فهرس المحتويات

مقدِّمة المركز | 7

مقدِّمة | 9

الفصل الأوَّل : النَّقد الأدبي لغةً واصطلاحاً ووظائف | 11

النَّقد لغةً | 12

النقد اصطلاحاً | 13

بين الأدب ونقده | 14

وظائف النَّقد الأدبي | 17

الفصل الثاني : النَّقد اليوناني والرُّوماني القديم | 19

النَّقد الكلاسِّي الرُّوماني | 33

النَّقد الكنسي | 38

الفصل الثالث : النَّقد الأدبي العربي القديم | 39

1- النَّقد التأثري الانطباعي | 40

2- النَّقد الأدبي المعياري | 43

3- بدايات النَّقد المنهجي - جمع الملاحظات والآراء النَّقديَّة | 47

4- النَّقد المنهجي | 54

الفصل الرَّابع : النَّقد الأدبي في أوروبا، في عصر النهضة | 97

1- الكلاسيكية | 98

2-  بين القديم والجديد، في تطوّر الحركة الأدبيَّة | 102

الفصل الخامس : مناهج النقد الأدبي الحديث | 107

1- صاحب طريقة، «سنت بيف» (1804 – 1869) | 109

2- الانطباعيَّة (Impressionisme) | 111

3- في سبيل نقد علمي | 114

4- المنهج التَّاريخي | 116

5- المنهج الاجتماعي، البنيويَّة التكوينيَّة | 119

6- المنهج النَّفسي | 129

7- المنهج الموضوعاتي | 135

8- المنهج الشَّكلي، أو المدرسة الشكليَّة والشِّعريَّة | 140

9- المنهج البنيوي، البنيوية (Structuralisme) | 149

10- المنهج الأسلوبي، أو الأسلوبية - Stylistique

11- المنهج السِّيميولوجي | 156

12- ما بعد البنيويَّة المنهج التفكيكي، التفكيك | 160

خاتمة: في نقد النَّقد - تعدُّديَّة وتكامل | 168

العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية سلسلة مصطلحات معاصرة 22 النقد الأدبي مفهومه ومساره التاريخي ومناهجه عبد المجيد زراقط
هذه السلسة تتغيا هذه السلسة تحقيق الأهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها،وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار،والتعرف على النظريات والمناهج التي تشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة. ثانيا:إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لا سيما وأن كثيرا من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقة. ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب ، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية الإسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية ، ومجال استخداماته العلمية ، فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

الفهرس

مقدِّمة المركز7

مقدِّمة9

الفصل الأوَّل : النَّقد الأدبي لغةً واصطلاحاً ووظائف11

النَّقد لغةً12

النقد اصطلاحاً13

بين الأدب ونقده14

وظائف النَّقد الأدبي17

الفصل الثاني : النَّقد اليوناني والرُّوماني القديم19

النَّقد الكلاسِّي الرُّوماني33

النَّقد الكنسي38

الفصل الثالث : النَّقد الأدبي العربي القديم39

1- النَّقد التأثري الانطباعي40

2- النَّقد الأدبي المعياري43

3- بدايات النَّقد المنهجي - جمع الملاحظات والآراء النَّقديَّة47

4- النَّقد المنهجي54

الفصل الرَّابع : النَّقد الأدبي في أوروبا، في عصر النهضة97

(4)

الفهرس

1- الكلاسيكية98

2- بين القديم والجديد، في تطوّر الحركة الأدبيَّة102

الفصل الخامس : مناهج النقد الأدبي الحديث107

1- صاحب طريقة، «سنت بيف» (1804 – 1869)109

2- الانطباعيَّة (Impressionisme)111

3- في سبيل نقد علمي114

4- المنهج التَّاريخي116

5- المنهج الاجتماعي، البنيويَّة التكوينيَّة119

6- المنهج النَّفسي129

7- المنهج الموضوعاتي135

8- المنهج الشَّكلي، أو المدرسة الشكليَّة والشِّعريَّة140

9- المنهج البنيوي، البنيوية (Structuralisme)149

10- المنهج الأسلوبي، أو الأسلوبية - Stylistique 153

11- المنهج السِّيميولوجي156

12- ما بعد البنيويَّة المنهج التفكيكي، التفكيك160

خاتمة: في نقد النَّقد - تعدُّديَّة وتكامل168

(5)
(6)

مقدمة المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولمّا تزل مرتكزاتٍ أساسيةً في فضاء التفكير المعاصر.

وسعيًا إلى تحقيق هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطةً برامجيةً شاملةً للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضورًا وتداولًا وتأثيرًا في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الاجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين، والاقتصاد، وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها بالتالي:

أولًا: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورةٍ للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرُّف على النظريات والمناهج التي تتشكّل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانيًا: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبًا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيرًا من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

ثالثًا: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام

(7)

الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتّب على هذا التوظيف من آثارٍ سلبيةٍ بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية، وخصوصًا في الحقبة المعاصرة.

رابعًا: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعملٍ موسوعيٍ جديدٍ يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلًا عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقًا من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع، فقد حرص المركز على أن يشارك في إنجازه نخبةٌ من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

***

تبحث هذه الحلقة في سلسلة "مصطلحات معاصرة" في مصطلح "النقد الأدبي"، من حيث مفهومه وتطوّره ومناهجه ونقده.

والنقد الأدبي، كما هو معروف، نشأ عند صدور أوَّل نصٍّ أدبي، وتطوَّر طوال العصور، وكان للإغريق والعرب دورٌ أساس في تطوُّره، وعرف، في العصر الحديث، مناهجَ كثيرةً، أسهمت العلوم الإنسانية واللغوية في نشأتها وتطوُّرها. وقد تتبَّع الباحث مسار تطوُّر هذا النقد طوال العصور، وانتهى إلى إجراء قراءةٍ نقديةٍ في مناهجه. 

والله ولي التوفيق

(8)

المقدِّمة

ما هو النَّقد الأدبي؟ ما مهمَّاته؟ ما علاقة الأديب بالنَّاقد الأدبي؟ من هو النَّاقد الأدبي؟ ما مناهج النَّقد الأدبي التي عرفها طوال مساره التاريخي؟ هل عرف التاريخ الأدبي العربي نقدًا أدبيًّا يُعتدُّ به؟ إن تكن الإجابة بـ «نعم»، وهي كذلك، فمن هم أعلامه؟ ما رؤاه؟...

هذه أسئلةٌ تحاول هذه الدِّراسة أن تجيب عنها، وعن أسئلةٍ أخرى، تتفرَّع عنها.

تلبِّي الإجابات عن هذه الأسئلة حاجةً ملحَّةً تعرفها المكتبة العربية، في هذه الآونة من تاريخها، وذلك لأن الإنتاج الأدبي، من نحوٍ أوَّل، في الوطن العربي، غزير، في مختلف أنواع الأدب، بسبب سهولة النَّشر واستسهاله، من دون أن يواكبه، أو يليه، نقدٌ أدبيٌّ منهجيٌّ يدرسه، ويميِّز جيِّده من رديئه، ويتبيَّن خصائص هذا الجيِّد، ويبلور الظَّواهر الأدبيَّة...، ولأنَّ المشكلة الكبرى، التي يواجهها النُقَّاد، من نحوٍ ثانٍ، وبخاصَّةٍ طلاَّب الجامعات، هي مشكلة معرفة المناهج الأدبية الحديثة، وملاءمة كلٍّ منها للهدف المراد تحقيقه من دراسة النَّص.

(9)

تهدف هذه الدِّراسة إلى تلبية هذه الحاجة الملحَّة، فتقدِّم معرفةً بالنَّقد الأدبي ووظائفه ومناهجه...، مركَّزةً وافيةً، بلغةٍ موضوعيةٍ، سهلةٍ، بسيطةٍ وعميقةٍ في آن، يمكن للقارئين: المختصّ والعادي أن يتلقّياها من دون صعوبة.

إضافةً إلى تقديم معرفةٍ بالتُّراث النقدي الأدبي العربي، وإذ نفعل ذلك، نأمل أن نكون قمنا ببعض ما ينبغي القيام به في هذا المجال.

عبد المجيد زراقط

(10)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

النَّقد الأدبي

لغةً واصطلاحًا ووظائفَ

(11)

النَّقد لغةً

جاء في لسان العرب: «النَّقد خلاف النَّسيئة. والنقد والتَّنقاد: تمييز الدَّراهم، وإخراج الزَّيف منها. أنشد سيبويه.

تنفي يداها الحصى، في كلِّ هاجرةٍ    نفي الدَّنانير تنقاد الصَّياريف...

الليث: النَّقد تمييز الدَّراهم، وإعطاؤكها إنسانًا...

وناقدت فلانًا إذا ناقشته في الأمر... ونقد الشيء ينقده نقدًا، إذا نقره بإصبعه كما تنقر الجوزة»[1].

وأنشد الصَّاحب بن عبَّاد لأبي أحمد يحيى بن علي المنجِّم في نقد الشِّعر: «ربَّ شعرٍ نقدته مثلما ينقد رأس الصَّيارف الدِّينارا...»[2].

والنقد، لغويًا، في اللغات الأوروبية، مشتق من الفعل اليوناني «Krimein»، ويعني الدراسة والتفكير في ما تتمّ دراسته وإصدار الحكم عليه.

يفيد المعنى اللَّغوي أنَّ النَّقد هو معاينة الدراهم وفحصها بتدبُّر، وتمييزها، وتبيُّن خصائصها والحكم عليها إن كانت صحيحةً أم زائفة، وإذا أضفنا "نقد" إلى "الأدب" يصبح المعنى كما يأتي: النَّقد الأدبي هو معاينة النَّص وفحصه بتدبُّر، وتمييزه

(12)

وبيان خصائصه والحكم عليه، وهذا ما يفيد منه الباحثون في هذا الموضوع، فيحدِّدون مفهوم مصطلح النَّقد الأدبي، كما يأتي:

النقد اصطلاحًا

النقد الأدبي هو «فن دراسة النُّصوص والتَّمييز بين الأساليب المختلفة»[1].

في ضوء ما سبق، يمكن تعريف النَّقد الأدبي كما يأتي:

النَّقد الأدبي هو النَّظر في الإنتاج الأدبي ودراسته بتمعُّنٍ وتأنٍّ وتدبُّر، ومداومة النظر، وتمييزه، وبيان خصائصه وبلورتها، والحكم عليه حكمًا معلَّلًا يقبله المتلقِّي، بوصفه معرفةً مقنَّعةً، وهذه المعرفة تقتضي أن تكون قائمةً على أسسٍ علميةٍ موضوعية.

يفضي هذا النَّقد إلى تقديم معرفةٍ بالأدباء وتميُّز إنتاج كل منهم وبالظَّواهر والمذاهب الأدبيَّة وخصائصها وتطوُّرها، ما يؤدي إلى كتابة تاريخ الأدب على أسسٍ نقدية.

إن يكن الأدب استخدامًا خاصًا للغة، يتمثل في خصائصَ نوعيةٍ جمالية، تنطق بدلالة، فالنَّقد هو دراسة هذا الاستخدام الخاص/المجاز أو الانزياح، بغية معرفته بنىً ورؤىً، وبعبارة أخرى: النَّقد هو وصف الدال ومعرفته، بغية اكتناه/اكتشاف سرِّ المدلول.

النَّقد الأدبي يتبيَّـن خصائص النَّص، أيًَّا تكن، لا مساوئه

(13)

فحسب. في هذا الشأن، تُروى حادثةٌ دالَّة، إذ يحكى أنّ «زويلس»، وهو مثال النَّاقد المتحيِّز، تقدِّم يومًا للإله «أبولو» بنقدٍ قاسٍ لأحد الكتب الخالدة، فسأله هذا الإله عمَّا في الكتاب من محاسن، فأجابه بأنَّه لا يُعنى إلا بالكشف عن الأخطاء، فناوله الإله كميَّةً من عيدان القمح بسنابلها، وأمره بأن يستخرج لنفسه، جزاءً له، عيدانها مجرَّدةً من السنابل. وهذا يعني أن الناقد ينبغي أن يميِّز، بموضوعية، بين السَّنابل والعيدان في النصِّ الأدبي.

بين الأدب ونقده

الأدب هو موضوع نقدِه، لذا فهو سابق في الوجود له من نحوٍ أوَّل، ومصدر الظواهر والمذاهب والنظريات الأدبيَّة من نحوٍ ثانٍ، ولما كان متغيِّرًا بوصفه وليد التجربة الحياتية، المعيشة المتغيِّرة، كانت خصائص الأدب وأنواعه ومعايير تقييمه متغيِّرة، ما يثير مشكلةً كبرى تتمثَّل في تحكُّم بعض النُقّاد والأدباء المتشبِّثين بالقديم بمسار تطوُّر الأدب، ما ينشئ خصومةً بين الأديب المبدع وبين النَّاقد المتحكِّم والأديب المقلِّد، وهذا يطرح سؤالًا مهمًَّا هو: هل يمكن للتحكُّم هذا أن يعوِّق التطوُّر؟ نجيب بلا، فقد يكون للتشبُّث بالثبات تأثير، لكنه يبقى محدودًا ومرحليًا، لأن سنَّة الحياة هي التحوُّل، والأديب المبدع يشقُّ طريق التحوُّل، فيأتي النَّاقد ويعبِّده، ثم يأتي أديب مبدع آخر، فيواصل شقّ الطريق، فيتبعه الناقد ويعبِّده، وهكذا في مسار من التحوُّل لا نهائي، وذلك لأن مسار التحوُّل الحياتي لا نهائي.

(14)

يثير هذا المسار أسئلةً منها: من يحقُّ له أن ينقد الأدب؟ وهل يمكن أن يكون الأديب الكبير ناقدًا كبيرًا؟ وتنشأ خصومةٌ بين الأديب والنَّاقد، وهي خصومةٌ قديمة لم يخلُ منها أيُّ عصرٍ من عصور تاريخ الأدب ونقده، في كلِّ زمانٍ ومكان.

 في الإجابة عن السُّؤال الأوَّل يمكن القول: إنَّ النَّاقد الأوَّل للنَّص هو صاحبه، فهو يعيد النَّظر فيه، ويجوِّده، وفاقًا لقيم عصره الأدبيَّة، أو وفاقًا لما يُسمَّى «الناقد الضِّمني» المفترض أن يثوي في ذات الأديب الإبداعيَّة، وفي تاريخ الأدب العربي ونقده ما يفيد أن الشاعر كان يبقى حولًا في تجويد قصيدته قبل أن يظهرها، ويقدِّمها للمتلقِّي، وخير مثال على ذلك هو زهير بن أبي سُلمى الذي كانت قصائده تُسمَّى بالحوليَّات.

ثم، وبعد أن يرضى الأديب عن نصِّه، ينشره، فيصبح ملك المتلقِّي، فيقوم الناقد بمهمَّته، فيقدِّم معرفةً موضوعيةً بالنص الذي يتحدَّث عنه، فعليه، أوَّلًا، أن ينطلق من هذا النَّص...، وعليه ثانيًا أن يكون موضوعيًا...، فيقدِّم النَّص ويميِّزه، ويصدر حكمًا مبنيًَّا على معطيات وخصائص خلصت إليها دراسته، وعليه، ثالثًا، أن يلغي الأحكام المسبقة، والأحكام الذاتية الجاهزة سلفًا...، والمنطلقة من مفاهيمَ مسبقةٍ تقيس وتذرع وفاقًا لقواعد وأصول مقرَّرة.

قد يقال: إنَّ النَّقد الأدبي لا يخلو من الذَّاتية، فيُردُّ على ذلك بالقول: في هذا الكلام شيءٌ من الصَّحة، لكن النَّقد الأدبي الحقيقي

(15)

هو الذي يجتهد في التخلُّص مما يشوب موضوعيته، وقديمًا قال الأخطل: «إنَّ العالِم بالشعر لا يُبالي...، إذا مرَّ به البيتُ المعَايَر [ويروى العاثر]، السائر، الجيد أمسلمٌ قاله أم نصراني»[1].

العالم بالأدب هو من يحقُّ له نقد الأدب، سواء كان أديبًا أم باحثًا في الأدب، المهم أن يقدِّم معرفةً نقديةً مقبولةً من المتلقِّي ومقنعةً له. هذه المعرفة تُقدَّم من طريق خطةٍ عقليَّةٍ متماسكة، تستخدم مصطلحاتٍ فكريةً ولغةً تبيِّن ذلك كلَّه. فالمتلقِّي، في النَّقد هو الهمُّ الأساس، والنَّاقد هو من يستطيع أن يوصل إليه معرفةً موضوعيةً مقبولةً منه ومقنعةً له، فإن استطاع الأديب، متمتِّعًا بوعيٍ فنِّيٍ زائد، وعقلٍ نفَّاذ، أن يستخدم ملكاته الفنَّية وسيلةً مشروعةً للمعرفة، يمكن أن يكون ناقدًا كبيرًا، وإن لم يتمكن من تحويل إحساسه بالجمال الأدبي إلى معرفة موضوعية، بقي نقده نقدًا انطباعيًا تأثُّريًّا، وليد الإحساس الجمالي الذاتي. ومن نحوٍ آخر، إن استطاع الناقد أن يحدَّ من فاعلية وعيه الزَّائد، وأن يصدر عن التَّجربة الشخصيَّة المعيشة، وليس عن مفاهيم ومبادئ، يمكن أن يكون أديبًا كبيرًا، وإلا لبقي ناقدًا أو باحثًا، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمن العلماء الذين لم يُعدّوا شعراء في المقام الأوَّل، نذكر، على سبيل المثال، الخليل بن أحمد الفراهيدي، واضع عروض الشعر، وأبو هلال العسكري، واضع قواعد الصِّناعتين، في تاريخ الأدب العربي، وسنت بيف في تاريخ الشعر الفرنسي.

(16)

الناقد هو من يجيد تخليص جيِّد الأدب من رديئه، بوصفه عالمًا بالأدب يمتلك الموهبة والثَّقافة والدُّربة والنَّزاهة، والقدرة على إيصال ما يخلِّصه إلى المتلقِّي معرفةً مقبولةً منه ومقنعةً له.

وظائف النَّقد الأدبي

 يؤدِّي النَّقد الأدبي عدَّة وظائف، أهمَّها:

1. إضاءة النَّص الأدبي: تفسيره، بيان خصائصه الأدبيَّة، تمييزه، وضعه في مسار بنيته المجتمعية، وبيان موقعه ودوره في هذه البنية.

2. تقديم النَّص الأدبي للقارئ، والإسهام في إنجاز عمليَّة تلقِّيه وفهمه وتقديره.

3. التأويل، الأدب الجيِّد هو ما تتعدَّد تأويلاته، واحتمالات دلالاته، ويمكن للناقد الجيِّد أن يرى في النَّص ما لم يخطر على بال مؤلِّفه، والنَّص الأدبي الجيِّد هو ما يبقى موضوعًا لتداول النقَّاد طوال العصور، وهو ما تتعدَّد قراءاته.

4. اكتشاف الظواهر الأدبيَّة، وبلورة خصائصها، وهذه المهمة تقتضي إجراء العمليات الآتية: متابعة الإنتاج، الملاحظة الدقيقة المدرَّبة، الرَّصد، الوصف، التفسير.

5. تصنيف الأدب في اتجاهات ومذاهب، وبلورة أسس هذه الاتجاهات والمذاهب ومبادئها.

6. هذا جميعه يفضي إلى كتابة تاريخ الأدب، على أساسٍ نقدي، وإلى تقييم الأعمال الأدبية.

(17)

7. التَّوجيه، وفي شأن أداء هذه المهمَّة يجري جدلٌ كبير، والمهم ألا يؤدِّي التوجيه إلى الحدِّ من حرِّية الأديب، ولا من طبيعة الأدب، بوصفه فنًّا تهيمن الوظيفة الجمالية فيه على وظائفه الأخرى.

(18)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

النَّقد اليوناني

والرُّوماني القديم

(19)

النّقد الأدبي اليوناني القديم (الإغريقي)

مقدِّمة

النَّقد الأدبي قديمٌ قِدَمَ الأدب: كان في البداية شفويًَّا، ثمَّ دُوِّن. وأقدم نصوص النَّقد الأدبي المعروف هي نصوص النَّقد الأدبي اليوناني القديم، أو الإغريقي. وقد تمثَّل هذا النَّقد، بدايةً في التعليقات الشفويّة، ثم في ما كان يؤدِّيه منشد أشعار «هوميروس» من شرحٍ وتعليقٍ لدى إنشاده إيَّاها. ولم يلبث هذا النَّقد أن تطوَّر، فتمثَّل في المسابقات التي كانت تنظِّمها حكومة أثينا في أعيادها الدينية، وخصوصًا في مهرجان «ديونيسوس» إله الخمرة، فقد كانت تُعرض في هذا المهرجان مسرحيات، تنظر فيها لجان تحكيمٍ تُصدر أحكامها وفاقًا لأسسٍ نقديَّة، وتُعطى جوائز للمسرحيَّات المتميِّزة، وكانت لجان التحكيم تتألَّف من مختصِّين في هذا الشأن، من شعراء وفلاسفة. في ما يأتي نقدِّم معرفةً بأبرز الشعراء والفلاسفة الذين كانت لهم إسهامات نقديَّة، سواء من حيث تطويرهم للإنتاج الأدبي أم من حيث تنظيرهم له، وهذا الإنتاج يتمثل، في معظمه، بالمسرحيَّات.

الشاعر «إيسخولوس» (525 – 456 ق. م.)

يُعَدُّ «إيسخولوس» أبا التراجيديا، ذلك أنَّها حقَّقت على يديه «قدرًا هائلًا من التطوَّر، بحيث صارت مسرحيَّاته أنموذجًا يُحتذى به في البنية الدراميَّة والشَّكل الخارجي، والرُّوح العامَّة». وقد يكون أهم ما أنجزه هذا الشاعر المسرحي هو بناء الصراع الدرامي،

(20)

وجَعلِهِ أساسًا من أسس بنية المسرحيَّة، بعدما كان السَّرد غالبًا عليها من قبل. يبدو هذا واضحًا في مسرحيَّاته، وخصوصًا في مسرحيَّات: «الفرس»، و«برومثيوس مقيَّدًا»، و«ثلاثيَّة الأوريستا»، و«أغاممنون»...، إضافةً إلى دوره هذا في تطوُّر العنصر الدرامي، كانت له رؤيته إلى الشعر، فهو يعتقد بـ «أنَّ وظيفة الشاعر الدرامي ساميةٌ تتمثَّل في جعل المواطنين أكثر شجاعةً ونبلًا وكرمًا، وفي غرس الفضيلة فيهم، وزرع الأفكار العظيمة والطموحات السَّامية في نفوسهم...»[1].

الشاعر «سوفوكليس» (497 – 406 ق. م.)

«سوفوكليس» شاعرٌ مسرحيٌ وكاهنٌ وسياسي. كان غزير الإنتاج المسرحي، إذ يذكر المؤرِّخون أنَّه ألَّف حوالى مئةً وثلاث وعشرين مسرحيَّة، من أهمِّها: «أنتيغوني»، و«أوديب ملكًا»، و«ألكترا»... ويرى المؤرِّخون أنَّ إنتاجه الغزير هذا كان متميِّزًا، فقد نال الجائزة الأولى في مسابقات حكومة أثينا حوالى عشرين مرَّة، والجائزة الثانية في جميع المسابقات الأخرى.

يتمثَّل إسهامه النقدي في «نظمه في أصول التراجيديا»، وفي تطوير بنية المسرحية، إذ إنَّه أضاف الممثِّل الثالث، ووسَّع حجم الحوار الدرامي، من دون أن يستغني تمامًا عن تقنية السرد/ الملحمي، وجعل الجوقة تؤدِّي دورًا مزدوجًا، ما أفضى إلى أن تغدو الأولوية للحبكة الدراميَّة لا للجانب الأخلاقي[2].

(21)

الشاعر «يوربيدس» (480 – 406 ق. م)

«يوربيدس» شاعرٌ مسرحيٌ ورياضيٌ ورسَّام. كان يقضي معظم أوقاته في الدراسة والتأمُّل، وكانت لديه مكتبةٌ مشهورةٌ ذكرها «أريستوفانيس» في مسرحية «الضفادع». أخذ مادَّة مسرحياته من المصادر الأسطورية والملحمية. ألَّف حوالى اثنتين وتسعين مسرحية، بقي منها سبع عشرة مسرحيَّة، منها: «ألكيستيس»، «هيراكليس» و«ميديا» و«أندروماخي». كان «يوربيدس» يتعامل مع الأسطورة بحرّيّة، فيأخذ ويضيف ما يخدم هدفه الدرامي، وقد تحوَّل حوالي سنة 412 ق. م. إلى نظم بعض المسرحيات ذات الطابع التراجيدي الغنائي، كما في مسرحيَّة «أفيجينيا في تاوريس» و«أيون».

كان «يوربيدس» أكثر واقعيةً من سابقَيه: «إيسخولوس» و«سوفوكليس»، فلم يضخِّم صورة أبطاله، ولم يخفِ مثالبهم. وعمل على أن تظهر شخصياته في مستوى الإنسان العادي، وهو في مسرحياته ناظم أشعار غنائية ممتاز، وبخاصةٍ في أغاني الجوقة التي تبدو منفصلةً عن الأجزاء الحوارية؛ وذلك لأن دور الجوقة عنده تضاءل عما كان عند سابقَيه، «حتى صارت أغاني الجوقة أقرب ما تكون إلى فواصل غنائية بين الأحداث المسرحية». يتمثل دوره النقدي في ما أنجزه من تطوُّر في بنية التراجيديا، وفي رؤيته المتمثلة في أن الإنسان ـ لا اللاهوت ـ هو مصدر الكون؛ وذلك يعود إلى أنَّه كان تلميذًا لـ«السوفسطائيين» الذين كان أحد روَّادهم «بروتاغوراس» يقول: «الإنسان مقياس كل شيء». تبدو أهمَّية هذا المسرحي

(22)

المجدِّد عندما نقرأ «أن تأثيره على المسرح الأوروبي، منذ عصر النهضة، يفوق تأثير أي شاعرٍ تراجيدي آخر»[1].

الشاعر «أريستوفانيس»

«أريستوفانيس»(445 – 380 ق. م.) شاعرٌ مسرحيٌ كوميدي. في عام 427 ق. م. عرض أولى مسرحياته. هو مسرحيٌّ ساحر، لم تسلَم من لسانه اللاذع أي طبقة من طبقات المجتمع، أو أي طائفة من أصحاب المهن، أو رجال الفكر وأرباب القلم. وصلتنا إحدى عشرة مسرحيَّةً من مسرحيَّاته الأربع والأربعين، منها: «المشتركون في الوليمة» و«البابليون» و«الفرسان» و«السُّحب» – وفي هذه المسرحية ينتقد سقراط والسفسطائيين بسخرية لاذعة – و«الزنانير» و«الطيور» و«النساء» و«الضفادع» التي عُرضت لأول مرةٍ سنة 405 ق. م. وفازت بالجائزة الأولى. موضوعها يتصل بالنَّقد الأدبي، وبنقد «التراجيديا» تحديدًا، وجاء فيها:

بعد موت «إيسخولوس» و«سوفوكليس» و«يوربيدس»، لم يعد في أثينا أي شاعرٍ تراجيدي مهم، فينزل «ديونيسوس» إله الخمرة، إلى «هاديس»، لاستعادة أحد شعراء التراجيديا البارزين ممَّن رحلوا عن الدنيا. وعندما يصل «ديونيسوس» إلى العالم الآخر يفاجأ بوجود مباراةٍ أدبيةٍ ساخنة بين «إيسخولوس» و«يوربيدس» على عرش «التراجيديا»، وهي المباراة التي يطلب «بلوتو» إله العالم السفلي، من «ديونيسوس» التحكيم فيها. ينقد كل من الشاعرين الآخر نقدًا ساخرًا ومريرًا، في حوار أشبه ما يكون بدراسة نقدية

(23)

لأعمال الشاعرين يقدمها «أريستوفانيس» في قالب تمثيلي. وينتهي الأمر بأن يختار «ديونيسوس» «إيسخولوس» لكي يعود به إلى أثينا. يمكن أن نعدّ هذا الحوار النقدي موازنةً بين الشاعرين، من حيث الجمالية الشعرية والمكانة المسرحية والموقف الأخلاقي، ما يعني أن «أريستوفانيس» تناول الشكل والمضمون معًا، فعُدَّ بذلك رائدًا من روَّاد النَّقد الأدبي المسرحي المبكر[1].

«السِّفسطائيون»

تعود تسمية «السِّفسطائيين» إلى كلمة Sophos اليونانيَّة، وتعني «معلِّم الحكمة»، وهذا عائد إلى أنهم كانوا معلِّمين، ويتقاضون أجرًا عن تعليمهم، وقد ذُمُّوا بسبب ذلك، لارتباط العلم لديهم بطلب الرزق.

بعد انتصار اليونان على الفرس، في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، وبعد انحسار حكم الأقليَّة، وبدء الحكم الديمقراطي، نشأ المذهب الفكري السفسطائي الذي اتخذت الخطابة مكانًا رئيسًا في نشاط أتباعه، ووصل الأمر بهؤلاء إلى أن يمتهنوا تعليم الخطابة، وهذا ما جعلهم يُعنون باللغة ليحرزوا التأثير في الجماهير، وبلغت عنايتهم بالخطابة ولغتها درجةً جعلت بعض المؤرِّخين يرون أنهم مؤسِّسو علم النحو اليوناني، وناشرو الثقافة لدى أبناء الشعب اليوناني.

كان السفسطائيون مفكِّرين عمليِّين، «ولم يكوِّنوا مدرسةً فلسفيَّةً لها آراؤها الخاصَّة التي تنظمها عقيدةٌ فكريةٌ منظَّمة، وإنما كانوا

(24)

مجموعةً من المعلِّمين، متفرِّقين في بلاد اليونان، يتَّخذون التدريس حرفة...». وكانت دروسهم أشبه بتمارين تجري لإجادة فنون المناظرة والإقناع، من منظور مفاده أن ليس من حقيقة مطلقة.

أشهر السِّفسطائيين «بروتاغوراس» (490 – 420 ق. م.)، الذي يعدُّ أوَّل من فكَّـر في قوانين النسبية، و«غورغياس» (483 – 375 ق. م.) الذي حارب الفلسفة، وقام باستبدالها بعلم البيان.

قيل: إن «السِّفسطة» هي التلاعب بالكلام/الجدل اللغوي لإقناع المجادل وإفحامه.

لا يمكن أن ينكر الباحث أن هؤلاء المعلِّمين كان لهم دور في تطوير اللغة وتطويعها للجدل والخطابة الموجَّهة للشعب، وفي تعليم الجدل والنقاش، وفي إغناء الوعي الشعبي، وجعل الإنسان العادي موضع الاهتمام، فمقولة «بروتاغوراس» مشهورة، وهي: «الإنسان مقياس الأشياء»[1].

سقراط (469 – 399 ق. م.)

يُعدّ سقراط أحد كبار فلاسفة اليونان، وأحد مؤسِّسي الفلسفة الغربية. لم يترك مؤلّفات. ما نعرفه عنه مستقًى من روايات تلامذته عنه، وبخاصَّة أفلاطون (427 ـ 347 ق. م.) في كتابه: «حوارات أيون». تثير هذه الحوارات التي تدور بين سقراط والمنشد أيون، التي أتت في شكل درامي يشبه حوارات مسرحيَّة «الضفادع»،

(25)

مسألتين: أولاهما: مصدر الشعر، وما إذا كان هذا المصدر الفنّ أو الإلهام، وثانيتهما الفرق بين حكم الشاعر والنَّاقد على الشيء، وبين حكم العقل والعلم.

يرى «سقراط»، في حواره مع «أيون»، أن الشاعر كائنٌ أثيري ليست له قدرة على الخلق إلا إذا هبط عليه الإلهام وتعطلت حواسُّه، وباينه عقله.

وقد دفعت سخرية «سقراط» من «أيون» إلى الظن بأنَّ أفلاطون هو صاحب هذه الحوارات والآراء التي وردت فيها، وقد ابتدعها، ونسبها إلى سقراط الذي قام حواره و«أيون» على التجربة والملاحظة، وهاتان العمليتان تُعدَّان من مكوِّنات منهجه في تحصيل المعرفة، إذ إن هذا المنهج يعتمد، إضافةً إلى ما سبق، توجيه الأسئلة إلى المستمعين، وإذ يتم تلقي الأجوبة منهم، يبيَّن لهم مدى عدم كفاية أجوبتهم، وهذه هي الطريقة الاستقرائية المسمَّاة بالجدلية، أي مناقشة المعطيات الخاصة للوصول إلى نتيجة عامة، وهذا الحوار الاستقرائي الجدلي عُرف في ما بعد بـ «الطريقة السقراطية»، ولعل هذا المنهج هو أهم ما تركه سقراط، إذ إنه لم يترك أي مؤلّفات، وما يُعرف عنه ذكره أفلاطون في حواراته، ما يتيح القول: إنَّ آراء سقراط، كما ذكرها أفلاطون، إنما هي آراء التلميذ التي ينسبها إلى أستاذه، أو آراء الأستاذ التي يرويها تلميذه، فماذا عن أفلاطون نفسه؟

أفلاطون (427 – 347 ق. م.)

«أفلاطون» هو «أرستوكليس بن أرستون»، فيلسوف يوناني، يعدّ مؤسِّس جامعة أثينا، وهي أول معهد للتعليم العالي في الغرب،

(26)

معلِّمه «سقراط» وتلميذه «أرسطو». كتب حوالى ثلاثين حوارًا فلسفيًا، عُرفت بـ«الحوارات السقراطية». في سن العشرين، تعرّف إلى سقراط، وأُعجب به، ولازمه مدة ثماني سنوات، كان لها تأثير حاسم في حياته وفكره.

يغلب أسلوب الحوار على مؤلَّفاته، وهو أسلوب كان شائعًا في العصر الذي ازداد فيه نشاط السفسطائين وسقراط. من أهم مؤلفاته: «الدفاع عن سقراط»، «كراتيل»، وهو حوار في اللغة، «المأدبة»، وهي حوار في الحب، «الجمهورية»، وهي حوار يُعَدُّ العمل الرئيس له.

في ما يتعلق بالأدب والفن عمومًا، يمكن أن نتبين رؤيته إليهما إن تعرَّفنا إلى نظريته المعروفة بـ «نظرية المثل». ومفادها، كما جاء، في الكتاب السابع من الجمهورية، أن معرفتنا تشبه معرفة جماعة يجلسون في الكهف أمام النار، ويرون ظلال أشخاص يمرُّون من خلفهم على جدار الكهف، وهذا مبلغ إدراكنا لما نفكِّر في أنه حقيقة الأشياء، ثم يأتي أرباب الفنّ، ويحاكون هذه الظِّلال، فتأتي محاكاتهم في المرتبة الثالثة من إدراك الحقيقة.

مفهوم أفلاطون للأدب، والفن بعامَّة، وليد نظريته في المعرفة، فالحقيقة تتمثَّل في المُـثُل، والأشياء انعكاساتٌ لها، أو محاكاةٌ لها، ومن يحاكي هذه الأشياء إنما يحاكي ما هو محاكاة، فهو لا يدرك الحقيقة ولا قيمة لعمله، والحقيقة لا تُدرَك من طريق الحواس، والفنون محاكاةٌ لمحاكاةٍ تبتعد عن الحقيقة ثلاث مراحل، لهذا فهو يضع، في «حوار فيدروس»، الشعر في المرتبة السادسة مع الرسَّامين، ويضع الفلاسفة في المرتبة الأولى.

(27)

يمثل أفلاطون النَّقد الفلسفي الذي يضع النظرية قبل النَّقد، ويمثِّل أنموذجًا من هذا النَّقد، إذ إنَّه يصدر عن الهدف الأخلاقي، فيكون بذلك ناقدًا يصدر عن الاعتقاد بوصفه قاعدةً، أو معيارًا، فهو يبحث عن الأسس المناسبة لتنشئة المواطن الصالح، حارس الدولة المثالية. وبحثه يتم من منظور الفيلسوف الميتافيزيقي الأخلاقي العملي.

أخذ «أفلاطون» على الشعر أمرين: أوَّلهما مخالفته الحقيقة؛ ذلك أنَّه يحاكي مظاهر العالم الخارجي، وهذا العالم نفسه ليس سوى محاكاة لعالم المُـثُل، وثانيهما عدم رقيِّه الخلقي، لأنه يصوِّر الآلهة فريسةً للأهواء الإنسانية[1].

أرسطو (384 – 322 ق. م.)

يُعدّ أرسطو (أرسطوطاليس) من عظماء الفلاسفة في العالم، ومن أهم مؤسِّسي الفلسفة الغربيّة، وأكثرهم تأثيرًا، ليس في الغرب فحسب، وإنَّما في العالم، وفي مختلف موضوعات المعرفة؛ إذ إنَّه كتب في الفيزياء، الميتافيزيقيا، المنطق، البلاغة، السياسة، الأخلاق، الشعر، الخطابة، الموسيقى، الحيوان، الطبيعة...، وهو مؤسِّس غير علم من العلوم، منها: علم المنطق والأخلاق، والنَّقد المسرحي... كانت نظرياته موضع نقاش، في مختلف العصور، ولا تزال كذلك حتى عصرنا الحاضر.

بقي من مؤلَّفات أرسطو عدَّة كتب، جُمعت في ما سُمَّي «المجموعة الأرسطوطالية»، وتضم المؤلفات الآتية: المنطق،

(28)

الطبيعة، ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا)، الأخلاق، السَّياسة، الخطابة والشِّعر، وسُمِّيت مجموعة مقالاته في المنطق بـ «الأورغانون»، وتعني الأداة، لأنها كانت تبحث في الفكر الذي هو أداة المعرفة، وقد أثَّر أرسطو كثيرًا في مفكِّري العالم بعلم المنطق الصُّوري الذي تضمَّنته مجموعة «الأرغانون».

كما كان لـ«الأرغانون» تأثيره الكبير في علم المنطق، كان لكتاب «أرسطو» الآخر «فن الشعر» أعظم الأثر في النَّقد الأدبي الغربي والنَّقد الأدبي العالمي، ومنه النَّقد الأدبي العربي.

يتضمَّن كتاب «فن الشعر» ستة وعشرين فصلًا، ويقسم قسمين: يبحث أوَّلهما في تعريف الشِّعر، المحاكاة، وبواعثه وتنوِّعه، ويبحث ثانيهما في (التراجيديا) والتطهير ووحدة الفعل، ويقابل بين المأساة والملهاة (الكوميديا). وفي الفصل الخامس والعشرين يضع القواعد الأساسيَّة للنقد الأدبي، وتعدُّ هذه المحاولة أول محاولةٍ في تاريخ الآداب العالمية جميعه[1].

اتّبع «أرسطو» منهجًا مناقضًا لمنهج «أفلاطون». إذا انطلق من النَّص، وليس من النَّظرية والفلسفة فالأخلاق والتربية...، كان يدرس النَّص، ويتبيَّـن صفاته، ثم يدرس نصًَّا ثانيًا وثالثًا...، فيلحظ المشترك، يجمعه، ويبلوره، ويحدِّد النَّوع.

من إنجازات «أرسطو» يمكن أن نذكر:

1. صياغة نظرية الأنواع الأدبيَّة، وتحديد خصائص كل نوع، والتنظير للشعر المسرحي من دون أن يدخل الغنائي في قضاياه.

(29)

2- تقريره أن الفنون نوعان: جميلة ونفعية، الجميلة تشترك في المحاكاة، 3- بيانه أن الفنون الجميلة تختلف من حيث: 3- 1 الأداة، فأداة الرسم اللون، والموسيقى الصوت، والشِّعر اللغة، والرَّقص الإيقاع...، 3 – 2 – الأسلوب، فأسلوب الملحمة السرد، والمسرحية التمثيل – الحوار. 4- حدَّد مفهوم الشعر في أنه يتمثل في المحاكاة في مزيج من الأعاريض، 5- ميَّز بين الشعر والتاريخ، فالمؤرِّخ والشاعر لا يختلفان في أنَّ ما يرويانه منظومٌ أو منثور، فقد تصاغ أقوال المؤرِّخ «هيرودوتس» في أوزان، فتظل تاريخًا، سواءً وُزنت أم لم توزن، بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع، والآخر يروي ما يجوز وقوعه، ومن هنا كان الشعر أقرب إلى الفلسفة، وأسمى من التاريخ، لأنه أكثر ميلًا إلى قول الكليات، في حين أن التاريخ يقول الجزئيات. 6- يرى أن المحاكاة هي تمثيل أفعال الناس على نحو يعطيها طابع الضرورة أو الاحتمال، وليس نقل الواقع، وليس محاكاة الصور التي تحاكي المثل، كما رأى أفلاطون. وهذا النوع من المحاكاة يترك للفعل أن ينمو بفعل العوامل الداخلية، من دون أي تدخُّل خارجي. 7- الفعل ينبغي أن يكون ممكنًا ومقنعًا، والإقناع المعني هنا هو الإقناع المسرحي – الفنِّي. 8- رأى أن استثارة الخوف والإشفاق في المتفرِّج من شأنها أن تطهِّره من هذين الانفعالين، أي تطهِّره من ضعفه لتزيده قوَّة. 9- المسرحية كائن ذو أعضاء، كالكائن الحي ذي الأعضاء، ما يعني اتصافها بوحدة عضوية، تقضي بأن نقل أي جزء، أو بتره، يفرط عقد الكل، وبأن تخلو المسرحية من الأحداث العارضة. 10- لكل نوع أدبي هدف، فالملحمة تُشيَّد بالبطولات القوميَّة، والتراجيديا تطهِّر النفس البشريَّة، الكوميديا

(30)

تسخر من الرذائل. 11- معرفة القواعد والأصول لا تكفي لتكوين الشاعر الكبير، ولا لتكوين الناقد القدير، لا بدَّ للناقد من ثلاثة شروط: 11- 1- ملكة الذوق المثقف، 11- 2- امتلاك المعرفة اللازمة والكافية، 11- 3- الدُّربة الطويلة التي تعين الناقد على الإتقان. 12- إذ رأى أرسطو أن لكل نوع أدبي أصولًا تضمن لروائعه النجاح والخلود، نقرأ، في ما يأتي ما كتبه عن التراجيديا.

يعرِّف أرسطو التراجيديا بأنها محاكاة فعلٍ جليلٍ كامل، له عِظَمٌ ما، في كلامٍ ممتعٍ تتوزَّع أجزاء القطعة عناصر التحسين فيه، محاكاةً تمثل الفاعلين، ولا تعتمد على القصص، وتتضمَّن الرحمة والخوف لتحدث تطهيرًا لمثل هذه الانفعالات. ويعني بالكلام الممتع ذلك الكلام الذي يتضمَّن وزنًا وإيقاعًا وغناءً، ويعني بقوله تتوزَّع أجزاء القطعة عناصر التحسين فيه أن بعض الأجزاء يتم بالعروض وحده على حين أن بعضها الآخر يتم بالغناء. فيُلزم، يضيف أرسطو، أن يكون لكل تراجيديا ستة أجزاء هي التي تُعيِّن صفتها المميِّزة، وهي: القصَّة والأخلاق والعبارة والفكر والمنظر والغناء. وأعظم هذه الأجزاء نظم الأعمال، فالتراجيديا ليست محاكاةً للأشخاص بل للأعمال والحياة، والتمثيل لا يقصد إلى محاكاة الأخلاق، ولكنه يتناول الأخلاق من طريق محاكاة الأفعال. ثم يبحث في ما ينبغي أن يكون عليه نظم الأعمال، فيقول: إنَّ العمل الكامل، أو التام، هو ما له مبدأ ووسط ونهاية... وينبغي في القصص المحكمة أن لا تبدأ من أي موضع اتفق، ولا تنتهي إلى أي موضع اتفق، بل تصطنع الأشكال التي ذكرناها لتحقِّق الجمال المتمثل في العِظَم

(31)

والترتيب... ويفصِّل في ما يسمِّيه الاصطناع فيرى:

ينبغي أن يكون في القصَّة طولٌ يسهل حفظه وذكره. يجب في القصة أن تحاكي عملًا واحدًا، وأن يكون هذا العمل الواحد تامًّا. أن تنظم أجزاء الأفعال بحيث أنه لو غُيِّـر جزءٌ ما أو نُزع لانفرط الكل واضطرب. عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه، وما هو ممكن على مقتضى الرّجحان أو الضرورة، والممكن مقنع وإن كان مخترعًا، والاختراع لا ينقص من بهجتها... وأيًا تكن أعمال الشاعر: مما وقع أو مما لم يقع، وجاءت متفقةً مع قانون الرجحان وقانون الإمكان، فعلى هذا الحسبان يكون هو صانعها.

وأردأ القصص والأفعال جميعًا تلك التي تتابع قطعها على غير مقتضى الرجحان والضرورة، أو غير مسبّب. أجمل التراجيديات هي ما كان نظمها معقدًا لا بسيطًا وما كانت محاكيةً لأمورٍ تحدث الخوف والشفقة، ومفردة الغرض، وتتغير من سعادةٍ إلى شقاء لا بسبب الخبث والشر بل بسبب زلَّةٍ عظيمة. تُعتمد في الأخلاق أمورٌ أربعة: حسنة ومناسبة وشبيهة بالواقع وسويَّة، وينبغي فيها ما ينبغي في نظم الأعمال من التزام مبدأ الضرورة أو الرجحان.

نهاية القصص ينبغي أن تصدر عن القصة نفسها لا عن حيلةٍ مسرحيَّة.

في كل تراجيديا عقدةٌ وحلّ، العقدة ما يكون من البدء إلى ذلك الجزء الذي يحدث منه التحوُّل إلى سعادة أو إلى شقاء. الحلُّ ما

(32)

يكون من بدء التحول إلى النهاية[1].

النَّقد الكلاسِي الروماني

مرجعيَّة أرسطو

مرَّت مدةٌ طويلة، بعد أرسطو، خاليةٌ من النَّقد الأدبي، ما عدا ما عرفته مدينة الإسكندرية التي أُسِّست سنة 332 ق. م.، والتي غدت عاصمةً للبطالسة، منذ سنة 323 حتى 180 ق. م.، فقد كانت هذه المدينة مركزًا علميًا مرموقًا، وكانت توجد فيها مكتبة تضم ما يزيد على نصف مليون كتاب. وقد عرفت مجالس الأدب، في هذه المدينة نقدًا بلاغيًا ونخبويًا، وتحقيقًا للنُّصوص اليونانيَّة، وخصوصًا مؤلَّفات أرسطو.

جاء في كتاب «النَّقد الكلاسِّي»: «وفي وسعنا، أن نلخِّص المرحلة الإسكندرانية، في الآداب الجميلة، بطريقة أخرى، فنقول: إنَّها كانت مرحلة تنازعٍ بين التاريخ والنَّقد، أو إنَّها خصامٌ طويلٌ بين القدماء والمحدثين، بشَّرت بالقضايا الرئيسية التي عرفها تاريخ النَّقد في ما بعد، وقد عُرفت بهذا الاسم، على نحو ما، منذ ذلك الحين»[2].

وإذ قامت الدولة الرومانية، وهي دولة غلب عليها الطَّابع العسكري، جعلت اليونان إقليمًا من أقاليم إمبراطوريتها، منذ سنة

(33)

146 ق. م. لكن ما حدث هو أن الرومان غلبوا عسكريًا، واليونانيين غلبوا حضاريًا وثقافيًا، فبقي أرسطو هو المرجَّح في النَّقد الأدبي كما في بقيَّة العلوم التي ألَّف فيها، وهذا يعني أن النَّقد الأدبي بقي سنواتٍ طويلة مرتكزًا على أحكام أرسطو.

ظل الأمر هكذا إلى أن نصل إلى «هوراس»، فبأحكامه تبدأ مرحلةٌ جديدة، وإذ يرى كثيرٌ من الباحثين أن «هوراس» كان تابعًا لـ«أرسطو»، فإنَّ باحثين آخرين يرون أنه، وإن كان يرى أن اتِّباع الأدب اليوناني القديم أساس الإبداع، فإنه وفي الوقت نفسه، يختلف عن أرسطو، وهذا ما سوف نبيِّنه في ما يأتي، مبتدئين بالتعرُّف إليه.

هوراس (65 – 8 ق. م.)

«كوينتس هواس فلاكس»: «هوراس»: شاعرٌ غنائيٌ وناقدٌ أدبيٌ لاتيني. كان ابنًا لعبد محرَّر. ولد حرًَّا، وبذل والده الكثير من المال حتى يتلقَّى ابنه التَّعليم في روما، ثم في أثينا. قاتل في صفوف جيش بروتوس الثائر بسبب اغتيال يوليوس قيصر. التقى الشاعر «فرجيل» وصار صديقًا له. من كلماته المأثورة: «إنَّ من ألذِّ الأمور وأشرفها أن يموت الإنسان في سبيل بلاده». كتب الأغاني والشعر باللغتين اللاتينية واليونانية.

 جاء في النَّقد الكلاسِّي: يفصل «أرسطو» عن أوَّل مُنظِّر أدبي يسترعي الانتباه ما ينوف عن قرنين من الحضارة «الهلينية». وهذا المنظِّر الأدبي هو الشاعر الروماني «هوراس». لم تعرف هذه المرحلة نظريةً أدبيةً مهمَّة، ولم يُسمع خلالها عن دراساتٍ أدبيةٍ

(34)

في أثينا، بل حدث ذلك في الإسكندرية، عاصمة البطالسة[1].

كتب «هوراس» سنة 14 ق. م. في النَّقد الأدبي رسالة في طرائق الكتابة لـ «آل بيزو» عُرفت بـ «فنّ الشعر» أو «رسالة في الشَّعر» جاء فيها: «عليك أن تختار موضوعًا يتفق مع مواهبك... الكاتب المثالي هو الذي يعلِّم ويسلِّي في الوقت نفسه، من يمزج النَّافع بالسَّار يكسب جميع الأصوات، تجنَّب الألفاظ الجديدة والعتيقة المهملة، أوجز بالقدر الذي يجيزه وضوح معانيك، وامضِ مسرعًا إلى لباب الموضوع. إذا كتبت الشعر، فلا تظن أن العاطفة هي كل شيء، الفن غير الشعور، إنَّه الصورة التي يُعبَّـر بها عنه، لكي تصل إلى حسن الصِّيغة، عليك أن تواصل دراسة آداب اليونان ليلًا ونهارًا، ليكن ما تمحوه من كتابتك قدر ما تثبته، أو قريبًا منه، اعرض ما تكتبه على ناقدٍ قدير، وحاذر من أصدقائك، إذا كتبت مسرحيَّات، فاجعل الأعمال لا الأقوال هي التي تقصُّ القصَّة، وتصوِّر الشخصيات، ولا تمثّل الرُّعب على المسرح، والتزم بوحدة العمل والزمان والمكان، واجعل القصَّة قصةً واحدةً، تقع حوادثها في زمنٍ قصير، وفي مكان واحد. ادرس الحياة والفلسفة، لأن الأسلوب مهما بلغ لا قيمة له من غير الملاحظات والفهم. كن جريئًا في المعرفة»[2].

تبدو رسالة هوراس، في «طرائق الكتابة»، كأنَّها نصائح في موضوعات الكتابة وطرائقها ووظائفها، وصناعتها، وفي ما ينبغي أن تكون عليه المسرحيَّة، ويبدو أنه يعدّ الأدب اليوناني مرجعيةً، ما يقضي بأن يُدرس ليلًا ونهارًا، قال: «اجعل مؤلَّفات هومر همَّك

(35)

ومتعتك/ اقرأها في النهار وتأمَّل فيها ليلًا»[1]، كما رأى أنه ينبغي أن يكون الكاتب عالمًا يدرس الفلسفة، ويجيد استخدامها والإفادة منها.

رؤية هوراس إلى وظيفة الشعر مختلفة، فقد طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته، وأسلمهم هوراس ومن نحا نحوه مقاليد الزعامة والتشريع. وإن يكن «هوراس» يختلف عن «أفلاطون» في مكانة الشاعر ودوره، فإنِّه يختلف عن «أرسطو» في المنهج النَّقدي، ذلك أن منهج «أرسطو» نصِّي وصفي تحليلي، ينطلق من النَّص، فيصفه ويحلِّله، ويصل إلى بلورة القواعد، أما منهج «هوراس» فقاعدي، ينطلق من القواعد، ويطلب من الأديب أن يلتزم بها، ويدرس النَّص من منظور هذه القواعد، وهي في المسرح الوحدات الثلاث: وحدة العمل والزمان والمكان، وقصر مدَّة الزمن، والاعتماد على الفعل، وهذه القواعد مستقاةٌ من النتائج التي توصّل إليها أرسطو من طريق الوصف والتحليل. وأفضى الأمر إلى أن تصبح المحاكاة، لدى "هوراس"، بدلًا من محاكاة الحياة والطبيعة، محاكاةً لكتب الآخرين، أو «الانزلاق من المحاكاة الأرسطية للطبيعة إلى محاكاة النماذج». إضافةً إلى الالتزام بالوحدات الثلاث، حرَّم هوراس مشاهد العنف والقتل، فقال، على سبيل المثال، إضافةً إلى ما سبق: «... فلا تدع ميديا تذبح بنيها أمام النظارة...».

أثّر «هوراس» في النَّقد الأدبي، في عصر النهضة، فقد اعتمد هذا النَّقد قواعده، ومنهجه، فعدل النقَّاد عن المنهج النَّصي الوصفي التحليلي إلى المنهج القاعدي[2].

(36)

لونجينوس

غدت أفكار «هوراس» جزءًا من اتجاه نقدي، في النِّصف الثاني من القرن التالي. ولم تُسجَّل نتاجات هذه المرحلة في كتابات مدرسة فكرية، وإنما سجّلتها مقالةٌ واحدة فريدة بعنوان: «في السُّمو». ارتبطت (أو ارتبط ما بقي منها) باسم غير معروف هو «لونجينوس».

الرأي الشائع، في عصر النهضة، أن لونجينوس هو «كاسيوس لونجينوس» (213- 273م)، الفيلسوف والبلاغي الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، صديق أفلوطين ومعلِّم «فورفوريوس»، ومستشار زنوبيا الثائرة، ملكة تدمر. غير أن القرينة الداخلية تشير إشارةً كافيةً إلى بلاغي إغريقي يعيش في روما خلال القرن الأول[1].

تُرجم اسم هذه المقالة بـ«في الأدب الرفيع»، و«في سمّو الأدب». و«سمُّو» يعني، هنا، صفةً في الكتابة تدل على الجزالة أو الفصاحة، وقد تظهر هذه الصفة في النَّثر أو في الشِّعر. هذه الصفة هي صفة الأدب الرفيع و«تأثير هذه اللغة الرفيعة على الجمهور لا يكون في الإقناع بل في نشوة الطَّرب»[2].

من أبرز الملامح المميزة في منهج «لونجينوس» أنه صورةٌ خاصَّةٌ من المذهب «الروماني» في المحاكاة، فما كان عند «هوراس» محاكاةً للنماذج الكلاسية، غدا عند لونجينوس إنارةً وإلهامًا قويَّين يتمتَّع بهما الأديب من طريق الخضوع للمعلِّمين الأقدمين.

ومصادر «سمُّو الأدب»، كما يرى لونجينوس، هي: 1- قوّة

(37)

صياغة المفهومات العظيمة. 2- العاطفة الملهمة المتقدة. 3- صياغة الصور والمجازات. 4- الأسلوب النبيل. 5- التأليف الرفيع الجليل[1].

تضع هذه المقالة التي تُنسب للونجينوس القواعد التي تتيح للأدباء أن يكتبوا أدبًا رفيعًا مثل أدب القدماء، وكان هذا المؤلف يعتقد بأن الأدب الرفيع هو الذي يعجب الناس في جميع العصور، أي إنه الأدب الخالد، وقد كان الشاعر الإنكليزي الرومانسي «وليام وودزورث» من المهتمِّين بآراء هذا المؤلِّف[2].

النَّقد الكنسي

بقي الأمر على هذه الحال من البحث في البلاغة والنَّقد والتأثُّر بآراء «أرسطو»، إلى أن انتشرت المسيحيَّة في أوروبا، وسيطرت الكنيسة، ابتداءً من سنة 313م. فغدا النَّقد الأدبي نقدًا «كنسيًّا» «إيديولوجيًّا دينيًّا» ينطلق من التعاليم الدينية المسيحية في النظر إلى النصوص الأدبية، وفي توجيه الأدب، واستمرت هذه الحال إلى زمن ما عُرف بـ«عصر النهضة» في أوروبا، الذي ابتدأ بعد سقوط القسطنطينية سنة 1453م. وهجرة العلماء منها إلى أوروبا، وخصوصًا إلى إيطاليا.

نعتمد، في سبيل تقديم معرفة بالنقد الأدبي العربي القديم، كما في بقيَّة فصول هذا الكتاب، منهجيَّتي التصنيف والنَّمذجة، أي تصنيف الإنتاج النَّقدي في تيارات واتجاهات، واختيار أنموذج يمثِّل، أو نماذج تمثِّل، كل تيار أو اتجاه.

(38)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

النَّقد الأدبي العربي القديم

 

(39)

1ـ النَّقد التأثري الانطباعي

تعني كلمة تأثُّر اللقاء المباشر البسيط الذي يحدث بين النَّص والمتلقِّي، والتغيير الذي يحدث في ذهن هذا الأخير، هذا التغيير هو الانطباع والتعبير عنه، أي إن النَّاقد، في هذا النقد، يصف ما يشعر به بعد ما يتلقَّى نصًا، مكتفيًا بتقرير الأثر/الانطباع الذي يخلِّفه تلقِّي النَّص في نفسه. وقد عرف النَّقد الأدبي العربي القديم هذا النَّقد، منذ نشأته في العصر الجاهلي، وطوال مراحل تطوُّره. ولا يزال متذوِّقو الأدب يصدرون أحكامهم الانطباعيَّة، الناتجة عن تأثُّرهم بالنَّص الأدبي الذي يتلقّونه، وسوف يظلّون يفعلون ذلك، ما دام للأدب متلقُّون. في ما يأتي نقدِّم نماذج من هذا النَّقد دالّةً على طبيعته:

قال ربيعة بن حذار الأسدي، من متذوِّقي الشعِّر في العصر الجاهلي، لمجموعة من شعراء تميم، محكِّمًا بينهم: «... أما عمرو فشعره برود يمانية تطوى وتنشر، وأما الزبرقان فكأنه أتى جزورًا قد نُحرت فأخذ من أطايبها وخلطه بغيره، أما المخبّل فشعره شهب من الله يلقيها على ما يشاء من عباده. وأما عَبَدة فشعره كمزادة أُحكم خرزها فليس يقطر منها شيء»[1].

هذا حكمٌ يجتهد في تحديد خصائص شعر كل شاعرٍ بأسلوب

(40)

مجازي عام يمثّل انطباع الناقد الذي تكوَّن لدى تلقّيه الشعر، وهو يحتاج إلى بيان ما يقصده النَّاقد بالتحديد.

ومن النَّقد الأدبي في صدر الإسلام، نقدِّم أنموذجين/خبرين يمثلان هذا النَّقد:

ـ يروي الخبر الأول عن الإمام علي عليه‌السلام قوله عن أشعر الشعراء: «لو أن الشعراء المتقدِّمين ضمَّهم زمان واحد، ونُصبت لهم راية، فجروا معًا، علمنا من السَّابق منهم. وإذا لم يكن، فالذي لم يقل لرغبة ولا لرهبة. فقيل: ومن هو؟ فقال: الكندي. قيل: ولم؟ قال: لأنّـي رأيته أحسنهم نادرةً وأسبقهم بادرة»[1].

ـ ويروي الخبر الثاني عن الحطيئة قوله عن أشعر الشعراء:... أبو داود الأيادي لقوله... وعبيد بن الأبرص لقوله... ثم أضاف: «والله لحسبك بي عند رغبةٍ أو رهبة إذا رفعت إحدى رجليّ على الأخرى، ثم عويت في أثر القوافي عواء الفصيل الصادي...». وكان قد قال، بعد أن أخرج لسانه: «هذا إذا طمع»[2].

ومن النَّقد الأدبي، في العصر الأموي، نقدِّم أنموذجًا يمثِّل هذا النَّقد، وهو حكم أصدره ناقد العصر الأموي الأوَّل عبد الله بن أبي عتيق: ذُكر شعر الحارث بن خالد وشعر عمر بن أبي ربيعة عند ابن أبي عتيق، في مجلس رجل من ولد خالد بن العاصي بن هشام، فقال المتحدِّث: صاحبنا ـ أي الحارث بن خالد، أشعرهما: فقال له ابن أبي عتيق: «بعض قولك، يا

(41)

ابن أخي، لشعر عمر بن أبي ربيعة نوطةٌ في القلب وعُلُوق بالنفس، ودرك للحاجة ليست لشعر. وما عُصي الله، جلَّ وعزّ، بشعر أكثر مما عُصي بشعر ابن أبي ربيعة. فخذ عنِّي ما أصف لك: أشعر قريش من دقَّ معناه، ولطف مدخله وسهل مخرجه، ومتُن حشوه، وتعطَّفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن حاجته...»[1].

ينطلق ابن أبي عتيق، في حكمه، من نقض حكمٍ عامٍ لا يوافق عليه، فيلخّص خصائص شعر عمر، ثـم يُطلق حـكمًا محدَّدًا: «أشعر قريش»، ويكمل ذكر الخصائص.

وفي العصر العباسي، حدث صراع، كانت الغلبة فيه على مستوى المديح للشكل السائد، فهذا أبو نواس الثائر على التقاليد الشعرية والاجتماعية يرضخ عندما يمدح، وينشئ طلليَّات موغلةً في القدم، ومن أقواله في هذا الشأن: ...

دعاني إلى نعت الطُّلُول مسلَّطٌ      تضيق ذراعي أن أردَّ له أمرا...

وساد مفهوم نتبيّنه في قول أبي فرج الأصفهاني الآتي:

«فحُريث بن عناب ليس بمذكور في الشعراء، لأنه كان بدويًا مُقلًّا غير متصدٍّ بالشعر للناس في مدح ولا هجاء، ولا يعدو في الشِّعر أمر ما يخصُّه»[2]. ولم يلحق ذو الرمَّة بالفحول لتجافيه عن المدح والهجاء[3].

(42)

إضافةً إلى اتخاذ الإجادة في المدح والهجاء معيارًا ليُعدّ الشاعر شاعرًا كبيرًا، كان المتعصِّبون للقديم يستندون إلى أسبابٍ معرفيَّة تتخذ القدامة/الزمن مظهرًا لها، وهذا النوع من النَّقد يتّخذ قاعدة في تقييم الشعر، وسوف نتحدث عنه في موضع آخر.

أما المجدِّدون، وعُرفوا باسم المحدثين والمولِّدين، فكانت لهم رؤاهم. ويمكن التحدُّث عن التجديد بدءًا من أواخر العصر الأموي، حيث ارتفع صوتٌ شعريٌّ متميِّز هو صوت الكميت بن زيد الأسدي. ثم تطوَّر هذا الجديد، ويبدو أنه يتوزَّع في أربعة اتجاهات: أولها يمثّله الشاعر بشار بن برد، ويرى أن الشعّر هو بحث كياني كاشف، وثانيها يمثّله أبو نواس، ويرى أن الشعر هو لغة احتمالية تجسِّد ظنونًا، وثالثها يمثّله أبو تمام، ويرى أنّ الشعر نظمٌ فريدٌ لجواهر العقول، وتحوُّل في اللغة، ورابعها يمثّله أبو العتاهية، ويرى أن الشعر هو قول الموقف حامل همَّ الإيصال.

2 ـ النَّقد الأدبي المعياري:

النَّقد الأدبي المعياري هو النَّقد الذي يصدر عن معيارٍ مسبقٍ في الحكم على الأدب، وهو عَقَدي وقاعدي.

2-1. النَّقد الأدبي العَقَدي

النقد الأدبي العَقَدي هو نقدٌ معياريٌ ينطلق من عقيدةٍ ما، بوصفها معيارًا في النظر إلى الشعر وتقييمه والحكم عليه، وقد عرف النَّقد الأدبي العربي القديم هذا النَّوع من النقد، في عصر صدر الإسلام، وتمثّل في رؤية النبي محمد J وولاة الأمر من المسلمين إلى الشعر.

(43)

إن ظهور الإسلام كوّن مرحلةً جديدةً من مراحل تاريخ الشعر العربي ونقده، تجلَّت، على مستوى النَّقد الأدبي، في موقف الإسلام من الشعر ومفهومه له ولدوره، وتوجيهه إيّاه في اتجاه جديد، فحرصت الآيات القرآنية[1] التي تناولت هذا الموضوع، وما أُثر عن النَّبي محمَّد J من حديث وفعل، في هذا الشأن، على وضع حدٍّ فاصلٍ بين الشعر والقرآن الكريم، وبين الشاعر ورسول الله J، حرصًا على بيان طبيعة كتاب الله الدِّينيَّة، فهو وحي إلهي يبلِّغ رسالةً سماويةً على لسان نبيٍّ مرسل من الله سبحانه وتعالى. وإن كان من تناولٍ للشُعراء يمسُّ بهم فهو يدور في هذا الإطار، وفي إطار آخر هو التمييز بين صنفين من الشِّعر والشعراء، فرفضت هذه الآيات والأحاديث ما خبث ورحَّبت بما طاب. وحدَّدت مفهومًا للشِّعر الجيِّد المطلوب، من حيث صدوره وخصائصه الفنية والموضوعية ودوره الفاعل. ووجهت الشعر في حدود هذا المفهوم، وبخاصَّةٍ في مجال الدفاع عن الدَّعوة ونشرها، وقد قام النَّبيُّ محمَّد J بدورٍ نشطٍ في هذا المجال، واضعًا في الوقت نفسه الأسس الاقتصادية والاجتماعيَّة والثقافية لنشوء ضرب من الشعر يندرج من إطار هذا المفهوم. ووضع الأسس التي ذكرنا تمثَّل بالبنية المجتمعية الجديدة التي أرسى النبيُّ J أسسها. وليس من شكٍّ في أن هذا المفهوم يبقى جزءًا من التراث الإنساني، بوصفه مفهومًا رائدًا ينظر إلى الموضوع من مختلف جوانبه.

(44)

يمكن أن نصوغ مفهوم الشعر، عند ولاة الأمر المسلمين، في قولٍ جامعٍ لكل ما قيل، وهو: الشعر يجسّد رؤيةً للحياة متميِّزة هي رؤية الإسلام لها. وتقوم هذه الرؤية انطلاقًا من تجربةٍ شخصيَّةٍ للحياة وخبرة بها، صادقةٍ وغير متأثرة بالعوامل الخارجيَّة من طمع بمكسب أو خوف من عقاب، وتتجسَّد هذه الرؤية في قالب ذي خصائصَ فنيّةٍ مبتكرةٍ جميلة، ويتَّصف هذا القالب بفصاحة اللفظ وبُعده عن الغرابة ومعاصرته، وببساطة التركيب وبُعده عن التعقيد، وبالوضوح وسهولة الفهم كي يحقق الإيصال الذي هو غرض الشعر في نهاية المطاف.

في هذا الإطار من الفهم، نشط ولاة الأمر، فكانوا يصغون للشعر الجيِّد ويتأثَّرون به ويلبُّون حاجة قائله، ويطلقون أحكامًا عامَّة حينًا ومعلَّلةً حينًا آخر، فيحكمون لزهير أو امرئ القدس أو النابغة.

2-2. النَّقد الأدبي القاعدي

النقد الأدبي القاعدي هو النَّقد الذي ينطلق من قاعدةٍ ما في النَّظر إلى الشِّعر وتذوُّقه والحكم عليه. والقواعد، في هذا الشَّأن، كثيرة، عرف النَّقد الأدبي العربي منها قاعدة الزمن ـ الخصائص الشعرية، فالمتعصِّبون للقديم كانوا يتخذون «القدامة» قاعدةً معياريةً في حكمهم على الشِّعر. ونماذج نقد هؤلاء كثيرة، نذكر منها: قال أبو عمرو بن العلاء عن الأخطل: «لو أدرك الأخطل يومًا واحدًا من الجاهليَّة، ما قدَّمت عليه أحدًا». وكان الأصمعي يقول: «بشار خاتمة الشعراء، والله لولا أن أيامه تأخَّرت لفضَّلته على كثير منهم». وكان ابن الإعرابي يقول: «إنَّـما أشعار هؤلاء المحدثين مثل

(45)

الرِّيحان يُشمُّ يومًا، ويذوي فيُرمى به، وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر، كلّما حرَّكته ازداد طيبًا». وقال إسحق الموصلي عن شعر أبي تمام: «إن كان هذا شعرًا فما قالته العرب باطل»[1].

ومن النَّقد القاعدي النَّقد الذي ينطلق من خصيصةٍ شعريةٍ، تطَّرد في نماذج كثيرة، فتغدو قاعدةً تُتبَّع، وينظر إلى الشعر من منظورها، فهذا كثيِّـر عزَّة يقول لعمر بن أبي ربيعة: «إنَّك لشاعر لولا أنَّك تشبِّب بالمرأة، ثم تدعها، وتشبِّب بنفسك...». وقال له ابن أبي عتيق: «أنت لم تنسب بها، وإنَّما نسبت بنفسك، كان ينبغي أن تقول: قلت لها، فقالت لي، فوضعت خدِّي فوطئت عليه»[2].

في قول ابن أبي عتيق: «كان ينبغي أن تقول...» يتمثل هذا المنهج في النقد، وهو يثير قضيَّةً نقديةً يكثر، في شأنها، الجدل، ويمكن طرحها كما يأتي: هل يصدر الشعر عن مفهومٍ لما ينبغي قوله، أو عن تجربةٍ معيشة تفرض القول الشعري الذي يتمُّ من خلاله تحديد المفهوم، يقول عمر: «إن القلب، إذا هوى، نطق اللِّسان بما يهوى»، ويقول جميل بن معمر:

إذا ما نظمت الشِّعر في غير ذكرها      أبى، وأبيها، أن يطاوعني شعري

ويقول النَّقد المنطلق من قاعدة: «ينبغي أن تقول...»، فنلحظ اتجاهَين كانا موجودَين، ولا ينفكان موجودين. وقد غدا هذا النَّوع من النَّقد القاعدي متحكِّمًا بعد أن غدت البلاغة العربيَّة علمًا معياريًا يطلق أحكامًا قيميَّة بالاستناد إلى نظامٍ تصنيفي جاهز.

(46)

3 ـ بدايات النَّقد المنهجي ـ جمع الملاحظات والآراء النّقديَّة:

عرف العصر العبَّاسي، في القرنين: الثاني والثالث للهجرة وما تلاهما، إلى جانب الحركة النَّقدية التي كانت تنظر في الشعر والشعراء، وتطلق أحكامًا شفويةً تأثريةً انطباعية، حركةَ جمعٍ وتدوينٍ وتأليف. وقد أدَّى صنيع العلماء التأليفي ـ تدوينًا وضبطَ رواياتٍ وتوفيقًا بينها وإبداءَ رأيٍ ومعالجةَ مسائل عامَّة ومعاصرة ـ إلى تخصُّصٍ أثمر نقدًا أدبيًا متطوِّرًا أُلّفت فيه كتبٌ خاصة، نعرِّف بها في ما يأتي:

3-1. فحولة الشعراء لعبد الملك بن قريب (الأصمعي)

تعيد رسالة «فحولة الشعراء»[1] بداية التأليف في النَّقد الأدبي إلى الأصمعي (123 – 210 هـ)، والتأليف في النَّقد أحدث نقلةً نوعيَّةً في هذا الضرب من المعرفة؛ ذلك أن الاتجاه الشفوي لا يتيح البحث وإنَّما التذوُّق والتأثُّر وقول الانطباع فحسب.

«فحولة الشعراء» رسالة صغيرة رواها كتابةً عن الأصمعي تلميذه أبو حاتم السجستاني (ت. 248 هـ)، وقد رواها عن هذا الأخير تلميذه ابن دريد اللغوي (ت. 321 هـ). والرسالة بشكل عام، تختصر المعلومات الأدبية والنَّقدية التي كانت متداولة في ذلك العصر. ويلحظ فيها تأثير التدوين في تطوُّر العمل النقدي، وتحديد المصطلح واستخدامه، ورصد الظاهرة الأدبية ووصفها، وتصنيف الشعر وإثارة قضايا نقدية كثيرة.

(47)

يمكن أن نجد عند الأصمعي ما يسمَّى اليوم «النقد الممهِّد للدِّراسة»، وهو النَّقد الذي يهيِّئ النص الأدبي للقارئ، فيفهمه هذا الأخير ويتذوَّقه، وذلك عندما شرح الشعر وعيَّـن الوصف، وتحدَّث عن المناسبة حديثًا يمكِّن من فهم الشعر وتذوُّقه والحكم عليه.

لم تأتِ آراء الأصمعي مصنّفةً مقرّرةً منصوصًا عليها بوضوح، بل جاءت عباراتٍ مركَّزةً مكثَّفةً متتابعة يمكن عدُّها بمقاييسنا الراهنة للبحث العلمي ملاحظاتٍ ذكيةً عامة.

أما قضية النحل التي كتب فيها ابن سلَّام، في ما بعد، بشكل وافٍ، والتي أثارها المستشرقون ود. طه حسين من بعدهم في العصر الحديث، فقد قرر الأصمعي وجودها ببساطةٍ مذهلة، وحدَّد مواضعها بوضوح، وسماها «الشِّعر المحمول».

3-2. صناعة الشِّعر وطبقات الشعراء ـ محمَّد بن سلَّام الجمحيّ

يعدُّ أبو عبد الله بن محمَّد بن سلَّام الجمحيّ البصري (150 – 232 هـ) أحد الإخباريِّين والرُّواة والنَّحويين وعلماء اللغة، ومن أعيان أهل الأدب في عصره. وقد تميَّز من معاصريه بجمعه آراء سابقيه ومعاصريه في أشعار الجاهليين والإسلاميين في كتاب، وأضاف إليها، بعد ما نظَّمها وبوَّبها، ما اهتدى إليه بنفسه من آراء وأحكام، فكان بذلك أوَّل من قام بمحاولة تأليفٍ جادَّة في ميدان الأدب تأريخًا ونقدًا.

قسَّم ابن سلَّام كتابه طبقات الشعراء ستة أقسام هي: المقدّمة، طبقات الشعراء الجاهليّين (عشر طبقات)، شعراء المراثي (طبقة

(48)

واحدة)، شعراء القرى العربيَّة (المدينة ومكة والطائف والبحرين)، طبقة شعراء يهود، طبقات الشُّعراء الإسلاميين (عشر طبقات).

الكتاب يعالج قضايا ومسائل أدبية، ويترجم للعديد من الشُّعراء، متَّبعًا نهجًا خاصًا، فيورد طرفًا من حياة الشاعر وشعره، ملمًا بكل ما قيل عنه وعن شعره، معلِّقًا على ذلك كلِّه برأيه الشخصي.

يبدو واضحًا أن هذا الكتاب يجعل النَّقد الأدبي أساس التأريخ الأدبي، وأن مؤلّفه استند إلى المبادئ الآتية في تقسيم الشعراء ودراسته لهم: الزمان ـ التاريخ؛ المكان ـ البيئة؛ الغرض الشعري المنبثق من تجربةٍ معيشةٍ متميِّزة؛ التميُّز الثقافي الديني؛ وأهم القضايا التي رأى إليها، هي: مفهوم النَّقد والناقد الجيد، فقال: «وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصّناعات... وإن كثرة الدراسة لتعدى على العلم»[1]، وبواعث الشعر ونشأة الشعر وتنقُّله، وطبائع الشعراء وخصائصهم، ووضع أسس المفاضلة بين الشعراء، وهي كثرة شعر الشاعر، وتعدُّد أغراض شعره، وجودة هذا الشِّعر.

إضافةً إلى هذا كلِّه، رصد ظواهر أدبيةً ووصفها، ومن هذه الظواهر: ظاهرة انتحال الشعر.

تتخذ دراسة هذه الظَّاهرة أهميتها من حيث تنبُّه النَّاقد الجيد إلى ضرورة تحقيق النصوص التي يدرسها، وصحة نسبتها إلى أصحابها. وقد تصدّى ابن سلّام إلى هذه الظاهرة، فعالجها من مختلف نواحيها.

(49)

عرض ابن سلَّام آراء سابقيه في صدد هذه الظَّاهرة، وقرَّر وجودها، ولم يكتفِ بذلك وإنما تجاوزه إلى مناقشتها فتناول حالةً محدَّدة، هي حالة محمد بن اسحق ودرسها بشيء من التفصيل.

يستدلُّ ابن سلَّام على بطلان هذا النوع من الشعر بأدلةٍ نقليَّةٍ وعقليَّة. ويتحدَّث عن بواعث الانتحال، فيختصرها في سببين: الأول هو انتحال الرواة، والثاني هو انتحال القبائل العربية الشعر لأسباب اجتماعية وسياسية، وذلك بعدما وجدوا قلَّة أشعار شعرائهم في الجاهلية، فقالوا الشعر ونسبوه إلى شعرائهم أيام الجاهلية بدافع العصبية القبلية.

وينتهي ابن سلام إلى إيراد رأيه في معرفة الصحيح، فقال: «وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضع المولدون، وإنَّما عضل بأن يقول الرَّجل من أهل البادية من ولد الشعراء، أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال»[1]. ولا يكتفي بوضع الحل، وإنَّما يمارس مهمته بوصفه أحد النقَّاد الذين وصفهم بـ «أهل العلم بالشعر».

محاولة ابن سلام تمتلك منهجًا، وتحدِّد مفهومًا للنَّقد والنَّاقد، وتؤسس اتجاهًا للتبويب ودراسة الظواهر: رصدًا ووصفًا وتفسيرًا. 3-3. النَّظم الذي تؤتيه صحَّة الطَّبع، «البيان والتبيين» و«الحيوان» ـ الجاحظ (ت 255هـ).

عُني الجاحظ، في كتابين من كتبه، هما «البيان والتبيين» و«الحيوان»، بالكلام على النَّقد الأدبي. ويفيد التأمَّل في ما كتبه

(50)

الجاحظ، في النَّقد الأدبي، أنَّ القضيَّة المركزيَّة في هذا النَّقد هي «الطَّبعية الشعريَّة»، فكثيرًا ما يذكر «صحَّة الطَّبع»، بوصفها شرطًا أساسًا من شروط فاعلية النَّص الشعري، فنقرأ له، على سبيل المثال، قوله: «فإذا كان المعنى شريفًا، واللفظ بليغًا، وكان صحيح الطَّبع، بعيدًا عن الاستكراه، ومنزّهًا عن الاختلال، مصونًا عن التكلُّف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة»[1].

بغية أن يصنع النصُّ في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة، ينبغي أن يصل إلى المتلقِّي، ويوصل ما تمَّ كشفه في الذات، أي ووفقًا لمصطلحي الجاحظ، أن يكون بيانًا لما في الذات وتبيينًا له، أي وبتعبير آخر، وهو للجاحظ أيضًا، أن يكون «فهمًا وإفهامًا». فيختار صحيح الطبع من «المحدود المعدود» (الألفاظ)، ليؤدِّي «الممددّ المبسوطَ» (المعاني). ما يتشكل نتيجة عملية الاختيار هذه هو النَّص المتَّصف بما يمكن أن نسمِّيه «الطبعية الشعرية»، أو «شعرية الطبعيَّة» وهو ما يعبِّر عنه الجاحظ بما تؤتيه صحة الطَّبع جودة سبكٍ و...، لندعه يقل ذلك: «والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي. وإنَّما الشأن في إقامة الوزن، وتخيُّـر اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحَّة الطَّبع وجودة السَّبك. فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج وجنس من التصوير»[2]. فاللفظ الذي يتم تخيُّره ليس اللفظ المفرد، وإنَّما «النَّسج اللغوي»، كما يقول هنا، أو النظم، كما يقول في موضع آخر.

(51)

تتمثل الشعريَّة إذًا في النَّظم الذي تؤتيه صحَّة الطَّبع القادرة على جعل القول مطابقًا للمقام، فيقول: «ولكلِّ ضربٍ من الحديث ضربٌ من اللفظ...»، و«لكلِّ مقامٍ مقالٌ ولكلِّ صناعةٍ شكل»[1].

وتحدَّث الجاحظ عن المطبوعين من الشعراء المولَّدين، فميَّزهم من الشعراء الآخرين بوصفهم هذا، فقال: «والمطبوعون على الشعر من المولَّدين بشار العقيلي، والسيِّد الحميري، وأبو العتاهية، وابن عُيينة... وبشار أطبعهم»[2]. ولدى حديثه عن النقَّاد يقول: «... ورأيت البصَر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتَّاب أعمّ، وعلى ألسنة حُذَّاق الشعر أظهر»[3]. وتحدَّث عن قضايا بلاغية كثيرة، ما جعله يُعدّ «مؤسِّس البلاغة العربيَّة».

3-4. التاريخيَّة الموضوعية، «الشِّعر والشُّعراء» لعبد الله بن قُتَيْبة (213 – 276 هـ).

 «الشِّعر والشعراء»، لعبد الله بن قتيبة، كتاب في تاريخ الشعر ونقده، ويتألف من مقدِّمة نقدية ومتن يتحدث فيه عن الشعراء وشعرهم.

يعرِّف ابن قتيبة كتابه، في مقدِّمته، فيبدو واضحًا أنه يريد أن يكتب تاريخ الشعر والشعراء، فهو يقول: «هذا كتاب ألَّفته في الشعراء، أخبرتُ فيه عن الشعراء وأزمانهم وأقدارهم، وأحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم، وأسماء آبائهم،

(52)

ومن كان يعرف باللقب أو الكنية منهم، وعمَّا يُستحسن من أخبار الرَّجل، ويُستجاد من شعره، وما أخذته العلماءُ عليهم من الغلط والخطأ في ألفاظهم أو معانيهم، وما سبق إليه المتقدِّمون فأخذه عنهم المتأخرِّون، وأخبرت فيه عن أقسام الشعر وطبقاته، وعن الوجوه التي يُختار الشعر عليها، ويُستحسن لها...»[1].

الواضح أنه يعتمد «الإخبار» عن المسائل التي ذكرها، فيكتب تاريخ أدب، وأنَّه يدوِّن نصوصًا، ويخبر عن المآخذ عليها ووجوه الاستحسان لها، فيكتب نقدًا تغلب عليه صفة الجمع.

يعتمد ابن قتيبة معيارَين في اختياره الشعراء الذين يريد التحدُّث عنهم: أوَّلهما الشهرة، وثانيهما وقوع الحجَّة بأشعارهم في الغريب والنحو، وفي كتاب الله سبحانه وحديث رسوله (صلى...). وهذا يعني أنَّ كتاب «الشِّعر والشعراء» يضمُّ مختارات من الشِّعر والشعراء من منظور معيَّـن. وهو يقول ذلك عندما يتحدَّث عن موضوعيته في النظر إلى ما اختاره، فنقرأ له: «ولم أسلك، في ما ذكرته، من شعر كل شاعر مختار له، سبيل من قلَّد، أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدِّم منهم بعين الجلالة لتقدُّمه وإلى المتأخِّر بعين الاحتقار لتأخُّره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كلًّا حظَّه، ووفَّرت عليه حقه...».

ويفسِّر موقفه هذا بقوله: «ولم يقصُر الله العلم والشِّعر والبلاغة على زمنٍ دون زمن، ولا خصَّ به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك

(53)

مشتركًا مقسومًا بين عباده في كلِّ دهر، وجعل كلَّ قديمٍ حديثًا في عصره...»[1].

يقرِّر ابن قتيبة هذا المبدأ، لكنه لا يلبث أن يخالفه، فعندما يتحدَّث عن بنية القصيدة العربيَّة، يفسِّر تشكُّل الطّلَليَّة تفسيرًا افتراضيًا يرجعه إلى إرادة الشاعر، في ملء شكلٍ موجودٍ مُسْبقًا، ويقرِّر التزام الشاعر بتقنيَّتين شعريتين: أولاهما الالتزام بتتابع أقسام الطَّللية وعدم الخروج عليها، وثانيتهما الالتزام بالوقوف على الطَّلل وليس على المنازل العامرة، وهذا يعني إلزام الشعراء المتأخرين باتِّباع مذهب المتقدِّمين، فيقول: «وليس لمتأخِّر الشِّعر أن يخرج عن مذهب المتقدِّمين في هذه الأقسام...»[2].

وإذ يسعى إلى أن يكون عادلًا / موضوعيًا في الحكم على الشِّعر، فيتحدَّث عن تنوَّعه، يفصل بين اللفظ والمعنى، فيقرِّر أن الشعر أربعة أضرب هي: 1- ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه...، 2- ضرب منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتَّشته لم تجد هناك فائدةً في المعنى. 3- وضرب منه جاد معناه، وقصرت ألفاظه عنه. 4- وضرب منه تأخَّر معناه وتأخَّر لفظه، ويقدِّم أمثلةً لكل نوع تفيد أنَّه يفضِّل المعنى الأخلاقي الحكمي.

4- النَّقد المنهجي

ولم يلبث النَّقد الأدبي العربي القديم أن غدا نقدًا منهجيًا، كثُـرت اتجاهاته وأعلامه، وفي ما يأتي نتحدَّث عن أهمِّها:

(54)

4-1. صناعة الشِّعر، «عيار الشِّعر» لابن طباطبا

أبو الحسن، محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن أحمد بن إبراهيم، طباطبا، الحسين العلوي (ت 322 هـ)، شاعر وعالم بالأدب، ألَّف عددًا من الكتب، منها: «عيار الشِّعر»، وهو مؤلَّفٌ في النَّقد الأدبي، تفاوت الموقف منه، بين معجب به كأبي حيَّان التوحيدي الذي نقل منه، وبين رادٍّ عليه كالآمدي، الذي ألَّف كتاب «نقض عيار الشِّعر».

ألَّف ابن طباطبا هذا الكتاب ليجيب عن سؤالين: أوَّلهما ما هو علم الشعر؟ وثانيهما ما السَّبب الذي يُتَوَصَّل به إلى نظمه؟[1].

يفيد عنوان الكتاب أنَّ المؤلِّف يبحث عن عيارٍ للشِّعر، أي عن معيارٍ أو مقياسٍ للشِّعر. وتفيد قراءة الكتاب أن البحث، في معظمه، نظري، وذا هدفٍ تعليمي؛ إذ إنَّ التقرير النَّظري تليه أمثلةٌ شعرية كثيرة، تؤيِّد وجهة النَّظر المقولة.

يبدو واضحًا أنَّ ابن طباطبا يبحث عن معيار يتمثَّل في خصائص بنية الشِّعر اللغوية، ويمضي في بحثه، من دون استطراد، ويتمكَّن من الإجابة عن السؤالين اللذين وضع الكتاب بغية الإجابة عنهما ببحث تترابط مسائله، وتتدرَّج في سياق يفضي إلى تحقيق الهدف من تأليف الكتاب.

يبدأ الكتاب بتعريف الشعر، ويلي ذلك الكلام على أدواته ووظيفته، وعناصره، وصناعته، وصياغته، ومحنة الشاعر المحدَث في الصِّياغة، وسبيل الخروج منها، ما يقتضي المقارنة بين القديم

(55)

والمحدث، ويفضي إلى عرض تقاليد الشعر العربي، والتفصيل في عيار الشِّعر، الأمر الذي يؤدِّي إلى تقديم نماذج من الشعر متنوِّعةٍ، وتصنيفها بين محكمةٍ وغثَّةٍ وحسنةِ الألفاظ واهية المعاني، وحسنةِ المعاني واهية الألفاظ...، وينتهي إلى ما ينبغي للشاعر تجنُّبه وما ينبغي له إثباته، ليمتلك شعرُه الجمالية الشعرية الفاعلة، وهذا هو عيار الشعر، الذي يحتاج إلى «الفهم الثاقب» ليدركه، كما تدرك أيَّ حاسَّةٍ ما يختصُّ بها، وهذا يعطي المتلقِّي دورًا أساسًا في تبيُّـن الجماليَّة الشعرية، وهو ليس أي متلقٍّ، وإنَّما صاحب «الفهم الثاقب».

يعرِّف ابن طباطبا الشعر، فيقول: «الشِّعر ـ أسعدك الله ـ كلام منظوم بان عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم بما خُصَّ به من النَّظم الذي إن عُدِلَ به عن جهته مجَّته الأسماع، وفَسَد على الذَّوق، ونظمه معلوم محدود، فمن صحَّ طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه. ومن اضطرب عليه الذَّوق لم يستغنِ عن تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق بها حتى تصير معرفته المستفادة كالطَّبع الذي لا تكلَّف معه»[1].

ينظر هذا التعريف إلى بنية الشِّعر اللغوية: النَّظم، وإلى تأثيره في الأسماع والذوق، ويميِّز بينه وبين النثر بالنُّظم، ويرى إلى عملية النُّظم، فصاحب الطَّبع والذوق الصحيحين ينظم تلقائيًا، أما من اضطرب عليه الذوق فيحتاج إلى التعلُّم الذي يملِّكه معرفة تجعله كصاحب الطَّبع والذوق الصحيحين، ولعل هذا التعلُّم هو «كثرة

(56)

المدارسة» التي تحدَّث عنها ابن سلَّام من قبل، وقد نفهم بالطبع والذوق الموهبة أو الملكة التي تُغَذَّى بالمعرفة.

وتحدَّث عن بناء القصيدة، فقال: «فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخَضَ المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا، وأعدَّ له ما يُلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي سلس له القول عليه...»[1]. وهذا يعني أن عملية بناء القصيدة عمليةٌ ذهنيَّة تصدق على نوع من الشعر تكون فيه المعاني جاهزةً مسبقًا، وهذا هو الشعر الذي كان سائدًا في ذلك العصر. وقد أوقعت هذه العملية الشاعر المحدث «في محنة»؛ ذلك أنه سُبق إلى كل معنى بديع ولفظ فصيح وحيلة لطيفة وخلّابة ساحرة[2]...، ويرى للخروج من هذه المحنة أنه «ينبغي للشاعر في عصرنا أن لا يُظهر شعره إلا بعد ثقته بجودته وحسنه وسلامته من العيوب التي نُبِّه عليها، وأُمِر بالتحُّرز منها...»[3]. التجويد في الصياغة، وفاقًا لأصول مقرَّرة، إذًا، هو السبيل إلى تحقيق الجمالية الشعرية الفاعلة، واللافت النصُّ على أن الشاعر يُنبَّه ويؤمر باتباع أصول، ويتكرَّر هذا في قسم من الكتاب ينتهي إليه المؤلف، وعنوانه: «ما ينبغي للشاعر تجنُّبه، وما ينبغي له إثباته»[4]، وفاته أن تصوير ما في النفس غير محدود.

إنَّ هذه نظرية شعرية تجعل الوعي بالمثال الأعلى الشعري العربي الفنِّي والأخلاقي (الأنا الأعلى الشعري) صانعًا للشعر،

(57)

وتجعل الفرادة متمثِلةً في توليد المعاني وفي نظمها، ويُفهم النظم هنا بمعنى الصِّياغة الشعرية، وذلك أن هذا النظم هو الذي يميِّز الشعر من النثر، وهو كما يُسمِّيه ابن طباطبا «صنعة الشِّعر وإحكامه»[1].

ويصل ابن طباطبا إلى تحديد الخصائص النوعية لـ«أحسن الشعر»، أو لـ«الجمالية الشعرية» الفاعلة التي يتلقاها صاحب «الفهم الثاقب»، وهي خصائص شعر يأتي من خارج التجربة الذاتية الحياتية التي لا تكفُّ عن ولادة البنى الشعريَّة المنبجسة شكلًا ومضمونًا من ينابيعها، ويأتي من داخل تجربةٍ ذهنيَّة قوامها وعي بالمثال الشعري العربي الأعلى (الأنا الأعلى الشعري للجماعة) وتقاليده وسننه.

4-2. المُحدث «البديع»، كتاب البديع لابن المعتزّ

أبو العباس، عبد الله بن المعتز بن المتوكِّل... (247 – 296)، شاعر وأديب وناقد وناشط ثقافي، وقد ألَّف، في النَّقد الأدبي كتاب «البديع»، وهو ما سوف نتحدث عنه في ما يأتي.

البديع معناه، في الأصل، الجديد، وأُطلق على ظاهرةٍ شعريَّةٍ عرفها شعر المولَّدين من شعراء العصر العباسي، وبعد أن كتب ابن المعتز كتابه «البديع»، وتبيَّن خصائص هذه الظّاهرة، ووضعها وسمَّاها، أصبحت هذه الخصائص أصولًا بلاغيةً في علم اسمه «البديع».

يتحدَّث ابن المعتز، في مقدمة كتابه عن الهدف من تأليفه، فيقول: «وقد قدَّمنا، في أبواب كتابنا هذا، بعض ما وجدنا في القرآن الكريم واللغة وأحاديث رسول الله J وكلام الصَّحابة والأعراب

(58)

وغيرهم وأشعار المتقدِّمين، من الكلام الذي سمَّاه المحدثون البديع، ليُعلم أن بشارًا ومسلمًا وأبا نوَّاس، ومن تقيَّلهم (تشبَّه بهم) وسلك سبيلهم، لم يسبقوا إلى هذا الفنّ، ولكنَّه كثُـر في شعرهم، فعُرف في زمانهم، حتى سُمِّي بهذا الاسم، فأعرب عنه ودلَّ عليه»[1].

يبدو واضحًا أن ابن المعتز يلاحظ الظاهرة الشِّعرية: البديع، ويرصدها، ويصفها، ويتحدَّث عنها، بوصفها موضع خصومة، وينصرف إلى دراستها، ويتبيَّن أنها ليست طارئةً على الشعر العربي، وأن ليس من انقطاع بين الشعراء المحدثين وتراثهم، الأدبي، وهذا ما يُفهم من قول أبي تمام لمن طلب منه كأسًا من ماء الملام، عندما قال له: إن أتيتني بريشة من جناح الذلِّ آتيك بكأس من ماء الملام، وأنها ظاهرة عربية، وليست وافدةً، والجديد فيها أنَّ هذا البديع كثُـر فيها، فعُرف بوصفه ظاهرةً، جاءت وليدة تطوُّرٍ تاريخي، هذا من نحوٍ أول، ومن نحوٍ آخر يبدو أنه يقول لأنصار القديم: إنَّ ما تأخذونه على المحدَثين إنَّما جاء في تراثكم الأدبي.

اتَّبع ابن المعتزّ منهجًا يمكن أن نسمِّيه نصِّيًا، إذ انطلق من النصوص فقرأها، وتبيَّن خصائصها، وبلور هذه الخصائص، وسمَّاها، فاستحدث مصطلحاتٍ لما اهتدى إليه من خصائص شعرية، وقدَّم أمثلةً تؤيِّد ما ذهب إليه، وهذا نقد منهجي، وإن كانت هذه الخصائص قد غدت أصولًا بلاغية، واصل البلاغيون الزيادة فيها حتى بلغت مئةً وخمسين أصلًا بلاغيًا، فهذا ليس من صنيعه، وإنَّما من صنيع البلاغيِّين الذين أتوا بعده، وتحوَّلوا بالنقد الوصفي النصِّي إلى نقدٍ قاعدي معياري.

(59)

يتألَّف كتابُ «البديع» من خمسة أبواب، خُصِّص كل بابٍ لنوع من أنواع البديع التي يراها ابن المعتز أساسيَّة، وهي: الاستعارة، الجناس، المطابقة، وردُّ أعجاز الكلام على ما تقدَّمها، والمذهب الكلامي.

وأتبع هذه الأنواع البديعية الخمسة بذكر ثلاثة عشر نوعًا بديعيًَّا، رأى أنها بعض محاسن الكلام والشِّعر، وقرَّر أن هذه المحاسن كثيرة تصعب الإحاطة بها، وهكذا يكون هذا الشاعر الباحث قد تبيَّن ثمانية عشر نوعًا بديعيًا، وسمَّاها وعرَّفها ومثَّل لها.

تتمثل أهمية كتاب «البديع» في أنَّه بحثَ في شعريَّة النصوص، وتبيَّن الخصائص وبلورها وسمَّاها، وعرَّفها ومثَّل لها، ووضع مصطلحاتٍ نقديةً غدت بلاغية، وهذا منهجٌ جديد في دراسة أساليب الأدب، إضافةً إلى موقفه الموضوعي من ظاهرةٍ شعريةٍ كثُـر الجدل في شأنها، ووصل إلى حدِّ الخصومة، وقد غدا كتاب «البديع» الكتاب المؤسس لعلم بلاغي هو «علم البديع»، الذي صار البلاغيون يستخدمونه في دراساتهم، ما أدَّى إلى التفنُّن في تحسين الكلام والمغالاة في ذلك.

4-3. علم نقد الشِّعر، «نقد الشِّعر» لقدامة بن جعفر

أبو الفرج قدامة بن جعفر (275 – 337 هـ). نشأ في بغداد، في عصرٍ عُرفت فيه فلسفة أرسطو ومنطقه، وساد الجدل الفلسفي والمنطقي، ووُضعت كتب في غير علم، وجرت محاولاتٌ لوضع علمٍ للنَّقد الأدبي، وكان قدامة أوَّل المبادرين لذلك، عندما وضع كتابه: «نقد الشعر»[1]؛ وإذ نعلم أنَّه عالم في علم الحساب، وفي

(60)

صناعة الجدل والبلاغة، ندرك سرَّ اعتماده المنهج التنظيري المنطقيِّ البلاغي في تأليف كتابه «نقد الشِّعر» موضوع حديثنا.

يبدأ قدامة كتابه ببيان الحاجة إلى وضع كتاب «في نقد الشِّعر وتخليص جيِّده من رديئه»، وذلك لأنه لم يجد أحدًا فعل ذلك، من قبل[1]. وأوّل ما يُحتاج إليه، في هذا الشأن، كما يضيف، «معرفة حدِّ الشِّعر الحائز له عمَّا ليس بشعر»، وإذ لم يجد أبلغ وأوجز من أن يقال فيه: «إنَّه قول موزون مقفَّى يدلُّ على معنى»، وبعد أن يشرح هذا التعريف يقول: إنَّ الشعر الذي يصدق عليه هذا التعريف قد يكون جيِّدًا أو رديئًا، لهذا «يحتاج إلى معرفة الجيِّد وتمييزه من الرديء»[2].

بغية أن ينجز هذه المهمَّة، يعمد إلى ذكر صفات الشعر: الصفات التي تجعل الشِّعر في غاية الجودة، وتلك التي تجعله في غاية الرداءة، والأخرى التي تجعله يقف في الوسط، فيقال: إنه صالح أو متوسِّط. ويفعل ذلك استنادًا إلى تعريفه للشعر آنف الذَّكر، فيقول: إن عناصر الشِّعر أربعة هي: اللفظ، المعنى، والوزن، والتَّقفية، تأتلف هذه العناصر، فتشكل ائتلافات هي: ائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف اللفظ مع الوزن، وائتلاف المعنى مع الوزن، وائتلاف المعنى مع القافية، فتصير أجناس الشعر ثمانية هي: الأربعة المفردات التي يدل عليها حدُّه، والأربعة المؤلَّفات منها. ولما كان، كما يضيف، لكل واحد من هذه الثمانية صفات يمدح بها، وأحوال يعاب من أجلها، وجب أن يكون جيِّد ذلك ورديئه

(61)

لاحقَين للشعر، ويجعله هذا يذكر أوصاف الجودة في واحدٍ واحدٍ منها، ليكون مجموع ذلك إذا اجتمع في الشعر كان نهاية الجودة، وكما ذكر أوصاف الجودة يعقب بذكر العيوب، ليكون مجموع ذلك إذا اجتمع في شعر كان نهاية الرَّداءة[1].

توجد بين هاتين النِّهايتين ـ الجودة والرَّداءة ـ حالات تشتمل على صفاتٍ محمودةٍ وصفاتٍ مذمومة، فما كان فيه من الصفات المحمودة أكثر كان إلى الجودة أميل، وما كان فيه من العيوب أكثر كان إلى الرداءة أقرب، وما تكافأت فيه الصفات كان وسطًا.

ثم يفصِّل في ذكر الصِّفات المحمودة، ويسمِّيها «النُّعوت»، وفي صفات الرَّداءة، ويسمِّيها «العيوب»، فيذكر الصِّفة، ويقدِّم أمثلةً تتمثل فيها هذه الصِّفة، فيقول، على سبيل المثال: «نعت اللفظ: أن يكون سمحًا، سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة، مع الخلو من البشاعة»، ويقدِّم أمثلةً، منها أبيات من قصيدة للحادرة الذبياني[2]. وفي سياق عرضه الصِّفات، يتبيَّـن خصائص شعريةً، فيسمِّيها، ويعرِّفها، فيضع مصطلحاتٍ بلاغية بديعية.

يبدو تقسيم قدامة منطقيًَّا، يمثّل محاولةً لتنظيم علم نقد الشِّعر تنظيمًا أشبه بالعلوم العقلية، وتحويله من الأبحاث الذَوقية، والجزئية، إلى أن يكون علمًا معياريًا، يعلم به تمييز جيد الشعر من رديئه والعلم هنا، بمعنى «إدراك الشيء على ما هو به».

يتبع قدامة، في تأليف كتابه، منهج المنطق الأرسطي، لكن

(62)

تعريفه يخلو من عنصر «المحاكاة»، الذي ذكره أرسطو، ويتضمَّن عنصري المادة والصُّورة، فالمادَّة هي المعاني والأغراض، والصُّورة هي الصِّياغة، والشعرية تتمثل فيها، ولما كانت الأخلاق صفةً للمادة، ولا صلة لها بالصُّورة، لم تكن للأخلاق علاقة بالجودة.

يجد الباحث قرابةً بين ابن طباطبا وقدامة تتمثل في البحث عن «عيار» موضوعي يقوَّم به الشِّعر نفسه، وفي التركيز على الصَّنعة الشعرية، أو الصُّورة، لكن قدامة كان شكليًا في بحثه، ويضع خصائص محدَّدةً سلفًا لكل عنصر من عناصر الشِّعر ينبغي الالتزام بها ليكون الشعر جيِّدًا، في حين فتح ابن طباطبا الطَّريق للخروج من «محنة الشِّعر»، بالإبداع في التوليد والنَّظم. كما يجد الباحث قرابةً بين ابن المعتز وقدامة تتمثل في التحدُّث عن الخصائص الشعرية، غير أنهما يختلفان في المنهج، فابن المعتز ناقدٌ وصفيٌ نصِّي، وقدامة منظِّرٌ معياريٌ يكتب وفاقًا لخطَّةٍ محدّدةٍ بدقةٍ ووضوح، وإيجازٍ وتركيز، وينتهي إلى تفعيل أسسٍ نقديةٍ كاملة، وهذا ما تبقّى من نقد هذا الباحث عن علمٍ لنقد الشعر، ما جعله يُعدُّ بلاغيًا اتبع خطاه كثير من البلاغيين، فوضعوا قواعد بلاغيَّةً عمد كثير من الشعراء إلى اتِّباعها.

4-4. بين البديع وعمود الشِّعر، الموازنة بين الطَّائيِّين للآمدي

أبو القاسم، الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي (ت. 370 هـ). شاعر مرهف الحسِّ، وأديب وناقد يمتلك ذوقًا مثقَّفًا مدرَّبًا، ومعرفةً بعلوم اللغة العربية، والعلوم الفلسفيَّة والمنطق، ألَّف عدَّة كتب في الأدب ونقده. نتوقف لدى كتاب «الموازنة»، منها، فهو موضوع

(63)

حديثنا هنا، وهو كتاب يوازن فيه الآمدي بين الشاعرين أبي تمَّام (ت 231 هـ) والبحتري (ت 284 هـ)، وفي الوقت نفسه بين اتجاهين، في الشعر العربي، يمثل كلُّ من الشاعرين واحدًا منهما، وهما: البديع وعمود الشعر.

يقرِّر الآمدي، في مقدِّمة «الموازنة»، وجود اتجاهَين في الشعر، يمثل أوَّلهما أبو تمَّام وثانيهما البحتري، ويحدِّد خصائص كل اتجاه ويذكر أنصاره، فيقول: «... وإنهما لمختلفان، لأنَّ البحتري أعرابي الشعر، مطبوع، وعلى مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشِّعر المعروف، وكان يتجنَّب التعقيد ومستكره الألفاظ ووحشي الكلام؛ فهو بأن يُقاس بأشجع السَّلمي ومنصور وأبي يعقوب المكفوف وأمثالهم من المطبوعين أولى. ولأن أبا تمَّام شديد التكلُّف، صاحب صنعة، ومستكره الألفاظ والمعاني، وشعره لا يشبه أشعار الأوائل، ولا على طريقهم، لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولَّدة، فهو بأن يكون في حيِّز مسلم بن الوليد، ومن حذا حذوه أحقّ وأشبه». والذين يفضلون البحتري هم «الكتَّاب والأعراب والشعراء المطبوعون وأهل البلاغة»، والذين يفضلون أبا تمام هم «أهل المعاني والشعراء أصحاب الصنعة، ومن يميل إلى التدقيق وفلسفي الكلام»[1].

ثم يحدِّد خصائص كل اتجاه، ومعاييره في الحكم، فيقول: «ولست أحب أن أطلق القول بأيِّهما أشعر عندي، لتباين الناس في العلم واختلاف مذاهبهم في الشِّعر...، فإن كنت ـ أدام الله

(64)

سلامتك ـ ممَّن يفضِّل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحَّة السَّبك وحسن العبارة، وحلو اللفظ وكثرة الماء والرَّونق، فالبحتري أشعر عندك ضرورةً. وإن كنت تميل إلى الصنعة والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة، ولا تلوي على غير ذلك، فأبو تمام عندك أشعر لا محالة»[1].

إن يكن الأمر هكذا، فهو لا يفصح بتفضيل أحدهما، وإنَّـما يوازن معتمدًا منهجًا نصِّيًا موضعيًا، فيقول: «... ولكننَّي أوازن بين قصيدتين من شعرهما، إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية، وبين معنى ومعنى، فأقول أيَّهما أشعر في تلك القصيدة، وفي ذلك المعنى، ثم احكم أنت حينئذٍ على جملة ما لكلِّ واحدٍ منهما إذا أحطت علمًا بالجيِّد والرديء»[2].

ثم يبدأ الموازنة، فيذكر ما عرفه من احتجاج كل فرقة من أصحاب هذين الشاعرين على الفرقة الأخرى، وكان موضوعيًا في عرضه، وبعد ذلك يبدأ بذكر مساوئ هذين الشاعرين، ليختم بذكر محاسنهما، ويذكر طرفًا من سرقات أبي تمام وإحالته وغلطه وساقط شعره، ومساوئ البحتري في أخذ ما أخذه من معاني أبي تمام... ثم يوازن من شعريهما بين قصيدتين...، ثم يذكر ما انفرد به كل واحد منهما، ويفرد بابًا لما وقع في شعريهما من التشبيه وبابًا للأمثال يختم بهما، ويتبع ذلك بالأخبار المجرَّد من شعريهما...[3].

(65)

يبدو واضحًا أن «الموازنة» كتاب ينهض بكتابة تأريخٍ شعريٍ على أساسٍ نقدي، إذ يبلور مؤلِّفه خصائص اتجاهين شعريين، ويسمِّي شعراءهما وأنصارهما، كما أنه يقوم بتأريخ النَّقد الأدبي، عندما يذكر حجج كلِّ من الاتجاهين في تفضيل أحدهما على الآخر، فيمثِّل ذكره هذا نقدًا نظريًا. والمهمة الأساس التي يؤديها هي النَّقد الأدبي النصِّي الوصفي التطبيقي لنصوص كل من الشاعرين، وبيان خصائصها والحكم عليها، وتقديم ذلك للقارئ ليحكم في ضوء ما قُدِّم له من معلومات، ما يجعل هذا النَّقد يقوم بوظيفتين أساسيتين: أولاهما دراسة النَّص وتمييزه وبيان خصائصه وتصنيفه في اتجاه وبلورة خصائص هذا الاتجاه، وثانيتهما تقديم النَّص للقارئ مصحوبًا بهذا كله ليتذوَّق ويتأمل ويحكم، ويكون مشاركًا في الحكم.

إضافةً إلى هذا، يبدو الآمدي ناقدًا يمتلك المعرفة والملكة اللازمتين للقيام بمهمة الناقد، علاوةً على موضوعيته، وقبوله لتعدُّد اتجاهات الشعر، وللآخر، وبيان حجج كل اتجاه، وإن كان من حكمٍ يُصدره، فهو حكمٌ محدَّد، يقول، لدى بدئه الموازنة التفصيلية: «أنا أذكر، بإذن الله، الآن، في هذا الجزء، المعاني التي يتفق فيها الطَّائيان، فأوازن بين معنى ومعنى، وأقول أيهما أشعر في ذلك المعنى بعينه... وأنصُّ على الجيِّد، وأفضِّله على الرديء، وأبيِّـن الرديء وأرذله، وأذكر من علل الجميع ما ينتهي إليها التلخيص، وتحيط به العبارة...»، وهو، إذ يقدِّم للقارئ ما يحصِّله يكله إلى اختياره وفطنته وتمييزه ويقول له: «فينبغي أن تُنعم النظر في ما يرد إليك، ولن ينتفع بالنَّظر إلَّا من يحسن أن يتأمَّل، ومن إذا تأمَّل علم، ومن إذا علم أنصف»[1].

(66)

وهكذا يتكامل الناقد الممتلك المعرفة والملكة والدُّربة...، المنصف، والقارئ الناظر في ما يرد عليه، المتأمِّل، المحصِّل معرفة، والمصدر حكمًا.

نستطيع القول: إنَّ النَّقد الأدبي العربي القديم أصبح نقدًا منهجيًا وصفيًا، موضوعيًا، يُتَّخذ أساسًا لكتابة تاريخ الشعر، وبيان اتجاهاته وخصائصها، ويقوم بدراسة النصوص وتقديمها للقارئ ليكون شريكًا في التذوق والحكم، وقد تمكَّن الآمدي، وهو يوازن بين أبي تمام والبحتري، في شعريهما، أن يبلور خصائص اتجاهين شعريِّين عربيّين هما: اتجاه عمود الشعر الذي يمثله البحتري واتجاه البديع الذي يمثله أبو تمام، وقد فعل ذلك في كتاب محكم التأليف: محاجَّة، فموازنة، فمقارنة، لغته سهلة واضحة متينة في آن، ليس من استطراد وإنما تحديد للقضايا والمسائل وتدرُّج منهجي في مقاربتها.

4-5. عمود الشِّعر ونظام القريض، «الوساطة بين المتنبِّي وخصومه»، للقاضي الجرجاني

أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني (290 – 366 هـ)[1] المعروف بالقاضي الجرجاني. كان شاعرًا وأديبًا ومترسِّلًا، وفقيهًا، ومفسِّرًا، ومؤرِّخًا.... له عدة مؤلَّفات، منها: «الوساطة بين المتنبِّي وخصومه»، وهذا الكتاب هو موضوع حديثنا هنا.

يقول الجرجاني، في بيان الهدف من تأليف كتابه: «ما زلت أرى أهل الأدب، في ما يتعلَّق بالمتنبِّي، فئتين: من مطنب في تقريظه...

(67)

وعائب يروم إزالته عن رتبته، وكلا الفريقين إمَّا ظالم له أو للأدب فيه...؛ وأنا إنَّما أريد إجراء «الحكومة» في هذا الشأن، فلولاها «لبطُل التفضيل»»[1].

و«الحكومة» التي يجريها تتمثَّل في أن للفضل آثارًا ظاهرة، وللتقدُّم شواهد صادقة، فمتى وُجدت تلك الآثار وشوهدت هذه الشواهد، فصاحبها فاضل متقدِّم، «فإن عُثِر له من بعد على زلَّه... انتُحل له عذرٌ صادق، أو رخصة سائغة، فإن أعوز قيل: وزلَّة عالم، وقلَّ من خلا منها...»، فمنهجه إذا هو «الاعتذار» لأبي الطيِّب، كما يقول.

يفضي هذا المنهج في «الحكومة» إلى ممارسة النَّقد الأدبي النَّصِّي الوصفي، فيتبيَّن أغلاط الشعراء في الدَّواوين الجاهلية والإسلامية، ويتحدَّث في تاريخ النَّقد الأدبي، فيعرض بعض ما كان يجري بين الرُّواة والشعراء، ويبحث في النَّقد الأدبي التنظيري، فيرى إلى عملية خلق الشعر، ثم يتحدَّث عن قضايا نقدية، منها: القدماء والمحدثون واختلاف الشعر باختلاف الطَّبائع، والتطور الشعري واللغوي، فلاحظ أثر التَّحضُّر في هذا الشأن، وما يقوله ينفي ما يراه بعضهم من أن اللغة العربية لم تعرف التطوُّر. يقول: «فلما ضرب الإسلام بجرانه، واتَّسعت ممالك العرب، وكثُرت الحواضر ونزعت البوادي إلى القرى، وفشا التأدُّب والتَّظرُّف، اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله، وعمدوا إلى كل شيٍّ ذي أسماء كثيرة اختاروا أحسنها

(68)

سمعًا، وألطفها على القلب موقعًا، وإلى ما للعرب فيه لغات، فاقتصروا على أسلسها وأشرفها»[1].

ويعود إلى النَّقد الأدبي النَّصَّي، فيتحدَّث عن تكلُّف أبي تمَّام وتفاوت شعره واختلافه في القصيدة الواحدة، وعن المطبوعين من الشعراء، والسهل الممتنع من شعر البحتري، والعذب من شعر جرير، والحشو في الشِّعر، ويحدِّد معياره في هذا النَّقد، فيقول: بل أريد «النَّمط الأوسط، ما ارتفع عن السَّاقط السُّوقي، وانحطَّ عن البدوي الوحشي»، وأرى لك أن «تقسِّم الألفاظ على رتب المعاني» و«تُرتِّب كلًا مرتبته وتوفِّيه حقه»، وهذا ليس «بمقصور على الشِّعر دون الكتابة، ولا بمختص بالنظم دون النثر»[2].

ويخلص إلى بلورة «عمود الشعر»، فيقول: «وكانت العرب إنَّما تفاضل بين الشعراء، في الجودة والحسن، بشرف المعنى وصحَّته، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلِّم السبق فيه لمن وصف فأصاب وشبَّه فقارب، وبده فأغزر، ولمن كثرت سوائر أمثاله وشوارد أبياته، ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة، إذا حصل لها عمود الشِّعر ونظام القريض»[3].

وهكذا يضع معيارًا يقاس به الشعر الجيِّد سمَّاه «عمود الشعر ونظام القريض»، وهو معيارٌ لغويٌ ينظر إلى البنية اللغوية ودلالتها ومكوِّناتها: المعنى، اللفظ، الوصف، التشبيه، كثرة الشعر، سيرورته. ويرى أنَّ الدِّيانة ليست عارًا على الشِّعر، وأن سوء الاعتقاد ليس

(69)

سببًا لتأخُّر الشاعر، وإلّا «لوجب أن يُمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ويُحذف ذكره إذا عُدَّت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهليَّة، ومن تشهد عليه الأمة بالكفر...»[1].

وإذ يرى أن «البديع» ليس من عناصر «عمود الشعر ونظام القريض»، يبحث في ظاهرة «البديع» الشعرية، ويقرِّر أنَّ المحسِّنات اللغوية كانت تقع في البيت بعد البيت على غير تعمُّد وقصد، ثم جاء المحدثون، فتكلَّفوا الصنعة الشعرية، فمنهم محسن محمود، ومنهم مسيء مذموم، ومقتصد ومفرط، ولا يلبث بعد أن يعيد ما قاله ابن المعتز عن نشأة هذه الظَّاهرة.

يبدو القاضي الجرجاني واسع المعرفة بالشِّعر والنقد العربيَّين، غير أنَّه غير مدَّعٍ، ومتواضع وقاضٍ عادل، فيذكر للشاعر وما عليه، ويجري ما يمكن أن نسمِّيه «مقاصَّة» و«قياس الأشباه والنَّظائر»، كما يقول محمَّد مندور، فلا يناقش ما خطَّأ به النقاد المتنبِّي، وإنَّما يقيسه بأشباهه ونظرائه عند الشعراء المتقدِّمين، وعنده أنَّهم لم يسلموا هم أيضًا من الخطأ[2]. وهذا القياس، كما قلنا آنفًا جعله يمارس النَّقد الأدبي الوصفي النصِّي ليتبيَّـن المحاسن والمساوئ، وفاقًا لمعيار حدَّده، وهو إذ يفعل ذلك، ويضع مصطلحات بلاغية، ويضع معايير تقاس بها جودتها، يكون قد أسهم في التمهيد ليتحوَّل النَّقد الأدبي إلى بلاغة معياريَّة.

يبدو واضحًا أن القاضي الجرجاني بذل جهده، ووفَّـى الموضوع حقَّه، في نقده الأدبي، وأنَّه عالم متمكِّن من علمه، وقاضٍ

(70)

عادل في حكمه، وناقد بصير حذر، واسع المعرفة، أرَّخ للأدب، وللنَّقد ومارس النقدين الوصفي والمعياري ومع هذا لا يدَّعي، وإنَّما يقرُّ بأنَّه وإن قصَّر فهو يستفيد ويتعلَّم من الآخر... فنقرأ قوله في خاتمة كتابه: «فأمَّا كتابنا، فقد وفَّينا حقَّه، وأتينا على ما وصلت الطَّاقة إليه، فإذا زادنا النظر والفكر والمطالعة والبحث بعض ما يليق به أضفناه إليه: وإن أفادنا غيرنا منه ما قصَّر علمنا عنه استفدناه، وأعظمنا النَّعمة فيه، وعرفنا لصاحبه فضل التقديم، ولرجعنا له بحقِّ التعليم»[1].

4-6. نظرية عمود الشِّعر، «شرح كتاب الحماسة» للمرزوقي

وفي آونةٍ تالية، كَتب أبو علي أحمد بن محمَّد بن الحسن المرزوقي (ت 421 هـ) مقدِّمةً لشرح «ديوان الحماسة» لأبي تمام، وبحث فيها أربعة موضوعات هي: 1- اللَّفظ والمعنى، 2- الاختيار، 3 – العلاقة بين النَّظم والنثر، 4- عمود الشِّعر. وإن لم يضف جديدًا إلى النَّقد الأدبي في الموضوعات الثلاثة الأولى، فإنه، في الموضوع الرابع، حدَّد مفهوم عمود الشعر، وذلك «ليتميَّز تليد الصنعة من الطَّريف، وقديم نظام القريض من الحديث...، ويُعلم فرقٌ ما بين المصنوع والمطبوع»، فعاد إلى العناصر التي ذكرها الآمدي، ووضَّحها القاضي الجرجاني من قبل، وهي: 1- شرف المعنى وصحّته، 2- جزالة اللفظ واستقامته، 3- الإصابة في الوصف، 4- المقاربة في التشبيه، وأضاف إليها: 5- التحام أجزاء النَّظم والتئامها على تخيُّـرٍ من لذيذ الوزن، 6- مناسبة المستعار منه للمستعار له، 7- مشاكلة اللفظ للمعنى وشدَّة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة

(71)

بينهما، واستغنى عن «الغزارة في البديهة»، وعن «كثرة الأمثال السائرة والأبيات الشاردة».

وبعد أن حدَّد عناصر عمود الشعر، وضع عيارًا لكل عنصر، كما يأتي؛ المعنى يُعرض على العقل، الفهم الثاقب، واللفظ يعرض على الطَّبع والرواية والاستعمال، والإصابة تدرك بالذكاء وحسن التمييز، والمقاربة تتبيَّنها الفطنة وحسن التقدير، والتحام أجزاء النَّظم يلحظه الطَّبع والفكر، ومشاكلة اللفظ للمعنى يُتعرَّف عليه بطول الدُّربة ودوام المدارسة، ومناسبة الاستعارة يكشفها الذِّهن والفطنة، وهكذا، كما يبدو، تتمثل معاييره في الطبع والرِّواية، والعقل والفهم الثاقب والفطنة والدُّربة، وهذه المعايير هي صفات الشاعر والنَّاقد، وقد ميَّز المرزوقي بينهما عندما لاحظ التباين بين مختارات أبي تمام وشعره، فقال: إنه كان يختار ما يختاره لجودته، ويقول ما يقوله لشهوته، وقرَّر أن ليس من الضروري أن يكون الشاعر ناقدًا، وإلّا لكان العلماء أشعر الناس، وهذا غير صحيح.

4-7. التحوُّل إلى البلاغة/كتاب الصِّناعتين: الشعر والنثر لأبي هلال العسكري (ت. 395 هـ).

في ما يأتي سنتحدث عن «كتاب الصِّناعتين: الشِّعر والنَّثر»، لأبي هلال العسكري، بوصفه أنموذجًا يمثِّل الاتجاه البلاغي في النَّقد الأدبي.

يبدو أنَّ أبا هلال العسكري، وقد عاصر الصَّنعة البديعيَّة في الشِّعر والنثر، ألَّف كتابًا يمثل الاتجاه البلاغي[1]، فالواضح أن

(72)

عنوان الكتاب دالٌّ على هذا، فموضوع الكتاب هو تعليم الصِّناعتين من طريق تقديم ما ينبغي للشاعر والكاتب القيام به لدى ممارسته صناعته.

لم يولد هذا الاتجاه طفرةً، وإنَّـما هو اتجاه نشأ في الزَّمن الذي بدأ فيه المتكلِّمون يسعون إلى تعلُّم إجادة الكلام ووسيلته «الخطابة»، نلحظ هذا الاتجاه واضحًا في صحيفة المعتزلي «بشر بن المعتمر» التي أوردها الجاحظ في كتابه: «البيان والتبيين».

يتوجَّه بشر بالنُّصح والتعليم إلى المتكلِّم[1]، الذي يريد أن يصنع خطبةً، وإلى الذي يريد صنع قصيدة، وهذا هو الاتجاه القاعدي التقريري التعليمي الذي نلحظه لدى الجاحظ المعتزلي، أيضًا، في كثير من توجيهاته، وهذا يدلّ على دور المعتزلة وعلم الكلام، في هذا الشأن، غير أن الجاحظ يقصر التعليم على الخطاب: خطابةً وجدلًا، ويرى أن الشِّعر وليد صحة الطبع، وقد طوَّر أبو هلال ما جاء لدى الجاحظ عن بلاغة الخطبة، كما يقول، فنقرأ قوله عن كتاب «البيان والتبيين»: «وهو لعمري كثير الفوائد جمُّ المنافع... لما... نبَّه عليه من مقاديرهم [الخطباء والبلغاء] في البلاغة والخطابة، ...إلّا أن الإبانة عن حدود البلاغة وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة في تضاعيفه، ومنتشرة في أثنائه، فهي ضالةٌ بين الأمثلة...، فرأيت أن أعمل كتابي هذا مشتملًا على جميع ما يُحتاج إليه في صنعة الكلام: نثره ونظمه»[2]. قول أبي هلال واضح، فهو يريد تأليف كتاب، يفيد من «البيان والتبين»، غير أنه شامل، منظَّم، متقن، «يشتمل على

(73)

جميع ما يُحتاج إليه في صنعة الكلام»، وهذا كتاب في تعليم صنعة الكلام، وفاقًا لقواعد وأصول مقرَّرة سلفًا، والعلم الذي يعرِّف بهذه القواعد والأصول هو علم البلاغة، وهذا العلم كما يقول العسكري هو موضوع كتابه، ويرقى به إلى مستوى نتبيَّنه في قوله الآتي: «اعلم... أن أحقَّ العلوم بالتعلُّم، وأولاها بالتَّحفُّظ ـ بعد المعرفة بالله جلَّ ثناؤه ـ علم البلاغة ومعرفة الفصاحة الذي به يُعرف إعجاز كتاب الله تعالى...»[1].

وإذ برزت ظاهرة «البديع»، ألَّف ابن المعتز كتابه فيها، وكان دارس نصٍّ بلور خصائص شعرية، وتلاه قدامة، فحاول أن يصنع علمًا لنقد الشِّعر، فكان قاعديًا شكليًا، ويبدو أن العسكري مضى في طريق قدامة. يقول محمَّد مندور في هذا الشأن: «وإذا كان العسكري قد رفض أن يأخذ ببعض تعاريف قدامة، فإنه أخذ عنه كل ما عدا ذلك»، ما يجعله استمرارًا لقدامة، «بل بعثٌ له؛ وذلك واضح في كتابه كلِّه، واضح في منهجه التقريري، وفي غايته التعليمية»[2].

يتصف المنهج التَّقريري بالاعتماد على التعاريف والتقاسيم والقواعد، يبدو هذا واضحًا في أبواب الكتاب، فهي عشرة، أولها «في الإبانة عن موضوع اللغة»، وثانيها «في تمييز الكلام»، وثالثها «في معرفة صنعة الكلام»، ورابعها «في البيان عن حسن السبك وجودة الرَّصف»، وخامسها «في ذكر الإيجاز والإطناب»، وسادسها «في حسن الأخذ وقبحه...»، وسابعها «القول في التشبيه»، وثامنها «في ذكر السجع والازدواج»، وتاسعها «في شرح البديع والإبانة عن

(74)

وجوهه وحصر أبوابه وفنونه». وهذا أطول الأبواب، إذ بلغ عدد فصوله خمسة وثلاثين فصلًا، ذكر فيها هذا العدد من أنواع البديع، بعد أن زاد على ما ذكره سابقوه ستة أنواع، وعاشرها «في ذكر مقاطع الكلام ومباديه».

كما يبدو هذا المنهج التقريري التعليمي واضحًا، في ما تشتمل عليه الأبواب، وفي ما يأتي بعض النماذج الدالَّة، يقول: «ينبغي أن تعرف أن أجود الوصف ما يستوعب أكثر معاني الوصف...»، «ينبغي أن يكون التشبيب دالًّا على شدّة الصَّبابة...»؛ فعلاوةً على «الأمر» بما ينبغي أن يتَّبع، نلحظ فهمًا غريبًا لأغراض الشعر، فالفخر، كما يقول، «هو مدحك نفسك... والمرثيَّة مديح الميِّت، والفرق بينها وبين المديح أن تقول: كان كذا وكذا، وتقول في المديح: هو كذا وأنت كذا...». وهذا فهم يفرغ الشعر من التجربة الشخصيَّة والخبرة الذاتية، ليغدو صوغ معانٍ جاهزة سلفًا. وهذا ما يقوله لدى حديثه عن عملية إبداع الشعر: «إذا أردت أن تصنع كلامًا فأخطر معانيه ببالك، وتنوَّق له كرائم اللفظ...»[1].

الأمثلة كثيرة، وجميعها تؤكِّد ما يختم به العسكري كتابه، فيقول: «على أن هذا الكتاب قد جمع من فنون ما يحتاج إليه صنَّاع الكلام ما لم يجمعه كتابٌ أعلمه»[2].

كان العسكري يعرف ما كُتب قبله في النَّقد والبلاغة، وواكب الظاهرة الأدبيَّة التي كانت سائدةً في عصره، وهي ظاهرة «الصنعة

(75)

والمبالغة فيها»، ورأى أن إتقانها يحتاج إلى تعلُّم، فوضع كتابه هذا ليعلِّم، موظِّفًا ما عرفه من روايات ومعارف في هذا السبيل، فكان أوَّل من تحوَّل بالنقد الأدبي إلى بلاغة، ليس بمفهومها الأساس: الكشف والإيصال، وإنَّما بمفهومها الآخر، وهو القواعد والأصول التي تُتبَّع بغية إجادة الصِّناعتين، بعدما صارتا كأنهما صناعة واحدة.

4-8. دراسات الإعجاز القرآني وبلورة المنهج البلاغي

مثَّل القرآن الكريم محور الدِّراسات العربية الإسلامية، وكان لعلماء الكلام دورٌ أساسٌ في الدراسات القرآنيَّة، ومنها الدِّراسات في علوم اللغة، وبخاصَّة الدراسات التي تبحث في إعجاز القرآن الكريم اللغوي وكانت هذه الدراسات، في معظمها، بلاغيةً... وكان لهذه الدراسات تأثيرها في البحث البلاغي الذي تبلور في القرنين: الرَّابع والخامس الهجريَّين، فأصدر أحد أعلام المعتزلة، علي بن عيسى الرّماني (ت. 386 هـ) كتابه: «النكت في إعجاز القرآن»، وهو دراسة بلاغية محورها وجوه إعجاز القرآن الكريم اللغوية/ البلاغية، رأى فيها أن البلاغة ثلاث طبقات: عليا ووسطى ودنيا، وبلاغة القرآن الكريم في أعلى طبقة، وهي مُعجزة، وما كان دونها فهو ممكن كبلاغة الناس، والبلاغة عنده هي «إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، فأعلاها طبقةً في الحسن بلاغة القرآن الكريم»، والبلاغة تقسم إلى عشرة أقسام هي: الإيجاز والتشبيه، والإستعارة، والتلاؤم، والفواصل والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان»[1]. وإذ عرَّف، تفرَّد بأن أسقط

(76)

الإطناب من البلاغة، وبيَّـن الفرق بين السجع والفواصل القرآنية، فالفواصل تابعةٌ للمعاني أمَّا في الأسجاع فالمعاني تابعةٌ لها. ورأى أن دلالة التأليف ليس لها نهاية، ولهذا صحَّ التحدي فيها بالمعارضة ثم ذكر أقسام البلاغة، وعرَّف كل قسم، وقدَّم أمثالًا عليه من آيات القرآن الكريم، وقد استفاد من صنيعه هذا من أتى بعده من البلاغيين.

ثم أصدر أحمد محمَّد الخطَّابي (ت. 388 هـ) كتابه «بيان إعجاز القرآن»، فقرَّر أن الكلام ثلاث مراتب: البليغ الرصين الجزل، والفصيح القريب السهل، والمرسل، ورأى أن بلاغة القرآن الكريم مزجت من تلك المراتب مرتبةً جديدةً، لم توجد إلّا في كلام العليم القدير، ثم وقف عند عناصر الكلام، فرأى أن الكلام يقوم بثلاثة أشياء هي: لفظٌ حامل، ومعنًى به قائم، ورباطٌ لهما ناظم، وقد حاز القرآن الكريم في هذه المكوِّنات الثلاثة معًا غاية الشرف والفضيلة، وتفرَّد بالحديث عن صنيع القرآن الكريم في القلوب وتأثيره في النفوس.

ثم أصدر أبو بكر محمَّد بن الطيِّب الباقلاني (ت. 403 هـ) كتابه «إعجاز القرآن»، فرأى أن إعجاز القرآن الكريم يتمثَّل في ثلاثة وجوه هي: 1- الإخبار عن الغيب، 2- أميِّة الرَّسول J، 3- بديع نظمه وعجيب تأليفه، وركَّز في الحديث من الوجه الثالث على البديع، وخصَّص له فصلًا، لم يضف فيه أنواعًا جديدة، ورأى أن بلاغة القرآن الكريم عالية، ويذكر مظاهرها ووجوهها، والبديع هو وجه من هذه الوجوه، وهو يذكر الوجه البلاغي، ويمثِّل له من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والشعر العربي، ثم يقيم موازنات بين القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ومختارات من الشعر العربي، ويتبع في موازناته المعايير البلاغية.

(77)

تفيد قراءة هذه الكتب، بوصفها نماذج دالَّة، أن الدِّراسة فيها تتبع منهجًا بلاغيًا، قاعديًا معياريًا، ويقتضي هذا المنهج أن يذكر المؤلِّف الأنواع البلاغية، ويسمِّيها، ويحدَّها/ يعرفها، ويصنِّفها، ويحلِّلها بغية معرفة عناصرها ونوعها، ويقدم أمثلةً قرآنيةً لها، يعقبها بأمثلةٍ شعريةٍ، وقد أدَّى هذا الصنيع إلى انفصال البلاغة عن النَّقد الأدبي، وتحوّلها إلى علمٍ مستقلٍ له موضوعه وقضاياه ومسائله وطرائقه في البحث وقواعده، ورؤياه المتمثلة في أنَّ التراكيب اللغويَّة، وهي هذا العلم، وليس النَّص كله، أو النُّصوص التي تمثل ظاهرةً أدبيَّةً، تخضع لهذه القواعد.

إن عدنا إلى المراحل السابقة، لبدا واضحًا أنَّ الجاحظ رأى أن «النَّظم سرّ الإعجاز»، وأنَّ قدامة أثار مسألة «نهاية الجودة»، وشُغل بالتعريفات والتقسيمات، ولم يدرس النُّصوص، وأن «ابن طباطبا» تحدَّث عن «الصِّدق الذي يحقِّق الجمال...»، وشُغل بـ«محنة الشعر المحدث»، وسبيل الخروج منها، ولم يدرس النصوص، وأنَّ الآمدي تبيّن «طريقة العرب» في قول الشعر، ورفض استنباط مقاييس نقدية تقاس بها جودة الشعر، وأن القاضي الجرجاني رأى أن «سرّ الجمال» يحسُّه «الفهم الثاقب» للناقد الموهوب، وأن أساس النقد، لدى الآمدي والجرجاني، كما يقول محمَّد مندور «هو الذوق المدرَّب»، لكن الذَّوق هذا، كما يضيف مندور، لا يمكن أن يصبح وسيلةً مشروعةً لمعرفة تصحُّ لدى الآخر إلّا إذا علَّل، وهو عندئذ ينزل منزلة «العلم الموضوعي»، والتعليل، ليس ممكنًا في كل حالة، لأن «من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة، ولا تؤدِّيها الصِّفة»[1].

(78)

وقد مثلت دراسات الإعجاز البلاغية رافدًا من روافد علم البلاغة النَّظرية البلاغية، فحصر معظم المؤلِّفين التالين لـ«الرماني» و«الخطابي» و«الباقلاني»... همَّهم في جمع الأنواع البلاغيَّة وتصنيفها وتعريفها وتقديم الأمثلة عليها، من القرآن الكريم والأدب العربي، وجعلها معايير للحكم على النُّصوص الأدبية، ومن أبرز هؤلاء المؤلِّفين الحسن بن رشيق القيرواني (ت. 463 هـ)، مؤلِّف كتاب «العمدة في صناعة الشعر ونقده»، وأبو عبد الله محمَّد بن سعيد بن سنان الخفاجي (422 – 466 هـ)، مؤلف كتاب «سرّ الفصاحة»، وضياء الدين بن الأثير الكاتب (558 – 637 هـ) مؤلف كتاب «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر»، فابن رشيق جمع في كتابه ما كُتب وقيل قبله، وصنَّفه في مئة باب، متّبعًا منهج من سبقه من البلاغيِّين، من دون أن يُعنى بدراسة النصوص، وتحليلها وتبيُّـن خصائصها...، وصنع ابن الأثر مثله، فقيل إنه «جمع فأوعى، ولم يترك شيئًا يتعلق بفنِّ الكتابة إلا ذكره»، أما ابن سنان، فيبحث، في كتابه، في الفصاحة والبلاغة وأسرار كلٍّ منهما وشروطها والفروق بينهما، وفصَّل في البحث، فتكلَّم على اللغة والحروف والألفاظ المفردة وصفاتها وتآلفها والمعاني المفردة وصفاتها...

ثم بلغ علم البلاغة صيغته النِّهائية على يد سراج الدين، أبي يعقوب يوسف بن أبي بكر السَّكاكي (555 – 626 هـ)، في مؤلَّفه «مفتاح العلوم»، وقد صار علم البيان لديه «إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة»[1]، ما يفيد أن الأدبية وفاقًا لهذا المفهوم صارت تُعنى بأساليب أداء المعنى الذهني الجاهز والمحدَّد مسبقًا، باذلةً الجهد

(79)

لإجادة صياغة أدائه وفاقًا لقواعد وأصول مقرَّرة ومحدَّدة مسبقًا، وذلك من دون أن تولي أي اهتمام لينابيع الإبداع الأدبي/ التجربة الأدبية الحياتية من نحوٍ أوَّل، ومن دون أن تدرس نصوص الظاهرة الأدبية دراسةً منهجيَّةً تتيح استخلاص خصائصها من نحوٍ ثانٍ. وهي بهذا تعكس الآية، فبدلًا من أن تنطلق من النصوص صارت تنطلق من القواعد والقوانين.

ثم صارت كتب البلاغة تعيد ما كُتب في هذا الشأن، أو تلخِّصه، أو تشرحه، وتحكِّم القواعد في الحكم على النَّص الأدبي وجماليته، ما جعل أمين الخولي يقول عن البلاغة: «إنَّها نضجت حتى احترقت»[1].

4-9. إعجاز النَّظم، «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز» لعبد القاهر الجرجاني (ت. 471هـ)

يبدو أنَّ القضيَّة التي كانت تشغل عبد القاهر هي «إعجاز القرآن»، وتاليًا «المزيَّة» التي يتميَّز بها الأدب، والتي تجعل منه أدبًا، ولعلَّها المقصودة بعنواني كتابيه: «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز»، وقد وضعهما ليضع المنهج المفضي إلى كشفها ومعرفتها. ويطبّقه، فيدرس النُّصوص ويتبيَّـن خصائصها، من منظور هذا المنهج. فيقول، بعد أن يضع منهجه، وقبل أن يبدأ ببيان أمر المعاني، كيف تختلف وتتفق، ومن أين تجتمع وتفترق: «واعلم أنَّ غرضي، في هذا الكلام الذي ابتدأته، والأساس الذي وضعته أن أتوصَّل إلى بيان

(80)

أمر المعاني...»[1]. فهو يضع «الأساس»، ثم يبحث، ويفصِّل...، فيؤِّسس ببحثه هذا، في «أسرار البلاغة» ما سمِّي بعلم البيان. وهذا ما يفعله، في «دلائل الإعجاز»، فيضع الأساس، ثم يبحث في تركيب الكلام، ويفصِّل في ذلك، فيؤسِّس ببحثه هذا ما سمِّي بعلم المعاني، فما هو هذا الأساس الذي وضعه عبد القاهر نظريًّا وطبَّقه عمليًّا، وسمَّاه «النَّقد»، كما يفهم من روايته لقول بعضهم عن «أبي العباس»: «أما نقده [الشعر] وتمييزه، فهذه صناعة أخرى، ولكنَّه أعرف الناس بإعرابه وغريبه»[2]؟

يرى عبد القاهر أنَّ نقد الشعر وتمييزه صناعةٌ أخرى، وهو يمارسها انطلاقًا من «أساس» يضعه في بداية كلامه، وإن أردنا معرفة هذا الأساس، نعد إلى كتابيه المذكورين، ففي «أسرار البلاغة»، ويبدو أنه ألَّفه قبل «دلائل الإعجاز»، لأنه يُحيل في هذا الكتاب إليه[3]، يتحدَّث بداية عن الكلام، فيرى أن الله تعالى أبان به الإنسان عن الحيوان، وأن هذا الكلام يتفاوت، وأن الحكم في فضل كلام على آخر ليس بمجرَّد اللفظ، وذلك لأنَّ الألفاظ لا تفيد حتى تؤلِّف ضربًا خاصًا من التأليف، و«يُعمد بها إلى وجه دون وجهٍ من التركيب والترتيب»، وهذا الوجه الخاص من التركيب والترتيب يقع في الألفاظ مرتَّبًا وفاقًا للمعاني المرتبة في النفس، واستحسان اللفظ في نفسه «لا يكاد يعدو نمطًا واحدًا، وهو أن تكون اللفظة مما يتعارفه

(81)

الناس في استعمالهم، ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيًِّا غريبًا أو عامِّيًا سخيفًا»[1]. وهذا يفضي إلى القول: إنَّ «الطَّبع»، أي الصدور عمَّا يترتَّب في النفس من معانٍ، هو الذي يملي التركيب، بما في ذلك ما سمِّي بالبديع، وما هو أجلب للاستحسان أن ترسل المعاني على سجيَّتها، وتدعها تطلب لنفسها الألفاظ، من دون أي «حشو»، فصفات اللفظ ليست شيئًا في ذاتها، وقيمتها تكون عندما تضيف إلى المعنى المراد ما يكتمل به[2].

يفيد ما سبق عدَّة أمور: أوَّلها أنَّ ترتيب المعاني في النفس، أو الطَّبع، أو التجربة الأدبيَّة، بلغة أيامنا، هو ما يملي لغةً جميلةً دالَّةً ناطقةً برؤيتها، ونجد ما يؤكِّد هذا في «دلائل الإعجاز»، فنقرأ: «إن المعاني تترتب في النفس، وتترتَّب الألفاظ في الكلام على حذوها، فلكل ترتيبٍ خاصٍ للمعاني في النفس ترتيبٌ خاصٌ للألفاظ في الكلام»[3]. وثانيها أنَّ فكر عبد القاهر النَّقدي مرتبط بالفكر الكلامي العربي، وبالحياة الثقافية العربيَّة؛ ذلك أنَّ هذا الباحث مفكِّر كلامي أشعري، ويفيد، في رؤيته هذه، من رأي متكلِّمي الأشاعرة القائل: إن الكلام «معنًى قائم بالنفس يُعبَّر عنه بهذه الأصوات المسموعة تارةً، وبغيرها أخرى»[4]. وثالثها أنَّ اللفظ المجرَّد في ذاته هو «نواة المعاني»، ولا يأخذ معناه وقيمته إلّا من موقعه في التركيب، «فالألفاظ المفردة التي هي أوضاعٌ للغةٍ لم توضع لتعرف معانيها

(82)

في أنفسها، ولكن لأن يُضم بعضها إلى بعض، فيُعرف في ما بينها من فوائد، وهذا علم شريف...»[1]، ويتساءل، في هذا الشأن: «فهل يقع في وهم ـ وإن جُهد ـ أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن يُنظر إلى مكانٍ تقعان فيه، من التأليف والنَّظم، بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية...»[2]، وهذا يعني أنَّ موقع الكلمة في التركيب هو الذي يحدِّد فضلها، وأنَّ صفاتها اللَّفظية ليست شيئًا في ذاتها، وإنما تكون عندما تضيف إضافةً ذات قيمة، وهذا يعني، أولًا، أن الفصاحة جزء من البلاغة، وأن لا قيمة لأي عنصر في ذاته، وقيمته إنما تتمثل في الدور/ الإضافة الذي يؤدِّيه من موقعه في التركيب، ففي ما يتعلَّق بعدم انفصال الفصاحة عن البلاغة، يقول: «وهل تجد أحدًا يقول: هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها»[3]. وفي ما يتعلق بالموقع يقول: «ليس من فضلٍ ولا مزيَّةٍ إلا بحسب الموضع، وبحسب المعنى الذي تريد والغرض الذي تؤم»[4]. ورابعها أنَّ المحسِّنات البديعية عناصر تتحدَّد قيمتها في الدَّور الذي تؤدِّيه في «تناتج» المعنى، و«تناتج» تفيد تفاعل العناصر جميعها وتعاضدها لإنتاج الدلالة، ولهذا ينبغي أن تصدر هذه المحسِّنات عن «الطَّبع» لتسهم في «تناتج» المعنى، ولا تُقصد لذاتها، لهذا يرى أنَّ التَّباري في الزخرفة يجعل هذه العناصر المفترض أن تنتظم في نظام/تركيب مع بقية العناصر

(83)

موضوعًا للنقد. وخامسها أن لا انفصال بين اللفظ والمعنى، وليس من ثنائية، وإنما هما يولدان معًا عندما تنضج التجربة وتترتب المعاني في النَّفس. وسادسها أنَّ التركيب نظم وليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض، والكلم ثلاث: اسم وفعل وحرف، وللتعليق في ما بينها طرق معلومة، فالتركيب إذًا نظام من العلاقات في ما بين مكوِّناته، ويضيف، بعد أن يعرض طرق التعلُّق: «فهذه هي الطرق والوجوه في تعلُّق الكلم بعضها ببعض؛ وهي كما تراها، معاني النَّحو وأحكامه»[1]. وسابعها أن ليس في التركيب الأدبي من عناصر غير موظفة/ حشو. وإذ يضع هذا الأساس، يبحث في كيفية اختلاف المعاني واتفاقها، ومواضع اجتماعها وافتراقها...، و«أول ذلك وأولاه... القول على التشبيه والتمثيل والاستعارة»؛ وذلك لأن «هذه أصول كبيرة كان جلّ محاسن الكلام ـ إن لم نقل كلها ـ متفرِّعة عنها، وراجعة إليها...»[2].

يبدو كتاب «دلائل الإعجاز» كأنه الجزء الثاني من الكلام على «إعجاز النَّظم»، ففيه يؤكِّد عبد القاهر ما ذهب إليه في «أسرار البلاغة»، ويضيف إليه، ويفصِّل، ثم يبحث في خصائص التركيب، التمثيل والاستعارة والتشبيه والمجاز، ولا يطيل وإنما يحيل إلى «أسرار البلاغة»، ثم يفصّل في البحث في التقديم والتأخير، الحذف، التعريف، التنكير، القصر والاختصاص...، فيؤسس بذلك علم المعاني.

يبدأ كتاب «دلائل الإعجاز» بمدخل يتحدَّث فيه عن «النَّظم»،

(84)

بوصفه تعليق الكلم بعضها ببعض، ويسأل: إذا كان كلام العرب هكذا، فما «الذي تجدَّد بالقرآن، من عظيم المزيَّة وباهر الفضل، والعجيب من الوصف، حتى أعجز الخلق قاطبة»؟ ويجيب: «فإن كان ذلك يلزمنا، فينبغي لكلِّ ذي دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه...».

ثمَّ يبدأ الكتاب بالحديث عن العلم وأهميته، وعلم البيان وفضله، وبأن إعجاز القرآن لا يعرفه إلا من عرف الشِّعر الذي هو ديوان العرب، وبأن الزُّهد في رواية الشعر ومعرفة النحو أمر شنيع، و«أشبه بأن يكون صدًَّا عن كتاب الله، وعن معرفة معانيه؛ إذ كان قد عُلم أن الألفاظ مغلقة على معانيها، حتى يكون هو المستخرج لها...»[1]، ثمَّ يمهِّد للكلام في الفصاحة والبلاغة، فيرى أن الكلام يتفاوت و«... يفضُل بعض الكلام بعضًا، ويتقدَّم منه الشيءُ الشيءَ، ثم يزداد من فضله ذلك، ويترقَّى منزلةً فوق منزلة، ويعلو مرقبًا بعد مرقب...، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، وتحسر الظنون، وتسقط القوى، وتستوي الأقدام في العجز»[2].

إن يكن الأمر هكذا، يبقى أن نعلم «مكان المزيَّة» في الكلام، ولا يكفي القول: «إنَّه خصوصية في كيفية النَّظم، وطريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض»، بل ينبغي أن توصف تلك الخصوصية وتُبيَّـن، وتذكر لها أمثلة، كما «يذكر لك من تستوصفه عمل الديباج المنقَّش»، ويضيف إنَّه ينبغي التفصيل في القول

(85)

ووضع اليد على الخصائص، وعدِّها واحدةً واحدة، وتسميتها شيئًا فشيئًا، فتكون المعرفة معرفة «الصَّنع الحاذق الذي يعلم علم كلِّ خيط من الإبريسم الذي في الديباج...»[1].

ويخلص، بعد إجراء دراسةٍ، نصيَّةٍ، أسلوبيَّة، بلغة النَّقد الحديث إلى القول: «فقد اتضح إذًا اتضاحًا لا يدع للشك مجالًا أن الألفاظ لا تتفاضل، من حيث هي ألفاظ مجرَّدة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تتثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها...، ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر»، ويقدِّم من النصوص ما يثبت ذلك[2]. ثم يقرِّر أن «لا نظم في الكلمات ولا ترتيب حتى يُعَلَّق بعضها ببعض، ويُبنى بعضها على بعض»(1). وإذ يفرغ من الكلام على جنس المزيَّة، يأخذ في تفصيل أمرها وبيان الجهات التي منها تعرض، ويصف ما سوف يأخذ به.

وهو، في دراسته هذه، ينظِّر ويمثِّل، ويدرس النَّص، ومن نماذج دراسته لـ «بديع الاستعارة»، نقرأ ما كتبه عن «وسالت بأعناق المطيِّ الأباطح»، فمن تحدَّث عنها قبله قال: «جعل المطيَّ في سرعة سيرها وسهولته كالماء يجري في الأبطح»، وهذا، كما يقول عبد القاهر «شبه معروف ظاهر»، ويضيف: «ولكن الدقَّة واللطف في خصوصية أفادها، بأن جعل «سال» فعلًا للأباطح»، ثم عدَّاه بالباء، ثمَّ بأن أدخل الأعناق في البين، فقال: بأعناق المطي، ولم يقل بالمطي، ولو قال: سالت المطي في الأباطح، لم يكن شيئًا، وكذلك

(86)

الغرابة في البيت الآخر ليس في مطلق معنى سال، ولكن في تعديته بعلى والباء، وبأن جعله فعلًا لقوله: شعاب الحي، ولولا هذه الأمور كلها لم يكن هذا الحسن»[1].

يقتضي ما سبق أن يشرح معنى النَّظم الذي يظهر فيه سرُّ البلاغة، فيرى أن العلماء أطبقوا على تعظيم شأن النَّظم، ويقرِّر وجوب معرفته، ويعرِّفه بقوله: «واعلم أنَّ النَّظم ليس إلّا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نُهجت فلا تزيغ عنها...»، ويفصِّل في ما تنبغي معرفته: الخبر، الشرط والجزاء، الحال، الحروف، مواضع الفصل والوصل، التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير والحذف، والتكرار، والإضمار والإظهار، ووجوه كلِّ عنصرٍ من هذه العناصر، ويقرِّر وجوب وضع كلِّ من ذلك مكانه، واستعماله على الصَّحة، وعلى ما ينبغي له[2].

وإذ يفعل الأديب ذلك، ينشئ النَّص الذي يُحدث ما يُسمَّى الهزَّة الجمالية، فإن حدث «الاهتزاز في النفس»، فذلك ليس إلّا أنَّ الأديب «قدَّم وأخَّر، وعرَّف ونكَّر، وحذف وأضمر، وأعاد وكرَّر، وتوخَّى على الجملة وجهًا من الوجوه التي يقتضيها علم النَّحو...»، والنَّحو، هنا، ليس القواعد فحسب، وإنَّما هو اتّباع قواعد علم النَّحو في الإتيان بخصوصية تركيب تمليها خصوصيَّة تجربة تلد معاني خاصَّة في النَّفس. وكل خصوصية تختلف باختلاف التجربة، ولهذا

(87)

فإن «الفروق والوجوه كثيرةٌ ليس لها غاية تقف عندها»[1]، وكما رأينا آنفًا «ليس من خصوصية/ مزيَّة إلا بحسب الموضع، وبحسب المعنى الذي تريد والغرض الذي تؤم».

يفضي هذا إلى التمييز بين نوعين من الكلام: أوَّلهما تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده...، وثانيهما لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلُّك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالةً ثانيةً تصل بها إلى الغرض – وبعبارة مختصرة: «أن تقول المعنى ومعنى المعنى، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنىً، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر...»[2].

ويخلص عبد القاهر إلى القول: «فإذا ثبت، الآن، أن لا شكَّ ولا مرية في أن ليس النَّظم شيئًا غير توخِّي معاني النَّحو وأحكامه في ما بين معاني الكلم، ثبت من ذلك أن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن، إذا هو لم يطلبه في معاني النَّحو وأحكامه ووجوهه... غار نفسه بالكاذب من الطمع، ومسلم لها إلى الخدع...»[3].

وهكذا، كما يبدو، كان عبد القاهر منظِّرًا وضع نظرية «النَّظم»، عندما بحث في «إعجاز النَّظم»، وناقدًا أدبيًا يتَّبع منهجًا نصِّيًا وصفيًَّا لغويًّا يدرس النص ويصفه ويتبيَّـن خصائصه وخصوصيته ومزيَّته، والواضح أنه كان ينظر إلى بنية الكلام، وقد

(88)

استخدم مصطلح الأسلوب في بعض كلامه، فقال: «وإن كان ممَّا مضى إلّا أنَّ الأسلوب غيره»[1]، وذلك عندما تحدَّث عن التمثيل. كما يبدو أنه كان ينظر إلى البنية الكلية، ويتضح ذلك من قوله: «واعلم أنَّ من الكلام ما أنت ترى المزيَّة في نظمه والحسن، كأجزاء من الصَّبغ تتلاحق، وينظم بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين، فأنت لا تكبر شأن صاحبه، ولا تقضي له بالحذق، وسعة الذَّرع، وشدَّة المنَّة، حتى تستوفي القطعة، وتأتي على عدة أبيات...»[2].

وإن سأل أحدهم: هل كان عبد القاهر بنيويًَا أو أسلوبيًّا، فهذا سؤالٌ لا محلَّ له هنا، فهو عالم كلامٍ ولغةٍ وناقدٌ عربي، أنجز نظريةً ذات خصوصيةٍ في سياقٍ تاريخي ذي خصوصية، وإن كان من قرابة بين نظريَّته وبين نظريات حديثة، فهذا دلالة على حذقه وعظمته، ما يقتضي منَّا العودة إليه وإلى أمثاله.

4-10. الشِّعريَّة العربيَّة، «منهاج البلغاء وسراج الأُدباء» لحازم القرطاجنِّي (608 هـ/1211م –684 هـ/1285م)

يعرِّف حازم نفسه بأنَّه «المنظِّر المتسلِّح بالمنطق والفلسفة»، ويحدِّد مهمَّته، في كتابه: «منهاج البلغاء»[3]، فيقول: «هي استنباط

(89)

القوانين الشعرية الكلِّية واستخلاصها»[1].

إن قرأنا ما يقوله «تزفستيان تودوروف»، لرأينا أنَّه يحدِّد مهمَّة الشعرية بالسعي «إلى معرفة القوانين العامَّة التي تنظّم ولادة كل عمل، ولكنها بخلاف هذه العلوم التي هي علم النفس وعلم الاجتماع... إلخ، تبحث عن القوانين داخل الأدب نفسه»[2].

وهذا ما يقوله القرطاجنِّي، فبعدما يحدِّد مهمَّته، بوصفه المنظّر، يقول: إن استنباط القوانين الشعرية الكلِّية واستخلاصها يتمَّ من طريق دراسة التراث الشعري والنقدي السابق، فهذا التراث، كما يضيف، «لو تتبَّعه متتبِّع متمكِّن...، لاستخرج منه علمًا كثيرًا موافقًا للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة»[3]. وهذا يعني أنَّ تتبُّعه نصّي، أي دراسة في نصوص الشِّعر والنَّقد التراثيَّين، وهذا ما تقوله النظريات الشعرية الحديثة، أي الانطلاق من النَّص، فهو، إذًا، يتَّبع منهجًا وصفيًا، في حين كانت البلاغة التقليدية العربية تعتمد منهجًا معياريًا، ينطلق من القواعد للنظر في النَّص. وهو، إذ يفعل ذلك، إنَّما يواصل، كما يضيف، ما قام به أسلافه، وخصوصًا الفارابي وابن سينا، ويقول في هذا الشأن: «وقد ذكرت، في هـذا الكتاب، من تفاصيل هذه الصَّنعة، ما أرجو أنَّه من جملة ما أشار إليه أبو

(90)

علي بن سينا»[1].

يدرك القرطاجنِّي أنه «يسلك مسلكًا لم يسلكه أحد» قبله، من أرباب صناعة البلاغة؛ وذلك «لصعوبة مرامه، وتوعُّر سبل التوصُّل إليه، على أنه روح الصَّنعة وعمدة البلاغة»[2].

يثير تحديد النصوص الشعرية والنّقدية التراثية، السابقة لزمنه، موضوعًا لدراسته، السؤال: لم اختيار هذه النُّصوص من دون سواها؟

نجد الإجابة عن هذا السؤال في أقوال للقرطاجنِّي، يمكن أن نعدَّها كتابةً لتاريخ الشعر العربي، يعتمد معيارًا معيَّنًا، وهذا الصنيع، من دون شك، ينتظم في مسار سعيه إلى وضع نظريته الشعريَّة، فهو يسعى إلى استنباط قوانين الشعر من نصوص شعرية يرى أنها تمثِّل الشعر الحقيقي. ولنتعرَّف رأي حازم في هذا الشأن.

يتحدَّث حازم عن مرحلتين شعريتين: أولاهما مرحلة القديم، وثانيتهما مرحلة «هذا الزمان». «في القديم، كان الشاعر، كما قال ابن سينا، «ينزّل منزلة النبي، فيُعتقد قوله، ويصدق حكمه ويؤمن بكهانته»، وفي «هذا الزمان» [زمان حازم] يعتقد كثير من أنذال العالم ـ وما أكثرهم ـ أن الشعر نقص وسفاهة، فانظر إلى تفاوتِ ما بين الحالين: حال كان [الشاعر] يُنزَّل فيها منزلة أشرف العالم، وحال صار ينزَّل فيها منزلة أخس العالم وأنقصهم».

في الحال الثانية، حدث تحوُّل تمثّل «في عجمة ألسنة الناس واختلال طباعهم، فغابت عنهم أسرار الكلام وبدائعه المحرِّكة

(91)

جملة، فصرفوا النَّقص إلى الصَّنعة...»، هذه الصَّنعة هي التكلُّم، وما جاء به القدماء هو الشِّعر، ويقارن بين الصَّنيعين، فيرى «أن منزلة الكلام الذي ليس فيه إلّا الوزن، من الشعر الحقيقي، منزلة الحصير المنسوج من البردى وما جرى مجراه، من الحلَّة المنسوجة من الذهب والحرير، لم يشتركا إلا في النسج، كما لم يشترك الكلامان إلا في الوزن»[1].

والسؤال الذي يطرح، هنا، هو: ما هو مفهوم الشعر الحقيقي؟

يرى حازم أن «الشِّعر كلامٌ موزونٌ مقفَّى، من شأنه أن يحبِّب إلى النَّفس ما قُصد تحبيبه إليها، ويكرِّه إليها ما قُصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمَّن من حسن تخييل له ومحاكاة مستقلَّة بنفسها، أو متصوَّرة بحسن هيئة تأليف الكلام، أو قوَّة صدقه أو قوَّة شهرته، أو بمجموع ذلك. وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب، فإن الاستغراب والتعجب حركةٌ للنفس، إذا اقترنت بحركتها الخيالية قوي انفعالها وتأثرها»[2].

يتكون مفهوم الشعر، كما يرى حازم، من العناصر الآتية: 1- الوزن والقافية، 2- التخييل والمحاكاة، 3- التأثير في النفس، أو الهزة الجمالية كما يقول النَّقد الحديث، والتأثير، إنما يعود إلى حسن التخييل والمحاكاة، 4- التركيب الحسن، أو هيئة تأليف الكلام، 5- الرؤية المتمثلة بقوة صدقها وقوة شهرتها، وقد نفهم أنه يقصد الصدق الشعري الفني، 6- الخيال المثير للدهشة: الإغراب والتعجب.

(92)

إنّ الانزياح الإيقاعي، الوزني والنغمي، هو عنصر لازم من عناصر الشّعر، لكّنه عنصر غير كافٍ، وهذا ما كان حازم القرطاجنِّي قد قاله. قال حازم: الشِّعر مخيّل موزون، الوزن يتقدَّم به الشعر، ويعد من جملة جوهره، وهو تناسب بين أجزاء الكلام ليس كمًَّا (لغةً) فحسب، وإنَّما صوتًا أيضًا، وهو يأتي موزونًا من دون حاجةٍ إلى معرفة العروض[1]، ما يعني، بلغة أيامنا، ووفاقًا لثنائية سوسِّير، أنَّه لغة، وانزياحاته كمًّا ونوعًا هي «الكلام».

الشعرية تتولَّد، كما يرى حازم، من الإيقاع والتخييل والمحاكاة والمحاسن التأليفية والصيغ المستحسنة البلاغية، وقد نفهم بالمحاسن التأليفية بنية النَّص، فهو يقول عن هذه البينة:

«... فإن الكلام المتقطِّع الأجزاء، المنبتر التراكيب، غير ملذوذ ولا مستجلى، وهو شبه الرشفات المتقطِّعة التي لا تروي غليلًا... فلا شفاء مع التقطيع المخل، ولا راحة مع التقطيع الممل، ولكن خير الأمور أوساطها»[2].

إنَّ مفهوم حازم، في هذا الشأن، يختلف عن مفهوم الائتلاف، كما جاء عند قدامة بن جعفر والرمَّاني، وعن مفهوم النَّظم كما جاء عند عبد القاهر الجرجاني، فهو يستخدم مصطلح «التَّناسب»، ويعني «التناغم» بين مكوِّنات العمل الشعري، ويدرسه ليس ضمن دائرة جزئية، وإنما في دائرة شاملة، يدرسها ما سمَّاه «العلم الكلِّـي»، يقول: «معرفة طرق التناسب في المسموعات والمفهومات لا يوصل إليها

(93)

بشيء من علوم اللسان إلّا بالعلم الكلِّـي»[1].

الشعر، كما يرى حازم،  يولد كلًّا كاملًا، فهو: «تركيبات لغوية، تجسِّد الأشياء كما يقدّمها الحسّ والمشاهدة، فترتسم الأشياء في الخيال، فتنتجها النفس تراكيب...»، ولعله بهذا يشير إلى كلِّية النص الشعري، فيخالف ما كثر الحديث عنه، في النَّقد العربي القديم، من فصل بين الألفاظ والمعاني، ويتوافق مع ما يقوله النَّقد الحديث.

ولعل إعطاء الدَّور الأول في العملية للإدراك الحسِّي والمشاهدة هو ما جعل حازمًا يرى: «أن المعاني التي تتعلَّق بإدراك الحسّ هي التي تدور عليها مقاصد الشعر، وتكون مذكورةً فيه لأنفسها، والمعاني المتعلِّقة بإدراك الذِّهن ليس لمقاصد الشعر حولها مدار، وإنما تذكر بحسب التبعية المتعلِّقة بإدراك الحس، لتجعل أمثلةً لها»[2] وهذا الرأي هو من الجديد الذي أتى به حازم القرطاجنِّي؛ إذ نصّ على الطبيعة الحسية للشعر.

بين الصدور عن الطَّبع، واتباع القوانين البلاغية، يرى حازم أن الشاعر الذي يظن «أنه لا يحتاج من الشعر إلى أكثر من الطبع، وبنيته على أن كل كلام مقفى موزون شعر»، إنما يجهل «أن الطباع قد تداخلها من الاختلال والفساد أضعاف ما تداخل الألسنة من اللحن، فهي تستجيد الغث، وتستغث الجيد من الكلام، ما لم تقمع بردها إلى اعتبار الكلام بالقوانين البلاغية، فيعلم بذلك ما يحسن وما لا يحسن».

ويقدِّم من تاريخ الشعر العربي ما يؤيد رأيه، فيقول: «وأنت لا

(94)

تجد شاعرًا مجيدًا منهم إلا وقد لزم شاعرًا آخر المدَّة الطويلة، وتعلّم منه قوانين النظم، واستفاد عنه الدُّربة في أنحاء التصاريف البلاغية، فقد كان كثيِّـر أخذ الشعر عن جميل، وأخذه جميل عن هدبة بن الخشرم، وأخذه هدبة عن بشر بن أبي خازم...»[1].

وهذا يعني أن التعلّم والدُّربة يعنيان امتلاك القيم الجماليَّة للشعرية العربية، وهو ما يعرف في النظريَّات الشعريَّة الحديثة بامتلاك «القارئ الضِّمني»، أو «الأنا الشعري الأعلى».

في تصنيف الأنواع الأدبيَّة، يعتمد حازم، معيارًا تمليه رؤيته التي سبق عرضها، وهو «العمدة»، وقبل أن نتبيَّن ما يعنيه بهذا المصطلح نعود إلى الفارابي لنرى ما قدَّم في هذا الشأن، ثم نقرأ ما جاء به حازم ونقارنه بما ذكره ياكوبسون عن الوظائف الست.

يقسم أبو نصر الفارابي (ت 335 هـ/ 950 م) الكلام، على أساس عنصرَي المحاكاة والوزن إلى أنواع هي: 1- شعر، وهو «أن يكون قولًا مؤلَّفًا مما يحاكي الأمر، وأن يكون مقسومًا بأجزاءٍ ينطق بها في أزمنة متساوية، ثمّ سائر ما فيه فليس ضروريًا في قوام جوهره، وإنَّما أشياء يصير بها الشعر أفضل». 2- قول شعري، وهو الخطابة التي تستعمل شيئًا من المحاكاة يسيرًا. 3- قول خطبي، وهو الأقاويل المقنعة الموزونة. ويرى أنَّ التخييل في القول المحاكي، مثل العلم في البرهان، والظن في الجدل، والإقناع في الخطابة[2].

ورأى حازم أنَّ الأقاويل الشعرية تختلف مذاهبها وأنحاء

(95)

الاعتماد فيها من جهات، وهذه الجهات هي: ما يرجع إلى القول نفسه: [الرسالة]، أو ما يرجع إلى القائل: [المرسل]، أو ما يرجع إلى المقول فيه: [السيِّاق]، أو ما يرجع إلى المقول له: [المرسل إليه][1]، ويتحدَّث عن وظيفة مهيمنة، ويسمّيها «العمدة»، ويرى أن «التخييل» هو قوام المعاني الشعرية، والإقناع هو قوام المعاني الخطابية، وأن وظيفة الشِّعر جماليّة، وليست أخلاقيّة، وجماليته هذه تحدث الهزّة الابداعيّة[2]. وياكوبسون، كما هو معروف، رأى أنّ في النص ستة عناصر وست وظائف هي:

-1 المرسل = وظيفته تعبيرية انفعالية. 2- المرسل إليه = وظيفته تأثيرية انتباهية. 3- الرسالة = وظيفتها جمالية. 4- المرجع = وظيفته مرجعية. 5- القناة = وظيفتها حفاظية. 6- اللغة = وظيفتها تفسيرية ميتالغوية.

(96)

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

النَّقد الأدبي في أوروبا،

 في عصر النهضة

 

(97)

1 - الكلاسيكية

تعود بدايات عصر النهضة، في أوروبا، إلى القرن الثالث عشر الميلادي، فقد عرفت إيطاليا، في أواخر هذا القرن، عودة إلى أدبي اليونانيين القدماء والرومان، وظهور أدباء كبار، منهم: «دانتي» (1265 - 1321)، فقد كتب هذا الشاعر ملحمته: «الكوميديا الإلهيَّة» باللغة المحلِّية الإيطاليَّة، وألَّف كتابين نقديّين هما «فصاحة العامِّية» و«المأدبة»، و«بترارك»، و«وبوكاشيو» اللذين عاشا في القرن الرابع عشر، وقد كتبا باللغة المحلِّية الإيطاليَّة، ودعا أوَّلهما إلى إحياء التراث الإغريقي والروماني، والعودة إليه، وألَّف ثانيهما «حكايات الدِّيكاميرون» التي تفيد من التراث القصصي العربي، وبخاصَّة كتاب ألف ليلة وليلة، وتصدر عن واقع المجتمع الإيطالي.

وهكذا توافرت عوامل للنهوض بالأدب، في القرن الخامس عشر، منها: إحياء التراث الإغريقي والروماني، والدعوة لاتّباعه، ظهور أدباء كبار، التخلِّـي عن الكتابة باللاتينيَّة، والكتابة باللغة

(98)

الإيطالية المحلِّية، وجعلها لغةً أدبيَّةً، الإفادة من التراث القصصي العربي، والصُّدور عن الواقع الاجتماعي في كتابة القصص، إضافةً إلى وجود أُسر ترعى الأدب والفن.

ازدادت هذه الحركة النهضوية قوةً بعد هجرة العلماء والأدباء الإغريق من القسطنطينية إلى إيطاليا سنة 1453، ومعهم الكثير من المخطوطات القديمة، واختراع الطِّباعة سنة 1443، واكتشاف أميركا سنة 1492، وترجمة كتاب «أرسطو» «فن الشعر» وما تلاها من شروح وتعليقات، فقد نشر «جورجيو قلَّا» ترجمةً لاتينيةً له سنة 1498 في البندقية، ثم ظهرت طبعة أخرى له، في البندقية كذلك سنة 1508، وحقَّقه «روبرتلو» تحقيقًا علميًا سنة 1548، والعثور على كتاب «سمو الأدب» المنسوب لـ «لونجينوس»، وقد حققه وطبعه «روبرتلو».

أدّت الحروب الفرنسية الإيطالية إلى اتصالٍ ثقافيٍ أفضى إلى أن يعود الفرنسيون إلى دراسة الأدبَين اليوناني القديم والروماني، ولم يلبث مركز حركة النهضة أن انتقل، في القرن السادس عشر، إلى فرنسا، ويخلص كارلوني وفيللوني إلى القول عن النَّقد الأدبي في هذا القرن: «باستطاعتنا، إذًا، أن نقول: إنَّ القرن السادس عشر لم يقدِّم شيئًا إيجابيًا مهمًا في ميدان النَّقد الأدبي»[1]. وتبلور المذهب الكلاسيكي في الأدب، في القرن السابع عشر، وعمَّ أوروبا، ولم يكن على درجة واحدة، ففي إيطاليا يقترن بدؤه بعصر النهضة،

(99)

منذ القرن الرابع عشر، وفي فرنسا في القرن السابع عشر، وكان فيها أقوى ما يمكن. وفي إنكلترا بدأ بعد الثورة سنة 1866، وفي أسبانيا وألمانيا في القرن الثامن عشر[1]. لكنه كان في فرنسا أكثر أهميةً على مستويي الإنتاج الأدبي والأدباء، ولعل هذا ما يجعلنا نركِّز على الأدب والنقد الفرنسيين في التعريف بالنقد الأدبي في هذه المرحلة في أوروبا.

مثَّل إنتاج الشاعر «كليمان مارو» (1407 – 1544) الجسر الذي يصل القرون الوسطى بعصر النهضة، ولعل أهم إنجازاته النقدية تفضيله الكتابة باللغة الفرنسية المحلِّية، ما أدَّى إلى إغنائها بالمفردات والتعابير، وأسهم في غدوِّها لغةً أدبيَّة. وقد أسهمت حركة أدبية نشطت في ليون، في أواسط القرن السادس عشر، في تطور اللغة والأدب الفرنسيين، ما مهَّد الطريق لجماعة «الثريا» (1540) التي كان على رأسها «رونسار» (1524 – 1585). كان أدباء هذه الجماعة يسعون إلى الارتقاء باللغة والأدب الفرنسيين، وقدوتهم في ذلك الأدب القديم اليوناني ـ الروماني. ويمكن أن نعد بيان هذه الجماعة الصادر سنة 1549 «أكبر مظهر نقدي في القرن السادس عشر من تاريخ فرنسا»، ونجد فيه دعوةً إلى أن يكون للغة الفرنسية ما للِّغات القديمة من مكانة، ولهذا رأوا أن من واجبهم إثراء هذه اللغة، والابتعاد عن «الأسلوب المسطَّح والصناعة اللفظية»[2]، والتجديد في النحو، لأن اللغة الجديدة لا

(100)

بد لها من نحو جديد، والكتابة بها في مختلف الأجناس الأدبية، وتجديد إيقاعات الشعر الفرنسي.

وفي مستهل القرن السابع عشر، ظهر «ماليرب» (1555 – 1628)، فجدَّد في الشِّعر، ومهَّد للأدب الكلاسيكي، وانتقد جماعة الثريا في كتابه «الفن الشِّعري»، وكان يرى أنَّه يمكن الاقتباس من أفكار القدماء، وبخاصة اللاتين، وموضوعاتهم، من دون اتباع تقنيات التعبير لديهم، ويُعدُّ أدبه أدب العقل المتِّصف بالسهولة والوضوح.

ويرى كارلوني وفيللّو أن «ماليرب»، في كتابه: «تعليقات على ديبورت» لم «يفيدنا [يفِدنا] عن نظريات «ماليرب»، في مادة اللغة ونظم الشِّعر أكثر مما يفيدنا عن حسنات ديبورت وسيئاته».

ويضيف الباحثان: «لقد كانت مسألة القواعد تسيطر حتى سنة 1660 تقريبًا على النقد، إذ اتفق النُّقَّاد المحترفون، وحتى الأدباء، على الاعتقاد بأن هناك جمالًا مثاليًا وثابتًا وصل إليه الأقدمون، وبأنَّنا لا نخطئ إنتاج الرَّوائع إذا ما طبقنا بعض القوانين التي نجدها عند أرسطو، أو بالأحرى عند شرَّاحه الإيطاليّين»[1].

وفي النّصف الثاني من القرن السابع عشر بلغت الكلاسيكية في فرنسا ذروتها، فظهر في المسرح «كورني» (1606 – 1684)، و«راسين» (1639 – 1699)، و«فولتير» (1600 – 1673)، وفي الأمثال «لافونتين» (1621 – 1695)، وفي الشعر والنقد «نيقولا

(101)

بوالو» (1636 – 1711)، وكان ناقدًا يتبع مبادئ المذهب الكلاسيكي في نظم الشعر ونقده، ومن أعماله ترجمة كتاب «سمو الأدب» إلى الفرنسيَّة، ونظمه قصيدةً تعليميةً في نظم الشعر، تأثر فيها بـ «أرسطو» و«هوراس» و«لونجينوس». أصدر كتاب «الأهاجي»، وهاجم فيه الشعراء، ضعاف الشاعرية ومدَّعي الكلاسيكية. ويبدو في كتابه «الأهاجي هجَّاءً أكثر منه ناقدًا» كما يبدو كتابه «الفن الشعري» مجموعة أفكار عامَّة أكثر منه كتابًا مؤلَّفًا نقديًا[1]، وفي النَّقد ظهر «لابرويير». وكان النقَّاد الكلاسيكيون يتبعون مبادئ في نقدهم، من أهمها: 1. الحقيقي وحده هو الجميل والممتع والمحبوب... 2. العقل وحده هو الموجِّه. 3. تقليد القدماء. 4.التجويد الأدبي، والوصول به إلى درجة الكمال، شريطة عدم التكلُّف. 5. الجمال والخير صنوان، صوغ أنموذج كلِّي جمالي أخلاقي. 6. إنسانية الأدب. 7. موضوعية الأدب. 8. الكتابة باللغة الوطنية.

عُرف هذا النَّقد الذي يتَّبع مبادئ محدَّدة، في دراسة النَّص، ويحاكمه على أساسها، بالنقد القاعدي، ولم تسلم هذه القواعد من الخروج عليها، كما فعل شكسبير في إنكلترا.

2 -  بين القديم والجديد، في تطوّر الحركة الأدبيَّة

ولم يلبث كثير من الأدباء والنقَّاد أن وجدوا أنَّ في أدبهم القومي ما يضاهي أدب القدماء، ورأى بعضهم أن المحدثين

(102)

يتفوَّقون على القدماء، فأثار هذا احتجاجًا من أنصار القدماء، وجرى جدال أفضى إلى انتصار التيار الجديد، ومن العوامل التي أسهمت في حدوث هذا التحوُّل: تطوُّر العلوم، فردية الأديب وفرادته الدافعتان إلى الخروج على القواعد، التطور الاجتماعي ـ السياسي الذي يقتضي الصدور عنه، فالحياة تتغير، ولا بد للأدب الذي يمثلها من أن يتغير، وهكذا يجد الباحث، في القرن الثامن عشر، فولتير، وفي مقابله جان جاك روسو، فمع الأول كان عصر ينتهي، ومع الثاني كان عصر يبدأ، يقول «كارلوني» و«فيللو»: «أمَّا فولتير فباستطاعته أن يكون صورةً عن الناقد الحقيقي، وحتى عن الناقد المحترف»، لكن النَّقد، في هذا العصر «بقي دائمًا تقريبًا، نقدًا للنقائص»، فهو، في كتابه: «معبد الذَّوق»، يوزِّع نصائحه...، «إنه نقد معلم المدرسة الذي يشير بالحبر الأحمر على الهامش إلى الأخطاء»[1].

وفي العصر الجديد، تمَّ إنتاج أدب جديد يواكبه نقد جديد، من مبادئه: حبُّ الطبيعة والعودة إليها، مركزيَّة الذات والصُّدور عنها، العاطفة، الخيال،... وستكون هذه المبادئ نواةً لما عرف، في ما بعد، بالمذهب الرومانسي.

الملاحظ أن هذا المذهب أينع في إنكلترا وألمانيا ونضج قبل أن ينضج في فرنسا، التي كان التغيير الحاسم فيها على يد «شاتوبريان» (1768 – 1848). نجد عناصر من مبادئ هذا المذهب الجديد في المذهب القديم، مثل: المحلية

(103)

والوطنية، وتصوير داخل الذات الإنسانية، والصراع الذي يجري فيه. مهَّد كتَّاب، منهم جان جاك روسو (1712 – 1778) ومدام دوستايل (1766 – 1817) للرومانسية في فرنسا، وفتح «شاتوبريان» الطبيعة المغلقة، وابتدع الكآبة العصرية، وجدَّد النقد، وفي مجال النَّقد الأدبي ركَّز على جمالية النص والربط بين الأثر الأدبي والواقع الذي يصدر عنه، وأثارت مسرحية «فيكتور هيغو»«هرناني» ومقدمته لمسرحية «كرومويل» جدلًا عنيفًا، ما رسَّخ هذا المذهب الذي عمَّ أوروبا. بعد أن مرَّ بمراحل عديدة تعايش فيها والمذهب الكلاسيكي، ثم ساد، وقد استغرق هذا التطور قرابة قرنٍ من الزمان.

اتبع النقَّاد الرومانسيون مبادئ، منها:

1. الصُّدور عن كيانية الذات الإنسانية، فالفرد هو محور الأدب لا الأنموذج الكلِّي. 2. الصُّدور عن عيش الذات حياتها المحلِّية، الشخصية والوطنية. 3. التمرُّد، والحرية في الإبداع، وعدم التقيُّد بقواعد مسبقة. 4. العودة إلى الدين ومصادره، لا إلى الأساطير اليونانية والرومانية. 5. العودة إلى الطبيعة. 6. الخروج إلى عوالم جديدة وغريبة. 7. الأبطال بشر من التاريخ أو الواقع. 8. غلبة الكآبة. 9. ليس من فصل بين الشكل والمضمون. 10. التعبير باللغة الحيَّة غير المتكلَّفة أو المصنَّعة.

ودائمًا يحدث التغيُّـر، فالحياة تتغير، وإذ يتم تمثلُّها أدبًا ويكون هذا الأدب متغيِّرًا، تتكوَّن في النظر إليه حركةٌ نقديةٌ

(104)

جديدة، فبعد الرومانسيَّة جاءت «البرناسية»، وهي مذهبٌ أدبيٌ يعنى بالجمال الشكلي والإيقاع الموسيقي، ومن أعلامه «لوكنت دوليل» و«هيرديا» و«ألبير سامان»، تلتها «الرمزية»، وهي مذهب أدبي يدعو إلى الإبداع الحر واستخدام لغةٍ جديدةٍ تلتقط التجربة الشعورية وتعبِّـر عنها بأسلوب يثير الأحاسيس الكامنة، من طريق اللمح والومض والتكثيف والرَّمز الموحي بالحالة، والموسيقى الشعرية...، ومن أعلامه «بودلير» (ت 1867)، و«ستيفان مالارميه» (1842 – 1898)، و«بول فرلين» (1844 – 1896)، و«أرتور رامبو» (1854 – 1891) و«أبير سامان» (1858 – 1900).

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نشط أدباء في اتجاه آخر، عُرف باسم الواقعية، وهي مذهب أدبي، عرف غير اتجاه كالواقعية الطبيعية، النقدية، الاشتراكية. والمبدأ العام المشترك بين اتجاهاته: إن الأدب إبداعٌ لغويٌ يمثل الحياة الإنسانية، في مختلف أحوالها، وتفاصيلها وجزئياتها، وتمثيل الحياة ليس نقلًا لها وإنما إعادة خلقها من منظور الأديب، ومن أعلامه «بلزاك» (1799 – 1850) و«ستندال» (1783 – 1842) و«إميل زولا» (1840 – 1902) و«غي دي موباسان» (1850 – 1893) و«غوستاف فولبير» (1821 – 1880) و«ديكنز» و«توماس كارلايل» و«غوغول» و«دستويفسكي»، و«تولستوي» و«مكسيم غوركي» (1868 – 1936). وفي مسار تطور الحركة الأدبية، نشأت سنة 1915 حركة «الدادائية» وهي حركة أدبية

(105)

وفنية عالمية قوامها الاحتجاج والرفض، وإن كان توهُّجها قد انطفأ سريعًا، فقد حلَّت مكانها «السرياليَّة»، وتعني ما وراء الواقع، أي البحث عن واقع خفي يكمن في أعماق الذات، في اللاوعي واللاشعور. دعا السرياليون إلى الكتابة العفوية الآليَّة وتدوين أحلام اليقظة، والتقاط التداعيات والهذيان. يقول بروتون: السريالية هي «أولًا في الذِّهن في غياب كل رقابة من العقل، وخارج أي اهتمام جمالي أو أخلاقي» ومن أعلامها جيمس جويس (1882 – 1948) وأندريه بريتون (1896 - 1966)، وبول إيلوار (1895 - 1952).

(106)

 

 

 

 

 

 

الفصل الخامس

مناهج النقد الأدبي الحديث

 

(107)

مقدِّمة

في ضوء هذا التعريف الموجز بتطوُّر الحركة الأدبية في أوروبا ومذاهبها، نعمل على تقديم معرفة بمناهج النَّقد الأدبي التي واكبت هذه الحركة، وبلورت مبادئها التي تعتمدها في دراسة النَّص الأدبي وتمييزه وتبيُّن خصائصه وبلورتها، وكتابة تاريخ الأدب على أساس نقدي...

هذه المناهج تكوّنت في سياقٍ تاريخيٍ شكّلته عوامل كثيرة ثقافية واجتماعية وسياسيَّة واقتصاديَّة، ويمكن تصنيفها وفاقًا لمعيار هو النظر إلى النصّ الأدبي، فإن كان النظر إليه من خارجه سُمِّيت هذه المناهج خارجيَّةً، وإن كان النَّظر إليه من داخله سُمِّيت هذه المناهج داخليَّةً، ونجد بعض المناهج التي ترى إلى النَّص من زوايتي النَّظر، وخصوصًا في بدايات تشكُّل هذه المناهج، واستقلال كلٍّ منها عن الآخر، ولا نعدم أن يجد الباحث نُقادًا يستخدمون غير منهج في دراستهم للنَّص، وتقديمنا لكلٍّ من هذه المناهج بوصفه منهجًا مستقلًا لا يعني أنه لا يمكن أن يتعاضد ومنهجًا آخر في تحصيل المعرفة، إن اقتضى الهدف من الدراسة ذلك، فمن البديهي القول: إن الهدف هو الذي يحدد المنهج المعتمد في سبيل تحقيقه.

في ما يأتي، نقدِّم معرفةً موجزةً بهذه المناهج تقتضيها طبيعة هذا

(108)

الكتاب محدود عدد الصفحات، مبتدئين بالتحدُّث عن ناقد «ليس له مذهب نقدي، وإنما هو صاحب طريقة»[1]، وهو «سِنت بيف» (Saint – Beuve).

1. صاحب طريقة، «سنت بيف» (1804 – 1869)

لم يبدع «سنت بيف» في الشعر والرواية، فتحوَّل إلى ناقد يحاول العثور على ذاته في ذوات الآخرين، فغدا النَّقد لديه نوعًا أدبيًّا كأنّه «شعر نقدي» أو «نقد شعري» «يأخذ من محبرة كل كاتب الحبر الذي سيصوّره به»، فتميَّز «بامتياز نادر، وهو أنه يبشِّر بجميع أشكال النَّقد تقريبًا التي ستُفتتح بعده، ويختصرها في ذاته»، من دون أن يكون من أصحاب النَّظريات، واضعي المذاهب[2].

نشر، وهو في العشرين من عمره، أولى مقالاته في المجلة الرومنطيقية «لي غلوب»، وأعدَّ، سنة 1827، دراسةً مطوَّلةً عن شعر «فيكتور هيغو»، وبقي يتابع كتاباته عن الشِّعر الفرنسي في القرن السادس عشر، ثم جمع كتاباته، سنة 1828، في كتاب مستقل.

ومنذ 1830، وجد «طريقته»، طريقة «الصُّورة الأدبيَّة»، فكان «صانع الصُّور والمؤرِّخ»، الذي يعرِّف الكاتب، ويرسم صورته النفسية والأخلاقية والأدبية، أكثر مما يحكم عليه، كان ينشر كتاباته في «مجلة باريس»، ثم في مجلَّة «العلمين»، وجمع مقالاته، سنة 1832، وأصدرها في كتاب عنوانه: «نقود وصور أدبية».

ألقى في عامي 1837 و1838 دروسًا في جامعة «لوزان»، وعاد

(109)

يواصل كتابة مقالاته، وجمع، سنة 1840، محاضراته التي ألقاها في جامعة «لوزان» في كتاب اسمه «بور رويال» يرسم فيه صورةً لمجتمع القرن السابع عشر وأدبه.

كان يبتعد عن الرومنطيقية، ويقترب من الواقعية. وإذ نجحت ثورة 1848، انتقل إلى «لييبج»، وعمل في جامعتها.

ودأب، منذ سنة 1849 حتى سنة 1861، على نشر مقالات تحت عنوان: «أحاديث الاثنين»، في صحيفة «الدستوري»، ثم في صحيفة «الناصح» ثم تحت عنوان: «أحاديث الاثنين الجديدة». في هذه الأحاديث، بدا أكثر اطِّلاعًا وميلًا إلى موقف موضوعي، وعمد إلى إصدار أحكام على الصور التي كان يرسمها. وقد كتب، في وصف أحاديثه هذه: «أريد اطلاعًا، ولكنه اطلاع يسيطر عليه الحكم، وينظمه الذوق... إن ما أفعله هو نوع من التاريخ الطبيعي الأدبي»[1].

كان يبدأ المقال بمقدِّمة تثير اهتمام القارئ، ثم يعرِّف بالكاتب، ثم يدرس النَّص في ضوء المعطيات السيريَّة والاجتماعية، ويخلص إلى نتائج يغلب عليها طابع التأمَّل، ولعل هذا ما جعل نيتشه يسمِّيه «عبقري النَّميمة».

يقول «كارلوني» و«فيللو» عنه: «...فهو واسع الاطلاع من دون أن يكون كاملًا، وهو علمي من دون أن يؤمن بذلك، وهو تأثري لأن ذلك واجب دائمًا، وهو جامعي جدًا أيضًا عندما يدرِّس في «لوزان»، أو «لييج»، لقد اعتبر هذا المتلكِّئ المتشكك والمتعمِّق الناقد الذي كأنَّه كنوع «أبي براقش» المتلوِّن الذي يأخذ، على التوالي، كل الأشكال، من دون أن يقف عند لون محدَّد»[2]، وجلُّ

(110)

هدفه «أن يبحث عن الفردية بأعلى ما لديها من تميُّز»[1].

إن هذا يجعل مؤرِّخي النَّقد يرون أن الأدب الفرنسي عرف في القرن التاسع عشر ثلاثة كُتَّاب كبار هم: «فيكتور هيغو» و«بلزاك» و«سنت بيف»[2].

2 - الانطباعيَّة Impressionisme

الانطباعية أو التأثُّريَّة قديمة قِدم النَّقد الأدبي، فهذا النَّقد، عمومًا، نشأ ـ أوَّل ما نشأ ـ انطباعيًا أو تأثُّريًّا، ولم يتخلَّص من الانطباعيَّة، أو التأثُّرية، طوال تاريخه، وفي جميع مذاهبه.

تعني كلمة تأثُّر اللقاء المباشر، بين النَّص والمتلقِّي، والذي يحدث تغييرًا في ذات هذا الأخير، هذا التَّغيير هو الانطباع، والتَّعبير عنه تلقائيًا بلغةٍ سليمة واضحةٍ هو النَّقد الانطباعي.

والانطباعيَّة، «في النَّقد الأدبي، تتمثَّل في أن يعيد النَّاقد الانطباع ـ أو الأثر ـ الذي تركه في نفسه نصٌّ إنشائي، من قصيدة، أو قصَّة، أو مسرحيَّة، أو كتاب... كما هو في حالة حدوثه، وفي الساعة التي تلقَّى فيها الناقد النَّص، من دون إضافة، أو اهتمام بأمر سواه...، ومن دون أدنى اهتمام بالصحَّة والخطأ والعلميَّة والموضوعيَّة، فالمسألة ذاتية صرف»[3].

لا يستخدم الناقد الانطباعي أدوات الشَّرح والتعليل: مبادئ وأصول سابقة، ولا يدَّعي الوصول إلى حكم نهائي وحاسم، وإنَّما

(111)

ينقل ما انطبع في ذاته لحظة التلقِّي من دون أيِّ إضافة.

اقترن النَّقد الأدبي الانطباعي بأديبَين ناقدَين فرنسيَّين هما: «أناتول فرانس» (1844 – 1924)، و«جيل لمتر» (1853 – 1914)، فقد كتبا أدبًا انطباعيًا ونقدًا انطباعيًا، وهاجما النَّقد العلمي والمنهجي.

كتب أناتول فرانس الشعر والقصَّة والمقالة والمسرحيَّة، ويتميَّز أسلوبه بالمتانة والسخرية. ويرى أنَّه لا يوجد فنٌ موضوعي ولا أدبٌ موضوعي، والفنان أو الأديب لا يخرج من ذاته أبدًا، والأدب الأفضل هو الأكثر إمتاعًا، والنُّصوص التي تبدو أكثر جمالًا هي التي تبقى دائمًا غائمةً لدينا، وتخبِّئ دائمًا للقارئ أسرارًا.

كتب «فرانس» مقالاتٍ أسبوعيةً في جريدة «الوقت» (le temps) منذ سنة 1888 حتى سنة 1893، وجمع ما كتبه في مجلدات صدرت تباعًا تحت عنوان «الحياة الأدبية». وممَّا جاء في هذه المقالات عن النَّقد الانطباعي: «... مقالاتي ليست سوى انطباعات أمينة مدوَّنة بعناية، والناقد الجيَّد هو ذاك الذي يسرد مغامرات نفسه في وسط الروائع... والنقد يستند إلى اللذة التي يقدِّمها مصنَّف ما. وهذه اللذَّة هي المقياس الوحيد لجدارته...».

أمَّا «جيل لمتر» فهو أستاذ جامعي، استقال من وظيفته ليتفرَّغ للأدب والنَّقد. كتب في «المجلة الزرقاء» مقالات نقديَّة، وجمعها في سلسلة مجلدات باسم «المعاصرون» صدر المجلد الأول منها سنة 1886. افتتح الجزء الأول من «المعاصرون» بقوله: «ليست هذه المقالات... إلّا انطباعاتٍ صادقةً سُجِّلت بعناية». وفي مقال له يقول: «إنَّ الأعمال الأدبية تمرّ أمام مرآة روحنا، ولكن بما أن المسيرة

(112)

طويلة، فإن المرآة تتغيَّـر خلال ذلك، وإذا عاد العمل الأدبي نفسه مصادفة، فإنه لا يعكس الصورة نفسها». لهذا، «لا نحبُّ المؤلَّفات الأدبيَّة لأنها جيِّدة، بل تبدو لنا جيِّدة لأنَّنا نحبُّها»[1].

من النقَّاد الانطباعيين، أيضًا، «ريمي دي غورمون»، وهو يعتقد بأنه ما من يقين ممكن، ويريد أن يتمكَّن من تذوُّق كل الأفكار الواحدة تلو الأخرى، من دون أن يقف عند إحداها، ويرى أنَّه ليس من جمال مطلق، وأن لكل كاتب شخصيته الخاصة وفكرته الشخصية عن الجمال، ما يفضي إلى القول: من الممكن عدُّ النَّقد تفسيرًا للمثل الأعلى لكل كاتب[2].

ومنهم، كذلك، «أندريه جيد» «رسول عبادة الأنا، وخصم نزعة التَّمذهب، والمنتقل باستمرار وحرص على الإخلاص، من موقف إلى آخر، مدفوعًا بطبيعته، بدوره، نقدًا تأثُّريًا...»، وهو يؤكِّد أن كتابه عن «دوستويفسكي» ليس سوى حجَّة للتعبير عن أفكاره الخاصَّة، وأنه عندما يضع كتابًا في النَّقد يكون قد وضع كتابًا في «الاعترافات»[3].

ليس من شكٍّ في أن تدوين الانطباع يقدِّم للتاريخ الأدبي وثيقةً، تقدِّم لنا معرفةً بالقارئ الضِّمني، أو الأنا الأعلى الأدبي الذي صدر عنه الانطباع، ذلك أنه هو الذي يشكِّل «مرآة الروح»، وبهذا نعرف ما كان سائدًا من قيمٍ أدبيةٍ في زمن تدوين الانطباع، هذا إضافةً إلى أنَّ جميع النُقَّاد، أيًا تكن درجة موضوعيتهم، لا يستطيعون التخلُّص من

(113)

التأثرية الانطباعية، ولو لا شعوريًا، فالأنا الأعلى المشكِّل للتذوُّق، وهو أداة الانطباع، لا ينفك يمارس دوره، ولو في خفاء، لكنَّ السؤال الذي يُطرح هنا هو: ألا يتصف النصُّ الأدبي الذي ترى إليه «مرآة الروح» بخصائص جماليَّة موضوعيَّة يمكن لأيَّ مرآة أن تعكسها وتبيِّنها؟ نجيب بالإيجاب، لأن هذه الخصائص هي سرُّ خلود الأعمال الأدبيَّة العظيمة وقهرِها الزَّمن، وتخطِّيها حدود المكان والفروقات بين البشر.

3 - في سبيل نقدٍ علمي

تطوَّرت العلوم في منتصف القرن التاسع عشر، وغدا التوجُّه إلى اتّباع منهج بحث ينطلق من الوقائع إلى تبيُّـن قوانينها، وقد تأثَّر النَّقد الأدبي بهذا التطوُّر، فجرت محاولات لكتابة نقدٍ علمي، وتجاوز «الذاتية» التي اتُّهم بها «سنت بيف». فنادى «فيلمان» بـ «الموضوعيَّة» و«الحكم بتجرُّد تام»، ورأى أن «النَّقد المتجرِّد يسبق الرأي»، لكنَّه، وهو يطبِّق رؤيته النظرية، كان «مخيبًا للآمال...»، وذا طريقة «إيديولوجية»[1].

وحاول هيوبوليت تين (1828 – 1893) وضع مبادئ نقد علمي، ومنها: «إنَّ علينا أن لا نحكم إلّا باسم المبادئ الموضوعية، وأن نفتِّش، من دون كلل عن تحديداتٍ وأسباب». وفي مقدِّمة كتابه: «الأدب الإنكليزي» يرى أن العوامل الثلاثة موضوع البحث هي العرق أو الجنس والبيئة والزَّمان. ما يعني أن هذه المؤثرات الحتمية تخلق الشخصيَّة، فإذا تمت معرفة جنس الإنسان وبيئته وزمنه، أي

(114)

«النُّسغ» الذي تغذَّى به، أمكن تحديد الصِّفة السائدة فيه، وهي العنصر الذي تنبثق عنه الصِّفات الأخرى، فهذا المنهج «ضربٌ من علم النبات لا يُطبَّق على النبات فحسب، وإنما على المؤلَّفات الأدبية أيضًا»، وهذا ما جعل«سنت بيف» يأخذ على «تين» إغفاله أمرًا مهمًّا جدًَّا، وهو فرادة الأديب. غير أنَّه يبقى لهذا الناقد فضلُ البحث عن شروط الحكم استنادًا إلى الوقائع، مع أنه حكم أكثر ما يكون استنادًا إلى افتراضات جمالية وأخلاقية سابقة[1].

ومضى «فرديناند برونتيير» (1849 – 1906) في السبيل نفسه، ورأى أنَّ النَّقد هو، قبل كلِّ شيء، الحكم على مؤلَّف من حيث تعبيره عن الجوهر الأدبي. بغية الوصول إلى هذا الحكم عمل على إقامة «علمِ نقدٍ» مرتكزٍ على أسسٍ موضوعيَّة. يقول في مقاله المعروف عن الموسوعة الكبرى: «إن موضوع النَّقد هو الحكم على المؤلَّفات الأدبية وتصنيفها وتفسيرها...»، والتفسير يعني «تحديد علاقات مصنَّفٍ ما مع تاريخ الأدب العام، مع قوانين لونه الخاص، مع البيئة التي ظهر فيها، وأخيرًا مع كاتبه». و«الألوان»، كما يرى «برونتيير»، تتطوّر حسب القوانين، وكل مصنَّف ليس سوى مرحلة أو طور في تطوُّر لونه، وكما أن الأجناس ـ كما برهن دارون ـ تتطوَّر كذلك تتابع الألوان، وتقوم بين مصنفات اللون الواحد روابط نسبية ينبغي على «الطريقة التطورية» أن تكتشفها. وقد عمل، متأثرًا بنظرية دارون في تطوُّر الكائنات العضوية وهربرت سبنسر في الأخلاق والاجتماع، على تطبيق هذه النظرية على الأدب، فكتب عدة كتبٍ بيَّن فيها أن الملحمة الشعرية القديمة تحوّلت إلى الرواية الواقعية،

(115)

وأن المواعظ والمراثي تحوّلت إلى الشِّعر الغنائي.

وسعى روّادٌ آخرون في هذا السبيل، منهم «أرنست رينان» (1823 – 1892) الذي طبَّق هذا المنهج على الأدب العربي، ورأى أنَّه بوصفه أدبًا ساميًّا، يفتقر إلى الخيال والتركيب، فكان ذا منظور عنصري، و«هانيكان» (1858 – 1888) الذي كان ناقدًا نظريًا لم يستطع تطبيق نظريته في النقد، لأنه توفى وهو في الثلاثين من عمره، و«بورجيه» الذي حاول أن يستخدم بطريقةٍ منظَّمةٍ تحليلًا اجتماعيًا يفيد من نظرية «هانيكان».

4 - المنهج التَّاريخي

هذا المنهج هو أكثر المناهج انتشارًا، ويستفاد منه في غير منهج. ينطلق هذا المنهج من المنظور التاريخي إلى الأدب، يفيد هذا المنظور أنَّ تاريخ الأدب هو سلسلةٌ متواصلةٌ من الحلقات، يتطوَّر في سياق مسبَّب، وليس من أدب قديم، أو جديد، يمثِّل الأنموذج الأرقى للأدب ينبغي تقليده، كما كانت ترى «الكلاسيكية» في الأدب القديم المثال الأعلى للأدب الذي ينبغي تقليده.

الأدب، من المنظور التاريخي، وليد «اللحظة التاريخيَّة» التي يتكوَّن ويصدر فيها، تكوِّن عوامل كثيرة هذه اللحظة، منها: الأديب، الزَّمن، الأوضاع الثقافية والسياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصادية...، وإذ يرتبط الأدب بالزمن يقسم تاريخه إلى عصور، يُتَّخذ العامل السِّياسي معيارًا في تحديد بداية العصور ونهايتها، وهنا يتمثَّل مأخذ على هذا التقسيم، فتطوُّر الأدب لا يرتبط ارتباطًا آليًا بالسياسة. 

(116)

يُعنى هذا المنهج، إضافةً إلى العامل الزَّمني ودوره في الإنتاج الأدبي، بتوثيق النُّصوص، والتأكد من صحَّة نسبتها إلى أصحابها، كما يُعنى بمصادرها وتأثُّرها وتأثيرها، على المستويين: الوطني والعالمي، ويولي اهتمامًا كبيرًا بالأدباء مؤلِّفي النُّصوص، فيبحث في عوامل تكوُّن الأديب، من محيط وأسرة ونشأة وتعلُّم ووقائع حياة، وخصوصًا ما له علاقة مباشرة بالعمل الأدبي موضوع الدِّراسة، ويبحث في العلاقات بين الأدباء والنُّصوص، ما يفضي إلى رصد الظواهر الأدبية، ووصفها، وتفسير نشوئها.

يقول د. عبد السلام المسدِّي في هذا الشأن: يقوم المنهج التاريخي، «على ما يشبه سلسلةً من المعادلات السببيَّة، فالنَّص ثمرة صاحبه، والأديب صورة لثقافته، والثقافة إفراز للبيئة، والبيئة جزءٌ من التاريخ، فإذًا النَّقد تأريخ للأديب من خلال بيئته»[1]، وهذا يتيح القول: إن هذا الصنيع هو «تمهيد للنَّقد الأدبي، تمهيدٌ لازم، ولكنه لا يجوز أن نقف عنده، وإلا كنا كمن يجمع المواد الأوليَّة، ولا يقيم البناء»[2].

وينبغي أن يميِّز الباحث الذي يعتمد هذا المنهج في بحثه بين أن يكون النَّص مادَّةً للتاريخ وبين أن يكون التاريخ وسيلةً يوظِّفها في النقد. وإن أغار التاريخ بخيله ورجاله، كما يقول عمر فاخوري، على الأدب، يمسي الأدب تاريخًا صرفًا، ومستعمرةً للتاريخ، وهذا

(117)

مُستهجن وغير مقبول[1].

إنَّه لمن المهم أن نُقدِّم معرفةً بمسار تطوُّر الأدب، لكن عندما يصير النَّقد تاريخًا يصير كلِّ نصٍّ أيًّا يكن مستواه، أدبًا، ولهذا ينبغي أن تُستخدم مناهج أخرى تتيح تمييز النصوص وتبيّـن خصائصها، لدى البحث التاريخي، فتتم كتابة تاريخ الأدب على أساسٍ نقديٍ نصِّي، يكمل وضع النَّص الأدبي في السياق الثقافي السياسي الاجتماعي الاقتصادي، ووضعه في السياق التاريخي للأديب نفسه، يمكن القول: إن «سنت بيف» اعتمد من إجراءات هذا المنهج ما يلائم طريقته في رسم «الصورة» وكتابة «الأحاديث»، أما «تين» و«برونتيير» فيقول غوستاف لانسون (1857 – 1934): «إن قصدهما إلى محاكاة عمليات العلوم الطبيعية والعضوية، واستخدام معادلاتهما قد انتهى بهما إلى مسخ التاريخ الأدبي وتشويهه؛ إذ لا يمكن أن يُبنى علم على أنموذج غيره»[2].

كان لانسون مساعدًا لـ«برونتيير» في «السوربون» و«معهد المعلمين العالي»، وقد تأثّر به في أولى مؤلَّفاته، ثم صاغ منهجًا تاريخيًا يُنسب إليه، وهو «المنهج التاريخي اللانسوني»، وقد اعتمده في كتابه: «تاريخ الآداب الفرنسية، منذ نشأتها إلى القرن العشرين».

يقول لانسون: «المنهج هو أن نجمع، في كلِّ دراسةٍ خاصَّة، بين التأثُّر والتحليل من جهة، والوسائل الدقيقة للبحث والمراجع من جهة أخرى؛ وذلك وفقًا لما يقتضيه الموضوع، فنستعين، عند

(118)

الحاجة، بعدِّة علوم مساعدة، نستخدمها حسب ما أعدَّت له في تهيئة المعرفة الدقيقة»، ويضيف: «تنحصر عملياتنا الأساسية في معرفة النُّصوص الأدبيَّة، ومقارنتها للتمييز بين ما هو فردي وما هو جماعي، بين ما هو مبتكر، وما هو تقليدي. نجمعها، بعد ذلك، في أنواع ومدارس وحركات، ونحدِّد، في النهاية، علاقة هذه الجماعات الفكرية والأخلاقية والاجتماعية السائدة في البلاد، كما بتطور الأدب والحضارة، في أوروبا»[1].

وإذ يدرس هذا المنهج، كما يقول «لانسون»، النَّص بغية معرفته من مختلف الجوانب، ومنها خصائصه الأدبية، وأصالة الأدباء، والماضي الممتد فيهم والحاضر الذي يتسرب إليهم، يرى أنَّه «ما دامت التأثرية هي المنهج الوحيد الذي يمكِّننا من الإحساس بقوَّة المؤلفات وجمالها، فلنستخدمه في ذلك صراحةً، ولكن لنقصره على ذلك في عزم. ولنعرف ـ مع احتفاظنا به ـ كيف نميِّزه، ونقرُّه ونراجعه ونحدّه. وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه، ومرجع الكل هو عدم الخلط بين المعرفة والإحساس، واصطناع الحذر حتى يصبح الإحساس وسيلةً مشروعةً للمعرفة»[2].

5 - المنهج الاجتماعي، البنيويَّة التكوينيَّة

المنهج الاجتماعي في النَّقد الأدبي، أو علم الاجتماع الأدبي، لم يتبلور، بصفة نهائيَّةٍ إلّا في منتصف القرن العشرين، وتعود أصوله البعيدة إلى كثيرٍ من الأعمال النقدية، في مختلف المراحل التاريخيَّة،

(119)

ويعيد الباحثون بداياته إلى «مدام دي ستايل» (1766 – 1817)، التي أصدرت سنة 1800 كتابها عن «الأدب من حيث علاقاته الاجتماعيَّة» الذي حاولت فيه، متأثِّرةً بالأدب الألماني، ومعتمدةً على أفكار عصرها الاجتماعيَّة، أن تتبيَّـن تأثير الدين والعادات والقوانين في الأدب، وتأثير الأدب في الوقائع الاجتماعية.

إن يكن النَّقد التاريخي والعلمي قد أوليا عناصر اجتماعيةً أهميةً في دراساتهما، فإنَّ النَّقد الاجتماعي أدرج هذه العناصر في بنية منهج يمتلك رؤيةً شاملة، وقد وصف لانسون ما قام به تين بقوله: «إن تحليل العبقرية الشعرية لا يجمعه بتحليل الشِّعر سوى الاسم فحسب».

وفي ألمانيا، حدَّد «ميهرنغ» تصوُّره للعلاقة بين المؤسَّسات الاجتماعيَّة والآثار الأدبية، فقال: «إنَّ التراث الفكري والإيديولوجي يمارس تأثيره على الأعمال الأدبية النابتة من الخلفية المادية التاريخية، ولكن هذا التأثير يشبه، إلى حدٍّ كبير، تأثير الشمس والمطر والرياح على شجرة ما تمتد جذورها إلى أرض الواقع المادية، وعوامل الإنتاج الاقتصادي والأوضاع والأنظمة الاجتماعية»[1].

هذه البدايات تفيد أن ظاهرةً أدبيَّةً برزت وتبلورت أطلق عليها، في ما بعد، «الواقعية الأدبية»، أفضت إلى نشأة ظاهرةٍ نقديَّةٍ تواكبها، فمن روَّاد «الواقعية الأدبية» في فرنسا، ستندال وبلزاك وفلوبير، وإميل زولا في اتجاه سُمِّي بـ «الطَّبيعيَّة». قال بلزاك في مقدمة مجموعته

(120)

القصصية الكبرى: «الكوميديا الإلهية»: «المجتمع الفرنسي سيكون هو المؤرِّخ، أمَّا أنا فلست إلّا مجرد سكرتير له»، وعُدَّت هذه المقدِّمة بمثابة الإعلان عن هذه الواقعية ومبادئها، وتحمّس لها «هنري جيمس» حوالي سنة 1864، وأصبح حامل لوائها في أميركا، ومن أعلامها في روسيا بوشكين وتورغنيف وغوغول ودستويفسكي وتولستوي وتشيخوف. ورأى «دستويفسكي» «أن الأدب هو التعبير عن المجتمع، كما أنَّ الكلام هو التعبير عن الإنسان»، وبدت الواقعية كأنها «تقبض على الحياة بأكملها كجمرةٍ ساخنة، وتعكسها في مرآتها بأمانة وصدق»[1].

تردّد مصطلح الواقعيَّة، ولم يلبث أن أخذ مفهومه المحدَّد في كتابات ماركس وإنجلز، اللذَين وضعا أسس الفلسفة الماديَّة، فقال إنجلز، مستخدمًا، هذا المصطلح، على سبيل المثال، سنة 1888، في نقده لإحدى القصص: «إنَّها ليست واقعيَّةً بالقدر الكافي، لأن الواقعية، في رأيي تقتضي، بالإضافة إلى صدق التفاصيل الجزئية، تصويرًا حقيقيًا للملابسات والظروف الأنموذجية»[2].

تعتقد هذه الفلسفة بوجود بنيتَين: تحتية وفوقية في الحياة الاجتماعية، البنية التحتية هي المادَّة بكلِّ مظاهرها الاقتصادية/ الإنتاجية، والفوقية هي الثقافة، بما في ذلك الفكر والفنون والتاريخ والقانون والنُّظم والعلوم، وتُعدّ البنية التحتية القاعدة التي تقوم على

(121)

أساسها البنية الفوقية، ما يعني أن الأدب، مثله مثل مكونات البنية الفوقية، وليد البنية التحتية الاجتماعية[1].

يقول ماركس: «الأدب يعكس، ولو بطريقةٍ معقَّدةٍ وملتوية، العلاقات الاجتماعية والإنتاجية لهذا العصر أو ذاك»، وترى هذه الفلسفة «أن لكل طبقة بنيتها الفوقية التي تلائمها»، وأن البنية الفوقية، بعد أن تتكوّن، يمكن أن تصبح ذات قوَّة، فتؤثِّر في النظم الاجتماعية والحياة بعامَّة. وقد كان لهذه الفلسفة تأثيرها في النَّقد الأدبي، فكان النَّقد الماركسي كما نجده لدى بليخانوف (1857 – 1918)، صاحب كتاب «الفن والحياة الاجتماعية» على سبيل المثال. يرى بليخانوف أنَّ الأدب ظاهرة اجتماعية، يعبِّـر عن مجتمعٍ معيَّنٍ وطبقةٍ اجتماعيَّةٍ معيَّنة، وينظر إليه من حيث صدقه في تصوير الواقع الاجتماعي والرُّؤية إليه.

بعد أن قام الاتحاد السوفياتي، أدَّى النَّقد الأدبي دورَين: أوَّلهما دور الموجِّه من منظور صاغه «جدانوف» (1896 – 1948) كما يأتي: «لا بد من دراسة الأدب في علاقته التي لا تنفصم بالحياة الاجتماعية، من ناحية البنية السُّفلى التي تشكِّلها العوامل التاريخية والاجتماعية ذات التأثير الحاسم في الكاتب»[2]. وثانيهما دور المقيِّم من المنظور نفسه.

في سنة 1934، أعلن «مكسيم غوركي» (1868 – 1936) افتتاح مؤتمر «اتحاد الأدباء السوفيات»، الذي وضع أسس «الواقعية

(122)

الاشتراكية» التي تمثّل النظرة الماركسية اللينينية للأدب، ومفادها أن الواقع هو الذي يشكّل الوعي، وأن الأدب هو أدب العمَّال، الملتزم بقضاياهم. وفي عهد ستالين الذي قال: «إن الكتَّاب السوفيات هم مهندسو النفس البشرية» ساد مبدأ «جدانوف»، أو ما عرف بـ «الجدانوفية»، الاتحاد السوفياتي ومنظمات الحزب الشيوعي في البلاد الأخرى، وهو نهج سياسي إيديولوجي اشتراكي متشدِّد وضع ضوابط ومعايير للكتَّاب والفنانين والعلماء ما بين 1934 و1953، ومن هذه الضوابط هيمنة المضمون على الشكل، وخلق أبطال إيجابيين، والالتزام بالصدق التاريخي في تصوير الواقع، لأنه الشرط الأساسي لخلق أي عمل إبداعي...

مثَّلت الشكلية الروسية، التي سنتحدث عنها في ما بعد، اعتراضًا على هذا النهج الذي عرف تغيُّرًا بعد وفاة ستالين، لكن الأسس الفلسفية بقيت هي نفسها.

ثم تطوَّر هذا المنهج في سياق التطوُّر التاريخي، وكان لعلم الاجتماع الذي بدأ يشقُّ طريقه، بوصفه علمًا مستقلًا، مع علماء كبار مثل «سبنسر» و«دوركهايم»، دورٌ في التمهيد لبلورة علم الاجتماع الأدبي، الذي ولد، كما يرى بعض الباحثين، سنة 1948، مع صدور كتاب «هنري بير»: «الأجيال الأدبية»، وإذ تلاه كتاب «ميشو»: «مدخل لعلم الأدب» سنة 1950، تمَّت، بوضوح منهجي ومصطلحات اجتماعية، بلورة فكرة اجتماعية الأدب الأساسيَّة[1].

مع تطوُّر العلوم اللغويَّة، وغدوّ البنيوية منهجًا يُعتمد في غير علم من العلوم، وخصوصًا في النَّقد الأدبي، والاعتراض على المبدأ

(123)

القائل: إن الأدب انعكاس للواقع الاجتماعي الذي يساوي بين الأعمال الأدبيَّة، ويغضُّ من شأن الأعمال الأدبية الكبرى، جاءت كتابات جورج لوكاتش (1885 – 1971)، التي تتخذ من أعمال كبار الروائيين في القرن التاسع عشر موضوعًا لها، لتمثِّل انعطافًا في النَّقد الأدبي الماركسي، إذ رأت إلى العمل الأدبي بوصفه كليَّةً، مضمونًا وشكلًا، وواصل لوسيان غولدمان (1913 – 1970) اعتماد هذا النهج، في مؤلفاته النقدية، ما أفضى إلى وضع مبادئ منهج نقدي اجتماعي هو «البنيوية التكوينية».

في مسار التطوُّر التاريخي، تبلور منهجان في دراسة الأدب من المنظور الاجتماعي: أوَّلهما «علم اجتماع الظاهرة الأدبية»، وثانيهما «علم اجتماع الإبداع الأدبي».

يبحث المنهج الأوَّل الظاهرة الأدبيَّة، بوصفها ظاهرةً اجتماعية، من حيث الإنتاج والتسويق والاستهلاك، فلدى بحثه الإنتاج، يتحدث عن الأديب، والأجيال الأدبيَّة، والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافيَّة والسياسيَّة للإنتاج، وتمويله. ولدى بحثه التسويق يدرس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسيَّة لتسويق الكتاب: الطباعة، النشر، التوزيع، الإعلان، الإعلام... ولدى دراسة الاستهلاك، يبحث في جمهور القرَّاء وأوضاعهم، والقيم الأدبية السَّائدة وتأثيرها وتغيُّرها...

ويبحث المنهج الثاني الظاهرة الأدبيَّة بوصفها ظاهرةً اجتماعيةً أدبيَّةً، جماليَّة، وقد مرَّ هذا المنهج، كما ذكرنا آنفًا، بتحوُّلاتٍ أفضت إلى بلورة منهجٍ متماسكٍ يركِّز على اجتماعية الأدب وجماليَته في آن، ما يعني أنه منهجٌ متطوِّرٌ، ومتعدِّد الاتجاهات، انتهى كما قلنا

(124)

إلى منهجٍ ذي أساس يُزاوج بين البنيوية والماركسية، بلوره غولدمان الذي تُـعدُّ دراساته امتدادًا لدراسات لوكاتش، ثم تجاوزتها، وقد كتب عنه كتابًا وغير مقالة، وترجم عددًا من كتبه، وقدَّم لها، وأهداه كتبه بقوله: «إلى جورج لوكاتش الذي بتفوَّقه شقّ، منذ بداية هذا القرن، الطريق التي يسير عليها الفكر المعاصر».

يرتكز منهج البنيوية التكوينية على أساس بنيوي، والبنيوية مدرسة امتدَّت منذ منتصف القرن العشرين لتشمل جميع جوانب الفكر المعاصر. يعرِّف «جان بياجيه» (1896 – 1980)، وهو عالم نفس ومفكِّر فرنسي، البنية بقوله: «البنية نظام من التحوُّلات، يتضمَّن قواعد خاصَّة به بوصفه نظامًا، أي إنها تختلف عن خصائص العناصر المكوِّنة له...»، وتتصف بثلاث خصائص هي: الشُّمول والتَّحوُّل، والتحكُّم الذاتي. يرتكز غولدمان على هذا الأساس، ويأخذ عليه أنه ساكن، غير متحرِّك في الزَّمان والمكان، ومعزولٌ عن السياق التاريخي الذي نشأ فيه، وإذ يتم البحث، في بنية الظَّاهرة الأدبية، على هذا الأساس، نراه يبحث في بنيةٍ لا معنى لها، يصفها لكنَّه لا يتبيَّن دلالتها ولا وظيفتها. لهذا يدعو غولدمان إلى دراسة البنية، ليس في سكونها فحسب، وإنَّما في عمليَّة صيرورتها ودلالتها ووظيفتها أيضًا، أي من منظور الديناميَّة والفاعليَّة، وليس من منظور السكونيَّة التزامنية فحسب، ومن هنا جاء اسم «البنيويَّة التكوينية». وهذا يعني أن هذا المنهج يبحث العمل الأدبي بوصفه كائنًا لغويًا كليًا يبدع من منظور، ويتصف بالتحام داخلي، وبوحدة الشكل والمضمون.

وإن كان من علاقةٍ عضويَّةٍ بين العمل الأدبي المتميِّز والمجتمع

(125)

الذي نشأ هذا العمل فيه، فإن هذا لا يعني أن العمل انعكاسٌ حتميٌ للوعي الجماعي، وإنما هو عمل إبداعيٌ فردي يمثّل ذلك الوعي، في الوقت نفسه الذي يكون فيه عاملًا أساسيًا من عوامله.

العمل الأدبي المتميِّز، يرى غولدمان، هو عملٌ إبداعيٌ فردي يمثِّل الوعي الجماعي، وتنطق به بنيته الدَّالة، والسؤال الذي يُطرح هنا: ما هو هذا الوعي الجماعي؟ وما هي البنية الدَّالَّة؟ في ما يأتي، نحاول الإجابة عن هذين السُّؤالين:

استخدم غولدمان للبحث، في البنية الأدبية، وفي تماثل «إيديولوجية» الفئة الاجتماعية، ودلالة العمل الأدبي، مفهوم «الرُّؤية للعالم».

يرى «و. دويلتي»، في كتابه: «مدخل إلى دراسة العلوم الإنسانية»: إن الأدب هو الموقع الجدلي الذي تلتقي عنده عبقرية الفرد بروح الشعب ويتمثّل هذا الموقع في «الرؤية للعالم». لكنَّ هذا المفهوم لا يمثِّل عند «دلتي» مفهومًا إجرائيًا، بل هو مكوِّنٌ فعَّال لما يعانيه الفرد، ويعيشه للتخلُّص من مفهوم النظرة الآلية المتمثلِّة في الانعكاس[1].

يرى «غولدمان» أنَّ للجماعة «رؤيةً للعالم»، وعيٌ له، يجسِّد هذه الرؤية في نصٍّ ينطق بها فردٌ متميِّز، مبدع من هذه الجماعة، وهنا، كما يضيف «غولدمان» لا بدَّ من التمييز بين «الوعي الممكن» و«الوعي الفعلي»، وقد اقتبس مقولة «الوعي الممكن» من عبارة ذكرها «ماركس»، في كتابه: «العائلة المقدَّسة»، يركِّز فيها على التمييز

(126)

الضروري بين الوعي الفردي لهذا العامل، أو لهذه المجموعة العمالية، وبين الوعي الطبقي لـ«البلوريتاريا»، وهو «الوعي الممكن» الذي يتضمَّن الوعي الفعلي وإضافات إليه، ويستند إليه ويتجاوزه، ليكون وعيًا شموليًا. وينتج عن ذلك أن أشكال الوعي، لدى طبقة ما، هي في الوقت نفسه، رؤية هذه الطبقة للعالم، وكل عملٍ أدبي يجسد هذه الرؤية، أو تلك، يجعلها تنتقل من الوعي الفعلي إلى الوعي الممكن، ولا يتوافر ذلك إلّا للكتاب الكبار، من دون الصغار، فهؤلاء يتوقفون عند الوعي الفعلي لدى طبقة ما، ويقتصرون على وصفه.

إن ما يمثُل أمامنا بالفعل هو العمل الأدبي، وليس «الرؤية للعالم»، فهذه موجودة فيه، في الوقت نفسه الذي تكون قد حدَّدت فيه بنيته وخصائصها، بحيث يكون العمل الأدبي تجسيدًا لغويًا جميلًا لها[1]، والسؤال الذي يطرح هنا هو: كيف يتم تبيُّـن هذه الرؤية للعالم التي تمثّل الوعي الممكن؟

البنية الدَّالة هي انتظام عناصر في نظامٍ من العلاقات يتصف بديناميَّة، تُدرس هذه البنية: بنية كلية ومكوِّنات بوصفها نظامًا، وفي الحيز التاريخي والاجتماعي الذي نشأت وتشكّلت فيه، لتشكِّل عنصرًا من عناصره، دراستها تشمل دراستها هي نفسها، وإدراجها في البنى التاريخية والاجتماعية، من دون إغفال معرفة السيرة الذاتية للأديب، بوصفها عاملًا مساعدًا، وإدراج العمل في سياق علاقاته مع بنى الواقع التاريخي والاجتماعي، بغية تبيُّـن فاعليته الجمالية ووظيفته، تفضي هذه الدراسة إلى تبيُّـن الرؤية للعالم، بوصفها

(127)

نسقًا فكريًا يسبق تحقُّق النتاج، وينطق النتاج به، وما يتم تبيُّنه ليس، بالضرورة، نوايا المؤلف الواعية، بل الدلالة الموضوعة التي ينطق بها العمل بمعزل عن رغبة مؤلِّفه، وأحيانًا ضد رغبته، وهذه الرؤية ليست واقعةً فرديةً بل هي واقعة اجتماعية تنتمي إلى جماعة أو إلى طبقة، ومن الممكن أن يحدث تباينٌ بين رؤية الأديب الواعية وآرائه السِّياسيَّة والفلسفية والأدبيَّة، وبين الرؤية للعالم التي يفصح عنها أدبه، وأصدق مثال على ذلك «دانتي» و«بلزاك»[1]. ومهمَّة النَّاقد الجدلي تبيُّـن الخصائص الجمالية واستخراج دلالتها، ووظيفة العمل الأدبي، داخل المجتمع، هي إعطاء شكلٍ أدبي، بما تعنيه الأدبية من خصائص لـ «رؤية العالم»، وتتمثّل قيمته في مقدار تمثيله رؤيةً متناسقةً للعالم ذات فاعلية جمالية. ويكون العمل عظيمًا عندما يكون وليد الفرادة الشخصيَّة الإبداعيَّة، والكاتب الحر الذي يصدر إنتاجه عن فرادته هو القادر أكثر من الكاتب الملزم على تمثُّل الوعي الممكن وتمثيله، فهذه العملية وليدة الحياة التي يعيشها الأديب المتميز ويعبِّر عنها بلغةٍ تؤتاه في كثير من الأحيان نتيجة معاناته وصدقه، والأمر الأساسي، كما يقول غولدمان، هو العثور على الطريق التي من خلالها يعبِّر الواقع التاريخي والاجتماعي عن نفسه، عَبْر الحساسية الفردية للمبدع[2].

يستخدم «غولدمان» مفهوم «التَّشيُّؤ» عندما يدرس الرِّواية الحديثة، و«التشيُّؤ» يرتكز، في رؤية «لوكاتش»، على مقولة معروفة لماركس، وهي «تأليه السِّلعة»، وتشيُّؤ منتجها، ويحدث ذلك، في

(128)

المجتمع الرأسمالي، عندما يتمُّ التركيز على قيمة السلعة التداولية، ما يؤثر في العلاقات الاجتماعيَّة، بين الناس، فتتحول إلى علاقات تشييئيَّة، تغيب فيها صورة الإنسان وصفاته، المميِّزة، ويتحوَّل كلٌّ من المنتِج والمنتَج إلى شيء، وتتحوَّل القيم إلى قيمٍ سلعيةٍ تتحكّم بشروط العمل، فيُنظر إلى العامل بوصفه أداة إنتاج.

استعاد «لوكاتش» فكرة الاستلاب من الماركسيَّة، ليحدّد مفهوم التشيُّؤ، لكن «غولدمان» تجاوز، على غرار «غرامشي»، البعد الاقتصادي لنظرة «لوكاتش»، فعاد إلى مقولة «الكتلة التاريخية» التي طرحها «غرامشي»، وهي تعني كما فهمها، الشمولية الاجتماعية الاقتصادية الثقافية في المجتمع، ورأى أنه يجب ألّا يحصر الباحث اهتمامه بالمطالب الاقتصادية لـ «البلورتياريا»، وإنما ينبغي أن يُعنى أيضًا بوعيها الدَّاخلي وثقافتها، وذلك لأن وعي الجماعة ليس مجرَّد انعكاس لوضعها الاقتصادي، وإنما هو عاملٌ فاعلٌ أيضًا.

وهكذا، كما يفيد ما سبق، فإنَّ هذا المنهج متطوِّرٌ وغير نهائي، ويتجدَّد بتجدُّد الحياة ويتطور بتطور العلوم، وخصوصًا علم الاجتماع الذي يُعدُّ علم الاجتماع الأدبي متفرِّعًا منه.

6 - المنهج النَّفسي

للنقد النفسي وجود في النَّقد القديم، وفي غير منهج حديث، ومن نماذج ذلك حديث «أفلاطون» عن عملية الإبداع، ونظرية «أرسطو» في «التطهير» التي تربط الإبداع الأدبي بوظائفه النَّفسية، إضافةً إلى تقديم «سنت بيف» معرفةً نفسيةً بالأديب، لدى رسمه

(129)

صورته، وكلام غير ناقد عن العاطفة والتجربة الداخلية والانفعالات والخيال في النَّص، من دون استخدام أدوات التحليل النَّفسي.

بدأ النَّقد النفسي، بوصفه نقدًا منهجيًَّا، علميًا منظَّمًا، في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، إذ حدث، في هذه الآونة، تطوُّرٌ في علم النَّفس، تمثَّل في التحليل النَّفسي، الذي وضع أسسه في غير كتاب، ومارسه عمليًا العالم النمساوي «سيغموند فرويد» (1833 – 1939)، وتلامذته، ومنهم «ألفريد أدلر» (1870 – 1937). و«كارل يونغ» (1875 – 1961).

قال فرويد إنَّه استلهم نظريته في التحليل النفسي من الفلاسفة والشعراء والفنانين وقسَّم الجهاز النَّفسي للإنسان إلى ثلاثة أقسام هي: 1- الأنا الأعلى، استجابات الشعور والروادع، ويتمثَّل في المعايير والقيم الاجتماعية والأخلاقية التي يتمثلها الإنسان، ويتصرَّف وفاقًا لها، فتنظّم سلوكه، ليتوافق وضوابطها. 2- الأنا، ما قبل الوعي. 3- الهو، اللاوعي، ويتمثل في الجانب البيولوجي للإنسان، حيث الرَّغبات والأهواء، وهذا الجانب توجهه غريزتان توجِّهان سلوك الإنسان هما: أ. غريزة الحياة (إيروس)، وتتمثل في الحاجات البيولوجية التي تتيح له الاستمرار في حياته، والمحافظة على بقاء نوعه، ب. غريزة الموت (ثناتوس)، وتمثل مختلف الرغبات التي تدفع الفرد إلى العدوان. ثم عدَّل «فرويد» نظريته، إذ كان يعتقد بأنَّ الغزيرة الجنسيَّة (الليبيدو) هي الطاقة التي توجِّه سلوك الإنسان، فغدا يرى، إضافةً إلى ذلك، أن «الليبيدو» يرتَدّ حبًا للذات (النَّرجسيَّة)، وإيذاءً لها (المازوشية)، وإيذاءً للنَّاس (السادية).

(130)

ورأى فرويد أن صراعًا يدور داخل ذات الإنسان بين هذه القوى، فيسعى «الهو» إلى إشباع رغباته، فلا يتيح له «الأنا الأعلى» ذلك، إضافةً إلى أنَّ المجتمع يحول دون تحقيق ذلك أيضًا، فتُكبت الرَّغبات، وتبقى تبحث، دائمًا، عن الإشباع. ويحدث تحوَّل، إذ تُشبع بطرق مختلفة، منها: أحلام النَّوم، أحلام اليقظة، الأعمال الفنيَّة... وإن لم يتم الإشباع بطريقة ما تعيد الإنسان إلى سويته، تحدث الاضطرابات النَّفسيَّة، ومن مظاهر بعضها هذيان العصابيين وتداعياتهم...، ويضيف فرويد، فيرى أنَّ الفنان إنسان عصابي مختلف عن العصابي العادي، إذ إنه يستطيع الإفلات من رقابة «الأنا الأعلى»، ويحقق رغباته المكبوتة بإنجاز أعماله الفنيَّة، وإذ يفعل ذلك يعود إنسانًا عاديًا، وهذا ما لا يستطيعه العصابي العادي، الذي يعاني من القلق أو الوسواس أو «الهستيريا».

وهكذا يفسِّر فرويد عمليَّة الإبداع الفنِّي بأن باعثها الأوَّل هو إشباع «الرَّغبات المكبوتة»، وأهمُّها الرَّغبة التي تولِّدها الغريزة الجنسيَّة (الليبدو)، وتأسيسًا على هذا يكون الأدب تجلِّيًا من تجلِّيات اللاشعور وإشباعًا لحاجاتٍ نفسيةٍ عميقة، ما يعني وجود تناظر بين الأدب والأحلام[1].

خالف «أدلر»، صاحب مدرسة علم النَّفس الفردي، أستاذه «فرويد» في القول بأن الغريزة الجنسيَّة هي الباعث الأوَّل للفنّ، ورأى أنَّ الشُّعور بالنَّقص هو السَّبب الرَّئيس في نشأة العُصاب، وأنَّ الباعث الرئيسي للفن هو غزيرة حبِّ الظُّهور، أو حبُّ السَّيطرة

(131)

والتملُّك، ووافق «يونغ» أستاذه فرويد على أن اللاشعور هو الباعث الأوَّل للفنَّ، وأضاف إلى اللاشعور الفردي نوعًا آخر سمَّاه اللاشعور الجمعي، المتشكِّل من نماذج بدائية، ورواسب قديمة، وتراكمات موروثة، وتجارب الأسلاف...، ورأى أنَّ عمليَّة الإبداع تتمُّ باستثارة النماذج الرئيسية المتراكبة في اللاشعور الجمعي... وأن الفنان يحاول وهو يبدع، إيجاد توازن يخلِّصه من الاضطراب الذي يعانيه، قبل عملية الإبداع، وفي أثنائها.

ورأى أ. ي. إ. ريتشاردز أن علم النَّفس يقدِّم لغةً أدق في مناقشة عملية الخلق الأدبي، ففي كتابه: «مبادئ النَّقد الأدبي» رأى أن الجمال «هو ذلك الموصل إلى التوازن الحسِّي المتزامن»، أي إنه نوعٌ يحقّق توازن المبدع، واستجابةً لدى المتلقي تفضي إلى التوازن. وفي هذا المنحى، أجريت دراسات في مجال التلَّقي، منها دراسات إحصائية.

أسهمت الدراسات، في هذا الشأن، في نشأة «علم نفس الإبداع»، وموضوع دراسته «حالات الإبداع الخاصَّة المرتبطة بالأجناس الأدبية» وكتَّابها، فهذا العلم يدرس هذه الحالات دراسةً ميدانيَّةً، تتمثّل في اختبارات منهجيَّة، ودراسة أدوات الكتابة ومراحلها والمسودَّات والرُّموز...[1].

تتخذ هذه الدراسات الفنَّان والأديب موضوعًا لها، أما الدراسات التي تتناول النَّص فتبدو شبيهةً بالدِّراسات التي تتّخذ النَّص الأدبي وثيقةً معرفيَّة، أي مادَّةً تُتَّخذ موضوعًا لدراسات نفسيَّة، فتقطع شواهد من النصوص الشعريَّة، ويُستشهد بها. وتُسقط على العمل

(132)

الأدبي آراء مسبقة، وقد تؤدِّي شواهد أخرى من النَّص نفسه دلالاتٍ أخرى، كما تدرس أعمال روائية، وتعامل شخصيَّاتها كأنَّها أشخاص حقيقيَّون، فتتم دراستها، والخلوص إلى استنتاجات تغدو مقولات تستخدم في الدراسات النفسيَّة، مثل «عقدة أوديب» و«عقدة ألكترا» اللتين استخلصهما «فرويد» من مسرحيتين يونانيتين قديمتين. يقول «إنريك أندرسون إمبرت»: «... وقد استنتج فرويد نفسه، من إحدى مسرحيات سوفوكليس المأساوية اسم عقدة أوديب، واستخدمها، في ما بعد في تحليل مسرحية هاملت، ورواية الأخوة كرامازوف»[1].

ويرى د. هـ. لورنس أن الأديب يبذر مرضه في كتبه، وكشف ذلك يجعل النَّاقد محلِّلًا، يتبيَّـن دوافع الأديب ومكبوتاته اللاواعية، ما يسهم في فهم العمل الأدبي وتفسيره، وفي فهم الشخصيات القصصيَّة، وقبل ذلك في فهم شخصية الأديب، لكن هذا المنحى في الدراسة يبقى استخدامًا للأعمال الأدبيَّة في التحليل النفسي في المقام الأوَّل، ومن نماذج ذلك حديث «فرويد» عن «هاملت» في تفسير الأحلام، وعليه بنى «أرنست جونز» دراسته: «عقدة أوديب وتفسير هاملت»، وحديثه عن «الملك لير» و«التراجيديا اليونانية من الطوطم إلى المحرم»، ودراساته عن «ليوناردو دي فنشي» و«دستويفسكي» و«غراديفا».

انتشر استخدام مبادئ علم النفس في النَّقد الأدبي، ومن هذه الدراسات كتاب «كونراد إيغن»: «الشكوكية: نظرات في الشعر المعاصر»، و«هربرت ريد» في كتابه: «العقل والرومانسية».

(133)

في النصِّ الأدبي دلالةٌ على صاحبه، وفي شخصيات القصص ما يمكن تطبيق التحليل النَّفسي عليها، والخلوص إلى مبادئ في علم النفس... وفي هذا الشَّأن، يمكن للنُّصوص، من الدرجة الثانية الإبداعيَّة أو الثالثة، أن تصلح لذلك، لكن ماذا عن النَّصِّ الأدبي نفسه ومستواه الإبداعي؟

في الإجابة عن هذا السؤال، يمكن القول: إنَّ اتجاهات في علم النَّفس نشأت وتطورَّت، وبحثت في النَّص الأدبي، ومنها: «علم النفس الفردي»، الذي أنشأه «أدلر»، وهو يبحث في الرموز الأدبية، ويقرن بينها وبين الأحكام و«علم النَّفس الجماعي» الذي أنشأه «يونغ». يرى يونغ أن تجربة الإنسان تمتد لتشمل تجربة الجماعة الموغلة في القدم، وأن شخصيَّة الإنسان «تحتفظ، في قرارتها بالنماذج والأنماط العليا التي تختمر في الثقافة الإنسانية عبر الأجيال المختلفة. هذه النماذج والأنماط العليا تدخل في تركيب طريقة التخيل الإنساني، وطريقة التصوُّر، وطريقة الشعور، وفي منظومة القيم، والفاعلية النفسيَّة للإنسان...» وكان لنظرية «يونغ» «أثر كبير في تطوير الدِّراسات المفسِّرة للظواهر الأدبية، والمرتبطة بالنقد الأدبي...»، ويمكن أن يُعدَّ الناقد الكندي «نوثروب فراي» من أهم النقاد الذين وظَّفوا نظرية «يونغ» في تحليل الأدب، وذلك في كتابه «تشريح النقد»[1].

وأحدث كلٌّ من «جان بياجيه» و«لاكان» تحوُّلًا في النَّقد الأدبي النفسي، فكان الأوَّل «من أهم من قدَّموا الأساس للبنيوية التوليدية [التكوينيَّة]، في دراسته عن علم نفس الأطفال، وكيفية تكون اللغة

(134)

لديهم»، وكان الثاني مؤسِّسًا لـ «علم النَّفس البنيوي»، وهو يعد «اللاشعور مبنيًا بطريقةٍ لغوية، بمعنى أن البنية التي تحكم اللاوعي هي بنية لغوية، في صلبها، تعتمد على التداعي، وعلى غير ذلك من قوانين اللغة التي وضعها سوسير في بداية القرن»[1].

وفصَلَ شارل مورون (1899 – 1966) أبحاث النَّقد الأدبي عن أبحاث علم النَّفس، فلم يعد التحليل النفسي الغاية التي يُستخدم النَّص الأدبي من أجل تحقيقها، وإنما غدا الأداة/ الإجراء الذي يستخدمه النَّقد الأدبي في دراسة النص وتمييزه وتبيُّـن خصائصه، تحقَّق هذا في دراسات «مورون» عن «راسين» و«مالارميه»، وفي مؤلفاته: «من الاستعارات إلى الأسطورة الشخصيَّة»، و«النَّقد النَّفسي للفنّ الكوميدي» و«الاستعمالات الملحَّة والأسطورة الشخصيَّة». وفي أعماله هذه بحث في الأعمال الأدبية، بوصفها ظاهرةً لغويةً أدبيةً لا وثيقةً معرفيَّة[2]، تُدرس من أجلها هي لا من أجل تحصيل معرفةٍ نفسيَّةٍ منها، وهذا هو النَّقد الذي يمكن أن نسمِّيه نقدًا أدبيًا، يستخدم أي أداة/ إجراء تتيح له تحصيل معرفةٍ بالنص الأدبي وتقديمها للمتلقِّي.

7 - المنهج الموضوعاتي

لهذا المنهج عدَّة تسميات، منها: الموضوعاتي، التيمي، المداري، الموضوعي، علم الموضوع. وقد فضَّلنا الموضوعاتي، نسبة إلى موضوعة = Thème، ولئلا يحمل دلالات أخرى. وله عدة مرجعيات فلسفيَّة منها: الظاهراتيَّة، الوجودية والنفسيَّة، من أشهر

(135)

نقَّاد هذا المنهج «جان بيير ريشار» (1922).

نشأ هذا المنهج في أحضان الفلسفة الظاهراتية، وبلغ أوجه في ستِّينيَّات القرن العشرين، ومثلت أفكارُ رائد هذه المدرسة الفيلسوف «غاستون باشلار» (1884 – 1962) مرجعيةً أساسيةً له. المفهوم المركزي، في هذا المنهج هو «الموضوعة» وهي، في شكل من أشكالها، «بنيةٌ دلاليةٌ كبرى»، أو «شبكةٌ من الدلالات محورها عنصر دلالي متكرر في عمل ما لأديب ما»[1]. والعنصر المتكرِّر يعني أنه يتكرَّر في العمل الأدبي كلُّه.

يعرِّف «ريشار» الموضوعة، فيقول: «الموضوع مبدأ تنظيمي محسوس، أو ديناميكية داخلية، أو شيء ثابت قد يسمح لعالم حوله بالتشكُّل والامتداد. والنقطة المهمَّة، في هذا المبدأ، تكمن في تلك القرابة السِّريَّة، في ذلك النِّطاق الخفي، والذي يُراد منه الكشف عنه تحت أستار عديدة». وبعد ما يقرب من خمسة عشر عامًا على التعريف السابق، يقدِّم ريشار تعريفًا آخر هو: «الموضوع وحدةٌ من وحدات المعنى، وحدةٌ حسِّية، أو علائقيةٌ، أو زمنية، مشهودٌ لها بخصوصيتها عند كاتب ما. كما أنها مشهودٌ لها بأنَّها تسمح، انطلاقًا منها، وبنوع من التوسُّع الشبكي، أو الخيطي، أو المنطقي، أو الجدلي، ببسط العالم الخاص لهذا الكاتب». ويرى عبد الكريم حسن أنه «لا شك أن بين التعريفين السابقين مسافةً بيِّنة. ولكن هذه المسافة ما تلبث أن تزول حتى ندرك أن التعريف الأول تعريفٌ للموضوع في ذاته، بينما هو في الثاني تعريفٌ له في علاقته بالمعنى».

(136)

ويخلص حسن، بعد أن يشير إلى عدد من التعريفات إلى القول: «ومن الواضح أنَّ الموضوع، في هذا التعريف، [اللغوي]، هو المعنى الذي يتحقق في شكل لغوي غير قابل للاختزال»[1].

يجمع «ريشار» المعنيَين اللغوي والفلسفي، ويحدِّد مفهوم النَّقد الموضوعاتي، فيقول: إنه «علم معنى قصدي، ينظِّم محتوى العمل الأدبي، بموجب مشروع مرتبط بـ«أنا» خاصَّة»[2]. وعلم المعنى المنظِّم لمحتوى العمل الأدبي يجري فيه قراءةٌ وصفيَّة شاملة، تنضِّد العناصر المتكرِّرة والمتآلفة في حقل واحد، بغية اكتشاف جوهر العمل الأدبي وفرادته.

يدرس المنهج الموضوعاتي، إذًا، العمل الأدبي من داخله، مستعيدًا حياة كاتبه ومستبعدًا ما يحيط به من عوامل خارجيَّة، ليبحث عمَّا يُسمَّى «جوهر العمل الأدبي وفرادته»، فالنَّاقد الموضوعاتي يسعى إلى أن يتبيَّـن الخصوصيَّة التي يتفرَّد بها كل عملٍ أدبي، فيتجَّه نحو دراسة «الظهورات المتعدِّدة للموضوع الواحد، من أجل الوصول إلى البنية المفهوميَّة»، أو الوصول إلى المبدأ الذي يوحِّد العمل الأدبي.

في تحليل غاستون باشلار، الذي اعتمده النَّقد الموضوعاتي، يتمُّ البحث عن أصول الصُّور، المتمثِّلة في العناصر الرئيسية الأربعة في الطبيعة، وهي: الماء والنار والهواء والتراب. يعود «باشلار» إلى «الفعل البَدْئي»، أو منطقة احتكاك الأديب البدئي بالعالم، وهي مصدر إبداعه، ويتبيَّن الصور الشعرية، ويعيدها إلى عنصرٍ معيَّنٍ من هذه العناصر الأربعة، وهذا يعني أنَّ «باشلار»، ثم الناقد

(137)

الموضوعاتي، يبحث عن معنى ضمني يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ ما يشبه ما يبحث عنه التحليل النفسي، على مستوى اللاوعي، غير أنَّ الفرق يتمثَّل في أنَّ التحليل النفسي يتجه إلى منطقة اللاوعي، والتحليل «الباشلاري» يتجه إلى منطقة الاحتكاك البدئي بالعالم، ليعثر على المبدأ الذي يوحِّد العمل الأدبي.

يفيد النَّقد الموضوعاتي من الفلسفة الظَّاهراتية التي ترى أن الذات تتجه/تقصد نحو الشيء الذي تريد أن تعيه، وهو ما يُعرف بالقصدية، التي تُبعِد كل ما هو ذاتي، بغية الوصول إلى الجوهر، بوصفه شيئًا ما/ ظاهرةً ما خارج الذات. وتأسيسًا على هذا المبدأ، يقصد الناقد الموضوعاتي إلى العمل الأدبي ليعيه وعيًا حسِّيًا، بوصفه ظاهرةً/ عملًا خارج الذات، ويتبيَّن جوهره، وإن كان هذا الجوهر «معنى»/مبدأ، فإن المعنى يتمُّ تتبُّعه في شبكة من المعاني، وهذا ما استمدّه النَّقد الموضوعاتي من «جان بول سارتر».

يركِّز البحث الإجرائي الموضوعاتي، كما يفيد ما سبق، على تحليل عناصر العمل الأدبي الأولية الحسِّية، وتحديد كيفية التقاء هذه العناصر وتآلفها، وتشكيلها شبكةً، أو شبكاتٍ، تمثّل بنية دلالته، أو بنيةً مفهومية، أو مبدأً موحدًَّا، أو «جذرًا»/ موضوعة تعاود الظهور في كلمات، وعبارات، وخصائص تتعاضد لتمثل الموضوعة، وهذا يقتضي القراءة والملاحظة والرَّصد وإقامة معجم للتواتر اللغوي، ينطق بالموضوعة، كمعجم، على سبيل المثال، الطهارة، الرَّشف الغسل، الدمع، الرَّي... يمثل شبكةً يوحّدها مبدأ الماء، ولكل شاعرٍ تخيُّله الخاص الذي يقدّم أشياءَ عالمه ممثَّلةً في بنيةٍ خاصَّة تنشئها معرفةٌ حدسيةٌ بالعالم.

(138)

وإن كان لنا أن نعطي مثالًا، فليكن الشعر الجاهلي، إن معجم القوة وشبكات المعاني الناطقة بهذه الصورة القاهرة، وبنية القصيدة القائمة على أن تبقى مقاومةً للفناء، ولو بقي منها بيت شعري واحد، والجودة التي تفرض على الرَّاوي حفظ القصيدة،... هذه الصور تتعاضد لتشكل الموضوعة الجذر في الشعر الجاهلي، وهي مقاومة الفناء والبقاء في الصحراء القاحلة المهدِّدة للإنسان الجاهلي بالفناء. وهنا أفدنا من المنهج البنيوي، ونحن نحلل موضوعاتيًا، وقد أفاد ناقدٌ عربي متميِّز، هو عبد الكريم حسن، من المنهجين: الموضوعاتي والبنيوي في دراسته لشعر السيَّاب، فبلور منهجًا سمَّاه «غريماس»: «موضوعاتية معجمية»، هذه الدراسة هي «الموضوعية البنيوية في شعر السياب».

يبحث «حسن» في «الموضوع» ويسعى إلى اكتشاف البنية التي تتشابك فيها الموضوعات الشعرية، والموضوع، كما يحدِّده، هو «مجموعة المفردات التي تنتمي إلى عائلة لغوية واحدة»، وتتحدَّد العائلة اللغويَّة بـ«ثلاثة مبادئ: الأول، وهو الاشتقاق، والثاني، وهو البَرادق، والثالث، وهو القرابة اللغوية المعنوية، فالعائلة اللغوية تجمع في داخلها المفردات ذات الجذر اللغوي الواحد، والمترادفات، والمفردات التي ترتبط بصلةٍ معنويةٍ أضعف من صلة الترادف. إنَّ العائلة اللغوية، التي يتفاوت عدد عناصرها من مرحلة إلى مرحلة، هي الوجه الدَّال للموضوع»[1].

من المآخذ على النَّقد الموضوعاتي تغييبه شعرية النَّص

(139)

وخصائصه الأدبية، ويُطرح هنا سؤال هو: ماذا نعرف عن النص ومزاياه الأدبية إن عرفنا أن هذا الشاعر «مائي» أو «هوائي»، أو إن عرفنا الموضوع من طريق تشكيل شبكاته؟

8 - المنهج الشَّكلي، أو المدرسة الشكليَّة والشِّعريَّة

وضع «الشكليون الروس» مبادئ المدرسة الشكلية، أو المنهج الشكلي، وهذه التَّسمية (المدرسة الشكلية) تُطلق على إنجازات ثلاثة تجمُّعاتٍ هي: (1)- حلقة موسكو 1914 – 1920، وجمعية دراسة اللغة الشعريَّة (أوبياز، 1916)، وهذان التجمُّعان ائتلفا، وشكَّلا ما سمِّي «الشكلانيون الروس»، (2)- حلقة براغ (1926 – 1948)، (3)- جماعة «تل كل»، (كما هو)، 1960.

(1). في شتاء 1914 – 1915، أسَّس بعض الطلّاب، في جامعة موسكو، حلقة موسكو اللسانيَّة، التي دعت إلى تشجيع البحث في اللسانيات والشعرية، ونُشر أول كتاب جماعي لها عن نظرية اللغة الشعرية، في «بيتروغراد» سنة 1916[1]، وكان فيكتور شكلوفسكي (1893 – 1984) قد نشر سنة 1914 مقالةً عن الشعر المستقبلي عنوانها: «انبعاث الكلمة». أبرز مؤسسي هذه الحلقة «فيكتور شكلوفسكي»، «رومان جاكوبسون» (1895 – 1983)، «بوريس إيخنباوم»  (1886 – 1983)، كان «ميخائيل باختين» (1895 – 1975) من أعضاء هذه الحركة، ثم تبرَّأ منها بسبب انتمائه الفكري، إذ حاول الجمع بين الشكلية

(140)

والماركسية. ويرد، في هذا المجال، اسم «فلاديمير بروب» (1895 – 1970) صاحب الكتاب المهم: «مورفولوجية الحكاية الخرافيَّة»، بغض النظر عن حقيقة انخراطه في هذه الحلقة.

وفي سنة 1916، تأسَّست في مدينة «بيتروغراد» جمعيَّة دراسة اللغة الشعرِّية (أوبياز)، من جماعتين هما: دارسو اللغة المحترفون، وباحثون في نظرية الأدب، كان أبرز أعضاء هذه الجمعية مؤرِّخو أدب تحوَّلوا إلى حقل اللسانيات، متَّخذين من الشِّعر موضوعًا للدراسة؛ فقد كانت الشعرية «الحب الأوَّل لمنظِّري أوبياز»[1].

ولدت المدرسة الشكلية في مرحلة المخاض الذي انتهى بقيام الثورة «البلشفية» سنة 1917، وامتد عمل أعضائها إلى «معهد الدولة لتاريخ الفنون»، الذي أصدر مجلَّة الشعريَّة (1926 – 1929)، وفي سنة 1928 كتب «ميدفيديف» مع «باختين» مقالةً عنوانها «المنهج الشكلي في الأدب»، فعُرفت هذه المدرسة بهذا الاسم الذي فُرض عليها، ولم تكن ترتضيه.

مثلت هذه المدرسة ردَّ فعلٍ على الذاتية والرمزيَّة والواقعية والإيديولوجيَّة...، وكانت هدفًا لهجوم متواصل، منذ سنة 1923، حينما كتب «تروتسكي» كتابه: «الأدب والثورة»، ورأى فيه أنَّ «النظرية الوحيدة التي اعترضت الماركسية في روسيا السوفياتية، خلال السنوات الأخيرة، هي النظرية الشكلانية في الفن، وحينما رأى نُقّادٌ آخرون أنَّ الشكلانية هي تخريب إجرامي ذو طبيعة

(141)

إيديولوجية»[1]. ولم تلبث هذه المدرسة أن انتهت في روسيا، سنة 1932، تاريخ صدور مرسوم عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي تقضي بحلِّ كل التجمُّعات الأدبية. وبلغت درجة الضغوط على هذه المدرسة درجةً يُعبِّر عنها الشاعر «كرزانوف» بقوله: «ليس بوسع أحد الآن أن يعالج مشاكل الصياغة الشعرية، أو أن يحلِّل الاستعارات والصور والإيقاع، من دون أن يثير، على التو، رد الفعل التالي: أقبضوا على هذا الشكلي».

 يقول «جان أيف تادييه»: ربما كانت المدرسة الشكلية الروسية الأكثر تجديدًا في القرن العشرين، ومنعتها الديكتاتورية، عام 1930، وهي لم تُعرف تمامًا، ولم تقدَّر حق قدرها في أوروبا الغربيَّة، أو الولايات المتحدة، إلّا بعد أن نُشر كتابان أساسيَّان: الأوَّل لفيكتور أيرليش هو الشكلية الروسية ـ 1955، والثاني هو النظرية الأدبية ـ 1965. ويتألَّف هذا الكتاب من مجموعة من نصوص الشكلانيين الروس، جمعها وقدَّم لها «تزفستيان تودوروف...»[2].

(2). يبدو أن مناخًا فكريًا شمل أوروبا كلها، في هذه المرحلة، فعرفت فرنسا النَّقد الأدبي التكنيكي، الذي اتّبع منهجَ شرحِ النصوص مركِّزًا على قضايا الأسلوب، وعرفت ألمانيا اتجاهًا ذا أبعادٍ فلسفيةٍ وجمالية، دعا إلى دراسة الأساليب الفنيَّة المحدَّدة.

(142)

وفي «تشيكوسلوفاكيا»، تأسست، بمبادرة من «فيليم ماتيسيوس»، «حلقة براغ»، وتسمَّى أيضًا «البنيوية التشيكية»، وتابعت جهود الشكلية الروسية، وقدَّمت مفهوم «البنية» بديلًا من مفهوم «فرديناند دي سوسير» في العلاقات، ومن المفهومين اللذين وضعتهما الشكلية الروسيَّة، وهما الشكل والأداة، وكان «جاكوبسون» الناشط الأساس في هذه الحلقة، بعد أن جاء إلى «براغ» سنة 1920، وتفرَّغ للبحث، والجدير بالذكر أنه هرب من النازيين سنة 1939، إلى الدول الإسكندنافية، حيث أقام مدَّة سنتين، ثم سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث أقام واستقرَّ هناك، ونشط في «حلقة نيويورك» التي تأسَّست سنة 1934، وأصبحت ملجأً للعلماء المهاجرين عند اندلاع الحرب العالمية الثانية.

(3). أسَّس الناقد الفرنسي «فيليب سولير» (1936-) جماعة «تل كل»، سنة 1960، وأخذت هذه الجماعة اسمها من المجلة التي تحمل الاسم نفسه، وهذا الاسم يعني «الشيء كما هو، أو مثلما هو»، وسبق للناقد «ماتيو آرنولد» أن وضع المبدأ النقدي الشهير: «الشيء كما هو على حقيقته»، وصار من شعارات النَّقد «الأنجلو أميركي الجديد»، ويرى «ليون سومفيل»[1] أن هذه الجماعة أخذت اسمها من الشاعر الفرنسي بول فاليري (1871 – 1945) الذي نشر أحد أعماله تحت هذا العنوان، مؤكدًا أولوية الشكل، وذلك لأن الأعمال الجميلة هي بنات لشكلها، ضمَّت هذه الجماعة مجموعةً

(143)

من النقاد الفرنسيين، ومنهم زوجة «سولير» «جوليا كريستيفا» (1941) و«رولان بارت» (1915 – 1980) و«ميشال فوكو» (1926 – 1984) و«جاك دريدا» (1930 - )، ولا يفوتنا أن نذكر «حلقة كوبنهاغن»، التي تأسست سنة 1931، ومثّلت تيارًا من تيارات الشكلية، وفي الوقت نفسه، رافدًا من روافد البنيوية، مثلها مثل الحلقات التي سبق ذكرها.

وإنَّه، بوساطة المجموعة الروسية ـ التشيكية التي تشكلت في براغ سنة 1926، تمكَّنت الأفكار الشكلية من الدخول في التداول العالمي، إذ إنها عقدت مؤتمراتٍ كثيرةً، وأصدرت أعمالها في ثمانية أجزاء صدر آخرها سنة 1938.

تبحث الشكلية في خصائص اللغة الأدبيَّة، بوصفها ظاهرةً جماليةً، تُستخدم فيها اللغة استخدامًا جماليًا خاصًّا، هذا البحث هو تحليلٌ لغويٌ يعني الوصف العلميَّ للنَّص الأدبي، أي معرفة العناصر التي تشكَّل منها ونظام علاقاتها. مزيَّة هذا النَّص لا تتمثل في عناصره نفسها، وإنما في الكيفيَّة التي تنتظم فيها في نظامه، هذه الكيفيَّة هي الشكل الذي تتخذه العناصر لدى انتظامها وتكوينها نصًَّا مستقلًا عن العناصر الخارجيَّة عنه؛ والأديب إذ ينتج نصوصًا أدبيةً يكون «خالق أشكالٍ» أدبيَّةٍ مستقلّة، ولا يعني هذا أن الأدب مجال مغلق، وإنما يعني استقلال أدبيَّته.

وإن عدنا إلى ما كتبه[1] «إيخنباوم» عن المنهج الشَّكلي، فإنَّنا نتبيَّـن ما يأتي: ليس المهم وضع منهج للدِّراسات الأدبيَّة، بل المهم

(144)

وضع منهجٍ لدراسة الأدب، هو نفسه، بوصفه موضوعًا للدِّراسة، والمهم، أيضًا، وضع مبادئ توصَّلنا إليها بعد دراسة مادَّةٍ ملموسة، بغية تبيُّـن خصائصها النَّوعيَّة. التطوُّر مهم بالنِّسبة لتاريخ المنهج الشكلي، فـ«الانتقائيون» و«الورثة» يحوِّلونه إلى نظامٍ ساكنٍ من الشكلية ينفعهم في إقامة مصطلحات ومفاهيم وتصنيفات مبسَّطة، إن هذا النظام الذي يقيمونه لا يمتّ بصلةٍ إلى المنهج الشكلي، وذلك لأنه ليس لدى الشكليين أي مذهب أو نظام جاهزين.

ويضيف «إيخنباوم»: كنا، في عملنا العلمي، نقدِّر النَّظريَّة، بوصفها فرضيَّةً للعمل، نستطيع بمساعدتها اكتشاف صفات الوقائع التي بفضلها تغدو تلك الوقائع مادَّةً للدِّراسة.

لم نضع تعريفات، ولم نضع نظريات، وضعنا مبادئ ملموسةً، وتمسَّكنا بها ما دامت تتيح لنا إمكانية تطبيقها على مادةٍ ما، فإذا اقتضت المادَّة تغييرًا لهذه المبادئ فعلنا ذلك، إذ لا يوجد علم جاهز، وإنَّما علم يتكوَّن متجاوزًا الأخطاء.

إنَّ مناهج كثيرةً يمكن أن تجد لها مكانًا في هذا العلم، شريطة أن يتركَّز الاهتمام على جوهر المادَّة موضوع الدِّراسة، وهذا يعني أن الهدف هو «خلق علم أدبي مستقل، انطلاقًا من الخصائص الجوهرية للمادَّة الأدبيَّة، فهدفنا الوحيد هو الوعي النَّظري والتاريخي بالوقائع التي تخصُّ الفن الأدبي، بما هو كذلك»[1].

دخل الشكليون في نزاع مع «الرمزيِّين» من أجل أن يخلِّصوا الشعريَّة من النَّظريات الذاتية الجمالية والفلسفية، ويقودوها على

(145)

طريق الدِّراسة العلميَّة للوقائع، التي ترفض المسلَّمات الفلسفيَّة والتأويلات النفسية والإيديولوجية... وهذا ما يسمَّى بـ«الوضعيَّة العلمية» التي تقضي بالانفصال عن علم الجمال الفلسفي، وعن النظريات الإيديولوجية للفن، هذا هو مبدأ «عينيَّة العلم»، بوصفه المبدأ المنظَّم للمنهج الشكلي، في آونةٍ كان فيها الأدب لا يزال «أرضًا لا مالك لها». إنَّنا نريد أن نمتلك أرضنا يقول الشكليون. لهذا ينكر المنهج الشكلي الخلط بين علوم مختلفة في المنهج، ويرى أنَّ العلم الأدبي يمتلك موضوعه، وهو الخصائص النَّوعية للعمل الأدبي التي تميِّزه، وتكوِّن هويته بوصفه عملًا مستقلًا. وقد أعطى رومان جاكوبسون هذه الفكرة صيغتها النهائية، حين قال: «إن موضوع العلم الأدبي ليس هو الأدب، وإنما الأدبيَّة، أي ما يجعل من عمل ما عملًا أدبيًا»[1].

وجَّه الشكليون أبحاثهم، بغية دراسة الأدبية، إلى الألسنيَّة، بوصفها علمًا يواكب نظرية الشعرية في مادة الدراسة، ورأوا أن اللغة الشعرية ليست لغة صور فحسب، وإنَّما هي أنساق تنتظم الصور في منظومتها، مثلها مثل أي عنصر آخر، كالأصوات، فهذه لها، في أنفسها، معانٍ مستقلَّة. وقد استهلَّ الشكليون دراساتهم بدراسة قضية حضور الأصوات في الشعر. وهذا يفضي إلى تحديد مفهوم «الشكل» الذي أعطى هذه المدرسة اسمها، فالشعر هو شكل متميِّز للخطاب يتوفَّر على خصائصه اللسانية المتميِّزة (نظمية، معجمية، دلالية)، فالشكل هو وحدة دينامية وملموسة لها معنى في ذاتها، خارج كل عنصر إضافي، ويمكن تحليلها بوصفها شيئًا ملموسًا،

(146)

تتمُّ دراسته كما هو، وهذا يعني أن التطوُّر الأدبي هو تعاقب جدلي للأشكال.

أمَّا مراحل البحث الشكلي فيقول «جاكوبسون» إنها ثلاث، وهي: «1. تحليل الخصائص الصوتية لأثر أدبي، 2. مشاكل الدلالة في إطار نظريةٍ للشعر، 3. إدماج الصوت والمعنى في رحم كلٍّ غير منقسم». وخلال هذه المرحلة الأخيرة، يضيف «جاكوبسون»: «كان مفهوم [القيمة] المهيمنة جد مثمر. لقد كان مفهومًا من أكثر مفاهيم النظرية الشكلانية جوهريةً وصياغةً وإنتاجًا. ويمكن تعريف المهيمنة باعتبارها عنصرًا بؤريًا (focal) للأثر الأدبي، إنها تحكم، وتحدد وتغيِّر العناصر الأخرى، كما أنها تضمن تلاحم البنية»[1].

الشِّعريَّة

يأتي كلام «جاكوبسون» عن القيمة، أو الوظيفة، المهيمنة لدى بحثه في «الشِّعرية»، فالشعرية كما يحدِّدها «جاكوبسون»، هي «ذلك الفرع من اللسانيات الذي يعالج الوظيفة الشعرية في علاقاتها مع الوظائف الأخرى للغة، وتهتم الشعرية، بالمعنى الواسع للكلمة، بالوظيفة الشعرية لا في الشعر فحسب؛ حيث تهيمن هذه الوظيفة على الوظائف الأخرى للغة، وإنما تهتم بها أيضًا خارج الشعر؛ حيث تُعطى الأولوية لهذه الوظيفة أو تلك على حساب الوظيفة الشعرية»[2].

(147)

وضع «جاكوبسون» نظرية وظائف اللغة، فرأى أن المرسل يبث رسالةً إلى المرسل إليه، وهذه الرِّسالة تفترض وجود سياقٍ أو مرجعية، ومدوَّنة (شيفرة) مشتركة وتماس، وقناة مادية، وارتباط نفسي، وكل عامل من هذه العوامل يولِّد وظيفةً لسانيةً مختلفةً عن الأخرى. هذه الوظائف هي: 1- الوظيفة التعبيرية، أو الانفعالية، وتتركَّز على المرسل. 2- الوظيفة الندائية، أو الإبلاغية، أو الإفهامية، وتتوجه إلى المرسل إليه. 3- الوظيفة الانتباهية، وتوظَّف، في الجوهر، لإقامة الاتصال، واستمرار التواصل وتمديده، أو إيقافه (آلو، أتسمعني...). 4- الوظيفة الماوراء لغويَّة، وتتحدَّث عن اللغة نفسها، كما يحدث لدى سيرورة تعلُّم اللغة. 5- الوظيفة المرجعيَّة، فلكي تكون الرِّسالة فاعلةً تقتضي سياقًا تُحيل إليه، قابلًا لأن يدركه المرسل إليه. 6- الوظيفة الشعرية، وتتركَّز على الرِّسالة نفسها.

ليست الوظيفة الشعرية هي الوظيفة الوحيدة للأدب، بل هي وظيفته المهيمنة والمحدِّدة، مع أنها لا تؤدي في الأنواع الكتابية الأخرى سوى دورٍ تكميلي وعرضي[1].

ولعلَّ أهمَّ ما أضافته الشكليَّة إلى حصيلة النَّقد هو التنظير القصصي وتطبيقه، وما كان لهذا الصنيع من أصداء في النَّقد المعاصر. فقد ميَّز الشكليون الروس بين «المتن الحكائي»، مادَّة القصَّة، و«المبنى الحكائي»، نظام ظهور وحداته، قال توماشفسكي: «إنَّنا نسمِّي متنًا حكائيًا مجموعَ الأحداث المتَّصلة في ما بينها، والتي يقع إخبارنا بها من خلال العمل...، في مقابل المتن الحكائي يوجد المبنى الحكائي الذي يتألف من الأحداث نفسها، بيد أنَّه يراعي نظام ظهورها في

(148)

العمل، كما يراعي ما يتبعها من معلومات تعينها لنا». وقد استخدم الشكليون مفهوم «الحافز»، بوصفه أصغر وحدةٍ سرديَّة.

طوَّر «فلاديمير بروب» هذا الصنيع في كتابه «مورفولوجيا الحكاية الخرافية»، إذ اعتمد، في تحليله الحكاية، وحداتها، وعلاقات هذه الوحدات، بعضها ببعضها الآخر وبالكل، والوحدة السردية تؤدي وظيفة، وإن كانت الأحداث متغيرةً فالوظيفة ثابتة، والوظيفة هي «فعل شخصيَّةٍ تُعرَّف من وجهة نظر أهميتها لمسيرة العمل، أو من وجهة نظر أهميتها في تقدُّم القصَّة». وهكذا تكون الوظيفةُ «الحدثَ الذي تقوم به شخصية ما، من حيث دلالته في التطوُّر العام للحكاية». فخروج الشاطر حسن إلى جلب الدواء لأمِّه، ومجيء القروي إلى المدينة ليتعلم، وتوجُّه المقاوم للقيام بعمليَّة، وذهاب الفلاح لحراثة حقله...، هذه وحدات سردية أحداثها متغيِّرة، لكن لها وظيفةً ثابتة، وهي «الخروج» لتنفيذ المهمَّة.

9. المنهج البنيوي، البنيوية (Structuralisme)

المنهج البنيوي وليد أعمال عدة مدارس نقديَّة هي: المدرسة الشكلية، بمختلف مكوِّناتها، وقد تحدَّثنا عنها آنفًا، و«حلقة جنيف» ممثلة بـ«فرديناند دي سوسير» (1857 – 1913)، مؤسِّس علم الألسنيَّة، في محاضراته التي ألقاها على طلّابه، طوال ثلاثة فصول دراسية، في جامعة جنيف (1906 – 1911)، ثم نشرت سنة 1916 برعاية تلميذيه: «شارل بالي»، و«ألبير سيشهاي»، تحت عنوان «محاضرات في الألسنية العامَّة». وقد وضع «سوسير» مبادئ ألسنيَّةً تستخدم في وصف الأنظمة اللغوية، وهي ثنائياته المعروفة التي مثّلت الجزء الأساسي في النظرية البنيوية، وهي: اللغة/ الكلام،

(149)

لتزامن/ التعاقب، السياقية/ الاستبدالية، الصوت/ المعنى، الدال/ المدلول، الحضور/ الغياب، كما مثل «النقد الجديد» دورًا في هذا الشأن، وهو نقد يرتكز، في المقام الأوَّل، على المفاهيم اللغوية، واستخدامها في دراسة النَّص الأدبي نفسه، من دون النَّظر إلى العوامل الخارجية، ويمكن أن نشير إلى دورٍ أدَّته «نظرية الجشطالت» التي ترى أنَّ إدراك الشيء كلِّي، في النَّظرة الأولى.

سُمِّي هذا المنهج بهذا الاسم نسبةً إلى «بنية»، والبنية هي: «نظام من العلاقات الداخلية القائمة بين عناصر النَّص، والمُدْرَكة وفاقًا لمبدأ الأوَّلية المطلقة للكلِّ على الأجزاء. لهذا النِّظام قوانينه الخاصَّة المحايثة من حيث هو نظام يتصف بالوحدة الدَّاخلية والانتظام الذاتي على نحوٍ يقضي فيه أي تغيير في العلاقات إلى تغيير النظام نفسه، وعلى نحوٍ ينطوي معه المجموع الكلي للعلاقات على دلالة يغدو معها النظام دالًّا على مدلول»[1].

يقول جان بياجيه: إن البنيوية «منهجٌ وليست مذهبًا»[2]، وهذا المنهج يُعتمد في مختلف العلوم، ولهذا فالبنيويون هم «جماعة يؤلِّف بينها البحثُ عن علاقات كلية كامنة، تستمد روافدها من ألسنية سوسير، وأنتربولوجية ليفي شتراوس، ونفسانية جان بياجيه وجاك لاكان، وحفريات ميشال فوكو التاريخية والمعرفية، وأدبيات رولان بارت...»[3].

ما يعنينا، هنا، هو البنيوية الأدبية ونظريتها في النَّقد الأدبي،

(150)

تبحث هذه النظرية في العمل الأدبي من منظور لغوي جمالي يحاول جعل النَّقد الأدبي نوعًا من العلم الموظِّف إنجازات العلم اللغوي ومصطلحاته ومفاهيمه في إجراءاته.

يرى المنهج البنيوي أن بنية العمل الأدبي كلٌّ مكوَّن من عناصر متماسكة، تتوقَّف هوية كلٍ منها وفاعليته على ما عداه، ولا يمكن أن يكون ما هو إلّا بفضل علاقاته بما عداه، هذا التصوُّر الكلِّـي يعني أن القصيدة، على سبيل المثال، ليست مجموعةً من الأبيات، وإنما هي بنية كليَّة تتشكَّل من بنى جزئية هي: الإيقاعية، المعجمية، التركيبية، المجازية، الرمزية...، في تحكُّم ذاتي، تتعاضد، وفي حركة تشكُّل تفضي إلى تشكُّل بنيةٍ كليةٍ تنطق بالدلالة.

والقصة، على سبيل المثال، أيضًا، لا تتشكل من فصول متتالية، وإنما من مكوِّنات بنيوية، هي الوحدات السرديَّة، والشخصيات، والمنظور القصصي، والفضاء القصصي والزَّمان القصصي، والنَّسيج اللغوي الذي تتمثَّل هذه المكوِّنات في سياقه إلى التشكُّل بنية ناطقة بالدلالة.

يفيد هذا أنَّ النَّص نفسه، بوصفه بنيةً كليةً تتشكُّل من بنياتٍ جزئية، هو موضوع الدِّراسة البنيوية. من النماذج التي تمثل هذا النقد، تحليل «سونيت القطط لبودلير» وقام به «جاكوبسون» و«شتراوس»، وكان بمثابة الإعلام عن المنهج البنيوي في النقد.

لا يمكن، في النَّقد البنيوي، إعطاء أي قيمةٍ لأي عنصرٍ خارج الوضع الذي يشغله في البنية الكلية، فالتحليل البنيوي يحدِّد موقع هذا العنصر في هذه البنية وفاعليته في تشكيلها، ويتدرَّج تحليل النص الشعري، على مستوى التزامن، كما يأتي:

(151)

1. البنية الكلية ومكوِّناتها، 2. المكوِّن الصوتي، وزن، تنغيم، نبر، 3. المكوِّن الصَّرفي: الوحدات الصرفية وأبنيتها، 4. المكوِّن المعجمي: الكلمات وهوياتها وحقولها وخصائصها، 5. المكوِّن التركيبي: الجمل وأنواعها وخصائصها، 6. المكوِّن المجازي: مختلف أنواع المجاز، والانزياح، 7. المكوِّن الرمزي: المدلول المفضي إلى مدلول آخر، 8. شعريَّة النص والدلالة الكليَّة. تدرس هذه المكوِّنات البنية الأدبية الجماليَّة الدَّلاليَّة. ويفضي هذا النوع من التحليل إلى تمييز النص الشعري، في المقام الأول، فإن هيمن المكون الدلالي ـ المجازي كان النص شعرًا منثورًا، وإن أحكم بناء هذا النوع، وتضمَّن عنصر القصد إلى الإحكام كان النَّص قصيدة نثر، وإن هيمن المكوِّن الصوتي (وزن وقافية) كان النص نظمًا، وإن هيمن المكونان الصوتي ـ المجازي والدلالي كان النَّص شعرًا.

وفي السرد، استفاد النَّقد البنيوي من إنجازات المدرسة الشكلية، وخصوصًا من كتاب «فلاديمير بروب» الشهير «مورفولوجيا الحكاية الخرافية»، وقام كل من غريماس و«بريمون» بتطوير منظومة الوظائف كما وردت في هذا الكتاب، ووضع غريماس نظرية «العوامل وعلاقاتها»: العامل الذات، الموضوع، المعاكس، المساعد، وواصل علماء السرد أبحاثهم، فتأسس ما سمِّي بـ«السرديَّة» التي كان من أعلامها، العلماء آنفو الذِّكر وعلماء آخرون، منهم «جان جينيت» و«رولان بارت» و«باختين» و«تودوروف» و«جوليا كريستيفا»، فظهرت مفاهيم جديدة في دراسة السَّرد، منها: الفضاء القصصي، بين زمن الحكاية وزمن القصة، الإيقاع القصصي، الحوارية، تعدُّد الأصوات والتناص...

(152)

يرى «جاكوبسون» أن الفكر الذي قاد العلم الحديث، وبخاصةٍ علم اللُّغة، هو الفكر البنيوي، ويضيف: «إذا أردنا أن نصف بإيجاز الفكر الذي يقود العلم الحديث، في تجلّياته المختلفة، فلن نجد تعبيرًا أدقَّ من كلمة بنيويَّة، إنَّ كل مجموعةٍ من الظواهر التي يعالجها العلم الحديث تعالَج ليس بوصفها تجميعًا ميكانيكيًا، بل بوصفها وحدةً بنيوية، نسقًا، والمهمَّة الأساسية هي اكتشاف قوانين النَّسق الجوهرية، سكونيةً كانت أم دينامية، فليس المؤثِّر الخارجي هو ما يشغل العلم الحديث، بل الشُّروط الدَّاخلية للتطوُّر، وليس التكوين في مظهره الميكانيكي، بل الوظيفة».

10 - المنهج الأسلوبي، أو الأسلوبية ـ Stylistique

أطلق فون درغابلنتس (1875) مصطلح الأسلوبيَّة[1] على دراسة «أدبية» اللغة، وسمَّى هذه الأدبيَة بـ«انزياحات الأسلوب». ويعدُّ شارل بالي Charles Bally (1865- 1947)، في رأي كثير من مؤرِّخي الأسلوبيَّة، واضع قواعد الأسلوبيَّة... ثم كثُر من بعده الباحثون، وعُدَّت الأسلوبيَّة علمًا.

يتَّفق جميع الباحثين على أنَّ الأسلوبيَّة تعني الدراسة العلمية للأسلوب، أيَّ أسلوب كان، وهي علم حديث. وهو، وإن كان يرتبط بالألسنية من حيث النشأة، فإنه يسعى إلى أن يأخذ موقعه بين العلوم اللغوية، ويبلور خصوصيته، ويحقق استقلاله.

تتيح قراءة تعريفات الأسلوبيَّة الخلوص إلى القول: «الأسلوبية

(153)

علمٌ ألسنيٌ يدرس الأسلوب: التركيب الخاص، الانزياح... الناتج عن اختيار المنشئ، دراسةً علميةً وصفية، ويحلِّل وظيفة العناصر في تشكيل التركيب الخاص، فيبيِّن ما يتَّصف به النص من خصائص أسلوبيَّة تميِّزه من سواه من النصوص.

فالدراسة الأسلوبيَّة تُعنى بالظواهر الأسلوبيَّة المنجزة في نصوصٍ أدبيَّة، ولا يعنيها أن تضع قواعد للإنتاج الأدبي، أو أن تصدر أحكامًا ذاتية أو انطباعيَّة، أو أن تستخدم مقاييس قبليةً أو معياريَّة.

تدرس الأسلوبية النص بوصفه ظاهرةً لغويةً ونظامًا من العلاقات، ونظام إشارات دالًا يتضمَّن أبعادًا دلالية، وهي تدرسه بوصفه كلًا كاملًا، من أصغر وحدة لغوية إلى أكبر وحدة على المستويات الصوتية والتركيبية والمعجمية والانزياح...، مع محاولة إدراك الأبعاد الدلالية التي تتضمنها السياقات المنزاحة عن مرجعيتها اللغويَّة.

ويمكن أن تدرس نصًا أدبيًا مستقلًّا، أو إنتاج مؤلِّف بأكمله، أو إنتاج نوع أدبي أو إنتاج مرحلة، أو موروثًا أدبيًا، أو إجراء مقارناتٍ أسلوبية، أو تغيُّر الأسلوب وتطوُّره، أو التأثيرات الأسلوبية في عملية التلقي أو البواعث النفسية للخصائص.

فالبحث الأسلوبي يحدِّد الهدف الدقيق للتحليل، ويختار له المنهج الملائم، ويلجأ إلى استخدام مختلف الوسائل الممكنة والمجدية، مثل البيانات والإحصاءات...، ويفيد من إنجازات أي علم.

تعرف الأسلوبيَّة عدَّة اتجاهات، أهمها:

1. الأسلوبيَّة التَّعبيريَّة: يعدُّ الفرنسي شارل بالي (1865 –

(154)

1947) قطب الأسلوبية التعبيرية ومؤسِّس الأسلوبية. يرى بالي أن الأسلوبية هي علم من علوم اللغة كعلم الأصوات والتراكيب، تبحث في أسلوب لغةٍ ما، من حيث تعبيره عن الإحساس وتبادل التأثير بين هذا الأخير والتعبير. وهذا يعني أنها تربط الأسلوب بالإحساس، وترى أنَّ الأنا تحضر في كل أسلوب، وأن العنصر الأساسي فيه هو العاطفة.

ويرى بالي أن موضوع الأسلوبية هو الخصائص اللغوية التي تحدث تحت التأثير ـ الانفعال، وليس الانفعال نفسه، أو التأثير، والخصائص المعنيَّة، هي خصائص لغة التعبير عن الوجدان، لغة الإبلاغ والإيصال، لغة الحديث اليومي، وليس لغة الأدب فحسب. فجميع أنماط التعبير، كما يرى بالي، تتضمَّن حدًا أدنى من العناصر الذاتية والعاطفية حتى عندما تكون اللُّغة مجرَّد وسيلةٍ للتعبير المناسب عن شكل الفكر...

2. الأسلوبية الفرديَّة/المثاليَّة: يعدُّ الباحث النَّمساوي ليو سبيتزر (1887 – 1960) الذي كان يبحث في قضايا أسلوبيَّة محدَّدة، وفي أعمال أدبية معينة، مؤسس هذا الاتجاه من اتجاهات الأسلوبية.

يرى بعض الباحثين أنه يمكن أن نُرْجِع آراء سبيتزر إلى علماء اللُّغة الرومانسيين الذين حاولوا أن يلتمسوا في الكلام تلك الخصائص التي تتميز بها «عبقرية» الشعوب في الأحقاب التاريخية. وقد درس سبيتزر الانزياح الفردي: «الصيغ المعبِّرة» في وقائع الكلام الدال على شخصية الكاتب، مستفيدًا من علم اللُّغة، ويضع ما توصَّل إليه من معرفة في خدمة الأسلوبية.

(155)

3. الأسلوبيَّة البنيوية: يعيد الباحثون نشأة الأسلوبيَّة البنيويَّة وتطوُّرها إلى الألسنيين الذين درسوا اللُّغة في عملها الداخلي، على مختلف المستويات التي يمكن إدراكها موضوعيًا...، ويعزون الدور المؤسِّس إلى مدرسة الشكليين الرُّوس وحلقة براغ وما تلاهما من حلقات بحث، ولا يخفى الدور الذي أدَّاه رومان جاكوبسون في هذا المجال، فقد كان رائدًا وقطبًا أساسيًا فيه.

يعرِّف مولينيه الأسلوبيَّة البنيوية، فيقول: هي دراسة التراكيب اللغوية الأدبية المحقَّقة في خطابٍ أدبي محدَّد...، وهي البحث في النص عن العناصر الموجودة فيه والتي تجعل منه نصًا أدبيًا، وذلك في سبيل تحديد خصوصية هذه العناصر وطبيعة عملها... والأدبية التي يتمُّ البحث عنها وفيها موجودة في حُزم من الوقائع اللغوية. وهدف الأسلوبيَّة، كما يفهم حديثًا، هو دراسة هذه الأدبية في مكوِّناتها الكلامية والشكلية. ويضيف مولينيه، فيرى أن الأسلوبية هي منهجية بحث ومادَّة تعليمٍ في آن، تتمثَّل مهمتها في استكشافٍ منهجيٍ وموضوعي.

11 - المنهج السِّيميولوجي

يتداخل مصطلحا «السيميولوجيا» (La sémiologie) و«السيميائية» (Sémiotique)، في النَّقدين: الغربي والعربي. ويبدو كأنَّ لهما مفهومًا واحدًا، فنقرأ، على سبيل المثال، في قاموس «تودوروف» و«ديكرو» التعريف الآتي: «السيميائية (السيميولوجيا) هي علم العلامات»، ويميِّز جورج مونان بين المصطلحين، فيقول: إن السيميائية «معادل ـ بالمصادفة ـ للسيميولوجيا، ينتمي إلى

(156)

الولايات المتحدة الأميركية، بصفة خاصة، عند شارل موريس مثلًا، ويُستعمل أحيانًا ـ بدقَّة أكبر ـ للدلالة على نظام من العلاقات غير اللغوية، كإشارات المرور». ويرى يوسف وغليسي: «يفهم من ذلك أن السيميائية معطًى ثقافي أميركي ـ أساسًا ـ يحيل على مفاهيم فلسفية شاملة وعلامات غير لغويَّة، بينما السيميولوجيا معطًى ثقافي أوروبي هو أدنى للعلامات اللغوية والمجال الألسني عمومًا منه إلى أي مجال آخر، فكأن الأولى أعتق تاريخًا، وأوسع موضوعًا، من الثانية، فضلًا عن تباينهما، في مجال جغرافية التَّداول»[1]. وهذا يعني أن السيميائية أكثر عموميةً، فهي لا تستثني من العلامات شيئًا.

في النَّقد العربي، تتعدَّد ترجمات هذين المصطلحين فأحصى عبد الله بو خلخال ما يقارب العشرين ترجمةً لهما، وأحصى وغليسي ستة وثلاثين مصطلحًا، ووضع جدولًا يتضمَّن أسماء المؤلَّفات والمؤلفين يؤيِّد ما يذهب إليه، إضافةً إلى أن بعضهم يخلط بين هذين المصطلحين ومصطلح Sémantiques  وSemantic؛ علم الدلالة، والفرق واضح، فعلم الدَّلالة يبحث في المضمون اللغوي، وفي معجمية لغةٍ ما ودلالات الكلمات فيها، وخصوصًا التبدُّل الذي يطرأ على معانيها بمرور الزَّمن. والسيميولوجيا أو السيميائية تبحث في العلامة، وقد جعل شارل موريس علم الدلالة

(157)

«قسمًا من السِّيميائيَّة يُعنى بدلالة العلامات، أي العلاقة بين العلامة ومقصدها، أو ما تحيل عليه مقابلًا للتداولية والتركيب»[1].

نشأ هذا المنهج، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فبشَّر به العالم اللغوي السويسري «فرديناند دي سوسير» (1857 – 1913)، عندما قال في إحدى محاضراته: «بوسعنا أن نتصوَّر علمًا يتّخذ موضوعًا له دراسة حياة العلامات في كنف الحياة الاجتماعية، ويصبح جزءًا من علم النفس الاجتماعي، وتاليًا من علم النفس العام. وسنسمِّيه «السيميولوجيا» (La Simuologie)، (من الكلمة الإغريقية Sémeion، بمعنى Signe علامة)، وتدرس فيه كيفية تكون العلامات والقوانين التي تحكمها... وليس علم اللغة إلا جزءًا من هذا العلم العام. والقوانين التي سيكتشفها هذا العلم يمكن تطبيقها على علم اللغة...»[2]. وكما نعلم فإن العلامة اللغوية هي كيان ثنائي يتألف من الدال والمدلول والعلاقة بينهما اعتباطية، ويُستثنى الدال الذي يحاكي المدلول، مثل خرير الماء.

في ما بعد، رأى رولان بارت أنه يجب تقبُّل إمكانية قلب اقتراح سوسير، فليس علم اللغة جزءًا، ولو مفضَّلًا، من علم العلامات العام (السيميولوجيا)، وإنما هي ـ أي «السيميولوجيا» ـ جزءٌ منه.

في هذا الوقت، كان المفكر الأميركي «شارل ساندرس بورس» (1839 – 1914) يبحث في ما كان «سوسير» يدعو إليه، وإن يكن بورس لم يترك مؤلفاتٍ في هذا العلم، فإن ما تركه من أبحاث يجعل

(158)

السيميائيين يقرُّون بفضله، فتقول «جوليا كريستيفا»، على سبيل المثال: «نحن مَدينون، فعلًا، لشارل ساندرس بورس بالاستخدام الحديث لمصطلح السيميائية»[1].

ولا يخفى أنَّ هذا العلم يرتبط بعلاقاتٍ وطيدة بالألسنية والبنيوية، ففي الألسنية، رأى سوسير أن اللغة نظام من العلامات تنبغي دراسته تزامنيًا، بوصفه نظامًا مكتملًا في لحظةٍ زمنيةٍ معيَّنة، وليس تعاقبيًا في تطوُّره التاريخي، ورأى أن العلامة تتألف من دال (صورة صوتية أو معادلها الكتابي) ومدلول (المفهوم أو المعنى)، والعلاقة بينهما اعتباطية، ولم يكن «سوسير» معنيًَّا بالكلام، أي الكلام اليومي والأدب، وإنما باللغة، بوصفها نظامًا من العلامات. وكانت البنيوية محاولةً لتطبيق هذه النظرية الألسنية على موضوعات غير اللغة نفسها، الأدب، الفنون، الأزياء، أنظمة القرابة،... وإن تكن السيميائية هي الدراسة المنظمة للعلامات، فهذا ما تفعله البنيوية، غير أن السيميائية تعيِّن حقلًا محدَّدًا من حقول الدِّراسة، هو حقل الأنظمة التي تعدُّ بمثابة علامات، وتستخدم المنهج البنيوي.

وقد ميَّز «بورس» بين ثلاثة أنواع من العلامات هي: 1- الأيقون، حيث تشبه العلاقة ما يمثلها، مثل صورةٍ فوتوغرافية لشخص ما، 2- المؤشِّر، تقترن فيه العلاقة مع ما يدل عليها، فالدخان يدل على النار، 3- الرَّمز، ترتبط العلامة مع مرجعها اعتباطيًا أو عرفيًا أو تأويليًا، وتميِّز السِّيميائيَّة في «الميتالغات»؛ حيث يعيِّن نظامُ علاماتٍ نظامَ

(159)

علاماتٍ آخر، كالعلاقة بين النَّقد الأدبي والأدب، على سبيل المثال، وعن العلامات متعدِّدة الدلالة، التي تدلُّ على غير معنى[1].

في مسار من الأبحاث العلمية، تكوَّنت تيارات سيميائية متمايزة ومتعايشة، ضمن هذه «الإمبراطورية العلامية» التي تقدِّم نفسها علمًا شموليًا، يسلّط على سائر العلوم، ويحكمها بوصفها فيدراليات علمية مرتبطة بقوانينه المركزية[2].

12 - ما بعد البنيويَّة، المنهج التفكيكي، التَّفكيك

ظهر هذا المنهج في مرحلة «ما بعد البنيوية» التي ترادف، في كثير من الكتابات، مرحلة «ما بعد الحداثة»، وقد بلغت الترجمات العربية للمصطلح الفرنسي déconstruction الدال على هذه الحركة النَّقدية ما يزيد على عشرة أسماء، منها: التفكيك، التفكيكية، التقويض، التقويمية، التشريح، التشريحية، النقضية، اللابناء، التهديم، التحليلية البنيوية... وقد اعتمدنا مصطلح «التَّفكيك»، لدلالته اللغويَّة، لشيوعه وانتشاره.

يعيد التاريخ النقدي ميلاد «التفكيكية» إلى الندوة التي عُقدت في جامعة «جون هوينكز»، في تشرين الأول، سنة 1966، وكان موضوعها «اللغات النَّقدية وعلوم الإنسان»، وشارك فيها كبار النقَّاد العالميِّين، ومنهم: «رولان بارت»، «تزفستيان تودوروف»، «لوسيان غولدمان»، «جان لاكان»، «جورج بولي»، «جاك دريدا»...، وقدَّم

(160)

فيها الأخير بحثًا عنوانه: «البنية والعلامة واللعب في خطاب العلوم الإنسانية» عُدَّ بمنزلة البيان الأول الذي أعلن ميلاد حركةٍ نقديةٍ جديدة.

«جاك دريدا» (1930 – 2004) مؤسس هذه الحركة النقدية فرنسي جزائري المولد، يصف نفسه بقوله: «أنا يهودي جزائري، يهودي لا، يهودي بالطبع، ولكن هذا كان لتفسير العسر الذي أتحسَّسه داخل الثقافة الفرنسيَّة، لست منسجمًا إذا جاز التعبير، أنا أفريقي شمالي، بقدر ما أنا فرنسي...»[1]. شخصية «دريدا»، كما يقول هو، غير منسجمة، فهل نقول: إن الحركة النقدية التي أسَّسها غير منسجمة؟ لنحاول معرفة هذه الحركة.

في سنة 1967، أصدر «دريدا» ثلاثة كتب هي: «الكتابة والاختلاف»، و«الصَّوت والظَّاهر» و«في علم الكتابة»، ثم أصدر، في عام 1972، كتبًا أخرى، منها: «التشتيت»، و«مواقف»... عمل «دريدا» أستاذًا في جامعة «يال» في الولايات المتحدة الأميركية، ولم يلبث أن غدا مركز حركةٍ نقديةٍ تفكيكيةٍ أميركية، سُمِّيت هذه الحركة بـ«مدرسة يال»، وكان من أعلامها «بول دي مان» (1919 – 1983)، و«جيفري هارتمان» (1929).

نشأت «التفكيكية» في مسار مراجعة أعلامٍ بنيويِّين لمبادئ البنيوية ونقدها، فممثلو ما بعد البنيوية كانوا بنيويين عدَّلوا رؤاهم وطرائقهم، يقول «رامان سلدن»: «... فممثلو ما بعد البنيوية هم

(161)

بنيويون اكتشفوا خطأ طرائقهم على نحو مفاجئ»[1].

تعرِّف «جوزيت راي دوبوف»، في قاموسها السيميائي، فعل التفكيك، عند دريدا، بمعنى «فكّ، أو تقويض (déffaire) بناءٍ إيديولوجي موروث، اعتمادًا على التحليل السيوميولوجي»، ويقول «دريدا» إنه، حين وضع هذا المصطلح كان يفكِّر في استخدام «هيدغر» لكلمة التدمير، بمعنى تحليل بنيةٍ ما من طريق نشرها وبسطها على طاولة التشريح، مثلما كان يفكر في كلمة ألمانية استعملها «فرويد» تدل على نوع من التركيب بالمقلوب[2].

التفكيكية هي حركة نقدية «تقوِّض» النَّص، فتعمل على فك مكوّنات المركز، البنية، فتفصل الدال عن المدلولات، لتصل إلى قراءات له، تكون كل واحدةٍ منها قراءةً جديدة، ما يفضي إلى لانهائية القراءات، وإلى عدِّ النص كائنًا مفتوحًا، فكيف يتمُّ ذلك؟

اللغة، كما ترى البنيوية، هي نظامٌ عامٌ من العلامات، والكلام هو نظامٌ خاص من العلامات، فردي، للنطق أو الكتابة، والعلامة تتكوَّن من دال ومدلول هما أشبه بوجهي العملة الواحدة. وقد لاحظ «سوسير» أن الكلمة الواحدة (الدال الواحد)، في أيِّ لغة من اللغات، تؤدي مفهومين (مدلولين) مختلفين، فقال: «إنَّ الشق اللغوي سلسلة اختلافات لأصوات تتضام مع سلسلة اختلافات لأفكار»[3].

التفكيكية تنطلق من هذه النظرة، وتذهب إلى أبعد من ذلك،

(162)

فتفصل مكوِّني العلامة، الدَّال والمدلول، وترى أن الدَّال لا يعطي المدلول، الواحد الحاضر، مباشرةً كما تعطينا المرآة صورةً، ما يعني أن العلامة ليست وحدةً متناسقةً محكمةً بين دالٍّ واحد ومدلول واحد، «فالمعجم لا يجزم بشيء سوى الإرجاء الحاسم للمعنى»، فلكل دالٍ مجموعةٌ من المدلولات، فكلمة «حرَّ»، على سبيل المثال، تعني، إذا قرأت معناها في المعجم: ما خالف العبودية، وبرئ من العيب، وولد الحية حُرٌّ، وخلاف البرد...، هذا من نحوٍ أوَّل، ومن نحوٍ ثانٍ فإن كل مدلولٍ من المدلولات يتحوَّل إلى دالٍّ يمكن تتبُّع مدلولاته، وهكذا في سلسلةِ تحوُّلٍ دائمة في التداول السياقي: «اللغوي والتاريخي»، فعلى سبيل المثال، نأخذ الكلمة نفسها «حرّ» فنرى توالد مدلولاتها: طين حرٌّ: لا رمل فيه، باتت العروس بليلة حُرَّة، أي لم يصل إليها بعلها في أوَّل ليلة، وحُرُّ الدَّار: وسطها، وامرأة حُرَّة الذَّفرى: أي حرَّة مجال القرط، وحُرُّ البقل: ما يؤكل غير مطبوخ، حرُّ الرجل يَحرُّ من الحرية، الحرور: الريح الحارَّة، الحرَّة: العطش، الحرير: المحرور الذي تداخله غيظ، والحّرَّة: أرض ذات حجارة سوداء[1]. يقول «سلدن» عن عملية تحوُّل الدَّال والمدلول: «وتمضي هذه العملية إلى ما لا نهاية، كما لو كان كل دالٍ يتحوَّل إلى نوع من الحرباء التي تبدِّل ألوانها مع كلِّ سياق جديد». ويضيف «سلدن»: «وينصبُّ قدرٌ كبير من جهد حركة ما بعد البنيوية على تتبُّع هذا التقلُّب الملحاح لنشاط الدال؛ وذلك في تشكيله مع غيره من الدَّوال سلاسل وتيارات متقاطعة من المعنى...»[2].

إن هذا الفهم يصدق على النص الأدبي بوصفه علامةً تتشكل

(163)

من دوال لا تعطي مدلولاتها كما تعطي المرآة الصورة، وتتحول مدلولاتها إلى دوال...، وهذا يعني أنَّه لا يمكن لقارئٍ واحدٍ أن يصل إلى معنى واحد ونهائي، وأن القراءات تتعدَّد، والمعنى لا نهائي وكأن القارئ هو الذي يعيد إنتاج النَّص، ما يفضي إلى القول بـ«موت المؤلِّف»، وبأن ليس من بنيةٍ واحدة، وإنما توجد بنى كل منها مختلفة عن الأخرى.

يفيد ما سبق أنَّ المعنى منتشر، متواصل بين الحضور والغياب معًا، فقراءة نصٍّ هي تتبُّع سيرورة التأويل، أو سيرورة القراءات، بحسبان كل قراءة تأويلًا، لا تستطيع أن تُحكِم قبضتها على المعنى تمامًا، أو سيرورة انفصالٍ واختلاف. يقول «تيري إيغلتون» في هذا الشأن: «وفحوى كل هذا هو أن اللغة شأنٌ أقل رسوخًا بكثير ممَّا اعتبره البنيويون الكلاسيكيون، وبدلًا من كونها بنيةً محدَّدةً جيِّدًا وواضحة التخوم تشتمل على وحداتٍ متناظرة من الدَّالات والمدلولات، فإنها تبدأ الآن بالظهور مثل قماشٍ يمتد إلى ما لا نهاية؛ حيث تتبادل العناصر، وتدور على نحوٍ متواصل، وحيث ما من عنصر يكون محدَّدًا بصورة مطلقة، وما من شيءٍ إلا وهو واقع في شراك كلِّ الأشياء الأخرى، وحامل لأثرها»[1].

ويقول رامان سلدن: «إن الكتَّاب الطليعيين يتيحون المجال للّغة كي تبرز إلى السطح، ويحرِّرون الدوال كي تلد معنًى حين تشاء، وتدمِّر رقابة المدلول وإلحاحه القمعي على معنى واحد»[2].

(164)

يتيح ما سبق تركيز مبادئ، منها: عدم رسوخ البنية ولا ثباتها، الانفصال، الاختلاف، انتشار المعنى، سيرورة القراءات، سيرورة التأويل، تعدُّد القراءات بتعدُّد القرَّاء، ميلاد القارئ وموت المؤلِّف.

إنَّ فكرة موت المؤلِّف ليست جديدةً، فهي مُتضمَّنةٌ في الفكر البنيوي، لكن الجديد الذي أتى به «رولان بارت»، في مقاله: «موت المؤلِّف» (1968) هو أنَّ النَّص «ساحةٌ تلتقي وتعيد الالتقاء فيها اللغة التي هي مخزونٌ لا-نهائي من حالات التكرار والأصداء والاقتباسات، والإشارات على نحو يغدو معه القارئ حرًَّا تمامًا في أن يدخل النَّص من أي اتجاه يشاء، فليس هناك طريق هو وحده الذي يعدُّ صائبًا...». الجديد، عند بارت، هو أن «القرَّاء أحرار في فتح العملية لنص وإغلاقها من دون أي اعتبار للمدلول، وعلى نحوٍ يغدو معه القرَّاء أحرارًا في أن ينالوا لذَّتهم من النص...»[1].

يبدو أن تداخلًا وتفاعلًا قد حدثا بين «النقد القائم على استجابة القارئ» و«نظرية التلقِّي» أو «نظرية جمال التلقِّي» من نحوٍ أوَّل، وفكرة موت المؤلِّف وميلاد القارئ وفاعلية القراءة، من نحوٍ ثانٍ...

في ما يتعلق بالإجراءات النقدية يقول دريدا: «ليس التفكيك منهجًا، ولا يمكن تحويله إلى منهج، خصوصًا إذا ما أكّدنا على الدَّلالة الإجرائية أو التقنية»[2]. وما يمكن قوله هو أنَّ القراءة التفكيكية تركِّز على عناصر تبدو «أعراضية»، أو هامشية، وتعيدها إلى المتن،

(165)

بعدما كانت التقابلات الثنائية كي ترسخ ذاتها قد أبعدتها، وتنطلق منها في قراءة النَّص، فتكشف ما في الكتابة نفسها من انتشار للمعنى، لا يمكن احتواؤه ضمن مقولات المقاربات النقدية المتداولة، ما تقوم به هذه القراءة هو تفكيك التقابلات المشكلة للنظام، مثل: أعلى/أدنى، نور/ظلام، طبيعة/ثقافة...، إن هذه التقابلات «تنفي إلى هامش المتن تفاصيل صغيرة، يمكن إعادتها إلى المتن، وجعلها تنزل البلاء بتلك التقابلات».

إنَّ البنيوية تفرُّ من التاريخ، وتلجأ إلى البنية، بوصفها بناءً ثابتًا محدَّدًا، أما «ما بعد البنيوية» و«التفكيكية»، بخاصة، فتريان أن الكتابة تفكِّك البنية، وتتحرَّر من طغيانها، من طريق الإبداع اللغوي الحر، فالنص، كما يعلن بارت «هو ذلك الشخص المنفلت الذي يكشف قفاه للأب السياسي»، وهذه الإشارة إلى الأب السياسي، كما يرى إيغلتون، ليست مصادفة، فقد نُشر كتاب «بارت»، «لذَّة النصِّ» بعد خمس سنوات من انفجارٍ اجتماعيٍ هزَّ آباء فرنسا السياسيين حتى جذورهم، ففي سنة 1968، اندفعت الحركة الطلابية بقوة عبر أوروبا، مضربةً، ضد سلطوية المؤسسات التعليمية، ووصلت في فرنسا إلى حدِّ تهديد الدولة البرجوازية لمدةٍ وجيزة، فكأن ما بعد البنيوية كانت نتاجًا لما شهدته سنة 1968...، وإذ لم تكن الحركة الطلابية غير قادرةٍ على كسر بنى سلطة الدولة، فقد وجدت أنه من الممكن تدمير بنى اللغة عوضًا عن ذلك... و«هكذا أصبح كل فكرٍ نظاميٍ كلِّـي موضع شبهةٍ بوصفه فكرًا إرهابيًا...»[1] ينبغي تفكيكه، ولكل قارئ حرِّية القيام

(166)

بهذا الإجراء، غير أن هذا يفترض وجود قارئٍ يمتلك الأهلية والكفاءة اللتين تخوِّلانه إنجاز هذه المهمة وكتابة نصٍّ يلتقط التفاصيل المقصاة إلى الهامش، وإعادتها إلى المتن، وتفكيك نظام هذا المتن، وتبيُّن انفصال الدوال والمدلولات، وتتبُّع انتشار المعاني، وحضور النصوص الأخرى، «التَّناصّ»... وأداء ما يخلص إليه بلغةٍ تعادل لغة النَّص، إذ إنّ التفكيكية ترى أن كلًّا من الأدب ونقده إبداع، ويبدو أنَّه من الصواب القول: إنَّ الناقد التفكيكي هو مبدع يقدّم قراءةً لنصٍّ مبدع كبير؛ إذ إنَّ النَّصَّ الأدبي، من الدَّرجة الثانية، أو الثالثة، لا تتحرَّر فيه الدَّوال، ولا ينتشر فيه المعنى، ولا تتعدَّد قراءاته، ما يعني أن «التفكيكية» تقتضي أن يقوم قارئ مبدع بقراءة نصٍّ مبدع كبير، يعيد إنتاج اللُّغة.

(167)
خاتمة
في نقد النَّقد

تعدُّديَّة وتكامل

مناهج النَّقد الأدبي كثيرةٌ ومتنوعة، وأول ما ظهر منها هو النَّقد التأثري الانطباعي. هذا النقد، بوصفه نقدًا يقدِّم إحساسًا ذاتيًا بالجمال الأدبي، كان ولا يزال قائمًا، وسيظل قائمًا، ما دام الأدب يؤثر في متلقِّيه، غير أنه يحتاج إلى إجراءتٍ منهجيةٍ تجعل معطياته معرفةً مقبولةً من الآخر. وفي أيِّ حال، يمكن أن يمثّل مرحلةً أوليةً في أي نقد منهجي.                       

 في مقابل هذا النَّقد الذاتي، نجد نقدًا يسعى إلى تطبيق النظريات العلمية، كما فعل الناقد الفرنسي «برونتيير»، عندما طبَّق نظرية التطور الداروينية على نشوء أنواع أدبية وتطوُّرها، وكان متعسِّفًا في ذلك؛ إذ أقحم منهج علم تجريبي في النَّقد الأدبي.                       

إن يكن النَّقد الأدبي الذي يحكِّم مبادئ العلم التجريبي يتعسَّف، فإن النَّقد المعياري يتعسَّف أيضًا، ذلك أنه يصدر عن معايير مسبقةٍ لما ينبغي أن يكون عليه النص الأدبي، وهذه المعايير متنوعة، قد تكون  أدبيةً أو اجتماعيةً أو دينيةً أو سياسية. صحيح أنه يحقُّ للناقد، كما يحق للأديب، أن تكون له رؤيته وحريته في أن يعبّـر عن هذه الرؤية، لكن  لا يحق له أن يحاكم النص الأدبي على أساس معايير تمليها رؤيته، فيقول: ينبغي أن يكون، فعلى الناقد أن يقدِّم أوّلًا صورةً أمينةً لما هو كائن، بكل دقةٍ ونزاهةٍ وموضوعية، ثم له بعد ذلك أن يناقش ويحاجج، ويبذل جهده، بروحٍ علمية، كي يقنع بآرائه، من دون أن يشوِّه النص أو يطمس حقائقه وقيمه، على مختلف المستويات.

(168)

في هذا المجال من ممارسة النقد، نجد كثيرًا من النُقَّاد، وخصوصًا من أصحاب المذاهب الأدبية، يدعون إلى اتّباع مبادئ هذا المذهب الأدبي أو ذاك، ويحاكمون النص الأدبي على أساس هذه المبادئ، والتاريخ الأدبي يعرف كثيرًا من هذه الممارسات النقدية، ومنها: وجَّه «بوالو» إلى الكلاسيكية، و«فيكتور هيغو» إلى الرومانسية، و«لي كونت دي ليل» إلى البرناسية، و«إميل زولا» إلى الطبيعية، و«أندريه بروتون» إلى السريالية...، وهذا خلاف طبيعة الإبداع الأدبي، ذلك أنَّه من المعروف، في تاريخ الأدب، أن الظاهرة الأدبية تلدها المرحلة التاريخية، ويأتي النقاد ويستقون منها مبادئ المذهب الأدبي، ويحدث أن يبشّـر أتباع هذا المذهب أو ذاك بمبادئ مذهبه، ويدعو لاتِّباعها، غير أن الاتِّباع لا يؤتي إبداعًا، وإنما يؤتي تقليدًا، وأن الإبداع الأدبي تجاوزٌ يلده التجاوز الحياتي، وعلى النَّقد الأدبي أن يواكب هذا التجاوز، ويصدر عنه، فتتعدَّد المذاهب الأدبية، ثم النقدية بتعدُّد الظواهر الأدبية، فهذه الظواهر هي الأم الولّادة، كما يفيد تاريخ الأدب. وإذ يتم إنتاج الإبداع الأدبي، يأتي دور نقده. وهنا تتمثل إشكاليةٌ كبرى ذات شقَّين، أولهما واقع النَّقد الأدبي العربي الراهن، وثانيهما استخدام المناهج النقدية الغربية.                       

في ما يتعلق بالشق الأول، يمكن القول بإيجاز يقتضيه المقام: النَّقد الأدبي العربي اليوم ينشط في حيِّزين: أولهما الصحافة والمنابر الثقافية، كالنوادي  والمجالس الثقافية...، وثانيهما الجامعة. الملاحظ أن النَّقد الصحفي والمنبري يحكمه، في الغالب، مبدأ العلاقات العامة، وتبادل المنافع، الأمر الذي جعل هذا النَّقد عبارةً عن كلام عامٍ يمدح أو يذم، يجامل أو يكيد، انطلاقًا من العلاقات الشخصية أو«الشُّلَليَّة»، وليس من النص، ما أدى إلى أن تغيُّب القضايا الأدبية والنقدية التي تطرحها الظواهر الأدبية، وإلى أن يفقد النَّقد دوره في تمييز النصوص وتبيُّن خصائصها ودلالاتها

(169)

وبلورة الاتجاهات والظواهر والمشاريع الأدبية والثقافية.                       

نأتي إلى النَّقد الجامعي المفترض أن ينهض بأداء هذه المهمات.الملاحظ أن هذا النَّقد يواجه مشكلاتٍ كثيرة، منها، أولًا، تقليدية كثير من الأساتذة، وغيابهم، لهذا السبب أو ذاك، عن «المعاصرة» الأدبية والنقدية، وثانيًا هيمنة السلطة السياسية على الجامعة، ما يؤدي إلى غلبة المعايير السياسية، لا الأكاديمية، على مختلف شؤون الجامعة، وثالثًا، استخدام كثيرٍ من الأساتذة  المناهج الغربية الحديثة استخدامًا شكليًا وحرفيًا و«ببغاويًا»، إن صح التعبير، ما يجعل النقد، في كثير من الحالات، أكثر صعوبةً من النص، وما يجعله في حالات أخرى لا يراعي خصوصية النص العربي  الحديث أو القديم.                       

وهكذا نصل إلى الشق الثاني، وهو استخدام المناهج الغربية الحديثة. وهذه المناهج، كما هو معروف، غربيَّة، ونحن  نعرفها من طريق الاتصال المباشر، أو الترجمة، ونطبِّقها كما عرفناها. وقد أثار تطبيق كثير من النقاد لها انتقادات كثيرة، من أبرزها أنه لا يجوز أن نستورد مناهج نشأت في سياق تاريخٍ أدبيٍ غربي و«نَسْتَنبِتها»  في غير موطنها الأصلي، ونطبِّقها على نصوص لم توضع لها أصلًا.

بغية نقاش هذا الانتقاد، ينبغي أن نعرف، أولًا، ما هو المنهج، ثم نعرف إن كان استخدامه ممكنًا ومُجديًا أيًَّا يكن مصدره.                       

المنهج الأدبي هو طريقة علمية منظَّمة في دراسة الظاهرة الأدبية، على أسس نظرية ذات أبعاد فلسفية، وذات إجراءاتٍ وأدواتٍ دقيقة، قادرةٍ على تحقيق الهدف من الدراسة، فالناقد الأدبي يسأل قبل أن يبدأ عمله: ماذا أبحث؟ فيحدِّد الموضوع، ولماذا؟ فيحدِّد الهدف، وكيف؟ فيحدِّد الطريقة، وبم؟ فيحدِّد الإجراءات والأدوات.                       

(170)

إن هذا المنهج، وخصوصًا إجراءاته وأدواته، أيًَّا يكن مصدره، هو إنجازٌ حضاري، والإنجازات الحضارية إنسانيةٌ، وملك البشرية جمعاء، ولكل شعبٍ إسهاماته الحضارية التي استفادت منها الشعوب الأخرى، في هذه المرحلة من التاريخ أو تلك، وقد قدَّم العرب، في زمن ازدهار حضارتهم، ما لم يأنف الغربيون من الإفادة منه، فلم نقول نحن، اليوم: هذا غربي لا أريد استنباته في أرضي!؟                       

المهم في الأمر هو معرفة الإنجاز معرفةً حقيقيةً، ثم معرفة كيفية الاستفادة منه واستطاعة ذلك، وتوظيف هذا كله في خدمة المشروع التنموي النهضوي العربي.                       

في ضوء هذا الفهم، يمكن للناقد الأدبي العربي الكُفُء أن يحدِّد موضوعه والهدف الذي يسعى إلى تحقيقه، ثم يختار الطريقة التي تتيح له تحقيق هذا الهدف وإجراءاتها وأدواتها، ثم يستخدم هذه الطريقة بمرونةٍ تمليها خصوصية الموضوع الذي يدرسه.                       

المسألة، إذًا، هي، في المقام الأوَّل، مسألة اختيار المنهج الملائم، في اختيار هذا المنهج، تكثر الآراء، فمن قائل: إن المناهج الخارجية، كالتاريخي والنفسي والاجتماعي...، تبحث في ما هو خارج النص، وتعجز عن تبيُّن خصائصه الأدبية، وإن كانت تقدِّم شيئًا فهي تقدِّم ما يفسِّر ظاهرةً، أو خصيصةً أدبية، وما يسهم في فهم النص الأدبي.                       

ومن قائل: إن الناقد الذي يتَّبع منهجًا من هذه المناهج يشبه ذلك الشرطي الذي يأتي إلى موقع الحادث، فيقبض على جميع الموجودين فيه، وقد يكون مرتكبه من بينهم أو لا، ويضيف هذا القائل: على الناقد أن يقبض على المعني. وهو، في النَّقد الأدبي،

(171)

أدبية الأدب، وأن يقدِّم معرفةً بهذه الأدبية، وهذا تقوم به المناهج الدَّاخليّة التي تبحث في بنية لغة النص، بوصفها كائنًا مستقلًّا.                       

تُوجَّه لهذه المناهج اللغوية، الداخلية، التي تقول باستقلال النص عن مؤلِّفه، ويعبَّر عن هذا الاستقلال بموت المؤلِّف، وعن أي عامل خارجي، انتقاداتٌ، منها: إنَّ هذا النَّقد يفضي إلى تهميش الأدب والأدباء، وإلى عزل الأدب والنقد عن المجتمع والتاريخ، وجعلهما يفقدان وظائفهما الاجتماعية والسياسية...، وفي هذا خدمة للسلطة، بمختلف أنواعها.                       

 في رؤيةٍ موضوعيةٍ إلى هذه الانتقادات، يمكن القول: إن أي منهجٍ نقديٍ ينبغي أن  يؤدِّي مهمَّةً معيَّنةً، تتمثل في الإجابة عن السؤال الآتي: ماذا أريد من دراستي لهذا النص أو ذاك؟ فإن أدَّاها بنجاح كان منهجًا جيدًا، وإن أخفق كان منهجًا غير ملائم، والخطأ يتمثل في اختياره، فالمنهج طريقةٌ محدَّدةٌ  توصل إلى تحقيق هدفٍ محدَّد، فمن يعرف ماذا يريد، ويعرف كيف يحقِّق ما يريده هو الناقد الكُفُء.                       

هذا الكلام يعني القول بـ«التعدُّدية»، ما يعني أن تعدُّدية المناهج ينبغي أن تسود في النَّقد الأدبي، ونعني بالتعدُّدية أن لا نلغي منهجًا لصالح منهجٍ آخر، ولا أن نستخدم خليطًا من المناهج كيفما اتَّفق، وإنما  أن نختار المنهج الذي يمثِّل الطريقة التي توصلنا إلى تحقيق هدفنا من الدراسة النقدية، وأن نجيد استخدام هذا المنهج.                       

يحتاج هذا الكلام إلى تقديم أمثلةٍ تؤيِّده وهذا ما سوف أقوم به في ما يأتي:                       

ترى المناهج اللغوية النصية أن النص بنيةٌ لغويةٌ مستقلَّةٌ عن مؤلِّفها، وعن عوامل نشأتها، وتهدف إلى تقديم معرفةٍ نقديةٍ بأدبية هذا النص فحسب، ما يعني أن معرفة الخصائص الأدبية لا تحتاج إلى معرفة المؤلِّف،

(172)

وأن القارئ، بعدما يتبيّـن تحرّر الدوال والمدلولات وانتشار المعنى، يعيد إنتاج النص، ولكل قارئ أن يفعل ذلك إن كان قادرًا على إعادة الخلق، وإن كان النص صالحًا لذلك.                       

يؤدِّي المنهج النصِّي هذه المهمة، بوصفه منهجًا مختصًَّا بأدائها، وأداؤه هذا لا يحول دون قيام مناهج أخرى  بمهام أخرى تقتضي تحصيل معرفةٍ بالمؤلِّف، فعلى سبيل المثال، إن أراد الناقد تفسير خصيصةٍ في مسرحيات توفيق الحكيم (المرأة الجديدة، النائبة المحترمة، جنسنا اللطيف...)، على سبيل المثال، هي بناء شخصية المرأة، يجد أن عليه العودة إلى معرفة سيرة حياة المؤلِّف، ليتبيَّـن العوامل التي شكّلت تجربته، ويحتاج هنا إلى استخدام منهجَين خارجيَين هما: الاجتماعي والنفسي، وإذ يستخدمهما يتبيَّن أن العوامل التي شكّلت تجربة الحكيم الأدبية والتي أملت مسرحياته المتميِّزة بتلك الخصيصة هي: والدة تركية الأصل مستبدَّة، وإخفاق تجربة حبٍ عنيفٍ في فرنسا، والبقاء مدةً طويلةً من دون زواج، وفقر عالمه من المرأة الحنون، وهكذا لم يمت المؤلِّف. أمَّا تبيُّن الخصيصة نفسها، فتحصِّله المناهج النصِّية، ولا يكون النَّاقد الذي يريد تحصيلها بحاجةٍ إلى معرفة العوامل الخارجية، بما في ذلك حياة المؤلِّف.

إن الناقد الأدبي الذي يريد أن يعرف الخصيصة الأدبية  لا يستخدم المناهج الخارجية، والذي يريد تفسير اتصاف النص بهذه الخصيصة أو تلك، وفهمها، لا يستخدم المناهج النصِّية، فلكلٍّ وظيفته، والخطأ هو أن يُعهد لمنهجٍ بأن يؤدِّي وظيفة منهجٍ آخر.                       

 في مثال آخر، وليكن شعر الكُميت بن زيد الأسدي، فإن أراد الناقد معرفة بنية قصيدته ومكوِّناتها وأسلوبها ودلالتها، فإنه يحتاج إلى مناهج نصيِّة، ولا يحتاج الى معرفة الشاعر، ويعبَّر عن ذلك بموت المؤلِّف وحياة القارئ. أما إذا أراد ان يفسِّر مجيء "الطَّلَليَّة" في نهاية القصيدة،

(173)

وهي خصيصة بنيوية في قصيدة الكميت، فعليه أن يستخدم منهجًا تاريخيًا اجتماعيًا يقدِّم له معرفةً مفادها أن الطللية كانت مطلوبةً في ذلك العصر لأسباب علمية وأدبية، وأن الكميت أخَّرها ليجبر المستمعين على سماع ما يريد قوله من شعرٍ دَعَوي في انتظار سماع الطللية، وإذا أراد الناقد أن يفسّر  تميُّز  شعر الكميت بخصائص جعلت شعره شبيهًا بالخطب المجوَّدة، فعليه أن يعود إلى حياة الشاعر ليعرف أنه كان أحد دعاة الثورة على الدولة القائمة، فكان شعره وسيلةً من وسائل التأثير والحجاج والإقناع، فتميَّز بما يتميَّز به خطاب الدعاة من جدل، إضافةً إلى القصد للتجويد واستخدام معجمٍ لغويٍ يكثر فيه استخدام الغريب، ليجبر الرواة وعلماء اللغة على رواية شعره وحفظه والاستشهاد به. ويحتاج الناقد ليعرف أسباب التزام الكميت بالدعوة إلى معرفة العوامل التي أسهمت في تكوين شخصيته وتجربته، ومنها أنه كان من بني أسد الذين تولَّوا دفن شهداء معركة كربلاء، وأنه ولد في السنة التي حدثت فيها هذه المعركة، ما يعني أنه رضع المأساة مع رضاعته حليب أمِّه.                       

المسألة، إذًا، هي مسألة منهجٍ مختصٍّ بتحقيق هدفٍ لا يحقِّقه سواه. وهنا يرتفع صوتٌ بالقول: إن أي مذهبٍ أدبيٍ غربي هو وليد سياقٍ تاريخيٍ غربي، ويمثّل خصوصيةً تاريخيةً للثقافة الغربية، فلم نأتي نحن ونحتذي ذلك الأدب ومناهج دراسته؟ ولم لا نبدع أدبًا يمثّل واقعنا وخصوصيتنا، ويحقِّق وجودنا الإبداعي في هذا العالم، ويواكبه نقد يعتمد مناهج ملائمة له، يخلص إلى بلورة مذاهب ونظريات أدبية خاصة بنا؟

هذا الصوت الذي لا ينفك يرتفع محقٌّ في قوله، وهو ينطق بالإشكالية الأساس في تاريخنا المعاصر على مختلف الصُّعد، فنحن مستهلكون، ولسنا منتجين. في سبيل حلِّ هذه الإشكالية، على مستوى الإبداع الأدبي، نرى أن يترك الأديب لتجربته الحياتية التاريخية الكيانية التي يدخل في

(174)

تكوينها التُّراثان القومي والوافد، أن تبدع الأدب الذي يمثلها. ثم يأتي دور النقد، فالمفروض أن يصدر هذا النَّقد عن النصوص، وأن يستخدم المنهج الملائم لكل نص، والقادر على أداء المهمة المنوطة به، وهنا لا ضير في استخدام إجراءات المناهج الغربية وأدواتها، شريطة أن تنطلق من النص لا أن تُسقط عليه مقولاتها. وإذ يتم ذلك، ويتم تبيُّـن الخصائص الأدبية وبلورتها، يتم  رصد الظواهر الأدبية وكشفها، ووضع مبادئ المذاهب والنظريات الأدبية.                       

قد أكون بحاجةٍ إلى تقديم مثالٍ يوضح ما أذهب إليه ويؤيِّده، فالمنهج السردي الغربي يستخدم مصطلح الراوي في تحليله، ويصنِّفه في أنواع، وعندما يبحث الناقد العربي في المقامة، ويستخدم هذا المنهج، يتبيَّن له أن الراوي في هذا النوع القصصي مختلف، فيقرِّر ذلك، ويعدِّل المنهج ليلائم النص السردي العربي، ويتبيَّن خصائص النص وفاقًا للمنهج المعدَّل، ولا يلوي عنق النص  ليستقيم والمنهج الغربي. وهكذا نرى أن لا ضير في أن نفيد من المناهج الغربية الحديثة، شريطة أن نستخدمها بمرونة، أي أن نجيد توظيفها في تحصيل المعرفة التي نريد، لا أن نكون أسرى لها نعيد ما تنطق به «ببغاويًا». المهم، في هذا الشأن، وفي كل شأن، الإنتاج وليس الاستهلاك، وحبذا لو ارتقى الإنتاج إلى مستوى الإبداع.                       

ثمَّ ينبغي أن نقرَّ بأن معرفة المناهج النقدية لا تكفي لتكوين الناقد الذي يستأهل حمل هذه الصفة؛ إذ لا بد للناقد الحصيف من الموهبة أولًا، والمعرفة ثانيًا، والمعرفة التي نعني ليست معرفةً محدودةً ساكنة، وإنما هي معرفةٌ موسوعيةٌ متجدِّدةٌ على الدوام، والدُّربة الطويلة ثالثًا، والذوق الأدبي المثقف المدرَّب رابعًا؛ وذلك لأن المبادئ المنهجية لا تستطيع أن تنفذ إلى «لطائف» في النص الأدبي لا يدركها إلا هذا الذوق المرهف، وإلى هذا قصد الناقد العربي الكبير، الآمدي، حين قال: «إن من الأشياء أشياء تدركها المعرفة، ولا تحيط بها الصفة»، والأخلاق العلمية خامسًا، فالنقاد الذين

(175)

يصدرون عن أهواء أو معايير عقديةٍ مسبقةٍ يقعون في أخطاء كبرى، وإن كانوا يعتمدون مناهج نقديةً حديثةً، كما حدث لـ«أرنست رينان»، فقد أخذ هذا المستشرق مقولة العرق عن الناقد الفرنسي «هيوبولت تين»، وطبَّقها في دراسة الآداب السامية، ومنها الأدب العربي، وخلص إلى القول: إن هذا الأدب يخلو من الخيال التركيبي، وإنّ قصائده مفكَّكة...، وأعاد ذلك إلى طبيعة الجنس السامي الذي ينتمي إليه العرب.                        

يبدو واضحًا أن حكم «رينان» عام، وهذا أسوأ أنواع الأحكام  من منظور النَّقد المنهجي، كما يبدو أنه يصدر عن رؤية عنصرية تقول بتفوّق عنصرٍ بشريٍ وتخلُّفِ آخر، وهذه الرؤية، إضافةً إلى عنصريتها، غير صحيحة، فقد ثبت علميًا أنه لا يمكن تقسيم البشر إلى أجناسٍ صافيةِ العرق خالِصَتِهِ تتميز بخصائص ثابتةٍ متوارثةٍ حتميًا، عدا عن أن هذا التقسيم إلى أجناس هو تقسيم لغوي. إضافةً إلى أن اعتماد مناهج حديثةٍ ملائمة، نصية، تتبين الخصائص البنيوية والأسلوبية، وخارجية تفسّر تشكُّل هذه الخصائص، تفيد أن القصيدة العربية الجاهلية، على سبيل المثال، ذات موضوعٍ جذر هو السعي إلى البقاء في محيطٍ بيئيٍ يهدد أبناءه بالفناء، وأن قصيدة المديح  السياسي، في مثال آخر، ذات محورٍ واحدٍ منتظم، مختلف العناصر في تشكيله، هو خدمة مشروع السلطان وإقناع الرعية بشرعية حكمه ووجوب طاعته. أما مسألة فقد الخيال، فلا يحتاج بيان خطئها إلى جهد، فالخيال في ألف ليلةٍ وليلة وكليلةٍ ودمنة، كما هو معروف، مجنَّح وساحر.

في ضوء ما سبق، نخلص إلى القول: لا بد من استخدام المناهج في النَّقد الأدبي، ولا بد من أن نعرف أن لكل منهجٍ خصوصيته ووظيفته، وما يجعلنا نختار هذا المنهج أو ذاك هو الهدف الذي نريد تحقيقه. هذه الحقيقة تجعلنا نقرُّ بـ«تعدُّدية» المناهج وتكاملها، فلكلِ هدفٍ طريقُه، وتعدُّد الأهداف يقضي بتعدُّد الطُّرق، والمهم أن يمتلك الناقد «عدَّته» اللازمة والكافية، وأن يتقن عمله، فإتقان العمل أمرٌ عبادي، كما يُفهم من الحديث الشريف في هذا الشأن.

(176)
المؤلف في سطور عبد المجيد زراقط نبذة علمية ولد في قرية مركبا (قضاء مرجعيون-لبنان الجنوبي) ، في 3/12/1946 ، تلقى دراسته الابتدائية والمتوسطة في مدرسة قريته والقرى المجاورة . انتسب إلى دار المعلمين والمعلمات في صيدا ، وتخرج فيها عام1967 ليعمل في حقل التعليم. تابع دراسته ، وهو يعمل في حقل التعليم (الابتدائي والمتوسط والثانوي) ، إلى أن نال درجة الدكتوراه من جامعة القديس يوسف ، فانتقل إلى التعليم الجامعي في الجامعة اللبنانية منذ العام 1984-1985،ولا يزال يمارس هذا التعليم ، عمل في غير مركر أبحاث ، وفي الصحافة الثقافية ، وفي صحابة الأدب الموجه للاطفال ، واسهم في تأسيس بعض المجلات الموجهة للأطفال.يتابع حركة الثقافة العربية ، وينشر متابعاته في عدد من الصحف اللبنانية والعربية ، ويشارك في الكثير من المؤتمرات العلمية. هجر من قريته في آذار (مارس) عام 1978 ، على إثر الاجتياح الاسرائيلي ، فأقام في بيروت ، ولم يعد الى قريته الا بعد تحريرها عام 20000، وهو الان يوزع اقامته بينها وبين بيروت. بحث ، في رسالة الماجستير ، في تأثير تكون أول دولة عربية على تطور الشعر العربي، وفي أطروحة الدكتوراه/اختصاص في حركة النقد الادبي التي واكبت الشعر الحديث (الشعراء اللبنانيون نقادا)، وفي اطروحة الدكتوراه اللبنانية، في بنية/شكل (morphology) الرواية اللبنانية الصادرة خلال الحرب اللبنانية (1972-1992) مستخدما اصول التحليل السردي في معرفة واقع الرواية اللبنانية والواقع المتجسد فيها. عضو في اتحاد الكتاب اللبنانيين، وفي الاتحاد العام للادباء والكتاب العرب،وفي اتحاد الكتاب العرب، وفي المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، واسهم في تاسيس ملتقى الثلاثاء الثقافي ومنتدى الضاحية الثقافي، وتولى رئاسة الهيئة الادارية للمنتدى الاخير عامي2007 و 2008. يكتب ابحاثا في تاريخ الادب ونقده، ويكتب الرواية والقصة القصيرة والادب الموجه للفتيان.
هذا الكتاب النقد الادبي تبحث هذه الحلقة،في سلسلة "مصطلحات معاصرة" في مصطلحالنقد الادبي، من حيث مفهومه وتطوره ومناهجه ونقده. والنقد الادبي، كمل هو معروف، نشأ من1 صدور أول نص ادبي،وتطور طوال العصور، وكان للإغريق والعرب دور اساس في تطوره، وعرف، في العصر الحديث، مناهج كثيرة، اسهمت العلوم الانسانية واللغوية في نشأتها وتطورها. وقد تتبع الباحث مسار تطور هذا النقد طوال العصور، وانتهى إلى اجراء قراءة نقدية في مناهجه. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com دار الكفيل
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف