فهرس المحتويات

العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية سلسلة مصطلحات معاصرة 20 الاسمية في التراث الغربي والنقد الواقعي الإسلامي محمدعبد المهدي سلمان الحلو
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها ،وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار ، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظكة الفكرية المختلفة. ثانيا:ازالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لاسيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ،ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الاخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

 

 

فهرس

 

ـ مقدمة المركز7

ـ  مقدّمة9

ـ التمهيد12

ـ الفصل الأول: الاسمية في العالم الغربي15

ـ الاسمية في مسارها التاريخي:16

ـ الاسمية.. البداية والنشأة:24

ـ روسلان (1050-1120):26

ـ مقدمة في الاسمية عند وليم أوكام (1295-1349):28

ـ الاسمية الحديثة:40

ـ الاسمية عند باركلي (1685-1753):45

(4)

 

 

فهرس

 

ـ العلاقة بين الاسمية والمثالية:49

ـ الفصل الثاني: الاسمية في العالم الإسلامي53

ـ نقد الاسمية: الاتجاه الواقعي Realism   54

ـ صدر الدين الشيرازي (979-1050):55

ـ العلّامة الطباطبائي (1903-1981):65

ـ مرتضى مطهري (1919-1979):83

ـ محمد تقي مصباح اليزدي (1935 ـ معاصر):102

ـ الشهيد محمد باقر الصدر (1935-1980):107

ـ النتائج113

ـ المصادر والمراجع118

(5)
(6)

مقدمة المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً إلى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحوالتالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أويجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب

(7)

الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

 ***

في هذه الحلقة من سلسلة مصطلحات معاصرة مقاربة لمصطلح " الاسمية" في منشأها التاريخي ودلالاتها الاصطلاحية وتياراتها المختلفة في المدارس الغربية. كما تتناول إبراز الشخصيات الفكرية التي ساهمت في تظهيرها في ميدان الفكر والفلسفة والعلوم الانسانية.

 

والله ولي التوفيق

(8)

المقدمة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

يمتاز التفكير الفلسفي عن التفكير العلمي، في أن إرثه مستديم بنائي يُعتمد عليه في إثراء الجانب المعرفي والخوض في تفاصيله، وعلى الرغم من أن المسيرة الفلسفية ذات العمق التاريخي التي تركتها الفلسفة بموضوعاتها المتشعبة، ودور الصراع بين أصالتها الشرقية أو الغربية، والساحة التي احتلّتها، إلا أن كل الفلاسفة ما يزالون يرجعون إلى نقطة البدء في التفكير الفلسفي العقلي المجرد، الذي أسدل عليه سقراط ظلاله يوم اهتم بالإنسان وترك ما بحثته المدارس الفلسفية السابقة عليه، من أصل الوجود وأصل الأشياء، باعثًا منهجًا توليديًا يقر به بفطرية المعرفة وأصالتها العريقة في نفوس محاوريه، بل وفي فطرية كل إنسان، وذات المنهج ترك أثره الواضح على تلميذه أفلاطون المهتم بالإنسان وما يدور حوله، مستعرضًا لنظريته في المثل كمدار واسع لنظريته المتقدمة في جدل صاعد وآخر نازل، ويقدم بهما تفسيرًا للوجود والطبيعة والإنسان والمعرفة ونظام الحكم وفلسفة اللغة...

واعتمادًا على هذا الرُكام المعرفي المتصاعد، أخذ أرسطو من السابقين عليه، ناقدًا مرةً، وشارحًا ومفسرًا أخرى، كي يبين لنا رؤيته وفق نظام منطقي ـ برهاني صارم، سيطر على المقولة الفكرية لزمن

(9)

طويل عرفه الفلاسفة المسلمون العرب وفلاسفة العصر الوسيط، والذي بُعث من جديد عن طريق البابوات كفكرٍ ذي قيمةٍ معرفيةٍ وأصالةٍ في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، إذًا، ونتيجةً لهذه الحركة والإصدار البابوي، بُعث أرسطو والفلسفة وتُرجم التراث الأرسطي من جديد.

وهكذا ففي كل الفلسفات الحاضرة لا يمكن أن نجد فلسفةً لا تقوم على التراث اليوناني نقدًا وتأييدًا، فهو تراث ما زال ذا نبعٍ صافٍ وسيلٍ عذبٍ تغترف منه أنى تشاء، وكانت مسألة الاسمية من المسائل الفلسفية التي بُحثت في ماضيها تصريحًا وتلويحًا، ومهما كان فهي حاضرةٌ ومرتبطةٌ بالنظريات الفلسفية المختلفة ذات الاهتمام المنطقي والميتافيزيقي والمعرفي، وكان سبب النشوء والظهور صراعاتٌ استعمارية، يوم التقى الشرق والغرب إثر الحروب الصليبية، وانتقال وانتشار العلوم والمدارس، وترجمة الكتب الفلسفية المختلفة، قاد إلى صراع ذي وجهين، بين الكنيسة (السلطة الدينية) والإمبراطورية (السلطة التنفيذية)، وهو قاد إلى صراعٍ آخر بين الدين (الكنيسة) والفلسفة التي مثلتها كليات أرسطو، فظهرت الاسمية على اتجاهين قديم وجديد، والجديد مثله أوكام، وأستطيع واعتمادًا على مصادر تاريخية أن أقول إن هناك اسميةً معاصرةً متطرفةً، مثلها لوك وباركلي.

وقد عمدنا في هذا البحث إلى معالجة موضوع الاسمية، من خلال مقدمة وتمهيد وفصلين، تناول الأول مسألة الاسمية في عمقها التاريخي والاصطلاحي واتجاهاتها المختلفة الغربية وأهم

(10)

شخصياتها، وتناول الثاني النقد الواقعي لمسألة الاسمية والقول بأن المعرفة لا يمكن أن تعتمد أو تقوم إلا من خلال وجود الشيء في الواقع، وكان نصيب النقد هنا لمدرسة الحكمة المتعالية بفلاسفتها المعاصرين، لينتهي البحث بأهم النتائج ومصادر البحث.

هذا وأعتذر إلى المتلقي الكريم على هفوات النقص الواردة التي يعترف الباحث أنها من شأنيته، فلا يمكن ومن منظور العقل أن يصل الفكر يومًا إلى تمامه، إلا إذا كان فكرًا سماويًا يمده الوحي، وإذا لم تترك القراءات البشرية عليه ظلالها وتحرفه عن مساره القويم..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العاملين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين وسلم تسليمَا كثيرًا.

(11)

التمهيد

الاسمية Nominalism:

الاسم Name هو الدال على الشيء، وهو أحد أقسام الكلمة، فالكلمة «اسمٌ، وفعلٌ، وحرف»، لكن الاسم يختلف عن قسيمَيه، فهو دالٌّ على معنًى بذاته ولا يقترن بزمن، وبهذا يمتاز عن الفعل الذي مع دلالته على معنًى بذاته لكنه يقترن بزمن قد يكون ماضيًا أو مضارعًا أو مستقبلًا (أمرًا)، وينفرد الحرف بأنه لا يدل على شيء في ذاته ولا يقترن بزمن ولا يكون له معنًى إلا من خلال ارتباطه داخل الجملة الواحدة؛ ويمتاز الاسم أيضًا بإمكانية أن يُسند إليه ويُسند له، وهي خاصيةٌ ثانيةٌ فارقةٌ له عن الفعل الذي يُسند ولا يُسند إليه، ففي قولنا «فتح محمد الباب» أسندنا ـ له ـ فتح الباب، وفي قولنا «محمد كاتب» أسندنا ـ إليه ـ صفة الكتابة.

والاسمي: هو المنسوب إلى الاسم، لا إلى شيء يدل عليه الاسم، وهو بذلك يقابل الواقع الحقيقي، وتفترق الجملة الاسمية عن الجملة الفعلية، فالجملة الاسمية تسند «أمرًا» إلى آخر ـ إليه ـ، كقولنا: «الإنسان فانٍ» حيث أسندنا الفناء إلى ـ إليه ـ الإنسان، وهي ما يُعبّر عنها منطقيًا بالقضية الحملية التي تتألف من موضوعٍ ومحمولٍ ونسبةٍ بينهما[1].

(12)

والاسمية Nominalism: مذهبٌ (نزعةٌ) يُرجع المعاني العامة (الكلّيات) إلى الأسماء، وهي نوعان: قديم وحديث، القديم مَثّلَه كل من «روسلان» و«أوكام» اللذين أنكرا وجود الكليات، واعتبرا أن الوجود الحقيقي هو للجزئي فقط (الاسم)، على تفصيل سنمر عليه عند تناول كلٍّ منهما، لأننا إذا جردنا الاسم من الصورة المقارنة له لم يبقَ للاسم شيءٌ في العقل، وإن بقي شيءٌ فلا يمكن أن يكون كلّيًا، والفكرة هي الاسم، والتفكير هو الكلام المستخدم للاسم، والاستدلال لا يقوم على الانتقال من كلّي إلى كلّي آخر، بل يقوم من خلال استعمال الأسماء، ولكن في مواضعها، فالكليات ليس لها وجودٌ لا في العقل ولا في الخارج.

والاسمية الحديثة تعتبر أن الكلّيات ليست إلّا «أدوات عمل»، تختلف عن بعضها البعض حسب منفعتها وحاجتها في العلوم المختلفة، باعتبار أن العلم لم يكن سوى لغة جيدة الوضع، وعليه فهو لا يبحث في نفس الأشياء وإنما يبحث عن الأسماء التي تعبّر عن تلك الأشياء، وما يستطيع أن يكونه العلم من قوانين ونظريات واصطلاحات علمية موافقة للنجاح العلمي[1].

وعليه تهتم الاسمية اهتمامًا كبيرًا بالألفاظ بوصفها موضوعات تفكير، أما المفهوم الكلي فليس له وجود لا في العقل ولا في الخارج، والمفهوم الكلي لا يمكن الوصول إليه سواء أكان مفهومًا كلّيًا أو تصوّرًا عقليًا، وسواء كان ناشئًا عن اللفظ أو مستقلًّا عن اللفظ، واللفظ ينطبق على الأشياء الجزئية فقط، و«المعنى» هو فئة

(13)

من الأشياء أو هو ماصدق اللفظ، وهذا يؤكّد رفض المعنى الكلي، ويؤدّي إلى تكثُّر الألفاظ وتكثُّر معانيها الدالّة عليها، يشتد هذا الرفض عند الاسمية القديمة أكثر من الرفض الموجّه عند الاسمية الحديثة، معتبرةً أن الكلي ما هو إلّا «حدودٌ عامةٌ» يسهل معها تصنيف الأشياء تصنيفًا متشابهًا، و»الحدود العامة» مثل: أحمر، طاولة، اسم.

لكن نظرة الاسمية إلى الكلي باعتباره مصنفًا للأشياء كحدودٍ عامةٍ أثار النقد من قبل خصومها، فهو يجعل تصنيف الأشياء أمرًا مستحيلًا، لاستحالة جمعها تحت مفهومٍ معيّن، لأن الاسمية تجعل، وكما سيأتي، لكل اسمٍ محددٍ معنًى محددًا، والتشبيه الذي قالت به، وكما سيأتي أيضًا، ما هو إلا صورةٌ مستترةٌ من المذهب الواقعي، مع أن التشبيه بذاته هو ليس إلا معنًى كلّيًا، ويرفض الاسميون الاعتراض المتقدم، لأن اعتبار التشبيه معنًى كلّيًا ما هو إلا اعتراضٌ منشأه إساءة الفهم أو المصادرة على المطلوب[1].

(14)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

الاسمية في العالم الغربي

(15)

الاسمية في مسارها التاريخي:

وُجدت في النصوص الفلسفية القديمة للفيلسوف اليوناني بارمنيدس[1] نصوصٌ فلسفيةٌ تحدّث فيها عن الظاهر والحقيقة، وهما قصيدة طريق الحق، بيّن فيها أن الحق هو ما هو موجود في الخارج ولا شيء خارج هذا الخارج أو الحق، وقصيدة أخرى اسمها طريق الظن، بيّن فيها أن ما يعتقد به عامة الناس ليس حقًا وليس صدقًا، لأن الحواس لا تخبر عن الظاهر ـ الحق ـ وإن الحقيقة لا توجد إلا حينما يخبرنا بها العقل[2].

وفي محاورة طيماوس لأفلاطون، والتي من خلالها حاول أن يقدم تفسيرًا لوجود الأشياء وتكوُّنها وفق النظرة العلمية السائدة يوم ذاك، أرجع أفلاطون الأشياء إلى أربعة عناصر رئيسية: النار، الماء، الهواء والتراب، وكل عنصر من هذه العناصر له دوره في مراحل تكوين الأشياء، وفي هذه المحاورة أيضًا يقدّم أفلاطون أول تصريحٍ عن مشكلة الاسمية ووجود الأشياء في ذاتها وحقيقتها أو عدم وجودها، حين يحاور محدّثه باحثًا عن الدقة، آخذًا بعين الاعتبار 

(16)

سؤاله بدقة أكثر، وهو: هل أن النار، أية نار، موجودة بذاتها؟ هل  توجد كل الأشياء التي ندّعي أنها موجودة باختلاف وسيلة المعرفة حسيةً كانت أو عقليةً؟

وجاءت هذه التساؤلات المتكررة نتيجةً لمشكلة كانت قائمةً فيما يبدو، وهي: هل أن الأشياء التي نتحدّث عنها والمدرَكة بالحس هي لا شيء على الإطلاق؟ أم هي أسماء فقط؟ وهو تساؤلٌ لا يتركه أفلاطون من دون إجابة، على الرغم من إيمانه بوجود المُثُل (الكلّيات)، فالحق عنده هو أن ما يتأتى عن طريق الحس أو عن طريق العقل لا فرق بينهما وطريقهما واحد، فأغلب ما يصل إلى العقل يأتي من الحس، وهو ما «يجب اعتباره وكأنه الشيء الأكثر حقيقةً وتأكيدًا»[1].

وهو ما ينسجم تمامًا مع نظريته في المُثُل الموجودة في عالمٍ مفارق، وما حولنا إنما هو انعكاس له، أي إن الموجود الحاضر هو ليس إلا صورةً عن المثال (الكلي)، ونحن لا نستطيع أن نعرف شيئًا أو نجيب عنه ما لم نعرف عنه أو نعرف اسمه!![2]

لم يكن أفلاطون ليؤمن بالكلّيات إيمانه بنظرية المثل، مع تأكيده أن المثال الذي يؤمن به وكما يبدو مثالًا مفردًا ـ يحمل في طيته اسمًا للجنس أو النوع أو الفئة ـ فهو واحد لكن نستطيع القول إنه يُطلق بلسان الجمع، يوجد في عالمٍ ذهنيٍ مفارقٍ للعالم الحسي الفردي

(17)

المتجزئ، بل إن كل الأشياء المتشابهة تتشابه فيما بينها، وإنها رغم تشابهها لا بد أن يكون لها مثالٌ يضمها معًا ويميزها عن غيرها فما من «شيء بدون مثال»[1].

الأشياء المعدودة ـ وكما يرى بارمنيدس مُحاور أفلاطون ـ تشترك مع بعضها في كل المثل الأخرى، فهي مشتركة فيما بينها بالتشابه، فهي كبيرة لأنها تشترك في الكبر، وهي عادلة وجميلة لأنها مشتركةٌ في العدل والجمال، وهذا ما كان يعنيه أفلاطون[2].

وهي ليست إلا نماذج ـ مُثلًا ثابتةً في الطبيعة والأشياء، تكون المثل الأخرى شبيهاتها ومماثلاتٍ لها، والمثل بهذا لا يمكن أن تكون إلا أفكارًا، وليس وجودًا آخر غير الأفكار، وإن وجودها الفكري في العقل هو ما يضمن للكثرة أن تتعدد وأن تستمر في حين أنها تبقى ثابتةً[3].

وإن لنظرية المثل هذه بعدين: منطقي وميتافيزيقي، فمن جانبها المنطقي تحاول النظرية أن تميّز بين الموضوعات ـ الأشياء الجزئية، التي تنتمي إلى نوعٍ ما، وبين الألفاظ العامة التي نطلقها عليها أو تجمعها، فلفظ الفرس كمثالٍ لفظٌ عامٌ يختلف عن الأفراس المتكثرة الجزئية، وإن هذا المعنى الجامع ـ المثال ـ معنى لا يوجد في مكان أو زمان محددَين، وإنما هو معنى أزلي، أما من الجانب الميتافيزيقي، فالمعنى «فرس» يشير إلى فرس مثالي يختلف عن

(18)

بقية أفراده في أنه فرس لا يتغيّر، يختلف عن الأفراس الجزئية في أنها متغيرةٌ فانيةٌ، جزئيةٌ، ناقصةٌ، ظاهريةٌ، والمثل بخلافها، كونها ثابتةً، كاملةً، غير ناقصةٍ[1].

إن صورة المثال ومكانها الذي تحدّث عنه أفلاطون، وإن كان وجوده مفارقًا، لكن المفارقة لم تكن للوجود الإنساني، أو تكون خارج الإنسان، وإنما الوجود المفارق الذي عناه أفلاطون وقصده وجودٌ خارج مرامي الحس، أي إن لها وجودًا حقيقيًا واقعيًا، لكنه لا يدركه الحس بقدر ما يتشبه به، وإن هذا المثال الذي اعتبره أفلاطون مصدرًا للنور وأساسًا للمعرفة عند الفيلسوف مثله مثل مثال الخير او الجمال، في محاورتَي الجمهورية والمأدبة، باعتبارهما أعلى قمةٍ في قمم الارتقاء العقلي، وكونهما الغاية من البحث عن المثل.

والمثل موضوع المعرفة عند الفيلسوف، وخاصة «الخير» منها، وهي ليست موضوع المعرفة فحسب، وإنما هي من تهب المعرفة إلى بقية الوجود، والفيلسوف الحق يسعى لمعرفة هذه «المُثل»، وليس همه متابعة أو معرفة الأشياء المتكثرة المكونة مصداقًا لها، وليس الفيلسوف عند أفلاطون من تشغله هذه الظواهر، لأن من تشغله هذه الظواهر الجزئية المتكثرة لا يصل إلى معرفةٍ يقينية، وإنما يحصل على معرفةٍ ظنية، والظن ليس موضوعًا للمعرفة، ولا يهتم بالثابت المستقر، وإنما يهتم بما هو في مجال الصيرورة والتحول،

(19)

وهمّ الفيلسوف معرفة الوجود الحقيقي الثابت وهو المثال أو النموذج[1].

وترتبط نظرية أفلاطون ارتباطًا وثيقًا بنظريته في التعريف، والتي أوضحها في محاورته السوفسطائي، إذ ذكر مفهوم الفئة، وأن المعرفة إنما تعتمد على هذا المفهوم حين تعريفها اعتمادًا على الجنس والفصل، وأن المنهج المستخدم لهذا التعريف يعتمد على منهج التحليل أو القسمة، إذ يدرج الاسم تحت جنسٍ أو فئةٍ أوسع، ثم تقسّم هذه الفئة إلى مكوّناتها الطبيعية، وأحد هذه المكونات الطبيعية يكون الفكرة المراد تعريفها، وأن الغاية من القسمة هي وضع حلٍ لمسألة الوحدة والكثرة ـ المثال وما ينطوي تحته، فإذا كان «الحيوان» فئةً فتقع داخله مجموعة من الفصول (الإنسان، الفرس، الذئب)، والتي تتمايز كل منها عن الأخرى بالفصل[2].

وإن القسمة التي تحدّث عنها أفلاطون محصورةٌ بين هلالين، فهي تمتد نحو الأعلى حتى تصل إلى المثال، ولا يمكن أن تتعداه، وتمتد نحو الأسفل حتى تصل إلى الإنسان وأفراده كمثال له، أي إلى البشر الواقعين تحت أفراد هذه الفئة، ولا يمكن أن يصل إلى أقل من هذه الدرجة، أو الهبوط إلى أدنى منها، وإن الربط الذي تمثّله القسمة بين المُثُل والأفراد الجزئية يكون حاكيًا بالطبع عن

(20)

العلاقة بين الواحد (المثال) وبين الكثرة(الأفراد)[1]، وهو امتدادٌ من الجزئيات إلى المُثُل التي يعبّر عنها أفلاطون بأنها «الجنس أو الفئة»[2].

إذًا، كانت نظرية أفلاطون تفسيرًا يعتمد على المثل والتعريف في محاولةٍ جادةٍ رغم الانتقادات الموجهة إليها من قبل الأقدمين، بارمنيدس ـ الشخص المحاور، وكذلك أرسطو، وبعض المفكرين والمؤرخين المعاصرين كـكوبلستون في مناقشة هذه النظرية، لكنها كانت بحد ذاتها إنجازًا حاول من خلاله أفلاطون إيجادًا للأشياء الخارجية المتكثرة ووجودها العقلي المثالي والنموذج لها، وليس إنكارًا للعالم الخارجي الواقعي الذي تتكثر فيه الأشياء وتعرف من خلال الحواس؛ ويتم تمييز «المثل» فيما بينها من خلال القسمة ونظرية التعريف التي تبدأ صعودًا من المثال وتنتهي نزولًا عند الأفراد غير القابلة بنفسها للانقسام صعودًا ونزولًا، والتي يمكن معرفتها عقلًا بالتعريف كونها مثلًا متمايزة، وبالحواس كونها كثرةً متشابهةً تأخذ المحاكاة بينها وسيلةً للترابط بين الواقع والمثال.واعتمادًا على الاعتراضات التي ساقها أرسطو على نظرية المثل الأفلاطونية، وكذلك اعتمادًا على نظريته في المعرفة، باعتبار أن المعرفة لا تحصل إلا من خلال الحواس كخطوة أولى، وخاصة حاسة البصر، حيث يحصل العلم بالأشياء عن طريق الحواس، وتتشكل بذلك مواد للعقل تتيح له العمل والتصرف بواردات

(21)

الحواس، فيكون الفكر الأرسطي فكرًا واقعيًا يؤمن بوجود الأشياءالخارجية وجودًا مستقلًا عن الذات الإنسانية، وكانت واقعيته مضادةً للاسمية، التي تنكر وجود الأشياء في الخارج معتقدةً أن ما يوجد في الخارج هو ما توضحه أو هو ما موجود في أذهاننا فقط[1]

وجدت مسألة الكليات صدًى واسعًا عند أرسطو، محولًا إياها من الوجود الذهني ـ المثال المجرد ـ إلى كونها وجودًا واقعيًا يُخضع الأشياء لقسمةٍ معيّنةٍ وفق ترتيبةٍ دقيقةٍ، حيث قسّم كل الموجودات وفق مقولات أولها الجوهر، وهو الثابت الأصل، والتسعة الباقية تحمل عليه كصفات للجوهر، ويكون منها التعريف وفق نظرية الكليات الخمسة، الأساس لكل تعريف عند أرسطو (النوع، الجنس، الفصل، الخاصة، العرض العام).وبدأت هذه المسألة من خلال استبدال أرسطو لنظرية المثل الأفلاطونية بنظرية المادة والصورة، فالمادة هي الوجود الذي تتشكّل منه الصورة، في حين أن الصورة هي ما يضفي طابع التمييز في الأشكال ذات الصلة في المادة، فالصورة كيفياتٌ معيّنة، من مقولة الكيف، والمادة كميات معيّنة، من مقولة الكم، تتّحدان معًا، معتبرًا أن الصورة أهم من المادة، كونها خلّاقةً ومبدعةً، ولهذه الصورة (كلية) تتجمع تحتها الصور الأخرى المطابقة لنفس النوع وفق التعريف الأرسطي، الذي يدرج «فئةً» تحت أصناف الجنس، والتي تتميز عن أبناء جنسها بالفصل، وتتّحد مع فئات الجنس

(22)

بالعرض العام، فالجوهر ليس شيئًاسوى أسماء، والصفات كيفيات لهذه الأسماء[1].

وجاءت نظرية الكليات التي دعمها أرسطو بديلًا عن نظرية المثل الأفلاطونية، وطبقًا لنظريّته المنطقية المعتمدة على بناء اللغة، حيث جمع كل الألفاظ ـ التي تتبعها الأشياء ـ من ضمن المقولات التي تطرّقنا إليها، وهي تشمل الحديث عن صفات الجوهر، ويعتبرها أرسطو تجريدات، وهي تعني ما يقصده الإنسان من الألفاظ ذاتها[2].

وإذا كان أرسطو أطلق على منطقِه المنطقَ الصوري، وقصد بذلك المنطقِ التحليلَ لصورة الفكر، يرى كوبلستون أن ما قصده أرسطو بالتحليل هنا هو ليس عنايته بطريقة التفكير البشري، بقدر ما يقصده من صحةٍ لنتيجة صورة البرهان الذي يعطينا بدوره صورةً معرفيةً صادقةً عن الواقع الذي يتكلم عنه، أي إنه لم يكن قياسًا تحليليًا صِرفًا لا يمتّ للواقع بصلة، بقدر ما كان يبحث عن صحة النتائج وتحققها في الواقع: «إنه تحليل للفكر البشري وهو يفكّر في عالم الواقع، رغم أن أرسطو يوافق ـ يقينًا ـ على أن الأشياء لا توجد على الدوام في الواقع، بالضبط كما يدركها الذهن، أي إنها كليات»[3].

وإذا كان العالم مكوّنًا من الأشياء المتكثّرة الداخلة في ضمن

(23)

المقولات، والتي يتم تعريفها من خلال الكليات الخمسة، ويحاول أرسطو أن يضع حلًّا لهذه الكثرة من خلال مفهوم المادة المتكثّرة، والصورة التي تميّز المادة بعضها عن البعض الآخر.

ويستفيد أرسطو من مفهومي «الموضوع والمحمول» في إيضاح العلاقة بين الأشياء المتكثرة «المحمول ـ الجنس» وبين «الموضوع ـ النوع» الذي يمثّل نوعًا كليًا شاملًا لأفراده متميزًا عن «المحمول ـ الجنس ـ الصفة» بواسطة «الفصل» الذي يميّزه عن بقية أنواع جنسه، جاعلًا من مفهوم الكلي ما يطلق على الموضوع - الجوهر فحسب، وهو الموجود الذي يوجد بشكلٍ مطلق، وبوجوده الإطلاقي يختلف عن أجزائه المكوِّنة لبقية جنسه[1].

الاسمية.. البداية والنشأة:

بعد الاتصال الذي حدث بين الشرق والغرب، وكنتيجةٍ طبيعيةٍ للغزوات التي قادها المسلمون إلى المنطقة الغربية، وما جاءت به الحروب الصليبية، وللانتشار الواسع لتأسيس الجامعات وانتقال المعارف والعلوم والفلسفة العربية الإسلامية من جهة، وإصرار كبار المفكرين الغربيين على إعادة الترجمة لكتب الفلسفة اليونانية، ولا سيما كتب أرسطو، من اللاتينية إلى اللغات الغربية، واهتمام الجامعات الأوروبية بنشر آراء أرسطو والتعرف عليها من حيث

(24)

موافقتها للدين أو معارضتها له، وإلى جانب الصراع الناشب بين سلطة الكنيسة من جانب والإمبراطورية من جانب آخر[1]، ما قاد إلى صراع من نوع آخر، صراع بين الكنيسة والفلسفة، بوصف الكنيسة مدافعةً وحاميةً عن الدين، فمرّةً تتّجه الكنيسة اتجاهًا دينيًا خالصًا، ومرّةً تعلن موافقتها للقيم أو الفلسفة اليونانية ولا سيما الأوسطية منها، وكانت مواقف الفلاسفة بين معارض للكنيسة وبين موافق لها أيضًا، وبين موافقة الكنيسة ومعارضة الفلسفة، نشأ صراع بيِّن في مسألة «الكليات» والذي كان الدافع الرسمي لظهور حركة «الاسمية» باتجاهين مختلفين، اتجاه «روسلان وأبيلار» واتجاه «أوكام وأتباعه من الاسميين الباريسيين».

إذ برزت مشكلة الاسمية خاصّةً في القرن الحادي عشر، ففي إيطاليا، ونظرًا لانتشار التعليم، أقبل المدنيون على طلب العلم وتحصيله، وبمختلف صنوف المعرفة، رغبةً منهم في إشغال مناصب عالية أو مناصب متاحة، مما دفعهم إلى دراسة القانون، ومنهم من أخذ يطوف في الشوارع، حتى عُرفوا في ذلك القرن باسم الفلاسفة أو الجدليين أو السفسطائيين، فسلوكهم وطريقة ظهورهم وممارساتهم تشبه الحركة السفسطائية قبل سقراط، والتي هاجمها سقراط وأفلاطون وأرسطو، فاندفع هؤلاء المتعلمون مستخدمين الخطابة للدفاع عن اللاهوت، رافضين الجدل، مطلقين عليه أنه «عبثٌ صبيانيٌ»، وهو ما زاد من حدة الصراع في مسألة الكليات،

(25)

وذلك لأهميتها في اتجاهيين، نشوء المعرفة، وأهميتها الكبيرة في العقائد[1].

إن للاسمية دورين أو مرحلتين بارزتين، الأول ظهر مع كل من «روسلان» و»أبيلار»، وهي اسمية تختلف في اتجاهها وتصوراتها عن اسمية «أوريول» و»اوكام»، لكنهما يتفقان معًا في أنهما كانا ردة فعل واضحة ضد «كليات» أرسطو.

روسلان (1050-1120):

فيلسوف فرنسي لُقّب بمؤسّس اللوقيون الجديد، يُعتبر أول من قال بالاسمية في حينه، متأثرًا في ذلك بطريقين، الأول هو النقد الذي وجهه أرسطو من خلال حججه ضد المثل الأفلاطونية، وطريق آخر هو تأثره بـ»بويس» (470-525). اعتقد روسلان أن المقولات تعتمد على الألفاظ لا على الأشياء نفسها، معتمدًا في تمييزه على اللسان البشري أو اللغة، فالتمييز بين الجنس والنوع، بين الجوهر والعرض، هو ليس تمييزًا حقيقيًا، بل هو تمييز لغوي، فالكلي لا وجود له، إنما الوجود للجزئي، الجزئي غير «المتجزّئ»، عندما نحلل «الجنس والنوع» نحلّلهما بواسطة الصوت، عن طريق الكلام، لأن الكليات ما هي إلا أصوات، أو ألفاظ فحسب، نستخدم اللغة لتُميِّزها بعضَها عن بعض، فعند القول «سقراط إنسان»، فباللغة فقط نستطيع أن نميّز بين سقراط وبين إنسان، وبها أيضًا نميّز بين

(26)

الجسم وبين أبيض، فما نتحدّث عنه في الواقع هو سقراط ـ الفرد وليس الإنسان ـ الكلي، ونتكلم عن الجسم الأبيض ـ الفرد الجزئي، وليس عن «نوع» البياض التابع إلى «جنس» الألوان أو الكيف، وبذلك يرفض روسلان أن يتصور «الإنسان» كمفهومٍ على العموم، لأن من يتصور الإنسان مفهومًا عموميًا فهو لا يمتلك إلا إشارةً أو اسمًا جمعيًا، لا معنًى كليًا ذا وحدةٍ حقيقيةٍ، فالجسم والبيت مؤلف من وحدة واحدة، لكن «اللسان أو اللغة» هما من يميز بين أُسسه وجدرانه وسقوفه، فأصل البيت وحدةٌ واحدةٌ غير متجزئةٍ.

وتتجلى نظرية روسلان واضحةً في تصوره للأقانيم والإله المسيحي، حين طبّق ما ذهب إليه على اللاهوت المسيحي، معتقدًا أن «الإله» هو وحدة واحدة، لكنه متميّزٌ بالثالوث إلى أبٍ وابنٍ وروحٍ قدس، كما أن الكائنات هي مفردةٌ متجزئة في الواقع الخارجي، وموجودةٌ في الأنواع المختلفة، ولولا العرف ودوره في عدم إعطاء مسامحةٍ بهذا التصور، هو ما منع من القول به، من قبل روسلان[1].

وبذلك، يرى بريهيه أن المذهب الاسمي الذي قدمه روسلان كان مذهبًا هدامًا لكل لاهوت: «لأنه يميّز حيث لا يجوز التمييز»[2].

(27)

بيير أبيلار (1079-1142):

فيلسوف فرنسي، أخذ عن روسلان، اهتم بدراسته الجدل، وهو ما قاده إلى دراسة الكليات، من خلال ما عُرف عنه وعن تلاميذه من اهتمامه بالألفاظ، من حيث «قصدية» نقصد بها إلى معرفة الدلالة الكلية، وهو يعارض روسلان بأنه يجعل للأنواع والأجناس مقابلًا في الخارج، وهذا الوجود الخارجي هو الجزئي مجردًا عن الأعراض، وهو ما قاده إلى التساؤل عن ماهية الأشياء التي تدل عليها هذه الألفاظ عند كونها جنسًا أو نوعًا، معتمدًا في تقديم حججه على قاعدتين: «الشيء لا يكون محمولًا لشيء»، فالكلي لا يمكن أن يسند إلى عدة أشياء لأنه: «ما من موجود يمكن أن يسند إلى عدة أشياء، وإنما يسند إليها اسم فقط»، وهذه القاعدة الثانية[1].

مقدمة في الاسمية عند وليم أوكام (1295-1349):

وليم أوكام، المعروف بالأستاذ الحاذق «الدكتور» أو الماهر، فيلسوف اسكولائي إنكليزي، عُرف بأبي الاسمية، أو أميرها، له دور بارز في الصراع مع البابا يوحنا الفرنسيسكاني، ولد في إحدى قرى لندن على الأرجح، ودرس في أكسفورد، وتخرج منها يحمل البكالوريوس، قطع مسيرةً حافلةً في العلم، مثيرةً للجدل، كتب عن وقاوم الكنيسة، جمع له البابا ستة وخمسين «خطأً» في كتبه موجهًا

(28)

نحو الكنيسة، وعكفت اللجنة البابوية على دراسة كتبه لمدة سنتين، فلم تجد فيها إلا واحدًا وخمسين خطأً، لكنه لم يُدَن بصورة رسمية بهذه الأخطاء. أكّد أوكام في كتاباته أن «البابا» تناقض مع أسلافه ولم يكن «بابا حقيقيًا»، عملت الكنيسة على إظهار أوكام سيّئ السمعة والصيت. وصف أوكام الكليات الأرسطية ونقدها، واعتبرها «أكبر خطأ في عالم الفلسفة»، وأن الوجود الحقيقي هو وجود الأسماء ـ الفردية ـ وإنها لا توجد إلا في العقل، وجادل من ناحيةٍ فلسفيةٍ الكليات، وأنكر وجود الأفراد تحت مسمًّى واحد، أو تحت مفهوم الكلي، مستفيدًا بذلك من «الفرنسيسكان» الذين فرّقوا بين مفهوم الكلي وبين الأشياء المفردة[1].

تتداخل الاسمية مع الميتافيزيقيا تداخلًا واسعًا، كونها ـ الاسمية ـ تبحث عن الأشياء ـ الأسماء في وجودها، هذا الوجود إما أن يكون مكتوبًا أو منطوقًا أو وجودًا ذهنيًا، وطبقًا للفلسفة يرى أوكام أن هناك ثلاث «كلمات» تتكون منها اللغة، أية لغة، الكلمة الملفوظة، والكلمة المكتوبة، والكلمة الذهنية، ويقابلها ثلاثة مصطلحات، مكتوب، ملفوظ، ذهني. الكلمة المكتوبة مصطلح يُطلَق على الأشياء المحسوسة (الملموسة أو المرئية)، والتي تأتي غالبًا من ما تقترحه العين عن طريق النظر، ومصلح الكلمة المنطوقة، التي تشترك فيها حاسّتَي الفم ـ الناطق والأذن ـ السامع، أما المصطلح الذهني فهو ما يكون في الذهن نتيجةً لتصور شيء، والغرض من

(29)

هذا التصور، هو إثبات الشيء أو نفيه، وهذا هو عمل العقل، فعمل العقل كما يرى القديس أوغسطين هو الحكم والربط بين هذه الكلمات ـ المصطلحات الثلاثة، في اللغة، أي لغة، على الرغم من أن النطق بها يكون ظاهريًا[1].

فالكلام أو النطق مجموعةٌ من المفاهيم والعلامات التي مكانها الذهن، مع أن كلمة العلامة تشير إلى الحس بما يمكن النطق به من مفاهيم، وهذه المفاهيم تصدر عن الذهن في المقام الأول، والعبارات المنطوقة في المقام الثاني، ويكون بذلك للفظ دلالتان، الأولى عن الواقع المحسوس بما نراه أو نسمعه، متكلّمٌ به، والثاني وجوده في الذهن، فالكلمات «المنطوقة والمكتوبة» ليست سوى علامات تدل وبشكل ثانوي على ما يوجد في الذهن مُعبّرًا عنها[2].

ومن أسماء الأشياء بصورتها الفردية، ظهرت مشكلة «الاسمية والكليات» في أدوارها وصراعها بين المثالية بمختلف صورها وبين الواقعية بصورها أيضًا، وبين وجودٍ ذهنيٍ فحسب (كلي)، وبين وجودٍ مفردٍ مشخّص واقعي له كيان فردي، رفض من جرّائها أوكام الكليات، لا لأنه لا يوجد دليل لدحضها، بل ولأن النظريات التي تقول بها نظريات غير متماسكة، والكليات التي يقول بها كليات ميتافيزيقية، فهي فردية لأنها متوقعةٌ للجميع، وهي كلية لأنها علامةٌ عقليةٌ تدل على عدة أشياء في آنٍ واحد.

تختلف الظروف التي أُنشِئت من خلالها اسمية أوكام عن

(30)

الظروف التي جاءت بها اسمية روسلان وأبيلار، وذلك يتّضح من قدرة العقل في تجاوز الظواهر والبلوغ إلى الحقائق الميتافيزيقية، وهي كصفةٍ بارزةٍ في القرن الثالث عشر توجت لمجموعة من الأحداث، منها قبول تفنيد آراء الفلاسفة السابقين ونقدها بالاعتماد على النظر ـ الفلسفة ـ أو الاعتماد على اللاهوت في أي مسألة فلسفية مزمعة. ومما زاد حدّة هذه الصراعات الفكرية هو ترجمة كتب أرسطو بصورةٍ كاملةٍ ـ تقريبًا ـ وبشكلٍ بارزٍ أعطى هذه الترجمة استقلاليةً واضحةً بين الفلسفة والانتماء الديني، أو أن يكون للفكر الأرسطي جذور دينية مسيحية أو يهودية، عكست ظلالها على تبنّي مواقف توليفية توفيقية بين الفلسفة والدين، بين الفلسفة الأرسطية خاصّةً والمسيحية، حتى صيغ مبدأ عام أورده القديس توما الأكويني (1225- 1274 م) مفاده أن المسيحية لا تعارض المبادئ الأساسية للفلسفة، وإذا جاءت نتائج الفيلسوف معارضةً لمبادئ المسيحية فالخطأ واضح في استدلالات الفيلسوف، فالسمة البارزة هي التوفيق بين الفلسفة واللاهوت، والتماهي مع فلسفة أرسطو بحيث يحقق الانقياد له والابتعاد عن الانقسام والانفصال بين الفلسفة واللاهوت، ولكن رغم هذا التوفيق ظهر اتجاه آخر مثّل انفصالًا واضحًا بين الفلسفة والدين تزعّمه بشكل واضح غليوم الأوكامي[1].

كما ويوصف هذا العصر بأنه عصر المدارس المختلفة، وليس عصر التجديد أو المفكرين الأُصَلاء والمبدعين، وظهرت آنذاك

(31)

مدارس مختلفة، منها ما كان متمسّكًا بتعاليم القديس توما الأكويني، وأخرى مدارس معارضةٌ اهتمّت بما جاء به دون سكوت (؟ - 877) من تعاليم واقعية، مع ظهور اتجاه آخر هو اتجاه النُّسّاك الذين اتبعوا القديس أوغسطينوس (354 -430)[1].

وقد أثّرت هذه الاتجاهات بنشأة الجامعات، خاصّةً في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، التي انقسمت على نفسها باتجاهين: اتجاه محافظ على القديم، متمسّكٍ به، آخذٍ به، فالأصالة من عمل الماضي، يظهر ذلك من خلال البحث في المقولات والموروث الفلسفي للفلسفة الإغريقية والأرسطية وبما تشمل من ثنائيات واضحة، زادتها الشروح والتعقيبات بحثًا وتفصيلًا: «الهيولى والصورة، العقل الفعال والعقل بالملكة، الصورة المعقولة والصورة المحسوسة».

واتجاهٍ آخر حديث، تمثّل برجال التجديد (المحدثين)، محاولةً منهم لدراسة المسائل المطروحة في الماضي وفق منهجية القرنين الثاني والثالث عشر، وهو منهج روسلان وأبيلار، ورفضًا ـ في نفس الوقت ـ للعلاقة بين النقل والإيمان كما عند القديس أنسلم (1033-1109)، أو البحث عن العقل ومعرفة حدوده المعرفية كما عند القديس توما الأكويني، وهؤلاء ـ المحدثون ـ هم المتمسكون بتعاليم وليم غليوم الأوكامي من خلال ما جاء به من سحر في رفض الواقعية والدعوة إلى الاسمية[2].

(32)

هذه الاسمية الجديدة، اسمية القرن الرابع عشر والخامس عشر، والتي وصفها بريهيه باسمية أهل الجدل والمنطق من ذوي العقل الرصين أو الرزين، تختلف عن اسمية روسلان وأبيلار ـ اسمية القرنين الثاني والثالث عشر ـ، كونها لا تهتم بشكل خالص، أو تمثّل حلًا، لمشكلة الكليات والجزئيات التي كانت سائدةً آنذاك، بل هي روحٌ ريبيةٌ وقفت ضد الماهيات الميتافزيقية التي اعتقدوا أن الأفلاطونيين والمشائين هم من اكتشفها، مع رفض واضح للإيمان، باعتبار أن حقائق الإيمان متنافرةٌ مع العقل، ويظهر إيمانها بالتجربة وعدم مفارقتها ومغادرتها لميدان التجربة[1].

هذه الاسمية هي اسمية أوكام، الملقب بأمير الاسميين، إذ تأثّر أوكام، بالإضافة إلى نقده لواقعية دون سكوت، باسمية التفرّد التي قال بها «أوريول»، أو المفهوم الكلي عند «دور ان دي سان بورسان».

من الأفكار الملهمة لـأوكام فكرة أو مفهوم الكلي عند بورسان (ت 1334)، الذي لم يكن بدوره اسميًا، لكنه افترض حلًّا لمسألة الكليات، بانتزاعها من الصور الحسية بعد أن تُنزع عنها صبغة الفردية، وبذلك يرفض فكرة التفريد الفارضة لوجود النوع قبل وجود الفرد، إذ لا وجود إلا للفردي الذي هو موضوع المعرفة[2].

المصدر الآخر الذي تأثر به أوكام هو الفيلسوف بطرس أوريول (ت 1322)، الذي قدّم شرحًا على كتاب الأحكام، أوضح فيه أن

(33)

معرفة الوجود الفردي أو الشخصي أشرف وأنبل من معرفة الشيء أو الوجود الكلي، فهو لا يقر بوجود الكليات في الخارج، ويبحث ذلك من خلال تفريقه بين مفهومَي «القصدية» و«التشابه»، وبالاعتماد على نظريته في المعرفة وحقيقة الإدراك عنده، فهو لا يدرك الشيء بذاته، وإنما يدرك الشيء من خلال «التصور»، فكل شيء موجود هو من واقعة وجوده ذاتها أو نفسها، وبذلك يرفض أن يناقش مسألة «التفرد»، أو وجود الأشياء الفردية، كونها أشياء موجودة من واقعة وجودها كونها شيئًا فرديًا، أما الشيء الكلي، فهو ما يمكن أن يتنبأ به نتيجةً لكثرة موضوعاتها، لكن هذا التنبؤ لا يقودنا إلى كلي حقيقي واقعي، بقدر ما يقودنا إلى تصور أو مفهوم، وتصور الكلي شيئًا فرديًا دلالةٌ على شذوذ الفكر، لأن الفكر هنا لا يبحث إلا عن الـ»لا شيء»، وبذلك يجعل من مسألة التفرّد مسألةً ميتافيزيقيةً ما دام وجود الكلي مفهومًا خارج الذهن، يحصل من خلال التشابه، والتشابه المقصود هو أن الله يخلق أشياء من نفس النوع تتشابه فيما بينها، فسقراط يشبه أفلاطون، وأفلاطون يشبه سقراط، وما عند سقراط هو عينه أو شبيه ما عند أفلاطون، وعند السؤال عن الشبيه تنحل مسألة «الكليات ـ النوع»: نسأل ما هو التشبيه؟ نقول: إنسان.

هذا الرأي الذي تبناه أوريول يقود إلى «قصديةٍ واضحةٍ و«ظاهرٍ» لا يشكّل صورةً ذهنيةً بقدر ما هو «شيء في ذاته موجود في الذهن»، فالشيء الخارج أو الشبيه إنما يُدرَك في الخارج من خلال أو عن طريق «العقل الفعّال»، وعملية الإدراك تصورٌ، والتصور انفعالٌ، لكن هذا التصور قد يكون غامضًا فيطلَق عليه «تصور غامض»، وقد

(34)

يكون واضحًا فيطلَق عليه «تصور واضح»، والتصور الواضح هو ما يقود إلى «وجود ظاهر» لا يكون إلا في العقل وحده[1].

فالشيء له وجودٌ، وله تصورٌ، وله فهمٌ، فبوجوده يكون فرديًا وليس كليًا، وبتصوره يتم عن طريق «الخيال»، وفهمه يكون بواسطة «المفهوم الكلي»، وعندما نملك انطباعًا عن «الزهرة»، فهذا الانطباع لا يكون بحقيقة الزهرة عند إدراكها، لأن الشيء الواقعي لا يملك وجودًا قائمًا بذاته، وإن العقل يدركه بطريقة مباشرة، وما الأنواع إلا وسيط في مجال المعرفة، وبذلك يؤكد كوبلستون أن هذا الرأي الذي قال به أوريول لم يسمح بوجود أي واقع آخر، لأن موضوع الوجود الذي يمكن معرفته لا يدرَك إلا من خلال كونه «موجودًا قصديًا»، يدرَك بالمعرفة الخارجية أو «الوجود الظاهر»، وهذا الوجود لا يدرَك أو يحدث إلا من خلال التصور، فالتصور موضوع المعرفة، لأن كل فهم يحتاج إلى وضع الشيء في وجود قصدي «ظاهر»، وعند وضع الشيء بهذا الوجود فتصوُّره فعلٌ من أفعال العقل: «ومن ثم فمن الواضح أن الأشياء نفسها يمكن تصورها عن طريق الذهن، وإن ذاك الذي نحدسه ليس صورًا نظريةً أخرى، وإنما الشيء نفسه بوصفه له وجود ظاهر، وذلك هو التصور الذهني أو الفكرة الموضوعية»[2].

وليم أوكام (1295-1349) وكما ذكرنا أمير الاسميين أو الاسمي الموقر، وهو أعظم الاسميين في تاريخ هذه الحركة، اختلف في إطلاق تسمية الاسميين عليهم من ناحية انطباقها انطباقًا تامًا

(35)

على مذهبهم، فهم عُرفوا باسم المعنويين أو الحدسيين، وارتأى كوبلستون أن يطلق عليهم اسم الاصطلاحيين Terminists بدلًا من الاسميين، لأنه لم ينكر الكليات بمعنًى من المعاني، وهم قد استخدموا المنطق في نقد ميتافيزيقيا توما الأكويني ودون سكوت، وإن من الإسراف كما يعتقد كوبلستون أيضًا أن نقول إن اسميتهم تعتمد على معارضتهم للواقعية فقط أو نسبة الكليات إلى الأشياء وحدها أو الأسماء وحدها[1]، وإن الحجج التي استخدمها أوكام في معارضة الكليات هي ذاتها الحجج التي استخدمها أرسطو في نقد مثالية أفلاطون (المثل)، فلا يمكن أن نفترض أن الموجود الكلي موجود في ذاته، هذا الافتراض يفرض أن يكون الكلي فردًا، وهذا تناقضٌ، ومن زاوية أخرى لا يمكن استخدام الكليات في تفسير الجزئيات، لأن هذا ليس تفسيرًا لها بقدر ما هو «مضاعفة لها»، معتمدًا بذلك على مبدأ «لا يجوز وضع الشيء بدون ضرورة»، وإن قصد أوكام بالكليات هو ليس الألفاظ نفسها ولا الأشياء، وإنما هو دلالات الألفاظ[2].

نعم، لقد كان أوكام عارفًا بفلسفة أفلاطون، وكذلك فلسفة أرسطو، وفلسفة المدرسيين التي تأثرت بما أثاره دون سكوت من مشكلات دعم من خلالها الواقعية، والتي أصبحت نقطة الانطلاق لأوكام، معتمدًا في ذلك على المنطق الأرسطي ونظريته في المعرفة، وكان هذا سببًا واضحًا لاتهام أوكام بالأرسطية، لكن

(36)

السمة الأساسية التي جاء بها أوكام هي محاولته تطهير اللاهوت المسيحي والفلسفة مما لصق بهما من أفكار الفلسفة اليونانية، ولا سيما مسألة الماهيات، التي أثّرت كثيرًا على اللاهوت المسيحي والعقيدة ونظرية حرية الآلهة، ورغم هذا الهجوم الذي قاده أوكام على واقعية سكوت والأكويني، لم يرَ كوبلستون أن أوكام، وعلى الرغم من جدته الفكرية، محورٌ لفكر أصيل مبتكر من أجل التجديد وإنما كان ناقدًا هدامًا[1].

ورأي كوبلستون المتقدم يوجد من يعارضه في جعل أوكام الفيلسوف المبتكر، الذي لم يكن فيلسوفًا تقليديًا قط، وإنما نقد ورفض الأفكار المتداولة في إطارها المفاهيمي خلال قرن ونصف القرن، إذ كان حريصًا على دراسة أفكار سلفه، واعترف أنها أفكار يداخلها النقص بمجرد التأمل فيها وبمراجعة جزئية، لذلك قرّر أوكام فحص هذه المسائل مرةً أخرى، مستندًا إلى نظريته في الإدراك الفكري، التي استخدمها بجديةٍ كبيرةٍ، وذلك من خلال معاداته للواقعية ومن خلال نظريته في المعرفة لتلك المعاداة، التي لم تكتمل لو لم يُقِم أوكام مجموعةً من العلاقات بين العالم واللغة والعقل، وهو ما قاده أيضًا إلى نقد الكليات الأرسطية، وإن اقترب من الكليات الأفلاطونية ـ كما يبين ذلك ـ مارانبلون، لكن لم يقل بها كعالمٍ مثاليٍ وإنما نقد الواقعية التي تؤكّد وجود هذه الكليات، واختلف بذلك مع مجموعة من الفلاسفة أمثال الأكويني وسكوت، فهو عندما يقول «سقراط رجل»، فهو يعبّر عن محتوًى صحيحٍ

(37)

موجودٍ في العقل، لا مفهومٍ كليٍ ينطبق على كل العالم، والفرق بين أوكام ومنافسيه هو البحث عن نظام قائم على الأجناس والأنواع يفسر العالم من خلاله، في حين يرى أوكام أن الأنواع والأجناس ليست هي من يفسر العالم، وإنما العقل البشري هو من يصنف الأفراد إلى أنواع وأجناس من خلال التشابه بين الأفراد ليس إلا[1].

بدأت فلسفة أوكام ومعارضته للواقعية انطلاقًا من نظرية المعرفة عنده، فالمعرفة إما حدسية نتعرّف من خلالها على ما في الخارج من محسوسات وأحداث جزئية موجودة في الواقع، أو معرفة عقلية ندرك بها الأشياء الجزئية الخارجية المطابقة للواقع، عندما أرى سقراط فإني أسمّيه باسمه ولا أعني به «أيّ إنسانٍ» أو «إنسانًا ما»، بل يدل على جزئي[2].

وهذه المدركات يقسّمها أوكام إلى «حدود مكتوبة أو منطوقة باعتبارها حدودًا تصوريةً»، وإدراكنا لهذه الحدود المنطوقة يشكّل ما يسميه بـ»الحدود الطبيعية أو العلامة الطبيعية» للحدود التصورية المفكَّر بها، ولكي نفهم ما يقصده أوكام بالحدود المنطوقة أو المكتوبة، فهو ينطلق من نظام الحدود التي يقسمها إلى أنواع متعدّدة، منها ما يشير إلى حقائق واقعية، مثل الأشياء الواقعية ـ الفردية ـ: الحصان، الزبد، ماء، بيت... إلخ، وهي حدود تمتاز بأن لها معنًى في ذاتها، يطلق عليها «الحدود المطلقة»، وهناك «حدود

(38)

إشارةٍ» مثل «كل، بعض، لا»، تلتقي حدود الإشارة هذه مع الحدود المطلقة لتكوين حدودٍ مركّبة أو «حدودٍ تركيبيةٍ مطلقة» تتكون منها مثل «لا واحد، لا إنسان»، فهي ـ حدود الإشارة ـ لا تدل على أشياء في ذاتها، بل تدل على شيء دون إشارة إلى شيء آخر مثل «كل منزل»، لكن الحدود التركيبية المطلقة لا تُفهم إلا من خلال الإشارة إلى علاقته مع شيء آخر مثل مفهوم «الابن والاب»[1].

 كلمة «إنسان» على سبيل المثال من الحدود التركيبية المطلقة، التي تدل على شيءٍ معيّنٍ دون الإشارة إلى شيءٍ آخر، وهي كلمة معروفة في مختلف اللغات، وإن اختلفت الطريقة المنطوقة بها أو المكتوبة بين لغة وأخرى، لكنها مادّة حقيقية للاستدلال، يعبّر عنها أوكام بـ«علامة طبيعية»، تشبه الصوت الذي ينطق به الإنسان أو الحيوان الدال على تصوّر معيّن، وهذا التصور هو حد «علامة طبيعية»، وبذلك لا تمتلك الكليات علامةً طبيعيةً تجعلها حدودًا منطوقةً أو مكتوبةً تدل أو تشير إلى حدودٍ تصوريةٍ أو علامةٍ طبيعيةٍ «اصطلاحيةٍ»[2].

فالمعنى قائم في النفس لا خارجها، يقوم في العقل مقام كثرة الأفراد فقط، وليس بكونه مفهومًا كليًا، بل بكونه إشارةً يُحمل عليها[3]، الكليات لا توجد في الواقع عند أوكام، لكنها توجد متمثّلةً في قضايا فقط، فالموجود في الواقع هو المفرد، أو الفرد الذي ندركه

(39)

من خلال التصور، لكن القضايا تتركب من حدودٍ تشكّل بدورها عناصر القضايا، ومهمة الحد في القضية ليس هو الإدراك الفردي لتكوين حدود «علامة»، إنما دور الحد في القضية «الافتراض»، فالقضية «جرى الرجل» قضيةٌ فيها حدٌ يفترض أو يتمثّل في جريان الرجل، والقضية «الإنسان نوع»، فهي تفترض جميع البشر، فالافتراض خاصيةٌ للحد لكن داخل القضية فقط، والحد عندما يدخل في القضية يفترض أو يمثل، فهو لا يمكن أن يكون حدًّا أو علامةً، «كل إنسان فانٍ»، «إنسان» كنوع هو افتراض وليس علامةً قابلةً للتصور، فالأشياء الفردية الموجودة في الواقع هي عينها حدودٌ منطوقةٌ أو مكتوبةٌ، «علامات طبيعية» تعبّر عن شيء فردي، تشكّل موضوعًا للعلم، باعتبارها اسمًا أو رمزًا يشير إلى الجزئيات، لا المعنى نفسه الذي هو تصور، وهذا هو سبب تسمية الاسمية بالاسمية، والتصور عند أوكام عمل من أعمال الفهم، فالكائنات الواقعية صفاتٌ ذاتيةٌ في النفس، كونها كياناتٍ واقعية، هذا واضح لأنها إعمال للفهم، والعلم عند أوكام لا يقع بالأشياء (الحدود) الخارجية، وإنما يقع بالتصورات عن هذه الحدود[1].

الاسمية الحديثة:

 ذكرنا فيما سبق أن مشكلة الاسمية ارتبطت ارتباطًا وثيقًا وواضحًا بنظرية المعرفة، وهو ما بدى واضحًا عند كل من أوريول

(40)

وأوكام، ودعت إليه المنهجية الجديدة التي أقامتها النهضة الأوروبية الغربية في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، والتي ظهرت واضحةً عند فرنسيس بيكون (1561-1626) وثورته على الأورغانون الأرسطي القديم (منطق الكليات)، أو المنطق القائم على دراسة الكليات، بإيجاد «منطقه الجديد» (الأورغانون الجديد)، وفتح بابًا جديدًا للعلم يجبر الفلسفة على نزع شيءٍ من غطائها الميتافيزيقي والاتجاه نحو مشكلة العصر وهي مشكلة المعرفة، فتجلت الاسمية عند الفلاسفة المحدثين، واعتُبر ديكارت (1596- 1650) من ضمن الفلاسفة الاسميين لاعتماده في معرفة العالم الخارجي على الحس والعلم بالجزئيات، وليس اعتمادًا على الحدس العقلي، باعتبار أن الجزئي هو موضوع الإدراك، لكن هناك اسميةً جديدةً ظهرت مع لوك (1632 - 1704) واتسعت مع باركلي (1685 ـ 1753)، أنكرت الأفكار الفطرية، أو الشيء في ذاته، وأُطلق عليها «الاسمية المتطرفة»، والتي كان لوك على رأسها، والذي رفض الكليات استنادًا إلى مشروعه المعرفي وأفكاره الفطرية السابقة في العقل، وأن كل ما يحصل إنما يحصل من خلال الحواس، وما يُصطلح عليه بالكلية لا يعدو كونه أسماء فقط (أسماءً اصطُلح عليها)، وأن مهمة العقل وفعله هو التكرار، تكرار الأفكار ومقارنتها ليس إلا، وليس اختراعها من دون الاعتماد على التجربة[1].

(41)

يرفض لوك وجود الأفكار الفطرية الغريزية في العقل، ولا ننسى أن فكرة الكليات بحد ذاتها فكرة عقلية وليست حسيةً، فلو كان الله أعطى الإنسان أفكارًا فطريةً على الإطلاق، لكان من الأجدى والأحرى أن يعطي فكرةً فطريةً عن ذاته، لكنه لم يفعل ذلك، وبرفض لوك للأفكار الفطرية فإن عملية المعرفة عنده تتأتى عن طريق التجربة، وإن الأفكار كلها إنما تأتي من التجربة، وما دامت المعرفة تعتمد على التجربة المتولدة من الأفكار فلا يوجد مجال لفكرةٍ فطريةٍ تأتي عن طريق العقل لنحتاج من خلالها إلى برهان أو دليل، لكن كيف تأتي هذه الأفكار إلى العقل لتكوين المعرفة؟ إنها تأتي عن طريق الحس كونه المصدر الأصلي للمعرفة، وتمتاز المعطيات الحسية الحاصلة بأنها قابلةٌ للتحليل والتفسير والنقد، والذي يتم عن طريق العقل، وإن ما نحصل عليه من قائمة طويلة من الأفكار إنما يتم عن طريق الحواس[1].

الطفل يولد وعقله صفحة بيضاء أو خزانة فارغة من الأدراج، فهو خالٍ تمامًا من كل فكرة، ويوضح رايت أن لوك يستخدم هنا تفسيرًا سيكولوجيًا في الكتاب الثاني من المقال (مقال في الفهم الإنساني)، فعقل الطفل الخالي تمامًا من أي فكرةٍ يحصل على أفكاره من خلال الحواس المختلفة، وما تنقله إليه من انطباعات حسية تجتمع في العقل، وبذلك تكون لديه مجموعة من الصور أُسيء بها فهم لوك، فلوك لا يقصد أن العقل خالٍ تمامًا من القوى

(42)

الفطرية الموجودة في العقل، إنه خالٍ فقط من الأفكار، وهذه القوى (التركيب، المقارنة، الربط) قوى موجودة في العقل، لكنها تكون عاملةً متى ما وجدت «الصور أو المعطيات الحسية» التي تأتي بها الإحساسات، فالعقل عاملٌ حال ورود الصور إليه، وهنا يقوم العقل بدوره الفعال في عملية الحصول على المعرفة الحقيقة[1].

عندما ترد هذه الصور إلى العقل، وما يرد هنا عبارة عن أفكار بسيطة يكوّن العقل منها أفكارًا مركّبةً عن طريق مجموعة من العمليات التي تجمع بين فكرتين أو أكثر، تتشكل منهما أو منها فكرةٌ «متكاملةٌ»، ويتم ذلك عن طريق العلاقات، مثل «الاب ـ الابن»، «الأكبر ـ الاصغر»، «العلة ـ المعلول»، ويكوّن العقل منها أفكارًا مركّبةً عن طريق «الضم والعلاقة والتجريد»، والذهن لا يقوم بذلك بطريقة تعسّفية، بل يقوم بذلك بطريقة منظّمة يُنتج عنها: «أفكارًا تقابل العالم الخارجي على نحو ما يوجد بالعقل، بغض النظر عن العقل نفسه»[2].

ويعتقد لوك أن العالم يوجد بصورةٍ مستقلّةٍ عن ذهننا، والذهن يستقبل أفكارًا بسيطةً تأتي من الإحساس نتيجةً لمثيرات تثيرها الموضوعات الخارجية، وتقابل تلك الأفكار البسيطة الحقيقة الواقعية الخارجية[3].

بعد عرض نظريته في المعرفة، استخدم لوك اللغة لتفنيد ما جاء

(43)

به المذهب العقلي القائل والمتأمل بالكليات، وكان استخدام اللغة بهذا التفنيد جاء من وجهة نظرٍ تجريبيةٍ واسمية، ويعلن رايت أن لوك كان مضطرًا لذلك، لمواجهة المذهب العقلي الشائع آنذاك، وما جاء به هذا المذهب من الأنواع والكليات، منظورًا إليها على أنها حقائق قصوى ذات وجودٍ مستقلٍّ خاصٍ بها، لوك لا يؤمن بالكليات ويرفضها، وبرفضه لها يخالف مثالية أفلاطون ونظريته في المثل، ويرفض كذلك كليات أرسطو الموجودة في جزئياته، لأن لوك يبدأ فلسفته ونظريته في المعرفة من الإحساس والتأمل الذاتي كونهما مصدرًا رئيسيًا لكل معرفةٍ بشريةٍ، فالموجود الحقيقي هو الجزئي، أشياء متشخّصة «مُشَيَّئَة»، وهذا الجزئي أو المُشَيَّأ هو ما يُطلق عليه الاسم[1].

إن استخدام الاسم هو للتواصل مع الآخرين، لكن هذا الاستخدام يعيقه صعوبة معيّنة، وهو عدم إمكان أن نضع اسمًا معيّنًا لكل شيءٍ أو جزءٍ على انفراد، لتعدُّد الأشياء وكثرتها، يعالج لوك هذه المسألة من خلال وضع الأشياء «المتشابهة» تحت مسمًى معيّن، فأحمد وزيد وعمرو يجتمعون فيما بينهم بصفات وخصائص معيّنة، تمكّننا من أن نجعل من التشابه بينهم مسمًّى معيّنًا (رجل - رجال)، هكذا يمكن أن نعطي لكل المتشابهات بخصائصَ معيّنةٍ وفئاتٍ معيّنةٍ «نوعًا» معيّنًا، ويعتقد لوك أننا لا نعرف ما تقع أو ما تمتاز به أو الأساس الذي يكمن وراءه المبدأ، وما هو عليه بالفعل، ما نستطيع أن نميّز به فئات موضوع عن الآخر، إلا عن طريق

(44)

التركيز على صفتين أو أكثر من الصفات المتلازمة، وباستمرار هذه الصفات المتلازمة يمكن أن نطلق عليها «الاسم» أو «الاسمية» بما أنها تحقّق علامةً أو هويةً لاسم ما، وهنا يقدم لوك تفسيرًا للكلي «حيوان عاقل»، والتي تخص «الإنسان ـ الجزء ـ الفرد»، باعتقاده أننا نخصّص للإنسان «اسميةً» «صفةً» «نوعًا» «فئةً» نستطيع من خلالها ولمصلحتنا أن نميّز الإنسان (الحيوان العاقل) عن بقية الحيوانات (الجنس ـ الكلي)، وبذلك تكون كل الأنواع والأجناس (الكليات) ـ كما يرى لوك ـ والتي تظهر في المنطق من وضعنا ومن اختراعنا، من أجل مصلحة الإنسان لتمييزها، ولولا هذا التمييز لما تمكّنا من معرفة وجود شيء ما في الطبيعة، لولا ما تقوم به من وضع أسماء خاصة بها تميّزها عن غيرها من الأشياء، لأن كل شيء خاضعٌ للتغيُّر ولا يبقى سوى الاسم فقط[1].

الاسمية عند باركلي (1685-1753):

تأخذ المسألة مع باركلي منحًى آخر، وينتقل من الاسمية المتطرفة لتحل باسم مستعار آخر هو «المثالية»، لكنها ليس وفق المثالية الأفلاطونية التي عارضتها الواقعية الأرسطية المؤمنة بالحس وبالعقل ـ بالجزئي والكلي، إنها مثاليةٌ لا تؤمن بوجود الأشياء في الواقع ـ العالم الخارجي ـ وإن كل ما يوجد إنما يوجد في العقل فقط، وإن كانت هناك أشياء غير موجودة في عقلي، ووجدت في

(45)

العالم الخارجي، ذلك لكونها موجودةً في عقل إنسانٍ آخر، أو في عقلٍ أكبر، إنه عقل الله، فهنا مشكلة أكثر إثارةً وتطوّرًا تحدّد العلاقة بين «الشيء والحقيقة» أو «الظاهر والحقيقة» من خلال الإيمان بالجزئي ورفض الكلي بصورةٍ أكثر تطرّفًا عند باركلي، والتي أسهم في توضيحها الفيلسوف البريطاني برتراند راسل (1872-1970) إسهامًا كبيرًا، محاولًا من ذلك نقد وحل هذه المثالية.

وتُعدّ مشكلة العالم الخارجي من المشاكل الرئيسية والمهمة التي تقاسمتها الفلسفة الحديثة بين واقعيةٍ (موقف طبيعي) وبين مثاليةٍ ترفض وجود هذا العالم وجودًا خارجيًا مستقلًا عن ذواتنا ومدركاتنا الحسية، وهي مثاليةٌ تختلف عن مثالية أفلاطون من خلال ارتباطها بالواقع إدراكًا أو عدم إدراكٍ له، معتبرين أن الإدراك الحسي هو من يسمح بالقول بوجود معطيات حسيةٍ تتحدّث عن عالمٍ خارج ذواتنا، ذلك وإن كان هذا العالم موجودًا ومستمرًا بالوجود، وبالاعتماد على المعطيات الحسية، لكنه ليس موجودًا على الحقيقة كما يعتقد بذلك آير (1910-1989)[1].

ومن هنا تدخل مسألة إنكار الكليات (الاسمية المتطرفة) في مشكلة وجود العالم الخارجي أو عدم وجوده، وكما يتضح عند باركلي الذي يُعتبر من أهمّ الذين بحثوا مسألة الشيء والحقيقة ـ الظاهر والباطن، وأوضحت عنده ارتباط مشكلة العالم الخارجي إدراكًا مع مشكلة المعرفة ومسألة الكليات. إن ما دفع الفلاسفة إلى

(46)

البحث عن الظاهر هو معرفة الإنسان بذلك الظاهر وإدراكه عن طريق الحواس، لكن هذا الظاهر أصبح مشكلةً للإنسان، نتيجة تأمّله ودفعه لمعرفة الحقيقة، فدفَعَه البحث عن المعاني الخالصة إلى التفكير في معرفة الواقع المحسوس: «بعد أن صار هذا الواقع نفسه فيه من الغموض والمجهول ما جعله يتساوى مع درجة اليقين»[1].

يبدأ باركلي بمقولته «الوجود هو المدرَك»، أي إن ما ليس بمدرَك فهو غير موجود، وهو بهذا يفرض تميّزًا حادًا بين «العقل والمادة»، فالمادة ليس لها وجود حقيقي واقعي، وإن الوجود الحقيقي هو الوجود العقلي، وهذا الموقف اتّخذه باركلي في كتابه الحوارات الثلاثة بين هيلاس وفيلونوس، والذي يثبت فيه أن المادة غير موجودة، وأن لا شيء على الإطلاق يطلق عليه «المادة»، فكان تمييزه بين الظاهر والحقيقة تمييزًا بين العقل والمادة، العالم يتكون فقط من العقول وأفكارها: «فالمادة ليست مستقلةً عن العقل الذي يدركها، فهي لا بد أن تكون موضوعًا لفكر ما، وإن ما أُدركه من الأشياء بالعقل هو ما نحكم عليه بالوجود، أما ما لم يدرك عقليًا، فهو غير موجود بالنسبة له، أما ما لا أدركه أنا ولا يدركه غيري، فهو موجود في عقل أكبر، إنه عقل الله»[2].

المادة مُنكَرةٌ في وجودها الخارجي، لكنها موجودةٌ في العقل ما دامت مُدَركةً، وإن ما يعبّر عنها هو المعطيات الحسية المعبّرة عنها،

(47)

باعتبار أن المعطى الحسي هو إشارات فعلية للأشياء الموجودة، وهذا الوجود وجود غير مادي، إنه وجود عقلي، وبذلك تمتلك الأشياء فكرة الديمومة في الوجود والاستقلالية عنّا ما دامت موجودةً في الذهن أو العقل[1]. وراسل يتفق مع باركلي في أدلّته التي ساقها وقدّمها حول وجود العالم الخارجي وجودًا ذهنيًا غير مستقلٍّ عن عقولنا، لكنه يرى أن هذه الأدلة المقدَّمة متقاربة، فليس كلها على مستوى واحد من الصحة، ويُعزي راسل موقف باركلي هذا من العالم الخارجي إلى الضدية للمثالية أو الكليات الأفلاطونية، كونها مصدرًا أقرب للحقيقة من عالم الواقع، لكن باركلي وانطلاقًا من نظريته في المعرفة لا يتمكن من الحديث عن العالم المجرد والكليات، فهو عندما يتحدث عن مفهوم البياض مثلًا يجد أن هذا الشيء الأبيض يحتوي على خصائصَ وصفاتٍ غير موجودةٍ في شيء أبيض آخر، وبذلك لا نتمكن من الحديث عن مفهومٍ أو شيءٍ كلي[2].

بعد أوكام اتّسعت دراسة الاسمية، وخاصّةً في باريس، وانتشر لها ذكرٌ واسعٌ أيضًا بين جامعتَي أوكسفورد وكامبريدج، وأطلقوا على أنفسهم اسم الاسمية الحديثة، للتميّز عن الاسمية القديمة (الوجودية)، وبعد ما طرأ على الاسمية من ركود وحُظرت دراستها وتدريسها في الجامعات للفترة من 1339-1340 لكنها انتشرت واتسعت بشكل كبير على يد مجموعة من الفلاسفة عرفوا باسم الاسميين الباريسين[3].

(48)

العلاقة بين الاسمية والمثالية:

عُرفت بالمثالية مجموعةٌ من الفلسفات المشتركة بهذه التسمية، وإن اختلفت الرؤية والمنهج بين هذه الفلسفات إلى مسائل فلسفية نخص منها المعرفة، العالم الخارجي، والكليات، وإن لصقت هذه التسمية بفلسفة أفلاطون القائلة بالمثل، والمفارقة لفلسفة أرسطو الواقعية والناقدة في آنٍ معًا لأفلاطون ومثاليته، وما يُطلق على المثالية إنما ينحصر بثلاث نظريات:

- باعتبارها نظريةً في الوجود (الأنطولوجيا): والتي اهتمت بوجودات ذواتٍ روحيةٍ، وترفض إرجاعها إلى ذاتٍ مادية.

- باعتبارها نظريةً في المعرفة: والتي اهتمت بأمر العالم الخارجي، وكيفية أن يوجد مستقلًا عن تصورات الذات العارفة، أو أن يكون موجودًا فيها فقط.

- باعتبارها نظريةً في الأخلاق: إذ تختص المثالية بنظرةٍ معياريةٍ لتأسيس العمل وتبريره انطلاقًا من مبادئ عقليةٍ[1].  

يمكننا القول: إن الاسمية قريبةٌ من المثالية، لكن وفق مراحل مختلفة، تجريان معًا اقترابًا وابتعادًا، خاصةً عند كل من أورسلان وأوكام ـ كما تقدم ـ وإن شذ عن ذلك أبيلار، الذي درس الجدل، وجعل للأنواع والأجناس مقابلًا لها في الخارج، مع مراعاتنا للظروف الخاصة التي نشأت من جرّائها اسمية أوكام، والتي اختلفت عن

(49)

ظروف النشأة الخاصة باسمية أورسلان، وهذا الفرق يبدو بوضوح من خلال تفرقة أوكام بين الفلسفة والدين، رغم النزعة التوفيقية التي كانت سائدةً يومذاك، ويظهر الربط بين الاسمية والمثالية واضحًا عند أوكام، وخاصّةً بما قدّمه من نقد للاتجاه الواقعي الذي مثّله توما الأكويني، المؤكّد على العلاقة بين الفلسفة والدين المسيحي كونهما منبعًا واحدًا، وإن اختلف الفيلسوف مع المسيحية فقد أخطأ الفيلسوف في استدلالاته، لكن الدين يبقى مصيبًا وصحيحًا، وهي نظرة عارضتها الاسمية المحدثة، والذين اتّبعوا أوكام بضرورة علاج المسائل الفلسفية القديمة في الثراث الفلسفي، ولكن بمنهجية القرنين الثاني والثالث الميلادي.

ثم إن الاسمية قريبة من المثالية، وإن بعدت عن مثالية أفلاطون الباحثة عن مثل في عالم مفارق، وعن مثالية ألمانية مثلها كانت بصيغتها المعرفية النقدية، أو المثالية الهيجلية المعتمدة على منطق النقض، ومع معارضة أرسطو للمثالية الأفلاطونية ونقدها بعدة انتقادات، نجد أن الاسمية قريبةٌ من النقد الأرسطي، بل إن أوكام استخدم ذات الحجج التي استخدمها أرسطو في نقد أفلاطون، وكان قريبًا من منطقه الذي اعتمد عليه، ولم ينكر أوكام الكليات بمعنى الرفض المطلق لها كما رفضها باركلي، لكن كانت له نظرية خاصة بها تم بيانها، فالاسمية بشكلٍ عام رفضت التفكير الميتافيزيقي، ورفضت القول بالكليات بمعناها الأرسطي أو الأفلاطوني على السواء، وتحلّت الاسمية ـ وخاصةً عند أوكام ـ بروحٍ شكّيةٍ، مع اعتمادها على منهجٍ تجريبيٍ كان أرسطو قد دعا إليه

(50)

في معالجة مسائل الطبيعة، مع العلم أن الاسمية التي انطلقت في القرن السابع عشر عند لوك وباركلي اختلفت عن اسمية أوكام في أن الأولى رفضت التفكير أو القول بالكليات بناءً على إنكار الأمور الفطرية التي قال بها العقليون مثل ديكارت، وأن العلم لا يتأتى إلا من قبل الحس، وهو رأي يعارض ما توصل إليه أوكام في اسميته، وإن اتفقت الاسميتَين بالقرب من المثالية ببعض النواحي المتقدمة، ونقد الواقعية بكل اتجاهاتها.

وإن الاسمية أخذت تسمية المثالية بشكلٍ رسمي مع ما جاء به باركلي، وهي التي أنكرت وجود الواقع أو العالم الخارجي، وآمنت أن الوجود هو معاني تحضر في العقل أو في الذهن، وإن لم يكن في ذهني، فهو في ذهنٍ آخر، أو ذهن أكبر وهو ذهن الله.

ما تقدم مقاربةٌ بين الاسمية والمثالية في بعض محاور التاريخ الفلسفي وفي جزءٍ من النظريات، وجهات التباعد بين المثالية والاسمية في حقب فلسفية معينة وأفكار أخرى.

(51)
(52)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

الاسمية في العالم الإسلامي

 

(53)

اتّبع الفلاسفة المسلمون منهجًا فلسفيًا واضحًا في أُفُقه بين اتّباع منهجٍ أفلاطونيٍ قائلٍ بالكليات (المُثُل)، أو منهجٍ أرسطيٍ يعتمد في بنائه وخوضه الفلسفي على «الكليات» بالمعنى المنطقي، أو بين من وقف موقفًا معارضًا لمنهج أرسطو خاصّةً وللفكر الفلسفي ـ اليوناني بوجه عام، وبالرغم من أن الفيلسوف الكبير ابن سينا (370 -428) كان من أشدّ الفلاسفة قُربًا من أرسطو وكذلك من أفلاطون، من خلال تبنّي فكرٍ فلسفيٍ قائمٍ على الكليات، وأن الكلي الطبيعي يمكن أن يتحقق من خلال تحقق فرد واحد، وواحد فقط، من نوعٍ أو جنسٍ، فإن الفرد الإنساني، أو الإنسان الفرد ـ الجزئي ـ المشخّص، عندما يكون موجودًا فلا بد أن يكون موجودًا في الخارج، أي أن يكون له وجود في الخارج.

نقد الاسمية: الاتجاه الواقعي Realism

الاتجاه الواقعي هو الاتجاه المعارض للفكر المثالي والفكر الاسمي على الخصوص، والذي تعتمد نظرية المعرفة فيه على وجود الواقع الخارجي وإدراكه، أي إن الواقع الخارجي موجود ومشخّص، وجود شخصيّ فرديّ، وهو ليس مجرّد وجودٍ فكريٍ أو عقليٍ، كما يؤكد ذلك بوجه عام كلٌ من جون لوك أو باركلي، وتعتمد الواقعية على مبدإٍ مهمٍ وأصلٍ مهم، هو «أصل ثبات الواقع»، ومع أن الاتجاهَين (الاسمي والواقعي) يعتمدان على الحس في

(54)

إثبات أو بدء المعرفة، لكنهما يفترقان إلى اتجاهين: اتجاهٍ تجريبي، واتجاهٍ عقلي، الأول لا يثبت ولا يقتنع إلا بالمحسوس وما يشكله في الذهن من انطباعات حسية ـ معطيات حسية ـ، ومهمة العقل عنده هي تركيب الصور الواردة من الحواس وتجميعها، والاتجاه الآخر العقلي يعتمد في بدء المعرفة على الحس، ولكنه يعطي للعقل دورًا أكبر ومديات أبعد في اكتساب المعرفة، انطلاقًا من نظريته في العلمَين الحضوري والحصولي، وانقسام الأخير إلى تصور وتصديق، وانطلاقا أيضًا من وجود الكليات والإيمان بها والدفاع عنها، وبناء النسق الفلسفي على أثرها، لأن العلم لا يبدأ إلا من الكلي، وهو ما سنتناوله بإيجاز عند كبار المحدثين والمعاصرين لهذا المذهب، باعتبار أن مسألة الاسمية أخذت دورًا أكبر لها بعد القرن العاشر الميلادي، كما عند صدر الدين الشيرازي والعلامة الطباطبائي والمطهري ومحمد تقي مصباح لبيزدي والسيد الشهيد محد باقر الصدر.

صدر الدين الشيرازي (979-1050):

آمن صدر الدين الشيرازي بوجود الكلي الطبيعي، وهو وجودٌ انتزاعيٌ ـ الذي يُنتزع من الأفراد الموجودة المتعددة والمتكثرة في الخارج ـ في الواقع الخارجي، وهو موجودٌ بوجودٍ واقعيٍ بديهي، وعندما نقول إن شيئًا موجود، فهو يعني أن هناك مفهومًا ما موجودٌ يتحد مع مصاديقه الموجودة في الواقع، مفهوم كلي له مصاديق

(55)

خارجية، أو أن الشيء الموجود هو ذاته الواقع نفسه، أو ما موجود من أشياء متكثّرة يمتلئ بها الواقع ـ العالم الخارجي، ومع اختلاف الفلاسفة المسلمين في وجود الكلي الطبيعي أفي الخارج هو أم في الذهن؟ يرى أغلب الفلاسفة المسلمين أن الكلي الطبيعي موجود في الخارج، لكن ليس بوصفه الفردي، أي إن الماهية كالإنسان أو الإنسان الكلي، كـكلي طبيعي، موجودةٌ في الخارج، إذا تحقق فرد واحد من أفراده مثل زيد، فإذا وُجد زيدٌ في الخارج وُجد الكلي الطبيعي، بل من الضروري أن الماهية الكلية توجد في الخارج عند وجود أجزائها، وإن كان لهذا الرأي من يخالفه كقطب الدين الراوندي (ت. 766) الذي يرى أن الكلي الطبيعي لا يوجد في الخارج والموجود فقط هو أفراده، يبقى رأي الشيرازي في التمايز بين الكلي وأفراده في طريق وسط بين رأي ابن سينا ورأي الراوندي، أن وجود الشخص لا يعني وجود الكلي، فالفرد في الخارج، هو الفرد في الخارج بنفسه وهويته، وهو ليس الماهية، بل مصداقٌ تُنتزع الماهية من أفراده: «أي إن الماهية والكلي الطبيعي هما مفهومان كليان يقبلان الحمل حقيقةً وبالذات على المصداق الخارجي لا أنهما نفسه»([1]).

يعتقد صدر الدين الشيرازي أن إدراك الكليات يكون على مرتبتين: المرتبة الأولى التي ندرك بها الكلي بوصفه ينطبق على كثيرين، ومرةً أخرى بوصفه مشاهدةً حضوريةً

(56)

للمجردات النورية، لأن العلم الحقيقي عنده هو ما يحصل بالمشاهدة[1].

وللانتهاء من مشكلة الظاهر والحقيقة التي أثارها باركلي، يبدو من خلال متابعة الفلسفة الإسلامية أن مفهوم الوجود الذهني هو ما يمكن اعتباره حلًا لهذه المشكلة، فكما أن هناك وجودًا حقيقيًا واقعيًا يتمثّل بأفراده الموجودة في الخارج والمنتزع منها المفاهيم الكلية، فإن لهذه الأفراد وجودًا مطابقيًا موجودًا في الذهن يُعبَّر عنه بالوجود الذهني، فللشيء الواحد وجودان، وجودٌ حقيقيٌ خارجيٌ واقعي، ووجودٌ ذهنيٌ يحكي عنه ويعبّر عنه، ولقد قدم الشيرازي لفلسفته مجموعةً من الأدلة لإثبات هذا الأصل، مبثوثة في أغلب كتبه الفلسفية، ولا سيما أهمها كتابه الأسفار. والوجود الذهني يبتني على أصلين أساسيين هما: أن للأشياء وجودًا حقيقيًا وماهيةً، ويمكن للعقل أن توجد فيه صور هذه الأشياء الواقعية الموجودة في الواقع العيني بما يشكّل أساسًا لنظرية المطابقية، المطابقة بين الشيء الخارجي وبين صورته الحاكية عنه[2].

وللتوسع في بيان هذا المفهوم الذي انطلق منه الملا صدرا معتمدًا على مجموعة مقولات (العلم، العلم الحضوري، العلم الحصولي، التصور، التصديق) والتي بنى من خلالها جدارًا معرفيًا أوضح فيه الفرق والعلاقة بين الوجود الخارجي المشخص وبين

(57)

الوجود الذهني، فعند مراجعة تعريف العلم عند الملا صدرا، يتبين وبوضوح مسألة الوجودين الخارجي والوجود الذهني، بما يحقق استقلاليةً تامةً بين المُدرِك والمُدرك، أي بين الذات العارفة (المُدرِكة) والشيء الخارجي (المُدرَك)، فالعلم هو حضور صورة الأشياء عند العقل، وإذا كان الملا صدرا يقول بأصالة الوجود واعتبارية الماهية، فهو يعطي للعلم مقام الوجود من حيث الأصالة، وللمعلوم مقام الماهية من حيث الاعتبارية، ليصل إلى مسألة مهمة، وهي كما أن الوجود أصيلٌ بذاته وموجودٌ بنفسه والماهية اعتباريةٌ وموجودةٌ بالوجود، فهو يعطي نسبة الوجود إلى الماهية، نسبة بين العلم والمعلوم، فالعلم: «معلومٌ بنفسه، ومنكشفٌ بذاته، وغيره من المعلومات معلومٌ به»[1].

والعلم عند الملا صدرا ينقسم إلى قسمين: قسم لا يتعلّق وجوده العلمي بوجوده العيني، مثل علم النفس بذاتها، وهذا هو العلم الحضوري، وقسم آخر يتعلّق وجوده العلمي بوجوده العيني، وهذا هو العلم الحصولي، لكنه يحصر العلم هنا بالعلم الحصولي، الذي يكون وجوده العلمي غير وجوده العيني، وإن العلم الحصولي (الانفعالي) هو الذي ينقسم إلى التصور والتصديق، وهما بدورهما ينقسمان إلى بديهي وكسبي، والبديهي إلى أولي وغيره، أما الكسبي فيكون إما حدًا أو رسمًا كما في باب التصورات، أو أحد الصناعات الخمس كما في التصديقات[2].

(58)

فالعلم إذًا لا بد أن يكون بشيءٍ واقعي، وأن يكون علمًا انفعاليًا تنفعل به النفس، وأن يترك أثرًا حاصلًا فيها، وهذا الأثر هو ما قصد به الملا صدرا بأنه «حضور صور الأشياء في الذهن»، ومما يقيد العلم بزيادة راجحة أنه يشترط أن يكون العلم بالشيء غير العلم بالشيء الآخر، لأن الصورة المنطبعة من الشيء «أ» هي غير الصورة المنطبعة من الشيء «ب»، ومع ذلك فإن أ وب لا يمثّلان إلا وجودهما العلمي الذي بإزاء وجود كل منهما الخارجي، الممثل لعين الحقيقية والماهية[1].

وهذه الصورة الحاصلة في الذهن هي ما يُطلق عليها الحكماء ويتفق معهم الملا صدرا بالعلم المقسوم إلى تصور وتصديق، ويقصد بالأول تصور «الشيء الواقعي» من دون الحكم عليه، والثاني هو تصور «الشيء الخارجي» لكن مع الحكم[2].

ويعطي معنًى آخر للحصول في الذهن، ويقصد به الوجود، فإن الأثر الحاصل عند العقل أو في العقل عنده هو بعينه الوجود، وإذا كان العلم ينقسم إلى التصديق والتصور، فإن معنى الحصول هنا يشمل نوعي العلم (الحضوري والحصولي)، لكن التصور شيءٌ لا يتبعه الحكم، أما التصديق يعبّر عنه بالإيقاع أو بالانتزاع مع تفرقته بين الإيقاع او الانتزاع من كونه، وبين التصديق الذي يعطي له ثلاث صور، وهذه الصور هي مفاهيم تتعلّق تعلّقًا واضحًا بالعلم، الأول: هو محاولة انتزاع هذا الحكم، وهو ما عبّرنا عنه بالفعل النفساني،

(59)

والثاني: هو التصور، تصور الحكم وهو ليس بتصديق، والثالث هو التصور الذي لا ينفك عنه الحكم، بل يقود إلى إلزامه وهو التصديق[1].

ويزيد المسألة إيضاحًا، إذ يرى أن هناك ثلاثة أشياء تجتمع كلها في العلم الذي يساوي التصديق، فمرةً يكون التصديق «في الذهن» وهذا «تصور»، وأخرى يكون له «حصول في الذهن»، فيكون الشيء «مُتصوّر»، وأخرى يكون الشيء الذي في الذهن مطابقًا للشيء الذي في الواقع، وهذا هو «التصديق»[2].

وكل تصديق معه تصور وليس العكس، لأن التصور عبارة عن الصورة التي في الذهن كما بيّنّا، وهذه الصورة كصورة البياض، لكن التصديق هو مطابقة هذه الصورة الذهنية للشيء الواقعي الخارجي، فإن كانت الصورة مطابقةً للواقع يُحكم على التصديق بأنه صادق، وإن كانت الصورة غير مطابقة لما في الخارج يُحكم على التصديق بأنه كاذب، «والحق كما سبق أن الأثر الحاصل في الذهن إما تصوّر ماهيات الأشياء ومفهوماتها، أو صورة أن هذا ذاك مطابقًا للواقع، سواءً أطابق الواقع أو لا، والأول هو التصور، والثاني هو التصديق والإذعان»[3].

فالمعرفة عند الملا صدرا تعتمد على الأمور الواقعية التي يحدث لها تصور في الذهن، وعند حصوله لدى الذهن يكون

(60)

الشيء متصورًا، وعند مطابقته للخارج أو الواقع يكون تصديقًا، وهذه العملية المعرفية التي تعتمد على أساس تقسيم العلم إلى حضوري وحصولي، مع أهمية العلم الحصولي عنده هنا بفرعيه، التصور والتصديق، يطلق عليها الملا صدرا اسم «عملية الإدراك»، وهي عملية تكون قوةً من قوى النفس.

وكي يوضح الملا صدرا أن عملية الإدراك من مسؤولية النفس، واعتمادًا على ما ذكرنا من أن العلم عمليةٌ حصوليةٌ وجوديةٌ للشيء الخارجي كصورة داخل الذهن، فإذًا هنا شيئان، وجودٌ خارجيٌ ووجودٌ ذهنيٌ يدرَك بواسطة النفس، ويقدّم على عملية الإدراك هذه أدلةً ثلاثًا تتعلق بالمعلوم والعالم والعلم.

- الدليل الأول: إثبات إدراك النفس من جهة المعلوم:

يؤكد الملا صدرا أن للنفس قدرةً على إدراك الأمور المحسوسة والموهومة والعاقلة، وكما لها القدرة على إدراك الأمور الكلية والجزئية على السواء، بعد أن يؤكد على أصلٍ معرفيٍ: «الحاكم بين الشيئين لا بد وأن يحضرهما، والمُصدِّق لا بد له من تصور الطرفين»[1]، فلكل حاسة من الحواس الخمسة عملها المحدد، ولكي نحدد شيئًا ما لا بد لنا أن نحدد لونه، وأن نُقرّ أن لهذا اللون رائحةً معينةً، وطعمًا معيّنًا، وملمسًا وصوتًا معيّنين، وكل هذه الأفعال التي تصدر بسبب الانفعال بالشيء المحسوس تصدر عن فعل واحد وقوة واحدة، والمسؤول عنها هو النفس، ونستطيع أن نقوم

(61)

بعملية تخيُّلٍ لصورةٍ معيّنةٍ، وأن نحدد هذه الصورة من خلال انطباق الحواس ـ الحكم عليها ـ في الخارج اعتمادًا على أصله المتقدم، من أن القاضي بين شيئين لا بد له من إحضارهما، ويشير الشيرازي إلى أن للنفس أيضًا القدرة على إدراك المحسوس والموهوم معًا، ويضرب المثال على ذلك، من خلال إدراك عداوة زيد وصداقة عمرو، فزيد وعمرو وجودان محسوسان، لكن العداوة والصداقة أمور متخيّلة، ومن خلال إدراك النفس للمحسوس الجزئي تستطيع أن تدرك المعقول الكلي، وبذلك تدرك النفس المعقولات، والمثال الذي يسوقه لتوضيح ذلك هو أننا إذا أدركنا وجود زيد أو عمرو، وعرفنا أنهما ليسا حجرًا ولا حيوانًا، وأدركنا أنهما «إنسان»، والإنسان مفهوم كلي ذهني يشير إلى موجودات فردية جزئية مشخصة، ومثلها أيضًا إذا أدركنا الفرس الجزئي، فنعرف أنه من ضمن فصل الفرس الكلي، وهو يختلف عن المفهوم الكلي للإنسان، بمعنى أن النفس تستطيع أن تدرك الأشياء الجزئية المحسوسة مع إدراكها للمفاهيم الكلية المعقولة، وتمييزها بين هذه المفاهيم[1].

مع أن الملا صدرا يشير إلى أن إدراك النفس للأمور المتقدمة (محسوسة، متخيلة، معقولة)، لكن ذلك لا يعني أن النفس قوًى متعددة كما يتوهم البعض، بل إنها قوة واحدة لها وجودات تترتب بحسب الأشرف فالأشرف، استكمالًا لحركتها الجوهرية، وكلما وصلت بكمالها إلى درجة ٍكماليةٍ جوهريةٍ لها حيطة وشمول للمرتبة السابقة، بما يحقق مرتبتها اللاحقة، فإنها تُدرِك المحسوس وتحيطه

(62)

وتصل به إلى مرحلة الكمال، وتحقق كمالًا جوهريًا منه، وبعد ذلك تنتقل إلى مرتبة أشرف من المحسوس وهي المتخيلة وكذلك الحال للعقلية[1].

- الدليل الثاني: إثبات إدراك النفس من جهة العالم:

يدرك الإنسان باعتباره ذاتًا واحدةً الموجودات والأشياء المختلفة، سواء أكانت محسوسةً أم متخيَّلةً أم معقولةً، إذ لا يمكن أن يدرك الإنسان المحسوس بذاته، وأن يدرك المعقول بذاتٍ أخرى، فهذا سيعني أن للإنسان ذاتَين اثنين، والحقيقة أن له ذاتًا واحدةً، وهنا يفرّق الملا صدرا بين الآلة التي تبصر، كما في المحسوسات جميعها، وبين ما تشتهيه النفس من الشهوات والملذات من جهة، وبين النفس من جهة أخرى، فالبصر والسمع والنطق واللمس واللذة والألم والجوع والشبع والهم والحزن، كلها عبارة عن آلاتٍ طبيعيةٍ تختصّ كل منها بعملٍ وفعلٍ معيّن، مع أن فعلها شيء وانفعالها شيء آخر، ففعل العين هو البصر لكن انفعالها الإبصار، وهذا ما يدركه العقلاء ببداهة العقول، والدليل على أن هذه الأفعال المتعددة هي من فعل قوّةٍ واحدةٍ، وهي النفس، هو أن النفس تستطيع أن تفعل كل هذه الأفعال عند المنام، أو عند أصحاب النفوس الكاملة، كما في المشاهدات، من دون استخدام هذه الآلات، إذ إن الآلآت نستخدمها ما دمنا في عالم الطبيعة، فكل هذه الأفعال من جهة العالم لا تدرك إلا بقوة النفس[2].

(63)

- الدليل الثالث: إثبات إدراك النفس من جهة العلم:

يؤكد الملا صدرا أن للإنسان هويةً واحدةً، لكن بأطوارٍ متعدّدةٍ، يدرك بها الكليات والجزئيات معًا، وأن النفس، كونها مدركةً، فهي تدرك أولًا البدن الذي تدبّره لتعلّقها به، لأن العلم لا يحصل للإنسان إلا بعد أن يحدد هويته الشخصية، إذ لا يمكن للنفس أن تدبّر البدن الكلي وإلا كانت عقلًا كليًا مفارقًا، فكل عاقل لا يجد نفسه مدبرةً ببداهةٍ لبدن كلي، لكنه على علمٍ بأنه يدبّر بدنه الخاص، فيثبت من ذلك أن النفس تدبّر الجزئي كما أنها تدبّر الكلي وتعلم بهما[1].

وبذلك يخلص الملا صدرا إلى أن ما يُدرَك في النفس من صورة أو يحصل فيها، سواء أكانت عند العقل أو في العقل، وهي الوجود، فالصورة الحاصلة إنما هي متأتيةٌ من خارج واقعي أو من داخلٍ نفسي، لكن المهم هو الأول، والذي يكون واحدًا بمرتبتين، مرّةً وجودًا خارجيًا واقعيًا، ومرّةً وجودًا واحدًا ذهنيًا، وهذا الإدراك هو ما يمر بمرحلتين، هما تصور وتصديق يحققان العلم بالخارج، وبذلك يميّز الملا صدرا بين الشيء المُدرِك الذي هو النفس التي تدرك الكليات والجزئيات والمحسوس والمتخيَّل والمعقول بآلاتٍ مختلفة، وبين المُدرَك ـ الموجود الخارجي الواقعي، ويحلّ مشكلة الكليات ووجودها والمعرفة وأدوارها[2].

(64)

العلّامة الطباطبائي (1903-1981):

وبعد أن عالج الشيرازي هذه المسألة، نجد أن العلامة الطباطبائي أفاض في هذه المسألة، اعتمادًا على الأسس الفلسفية التي تبنّاها من أُسس مدرسة الحكمة المتعالية، إذ يؤكد العلامة الطباطبائي على أن الخطوة الأولى للمعرفة هي: «مواجهة واقع الأشياء والتعامل مع واقع الوجود»[1]، وهنا يؤكّد على قضيةٍ أساسيةٍ وهي أن هناك واقعًا، ثم بعد ذلك يدرس الحقيقة التي يتمكّن من خلالها من دراسة هذا الواقع، وهي حقائق مستمرةٌ غير قابلةٍ للتغيُّر والتحول، ويعتمد العلامة في هذا التمييز على مبدأين أساسيين، وهما أساس لكل العلوم، وخاصة الفلسفة، وهما مبدأ عدم التناقض، فإن الشيء لا يمكن أن يكون هو وليس هو في آنٍ واحدٍ، والمبدأ الآخر هو مبدأ الهوية، فالواقعية تجعلنا مطمئنّين إلى أن الإنسان غير الشجرة، وأن الشجرة غير الإنسان، وهو يؤكّد استخلاصنا من الأشياء الموجودة في الخارج مفهومَين أساسيين أيضًا: هما التمايز بين الأشياء الخارجية بالاعتماد على المبدأين السابقين ـ عدم التناقض والهوية ـ ويؤكّد أيضًا واقعية الأشياء: «كل شيء واقعي يعطينا مفهومين، نظير الإنسان الخارجي، فهو يعطينا مفهوم الإنسان ومفهوم الواقعية»[2].

ويؤمن العلامة الطباطبائي بالعلم بالكليات، وذلك بعد أن يكون مسبوقًا بالعلم بالجزئيات، والجزئيات تستحصل عن طريق

(65)

الحواس، في حين أن الكلي يدرك عن طريق العقل، ثم إن الكلي والجزئي عند العلامة من أقسام العلم، وإن العلم بالكلي لا يمكن أن نحصل عليه من دون التصور لواقعية أفراده الجزئية، ويتضح ذلك من خلال إدراك الحقيقة، فالموجود في الخارج كشيءٍ فرديٍ يدرك بالصورة المحسوسة، المتكونة عن طريق الحس، ثم ينتقل ليكون علاقةً حقيقيةً بين الصورة الحسية والصورة الخيالية، بين الصورتين الخيالية والمفهوم الكلي، وكذلك بين الصورة الحسية والمفهوم الكلي، فالعلم بالكلي يكون مسبوقًا بالعلم بالصورة الخيالية المسبوق بدوره بالصورة الحسية، المتأتية عن طريق الحواس من جرّاء الوجود الواقعي للشيء[1]، وبذلك تبطل النظرة الاسمية التي تفيد أن الموجود هو الموجود الجزئي وحين إدراكه بالعقل فقط.

ولزيادة الإيضاح يؤكّد العلامة الطباطبائي أنه حين يتناول مسألة الإدراكات ـ الخارجية أو الذهنية ـ على السواء، فإن ما يقصده منها هو المدركات الذهنية، وإن نشأت من المدركات الخارجية وازدادت وتوسّعت بفضل هذه المدركات الخارجية، والتي لا تحتاج ـ المدركات الخارجية ـ إلى درس وبحث أو تعقُّبٍ بناءً على الأصل الواقعي الذي يتبنّاه، لاعتبار أن المدركات والأشياء الخارجية الموجودة خلف الذهن، هي ما يكوّن الإدراكات الذهنية وبصورة طبيعية، فزيادة الإدراكات الذهنية يتوقف على زيادة معرفة الإدراكات الخارجية[2].

(66)

ويؤكد في المقالة الخامسة من كتابه أنه لا يدرس الإدراكات الذهنية وعلاقتها بالمدركات الخارجية هنا، وإنما يدرس «الإدراك»، ومن زاوية ارتباط «الذات الإنسانية» بالإدراك نفسه، وبذلك يخرج الإدراكات الخارجية ـ الأشياء الواقعية - من مدار البحث هنا، ليركّز الاهتمام على «فعالية الذهن» وليس على «انفعالية الذهن»، وهو العامل الأساسي الذي يقودنا إلى معرفة الكثرة في الذهن وأيضًا في الوجود ـ العالم الخارجي[1].

وهذا يتم عن طريق معرفة حصول الإدراكات من زاوية ورود الإدراك إلى ميدان الذهن، وحدود قدرة الذهن على كشف المجهولات، ومدى إمكانية الذهن البشري على الموازنة والحكم، وهي من أهم المحاور الفكرية التي توزعت عليها اهتمامات العلامة الطبطبائي المعرفية هنا، فالذهن يحصل على الإدراكات من خلال طريقين: الحواس الخارجية والحواس الداخلية، والتي تورد تصوراتٍ انطباعيةً للذهن، والثاني: إدراكاتٌ مباشرةٌ يحصل عليها الذهن من غير طريقي الإحساس المذكورين، وهي لا تحدث طابع التصور الانطباعي، مع تأكيد العلامة الطباطبائي هنا أن هذا الموضوع من الموضوعات المهمة والتي لم يسبق إليها أحد في دراستها أو توضيحها لا في الفلسفة القديمة ولا في علم النفس الحديث[2].

يعتقد العلامة الطباطبائي أن نظرية المعرفة وتشعب مباحثها

(67)

الأساسية هي من قاد إلى التنوع في الاتجاهات الفكرية المختلفة، فمبحث «قيمة المعرفة» انقسمت فيه المذاهب الفلسفية إلى: قطعيين وشكيين وسفسطائيين، ومن مبحث «الحصول على المعرفة ـ أدوات المعرفة» انقسمت المذاهب إلى حسية وعقلية، وجاءت من مبحث «حدود المعرفة البشرية ونطاقها» المذاهب المؤمنة بالميتافيزيقا كونها تستطيع إدراكها بمدركاتها، ومذاهب إنكار الميتافيزيقيا الرافضة لها.

اهتم العلامة بالمنبع والأساس للمعرفة البشرية، والذي رأى أن الفلسفة الإسلامية تطرقت إليه خاصةً فيما يسمى بمبحث «الانتزاع»، لكن الفلاسفة الإسلاميين لم يوضحوا الآلية التي يتم بها انتزاع هذه المفاهيم[1].

ونقد العلّامة الاتجاهين العقلي والحسي على السواء، فالاتجاه العقلي وعلى رأسه «ديكارت» قال بوجود معلومات فطرية سابقة في العقل، وهي تصورات ذاتية، أي نابعة من العقل ذاته، ويعتبر العلّامة هذه النظرية نظريةً غريبةً عن العقل، وأن ديكارت أول من قال بها، وأنها لا أساس لها من الصحة في كل تاريخ الفلسفة[2]، أما الاتجاه الحسي الذي يتزعّمه «جون لوك»، والقائل بأن عقل الطفل صفحة بيضاء يتلقى بها المعلومات عن طريق الحس من دون أن يكون للعقل دورٌ في هذه المعرفة، فتعرّضت للنقد أيضًا من قبل العلامة الطباطبائي، وذلك من خلال نظريته «في الانتزاع» أو الاعتبار، حيث

(68)

إن للعقل القدرة على خلق تصوراتٍ أو بديهياتٍ أوليةٍ في الذهن، وهي تصورات منطقية وفلسفية لا يمكن تصور الذهن أعم منها، مثل «الوجود والعدم، الوحدة والكثرة، الوجوب والإمكان»[1].

انطلق العلامة لتوضيح نظريته في الانتزاع، وكذلك للتمييز بين الاختلاف في الإدراك بين المدارس الحسية والعقلية، اعتمادًا على مفهومي «التصور والتصديق»، فالاختلاف بين المدارس الحسية والعقلية المعاصرة إنما يتم في سياق «التصور» فقط، ولا يحصَ في سياق «التصديق» ـ الحكم ـ والذي يتكوّن من اجتماع مفهومين ليحكم عليهما، وبصدده أيضًا نقد العلامة الطباطبائي كل من جعل التصورات البديهية العقلية تصوراتٍ ذهنيةً موجودةً سابقًا وفي العقل بأنهم من زمرة العقليين، وأنهم لأجل ذلك جعلوا أرسطو والفارابي وابن سينا من ضمن العقليين، لأن الطباطبائي يرى أن البديهيات العقلية التصورية يمكن أن تحصل من دون حصول أي مانعٍ بشكلٍ تدريجي في الذهن وينتزعها العقل بدوره عن طريق الحواس، إذ إن كل البديهيات العقلية الأولية إنما تحصل في الذهن بعد ظهور الصورة الحسية[2].

وقبل أن يبدأ العلامة الطباطبائي بإيضاح نظريته، يقسّم الفطريات إلى أربعة أقسام:

الفطريات التي تتوفر عليها جميع الأذهان، دون أن يكون هناك فرق بين زاوية الإيمان بوجودها أو عدم وجودها، كالإيمان بوجود

(69)

العلم الخارجي، فهو معنًى فطريٌ يؤمن به حتى السوفسطائيون وهو ما يطلق عليه العلامة «الإدراكات التصورية والتصديقية العامة».

الفطري بمعنى الإدراكات الموجودة في الذهن بالقوة، وتمتاز بأنها توجد عند بعض الأفراد من دون أن توجد عند البعض الآخر، ومثالها المعلومات التي يحصل عليها البعض بالعلم الحضوري دون غيرهم.

الفطري ويقصد به القضايا التي تنشأ وقياساتها معها، وهو ما يطلَق عليها منطقيًا بالفطريات، وهي لا تحتاج إلى حضور براهينها معها.

ما يعتبر منها سمةً ذاتيةً للعقل ولا تعتمد في وجودها على أي شيء غير العقل نفسه.

ويؤكد العلامة أن المهم من هذه المعاني هو الأول والرابع، إذ إن المعنى الأول تتّفق فيه جميع الأذهان على أن الإدراكات الموجودة فيها لا تختلف في الأذهان من ناحية وجودها أو عدم وجودها، أو من زاوية إنكارها وكيفية وجودها، ومثاله كما تقدم الإيمان بوجود العالم الخارجي، والذي لم يستطع حتى السوفسطائيون إنكاره واعتبروا له وجودًا ذهنيًا، أما المعنى الرابع، الذي يرفضه العلامة ويؤكد على بطلانه، والتمييز بينه وبين المعنى الأول، هو المعنى الشائع عند أغلب الفلاسفة ولا سيما ديكارت، والذي يوافق ـ ديكارت ـ على وجود فطرياتٍ أوليةٍ موجودةٍ في العقل من دون أن يكون لها وجود سابق، وإن الفلاسفة كما يرى العلامة قد خلطوا بين

(70)

المعنى الأول والمعنى الثاني، وإن همّه هو التمييز بين المعنيين، وهذا الخلط جاء مِن اعتقاد الفلاسفة أن التصورات والتصديقات البشرية ليس لها سبيل إلا الإيمان بأنها سمةٌ ذاتيةٌ للعقل[1].

الركن الأساسي الذي يعتمد عليه العلامة الطباطبائي: هو أن كل علم حصولي مسبوقٌ بعلم حضوري شهودي، أي إنه يؤمن إيمانًا مطلقًا بأن نظريته لا تتعارض مع المكاشفة والإلهام والوحي، كونها نابعةً أصلًا من العلوم الشهودية الحضورية، سواء أحصل هذا العلم بواسطة إحدى الحواس الخمس الظاهرة أو الحواس الباطنة الاعتيادية، أم حصل بوسيلة أخرى، ويدعم العلامة الطباطبائي التوجّه الذي ذهب إليه من أن علماء النفس المحدثين اعترفوا بهذا اللون من المعرفة بعد أن قدّم نصوصًا لوليم جيمس دعم بها نظريته[2].

وبعد استعراضٍ لما تم عرضه من قبل العلامة في مقالته السابعة، يرى العلامة أن العلوم والإدراكات تعود كلها إلى الحس، وهي النتيجة التي تحتل كما يبدو قاعدةً كليةً عامةً عند الفلاسفة، لكن العلامة يؤكد أن الحقيقة أمر آخر، وهذا ما يحتاج إلى برهان، لأن البرهان القديم الذي اعتمد عليه في تكوين هذه القاعدة الكلية لم يكن بتمام الشمولية والعموم، وإنما بلحاظ علاقة المُدرِك بالمحسوس المُدرَك، والترابط القائم بين هذه الإدراكات وآثارها الذهنية، وهذا ما يدفع إلى الاعتراف بأن عدم الاعتماد على مسألة

(71)

المحسوس يؤدي إلى إعدام ألوان من العلم والإدراك: «إذن في البرهان المشار إليه يثبت ذلك الحكم عن طريق العلاقة القائمة بين سلسلة من المدركات مع المحسوس، والتي لا تترتب عليها الآثار بالقياس إلى المحسوسات، وينتفي فقط الإدراك الذي يتطابق مع الحس ولا ينتهي إلى الحس»[1]. وهذا يعني أن العلامة لا يعتبر أن كل المدركات الذهنية إنما تتأتى من الحس لأن هناك إدراكاتٍ لا تنطبق على الحواس ولا تنتهي إليها كما سيلاحظ.

فهو بعد أن ينفي البرهان المتقدم ويوصّفه بالنقص، يضرب مثالًا آخر يدعم به نظريته، التي تعتمد أساسًا على كاشفية العلم ومرآتيته، وهو ما يعنيه بجملة قصيرة تحتاج إلى شرح وافٍ: «يعني أن هناك علمًا حضوريًا في مورد كل علم حصولي»[2]، وبهذا يدعو إلى توسيع قاعدة البرهان السابق المشار إليه ليحصل على قاعدة أكثر عموميةً.

إن النتيجة المحاول الوصول إليها من قبل العلامة الطباطبائي والاعتماد عليها، وهو صيرورة العلم الحصولي علمًا حضوريًا، وبالتالي يكون العلم الحضوري بذاته قاعدة الانطلاق للحصول على العلم الحصولي وتكثّر المعلومات، هو ما يدعو إلى دراسة «الذات»، ويمكن أن نوضح هذه النظرية بما يقدم لها العلامة من شرح، حيث إن الإدراك والعلم لا يحصل إلا من خلال نشوء الآثار الموجودة في الخارج، وهذه الآثار ترتبط بشدة مع «الذات»، بحيث

(72)

يفقد الخارج منشأية الآثار، وهو ما يقود إلى التطابق بين الذات والعلم المفترض، ويُصّير العلم الحصولي علمًا حضوريًا، يكون بدوره منشأً للآثار التي تحصل للعلم الحصولي من خلال تصرف القوى المدركة، وتكون كذلك سببًا للتكثر وتنوع الإدراكات: «ومن هنا يتّضح أنّنا إذا أردنا معرفة كيفية تكثّر وتنوّع العلوم والإدراكات يلزمنا أن نعطف أنظارنا نحو الأصل، فندرس الإدراكات والعلوم الحضورية، لأن الفروع جميعًا ترجع إلى هذا الجذر، ومنه تشتق حياتها، فالعلم الحضوري يتحول إلى علم حصولي بواسطة سلب منشأية الآثار»[1]، فيتوفّر العالم على المعلوم من دون أن يكون هناك في الواقع أو يحتاج إلى أمر خارجي من الواقع.

ومن خلال دراسته لمفهوم «الأنا» في الفكر الفلسفي، إذ تعود هذه المسألة إليها في أبجدياتها المعرفية، يحدثنا العلامة عن مجموعة من الإدراكات غير المادية، التي يمكن أن توجد في الدماغ والحواس، وذلك عن طريق العلم بالنفس على حد تعبيره، وأن هذا الإحساس بالأنا لا يتعلّق ببني الإنسان فقط، وإنما يكون شاملًا للكائنات أيضًا، إذ كلها تشعر بالأنا، فالإنسان يمكنه أن يفقد أي عضو من أعضائه، ويمكن أيضًا أن تصاب قواه الجسدية بالضعف والانحلال، وأن تنقص لديه سنوات العمر، لكنه يبقى على حاله، ولا يفنى ولا يتغيّر، ولا يغفل عن شعوره بذاته، التي يدركها من أول لحظة، حتى لحظته الراهنة، التي هو فيها، والدليل على ذلك مجموعة من الأحداث الزمانية

(73)

السابقة والتي يتم استذكارها، واستقدامها، وإن تغيرت الأحداث وتبدلت، فالذات تبقى كما هي واحدةً، لا تقبل الانقسام والكثرة بأي شكل من الأشكال[1]: «وإذا ألقينا نظرةً بسيطةً لا كلفة فيها، سوف نجد أن ذاتنا غير خفيةٍ على ذاتنا، وهذا الأمر المعلوم المشهود لدينا [...] واحدٌ خالص، ليس فيه أي لونٍ من ألوان الاختلاط والجزئية والحد والجسمي»[2].

إن تأكيد هذا المعنى من خلال علم الإنسان ـ الذاتي ـ العلم الحضوري، وذلك بحذف الجزء الخارجي من مجموعة من الانفعالات الحاصلة كـ»سماعي»، فإذا حذفنا الانفعال (الياء ـ ي -) لا يبقى إلا شيءٌ متطابقٌ مع الذات لا يخرج عنها، ونفهم الكلمة المراد سماعها بالذات مباشرةً، وتكون الأدوات المستخدمة في عملية «السماع» أدواتٍ أيضًا معلومةً للذات حال استخدامها، ومن هنا فهو يرد على من ينكر عليه بأن الإنسان إذا كان عالمًا علمًا حضوريًا بذاته، فما بال الدراسات المعمّقة التي يقوم بها العلماء لدراسة الإنسان، أعضاءً ووجودًا، لفهمه فهمًا كاملًا، فإن العلامة يؤكّد أنه بحث العلم الحضوري الحاضر بالأنا، وأن العلماء إنما يقومون هنا بدراسة العلم الحصولي، والفرق واضحٌ وكبيرٌ بين الاثنين[3]: «وعلى أية حال، يلزمنا القول بأننا نعلم بذواتنا وقوانا وأعضائنا المدركة وأفعالنا الإرادية بالعلم الحضوري، وقد قلنا فيما

(74)

مضى إن المحسوسات موجودة بواقعها في الحواس، وهذا لون آخر من العلم الحضوري»[1].

وأساس هذه النظرية يقوم على ما يطلق عليه العلامة «تبديل العلم الحصولي بالعلم الحضوري»، لكنه يعتقد أن العلم الحصولي لا بد له من مساعدٍ آخر يقوم بهذه المهمة، ويعزي هذه المساعدة إلى القوة الخيالية، والتي يعزي إليها أيضًا سبب الخطأ في الإدراك، إذ يؤكد العلامة أن الخطأ في الحكم لا يمكن أن ينتج عن طريق الحواس، ولا من الموضوع، ولا من المحمول، أو الحكم نفسه، بل ينتج الخطأ عن طريق القوة الخيالية وما تعكسه من صورة إلى القوة الحافظة، فتؤلّف بين بعض المفاهيم بشكلٍ مغلوط، يحقق خطأً في الحكم، وهذا الخطأ خطأٌ ذهنيٌ، وليس خطأً خارجيًا حقيقيًا، وكما سيأتي في هذا البحث، إذ يتم بيان كيفية تحويل العلم الحصولي أو تبديله إلى علم حضوري، يكون الأخير بذاته منشأً لجميع العلوم الحصولية الأخرى، ويكون سببًا رئيسيًا آخر لتكوين الوحدة والكثرة في المفاهيم والموجودات، وينتقل منها إلى قانون العلية والمعلولية، وذلك بتحليل الإدراكات التصورية والإدراكات التصديقية، ويعترف من خلالها بوجود عالمٍ خارجيٍ مستقلٍ عن الذهن والأنا الإنسانية، ويدرك من خلاله الأشياء الخارجية بحقيقةٍ واقعية، من دون أن يكون لها وجودٌ «اسميٌ» فقط، كما يدعي «الاسميون» ذلك.

ويبيّن العلامة أن هناك بعد الحس حركتين تنتقل فيهما المدركات الحسية بعد حصول صورها من الخارج، الأولى يطلق

(75)

عليها الخيالية، والثانية يطلق عليها الإدراكية، فنحن نحصل من الخارج على صورٍ حسيةٍ تذهب إلى المرحلة الخيالية، وعن طريق الحافظة تذهب إلى المرحلة الثانية التي هي الإدراك، بعد اعترافه بأنه تجاوز العديد من المراحل بغية بيان نظريته، فنحن نستطيع أن نتعرّف على خواصّ الأشياء الخارجية، وذلك عن طريق الحس، ونكوّن عن طريق الحواس صفات للشيء تختلف عن الشيء الآخر في الحس كما تختلف عنه فعلًا في العالم الخارجي، ونحصل على ذلك عن طريق «العلم الحصولي»، ويزيد العلامة المسألة إيضاحًا حين يورد الإدراك لمفهوم البياض والسواد وكيف يتحقق الإدراك من خلالهما حضوريا وحصوليًا، فالحس يدرك أن هذا الشيء أسود، ويحس بعدها أن هذا الشيء أبيض أيضًا، أي نحس بآن واحد بوجود شيئين خارجيين (أسود وأبيض)، لكن النظرة الأولى تكون للسواد، وعندما نجرّد البياض من صفاته الحسية في المخيلة وندركه كمفهوم (بياض) مجرّد عن خواصه الحسية، ننتقل إلى المرحلة الثانية (الإدراك)، مع هذه الصورة الإدراكية نلحظ أنّا لم ندرك المفهوم الآخر في المرحلة الثانية (الإدراك)، الذي هو السواد، فالمُدرَك بياضٌ فقط، عندما ندرك السواد في المرحلة الثانية نجد أن الإدراك في المرحلة الثانية لا ينطبق مع الإدراك في المرحلة الأولى بالنسبة لتغاير اللونين، فالأبيض لا ينطبق على الأسود، كما أن الأسود لا ينطبق على الأبيض، بل نجد أن الأسود لا ينطبق إلا على نفسه، ومن هنا ينشأ لدينا حمل الهوية (هذا هو هذا)، الأسود هو الأسود، وينشأ لدينا أيضا سلب الحمل (هذا ليس هذا)، أي

(76)

سلب الهوية، ونجد أن الذهن قد قام بعمل الإدراك والحكم، فهو حكم على الأسود بالسواد، وحكم على الأبيض بأنه ليس بأسود، أي حكم بـ»العدم»، بالنسبة إلى ما بين السواد والبياض، هنا نشأ لدينا في حالة السلب حكمٌ خياليٌ مقابلٌ لـ»ربطٍ خارجي»، أو حقيقةٍ خارجيةٍ تصاغ منها القضيتان أعلاه، «الأسود هو الأسود، والأبيض ليس بأسود»: «والحقيقة في القضية الأولى، هي أن القوة المدركة قامت بعملٍ بين الموضوع والمحمول نسميه الحكم، «هذا هو هذا»، وحقيقة القضية الثانية أنه لم يقم بعمل فيما بين الموضوع والمحمول، لكنه حسب خلو وفاضه وعدم قيامه بعملٍ عملٌ»[1].

فالقوة المدركة إذًا قامت بعمل «الحكم الأول»، لكنها ظنّت أنها قامت بعمل آخر في حالة السلب، والحقيقة هو ليس بعمل، بقدر ما هو يمكن أن يطلق عليه «عدم الربط»، في مقابل الربط الذي حصل عليه في القضية الأولى.

ومن هنا نشأ مفهوم الكثرة والوحدة، فالقضية في حالة الإيجاب، حالة «الربط الخارجي»، تمثّل وحدةً، لكن القضية الثانية في حالة السلب تمثّل كثرةً، في حالة «عدم الربط»: «ومن هنا يتّضح أن الكثرة مفهومٌ سلبي، والوحدة سلبٌ لسلب، إلا أن سلب السلب يتطابق مع النسبة الإيجابية (الربط)، ومن هنا نتّخذ نسبة الوحدة ونسبة الإيجاب في المصداق»[2].

ومن هذا الجهد المبذول يدرك العلامة تعدد مفاهيمٍ ذات مداليلٍ

(77)

مختلفةٍ استخلصت من المثال المتقدم، وهذه المفاهيم هي ست مفاهيم، شكّلت مداليل واسعةً: مفهوم الأسود، مفهوم الأبيض، الربط، عدم الربط، الكثرة النسبية، الوحدة النسبية. ويعتبر العلامة أن المفهومين الأول والثاني ـ الأسود والأبيض ـ هما ما يمثّل تكثُّر الماهيات الموجودة في الخارج، لكن الفرق بين وجودها الذهني ووجودها الخارجي هو أنها تترتب عليها الآثار في الخارج، ولا تترتب عليها الآثار في الذهن، فيكون ترتب الأثر مستقلًا عن الذهن والإدراك، وهذا مائزٌ بين الماهية من حيث وجودها الخارجي ووجودها الذهني، وهو ترتُّب الأثر عليه في الخارج، وعدم ترتُّب الأثر عليه في الذهن.

ويستمر العلامة في عملية التحليل ليؤكد أن المفاهيم الماهوية هي الأسود والأبيض فقط، أما بالنسبة لمفهومي «الربط، عدم الربط»، هما مفهومان يمثّلان حقيقة الحكم من عدمه، فالحكم يقوم بين مفهومين متحققين في الخارج، ولكن يتم من زاوية الذهن كنسبةٍ رابطةٍ بين الموضوع والمحمول، ويمثّل الموجود الرابط وجودًا مندكًا بين الموضوع والمحمول في الخارج، لكنه وجودٌ له استقلاليةٌ في الذهن، من خلال إمكانية الحكاية عنه، أي إن العلامة يشير إلى فعل الذهن، وهو الحكم بين المفاهيم المنطبقة في المرحلة الثانية (الإدراك)، وهو بذلك فعلٌ ذهنيٌ ليس له آثار خارجية.

أما المفهوم الرابع (عدم الربط)، فهو في الحقيقة ليس حكمًا، كما يوضح العلامة، لأن الربط ـ حكم إيجابي ـ يقابله عدم الربط ـ

(78)

الذي هو حكم سلبي ـ، فهو ليس فعلًا للذهن، بقدر ما هو اشتباه الذهن بأنه يجري حكمًا معينًا: «وحقيقة القضية الثانية أنه لم يقم بعملٍ فيما بين الموضوع والمحمول، لكنه حَسِبَ خلو وفاضه وعدم قيامه بعملٍ عملًا»[1].

وهذا المفهوم (عدم الربط) بين الموضوع والمحمول، يقود إلى معرفة مفهومَي «الوحدة النسبية» و»الكثرة النسبية»، وهي مفاهيم غير متكئةٍ على نفسها، ولكنها مفاهيم تتكئ على الماهية ذاتها.

وبعد عملية التحليل هذه التي يقوم بها العلامة، يصل إلى بيانٍ واضح، وهو النتيجة المستخلصة من التحليل، وذلك أن الإدراكات ما هي إلا تصوّرٌ وحكمٌ، والحكم هو ما يقصد به التصديق، وينطلق لبيان كيفية قيام هذه الإدراكات التصورية التصديقية، ودور قوى النفس وأفعالها في تحصيلها وتصييرها علًما حضوريًا بعد أن كانت علمًا حصوليًا، فتكون وفي نفس الآن بعد إدراك الكنه، أي يكون العلم الحضوري أساسًا لكل علم حصولي[2].

ويوضح العلامة هذا الارتباط بين العلم الحصولي والحضوري، المكوّن منه والمُكّون له في نفس الآن، من خلال ارتباط العلمَين بعملية الإدراك (القوة المدركة)، التي تكون جامعةً للعلم الحضوري والعلم الحصولي في وقت واحد، فقوى النفس، وأفعال النفس، إنما تُعرف بالعم الحضوري، الذي يكون مدركًا لها في ذاتها، وهذا الإدراك هو إدراك كُنهٍ لا إدراك تفصيل، وفي نفس الوقت، بما أن

(79)

أفعال النفس وقواها أصبحت معلومةً بالقوة المدركة، فإننا سوف نعلمها بالعلم الحصولي إدراكًا كما علمناها بالعلم الحضوري، وهذا الإدراك يشبهه العلامة بإدراك المحسوسات ونسبتها إلى العلم الحصولي.

ومن خلال هذه النسبة التي بيّنها العلامة، ينطلق ليوضح مفهومًا خاصًا، وهو مفهوم «الجوهر»، المفهوم الذي يذعن به الذهن وبوجوده بشكل عام لاعتماد كل العوارض على وجودية محلٍّ مستقلٍّ لها، كون الجوهر موجودًا بلا محل، بل يعتبر أن العارضية كمفهوم جوهري وليس كإحساس خارجي تحتاج إلى محلٍّ توجد فيه، وهذا المحل لا يمكن أن يتوفّر إلا في الذهن، وهو في نفس الوقت لا يمكن أن يتوفّر بناءً على النظرة الفلسفية العقلية التي أكّدت أن مثل هذا المفهوم لا يوجد إلا من خلال قضايا فطريةٍ موجودةٍ في الذهن، أو كما زعم الحسّيّون بأن هذه المفاهيم تنشأ من حاجتها إلى محلّيّة «محلٍّ» تتجمع عليه العوارض، وتميل إليه، ولولا هذا المفهوم لألغيت أساسًا كل قوى النفس وأفعالها، بل إن النفس ذاتها تلغى أيضًا: «لأننا نجد أن النفس تتوفر على هذا المفهوم [الجوهر] الذي لو جرّدنا النفس منه فسوف تتلاشى كل هذه القوى وأفعال القوى، فضلًا عن النفس ذاتها، ونرى من طرف آخر حاجة القوى والأفعال، فندرك أن هذه الحاجة تستلزم وجود أمرٍ مستقلّ، ونذعن بهذا الحكم بشكل عام»[1].

وبعد أن يبث مفهوم «العرضية» كجوهر قائم في الذهن، يتحوّل

(80)

من علمٍ حصوليٍ سببٍ للآثار الخارجية إلى علم حضوري يوجد بمحلّه بغير ترتُّب الآثار المتوقفة عليه، تتحوّل العلاقة بين الأعراض الخارجية بعد أن نثبت لها معنًى جوهريًا، تتحوّل الأعراض دفعةً واحدةً من أعراض إلى أوصاف، أي تتحول الأعراض كالوضوح والظلام والبرودة والحرارة إلى أوصاف، واضح، مظلم، بارد، حار.

ولا يعود الربط الإدراكي بين العلمين الحصولي والحضوري إلى انقلابٍ أو تبديلٍ بينهما، إلى بيان الجوهرية وخاصة جوهرية الأعراض فحسب، بل وتحوّلها من أعراضٍ خارجيةٍ ذات آثار إلى أوصافٍ ذهنيةٍ مستقلةٍ يحكي ماهياتٍ عن وجوداتٍ خارجيةٍ مستقلّة، ليس هذا فقط، بل إن الربط الإدراكي يقود إلى فهمنا لقانون العلية كمفهومٍ كلي[1]، ويوضح الشهيد مطهري هذا الأمر (العلاقة بين العلة والمعلول) وكيفية قيامها وبنائها في الذهن، فأوّل ما يحصل في الذهن هو علاقةٌ بين مفهومين، يكون أحدهما سببًا لوجود الآخر، يلاحظ الذهن ذلك ويحفظه ثم يقوم بتعميمه على كل الحالات الأخرى المتبقية، وبذلك يتم رفض النظرية التي تقول بوجوداتٍ فطريةٍ لهذا المفهوم، موجودةٍ بصورةٍ غريزيةٍ كما عند العقليين، أو ورودها عن طرق الحس، كما عند الحسّيين، وتقوم القوّة الإدراكية بعد ذلك بالتحليل إما من القضية إلى المفرد، أو من المفرد إلى المركّب، عن طريق إدراكها للمفردات والنسبة التركيبية بين هذه المفردات، وتقوم القوة الإدراكية هنا بتحليل المحسوسات والمتخيلات، وإن كان هذا الإدراك بهذه الصورة هو خارج قوانا

(81)

وحدود إمكانياتنا، إلا أن ما ندركه من هذه العملية ويحقّق العلم لنا بالخارج، مجموعة شروط يعبر العلامة عنها: بالقابلية لقوانا المدركة على إعادة النظر بكل المعلومات التي توجد فيها، والنسبة القائمة بينها، فضلًا عن أنها تستطيع الانتقال من إدراك القضية إلى المفرد المكوِّن لها وبالعكس، وبذلك تعطي مفهومًا من المفاهيم الذهنية وجودًا استقلاليًا، من خلال التحليل والتركيب الذي يقوم به الذهن، كي تستطيع هذه القوة الذهنية ومن خلال الإدراك معرفةَ مفاهيم اختلفت المدارس الفكرية في وجودها، مثل العدم والوجود، والوحدة والكثرة، وهذا ينشأ من إضافة: «وجود الحمول للموضوع، عدم المحمول عن الموضوع، وحدة الموضوع والمحمول، كثرة الموضوع والمحمول في القضية السالبة، ثم نتصورها مستقلةً، بلا إضافة، (الوجود والعدم، الوحدة والكثرة) وكذلك الحال في سائر المفاهيم العامة والخاصة»[1].

وبهذه الانتقالة المعرفية، يحدّد العلامة العلاقة مع العالم الخارجي في إدراكه، وينقد بذلك المذاهب الفكرية المعرفية القائمة، ولا سيما العقلية والحسّية، ويقدّم نظريته الخاصة في المعرفة وإدراك المفاهيم الأساسية في الوجود.

(82)

مرتضى مطهري (1919-1979):

وإلى قريبٍ مما ذهب إليه العلامة الطباطبائي ذهبَ أيضًا الشهيد مرتضى المطهري، الذي بيّن من خلال الأصلين السابقين: مبدأ التناقض ـ امتناع التناقض، وهو ما عبّر عنه بأصل الأصول وأم القضايا، والذي لا يمكن لأي علمٍ من العلوم أن يستقرّ من دونه، واعتمادًا على أصل إثبات الواقع، إذ إن هذا الأصل هو المائز بين الفلسفات المثالية والواقعية من جهة، والواقعية والسوفسطائية من جهة أخرى، بل ويزيد: «ولا يستطيع كل ذي إحساس وشعور إنكار هذا الأصل الفطري في عمق وجدانه الذهني»[1]، ولأهمية هذا الأصل تبتدأ فلسفة الحكمة المتعالية بدراسة مسألة الوجود وأقسامه وأحكامه، بل ويعتبر أن هذا الأصل أصلٌ قطعيٌ ويقيني، معتَمَدٌ لدى كل الأذهان البشرية، بل إنه النقطة الأولى في التفكير الإنساني، وهو الأصل الذي يجب أن يبدأ منه الفيلسوف، وينطلق منه نحو براهينه واستدلالاته: «لقد التفت المحققون من الحكماء إلى هذا الموضوع، فوجدوا أن الأصل الوحيد الذي يتمتّع بصلاحية أن يكون نقطة انطلاق الفلسفة هو أن هناك واقعًا، هذا الأصل الذي يمثّل الحد بين الفلسفة والسفسطة أو بين الواقعية والمثالية، وهو أصلٌ يقينيٌ وفطريٌ ومورد تصديق جميع الأذهان البشرية، وحتى السفسطائي نفسه دون أن يلتفت يعترف بهذا الأصل في عمق ذاته»[2].

(83)

وبعد هذا التمييز والبحث عن الواقعية، بالاعتماد على العلم الحضوري والحصولي، ينطلق مطهري ليبين مرحلةً ثانيةً للتمييز بين المثالية والواقعية، وهي المرحلة العقلية، كونها مرحلة السؤال والاستفهام عن مظاهر هذا الواقع، هل أنه موجود أو غير موجود، فبالبداهة نذعن أن هناك أشياء موجودةً، مثل أنا موجود، الشمس موجودة، القوة موجودة... إلخ، ويعتبرها مطهري حقائق بديهيةً وعيانيةً وغنيةً عن الاستدلال، نعتمد في الحصول عليها على علم النفس بذاتها، كالقول أنا موجود ـ علم حضوري ـ، وبعضها يحتاج إلى تحصيل ونظر وحكم، كالقول الوجود والواقع محال وممتنع، وهذا ما يتم إثباته أو إنكاره عن طريق العلم الحصولي، ويعتبر مطهري أن هذا الأصل أصلٌ كليٌ ثابتٌ، لا يخضع لقوانين التحول والتكامل والنشوء والارتقاء، وهذا الأصل يعده أنه: «حدٌ فاصلٌ بين الواقعية والمثالية، ولا يخضع إطلاقًا للتغير والتحول إلى ضده كما يدّعيه المثاليون والسفسطائيون»[1].

لكن العلامة المطهري يقدّم أنموذجًا جديدًا في فكره الفلسفي، ليبدأ منه في بيان نظريته حول العلاقة بين الوجود الخارجي والوجود الذهني، اعتمادًا على بيان مفاهيم فكرية فلسفية تعتمد على مباني مدرسة الحكمة المتعالية، يستنبط أصولها من طريقين، الطريق الأول: هو ما اقتبسه من خلال دراسته للفلسفة، ولا سيما نظرية المعرفة على يد أستاذه المرحوم العلامة الطباطبائي، يوم كان تلميذًا لديه، ويوم كان المطهري شارحًا ومحشّيًا على كتابه الأساسي أسس

(84)

الفلسفة والمنهج الواقعي، والطريق الثاني: هو ما استفاده العلامة المطهري من دراسةٍ وتدريسٍ لما يعرف اليوم بمنظومة العلامة السبزواري، الذي قدم له المطهري عدة شروح، منها على شكل محاضراتٍ أُلقيت على طلاب كلية الإلهيات في قم، وطبعت في كتاب شرح المنظومة[1]، وشروح موسعة للمنظومة طُبع مرتين[2]، وبيّن العلامة المطهري من خلال هذه الكتب المتقدمة منهجه للفكر الغربي في نظرية المعرفة في الإدراك، التي تحدد العلاقة بين الذهن والعالم الخارجي، وهي ما يخالف النظرة الاسمية المتقدمة بصورها المختلفة، إذ اعتمد مطهري في شرح نظريته للمعرفة على أسسٍ ثابتةٍ إضافةً لما تقدم، وهي دور المعقولات الأولى والثانية (المنطقية والفلسفية)، وكونها معاني حرفيةً واسميةً في بيان عملية الإدراك وحصول المعرفة بالعالم الخارجي.

بدأ العلامة مطهري بتقديم جهاز توضيحي ـ نقدي للفكر الفلسفي الأوروبي المتقدّم عليه والمعاصر له كالاتجاه المادي، ابتداءً من نظرية المعرفة عند لوك والتي قسّمها إلى قسمين، إذ اعتبر لوك ـ كما يرى مطهري ـ أن المعرفة لا تحصل إلا من خلال ما يرد الذهنَ هنا كآلة تصوير، لكن ما يرد إلى الذهن إما يتركه الذهن من

(85)

دون أن يجري عليه أعماله المختلفة، أي يتركه كما هو معلومة قادمة من الحواس المختلفة التي هي وسيلة الاتصال بالعالم الخارجي، أو من خلال قيام الذهن بالتصرف بهذه المعلومات من «تجزئة أو تركيب» و«تجريد وتعميم» وبذلك تحصل المعرفة[1]، وهي النظرية التي تمسّك بها الماديون بعد لوك[2].

بنقد مطهري لنظرية لوك والماديين أن عمل الذهن هو عمل التقاطي ـ آلة تصوير ـ ينقل ما يحدث في الخارج إلى الذهن فقط من دون أي عمل آخر، يؤشّر مطهري إلى مجموعةٍ من العمليات الذهنية التي يقوم بها الذهن، والتي عجز هؤلاء عن أن يأتوا بتفسيراتٍ واضحةٍ لها، فهم لم يستطيعوا أن يفصحوا عن الصورة الموجودة أساسًا في الذهن، وعن صورها، وكيفية وجودها، وكذلك إن عمليات الاستدلال والتصديق عمليات ذهنية لم يبحثوا ويبينوا كيفية تكونها ونشأتها، بالإضافة إلى أن الشهيد مطهري يفترض أن يكون عمل الذهن معاكسًا لآلة التصوير، أي إن عمله ليس التقاطيًا، يلتقط صورة الخارج إلى الذهن، بل قد يكون عملًا عكسيًا حاله حال شبكة العين التي تورد الصورة معكوسةً ومقلوبةً عن الخارج، وتنقلها إلى الذهن، ويوضح الشهيد مطهري رأيه بدليل ومثال: فلو افترضنا في عالم الواقع أن «أ» علة لوجود «ب»، و«ب» علة لوجود

(86)

«ج»، فالأصل الخارجي لوجود «ج» هو «ب»، فـ»ج» فرع «ب»، ولكن «أ» في وجوده الواقعي غير متفرع على «ب»، ولا «ب» متفرع في وجوده على «ج»، وهذا في الخارج، فهل هذه العملية يمكن أن تتمثّل بوضوح في الذهن، وأن يجد لها لوك والماديون تفسيرًا مقبولًا؟

وبالاعتماد على البرهانيين اللمي والإني، يؤكد مطهري أن المعرفة قد تكون مطابقةً لما في الذهن، أو تكون عكس ذلك غير مطابقةٍ للذهن، وهو يوضح ذلك بالاعتماد على المثال السابق، فقد لا نستدل على المعلول إلا من خلال معرفتنا للعلة، أي لا نعرف وجود «ب» إلا بعد معرفتنا لوجود «أ»، وهو ما يسمى بالبرهان «اللمي»، أي الاستدلال بالعلة على وجود المعلول، وبهذا المثال ـ الاستدلال بالعلة على المعلول ـ يرى الشهيد مطهري أن هناك تطابقًا بين الواقع (العالم) الخارجي، وبين عملية المعرفة: «لأن الوجود العيني لـ«أ» علة للوجود العيني لـ«ب»، وفي مقام المعرفة كان العلم بوجود «أ» علةً للعلم بوجود «ب»، ومثال ذلك: إذا شاهدنا نارًا تلتهم الحطب، نعلم بوجود الدخان [المعلول] من خلال علمنا بالنار [العلة]»[1].

لكن في البرهان «الإني» الذي هو الاستدلال بالعلة على المعلول، وكما يظهر من خلال استيعاب المثال الأول، نلاحظ أن الوجود الواقعي العيني لا ينطبق على عملية المعرفة، لأن البرهان الإني يعتمد على الاستدلال «بالمعلول» على وجود «العلة»، أي

(87)

يستدل على وجود «أ» [النار ـ العلة] من خلال وجود «ب» [الدخان ـ المعلول].

ففي الواقع الخارجي، عملية الاستدلال تكون من المعلول على العلة، وهنا تنعكس العملية في الذهن: «وفي المثال الثاني، كان مقام الذهن عكس مقام الواقع، لأن الوجود العيني لـ»أ» هو علة الوجود العيني لـ«ب»، بينما في المعرفة [في الذهن] كان الأمر بالعكس، حيث العلم بوجود «ب» علةٌ للعلم بوجود «أ»، كعلمنا بوجود النار من خلال علمنا بالدخان المنبعث فيها»[1]. وهنا يرد إشكال الشهيد مطهري واضحًا بكيفية إجراء عملية الاستدلال في الذهن، بشطريها: «من المعلول إلى العلة» ـ الإني، أو بالعكس «من العلة إلى المعلول» ـ اللمي، علمًا أن علةً واحدةً قد تكون سببًا لإنشاء معلولين، كما في النار التي قد تكون علةً لإيجاد «معلول ـ الحرارة»، وإيجاد «معلول ـ الضوء»، وهما معلولان مفترقان عن بعضهما[2].

ويستمر الشهيد مطهري بالنقد للفكر الغربي في تصورهم للعملية المعرفية وعلاقتها بالخارج، وذلك من خلال عرضه لمفهوم المعرفة عند كانت، وكيفية حصول الإدراك بالعالم الخارجي، إذ يعتقد مطهري أن ما قدمه كانت كان بحثًا عن «مادة المعرفة» وليس توصيفًا للمعرفة، فقد افترض كانت أن الحواس تقوم بنقل الأشياء

(88)

الخارجية إلى الذهن، وافترض أيضًا وجود قوى فطرية في ذهن الإنسان، تعمل من خلال التصرف بما يستورده العقل من المادة الخارجية ـ منشأ المعرفة، والإشكال الذي يوجّهه مطهري ناقدًا هو صيرورة العلاقة بين الشيء الموجود في الخارج والمنقول للذهن من جهة، وبين العمليات الفطرية المتصرفة بما أتى من الأشياء الخارجية لتكوين المعرفة، هذا الوصف المقدم من قبل العلامة مطهري أطلق عليه «مادة المعرفة»، وليس عملية معرفة، فالعمليات الذهنية المتعلقة بالذهن فطريًا «تعمل» بـ«مادة المعرفة» المعبرة عن الواقع الخارجي: «فإذا كانت المعرفة عبارةً عن مجموع المادة والصورة، المادة ترد من الخارج، والصورة عبارة عن ما يضيفه الذهن من القوالب الجاهزة لديه لهذه المادة، فكيف يمكن للأمور التي في الذهن والتي لا علاقة لها بالخارج أن تكون مِلاكًا لمعرفة الخارج»[1].

وبعد أن يقدم تفصيلًا نقديًا للفكر الغربي كما تقدم، يبدأ مطهري بإيضاح تفسيرٍ فلسفيٍ تبنّاه في نظرية المعرفة، استفاده من مقولات الفلسفية الإسلامية، وتحديد العلاقة بين المعقولات الأولية وبين المعقولات الثانية (المنطقية ـ الفلسفية)، إنه استفاد هذا المنهج مما قدمه الفكر الإسلامي، متمثّلًا بمفكريه الكبار كابن سيا ونصير الدين الطوسي والملا صدرا الشيرازي، الذين بحثوا ولا سيما الأخير هذه المعاني (المعقولات) بأشكالها وأنواعها المختلفة، أنموذجًا لتفسير العملية المعرفية والإدراك،

(89)

ولكي يوضح الشهيد مطهري الفرق بين المعقولات، يعطي أمثلةً توضيحيةً بعد ذكره لنظريات المعرفة، وهي نظرية التجريد عند ابن سينا والطوسي، ونظرية التعالي عند الشيرازي، ويعرض العلّامة لهذه النظريات بشكل مختصر، يورد فيه أن نظرية التجريد عند ابن سينا تعني أن الصورة الحسية التي تحكي عن الواقع الخارجي تتجرّد عن بعض خصوصياتها فتصبح بذلك صورةً خيالية، والصورة الخيالية أيضًا تتجرّد عن بعض خصوصياتها فتصبح صورةً عقليةً، بعد أن تمر بمراحل من الاختزال والصقل، في حين أن الطوسي يقول بالتجريد أيضًا ولكن ـ كما يصورها المطهري ـ على نحو الختم على الورقة، عندما نختم على الورقة الأولى تكون أكثر وضوحًا، هكذا حتى وصلنا إلى مسح الختم نهائيًا، فتكون صورة الكلي الطبيعي الذي يحكي عن الأفراد الخارجية، فنحن نجرّد هذه المشخصات من المتشابهات الواقعة بينها لنحصل على صورةٍ مجردةٍ تمثل هذا الكلي. لكن العلامة يعتقد أن نظرية التعالي التي قال بها الشيرازي كانت أكثر دقةً من سابقتيها، فالشيرازي ـ وفق مطهري ـ كان يعتقد أن الصورة الحسية لا تتجرد كي تتحول إلى صورةٍ خيالية، بل إن الصورة الحسية تنشأ من خلال اتصالها بالواقع الخارجي، فتكون صورةً مناسبةً ومماثلةً للخارج، والصورة الخيالية عندما تواجه الصورة الحسية تكون متماثلةً ومناسبةً معها أي ـ مع عالمها الحسي ـ، وكذلك فيما يخص الصورة العقلية وبالنسبة إلى عالم الخيال أيضًا، فكل صورة تتناسب مع عالمها، من

(90)

دون أن تزول أو تتغير حالتها التي كانت عليها، لكن الفرق أن الصورة الثانية تكون أعلى وأرقى من الصورة السابقة عليها[1].

يقصد الشهيد مطهري بالمعقولات العمليات التي تحصل في العقل، أي تدور حول ما يسمى بالمعرفة العقلية، فهنا لا يتم البحث عن المعرفة الحسية أو الخيالية إلا باعتبارهما مرحلةً سابقةً على البحث في المعرفة العقلية، وهو يقسم هذه المعقولات إلى أولية، وثانية، منها المنطقية ومنها الفلسفية، والأهمية الأكبر التي تعتمد عليها نظرية المعرفة عند المطهري هي للمعقولات الثانية الفلسفية، وخاصةً «مفهوم الوجود»، الذي يعتبر الأساس المشترك لجميع الموجودات، والتي تتّضح بصورةٍ أكثر جلاءً من خلال دراسة المعاني الحرفية والاسمية، إذ يؤكد مطهري أن المعقولات الثانية الفلسفية هي: «المسألة الدقيقة والمهمة في نظرية المعرفة»[2]، وهي ما يطلق عليها الشهيد مطهري المفاهيم الانتزاعية.

ماذا يقصد الشهيد مطهري بالمعقولات الأولية؟ يؤكد العلامة مطهري، وتبعًا للفلاسفة المسلمين، أن الذهن خالٍ محض، لا يحتوي على أية معلومة، يطلق عليه عقلٌ بالقوة، وذلك بعد اتصاله بالخارج عن طريق الحواس، وهو ما يسمى في الفكر الفلسفي بـ»العقل الهيولاني»، ولهذه المعقولات الأولية الأهمية الكبيرة في تكوين حركة الذهن، والانتقال إلى المعاني أو المعقولات الثانية (المنطقية والفلسفية)، في حين أن المعقولات الثانية المنطقية هي المعاني

(91)

الكلية المتكونة من الصفات المشتركة للأشياء ذات المصداق الواحد، المنطبق على مفهوم معيّن، بعد تجريد هذه المصاديق من مشخّصاتها، فمثلًا أحمد، علي، زيد... إلخ كلها أسماء تنطبق على صفة الإنسان، وإن كان لكلٍ منهم صفات تختلف عن الآخر من الناحية الفردية، لكنهم يشتركون في معنًى ينطبق عليهم جميعًا وهو الإنسانية، بمعنى أنها لم تتكون من خلال الحواس، وتنتقل كصورة ذهنية، بل انها حالةٌ ذهنيةٌ لحالةٍ خارجية، ويتابع مطهري التمييز بين المعقولين (الأولي والمنطقي)، بأن المعقولات الأولية توجد في الخارج، وتدرَك عن طريق الحواس، والمنطقية توجد في الذهن ولا تدرَك عن طريق الحواس، والمعقولات الأولية مستقلةٌ عن بعضها البعض في الخارج، فالشجر مستقلٌ عن الإنسان، وكلاهما مستقلان عن الأسد، وهكذا، لكن المنطقية لها ظرف واحد تتصف به ومن دون استقلالية، وهذا الظرف هو الذهن.

ويزيد الشهيد مطهري المسألة وضوحًا معتبًرا أن المعقولات المنطقية تشمل مفهومَي «الكلي والجزئي»، وكذلك مفهوم «الكليات الخمسة»، وكل القضايا ما هي إلا معقولات ثانية منطقية، والفرق المهم بين المعقولات الأولية والمعقولات الثانية المنطقية، أن المعقولات الأولية ظروفُ عروضِها وظروفُ اتصافِها هو الخارج، أما المعقولات المنطقية فظروف عروضِها واتصافِها هو الذهن فقط، ولا علاقة لها في الخارج، وما يعنيه الشهيد مطهري بظروف العروض والاتصاف، ما يعرضه من مفهومي الكلي والجزئي باعتبارها معقولات ثانية منطقية، فظرف عروض الكلي والجزئي هو

(92)

الذهن، وظرف اتصافها هو الذهن، بمعنى أنه لا يوجد إنسان كلي في الخارج، فالإنسان مفهوم كلي، والموجود في الخارج عروضًا واتصافًا هو الإنسان الفرد المشخّص (أحمد، علي... إلخ)، بمعنى أن الأشياء الموجودة في الذهن يمكنها أن تتصف بصفات كثيرة لا يمكنها أن تتصف بها إلا في الذهن، فـ»مفهوم الكلي» وهو ما يعني الانطباق على كثيرين، فهذا الانطباق (الإنسانية) لا يحصل إلا في الذهن، ومثله «مفهوم الجزئي»، إذ هو ما لا يقبل الانطباق على كثيرين، فهذا الانطباق لا يعرض ولا يتصف إلا في الذهن، فمفهوم الكلي والجزئي يختلفان عن مفهوم المشخص والتشخص، الذين يوجدان في الذهن، فأحمد الشخص موجودٌ عروضًا واتصافًا في الخارج، وليس في الذهن، ويمكن تشخيصه بوضوح من خلال الحواس، فـ«الكلية والجزئية» إذًا صفة للمفاهيم والمعاني الذهنية فقط، تعرض لمعروضاتها في الذهن، وتتصف بها في الذهن ايضًا[1].

والكلي والجزئي وفق التصنيف المنطقي، وكما يؤكد الشهيد مطهري، هي صفات لأصناف ومعاني ذهنية تقع تحتها وتنبع منها، فمن الكلي «نوع، جنس، فصل»، النوع كالانسان، والجنس كالحيوان، والفصل كالضاحك، أو الصاهل، ونجدها صفاتٍ ذهنيةً، فلا يوجد في الخارج «أحمد الضاحك»، وإنما يوجد أحمد فقط، وهكذا، ومن الجزئي «العرض العام، والعرض الخاص»، فالماشي صفة ذهنية لمجموع النوع أو الأنواع، كالإنسان والفرس والفيل، والعرض الخاص صفةٌ ذهنيةٌ لجزء النوع، فبعض الإنسان

(93)

شاعر، وبعضهم كاتب، وهي صفات ذهنيةٌ، لأن الموجود الخارجي هو «أحمد المشخص فقط» مستقلًا عن صفته الذهنية، كما يصل بنا الشهيد مطهري إلى أن كل القضايا لا وجود لها في الخارج، لأن القضية في حقيقتها ليست إلا اتصاف الموضوع بصفة وهي المحمول، وهذه العلاقة لا يتم إدراكها إلا في الذهن، أي إن النسبة الواقعة بين الموضوع والمحمول لا تتم إلا في الذهن، وبعبارة أوضح لا تُفهم إلا في الذهن، فنحن ننشئ نسبةً ذهنيةً تجمع بين الكتاب والبياض، فالبياض صفةٌ طارئةٌ على الكتاب، لأن الموجود في الخارج هو الكتاب فقط، والبياض فقط، فنحمل المحمول على الموضوع، ومثل القضايا يعتبر الشهيد مطهري كل المفاهيم المنطقية مثل الصغرى والكبرى مفاهيم ذهنيةً، ويعتبرها من المعقولات الثانية لأنها لا توجد كصغرى أو كبرى في الخارج، ويوضح ذلك من خلال مثاله زيد إنسان، وكل إنسان ناطق، فزيد ناطق، قضية صغرى، وقضية كبرى، لا وجود لها في الخارج، فما في الخارج هو زيد المشخّص، وما في الذهن ما يكونه من قضايا سواء أكانت بصورتها الكبرى أم الصغرى ووضعهما[1].

ويشير المطهري إلى مساحةٍ واسعةٍ يُبيّن فيها علاقة المعقولات الثانية المنطقية بمعرفة وإدراك العالم الخارجي، على الرغم من كون الأولى معقولات ثانية منطقية ـ ذهنية ـ وكون العالم الخارجي معقولً أوليًا ـ خارجيًا ـ، وذلك من خلال العلاقة المتكونة بين الحد الأوسط أو الحد الأصغر في الصغرى، والحد الأوسط والحد الأكبر

(94)

في الكبرى، وبهكذا قياس قائمٍ بين قضيتين ومجموعة حدود (أصغر، أوسط، أكبر)، نحصل على شيءٍ جديدٍ، ومن هنا يعتقد الشهيد مطهري أنّه قدّم تفسيرًا صحيحًا للمعرفة المعبّرة عن علاقةٍ بين عالمين مختلفين، عالمٍ خارجي وعالمٍ ذهني، وبالعودة إلى نظرية الملا صدرا الشيرازي، والتي اعتبرها الشهيد مرتضى المطهري من أوضح النظريات، يؤكد أن الارتباط والعلاقة بين الذهن والعالم الخارجي هي أن الصورة المدركة بالحواس والمعبرة عن العالم الخارجي تكون أوسع في عالم الحس منها في الواقع الخارجي، وكذلك الحال بالنسبة للصورة الخيالية إلى الصورة الحسية، إذ تكون في الحالة الخيالية أكثر اتساعًا، وصولًا إلى المرحلة الذهنية والتي تكون أكثر اتساعًا من الصورة الخيالية: «لأن المعرفة لا يمكن أن تتحقق من التحام شيء من الخارج بشيء آخر لا علاقة له به بالخارج أصلًا، بل إن نفس الشيء الذي ورد من الخارج يكون موجودًا في الذهن بوجود أوسع وأعلى، ودور الذهن هو ملاحظة هذه الماهية بشكل أوسع»[1].

فالمعقولات الثانية المنطقية معقولاتٌ لا يمكن قياسها في الذهن لولا ورودها من الخارج وعن طريق الحواس، ومن خلال المعقولات الأولية، فالمعقولات الثانية المنطقية ما هي إلا: «صفات وحالات للمعقولات الأولية الموجودة في الذهن، ومن هذه الجهة هي تساهم في إنتاج أثر مهم في المعرفة، يتمثل بتوسيع زاوية لحاظنا للخارج»[2].

(95)

ويتناول الشهيد مطهري نوعًا ثالثًا من المعقولات، تشكّل جوهر الفلسفة عنده، يعبّر عنها وتبعًا للفلاسفة المسلمين بالمعقولات الثانية الفلسفية، أو المعاني الانتزاعية، ويشبّهها بالمعاني الحرفية[1]، واذا كانت المعقولات الأولية ظروفُ عروضها واتصافها الخارج، وبالضد منها المعقولات الثانية المنطقية، التي ظروف عروضها واتصافها هو الذهن، كونها تحكي عن الخارج، فإن المعقولات الثانية الفلسفية تختلف عنهما، لأن ظروف عروضها هي الذهن، لكن ظرف اتصافها هي الخارج، وما يقصده مطهري بأن اتصافها هو الخارج هو أنها صفة ليس لها وجود مستقل إلا بوجود موضوعها، وذلك يعبَّر عنه بوجودات انتزاعية، أي ينتزعها الذهن من الخارج، فهي في الخارج موجوداتٌ حرفيةٌ مندكةٌ غير مستقلةٍ، موجودةٌ بصورةٍ مضمرةٍ بين الموضوع والمحمول، لكن للذهن

(96)

القابلية بتحويلها من موجودات حرفية (في الخارج) إلى موجودات اسمية (في الذهن)، تُنتزَع من الخارج، ولتقريب المعنى، يضرب العلامة مطهري مجموعةً من الأمثلة لفهم المعاني والمفاهيم الواردة، كمعقولات ثانية فلسفية، ومنها الحركة من مكان إلى آخر، من قبل الحشرة، ننتزع من هذه المعاني الحرفية وهي «من، إلى»، للذهن قابلية انتزاعٍ منها لمعاني اسمية مكان حصولها الذهن وهي «الابتداء، والانتهاء»، فطرفي الحركة في الواقع هو الابتداء والانتهاء، ومثال آخر «كمية نصف متر»، اذا أضفنا اليها نصف مترٍ آخرَ أو أنقصنا منه شيء، فإن حدود النصف المتر تبقى كما هي في الواقع «نصف متر»، فـ«الإضافة، أو الإنقاص» هي معاني انتزاعية، كانت حرفيةً غير مستقلة في الخارج، فـ«الإضافة» تعني أن نصف المتر موجود، و«الإنقاص» يعني أننا سلبنا من النصف متر وجوده، ويستطيع الذهن تحويل هذا السلب «تإنقتص» إلى شيء موجود، وكي يوضح الشهيد مطهري هذا المفهوم أكثر، يعطي مثالًا واضًحا بـ«البصير والاعمى»، فـ«الأعمى» هو فاقد البصر، أي سلب البصر في من شأنه ان يبصر، أما الإبصار فتعني عملية وجود، والعمى هو سلب الوجود في الخارج، وهو معنًى انتزاعيٌ يستطيع الذهن أن يحوله إلى شيء موجود، بمعنى أن فقدان البصر أمر موجود للذهن، على الرغم من أن العمى ليس شيئًا في الخارج[1].

ومن المعاني التي تُحدثها المعقولات الثانية الفلسفية هي مفاهيم الوجود والضرورة والامتناع والإمكان، فسقوط الحجر من

(97)

الأعلى إلى الأسفل، مع عدم وجود المانع، ما هو إلا معنًى ضروريٌ منتزع منه السقوط إلى الأسفل، فالسقوط صفة للحجر، عروضها ذهني، اتصفها خارجي، وهي صفة منتزعة من «حاق ـ الذات» للشيء، وليس شيئا آخر يضاف إليها، ومن هذه المعاني القوة والفعل، والوحدة والكثرة.

ويصف الشهيد مطهري العلاقة بين المعقولات الأولية، والمعقولات الثانية الفلسفية، بأنها علاقة أوثق منها، من العلاقة بين المعقولات الثانية المنطقية والمعقولات الثانية الفلسفية، من ناحية التأثير في المعرفة، كونها أكثر قدرةً في تكوين عملية المعرفة، والسبب في ذلك كما يوضحة الشهيد مطهري من ناحية القرب والبعد، إلى الفرق بين المعقولات الثانية المنطقية والمعقولات الثانية الفلسفية، باعتيار أن المنطقية تُكتسب من الخارج بصورة مباشرة، فمن مجموع أفراد الإنسان «الجزئي» الموجود في الخارج، يتكوّن معقولٌ عقليٌ «كلي»، وهو الإنسان، لكن المعقولات الثانية الفلسفية تُنتزع من الخارج وبصورةٍ غير مباشرة، وهذا الانتزاع مثل انتزاع مفهوم القائمية من الخارج (زيد قائم)، وإن هذه المعاني الانتزاعية التي تُدرَك من المعاني الجزئية، أي المعاني الرابطة، لا يدركها إلا الإنسان الكبير، أما الطفل الصغير والحيوان فلا يستطيعان إدراكها[1]، فالذهن يستطيع انتزاع معنًى اسميٍ من المعاني الحرفية، وإذا كان مفهوم البياض من المعاني أو المعقولات المنطقية، والتي تُكتسب من الخارج، فـالكتاب أبيض، والثلج أبيض، والدب

(98)

أبيض، فـيُكوِّن العقل مفهومًا كليًا ـ معقولًا ثانيًا ـ وهو البياض، لكن مفهوم «الوجود» وهو مفهوم من المعقولات الثانية الفلسفية يكون أكثر اتساعًا من البياض، لأن مفهوم الوجود كمفهومٍ حرفيٍ موجودٌ بلا واسطةٍ مع كل شيء في الخارج، ينتزع من كل شيء ويصدق على كل الأشياء، ويكتسبه الذهن من الخارج عن طريق المعقولات الأولية حين ترد إلى الذهن لكن مع روابطها، وإن مفهوم الوجود من أكثر المفاهيم الفلسفية ومن أهم الأفكار، كما يعتقد مطهري، والذي تعتمد عليه الأفكار والمعاني الأخرى، بل إنه يعتبر المعقولات الفلسفية القنوات التي يطلّ منها الذهن على الخارج، ولا يشمل هذا التفريق المعقولات الثانية الفلسفية والمنطقية فحسب، بل نجد أن الشهيد مطهري يفرّق أيضًا بين المعقولات الفلسفية التي تُنتزع من المعقولات الأولية بصورةٍ غير مباشرةٍ، وتَرِد من الخارج بالواسطة، ويعبر عنها بـ«المفاهيم غير المباشرة»، وبين المفاهيم الأولية، فهي مفاهيم مباشرة يشترك في معرفتها الإنسان والحيوان، ولكن المعقولات الفلسفية وكما أسلفنا لا يعقلها إلا الكبار: «وبناءً على ذلك يتبيّن أن المعقولات الثانية المنطقية توسّع المعرفة بصورةٍ معيّنة، فيما توسّعها المعقولات الثانية الفلسفية بصورةٍ أخرى، فالمعقولات الثانية المنطقية مثل الكلية والجزئية تجعل المعقولات الأولية في الذهن أوسع، أما المعقولات الثانية الفلسفية، فإنها توسّع المعرفة الإنسانية بكيفية أخرى»[1].

وبذلك يخلص الشهيد المطهري إلى أن هناك معاني موجودةً

(99)

دائمًا في الذهن، لا يمكن أن تتم أي عملية تفكير بدونها، تدلّ على أشياء ليس لها نحوٌ من الاستقلال أو الوجود إلا من خلال المعاني التي ارتبطت بها، على الرغم من أن الشهيد مطهري يعتبر الذهن خاليًا محضًا قبل مرحلة الإدراك، وبلك يقدّم الشهيد مطهري رأيًا جديدًا في نظرية المعرفة، يعتمد على مجموعةٍ من المفاهيم الأساسية في الفلسفة، كالمعقولات الأولية والثانية المنطقية والفلسفية، وكذلك الوجود الاسمي والحرفي، على الرغم من أنه يعطي للمعرفة الإلهامية مكانةً أكبر من المعرفة البرهانية التي تُكتسب بالقياس، فهو يعتبر أن لهذه المعرفة أهميةً كبيرةً في الاكتشافات والعلوم الإسلامية، والتي تتّضح من خلالها حركة الذهن في المعقولات، وهو تصوّرٌ يوضح مطهري أنه قريب مما يعترف به العلم الحديث، حيث أطلقوا عليه كونه إلهامًا، في حين يسمّيه القدماء بالحدس، فهو يخطر كالبرق، وكان يستدلّ على ذلك بقوله تعالى في سورة النور/35: (اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّـهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وهي حالة لا تشمل الأذهان العادية، بل تشمل الأذهان المستعدة، والتي لها قابلية الاكتشاف، والتي من خلالها يمكن استنتاج الذهن لمفهوم التعميم.

ويبيّن الشهيد مطهري أن أول مرحلة يكوّنها الذهن هي النظرية أو الفرضية التي يكوّنها من الخارج عن طريق الاستقراء وفحص

(100)

الجزئيات، ويفحصها ليكوّن منها مفهومًا ذهنيًا يعيده مرّةً أخرى إلى الخارج لاختباره، وبذلك يُصدر عنه حكمًا تعميميًا كليًا، وبهذه الطريقة يشكّل نقدًا لنظرية كانت الذي اعتقد بوجود معلومات فطريةٍ سابقةٍ في الذهن، في حين أن الذهن خالٍ محض وغير موجود فيه أي معلومة ويعتمد في سعته على كثرة موضوعاته، وينقد كذلك هيجل الذي محا الاختلاف بين الذهن والخارج، معتبرًا أن التجربة ليست مصدرًا من مصادر القياس، وإنما تعتمد على القياس اعتمادًا كليًا، وأن ليست كلّ الإلهامات قابلةً للتفسير، بل إن بعضها يمكن أن يفسَّر من خلال الأدلة والبراهين العقلية لتأييده: «على أية حال، فإن النظرية والإلهام من المسائل الجديرة بالتأمل والتفكير، أليست هذه علامةً على أن الإنسان يتلقّى الهداية من الخارج؟ أليست هذه اللمعات والإلهامات علاماتٍ لكي يسلك الإنسان الطريق الصحيح؟»[1].

وبذلك تكون حركة الذهن عبارةً عن عملية استنباطٍ، يوصّفها الشهيد مطهري بأنها نظريةٌ أو حركةٌ عميقةٌ للذهن تعمل على صياغة النظريات والتعميمات، مثل المعلومات التي نستنبطها من الخارج، إذ يعتقد أنها من المعقولات الأولية في حين أنها معقولاتٌ فلسفيةٌ منتزعةٌ منها([2]).

ويتمكن الذهن للحركة والانتقال بعمق من الظاهر والنفوذ إلى باطن الأشياء، وهي ما يصطلح عليها الشهيد المطهري بالمعرفة

(101)

التصديقية التي يستطيع من خلالها إدراك ما وراء الطبيعة عن طريق ـ المعقولات الفلسفية[1].

إذًا قدّم الشهيد مطهري نظريةً في التفسير للمعرفة تعتمد على المعقولات وأقسامها استنادًا إلى مدرسة الحكمة المتعالية والفلسفة الإسلامية.

محمد تقي مصباح اليزدي (1935 ـ معاصر):

إذا كان الفلاسفة السابقون أمثال صدر الدين الشيرازي والطباطبائي بنوا الاستدلال الفلسفي لديهم على محور التصديق كما تقدّم عند كليهما، نجد أن هذه النظرية معكوسةٌ حاضرةٌ في فكر الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، فبعد شرحه مفهوم العلم، وجعله مفهومًا واسعًا يشمل أو يساوي المعرفة بمداها الطولي والعرضي، ليشمل العلم الحضوري والحصولي، وعلوم الوحي والإلهام يجعل من التصور الأساس في علم المعرفة، فهو يقسّمه إلى تصوّرٍ جزئيٍ وتصوّرٍ كليٍ.

أما ما يُقصد بالتصور الجزئي، فهو التصور البسيط الذي لا يحتاج إلى موضوع ومحمول، ولا نسبة بينهما، ولا حكم أيضًا، فهو عبارة عن: «تلك الصورة الذهنية التي تعكس موجودًا واحدًا مثل الصورة الذهنية»[2]، في حين أن التصور الكلي الذي تطرّق إليه هو المفهوم

(102)

الذي يجمع تحته مفاهيم أو تصوراتٍ ذهنيةً لأشخاص متعددين، يطلق عليهم وصفٌ واحدٌ يُعرف بالكلي، كمفهوم الإنسان، الذي يعبّر عن مصاديق لملايين الأفراد من الإنسان، كسقراط وأفلاطون وأرسطو...[1].

والتصور البسيط الذي يقصده اليزدي، يقسّمه إلى أقسامٍ ثلاثة:

تصوّرٌ حسّي: وهو ما يحصل من صور ذهنية في الذهن، من خلال أعضاء الحس مع الواقع الخارجي، وهي متوقفةٌ على الاتصال بالخارج، فمتى ما قُطع الاتصال، انقطع العلم بها، مثلًا: نحن نشاهد بالحس (البصر) الشمس في رابعة النهار، لكن ما أن تختفي، ينقطع الاتصال الحسي بها، أو نسمع صوت هدير الحمام، لكن متى ابتعدنا عن الحمام ينقطع الصوت... وهكذا.

تصوّرٌ خيالي: بعد أن تستقرّ الصورة الذهنية من خلال التصور الحسي في الذهن، وينقطع عنها مصدر الاتصال يتمكن ذهن الإنسان من استعادة هذه الصورة كمشاهدة «صورة الشمس»، لكن عن طريق قوّة المخيلة، وهي صورة نستطيع إرجاعها وإعادتها ولو بعد سنين طويلة.

تصوّرٌ وهمي: وهو ما يمكن أن يؤلَّف من الصور الحسية أو الخيالية، ينشأ مثلًا تصوّرٌ عن «دب من حديد»، أو عن طائرٍ ذو أربعة أرجل... وهكذا، وإن ذكر اليزدي هنا معاني الحب والبغض والعداوة، لكن ليس بمعناها الكلي، وإنما بمعناها الفردي، كإدراك فردٍ لكراهة فردٍ آخر[2].

(103)

وكل ما تقدّم قصد به اليزدي تصورًا جزئيًا، أما التصور الكلي فهو ليس سوى الإدراكات للمفاهيم العقلية أو المعقولات التي تشكّل محور دراستنا الفلسفية في بحث الاسمية من ناحية قبولها أو رفضها، فما هي المفاهيم الكلية؟

وبعد أن يناقش اليزدي العديد من النظريات الباحثة عن «الوجود العقلي» أو «المفهوم الكلي»، والنظريات التي قالت به مؤيدةً له أو معارضةً كالاسمية، نجده يدافع عن الموجودات الكلية بعد أن يفرّق بين مفهومين منطقيَّين هما مفهوم المشترك اللفظي ومفهوم المشترك المعنوي، وبالنظر إلى المشترك اللفظي ـ الاسمي ـ والمشترك المعنوي، يفرّق اليزدي بين المفاهيم الاسمية والمفهوم الكلي، المشترك اللفظي هو اللفظ الموضوع عدّة مراتٍ لعدّة معانٍ، كلفظ العين، لكن المشترك المعنوي هو اللفظ الموضوع مرّةً واحدةً، لكنّه يدل على جهةٍ مشتركةٍ بين أمورٍ متعددة، وهو بهذا يقبل الانطباق عليها جميعًا، ومن خلال تمييزه بين المشترك اللفظي والمعنوي، يعالج اليزدي مسألة الكلية ووجودها، فالمشترك اللفظي يحتاج إلى أوضاعٍ متعدّدة، في حين أن المشترك المعنوي لا يحتاج إلى أي وضعٍ، وهو بذلك يصدق على ما لا نهاية له من الأفراد والمصاديق، ويبقى هذا الانطباق ذو معنًى واحد لا يحتاج إلى قرينة، وهو بذلك يخالف المشترك اللفظي الذي يصدق على معانٍ متعدّدةٍ، يكون لكل منها معنًى مختلف، فزيد وعمرو وخالد، كل منها مشتركٌ لفظي ينطبق على معنًى خاصٍ به، كل مفهومٍ منها ينطبق عليه مفهوم الإنسان، مفهوم الإنسان مشترك معنويٌ بينها

(104)

جميعًا ينطبق عليها، وكون الإنسان مشتركًا معنويًا لا يمكن أن يكون محدودًا من حيث عدد المصاديق، ويبقى قابلًا للصدق على مفاهيم معيّنة، فتكون النتيجة: «أن الألفاظ الكلية هي من قبيل المشتركات المعنوية لا من قبيل المشتركات اللفظية»[1]، وأنها ليس لها أوضاعٌ نهائية، لأن أي شخصٍ لا يستطيع أن يتصوّر مفاهيمَ لا نهائيةً لأفرادٍ لا نهائيةٍ[2].

وهو يقسّم هذه المفاهيم الكلية إلى ثلاثة أقسام وفق اتصافها وحملها على موضوعاتها، فإن كانت هذه المفاهيم تُحمل على مفاهيمٍ عينيةٍ خارجيةٍ يُطلق عليها المفهوم الكلي ـ الكلية الأولية أو المعقولات الأولية ـ وإن كان تصور هذه المفاهيم بشكل ذهني تسمى المفاهيم بالمفاهيم الثانية المنطقية، وإذا تمت مقارنة الفئة الأولى ـ المعقولات الأولية ـ بعضها مع البعض، مثل مقارنة مفهوم الحرارة بمفهوم النار، تنشأ مفاهيم كليةٌ جديدةٌ يُطلق عليها المفاهيم الثانية الفلسفية، ويفرّق بينها كالتالي:

المعقولات الأولى: عروضها خارجي واتصافها خارجي.

المعقولات الثانية المنطقية: عروضها ذهني واتصافها ذهني.

المعقولات الثانية الفلسفية: عروضها ذهني واتصافها خارجي.

وميزة المعقولات الثانية الفلسفية أنها لا تحصل من دون قيام الإنسان بمجموعةٍ من المقارنات والتحليلات العقلية، ويُطلق عليها

(105)

في بعض الأحيان عنوان «ليس لها ما بإزاء في الخارج»، والميزة الأخرى لهذه المفاهيم الفلسفية لا يوجد إلى جانبها تصوراتٌ ومفاهيم جزئية، ومثال ذلك أنه لا يوجد مفهومٌ جزئي للعلية أو الإمكان أو الضرورة[1].

ويبيّن اليزدي معيارًا للكشف عن الحقيقة انطلاقًا من العلوم الحصولية التي يعتبرها جزءًا من المعرفة تساوي العلم، يعد الكشف عن الحقيقة بمعنى مطابقتها للواقع الخارجي والكاشفة عنه، كون التصديق هو الجزء الثاني في معرفة القضايا من ناحية صدقها أو كذبها، وانطلاقًا من الإشكال الاساسي الذي يدفعه اليزدي، وهو كيفية تكوين العلم الحصولي كاشفًا عن الواقع، ولحل هذه المسألة يعتمد على مفهوم «الإدراك»، فهو يعتقد أن العلم الحضوري هو ما يعطي قوةً للعلم الحصولي للكشف عن الواقع، فمثلًا القضية الحاكمة بأن مفهوم الإنسان مفهومٌ كلي، فمفهوم الإنسان مفهومٌ حاضر لدى الذهن ومدرَكٌ من خلال صورته الحضورية، بحيث يكون هذا المفهوم ـ الإنسان ـ منطبقًا على كثيرين من الأشخاص الموجودين في الخارج، وملاك المطابقة بين الخارج والعلم الحصولي بصورته الذهنية إنما يكون من خلال الكشف عن العلاقة القائمة بين «مفهومين مستقلَّين» بالكيف النفساني، كالارتباط بين ضوء النهار وطلوع الشمس، تثبت من خلال قانون العلية (العلة والمعلول)، وهي من المفاهيم الثانية الفلسفية، أو الارتباط بينهما، وهي معاني حاضرة لدى النفس بالعلم الحضوري[2].

(106)

وهكذا يثبت، واعتمادًا على التصور والتصديق والمشترك المعنوي واللفظي وقسمة المفاهيم إلى أولية وثانية منطقية وفلسفية، وحصول الإدراك ومطابقته للواقع، رفض المثالية الاسمية التي أكّدت على أن الأشياء لا توجد إلا في عملية الوعي في الذهن ولا يوجد شيء في الخارج.

الشهيد محمد باقر الصدر (1935-1980):

وانطلاقًا من الإدراك البشري القائم بين التصور والتصديق، يرى الشهيد الصدر أن الإدراك لا يمكن حصوله إلا من طريقين: تصورٍ وتصديق، لكن لا توجد قيمةٌ موضوعيةٌ للتصور، وهو وجود الشيء في الذهن، ومع هذا الإدراك، لكنه لا يبرهن على وجود الشيء في الواقع، وتقع البرهنة على وجود الشيء في الخارج عن طريق التصديق، لأننا بالتصديق والحكم نحكم على وجود الواقع الخارجي، ونعتمد بعد ذلك على المعارف أو الأصول الأساسية في إثباتها وبداهة وجودها، كمبدأ عدم التناقض، ومبدأ العلية. ويرى الصدر أن هذه المبادئ كلما طُبّقَت وبشكل أدق، كلما جعلت من الممكن قيام المعرفة بشكلٍ أدق أيضًا، وأن الصدق أو مدى التطابق بين الواقع الخارجي المكتسب عن طريق التصديق، والمعتمد على المبادئ الأساسية، مع الصورة الذهنية المتحصّلة بالتصور؛ وبهذه المعرفة الأساسية أو الضرورية ينقض الصدر أسس المعرفة التي اعتمدها باركلي وجعلها أساسًا لكل معرفة وهو الحس، ويقوم هذا النقد على أن الصدر وعى أن باركلي لم يكن يميّز بين وجود

(107)

الإحساسات وبين الإدراكات الذهنية ووجود واقع موضوعي يختلف عن المدركات الذهنية، وأن المثالية التي أدركها باركلي هي ليست سوى «مثالية ذاتية» تنكر وجود الأشخاص، وتنكر وجود الطبيعة على السواء، لأن مصدر المعرفة هو الإحساس عند باركلي ـ الإحساس الفردي الشخصي[1].

فبعد أن يعدّد السيد الصدر المذاهب الفكرية المنتشرة في أرض المعمورة، ومدى وجودها وتواجدها في ساحة الصراع، نجده يُخرج المذهب الإسلامي من الوجود الواقعي ـ بمعنى الحكم والإدارة ـ كونه عقيدةً في نفوس المسلمين، فكرةً في ذهن الأمة الإسلامية، وأملًا منشودًا يسعى المسلمون إلى تحقيقه، بعد أن كان مثالًا في قيادة الأمة في فترة من فتراتها، يوم تجلّى الإسلام واضحًا عريضًا بقياداته المبدئية التي خلت منها في الأزمنة الأخيرة من التجربة اعلاه، وبهذا فالصدر يصف الإسلام بوصفه نظامًا اجتماعيًا، إنه لم يبقَ إلا فكرة، وإن وجوده فكريٌ خالص، كما أن النظام الشيوعي فكريٌ خالصٌ أيضًا، لم يجد له مساحةً واسعةً أو حتى ضيّقةً لتطبيقه، لتصادم أولياته ومبادئه مع مشاكل اقتصادية واجتماعية، فاستعيض عنه بالاشتراكية الماركسية كمرحلةٍ متقدّمةٍ لتطبيقه، وبذلك أصبحت الاشتراكية الماركسية والديمقراطية الرأسمالية الأمريكية أكبر قوّتَين حقيقيتَين ذاتا تأثير اجتماعيٍ كبير، يتقاسم المساحة البشرية دورًا وصراعًا ونفوذًا[2].

ولأجل ذلك قدّم السيد الصدر محاولةً فلسفيةً لحل مشكلة

(108)

العالم والمجتمع والإنسان، مبنيّةٍ على نظريته في المعرفة، منطلقًا من مقولتَي «التصور الساذج» و«التصديق»، كأداةٍ حقيقيةٍ للتمييز بين المدركات التي تقبل الحكم أو ترفضه[1].

إن المصدر الأساسي للمعرفة عند السيد الصدر هو التصور والإدراكات البسيطة، وإن اختلفت النظريات الفلسفية عند الفلاسفة في تفسير هذه الإدراكات، فكانت نظرية الاستذكار عند أفلاطون، باعتبار أن هذه المعاني كانت في عوالم مفارقةٍ، ولمّا خُلقت النفس وارتبطت بالجسد، تحصل المعرفة بهذه المعاني البسيطة عن طريق التذكير أو الاستذكار، فالنفس هنا موجودةٌ قبل وجود البدن، هذا أولًا، وثانيًا إن الإدراك الفعلي هو عبارة عن إدراك حقائق ثابتةٍ مجرّدةٍ في عالمها المفارق الأول[2]، أو وفق نظرية المعرفة الأرسطية المتقدّم ذكرها، فالإنسان يدرك الأشياء الجزئية، يُكوّن منها موجودًا كليًا وفق الكليات الخمسة يُعبّر عنها بالكليات، ثم يستطرد السيد الصدر إلى مجموعةٍ من النظريات الفكرية العقلية، التي يوضح فيها نظريتَي ديكارت وكانت في المعرفة، إذ إن ديكارت جعل للمعرفة مرحلتَين: الأولى: مرحلة الإحساس كالحرارة والنور والصوت... والثانية: هي الفطرة، وهي عبارةٌ عن مجموعةٍ من الأفكار الموجودة في الفطرة الإنسانية، وهي معاني «الله، النفس، الامتداد والحركة» والتي توصف بالتمييز والوضوح[3].

وإذا كانت النظرية الفطرية التي قال بها ديكارت فقدت قيمتها

(109)

نتيجةً للرؤية الحسية التي جاء بها جون لوك، واعتقد أن فكرة الفطرية فكرةٌ غير موفّقةٍ، وإن المعرفة تعتمد على الحس، وهو الرأي الذي استحسنه «الشيوعيون» على حد رأي السيد الصدر، فإن السيد الصدر قدّم نقدًا للنظرية المعرفية الحسية بعدم قدرتها على الإجابة على مجموعةٍ من المعاني والمعقولات الموجودة أساسًا في الذهن، كمفهوم العلة والمعلول، والجوهر والعرض، والإمكان والوجوب، والوحدة والكثرة، والوجود والعدم، وانطلاقًا لتوضيح هذا المعنى يرى السيد الصدر أن الحسي لا يُدرك مفهوم العلة والمعلول إلا فهمًا منفصلًا، ومستقلًا عن بعضهما البعض، لأن الحسي لا يُدرك إلا عملية سقوط القلم من على المنضدة حال سحب الغطاء عنها، فهو ـ الحسي ـ يدرك سحب الغطاء عن المنضدة، ويدرك سقوط القلم فقط، من دون أن يدرك حقيقة العلاقة بين الطرفين ـ العلة والمعلول ـ فالحس بمفرده غير قادرٍ على اكتشاف هذه المفاهيم.

ويرى السيد الصدر أن «هيوم» وهو أحد كبار الحسّيين توصّل أيضًا إلى هذا المعنى، من أن الحس لا يدرك مثل هذه المفاهيم، كمفهوم العلية بمعناه الدقيق، لذلك أنكر هذا المعنى وقال بنظرية «تداعي المعاني»[1].

ومع النقد الذي يقدّمه السيد الصدر للمدارس الغربية في تصوّرها ظاهرة العلية، يعتقد أن نظرية «الانتزاع» التي قال بها الفلاسفة المسلمون هي النظرية الأصدق، والتي من خلالها يتم انتزاع مفهومٍ مثل مفهوم العلية، وذلك من خلال إحساسنا بالعلاقة بين ظاهرة

(110)

مصدر الحرارة وغليان الماء المحسوسين، فينشأ هذا المفهوم[1].

ويؤكد السيد الصدر، ردًا على النقد الموجه للمذهب العقلي الذي يتبناه، أن المعلومات الأولية ـ البديهية ـ موجودة في الذهن، لكن وجودها ليس منذ اللحظة الأولى لوجود الإنسان، كونها نتاج مجموعةٍ من المحسوسات التي تحصل عنده عن طريق الحس، ومنها يكون مبادئ معيّنة مثل العلية (العلة والمعلول)، فالإنسان مثلًا يتصوّر قانون التناقض، وأن الشيئين المتناقضين لا يمكن أن يوجدا معًا، فهو لا بد أن يحصل على مفهوم الوجود ومفهوم العدم ليعرف ويستنبط منهما مفهومًا عقليًا كمفهوم التناقض[2]، وهذا الإدراك ـ الانتزاع ـ إنما يحصل من خلال التصديق أو المعرفة التصديقية التي تشكّل «الحكم» الذي يعتبر الوصل بيننا وبين العالم الخارجي[3].

ونلاحظ أن السيد الصدر لا يعتمد على التصور في تكوين المعرفة أو استحصالها، لأن التصور ليس إلا إدراكًا ـ بمعنى وجود الشيء في مداركنا ـ وهو بحد ذاته لا يبرهن على وجود الشيء بطريقةٍ موضوعيةٍ خارج الإدراك، وإن الذي يملك تلك الخاصية الموضوعية ويبرهن على وجود الشيء المُدرَك خارج العقل ـ المُدرِك ـ إنما هو التصديق الكاشف عن وجود الواقع الموضوعي للتصور[4].

ويؤكد السيد هنا مسألةً أساسيةً، وهي أن المبادئ التصورية لا يمكن الكشف عن واقعيتها إلا بواسطة التصديق، وأن عملية التصديق

(111)

ذاتها تقوم على بعض المبادئ الضرورية المُسلّمة، الموجودة في الذهن الإنساني، والتي يتوقّف عليها التصديق والحكم بالمفاهيم والموجودات الميتافيزيقية والطبيعية، مثل مبدأ عدم التناقض، أو مبدأ العلية، وأن لكل شيءٍ سببًا، وإذا كانت هذه المعرفة التصديقية التي يوليها السيد الصدر الأهمية الكبرى في نظريته للمعرفة تعتمد على المبادئ الضرورية المتقدمة، فكيف يمكن لهذه المعرفة أن تحقق التطابق بين الصورة الذهنية وبين الواقع الموضوعي الذي نصدّق به؟

ولكي يجيب السيد الصدر على ذلك، فهو يعتقد بالوحدة بين الصورة الذهنية الموجودة في الذهن، والمعبّرة عن الشيء الموضوعي الخارجي، ولكن الفرق بين الشيئين في هذه الوحدة، أن الشيء الخارجي الموجود في الواقع يمتلك مجموعةً من الخصائص التي تجعل له ألوانًا من الفعالية والنشاط، لكن هذه الفعالية وهذا النشاط تفقد صلاحيتها وقدرتها الخارجية عندما يعبَّر عنها بصورة ذهنية: «فالفكرة موضوعيةٌ باعتبار تمثُّل الشيء فيها لدى الذهن، لكن الشيء الذي يمثل لدى الذهن في تلك الصورة يفقد كل فعالية ونشاط مما كان يتمتع به في المجال الخارجي، بسبب التصرف الذاتي، وهذا الفارق بين الفكرة والواقع هو في اللغة الفلسفية الفارق بين الماهية والوجود»[1].

وبخاتمة هذا البحث يتم التعرّف على مفهومي الاسمية، وسبب منشأها، واتجاهَيها القديم والحديث، واهم الشخصيات البارزة فيها، وما ألقت من ظلالها على الأنساق الفلسفية والنظريات المعرفية، وبيان الاتجاه النقدي لها والمتمثل بالواقعية.

(112)

النتائج

أنكرت الاسمية وجود الكليات في الذهن وفي الواقع، وهو ما يعكس اهتمامها الأول بالألفاظ، على اعتبار أن الألفاظ «موضوع تفكير»، وتجعل من اللفظ مطابقًا للاشياء الجزئية فقط، وينصرف هذا الرأي إلى المعنى أيضًا، فالمعنى لا ينظر إلى الكلي، ولكن ينظر إلى الجزئي المحدود المتكثّر، معتبرةً أن الكلي حدٌّ عامٌّ تُصنَّف على أساسه الأشياء، وكما يظهر جليًّا واضحًا في اسمية أورسلان وأبيلار وأوكام، ويظهر بشكل أكثر وضوحًا عند باركلي، الذي نفى الشيء الجزئي كوجود واقعي، وأكّد على وجودٍ «في عقلي» لا يمثّل إلّا شيئًا جزئيًا.

الحقيقة لا توجد إلا حين يخبرنا بها العقل، وهذا ما عبّر عنه بارمنيدس في قصائده، وهو قولٌ قد يوحي بشيءٍ ما إلى نظريةِ معرفةٍ عقليةٍ قادت أفلاطون إلى الإفصاح عن مسألة وجود الأشياء عند السابقين عليه، هل أن هذا الوجود وجودٌ لفظيٌ أم أنه وجودٌ شيئيٌّ، لكن نظرية المثل التي قدّمها أفلاطون فصّلت القول في هذه المسألة وأوضحت بما لا غبار عليه رأي أفلاطون في أنه لا ينكر الواقع ولا يقول بالوجود اللفظي فقط، وأنه يحدّد العلاقة بين الوحدة والكثرة وبين العالم الذهني والواقعي، بين المثال (فئة أو جنس) وبين الأشياء المنطوية تحته والموجودة في الخارج، من خلال اهتمام الفيلسوف بأهمية قيام معرفةٍ عقليةٍ هي الغاية التي يبحث عنها الفيلسوف للحصول على المثل، والمعرفة لا تقوم على

(113)

الظن الذي هو وسيلةٌ لإدراك الأشياء الخارجية، غاية الفيلسوف هي إدراك المثال الموجود وجودًا عقليًا مفارقًا لعالم الحس نحصل عليه من خلال عملية التعريف التي ساقها ليبقى المثال مثالًا للوحدة والثبات والأشياء مثارًا للصيرورة والتغيّر.

وإذا كان لأفلاطون هذا الرأي الواضح الذي جمع فيه بين وحدة الأشياء ومُثُلها، وبين معرفتها، وأهمها مثال الخير، بحيث لا تتعدّى «القسمة» قسمةَ وجودِ الأشياء إلى أفراد الفئة أو المثال باعتبار أن التعريف لديه يقوم على نظرية القسمة، قسمة الواحد إلى أجزائه المتكثّرة.

وإن كان لأفلاطون هذا الرأي الواضح، فإن أرسطو له رأيٌ قريبٌ منه، لكنه لا يؤمن بالمثل الأفلاطونية، ليجعل بدل المثل نظرية المادة والصورة، فالمادة هي القابلة للتكثُّر، والصورة هي المحدّدة لهذا التكثُّر، كونها أكثر أهميةً واحترافًا من المادة، واعتمد أرسطو على «الموضوع والمحمول»، والتي تمثّل قسمة الموجودات ـ الأشياء، وفرّق الألفاظ كتركيب لغوي إلى المقولات العشرة، أخذ الجوهر منها مكان الموضوع، واتخذت التسعة منها مكان المحمول ـ الصفات، حالّاتٍ فيه، وإذا أردنا تمييزها فيما بينها اعتمدنا على نظريته في التعريف القائمة على الكليات الخمسة.

للاسمية دوران، دورٌ مثّله أورسلان وأبيلار، ويعتبَر أورسلان أول من أطلق اسم الاسمية في الفلسفة موجهًا نقدًا للمثل الأفلاطونية، معتمدًا بنقده على نقد أرسطو لأفلاطون، وعلى بويس، وأكد أن المقولات الأرسطية ما هي إلا ألفاظٌ وليست أشياءً، وإنها تتميز من

(114)

خلال الجنس والنوع، وهذا التمييز تمييزٌ لغويٌ وليس تمييزًا فعليًا، فالكلية صوتٌ ولفظٌ فقط، واعتمدت اسمية أبيلار على الألفاظ أيضًا ودلالتها القصدية، فنحن نعرف الأشياء عندما نقصد بها إلى المعرفة، وقد عارض أبيلار اسمية روسلان برفضه أن يكون للأنواع والأجناس مقابلًا لها في الخارج، وإن الوجود الحقيقي هو الوجود الشيئي الجزئي المفرد.

والاسمية الجديدة التي ظهرت في القرن الرابع عشر الهجري، والتي دعا إليها أوكام أمير الاسمية أكّدت أن الوجود الحقيقي هو وجود الأسماء الفردية فقط، والتي مكانها العقل ـ وليس خارج العقل، مستفيدًا في نظريته بالتفرقة بين المفهوم الكلي وبين الأشياء المفردة، مما استفاده من مدرسة الفرنسيسكان، بعد أن أخضع وجود الأشياء إلى كلماتٍ وعباراتٍ تعبّر عن ما هو موجود، على أن ما هو موجودٌ هو موجودٌ ذهني فقط، يعبَّر عنه باللفظ، واعتمد أوكام في بنائه الفلسفي على ما قدّمه بورسان الذي أكّد أن الوجود للفرد وليس للنوع، وكذلك على قصدية وتشابه أوريول ليعكس ذلك على نظريته في أن معرفة الأشياء إنما تكون عن طريق التصور، وليس إدراكًا للشيء بذاته، مستخدمًا حجج أرسطو في الرد على المُثُل الأفلاطونية.

اتّخذت الاسمية صبغةً جديدةً فيما عرضه باركلي لتأخذ اسميةً مثاليةً أنكرت الوجود الواقعي للأشياء، وافترقت عن اسمية لوك الذي أقام نظريته في المعرفة على أساس الأشياء الخارجية المدركة بالحس، وأن المدرك بالحس هو ما يطلق عليه بالاسم، ومن باركلي نشأت مشكلة العالم الخارجي بصورةٍ أكثر بروزًا مما كانت عليه،

(115)

ونستطيع القول إن مسألة الاسمية فكرةٌ جوهريةٌ يعتمد عليها بشكل كبير وخاصةً من خلال علاقتها بنظرية المعرفة والميتافيزيقا والمنطق.

يعتبر الاتجاه الواقعي هو الاتجاه الرافض للمثالية، ولا سيما المثالية المحضة التي دعا إليها باركلي، والاتجاه الواقعي هو الاتجاه الذي اتّبع أرسطو، وقال بالكليات، وإن المعرفة عندهم لا تقوم إلا من خلال إدراك الواقع وإثبات أصل هذا الواقع، فكانت الواقعية ذات اتجاهٍ عقلي، والمثالية الاسمية ذات اتجاهٍ تجريبي تعتمد في معرفتها على الحس، ونجد أن نقد الاسمية أخذت دورًا كبيرًا خاصةً عند العلّامة ومدرسته الفلسفية، وقد أكد الشيرازي على أن الشيء الموجود هو ذاته الواقع الخارجي عبّر عنه الكلي الطبيعي، والكلي يدرَك عند الشيرازي بمرتبتين، الأولى بوصفه ينطبق على كثيرين، والثاني بوصفه مشاهدةً حضوريةً للمجردات النورانية، لأن العلم عند الشيرازي لا يحصل إلا بالمشاهدة، وأن للشيء الواحد وجودين، واقعيٌ وذهنيٌ مطابق للوجود الواقعي، وبذلك أنكر نظريات الاسمية من أن الشيء هو العقلي المعبّر عنه باللفظ، واستخدم الشيرازي مجموعةً من المفاهيم لتدعيم نظريته من مفاهيم العلم بأقسامه، والتصور والتصديق، وأن إدراك الموجودات إنما يكون عن طريق النفس من خلال إثباته لإدراك النفس من جهة المعلوم والعالم والعلم، وما يحصل من هذه الصور الإدراكية كنتيجةٍ هو الوجود، وقد أكّد الطباطبائي ما أقرّه الشيرازي من خلال إثبات الواقعية بمبدأ عدم التناقض ومبدأ الهوية، مفرّقًا بين العلم بالكليات الذي يأتي عن طريق العقل، وبين إدراك الجزئيات الذي يتم عن طريق الحس، وبذلك تبطل الاسمية التي تعتمد على الموجود الاسمي فقط.

(116)

وإن الاهتمام بمسألة المعرفة هي من قسّم الاتجاهات الفكرية إلى قطعيّين وشكيّين وسفسطائيّين وإلى مذاهب حسية وعقلية كما يؤكد الطباطبائي ذلك، وكان لنظريته في الانتزاع دورٌ كبيرٌ لدراسة الاختلاف بين المدارس الحسية والعقلية، التي اعتمد فيها على مفهوم التصور والتصديق، وإن كل علمٍ حصوليٍ في فلسفته لا بد وأن يكون مسبوقًا بعلمٍ حصولي، وإن ما توصّل إليه العلّامة لحصول العلم نظريةٌ فريدةٌ لم يسبقه إليها غيره، وهي صيرورة العلم الحصولي علمًا حضوريًا، ليعالج بذلك مفهوم الوحدة والكثرة، وإلى قريبٍ مما ذهب إليه العلّامة ذهب الشهيد مطهري، معتمدًا في نظريّته على البرهان الإني واللمي، ليدرك التطابق بين العالم الخارجي الواقع وبين الموجودات العقلية، عن طريق نظرية المعرفة، ونقد المثالية الغربية، التي أنكرت الموجود الواقعي عن طريق توضيحه للمعقولات الثانية والأولية.

اعتمد مصباح اليزدي والشهيد محمد باقر الصدر ذات المبنى الفلسفي، لكن السيد الصدر انطلق في إنكاره المثالية من رؤيته في التصور والتصديق، في حين اعتمد مصباح على تعريفه لشمولية العلم.

إن ما قدّمته الفلسفة الإسلامية المعاصرة لنقد ما أظهرته المثالية والاسمية يوضح مدى الغنى الأداتيّ في تكوين معرفةٍ نقديةٍ وربطها بالنظريات المعرفية والمنطقية والميتافيزيقة، وهو ردٌّ حاسمٌ له صداه في عالم الفلسفة.

(117)

المصادر والمراجع

برتراند رسل، حكمة الغرب، ترجمة: فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت، الطبعة الثانية، 2009.

فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، ترجمة، إمام عبد الفتاح إمام، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، مصر ـ القاهرة، الطبعة الأولى، 2002، المجلد الأول.

أ. م. بوشنسكي، الفسلفة المعاصرة في أوروبا، ترجمة: عزت قرني، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، بدون طبعة، 1992.

أفلاطون، محاورات أفلاطون، محاورة بارمنيدس، ترجمة وتقديم: شوقي داوود تمراز، الأهلية، بيروت ـ لبنان، بدون ط، 1995.

أفلاطون، محاورات أفلاطون، محاورة ثيتاثيوس، ترجمة وتقديم: شوقي داوود تمراز، الأهلية، بيروت ـ لبنان، بدون ط، 1995.

أفلاطون، محاورات أفلاطون، محاورة طيماوس، ترجمة وتقديم: شوقي داوود تمراز، الأهلية، بيروت ـ لبنان، بدون ط، 1995، ج 5.

إميل بريهية، تاريخ الفلسفة: العصر الوسيط والنهضة، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1988، ج 3.

أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت ـباريس.

برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة: زكي نجيب محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، بدون طبعة، 2010، الكتاب الثاني.

برتراند راسل، مشكلات الفلسفة، ترجمة خالد الغنامي، الانتشار العربي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 2017.

تد هو تدرتش، دليل أكسفورد الفلسفي، ترجمة: نجيب الحصادي، الجماهيرية العربية الليبية، من دون طبعة ولا تاريخ.

جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت ـ لبنان،

(118)

بدون طبعة، 1982.

حسن الراضي، نظرية المعرفة على ضوء كتاب فلسفتنا، دار المحجة البيضاء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 2011.

حسن معلمي، إطلالة على نظرية المعرفة في الفلسفة الإسلامية، ترجمة: منصف حامدي، دار الولاء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 2014.

صدر الدين الشيرازي، رسالتان في التصور والتصديق، تحقيق مهدي شريعتي، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 2004.

صدر الدين الشيرازي، تحرير الأسفار، علي الشيرواني، توحيد، قم ـ ايران، الطبعة الأولى، 1427هـ.

عبد الرسول عبوديت، النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، ترجمة: علي الموسوي، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 2016.

فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام ومحمد سيد أحمد، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2013، المجلد الثالث.

فؤاد زكريا، نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان، دار الوفاء، الإسكندرية ـ مصر، الطبعة الأولى، 2005.

فؤاد كامل، جلال العشري وآخر، الموسوعة الفلسفية المختصرة، مراجعة: زكي نجيب محمود، دار القلم، بيروت ـ لبنان، بدون طبعة ولا تاريخ،

محمد باقر الصدر، فلسفتنا، دار التعارف، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية عشر، 1982.

محمد بن رضا اللواتي، كبريات المشكلات العقلية، دار المعارف الحكمية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 2016.

محمد تقي مصباح اليزدي، المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، ترجمة: محمد عبد المنعم الخاقاني، دار الكتب اللبناني، بيروت ـ لبنان، من دون طبعة، 2006.

 محمد توفيق الضوي، دراسات في الميتافيزيقيا، دار الثقافة العلمية، الإسكندرية ـ مصر، بلا طبعة ولا تاريخ.

(119)

محمد حسيين الطباطبائي، أسس الفلسفة والمنهج الواقعي، تحقيق: مرتضى مطهري، ترجمة: عمار أبو رغيف، المؤسسة العراقية للنشر والتوزيع، العراق، من دون طبعة ولا تاريخ.

مرتضى مطهري، دروس في الفلسفة الإسلامية ـ بحوث موسّعة في شرح المنظومة، ترجمة: د. عبد الجبار الرفاعي، كيميا، إيران، الطبعة الأولى، 1427هـ.

مصطفى النشار، نظرية المعرفة عند أرسطو، دار المعارف، مصر، الطبعة الثالثة، 1995.

مطهري، مرتضى، دروس فلسفية في شرح المنظومة، ترجمة الشيخ مالك مصطفى وهبي العاملي، دار الهادي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 2002.

هنس زند كولر، المثالية الألمانية، ترجمة أبو يعرب المرزوقي، الشبكة العربية للأبحاث، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 2012.

وولتر ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة ـ مصر، 1984.

وليم كلي رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة: محمود سيد أحمد، التنوير للطباعة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 2010.

يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، آفاق، القاهرة ـ مصر، الطبعة الأولى، 2017.

يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مراجعة: هلا رشيد أمون، دار القلم، بيروت ـ لبنان، بدون طبعة ولا تاريخ.

المصادر الأجنبية:

John Marenbon, Later Medieval Philosophy 1150-1350, Published in the Taylor & Francis e- Library, London ـ New york, 2002.

The Cambridge Dictionary of Philosophy, General Editor: Robert Audi, Cambridge University Press, Second Editor, 1999.

William Ockham, From Summa of Logic, by: Adam Wodeham.

(120)
المؤلف في سطور م.م.محمد عبد المهدي سلمان الحلو محمد عبد المهدي سلمان الحلو تولد النجف الأشرف1975 حاصل على البكالوريوس في الفلسفة سنة 1997/1998 من كلية الآداب/جامعة الكوفة حاصل على الماجستير في الفلسفة / المنطق عن الرسالة الموسومة القضايا وأحكامها في منطق ابن سينا-دراسة تحليلية مقارنة وقد اجيزت بدرجة الامتيازمن كلية الآداب جامعة الكوفة سنة 2015 طالبا للدكتوراه في نفس الكلية والجامعة حاليا باختصاص الفلسفة. يعمل مدرسا في المديرية العامة لتربية النجف الأشرف لتدريس مادة الفلسفة وعلم النفس. من بحوثه المنشورة: مفهوم الثقافة قراءة نقدية الفكر الغربي محمد تقي مصباح اليزدي انموذجا نشر ضمن سلسلة استيراجيات معرفية/نحن والغرب/الجزء الثاني والصادر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية /2017
هذا الكتاب الاسمية في التراث الغربي والنقد الواقعي الاسلامي في هذه الحلقة من سلسلة مصطلحات معاصرة مقاربة لمصطلح الاسمية في منشأها التاريخي ودلالاتها الاصطلاحية وتياراتها المختلفة في المدارس الغربية كما تتناول إبراز الشخصيات الفكرية التي ساهمت في تظهيرها في ميدان الفكر والفلسفة والعلوم الانسانية. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف