قراءة المفهوم في التجربة المسيحية الغربية
تأليف
عامر عبد زيد كاظم الوائلي
مقدمة المركز
تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.
وسعياً إلى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.
أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحوالتالي:
أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.
ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أويجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.
ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.
رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.
* * *
تدرس هذه الحلقة من سلسلة (مصطلحات معاصرة) مفهوم الإصلاح الديني كمصطلح نشأ في البيئة الدينية للغرب المسيحي، والظروف التاريخية التي افترضته إثر الانشقاق الكبير الذي شهدته الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر الميلادي وأدت إلى ظهور البرونستانتية عبر مارتن لوثر وجون كالفن كحركة احتجاج على سكونية الكنيسة وتأخرها عن اللحاق بحركة الحداثة.
والله ولي التوفيق
تمهيد
أما على صعيد الفهم والتأويل فإن محاولة القراءة تسعى قدر المستطاع إلى توخي الموضوعيّة على الرغم من كون الموضوعيّة ـ أحياناً ـ تحول من دون تحقق القراءة وتمنع تحققها. الا إننا نسعى الى التقديم لهذه الدراسة نسعى الى التقديم للإصلاح الديني بوصفها ظاهرةً ثقافيّة ودينيّة؛ لأن التقويم للنص ونقده تسهم الى حد بعيد في بيان مكاسبه ورسم حدوده الإشكاليّة التي ولد داخلها على صعيد المفهوم والإشكاليّة الثقافيّة والاجتماعيّة التي ولد المفهوم داخلها. واللغة التي نكتب بها تبقى تحمل في الفاظها خزينها الثقافي والاجتماعي؛ فهذه اللغة تؤكد في تعريفها «الإصلاح لغة»، فالإصلاح وصفاته ومجالاته المتعددة: (السياسيّة والدينيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والثقافيّة)، الإصلاح: (هو تغيير الأحوال من السيئ إلى الأحسن، ومن الفوضى والمخالفة إلى الالتزام والاستقامة) [1]. فهو إذاً تقويم ما هو قائم وإزالة ما يعتريه من خلل ونقص وفساد: (الإصلاح هو ضد الفساد وأصلح الشيء أي أقامه، زال عنه الفساد، وأصلح ذات بينهما زال ما بينهما من عداوة وشقاق) [2] ؛ إلا إننا نجد أن الإصلاح بحسب الممكنات اللغويّة في لغة العرب يقابل بالضد من مفهوم الثورة على الرغم من كونهما يتفقان أي: (الإصلاح والثورة): بأنهما يهدفان إلى تغيير الأحوال، إلا أن التغيير في الإصلاح لايعتمد على (العنف منهجاً، ولا الاستعجال طريقاً، بينما تقوم الثورة على العنف والتغيير السريع[3]). وعلى صعيد الاصطلاح فإن الإصلاح: (هو تحسين وضع أو تعديل ما هو خطأ، أو الفاسد، أو غير المرضي، وما إلى ذلك. ويتميز الإصلاح عن الثورة بكون هذه الأخيرة تسعى للتغيير الشامل اوالجذري، في حين أنّ الإصلاح يهدف لمعالجة بعض المشاكل والأخطاء الجادة من دون المساس بأساسيات النظام. وبهذا فإن الإصلاح يسعى لتحسين النظام القائم من دون الإطاحة به بالمجمل. (فالعصر الوسيط كان يمتلك جوانب مشرقة رغم أن العقليّة القروسطيّة لم تمتلك إلا أقل الكلمات للتعامل بها وكانت اكثر عنايّة في تعريفها ولغتها [4]) .
المفهوم الاصطلاحي:
كل مفهوم أو نص هو شبكة من المفاهيم تربط بينها مفاهيم يعبر عنها على نحو صريح أو ضمني في كلمة أو جملة أو فقرة وعلى التحليل أن ينسج خيوط تلك الشبكة، وانطلاقاً من هذا التصور نجد أنّ مصطلح الإصلاح الديني Reformation دخل هذا المصطلح في التداول لوصف الحركات الدينيّة التي اجتاحت أوربا في القرن السادس عشر الميلادي. إذ كانت كلها تدعو إلى إصلاح الكنيسة، وتخليصها من الشوائب والممارسات الخاطئة، بتمسكها بحقها وحدها في تفسير أحكام الدين وتطبيقاتها على النحو الذي تراه، ومنع الآخرين من هذا الحق، ولاسيما قضايا الإيمان، وممارسة الأسرار المقدسة، وسيطرة الكنيسة على تربيّة الأفراد والتزامهم حيالها، واحتكارها منح صكوك الغفران. تمخضت حركة الإصلاح عن ظهور ما يعرف بالكنائس الإنجيليّة. تلك الكنائس التي جاءت بتأويل جديد يفقد الكنيسة احتكارها النص وتفسيره وإقامتها الطقوس التي تحول من دون فهم النص وتفسيره وخصوصاً عبر إصرارها على ابقائه باللغة اللاتينيّة، حتى تكون وحدها من يفسره ويفهمه، مما خلق صراعاً بين الكنيسة وخصومها على امتلاك الصراط المستقيم بين الدين الطقسي الكنسي أو الإيمان كديانة ضمير فرديّة.
فإنّ الاصطلاح الذي يقدِمه الإصلاح الديني يقوم على مسار من الحجج بعدِه نظاماً للبرهنة مهمته تأسيس موقف أو دحضه أو التمهيد معاً وعلى القارئ أن يكشف عن معنى النص سواء باعتماد برهنة في فهم النص أم فهم المصطلح من أجل اكتساب المعنى أو الصراط المستقيم، فهذا الصراع ليس فقط رمزياً بل هو صراع على الثروة وإدارة المجتمع في العصر الوسيط، وانطلاقا من تلك الأفكار يمكن النظر الى مفهوم الإصلاح، اذ في الوقت الذي نجد الدلالة اللغويّة للاصلاح في الانجليزيّة بين مفهومين Repair تصليح: أي إدامة وإصلاح ما هو قائم ترقيع ما هو قائم عبر التغير الجزئي وهو حال المطالب الأولى التي جاء بها أهل الإصلاح من داخل الكنيسة ومنهم أصحاب المذهب الانسانيوي من المسيحيين التابعين الى الكنيسة الذين كانوا يطالبون بإصلاح أخلاقي وإداري وحريات عامة وReform إصلاح: وهو تغير وإعادة تشكيل بشكل كامل وهو قريب من مفهوم الثورة الجذريّة. يبدو أنّ ظاهرة الإصلاح الديني تقع بين المفهومين فهي وإن كانت توصف بكونها حدثاً مثل قطيعة في نسق سياسي ومعرفي معين استمر عهد طويل، لعل هذا يظهر من خلال الحفر في دلالة المفهوم Larousse التي تعني الإصلاح بوصفه تغييراً عميقاً وجذرياً لشيء ما، سواء كان بخصوص مؤسسة ما قصد تحسين أدائها أم غير ذلك. [5] لكن على الرغم من هذا فإن الإصلاح يبقى هو عودة نظام ديني للنظر في قواعده الأولى على سبيل التحليل، والنقد بقصد المراجعة، والتقويم . وهذا ما يظهر في أصل المفردة الفرنسيّة (reforme) القادمة من اللاتينيّة، والتي تدل على معنى «إعادة البناء وعلى التشكيل من جديد [6]. ، أي يبقى الإصلاح تقويماً ومراجعةً ولم يصل الى الثورة التي تحدث قطيعة مع القواعد، بقدر ما هي حركة تقويم وعودة الى الأصول المشتركة وهي هنا النص المقدس.
اما إذا نظرنا من زاوية تأليفيّة نحاول بها أن نربط المفهوم بالوقائع من خلال ترجمة المعنى الحقيقي للاصلاح هل كان فعلا لفظة (المفهوم Larousse) التي تعني الإصلاح بوصفه تغييراً عميقاً وجذرياً قد تحقق فعلا على أرض الواقع، اذ نجد أن الإصلاح كان قد ارتبط بكثير من الأحداث الاجتماعيّة وأثّر فيها بعمق باعتماده على الأدوات العنيفة الحادّة من الطرفين (الكنيسة الرومانيّة وأهل الإصلاح معا)، في أوروبا في القرن الخامس عشر الميلادي. يبدو أن هناك عوامل معينة كانت تكمن في الإصلاح الديني والتي قد أسهمت بتحويلهِ من إصلاح جزئي إلى إصلاح جذري بل دموي خلّف كثيراً من الويلات والدمار في ظل تحشيد عاطفي للناس يولد عنفاً رمزياً ضد المخالفين ـ الذين أطلق عليهم ـ بالضالين أو الهراطقة، وهي تسمية تمارس تنميطهم وتهيِج الناس ضدهم فقد عاقب الغوغاء الضالين قبل أن تشرَع الكنيسة في إضطهادهم بزمن طويل، حتى أنهم كانوا يتذمرون من تهاون الكنيسة مع الضالين، ويبين المؤرخ كاولتون في كتابه: «خمس قرون من التدين» :«إنهم كانوا ـ أي الغوغاء ـ يختطفون المنشقين عن الديانة المسيحيّة من أيدي القساوسة الذين يحمونهم 178-ج1، ص 308 [7]؛ لكنّ هذا الكلام وإن كان يكشف التشدد الاجتماعي إلا إنه انعكاس للتشدد الديني، وهذا ما نجده في هذا القول (صاح البابا بولص الثالث (1534-1539م) من شدة الهلع الذي اصابه عندما سمع بكثرة أعداد المهرطقين وانتشارهم في الأصقاع جميعها: «لو أن أبي ذاته كان مهرطقاً؛ لجمعت الحطب لحرقه» (179-ج27، 42))[8] من ضمن هذه الأجواء تم تفعيل محاكم التفتيش من جديد؛ بسبب الفساد الذي ساد الكنيسة الكاثوليكيّة، وعدم تسامحها مع مخالفيها، وقد كان لظهور البروتستانتيّة والكنائس المسيحيّة الأخرى المخالفة، التي قامت في الأساس بالإصلاح الديني الأثر الكبير في ذلك الا أنه إصلاح لا يسعى الى تغيير ما هو قائم من نظام إقطاعي من خلال هيمنة الأمراء، فقد وقف لوثر بمقابل أي ثورة للفلاحين ضد الأمراء حلفائه في حربهِ على الكنيسة؛ لهذا نجد لوثر (قد برّر مثلاً، النهب والذبح، واعتبرها فعلاً إلهياً هدفه محاربة الأشرار، واعتبر أن كل مقاومة للملك السيد جريمة قدح في الذات الإلهيّة؛ لأن السيد يحمل صولجان الله) [9] لقد كانت تلك التأويلات قد عمّقت الصراع وجعلت التغير عنيفاً بل دموياً، وعلى الرغم من هذا يعده البعض بداية العصر الحديث، فالإصلاح كان يعبر عن ظروف اجتماعيّة وسياسيّة بغض النظر ان كانت ايجابيّة أو سلبيّة؛ إلا إننا نحاول هنا استقصائها حتى نتبين هل الإصلاح كان عميقاً ام مجرد ترقيع ما هو قائم فيظهر أن هناك صراعات على صعيد المؤسسة الدينيّة أي الصراعات الداخليّة في المؤسسة الدينيّة، والتي كانت في البداية بمثابة محاولة لإحداث التغيير في الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة؛ لكن كان من نتائجها مولد البروتستانـتيّة. فقدت الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة قدراً كبيراً من نفوذها خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين إذ أضعفتها النزاعات الداخليّة وخصوصاً من رجال الدين الشبان الذين تلقوا تعليماً بإحدى الجامعات اللاهوتيّة كانوا من المطالبين بالإصلاح، فيما كان رجال الدين الكبار الذين شكلوا تيارات متصارعة على داخل الكنيسة الكاثوليكيّة خصوصاً في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، كل هذه الممارسات الى جانب تعاظم ثيوقراطيّة الكنيسة أسهمت في رغبة من داخل الكنيسة لدى رجال الدين بالانعتاق من هيمنة الكنيسة وقسوتها على العلماء الذين تمّ حرقهم، وهم أحياء بدعوى مخالفتهم لتعاليم الكنيسة فضلاً عن حرق كتبهم مما أسهم في تقييدها للعقل خصوصاً بعد ابتداع الكنيسة لنظام “محاكم التفتيش”. الى جانب بعض الممارسات الخاطئة المتمثلة بانحراف رجال الدّين ونسيانهم لدورهم الأخلاقي والدّيني، إصدار الكنيسة لصكوك الغفران، فضلاً عن فرض الكنيسة للكتاب المقدَّس باللغة اللاتينيّة واحتكارها لفهمه وتفسيره. علاوةً على انتشار العامل القومي، كل هذا وفّر الظروف في تقبُّل الإصلاح من داخل المؤسسة الدينيّة.
أما على الصعيد السياسي فقد أصبحت قوة الملوك المتزايدة تمثل تهديداً صارخاً لسلطة البابا والإمبراطور الروماني. أي هناك صراع بين الدولة والكنيسة [10] . تلك العلاقة الصراعيّة بين الاثنين التي بدأت منذ ربيع 1075م إذ أصدر جوريجوري مرسوماً يقضي بالغاء التقليد العلماني، أي النظام السابق والذي كان يقوم فيه الحكام العلمانيّون بتعيين رجال الدين من كهنة وأساقفة في وظائفهم الكنسيّة، هذا المرسوم جعل الخاتم والصولجان في يد البابا، او بعبارة أخرى فرض هيمنة البابا على رجال الدين. [11] وهذه الهيمنة تعود الى أمرين الأول كونها حاكميّة متوارثة عن المسيح لأنّ الكنيسة مُمَثَّلَةً بشخص البابا إنما هي خليفة الرسول “بطرس” ووريثة صلاحيّاته، وإنّ هذه السّلطة المتوارَثة منصوصٌ عليها في إنجيل متّى، ومنها ما يأتي: ما ورد على لسان المسيح (عليه السلام) (أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وقُوَّاتُ الجحيم لن تقوى عليها وأُعطيكَ مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون قد رُبط في السماء، وما تحلُّه على الأرض يكون قد حُلَّ في السماء) (إنجيل متى 16: 18 ـ 20). ما ورد على لسان المسيح (أقول لكم: إنَّ كلَّ ما تربطونه على الأرض، يكون قد رُبِطَ في السماء ما تحلّونه على الأرض يكون قد حُلَّ في السماء). (إنجيل متى 18: 18). ؛ والثانية كونها تمثل قدرة روحيّة كما تجلّت في صكوك الغفران في كونها تقوم على أساس أنّ (البابا قادرٌ على إصدار صكوك غفران تجب الخطايا من كلَّ نوعٍ مستمدةٌ من النظريّة القائلة بأنّ القدّيس “بطرس” وخلفاءه قد خُلِعتْ عليهم مَيَّزةُ توزيع فيضٍ لا ينضبُ من الثواب على المؤمنين. وهذا الفيض من الثواب يرجع أصلاً إلى تضحيات المسيح؛ ثم زاد على مرِّ السنين بالأعمال الخَيّرة التي قامت بها أجيالٌ متعاقبةٌ من المسيحيين المؤمنين)[12]. بهذا تم تأبيد سلطة البابا وتحويلها الى سلطة مطلقة متعاليّة على النقد.
ولم يكن أمام رجال الإصلاح سوى التعاون مع الملوك أو الأمراء من أجل مواجهة البابا والانحرفات، وهذا ما يمكن رصده في بحثنا عن ظاهرة الإصلاح تاريخياً إذ نجد نماذج “الإصلاح الديني”يوم طالب لوثر عبر رسالة الى حاكم مدينته “الدوق جورج” [13] يقول فيها: (يجب القيام بإصلاحٍ دينيٍ عامٍ للطبقات الروحيّة والزمنيّة) [14]. في أوروبا ضد هيمنة الكنيسة والإقطاع وتسلطهما على العقل الإنساني والعمران البشري في العصور الوسطى المظلمة في أوروبا. وقد علَّق المؤرِّخُ “ول ديورانت” على ذلك بقوله: “وقد أضفت هذه الكلمة على ثورة لوثر اسمها التاريخي”. [15] وهناك من يربط الإصلاح الديني بين 1517 إذ علّق لوثر مقالاته الخمسة والتسعين على باب كنيسة وتنساغ Wittanberg في ألمانيا الى 1570م [16] إذ كان حدث الإصحاح قد مثّل قطيعةً في نسق سياسي ومعرفي معيّن استمر عهداً طويلاً، لعل هذا يظهر من خلال الحفر في دلالة المفهوم Larousse التي تعني الإصلاح بوصفه تغييراً عميقاً وجذرياً لشيء ما، سواء كان بخصوص مؤسسة ما قصد تحسين أدائها [17]
فكان الإصلاح محاولةً الى مراجعة القواعد التي قامت عليها سلطة الكنيسة والدولة وإعادة تشكيل البناء على أسس جديدة، وهذا يعني وضع حد فاصل بين المناظرة الثنائيّة التي يمثلها كل من «الإمبراطور» و«البابا» من أجل تسييج مجال تحرك كل منهما، وهو ما من شأنه أنْ يترتب عليه عدم تدخل البابا في الشأن السياسي الزماني، وكذلك عدم تدخل الإمبراطور في الشأن الديني.
الجديد هنا ظهور بعد ثالث في العلاقة هو الفرد Individu فرد لم تكن في البدايّة إذاً سوى اسم أو الإطار الذي يسمح بحماية التجربة الدينيّة من تدخلات السلطة السياسيّة إلا إن هذا الإطار يمكن أن يتطور ليصبح عندئذ إطاراً يحمي الإنسان من تدخل الدولة والكنيسة معاً. [18] لقد كان مع لوثر تأكيدٌ على الايمان والتجربة الدينيّة التي أدركها بالعودة الى نصوص المؤسسة لدى المسيحيّة إذ وجد بولص يؤكد على أنّ «الخلاص لا يتحقق إلا بالايمان» فاقتفى لوثر أثره بلزوم أن تكون المسيحيّة مقتصرة على الإيمان وحده. [19] والجماعة التي التحقت بلوثر تحدث نفسها للايمان مثلما طالب بولص المؤمنين بقبول النشور ومثلما طالب يسوع الحشود بالإيمان بأن معجزاته ملكوت الله قد جاءا. . . الحياة وسط هذه التحديّات بالايمان هي معركة داخليّة لتحقيق اليقين. [20] كان منهج الايمان هذا مختلفاً عما كان سائداً في الفلسفة المدرسيّة وتأكيدها على أرسطو (كان لوثر يؤكد «من العبث أن يضع أحدهم منطقا للايمان؛ » لاننا لسنا بحاجة إلى البراهين العقليّة كي نؤمن. [21] ؛ لكن هذا الاعتزاز بالفرد واستقلاله كان لابد من أن يصل في الغرب إلى ما سوف يُمهِد الى نمو الروح الفرديّة، منذ ذلك الحين، لم يعد الإنسان يعنى ببلوغ المطلق بقدر عنايته بدراسة الطبيعة؛ بغية السيطرة عليها. . . ولكي يهتدي إلى الخليقة)[22].
كانت تلك الأفكار الإصلاحيّة قد ظهرت في أوروبا وعلى وجه التحديد في ألمانيا في القرن السادس عشر الميلادي. وكان لهذه الحركة آثارها البعيدة في تاريخ أوروبا، عندما اعتنق كثير من الأوروبيين المبادئ التي أعلنها مارتن لوثر وغيره من المصلحين من أمثالـ «جون كلفن» و «أولرنج زونجلى»، ومن ثمّ فإن المذهب الكاثوليكي لم يعد هو المذهب السائد في أوروبا إذ بدأ المذهب البروتستانتي ينتشر في أوروبا، وكان لذلك أثره في قيام الحروب الدينيّة في أوروبا طوال القرن السادس عشر الميلادي والنصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي، كما أدّت إلى تفتيت الوحدة الدينيّة التي كانت تتمتع بها أوروبا في العصور الوسطى. ولما كانت الحروب الدينيّة قد اصطبغت بالطابع السياسي إلى حد كبير؛ (لقد أدّى الإصلاح إلى إضعاف المسكونيّة المسيحيّة فلم يعد العالم المسيحي صفاً واحداً إلا أنّ علاقاته مع الاسلام، إنّ ماتم بعد الآن هي الدول التي يتوزع العالم المسيحي فيما بينها، وكل هذه الدول تجسد ارادتها في الوجود وفي الحياة..) [23] ؛ وبهذا فإن الإصلاح كان يعني أحداث مقاربة مختلفة لما هو سائد في الكنيسة الرومانيّة، وليس الامر إصلاحات طفيفة؛ بل أن الامر كان عنيفاً ومؤلماً، لكن لم يتجاوز المطالب التي أقرّتها السلطة السياسيّة ونظامها الاقطاعي، الا ان الظروف التي جعلت من الإصلاح يحقق كثيراً من مراميه ويغدو صاحب اثر بعيد المدى هو جملة من الظروف الاجتماعيّة والتقنيّة منها إنّ انتشار الطباعة ساعد في ترويج الثقافة المحليّة والكتب ولاسيما الكتاب المقدّس الذي غدا بين أيدي الجمهور، اذ كان لاختراع الطباعة أحد العوامل لإنجاح الإصلاح والنهضة، فمثلاً طباعة الكتب اصبحت أسهل من ذي قبل. [24] ؛ لكن رافق وأسهم في توسيع ظاهرة الإصلاح الديني في الغرب متمثلة في انتشار الطباعة في أوربا الغربيّة، وفي العام 1453م، فقد اخرجت مطبعة غوتنبرغ أول كتاب مطبوع، الكتاب المقدس، وسرعان ما بدأت آلات الطباعة بالانتشار في أرجاء اوروبا معيدةً لإنتاج جميع المواد القديمة التي تدفّقت من الشرق. [25] فضلاً عن ظهور الحركة الانسانيويّة، وهي حركة كانت تهدف إلى تحقيق الاحياء، وهي تضم مجموعة من العلماء الذين اوقفوا كل ما يملكون من مال وجهد في سبيل ازدهار هذه الحركة؛ لذلك كانوا يبحثون عن القديم بكل شغف وشوق دون ان ينظرون إلى المقابل المادي يصبغونه بطابعهم الخاص. وهناك حدث ثالث كان له أثر عميق في التحول الثقافي والحضاري على أثر انتقال عدد كبير من العلماء الإغريق إلى ايطاليا بعد فتح العثمانيون القسطنطينيّة 1453م، من أمثال كريزلوراس (manvel chrisoloras) والعالم يساريون (bessarion)[26]. وقد رافق هذا تحول اجتماعي رابع تمثّل في صعود البرجوازيّة ومن ثمّ ظهور النزعة القوميّة، والتي قادت إلى تغذية روح التمرد على سلطة الامبراطور والبابا، للاستقلال بشؤونهم الماليّة وبناء قوات مسلحة خاصة بهم.
لا يمكن أن نفهم الإصلاح الديني من دون الحديث عن العوامل التي مهّدت الأرضيّة الى تطور الخطاب الإصلاحي وتأويله الجديد للدين الذي حاول أن يتجاوز وساطة الكنيسة بين المؤمنين والله باعتماد الكتاب المقدس بوصفه بديلاً عنها فهو كافٍ ليدل المؤمن على الله، أما الخلاص فهوعمل فردي ومجاني ينعم الله به على المؤمن، أما الكنيسة بتعاليمها ورجالها وباباواتها فليست بالضرورة وسيطاً بين الإنسان وربه وليس لها أي سلطان.
حاولنا في التمهيد استعراض المباني لخطاب الإصلاح الديني المسيحي وهو ما سوف نستعرضه بشكل موسع في الفصول الثلاثة لهذا الكتاب.
[1] 3-1/. تاج العروس 9 / 3. الصحاح 1 -2-1/ 5. أساس البلاغة 3 -/ - 1 انظر: لسان العرب 6
[2]-تهذيب اللغة 4/243، لسان العرب 3/ 422.
[3]-. 68- 67/ 58 التعاريف، للمناوي 1 / - 2 التبيان في تفسير غريب القرآن.
[4]-مجموعة من النقاد، إستنطاق النص، ترجمة وإعداد، محمد درويش، دار المامون، ط1، بغداد، 2014 م، ص 44.
[5]- المرجع نفسه.
[6]- المرجع نفسه.
[7]-بسام اسخيطه، قصة محاكم التفتيش في العالم، دار هبا للنشر والتوزيع، ط1، دمشق، 2000م، ص 26.
[8]- المصدر نفسه، ص 35.
[9]-جان جاك سوفالييه، تاريخ الفكر السياسي، ص 258-260. وانظرـأيوب ابو ديّة، علماء النهضة الأوربيّة، دار الفارابي، بيروت، 2010م، ص65
[10]-انظرـ موريس بيشوب، تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة، على السيد علي، المركز الاعلى للثقافة، القاهرة، 2004م، 11-43.
[11]-موريس بيشوب، تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، ص54.
[12]-هربرت فيشر، أصول التاريخ الأوروبي الحديث، ترجمة، زينب عصمت راشد وآخرون، دار المعارف، القاهرة، 1965م، ص 99.
[13]-حاكم مقاطعة فتنبرغ الألمانيّة التي كان لوثر يعيش فيها آنذاك.
[14]-ديورانت، ول. قصة الحضارة، الكتاب 14، ترجمة عبد الحميد يونس، طبعة الإدارة الثقافيّة بجامعة الدول العربيّة، ص 352.
[15]-المصدر نفسه، ك 23، ص20.
[16]-باسم الجمل، الإصلاح الديني الحديث بأوروبا مساراً تاريخياً، موقع مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قسم الدين وقضايا المجتمع الراهنة.
[17]- المرجع نفسه.
[18]-انظرـ تزيفيتان تودوروف، روح الأنوار، ترجمةـ حافظ قويعه، دار محمد على للنشر، ط1، صفاقس، 2007م، ص64.
[19]-جينيفر مايكل هيكت، ت
469.
[22]-انظرـ كلودد يسلماس، تاريخ الحضارة الأوربيّة، الناشر، الفن الحديث العالمي، ط1، د. ت، 95.
[23]- انظرـ كلودد يسلماس، تاريخ الحضارة الأوربيّة، 99، 100.
[24]- عبد العزيز سلمان، وآخر، التاريخ الأوربي الحديث، دار الفكر العربي، دون طبعة، القاهرة، 1999م، ص32.
[25]- جينيفر مايكل هيكت، تاريخ الشك، ص 461.
[26]-عبد العزيز سلمان، وآخر، التاريخ الأوربي الحديث ص 34.
اريخ الشك، ترجمة، عماد شيحه، المركز القومي للترجمة، ط1، القاهرة، 2014م، ص 468.
[20]-المرجع نفسه، ص 469.
[21]- المصدر نفسه، ص