكالفينيين. [2]

2- محاكم التفتيش: كانت إحدى الوسائل التي اعتمدتها الكنيسة الرومانيّة في محاربة خصومها ممن تَعُدّهم هراطقة أو كفار؛ لأنهم يختلفون مع الأصوليّة التي تعتمدها، لهذا قامت بتأسيسها في القرن الثاني عشر ميلادي في أثناء مرحلة إسترداد الأندلس من أيدي المسلمين ثم إحياؤها؛ لتصفيّة حركة البروتستانت في القرن السادس عشر الميلادي، على يد حكام أسبانيا وقد اعتمدت على القسوة والبطش وهو انتهاك لشروط الاستسلام يومها، وخلال حروب الاسترداد بيد اللاتين الإفرنج وأُخرج منها المُسلمون، علماً أنَّه طوال هذه الحقبة كانت حُدودها تتغيَّر، فتتقلَّص ثُمَّ تتوسَّع، ثُمَّ تعود فتتقلَّص، وهكذا، تغيّر إلى هجوم، استناداً على نتائج الحرب بين المُسلمين والإفرنج. وقد ارتكبت الفظائع بحق المسلمين من محاكم التفتيش والتحوّل إلى المسيحيّة في ظل ضغط الكنيسة وقسوتها وعنفها الرمزي والجسدي الذي ظلّ يطارد العرب الموريسكيّة

(131)

كان عنفاً رمزياً يقوم على محو الهويّة الإسلاميّة وقد تجلّى بأشكال متنوعة من منع اللغة العربيّة وكتابتها في وقت كانت تمثّل ميراثاً معنوياً (الحديث بالعربيّة كان يعني المخاطرة بجذب انتباه محاكم التفتيش). [1] وكان الختان ممنوعاً كعلامة تميِّز الهويّة لهذا (كانت عقوبة الختان هي النفي الدائم وخسران جميع الممتلكات، وبذلت جهود لتعقُّب أولئك الذين كانوا يقومون بعمليات الختان) [2] كانت تلك الأوضاع قد أظهرت موقفاً غربياً عنيفاً وعصابي اتجاه الآخر. [3] فالحديث عن ظروف ظهور المحاكم مهم من أجل توضيح الأدوار التي قامت بها في القرن السادس عشر ميلادي، وما قامت به من وسائل عنيفة تقوم على الحرق والتعذيب ضد الخصوم إذ كما بيّنا سابقاً أنّها أحرقت المصلح جون هوس، وكثيراً من أمثاله.

3- الحروب الصليبيّة الداخليّة (الحروب الدينيّة ضد المنشقين من الإصلاحيين)

كانت الكنيسة تقدِم نفسها لتمثل المسيح على الأرض وبالآتي

(132)

هي وحدها من يمتلك المشروعيّة ومن أجل هذا تمارس العنف الرمزي مع المرتدين عن نظامها العقائدي الذي بات مغرقا على ذاته إذ تعدُّ الخروج عليه انحرافاً عن جادّة الصواب حتى بات الرأي المخالف ممنوعاً، وينبغي استئصاله بالقوة، إذا لزم الأمر. وهذا ما فعله الكاثوليك مع البروتستانت الفرنسيين، في القرن السابع عشر الميلادي. وقد يكون هذا التزمُّت نازع عن طبيعة العقل الانساني كما يقول مراد وهبة، اذ بات نزوع العقل نحو التوحيد، هو في الوقت ذاته، نزوع نحو المطلق. والإنسان ينشد الحقيقة المطلقة بحكم إحساسه بعدم السكينة، في هذا الكون المجهول. ”[1] ؛ على الرغم من أن الدين هو على العموم يشير الى السلام والمحبّة؛ إلا أِنّ جميع هذه الحروب كانت مرتبطةً بالتغيير الديني في تلك الحقبة والصراع والتنافس الذي أدّى إليه. [2] فإنّ الإصلاح كان يحاول تجريد الكنيسة من سيطرتها الكبيرة على مجريات الأمور في أوروبا، لم يكن نفوذها دينياً فحسب، بل كان لها نفوذ ورؤى وقرارات سياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة أيضاً، وكان لهذا الموقف ردود أفعال قويّة تمثّلت في الحروب الصليبيّة التي شنتها الكنيسة الرومانيّة على الإصلاحيين وقد استمرّت الحروب الدينيّة بصورة متعاقبة لمدة مائة وإحدى وثلاثين سنة بين عامي (1517 - 1648 ) م، وجرت في: (سويسرا، فرنسا، ألمانيا، النمسا، بوهيميا، هولندا، إنكلترا، سكوتلندا، إيرلندا،

(133)

والدنمارك). [1] إذ هيمن الطابع الديني على الحرب في أوروبا في القرون الوسطى، فكانوا يرون أنها تطبيق لإرادة الرب، وطاعتهِ وإستجابةً لنداءه عليك خوض هذه الحرب. ومن أهم الحروب الدينيّة:

1. حرب الـ 30 عاماً  ـ  ألمانيا البروتستانت والكاثوليك، وانتهت بأوبئة ومجاعات وتدمير شامل في كافة النواحي عام 1648 م، إذ أبادت 40 % من شعوب أوروبا الذين ينتمون للبروتستانت، وما يقرب من نصف سكان ألمانيا تحديداً.

2. كانت الكنيسة الكاثوليكيّة قد استعملت محاكم التفتيش؛ لبث الرعب في نفوس الناس وردعهم عن الخروج الكاثوليكيّة، ومحاكمة الهراطقة والمرتدين والمخالفين لأوامر الكنيسة، قديماً سواءً أكانوا من المسلمين[2] أم من البروتستانت، فقامت بإبادة الملايين بوسائل متعددة مثلـ الخنق والإحراق والإغراق والإعدام شنقاً واستعمال كافة وسائل التعذيب المروِعة المتّبعة في محاكم التفتيش آنذاك.

(134)

3. قسّمت الحرب الغرب المسيحي على قسمين: قسم كاثوليكي، وقسم بروتستانتي، ودارت بينهما المعارك والحروب التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من القتلى. ومن الأمثلة على هذه الحرب الوحشيّة ما جرى في فرنسا الذي يعدّ مثالاً صارخاً لها في عام 1562م وقد استمرّت الحرب اربعين عاماً كانت الحرب عبارة عن عمليّة إبادة يقوم بها رجال الدولة والكنيسة الرومانيّة ضد الاقليّة البروتستانتيّة، اذ قضت الحروب الثماني على مملكة فرنسا، عندما هجمت الجماهير الكاثوليكيّة على الاقليّة البروتستانتيّة في مختلف المدن والأرياف الفرنسيّة.

ونتج عن هذه المواجهة كثير من المعارك، من أشهرها تلك المجزرة الشهيرة باسم مجزرة سانت بارتيليمي التي ذهب ضحيتها أكثر من خمسة آلاف شخص، فما كان من البروتستانت الفرنسيين إلا الفرار إلى مختلف أنحاء أوروبا.

 

(135)

المبحث الثاني

 

موقف الكنيسة حالياً

(بعد التغيير في معنى النجاة والايمان)

أوّلاـ التحولات العلميّة وموقف الكنيسة منها:

في ظل التحولات الحديثة التي رافقت المنجزات العلميّة وتصاعد الحركات الوضعيّة التي تروم تطبيق المنهج العلمي على العلوم الانسانيّة إذ الحديث يتمّ فيها عن الأداتيّة في الفكر التنويري بوصفها الطبقة الأولى التي تظهر في البحث عن تكون العقل الأداتي هنا نرى ضرورة تبيان الإشكاليّة التي ولد داخلها خطاب التنوير إنها اشكاليّة الحداثة التي تظهر هنا بدلالتها التاريخيّة (مرجعيّة في أوروبا ابتداءاٌ من القرن الخامس عشر الى القرن التاسع عشر، مع ما صاحب هذه المدّة من أحداث مفصليّة انعطافيّة كبرى، ومنها اكتشاف العالم الجديد، والكشوفات الجغرافيّة، والإصلاح الديني في أوروبا، والنهضة، فكر الأنوار. . . وثانيهما فكريّة وفلسفيّة، حيث يشير مصطلح الحداثة الى بنيَة فلسفيّة وفكريّة تمثّلت، في الغرب، في بروز النزعة الانسانيّة بمدلولها الفلسفي التي تعطي للإنسان قيمة مركزيّة ومرجعيّة أساسيّة في الكون، وكذلك في بروز نزعة عقلانيّة أداتيّه صارمة في مجال المعرفة والعمل معاً، حيث نشأت

(136)

العلوم الدقيقة الحديثة، والعلوم الإنسانيّة الحديثة، والنزوعات الحديثة على أساس معايير عقلانيّة، صارمة، سواء تعلق الأمر بالعقلنة في مجال المعرفة، أم بعقلنة وترشيد الاقتصاد والإدارة، أم بالعقلنة القانونيّة والحقوقيّة. هذا بالإضافة إلى بعض السمات الفلسفيّة الملازمة والمتمثلة في غياب المعاني والقيم الكبرى) [1] يظهر واضحاً بين ما كان يعلنه التنوير بوصفه هدفاً للفكر التنويري في إقامة فكر عقلاني يهدف إلى معرفة الطبيعة من أجل إخضاعها للإنسان من خلال: «العقلانيّة، والفرديّة، والعلميّة» كل هذا طرح من خلال طرد الأسطورة أو السحر من الكون وجعله عقلانياً، وهكذا حدثت القطيعة المعرفيّة بظهور علوم جديدة. فقد ظهرت الوضعيّة Positivisme: (مذهب فلسفي يدعو الى ضرورة اقتصار العلم على وصف المظهر الخارجي للظواهر ورفض أي تخمين ميتافيزيقي، وقد أسس الفرنسي أوجست كونت[2] «1798م-1857م» هذا المذهب الذي نادى بوحدانيّة المنهج). [3]، بمعنى أنّ دراسة الظواهر الإنسانيّة مثل دراسة الظواهر الطبيعيّة؛ ومن هنا ظهر الصراع بين العلوم الإنسانيّة والعلوم الطبيعيّة، أي بين المناهج الكيفيّة والمناهج الوضعيّة التجريبيّة؛ في علاقتهما بالبحث عن الحقيقة. [4]

(137)

التي تطورت مع كونت؛ وصولاً إلى الانعطافة المعاصرة مع (الوضعيّة المنطقيّة) التي جعلت من معيار التحقق هو المعيار الأساس بين ما له معنى وما هو خالٍ من المعنى [1] ومنهج «أوجست كونت» في ربط العلوم الإنسانيّة بمنهج العلوم الوضعيّة: معنى الوضعيّة: لعل من المعروف لدى الكثيرين، إن مصطلحي (الوضعيّة ) و(القانون الوضعي) يعنيان الحقائق الموضوعيّة الموجودة في الطبيعة التي تدرك بالتجربة وتتحقق في عالم الحس. كذلك فإن الوضعي من الرجال والواقعي يكون شديد التقييد بالواقع، كثير التدقيق في أحكامه، حريصاً على التثبيت في جميع أموره. [2]

الى جانب ظهور تيارات سياسيّة وفكريّة تقدم نقوداً اجتماعيّة وفكريّة للدين مثل الماركسيّة وغيرها التي تركت أثراً في سلوك الناس، وموقفهم من الدين في كل هذا كان لابد للكنيسة من أن تقف موقفاً منه تبين وجهة نظرها منه. يمكن لنا رصد أحداث ومواقف للكنيسة من الأحداث التي حدثت:

1. في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي فإن التطورات المتسارعة في العلم والنظريّة الاجتماعيّة ودمقرطة المجتمع والحكومة ـ كما عرضنا في تأصيلنا،  ـ  قد هددت سلطة البابويّة بالخطر إلى حد أنّ البابا بيوس قد أصدر سنة 1864م بياناً شجب فيه: (الاشتراكيّة، والشيوعيّة، والعقلانيّة، والطبيعيّة، والفصل بين الكنيسة والدولة، وحريّة

(138)

الصحافة وحريّة الدين)، وقال: «إنّ الحبُر الروماني لايمكن أن يتصالح ويجب ألا يتصالح مع التقدم، والليبرالي، والحضارة الحديثة».

2. كان هذا البابا المعبأ للقتال، الخائف من تآكل السلطة البابويّة، اصدر في العام 1870 م بياناً أعلن فيه بمعصوميّة البابوات عن الخطأ في ظل شروط معيّنة؛ فليس «كل» أقوال البابا خلواً من الخطأ بل الأقوال التي تصدر عن السلطة البابويّة في شرح  «الوحي أو الإيمان الذي تم تسلمه من الرسل» أو الموروث الكاثوليكي.

3. الموقف من الحداثة في القراءة والنقد التاريخي الحديث المتعلق بالكتاب المقدس وعلى مكتشفات العلم الحديث، وهكذا جاءت إلى الوجود الحركة ذات العمر القصير التي تُدعى  «الحداثة الكاثوليكيّة» Catholic Modernism، التي كانت تتوخّى التوفيق بين الكاثوليكيّة والمعرفة العلميّة، والمناهج النقديّة الحديثة وحاولت مجموعة من الدارسين الكاثوليك أن تتوصل إلى تفاهم مع نظريات التطور البيولوجي والجيوفيزيائي، في حين تبنّى غيرهم النقد المتعلق بالكتاب المقدس والمتداول بين الدارسين البروتستانت. . . الخ

4. والأنجح في محاولة إلباس المذهب الكاثوليكي الأشكال الفكريّة الحاليّة هو  «التوماويّة الجديدة» هي المدرسة الفلسفيّة التي بُنيت على أعمال وأفكار توما الأكويني،

(139)

ويأتي اسمها من اسمه. وقد سميت كذلك؛ لأن ممثليها جان ماريتان Jacques Maritain (1882-1973م)والآخرين، كانوا يرومون الإعراب عن الفلسفة الكليّة لـ«توما الأكويني» بالمصطلحات الحديثة وتطبيقها على المسائل الحديثة. ولكنّ البابا ما زال الفيصل النهائي في ما هو سليم في اللاهوت والأخلاق وما هو غير سليم. وفي مايتعلق بالأخلاق كان البابوات يشعرون بمسؤوليّة عالميّة تجاه الأخلاق العامّة، وأيضاً أصبحت الكنيسة تدرك تماماً قيمة العمل على المستوى العالمي، لهذا عقد «المؤتمر الكنسي العالمي المتعلق بالقربان المقدس» الذي ينعقد كل بضع سنوات عندما تسمح الظروف العالميّة، في بقع مختلفة من العالم الكاثوليكي.

مواقف المراجعات التي قامت بها الكنيسة:

ومن ضمن سياق المسؤوليّة اتجاه العالم كانت هناك تطورات حديثة في العالم الكاثوليكي ولعل من أبرزها المؤتمر الذي انعقد في العام 1959م إذ أصدر البابا يوحنا الثالث والعشرون مذكرة دعوة تشمل العالم الكاثوليكي بأسره، وطلب أن يرسل المندوبين إلى مجلس مسكوني، يعرف بأنه الفاتيكان الثانيّة واجتمع المجلس في جلسته الأولى في سنة 1962 في روما وحضرها ألفان وخمسمائة أسقف من الكنيسة الكاثوليكيّة واجتمعوا في ثلاث جلسات أخرى في السنوات 1963، 1964، 1965، بدعوة من البابا بولص السادس،

(140)

الذي توفي سنة 1963م، وقد خلّف البابا يوحنا. ومن أهم القرارات التي اخذها هذا المؤتمر الاتيّة:

1- على المستوى الداخلي: الإذن بالاستعمال الأوسع للغة القوم في الاحتفال بالمناسبات المقدّسة والعبادات العامّة.

1.1. تأييد اشتراكيّة السلطة بين الزملاء بالتساوي، أو المبدأ الذي مفاده أن كل الأساقفة بوصفهم خلفاء للرسل يشتركون مع البابا في حكم الكنيسة. . .

2.1. والإذن للكاثوليك بالعبادة مع غير الكاثوليك في ظروف خاصّة، والاعتراف بإمكانيّة الخلاص خارج الكنيسة الكاثوليكيّة؛ والإعلان عن أن اليهود يجب ألا يعتقد بأنهم مسؤولون جماعياً عن وفاة المسيح. [1]

2- على المستوى الخارجي: إذ نلمس إعادة التقويم بالقياس الى الماضي الصراعي والدموي مع الآخر المسلم أو اليهودي أو الكنائس المسيحيّة الأخرى المختلفة مع تاريخ الكنيسة الرومانيّة أو تلك الإصلاحيّة التي انفصلت عن الكنيسة الرومانيّة.

1.2. منذ الأزمنة القديمة حتى الزمن الحالي يوجد بين الشعوب المختلفة إدراك ما للقدرة السريّة الخفيّة الدائمة في سير الطبيعة وفي أحداث الحياة الإنسانيّة؛ وفي بعض الأحيان توصل بعضهم إلى تبين كائن أعلى أو حتى أب ويخترق هذا

(141)

الإدراك حياتهم بإحساس ديني عميق. الهندوسيّة والبوذيّة ولا ترفض الكنيسة الكاثوليكيّة أي شيء حقيقي ومقدس في هذه الأديان، وهي تنظر بإجلال صادق إلى تلك الطرق في السلوك وفي الحياة، والى تلك الوصايا والتعاليم التي على الرغم من اختلافها في كثير من النواحي عن الوصايا والتعاليم التي تعتقد بها وتعلن عنها، فهي تعكس كثيراً شعاعاً من تلك الحقيقة التي تنير لكل البشر.

2.2. الاسلام: إنّ الكنيسة تنظر بإجلال إلى المسلمين كذلك، فهم يعبدون الله الواحد الحي الباقي بذاته، الرحيم والقدير على كل شيء، خالق السماوات والارض، الذي كلّم البشر، [ وهنا يرد قول عن المعتقدات الإسلاميّة بإبراهيم ويسوع والانبياء ومريم العذراء ويوم الحساب بعد نشور العالم]، وأخيراً، فإنّهم يقدرون الحياة الأخلاقيّة وعبادة الله، وخصوصاً من خلال الصلاة والزكاة والصوم. وعلى مر القرون كانت هناك مخاصمات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمين ولكن المجلس يحث الان كل شخص على نسيان الماضي وبذل الجهود المخلصة للتفاهم المشترك والعمل معاً من أجل المحافظة والتشجيع على العدالة الاجتماعيّة والصلاح الأخلاقي، والسلام والحريّة لكل الجنس البشري.

2.3. اليهوديّة: كما يبحث المجلس في سر الكنيسة؛ فإنه يتذكر الرابطة التي تربط شعب «العد الجديد» روحياً بذريّة أبراهيم [وهنا ترد فقرة حول دين الكنيسة لوحي العهد القديم ]

(142)

كنيسة تتذكر دائماً كلمات «بولص» الرسول حول أقربانه: «. . . لهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد، ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد» رسالة بولص الرسول إلى أهل روميّة 9:4-5.

وإذاً وما دام الميراث الروحي المشترك بين المسيحيين واليهود كبيراً جداً، فإن المجلس يود أن يشجع ويزكي التفاهم والإجلال المشترك وسيكون ذلك، فوق كل شيء، ثمرة الدراسات اللاهوتيّة والمختصّة بالكتاب المقدس وثمرة المحاورات الأخويّة. . . . . الخ

2.4. اما الكنائس المسيحيّة المتبقِية غير الرومانيّة: وفي افتتاح الجلسة الثانيّة قال البابا بولص إن الهدف بعيد المدى للمجلس كان الاتحاد الكامل والشامل بين كل المسيحيين وأثبت روح عودة العلاقات الوديّة في الكنيسة بزيادته في مناسبات مختلفة في غضون السنوات القليلة الآتية للقدس، والهند مرتين، والولايات المتحدة، والبرتغال، واسطنبول، وآسيا الصغرى، وآسيا، والمحيط الهادي، والتقى في روما وفي أماكن أخرى بشخصيات بارزة في البروتستانتيّة والكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة. [1]

وعلى الرغم من هذه التحولات التي قدّمتها الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة، الا إن هذا الانفتاح يبدو انفتاحاً جزئياً إذ لا يتناسب مع

(143)

التحولات المهمة التي جاءت بها الحداثة وكانت ردود الكنيسة صادمة؛ لكن هذا الانفتاح على الآخر كان بمجرد محاوله لاتصل حق الاعتراف بالآخر سواء كان مسيحياً أم يهودياً أو بوذياً لقد كانت الثوابت العقائديّة هي نفسها التي لم تؤدِ بالمستحقات والتحولات التي فرضتها العولمة وظهور الحركات الأصوليّة سواء كانت من التيارات الإصلاحيّة مثل الانجليكانيّة والأصوليّة السلفيّة في الإسلام، وفي خضم ظهور هذا الخطر كان يفترض بالكنيسة الانفتاح أكثر على الاسلام المعتدِل إلّا أن الامر لم يكن بحجم التحدي.

من المصاعب التي تواجهها الكنيسة في الوقت الحاضر:

1- الإرهاب والأصوليّة: والسمة المهمةّ التي ظهرت في هذه الحقبة هي الانفصال بين الثقافة والدين وهي السمة التي ساعدت في انتصار الأصوليّة المسيحيّة والسلفيّة اذ (على طوال عقد الثمانينيّات، قلّما شهد العالم أزمة سياسيّة ذات شأن في أحد أرجاء العالم لا تقف وراءها يد الدين غير المتواريّة تماماً. ففي الشرق الأوسط، تصادمت كل الأديان والحركات الأصوليّة في هذه المنطقة  ـ  يهوديّة كانت أم مسيحيّة أو مسلمة  ـ  على خلفيّة صراعات قديمة حول السلطة في إطار حروب أهليّة وغير أهليّة) [1].

2- الصراع بين الدولة العلمانيّة والكنيسة: قامت العلمانيّة في الغرب قبل كل شيء على قاعدة الصراع بين الجمهوريّة والكنيسة،

(144)

أي على الصراع بين مؤسسة مدنيّة ومؤسسة دينيّة وقد تناولنا هذا الصراع خلال تأصيل الصراع بين الجانبين خلال تعرضنا الى الإصلاح الديني، أما في الوقت الحديث إذ ثمة صراع بين الدولة الجمهوريّة والكنيسة اذ تشتد المعركة بينهما (بما في ذلك عندما يتقاسم الطرفان الإيمان ذاته ولاسيما انهما يستندان إلى الشرعيّة نفسها، وينتميان الى المجال البناء الاجتماعي ذاته) [1].

-3 الوثنيّة الجديدة: ثمة استطلاع للراي أجري في فرنسا عن الدين وكانت النتيجة 5 % فقط من أصل 70 % من الفرنسيين إنهم كانوا كاثوليك حقا وممارسين للشعائر الدينيّة. [2]، وقد أكّد أسقف بلجيكي أنّ كنيسته ستجد نفسها عما قريب أقليّة، . . . اذ لم يعد تأثير الشكل الجوهري. . . . وهبط عدد الأولاد الذين تلقوا تعليماً دينياً في فرنسا إلى مستوى منخفض جداً. [3] ليست التغيرات متعلقةً بالجنسانيّة وحدها فقط، بل هو تغير في العمق تغييب الله، وحقيقة كون الفرد مقياس لكل المعايير؛ عندئذ لايعود البحث عن الروحيّة متجها نحو الله بل نحو أديان ما بعد الحداثيّة، على ذلك فالوثنيّة تمكن في تغييب الله. . [4]

(145)

الخاتمة:

. بعد هذه الرحلة مع الإصلاح الديني في الغرب المسيحي، كان من الضروري الوقوف عند نتائج، قد جعلنا البحث بأزائها، اذ يبقى الإصلاح الديني حدث كبير بمسوغاته وأثاره التي ارتبطت بالتحولات التاريخية سواء كانت سياسية أم اقتصادية كانت قد مهّدت له، فضلاً عمّا يكتنزه التراث المسيحي من صراعات عميقة بين القراءة الرسميّة، والقراءات المنشقة التي اتُّهمت بالهرطقة، ثم دور الدولة الرومانيّة التي أحدثت تأويلا أخرج المسيحية من التوحيد الى عقيدة التثليث وهو تأويل كان له آثار عميقة على المسيحيّة بفعل تأويل بولص، فضلاً عن آثار الصراع العقائدي المسيحي اليهودي وحاول كل فريق من أن يحتكر طريق الخلاص ويحرم الآخر منه، فضلاً عن الصراعات التي ظهرت داخل الكنيسة حول الكتاب المقدس وتأويله وما فيه من منحولات وهي مقولات احتملت كثيراً حول النص من خلال القراءة التاريخية المقارنة. علاوةً على الانتقادات للمؤسسة الكنسية التي أُرجعت الى أسباب أخلاقية، لكن تبقى وراء تلك الانتقادات الصراعات بين الدولة والكنيسة؛ فهذه الجدليّة هي المحرك لكل هذا الخلاف، على الرغم

(146)

من أنّ هناك كثيراً من الأسباب الأخرى التي استعرضناها في الكتاب، ومن الممكن أن نستخلص نتائج لهذا البحث:

. إنّ الإصلاح يبقى هو عودة نظام ديني للنظر في قواعده الأولى على سبيل التحليل، والنقد بقصد المراجعة، بقدر ما هي حركة تقويم وعودة الى الأصول المشتركة وهي هنا النص المقدّس.

. يبدو أن هناك عوامل معينة كانت تكمن في الإصلاح الديني في أوروبا في القرن الخامس عشر الميلادي والتي قد أسهمت بدورها في تحويلهِ من إصلاح جزئي إلى إصلاح جذري بل دموي إذ خلّف كثيراً من الويلات والدمار في ظل تحشيد عاطفي للناس يولِد عنفاً رمزياً ضد المخالفين ـ الذين أطلق عليهم ـ بالضالين أو الهراطقة، وهي تسمية تمارس تنميطهم وتهيِج الناس من ضمن هذه الأجواء وقد تمّ تفعيل محاكم التفتيش من جديد؛ بسبب الفساد الذي ساد الكنيسة الكاثوليكيّة، وعدم تسامحها مع مخالفيها.

. على الرغم من الحروب الدموية التي قادها رجال الإصلاح ضد الكنيسة وعنفها المضاد، الذي خلق مجازر كبيرة وحروب استمرت زهاء 130 سنة خلّفت الويلات والدمار إذ كان من الممكن تجنبها، وكان رجال الإصلاح في أفعالهم الدمويّة لا يختلفون عن الكنيسة التي خرجوا عليها.

. على الرغم مما كانت تدعيه الكنائس الاصلاحية من رغبة في الإصلاح؛ الا أنها لم تكن راغبة في تغيير الأنظمة القائمة ولم تدعوا الى إزالة النظام الإقطاعي من خلال

(147)

هيمنة الأمراء، فقد وقف لوثر بمقابل أي ثورة للفلاحين ضد الأمراء حلفائه في حربهِ على الكنيسة.

. نجد أنّ لوثر قد برّر مثلاً، النهب والذبح، وعدّهما فعلاً إلهياً هدفه محاربة الأشرار، وقد عدّ أن كل مقاومة للملك السيد جريمة قدح في الذات الإلهيّة؛ لأن السيد يحمل صولجان الله.

. أما على الصعيد السياسي فقد أصبحت قوة الملوك المتزايدة تمثل تهديداً صارخاً لسلطة البابا والإمبراطور الروماني. أي هناك صراع بين الدولة والكنيسة كان هذا الصراع فاعلاً ومؤثراً، ويمثِل ضاغطاً لا يمكن إهمال دوره في تحريك الأحداث. وبالآتي يصح القول إنّ الاصلاح بالنتيجة يدافع عن مصالح الدولة والأمراء، ويريد لهم أن يكونوا هم البديل عن السلطة البابويّة في الأمور السياسية والدينية أي علمنة الفضاء الديني.

. على الرغم من أنّ استبداد الكنيسة لم يكن أمام رجال الإصلاح سوى التعاون مع الملوك أو الأمراء من أجل مواجهة البابا والانحرافات، وهذا غير ممكن إذ أكّد لوثر عبر رسالة الى حاكم مدينته “الدوق جورج” يقول فيها: يجب القيام بإصلاحٍ دينيٍ عامٍ للطبقات الروحيّة والزمنيّة .

. الجديد هنا ظهور بعد ثالث في العلاقة هو الفرد Individu فرد لم تكن في البداية إذاً سوى اسم أو الإطار الذي يسمح بحماية التجربة الدينيّة من تدخلات السلطة السياسيّة إلا

(148)

إن هذا الإطار يمكن أن يتطوّر ليصبح عندئذ إطاراً يحمي الإنسان من تدخل الدولة والكنيسة معاً.

. إن الإصلاح الديني لايتحقق من دون الحديث عن العوامل التي مهّدت الأرضيّة الى تطور الخطاب الإصلاحي وتأويله الجديد للدين الذي حاول من أن يتجاوز وساطة الكنيسة بين المؤمنين والله اعتماداً على الكتاب المقدس بوصفه بديلاً عنها؛ فهو كافٍ ليدلّ المؤمن على الله، أمّا الخلاص فهو عمل فردي ومجاني ينعم الله به على المؤمن، أمّا الكنيسة بتعاليمها ورجالها وباباواتها فليست بالضرورة وسيطاً بين الإنسان وربه وليس لها أي سلطان .

. لقد كان من نتائج الإصلاح ظهور الأصولية المسيحيّة الإنجيلية التي كانت على اتصال مع اليهود والصهيونيّة، اذ تُعد الأصوليّة المسيحيّة عنصراً أساسياً في التاريخ الديني والاجتماعي والسياسي الغربي إذ انتعش في البيئات البروتستانتيّة، وبلغ ذروته في القرن التاسع عشر الميلادي مع بداية التوسع الاستعماري والإمبريالي، وقد كان مركزها في البداية أوربا؛ لكنّها انتقلت إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة لاحقاً، وأصبحت مناصرة إلى الحركة الصهيونيّة العالميّة، وهي تعمل على تحقيق أهدافها.

. كانت تدعو الى عودة المسيح إلى أورشليم؛ من أجل تأسيس مملكة الله، وهي عقائد تتمركز حول القول بمقولات  «بالألفيّة» اذ هناك ثلاث حركات تنطلق من

(149)

هذا التصور التيولوجي المستنبط من تفسيرات للنبوءات الدينيّة الواردة في التوراة؛ لكن هناك تباين فيما بينها، فهي ثلاث حركات: أما الحركة الاولى فهي مهتمّة أساساً بقضيّة مؤشرات نهايّة الزمن، فيما تنشغل الثانيّة بقضيّة التقرب من اليهود من أجل المسيح، أمّا الحركة الثالثة فإن اهتمامها يتركز على الدفاع عن إسرائيل وعلى مباركتها، فعلى الرغم من تباينها إلا إنها تجتمع على ضرورة عودة اليهود الى فلسطين من أجل هدفها التيولوجي المتمثِل بعودة المسيح بأسلوب يقوم على التصور المعجز وحضور المسيح، مرتبط بوجود المدينة أورشليم ووجود اليهود باعتبارهم القوم الذي كانوا يمثِلون زمن المسيح إذ تعد الدولة إسرائيل كل هذا بمثابة تشكيل للأصوليّة المتطرفة الانجيليّة، وهي تسعى الى تحويل خطابها الأصولي المتخيّل الى وقائع على الأرض، كل هذا خلق تحالفاً مع اليهود، تحالفاً صبّ في مصالح اسرائيل ووحّد صفوفهم ضد الآخر الذي يمثل الشر، بالتأكيد التحالف قديم هو الموقف القديم من الإسلام والدين والبشر، في موقف تغذيه الصور الصراعيّة النمطيّة باتجاه الآخر .

. لقد كانت من نتائج الاصلاح وما تبعه من حروب هو ظهور النزعة العلمانية وهيمنتها على الواقع الثقافي والسياسي مما أدّى الى علمنة الفضاء الديني. اذ كانت الأصوليّات المتصارعة في الغرب جعلت من المجتمع يخوض حروباً

(150)

دينيّة مدمرة تم القضاء فيها على المذاهب المختلفة وجعل الدولة تحابي المذهب المهيمن، لكن على الرغم من منح هذا الأمر المشروعية للدولة، إلا أنّه قد خلق ردود أفعال تولّد منها الخطاب العلماني الذي انتشر بوصفه مذهباً فكرياً وبشكل مطّرد في القرن السابع عشر الميلادي، وهو ماسوّغ للمطالب الليبراليّة، ومنها مطالب جون لوك إذ أكّد على إنّ الانقسام بين أفراد المجتمع قائم على أساس ديني لهذا أكّد على انه ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينياً أو فكرياً أو اجتماعياَ.

. و قد هيمنت النزعة العدميّة في الثقافة الفلسفية الغربيّة كما جاءت مع سبينوزا - 1677 م متمثلة بمقولته “ فكرة الإله والإلحاد” . ومع كانط - 1804 م في مقولته  «نقد العقل والأنا النقديّة المتعالية». ومع هيجل - 1831 م “ الديالكتيــك وموت الإلـــه”. كانت تك الرؤية العدميّة نتيجةً لخسران الدين مكانه في الخطاب الثقافي الغربي وتحوله الى خطاب هامشي بفعل الكوارث التي نتجت عن الحروب الدينية. فالعدمية مظهر سلبي؛ لأنه علامة على مرض خطير ألمّ بالحضارة الغربية إذ لقبه نيتشه تارةً بالانحطاط، وأخرى بالانحلال.

. خسران الدين مكانته في المجتمع الغربي وتحوله الى خطاب ثانوي فضلاً عن حدوث انزياح في صياغة الدين وفي التفضيل العيني للشخص في الممارسة الدينية، فيما

(151)

المدوّنة، المتخيّلة ونظام التعاليم، لا تتحرك. فيما يتحرك هو الاستحواذ الفردي والتجسّد الاجتماعي لهذه الأسس.

. انتشار الأصوليّة الدينيّة والحركات المنحرفة وتحولها الى خطاب يستثمر ممكنات العلمانية: أصوليات دينية مسيحية، يهودية صهيونية، وهناك أصولية علمانية لأنّها المشترك بين الأصوليات، كما يرى جان ديبوا ومن هذه التعريفات يمكن استخلاص المكوِّنات الأساسية للأصوليّة: الجمودية «رفض التكيّف» و«جمود معارض لكل نمو، لكل تطور. والعودة إلى الماضي و«الانتساب إلى التراث» و«المحافظة». وعدم التسامح، الانغلاق، التحجّر المذهبي: «تصلب»، «كفاح»، «عناد».

(152)
المؤلف في سطور عامر عبد زيد كاظم الوائلي ا.د.عامر عبد زيد كاظم الوائلي، أستاذ الفلسفة ، جامعة الكوفة ، العراق. الاصدارات : الكتب الصادرة للباحث 12 كتابا فرديا : 1- كتاب اثر ابن سينا على الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط ، دار العارف ، بيروت ، 2010 . 2- المخيال السياسي في العراق القديم ، دار ينابيع ، دمشق ، 2010 . 3- من اجل أخلاقيات التسامح في ظل ثقافة اللاعنيف ، بين الحكمة ، بغداد ، 2010 . 4- نقد العقل العربي عند محمد عابد الجابري ، مكتبة مدبولي ، ط1 ، القاهرة 2014 . 5- قراءات في الخطاب الهرمنيوطيقي ، دار ابن النديم،ط1،بيروت 2012 . 6- مهيمنات السلطة واثرها في تشكيل الوعي الغربي ، دار نيبور،ط1،القادسية،2014 . 7- الفكر السياسي في بلاد ما بين النهرين ، الشركة العربية المتحدة ، ط1 ، القاهرة 2016 . 8- مقاربات في الديني والسياسي ،مركز التفكير الحر ، ط1، بيروت، 2014 . 9- الحداثة ومأزقها في خطاب مدرسة فرانكفورت ، دار تموز ، ط1 ، دمشق ، 2013 . 10- نظرية المعرفة، دار تموز، ط1 ، دمشق 2016 . 11- الادب الفلسفي ، دار تموز ، ط1 ، دمشق 2016 . 12- تجليات العقلانية ، دار ابن النديم ، ط1 ، بيروت ، 2016 .
هذا الكتاب الإصلاح الديني قراءة المفهوم في التجربة المسيحية الغربية تدرس هذه الحلقة من سلسلة (مصطلحات معاصرة) مفهوم الإصلاح الديني كمصطلح نشأ في البيئة الدينية للغرب المسيحي، والظروف التاريخية التي افترضته إثر الانشقاق الكبير الذي شهدته الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر الميلادي وأدت إلى ظهور البرونستانتية عبر مارتن لوثر وجون كالفن كحركة احتجاج على سكونية الكنيسة وتأخرها عن اللحاق بحركة الحداثة . المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف