فهرس المحتويات

مقدمة المركز | 9

المقدمة | 11

الفصل الأول: | 13

البداية | 14

توماسو كامبانيلا (1568 ـ 1639) | 14

اليسار واليمين: نحو الفصل والتفكيك | 18

الفصل الثاني: | 21

الثورة الكبرى | 22

السلطة المهترئة | 23

بداية الثورة | 27

مجلس المؤسسين | 30

العالم على أعتاب الثورة الفرنسية | 31

الثورة بين الأخذ والرد | 33

الفصل الثالث: | 37

الليبراليّة | 38

الليبرالية التقليدية | 38

الثورة الصناعية | 41

الملكية الخاصة | 49

الفصل الرابع: | 51

بركان اليسار | 52

الفوضوية | 54

ماركس | 58

حكومة باريس | 70

الفصل الخامس: | 77

اتّساع رقعة الصراع | 78

روسيا وارثة اليسار | 81

الماركسية ما بعد كارل ماركس | 84

الماركسية الروسية | 90

الولايات المتحدة الأمريكية: رائدة اليمين | 95

جان مينارد كينز | 98

الفصل السادس: | 101

اليمين غير الليبرالي في القرن العشرين | 102

الحروب العالمية | 102

اليمين غير الليبرالي: التيار المحافظ والفاشية | 104

1 ـ التيار المحافظ | 105

2 ـ الفاشية | 112

الفصل السابع: | 115

انسلاخ اليسار من جلده | 116

عودة الرأسمالية إلى رشدها؟ | 125

مدرسة فرانكفورت | 127

الانتفاضة الطلابية لعام 1968م | 130

الفصل الثامن: | 133

نهاية الأيديولوجيا؟ | 134

الجذب والاندماج، نهاية اليسار بعد عام 1968م | 136

تجديد قوى اليمين: الليبرالية الحديثة | 138

انهيار الشيوعية | 145

الملحقات | 149

الملحق رقم (1) | 149

الديمقراطية ومناقشة اليسار واليمين | 149

الملحق رقم (2) | 155

سلسلة مصطلحات معاصرة 9 العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية اليمين واليسار رؤية أبستمولوجية نقدية المفهوم تأليف:محمد ملا عباسي سجاد صفار هرندي تعريب:حسن علي مطر
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها ،وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار ، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظكة الفكرية المختلفة. ثانيا:ازالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لاسيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ،ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الاخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية
(4)

الفهرس

 

 

مقدمة المركز9

المقدمة11

الفصل الأول:

البداية14

توماسو كامبانيلا (1568 ـ 1639)14

اليسار واليمين: نحو الفصل والتفكيك18

الفصل الثاني:

الثورة الكبرى22

السلطة المهترئة23

بداية الثورة27

مجلس المؤسسين30

العالم على أعتاب الثورة الفرنسية31

(5)

الفهرس

الثورة بين الأخذ والرد33

الفصل الثالث:

الليبراليّة38

الليبرالية التقليدية38

الثورة الصناعية41

الملكية الخاصة49

الفصل الرابع:

بركان اليسار52

الفوضوية54

ماركس58

حكومة باريس70

الفصل الخامس:

اتّساع رقعة الصراع78

روسيا وارثة اليسار81

الماركسية ما بعد كارل ماركس84

(6)

الفهرس

الماركسية الروسية90

الولايات المتحدة الأمريكية: رائدة اليمين95

جان مينارد كينز98

الفصل السادس:

اليمين غير الليبرالي في القرن العشرين102

الحروب العالمية102

اليمين غير الليبرالي: التيار المحافظ والفاشية104

1 ـ التيار المحافظ105

2 ـ الفاشية112

الفصل السابع:

انسلاخ اليسار من جلده116

عودة الرأسمالية إلى رشدها؟125

مدرسة فرانكفورت127

الانتفاضة الطلابية لعام 1968م130

(7)

الفهرس

 

 

الفصل الثامن:

نهاية الأيديولوجيا؟134

الجذب والاندماج، نهاية اليسار بعد عام 1968م136

تجديد قوى اليمين: الليبرالية الحديثة138

انهيار الشيوعية145

الملحقات149

الملحق رقم (1)149

الديمقراطية ومناقشة اليسار واليمين149

الملحق رقم (2)155

(8)

مقدمة المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية  يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف الى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً الى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحو التالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم  والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات

(9)

العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

 *      *       *

في هذه الحلقة من "سلسلة مصطلحات معاصرة" يتناول الباحثان الإيرانيان سجّاد صفّار هرندي ومحمد ملاّ عباسي مفهوم "اليمين واليسار" انطلاقاً من رؤية جديدة سعت إلى الإحاطة به من الجانبين النظري والتطبيقي.

لا شكّ بأن قراءة إجمالية لتاريخ هذا المصطلح سوف تبيّن لنا المساحة الكبرى لحضوره في عالم السياسة والفكر والاجتماع، غير أن الإضاءة عليه على النحو الذي عرضته هذه الدراسة يكتسب أهمية معرفيّة خاصّة. فقد بيّن الكاتب استناداً إلى التجارب التاريخية في الغرب والعالم الإسلامي، ناهيك عن رؤيته النقدية لتلك التجارب.

والله ولي التوفيق

(10)

المقدمة

تعتبر دراسة اليسار واليمين في تاريخ الفكر والعمل السياسي من السعة بحيث يبدو اختزالها في كتاب صغير يبتعد عن اجترار البديهات، أمراً في غاية التعقيد. وهذه هي الغاية التي نرمي إليها في هذا الكتاب. حيث سعينا إلى بيان الخصائص العامة لتاريخ اليسار واليمين في حقل المعرفة والفكر والعمل السياسي بأسلوب مبسّط. ومن هنا يمكن اعتباره مصدراً أولياً لعامة الراغبين في التعرّف على الأبحاث والأفكار السياسية. ولتسهيل قراءة النص على القارئ المحترم، استغنينا عن الإحالات الجزئية، واكتفينا بذكر الإحالات الهامّة ـ التي من شأنها أن تنفع القارئ في متابعة جذور البحث ـ في الهامش. يتعرض موضوع الكتاب لأفكار تيار اليسار واليمين، ويبدأ بالمرحلة التاريخية للثورة الإسلامية، ليمضي بعد ذلك قدماً على نحو تدريجي. وفي بعض الفصول تمّ التركيز على النقاش الفكري، بينما اشتملت الفصول الأخرى على الحجم الأكبر من التيارات التاريخية للنشاط السياسي. ولكن كان هناك ـ في المجموع ـ سعي إلى إقامة التوازن بين هذين الأمرين. ولا بد من التنويه إلى أن الإطار العام لهذا الكتاب عبارة عن التلفيق بين الأفكار الواردة في السلسلة الرائعة لـ "إريك هابزبازم" حول التاريخ في أربعة مجلّدات، والكتاب القيّم لـ "حسين بشيرية" بعنوان

(11)

(تاريخ انديشه هاي سياسي در قرن بيستم)[1]. بيد أن الفكرة الرئيسة لهذا الكتاب والنتيجة التي سينتهي إليها تختلف عن هذين الكتابين. وفيما يتعلق بالفكر السياسي، نواجه بعض المسائل الهامة التي لا يمكن إدراجها بيسر ضمن خانة اليسار أو اليمين، كما لم يسمح لنا حجم الكتاب بالدخول في التفاصيل. ومن بين أهم تلك المسائل هي مسألة الديمقراطية، فعمدنا إلى بيان نسبة هذه المسألة إلى هذين المفهومين في نهاية الكتاب.

(12)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

البداية

 

(13)

الفصل الأول:

البداية

توماسو كامبانيلا (1568 ـ 1639)

ولد جيوفاني كامبانيلا[1]عام 1568 م في قرية استيلوا من مقاطعة قلورية (أو كالابريا) الواقعة إلى الجنوب من إيطاليا، لأسرة إيطالية أمية وفقيرة، حيث كان والده يعمل رقّاعاً. بيد أن مخايل النبوغ التي ظهرت عليه منذ الصغر، عملت على تغيير مجرى حياته، وعملت على تحديد مصيره. حيث انتسب إلى الرهبنة الدومينيكانية في سن الرابعة عشر، واختار لنفسه اسم توماسو نسبة إلى "توماس أكويناس"[2] أو "توما الأكويني"، فأصبح معروفاً باسم "توماسو كامبانيلا"[3].

كان توماسو الشاب يقرأ الكتب بولع ونهم، وسرعان ما أصبح ملمّاً في اللاهوت، وعلم الهيئة (النجوم)، والطب، والمنطق، واللغة، والسياسة، وسائر العلوم التي كانت سائدة في عصره. وفي سن مبكرة جداً خاض في معترك الفيلسوف العريق (أعني بذلك أرسطو طاليس). حيث كان النظام الفلسفي لأرسطو طاليس هو النظام الوحيد الذي آمنت به الكنيسة، وأضفت عليه الشرعية؛ فكان التفكير الأرسطي وحده هو النظام الفكري المشروع في ذلك العصر. بيد أن توماسينو كامبانيلا

(14)

تمرّد على حصر التفكير ومشروعيته بهذا النظام، وأبدى ميلاً إلى الأفكار التجريبية لفيسلوف آخر اسمه "برناردينو تلسيو"[1]. وقد ألّف أول كتاب له في سن الرابعة والعشرين، في الدفاع عن هذا الفيلسوف، وقال فيه: "إن كل شيء في هذا الوجود يرتبط بالحس والتجربة". وقد كلفه اعتراضه على أرسطو طاليس ـ في نهاية المطاف ـ غالياً؛ إذ واجه معارضة من قبل الكنيسة، ثم زُجّ به في السجن [لثلاثة عقود تقريباً] بسبب أفكاره التي لم ترق للكنيسة.

وبعد إطلاق سراحه من السجن، عاد إلى مسقط رأسه كالابريا، وسرعان ما أدخلته شخصيته المغامرة في مؤامرة ضدّ المحتلين لبلاده من الإسبان. بيد أن اثنين من زملائه وشيا به؛ ليتمّ إلقاء القبض عليه ثانية، وحكم عليه بالسجن المؤبّد هذه المرّة. حيث أمضى سنوات طويلة في أصعب الظروف التي تعرّض فيها لأبشع أنواع التعذيب والوحشية، حتى وصف حياته أثناء فترة السجن قائلاً: "اليوم أكملت السنة الثانية عشرة من مدّة السجن، وقد قضيت طوال الفترة المنصرمة في عذاب مستمر، وأشعر بالألم في جميع أعضاء جسدي، فقد تمّ وسمي بالنار حتى الآن سبع مرّات، ومضى عليّ سنوات لم أر فيها ضوء الشمس. أشعر بتفتت عضلاتي، وتحطم عظامي، وتمزّق لحمي"[2]. الأمر الذي اضطرّه أخيراً إلى الادلاء باعترافاته في السجن، وأعلن التخلي عن عقائده كي ينجو من الحرق بالنار، وبعد تعذيب طويل تمّ إطلاق سراحه، وهو يحمل جسماً نحيلاً منهكاً تنخره الأمراض.

لقد أمضى كامبيلا أغلب سنواته السبعة والعشرين سنة من مجموع

(15)

عمره البالغ سبعين سنة في ظروف قاسية للغاية توزعت بين سجني "نابل" و"روما". ولكنه على الرغم من ذلك كتب في هذه الفترة العصيبة بالذات أكثر أعماله تأثيراً وشهرة، والأهم من بين تلك الأعمال على الإطلاق كتاب "مدينة الشمس".

قام كامبانيلا بتأليف كتاب "مدينة الشمس" سنة 1602 للميلاد، في واحد من سجون نابل باللغة اللاتينية، ليطبع بعد ذلك بواحد وعشرين سنة في فرانكفورت ضمن مجموعة أخرى من مؤلفاته الفلسفية للمرّة الأولى، ثم ترجم إلى اللغة الإيطالية عام 1643 للميلاد. وقد حاز هذا الكتاب مكانة هامة ضمن أدبيات اليوطوبيا في العالم. إن المدينة الفاضلة التي عمل كامبانيلا على شرح أبعادها في هذا الكتاب، مدينة تتألف من سبع دوائر متحدة المركز، لا وجود فيها للملكية الخاصة. وفي الحقيقة يمكن القول إن مدينة الشمس أشبه ما تكون بالصومعة الكبيرة؛ فهي مثل الصوامع التي تكون فيها جميع الأموال ـ ومن بينها: البيوت وأماكن النوم، والمهاجع، وسائر أنواع الإثاث الأخرى ـ مشاعة بين الجميع. بيد أن الدولة تعمل على تغيير حيازة هذا الأثاث بعد مرور كل ستة أشهر، فتعمل على استبدال الأثاث بين الأفراد، كي لا يتكرّس عندهم مفهوم النزعة الاستملاكية بسبب طول مدّة الاستفادة من الشيء الواحد. إن الدولة في "مدينة الشمس" تشرف إشرافاً دقيقاً على كل شيء، وتضع برنامجاً تفصيلياً للحصول على اعتراف المواطنين بذنوبهم، والاطلاع على آرائهم. ولكن على الرغم من ذلك ـ حيث يكون أعضاء الدولة بأجمعهم من الصلحاء والأخيار ـ لا يحتمل في هذه المدينة حصول أدنى شائبة من الأثرة والاستبداد.

إن جميع الأمور في مدينة الشمس حسنة وتجري على خير ما يُرام!

(16)

فلا وجود للسرقة والجريمة والفساد الأخلاقي والعلاقات المشبوهة وغير المشروعة. يعمل سكان المدينة أربع ساعات في اليوم بحبّ ورغبة، ليقضوا بعدها اليوم بتناول الأطعمة بشكل جماعي. إن سكان هذه المدينة ـ بسبب شغفهم وشدّة حبّهم للعمل ـ لا يصابون بالأمراض، فلا يعرفون معنى الروماتيزم وأوجاع الظهر والقولون، وحيث يراعون الأمور الصحية لا يكون هناك للأمراض المعدية من أثر بينهم. والقضاة الوديعون فيها لا يدينون الناس إلا بسبب جُنح طفيفة مثل: الكسل، وسوء الخلق، والغضب، والبذاءة. وغالباً ما تكون العقوبات على هذه الجنح بالغة القسوة؛ إذ قد تصل إلى حدّ النبذ والحرمان من الأكل مع سائر المواطنين.

وعلى كل حال، يمكن الاسترسال في التوصيفات الطوبائية لكامبانيلا إلى أبعد من ذلك. إلا أن الأهم من خياله الجامح هي الآمال المتجذّرة التي يقدّم كامبانيلا حلوله للوصول إليها. وعلى الرغم من أن الطوبائيين من أمثال كامبانيلا ليسوا بالكثر، بيد أن الآمال والأماني الجوهرية التي يطرحونها مركوزة في أذهان الكثرة الكاثرة من أفراد البشر. ومع غض النظر قليلاً، يجب القول: إن مسار الخيال الجامح والمشوب بالتنجيم والتبصير لكامبانيلا، يمكن الوصول من خلاله إلى مصادر الكثير من "المسائل" الهامّة التي أنفق العلماء والمفكرون الكثير من أعمارهم في دراستها والبحث عن حلولها، وهي مسائل من قبيل: "آفات الملكية الخاصة"، و"جور وطغيان الأثرياء والحكام"، هاجس "العدل" بين الناس. واليوم حيث يمضي ما يقرب من أربعمئة سنة على وفاة كامبانيلا، فإن جميع أولئك الذين كانوا ولا يزالون يحملون هاجس حلّ هذه المسائل، يطلق عليهم مصطلح عام وأسطوري وغريب، وهو مصطلح "اليسار". وسوف نفصّل هذا المفهوم لاحقاً.

(17)

وبعد إطلاق سراحه من السجن سنة 1629 للميلاد، انتقل توماسينو كامبانيلاً إلى روما، لينشغل بعلم الفلك والنجوم لكونه أقل خطراً على حياته. بيد أنه لم تمض سوى خمس سنوات على حياته الوادعة هناك، حتى أوقعته مؤامرة حاكها ضدّ أحد أتباعه في بؤرة الخطر مجدّداً. فهرب هذه المرّة من إيطاليا ولجأ إلى فرنسا. وهناك تمكن من دخول البلاط المهيب لجلالة الملك لويس الرابع عشرن والتقى بالكاردينال ريشيليو.

عاش كامبانيلا سنوات عمره الأخيرة على راتب شهري منح له البلاط الفرنسي، ليعيش بقية عمره في صومعة "سانت أونوية" في باريس. وعلى الرغم من أن تلك الصومعة كانت في حينها مكاناً هادئاً ومناسباً للجسد الجريح والروح المرهقة لهذا الكاهن الهرم والمتمرّد، إلا أنه لم يمض على وفاته سوى مئة وخمسين سنة، حتى تحوّلت تلك الصومة لتغدوا سكناً لرجال زلزلوا أركان الأرض: إنهم اليعاقبة[1]!

اليسار واليمين: نحو الفصل والتفكيك

ولكن من هم اليعاقبة؟ إن أول جواب يخطر على الذهن في هذا الشأن هو: "إنهم من أشهر الجماعات ذات الصلة بأحداث الثورة الفرنسية". بيد أننا إذا أردنا التعرّف على اليعاقبة الذين اتخذوا من صومعة "سانت أونويه" مقرّاً لتجمّعهم، وجب علينا أن ندرس الثورة الفرنسية أو "الثورة الكبرى"، وهي الثورة التي تمخّضت عن الكثير المفاهيم التي سادت عالمنا المعاصر، ومنها مفهومي اليسار واليمين.

(18)

يقول علماء المنطق: إن الإدراك حصيلة التمايز والتبويب. بمعنى أننا ما لم نقسّم المحيط الذي نروم التعرّف عليه إلى طبقات ومجموعات متمايزة، لن تتجاوز معرفتنا لذلك المحيط حدود بعض الكليات القليلة جداً. وفي الحقيقة فإن الإدراك إنما يبسط وجوده في الذهن إثر المقارنة بين الأشياء. بيد أن المسألة الهامة في البين هي أن لكل تبويب وتقسيم تأثيره الخاص في الوعي والإدراك.

لنذكر هنا مثالاً لتوضيح المسألة: لنفترض أنه طلب منك أن تكتب تقريراً عن وضع المسافرين على متن طائرة في رحلة بين طهران والقاهرة. وقد ترك لك الخيار في كتابة التقرير بالشكل الذي تراه مناسباً. إنك في مثل هذه الحالة سرعان ما ستدرك أنك قبل كل شيء مضطر ـ على كل حال ـ إلى تصنيف المسافرين إلى طبقات قبل تقديم أي توصيف لهم. وقد يقوم تقسيمك الأولي لهم على أساس الذكور والإناث. لتدخل بعد ذلك في المزيد من التفاصيل الخاصة بكل صنف من هذين الصنفين، وما هي الخصوصيات التي تميّز الرجال من النساء أو العكس. أو قد ترى من الأفضل تقسيم المسافرين على أساس المواطنة، ويكون جل المسافرين يحملون الجنسية الإيرانية والمصرية. وبعد ذلك يتفرّع بك هذا التصنيف إلى المزيد من التفاصيل بشأن المواطنين المصريين وخصائصهم، والمواطنين الإيرانيين وما يمتازون به من غيرهم.

وبعد الفراغ من كتابة التقرير، ستلقي نظرة عليه، وستدرك حينها أن تقسيمك الأولي قد ترك بتأثيره على بيان التفاصيل اللاحقة. فإن قسّمت المسافرين على أساس الذكور والإناث، ستكون جميع المعلومات المترتبة على هذا التقسيم ذات صلة وثيقة بمسألة "الجنس". وإن

(19)

كان تقسيمك قائماً على الهوية الوطنية، ستكون جميع المعلومات التفصيلية والجزئية المترتبة على هذا التقسيم، مرتبطة بشكل وثيق بالأمور المتعلقة بالوطنية والهوية. وهذا ما أشرنا إليه قبل ذكر هذا المثال. بمعنى أن نوع التقسيم الخاص يستتبع وعياً وإدراكاً خاصاً. فإن جميع معلوماتك السابقة بشأن الذكور والإناث، وتجاربك في الحياة، وحتى الأمور المتعلقة بالوالدين وما إلى ذلك، سوف تترك تأثيرها على كتابة تقريرك، وإذا أخذت الهوية الوطنية بنظر الاعتبار، فإن كل ما تعرفه بشأن الثقافة والتاريخ والمجتمع المصري والإيراني، سوف تترك بتأثيرها على توصيفك.

وعلى هذا الأساس فإن التقسيم والتبويب إنما يجدينا إذا كنا في مقام الحصول على بعض المعلومات بشأن محيط ما. ويمكن تصوّر هذا الوضع في حالتين، الحالة الأولى أن لا نكون مسبوقين بمعرفة المحيط ولا نعلم عنه شيئاً أبداً، والحالة الثانية أن تكون المعلومات التي نحملها عنه قديمة وبالية وغير مجدية، بحيث نكون معها بحاجة إلى تحديث معلومتنا عن ذلك المحيط، والوصول إلى معلومات جديدة. وبهذا المعنى يكون لكل تقسيم وتبويب بداية ونقطة انطلاق. أو بعبارة أخرى: إن لكل تقسيم تاريخاً.

بعد هذه المقدمة نعود إلى صُلب بحثنا، وهو تقسيم التيارات إلى: "تيار يساري" و"تيار يميني". فنقول: إن لهذا التقسيم تاريخاً زاخراً بالمنعطفات. وإذا أردنا أن نجعل بداية ونقطة اطلاق لهذا التقسيم، فسوف تعود تلك النقطة إلى العام 1789 للميلاد، أي: عام انتصار الثورة الفرنسية.

(20)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

الثورة الكبرى

 

(21)

الفصل الثاني:

الثورة الكبرى

قبل اندلاع الثورة الفرنسية كانت فرنسا تحكمها سلالة ملكية تحمل اسم "لويس"، وقد امتدت سلطة هذه السلالة لقرون من الزمن. وكانت الثورة الفرنسية قد تفجّرت في عهد الملك "لويس السادس عشر". كان نوع الحكم من الناحية السياسية في فرنسا ذا طبيعة استبدادية ومركزية شديدة. حيث كانت جميع مقاليد الأمور بيد شخص الملك، إلى الحدّ الذي قال معه المؤرّخ الفرنسي الكبير (آلبر ماليه) في كتابه (تاريخ القرن الثامن عشر والثورة الفرنسية الكبرى وإمبراطورية نابليون)، نقلاً عن (دون فورجان) سنة 1783 للميلاد: "لم تكون في فرنسا طبقة رجال دين، ولا طبقة نبلاء، ولا طبقة ثالثة. كان هناك سلطان يأمر، ورعية تطيع فحسب"[1]. وإن النظرية السياسية التي كانت قائمة ـ منذ القرون الوسطى ـ على أساس "الحق الإلهي"، تمنح هذا الحق إلى الملك في فرنسا، وتطلق له العنان ليفعل ما يشاء.

من هنا سوف ندرك أن أهم مفردة في الأدبيات السياسية لذلك العصر هي مفردة "الملك". فإن جميع الرسائل التي تمّ تدوينها في الفلسفة السياسية حتى تلك المرحلة الزمنية، كانت تدور حول هذا السؤال المحوري القائل: "من هو الملك الجيد؟ وما هي صفاته؟"

(22)

وأما سائر الطبقات الاجتماعية فلا يكون لها موضع من الإعراب إلا في حدود تنظيم علاقاتها مع الملك.

وعلى هذا الأساس كان بناء السلطة في تلك المرحلة في الأساس بناء عمودياً، بمعنى أن الملك كان يحتل أعلى مكانة في سلم السلطة، ثم يأتي بعده رجال الدين، ثم النبلاء أو الأشراف، وفي قعر العمود عامة الناس أو الرعية. وإذا أردنا بيان ذلك بعبارة أخرى، قلنا: إن بناء السلطة يتخذ شكلاً هرمياً مؤلفاً من أربع طوابق، وهي: "الأعلى"، و"العالي"، و"المتوسط"، و"الداني". وأما في مسار الثورة الفرنسية، فقد انهار هذا الهرم والسلم الطبقي العمودي، وتحول إلى مجرد تصنيف أفقي مؤلف من طرفين: "يسار" و"يمين".

السلطة المهترئة

على أعتاب الثورة الفرنسية، كان النظام الطبقي في فرنسا ـ على ما تقدّم ذكره ـ يتألف من ثلاث طبقات رئيسة. فمن بين مجوع سكان فرنسا البالغ عددهم خمسة وعشرين نسمة، كان أربعة وعشرون مليون نسمة منهم يتألفون من: الفلاحين والحرفيين والعمال الذين يشغلون الطبقة الثالثة، وأما المليون نسمة المتبقية فهي تتألف من رجال الدين والنبلاء، وسكان المدن من التجار، وهؤلاء وإن كانوا من المصنفين ضمن الطبقة الثالثة، ولكنهم لم يكونوا يعانون وضعاً مادياً سيئاً. وكانت هذه الطبقة تعرف بالطبقة "البرجوازية". وكان البرجوازيون المرفهون نسبياً والذين كانوا يعرفون بوصفهم من أهل العلم والمعرفة، هم من أكثر الفئات الاجتماعية الفرنسية طليعية، وكما سنرى، فإن أفراد هذه الطبقة لعبوا الدور الأهم في مسار الثورة الفرنسية. وقد أخذ هؤلاء

(23)

من الناحية الاعتقادية يفكون أواصر علاقتهم مع المسيحية الرسمية بالتدريج، وفي المقابل كانوا يندفعون بشدة نحو مبادئ من قبيل: "التنوير" المتمثلة بأمور مثل: (الحرية، والإنسانية، والعقل)[1].

وكان رجال الدين ينقسمون إلى جماعتين، وهما: القساوسة الشرعيين، والقساوسة غير الشرعيين. وكان القساوسة الشرعيون من رجال الدين الذين ينتسبون رسمياً إلى واحدة من كنائس السيد المسيح، وهم يتمتعون بمكانة أفضل من القساوسة غير الشرعيين المنشترين بشكل عام في القرى والأرياف.

وكان النبلاء ينقسمون بشكل عام إلى فرسان ومثقفين. وكانت الجماعة الأولى من النبلاء ينحدرون من سلسلة من النبلاء التقليديين المتقدمين، حيث يتألفون من الأشراف الذين يخلعون على أنفسهم ألقاباً، من قبيل: الدوق والمركيز والكونت وما إلى ذلك. أما القسم الثاني من النبلاء فهم يستمدون نبلهم من السلاطين، ويحصلون على وظائف ومناصب في البلاط الملكي[2].

كانت السلطة الفرنسية وعلى رأسها "لويس السادس عشر"، ترى أصالة لوجود سلسلة المراتب في إدارة الدولة، وكان يذهب إلى الاعتقاد بأن الله قد منح البشر قدرات غير متكافئة، وعليه فمن "الطبيعي" أن يتم تقسيم المناصب والمواهب الاجتماعية والمادية بشكل غير متساوي، وإن العمل على خلاف هذه القاعدة، يمثل خروجاً على الإرادة الإلهية.

وفي هذا الإطار كانت فرنسا ـ خلافاً لبلدان أخرى مثل إنجلترا ـ

(24)

تقوم على اتحاد وثيق للغاية بين السلطة والكنيسة[1]. فكانت الكنيسة تضفي الشرعية السياسية على سلطة الملك، وكان الملك في المقابل يدعم الكنيسة مالياً، من خلال تخصيص "حق العشر"[2] لها.

في السنوات التي سبقت الثورة، كانت الدولة الفرنسية تواجه الكثير من المشاكل. ومن بين هذه المشاكل الهامة هي الحروب التي اندلعت بين بريطانيا وفرنسا. وقد تحدّث أريك هابزبام ـ أكبر مؤرخ معاصر ـ حول هذه الحروب قائلاً: "إن التنافس الدولي ـ بمعنى الحرب حول مصادر بلد ما ـ تدخل البلد في اختبار لا يمكن مقارنته بأي معيار واختبار آخر. وعندما لا تكون الدول قادرة على اجتياز هذا الاختبار، تتضعضع أركانها وتبدأ بالتصّدع، ثم تنهار. ومن بين أنواع هذه المنافسات الكبرى في جزء رئيس من القرن الثامن عشر للميلاد، ما حدث من نزاع وجدل بين بريطانيا وفرنسا، الذي يمثل في معنى من معانيه النزاع بين الأنظمة القديمة والأنظمة الحديثة؛ لأن فرنسا رغم ازدهارها السريع في التجارة وفي إمبراطوريتها الاستعمارية ـ الأمر الذي كان يستفز بريطانيا ـ يمثل السلطة الأقوى والأبرز والأكثر تأثيراً، وباختصار: يمثل النموذج الخالص للسلطة التقليدية والإرستقراطية المطلقة. ولم يبرز تفوّق النظام الاجتماعي الحديث على القديم في أي موضع من المواضع، مثلما تجلى في هذا النزاع الفرنسي ـ البريطاني"[3].

(25)

وعلى الرغم من تفوّق فرنسا ـ بشكل عام ـ على إنجلترا من حيث الثروة وعدد السكان، إلا أن هذه الحروب المتواصلة قد أثقلت كاهلها. كما كانت الأوضاع الداخلية ـ من ناحية أخرى ـ زاخرة بالفوضى والاضطراب. حيث لم تكن المنظومة الاجتماعية لإدارة المجتمع تختلف عن تلك التي كانت سائدة في البلاد قبل خمسة قرون. حيث كان لكل ولاية من الولايات الفرنسية قوانينها وأساليبها وموازينا الخاصة. إذ يصل عدد الأنظمة والقوانين في هذا البلد إلى 285 نظاماً[1]! كما كان الجهاز القضائي يعاني بدوره من تشتت يصل إلى حدّ المرض واللعنة. فحتى ما قبل أعوام قليلة من الثورة كان يتم انتزاع الاعتراف من المتهمين من خلال إخضاعهم لعمليات تعذيب ممعن في الوحشية والقسوة. وكان الآلاف من حاشية وبطانة البلاط غارقين في التبذير والإسراف دون حدود، وكانوا في الوقت نفسه يمعنون في مضاعفة الضرائب على الفقراء من الناس لمصلحة السلطة والكنيسة. كل ذلك وضع الشعب الفرنسي على شفير الانفجار.

إن الذي مثل الضربة الأخيرة التي قصمت ظهر السلطة الفرنسية، هي حروب الاستقلال في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد كانت بريطانيا وفرنسا خصين تقلييدين لدودين لبعضهما، وكان الفرنسيون يندحرون أمام البريطانيين في أغلب تلك الحروب. أما في حرب الاستقلال الأمريكي فقد عمدت فرنسا إلى تحشيد كل طاقاتها لنصرة الأمريكيين، وبالتالي تمكنت أغلب المستعمرات الإنجليزية في أمريكا من الحصول على الاستقلال، وبذلك تكبّدت بريطانيا خسارة مدوّية. بيد أن هذه الحرب وتبعاتها مثلت على المقلب الآخر نهاية السلطة الفرنسية. فبعد

(26)

نهاية الحرب زادت نفقات السلطة الفرنسية على أرباحها بمقدار عشرين بالمئة، وذهبت جميع جهود تحسين الوضع الاقتصادي أدراج الرياح.

وفي نهاية المطاف أمر الملك الفرنسي ـ لغرض إيجاد حل للأزمة الكبيرة التي وجد نفسه غارقاً فيها ـ بانعقاد مجلس مضى على انعقاد آخر اجتماع له مئة وسبعين سنة، ألا وهو مجلس "العموم" أو ما اصطلح عليه حينها بـ (الأوتوجينرو)[1].

بداية الثورة

لقد صدر تعميم على جميع رجال الدين والنبلاء والبارزين من عامة الناس في عموم الولايات والمقاطعات الفرنسية، إلى ترشيح أنفسهم للاجتماع في هذا المجلس. بيد أن الأمر الذي يستحق الالتفات هو أن ماهية هؤلاء الأعضاء كانت تختلف عن سابقتها إلى حدّ كبير. بعبارة أخرى: إذا تجاوزنا رجال الدين، فإن الكثير من النبلاء في تلك الحقبة قد تواطأوا مع الطبقة الطليعية من البرجوازيين. يذهب ول ديورانت إلى الاعتقاد بأن ما يقرب من 95% من النبلاء الفرنسيين قد تحولوا بالتدريج إلى برجوازيين. حيث ربطوا ألقابهم بالثروة الجديدة والعقول المفكرة والمثيرة للطبقة المتوسطة[2]، وبالتالي كانت هناك مصالح مشتركة تربط ما بين الطبقتين.

وعلى كل حال فقد صدر الأمر بانعقاد مجلس العموم في الثامن من

(27)

ديسمبر ـ أيلول من عام 1788 للميلاد، ليقدّم المشورة للملك، ويمدّ له يد العون في حل مشاكل البلاد. بيد أن هذا المجلس ـ بالإضافة إلى ما ذكر ـ كان يختلف عن سابقه في أمور أخرى أيضاً. فقد أذعن الملك تحت إصرار وزير الضرائب "نيكر" بأن يكون للطبقة الثالثة ـ بسبب كثرة أعداد أفرادها ـ حضور وتمثيل وأصوات مساوية للطبقتين الأوليين في المجلس المقبل. الأمر الآخر أنه تمّ التساهل في شروط الترشيح والمشاركة في الانتخابات بحيث يمكن للمزيد من الأفراد والمواطنين أن يشاركوا في هذه الانتخابات؛ حيث يُسمح لمن أكمل سن السابعة والعشرين، وسدد ما يُستحق عليه من الضرائب مهما كان مقدارها في العام الماضي، أن يشارك في الانتخابات. والأمر الثالث والأهم هو أن الملك قد أضاف إلى دعوته طلباً يفرض على كل مجلس منتخب بأن يرسل له "مدوّنة" تتضمن جميع الشكاوى والطلبات والمشاكل التي تعاني منها كل طبقة في أي مقاطعة من مقاطعات البلاد. وقد كانت هذه المدونات بمنزلة الأفاعي التي قام الملك لويس السادس عشر بتربيتها وتنشئتها في كمّه؛ إذ شكلت البذور الأولى لمراحل الثورة الفرنسية.

وفي هذه المرحلة التاريخية لعب "أبيه سييس" ـ رجل الدين الفرنسي المؤثر ـ دوراً بارزاً. حيث أعد مدوّنة تدعو إلى ضرورة مواكبة رجال الدين لعامة الناس. إذ كان يرى أن الفرنسيين من الطبقة الثالثة والبالغ عددهم أربعة وعشرين مليون نسمة يمكنهم الحديث باسم فرنسا ولسان حالها. وقد احتدم الجدل بين الممثلين حول تسمية المجلس، وناقشوا بند "ما إذا كان يجب تسميته بالمجلس الوطني"، وكان التصويت لصالح هذه التسمية يعني استقلال مجلس العموم والأوتوجينرو عن ملك فرنسا. وبالفعل فقد أجري التصويت، وكانت

(28)

النتيجة أن صوّت 490 نائباً بالإيجاب، في مقابل 90 صوتاً بالنفي. فتعهّد الممثلون بإقامة الملكية الدستورية بديلاً عن السلطة الاستبدادية المطلقة للملك لويس السادس عشر. ومن هنا يمكن القول إن الثورة الفرنسية من الناحية السياسية قد بدأت في السابع عشر من يونيو ـ حزيران عام 1789 للميلاد[1].

وبهذا لم يكن للثورة الفرنسية "قائد" بالمعنى المتعارف، بل كان يتزعمها جماعة من الذين أطلق عليهم مصطلح البرجوازيين. وقد تبلورت أفكارهم من الليبرالية التقليدية "الفلاسفة" (الكتاب ومشاهير المستنيرين في عصر التنوير)، واتضحت مطالبهم البرجوازية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في تلك السنة. وقد اعتبروا الملكية الخاصة حقاً طبيعياً ومقدساً لا يمكن المساس به، وطالبوا باستمرار النظام الملكي وحضور الملك على رأس السلطة السياسية الفرنسية، ولكنهم ـ في الوقت نفسه ـ تمسكوا بعقيدتهم القائلة بأن جميع الناس يولدون أحراراً وسواسية، ويجب التعامل مع جميع أفراد البشر تحت سقف القانون بالتساوي.

لم يوافق الملك على ما تمّت المصادقة عليه، وأطلق بموجبه على المجلس عنوان المجلس الوطني، وأصدر أمراً بإغلاق المنافذ المؤدية إلى محل إقامة الممثلين. وفي المقابل تعاهد الممثلون فيما بينهم، وأقسموا على عدم مبارحة أماكنهم ما لم يتم تغيير الدستور. وفي نهاية المطاف أذعن الملك لمطالبهم في الخامس من يونيو ـ حزيران، أي: بعد ثمانية أيام من الاستفتاء، وقبل بتطبيق نظام الملكية الدستورية. ومنذ ذلك الحين أطلق المجلس المنتصر على نفسه اسم "مجلس

(29)

المؤسسين". وكان هذا المجلس حتى الثلاثين من ديسمبر ـ أيلول، حيث تواجد الملك في المجلس للمصادقة على الدستور الجديد، أي بما يقرب من سنتين وأربعة أشهر، هو الذي يدير دفة الأمور في فرنسا.

وبعد شهر واحد من تأسيس المجلس، هجم المواطنون في باريس على قلعة الباستيل بوصفها من أشهر السجون الخاصة بالسجناء السياسيين وأكثرها رعباً، واقتلعوا حجارتها حجارة حجارة، حتى أحكموا سيطرتهم عليها. وقد مثل الاستيلاء على الباستيل ـ بوصفه نموذجاً للاستبداد الملكي ـ ذروة الانتصار الكامل للثورة الفرنسية.

مجلس المؤسسين

لقد كان مجلس المؤسسين هو الحاضنة التي أنجبت مفهوم اليسار واليمين. ففي الجلسات الأولى لهذا المجلس كان الممثلون يصنفون على أساس الطبقة التي ينتمون إليها، أو على طبق مجاورتهم للحوزة الانتخابية. ولكن لم يمض طويل وقت حتى بدأ تصنيف الممثلين يتم على أساس تشابه الأفكار والعقائد السياسية. وبذلك تشكلت الأحزاب السياسية الأولى، فكان أنصار الإصلاح الذين يعرفون أنفسهم بأصدقاء الشعب يجلسون إلى يسار رئيس المجلس، بينما يجلس الذين يميلون إلى النظام الملكي السابق  ـ والذين يعرفون بالنبلاء أو الإرستقراطين ـ إلى يمين رئيس المجلس. وكان بين هذين التيارين مجموعة من الممثلين المستقلين الذين يجلسون في الوسط حيث رفعوا شعار الحياد وعدم الانحياز. وكان هؤلاء الحياديون أنفسهم ينقسمون فيما بينهم إلى الوسط اليساري والوسط اليميني.  وكان يمين الوسط يتألف من أنصار مونتسكيو، وكانوا يطالبون بوجوب أن تقوم في فرنسا حكومة

(30)

دستورية شبيهة بالسلطة الدستورية في إنجلترا، وأن يكون لها مجلس للأعيان ومجلس للعموم. وأما يسار الوسط فكانت عقائدهم أقرب إلى سلوك اليساريين، وكانوا يقولون بأن سياسة المجلسين المتبعة في إنجلترا تتباين مع أصل المساواة الوطنية[1]. ولكننا إذا ألقينا نظرة عامة على أوضاع المجلس، سنجد هيمنة لليسار آخذة بالازدياد والاتساع التدريجي بمرور الأيام.

وبعد توقيع الملك للدستور، تمّ حل مجلس المؤسسين، وحلّ محله المجلس التشريعي. وفي هذا المجلس واصل التياران الرئيسان في المجلس السابق (مجلس المؤسسين) نشاطهما. فكان إلى اليمين تيار الحركة الدستورية الذي يرى ضرورة احترام الحقوق والقوانين التي ينص عليها الدستور فيما يتعلق بصلاحيات الملك، وكان إلى اليسار الجمهوريون الذين يطالبون بالإسراع في إلغاء صلاحيات الملك. واعتبار منصب لويس السادس عشر مجرّد منصب تشريفي لا أكثر. وقد شكل هؤلاء الجمهوريين تجمعاً لهم في صومعة "سانت أونويه" حيث كانوا يعقدون اجتماعاتهم هناك، حيث عرفوا باليعاقبة.

العالم على أعتاب الثورة الفرنسية

في تلك الحقبة كانت فرنسا بالإضافة إلى بريطانيا تشكلان القوتين العظمتين في تلك المنطقة، وكان من الطبيعي بعد التحول الجذري والعميق الذي شهدته فرنسا أن ينعكس ذلك على الأوضاع في عموم القارّة الأوربية. لم يكن أحد من حكام أي دولة من الدول الأوربية سعيداً بالأحداث والمتغيرات في فرنسا، وأخذوا يرون خطراً في تسلل

(31)

العقائد الثورية إلى بلدانهم. وبالتدريج أخذت الحروب الشاملة تندلع بين الثوار الفرنسيين وسائر الأمم الأوربية. بيد أن الثوار كانوا يمتلكون ـ بالإضافة إلى الفنون والخطط القتالية ـ عنصر التضحية والفداء، فكانوا لذلك يخرجون منتصرين من جميع هذه المعارك، ويتركون وراءهم بذور النزعة الثورية مغروسة في وعي الكثير من الأمم الأوربية. وبغض النظر عن بريطانيا ـ التي كانت في صراع تقليدي مع فرنسا فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية ـ ظهرت دول أخرى جاهرت بمخالفتها لفرنسا. ومن أهم تلك الدول هي النمسا، حيث كان لها وشائج وأواصر وثيقة مع الملك الفرنسي لويس السادس عشر والأسرة الملكية الحاكمة في فرنسا عموماً، وقد عرف هؤلاء النمساويين بالبوربون، وقد وجدوا في الثورة الفرنسية ضد الملك الفرنسي خطراً وتهديداً كبيراً على مصالحهم.

وسرعان ما اندلعت الحروب. وحيث وجد الشعب الفرنسي في هجوم النمسا وبروسيا على بلادهم تلبية لاستغاثة لويس السادس عشر، بغية إعادته إلى السلطة، فاقم ذلك من حقدهم على لويس السادس عشر وسلطته، وكانوا لذلك يزدادون تمسكاً وتشبّثاً بأفكارهم الثورية.

وفي المجلس التشريعي احتدم الخلاف بين اليساريين حول أولوية أن تدخل فرنسا في حروب عالمية أو سلوك طريق الصلح والسلام والهدنة. الأمر الذي أدى إلى ظهور اصطفاف ملفت للانتباه بين اليساريين أنفسهم، حتى أخذ اليساريون المتطرّفون الذين يدعون إلى خوض الحرب، يصفون المخالفين للحرب من اليساريين باليمينيين. وبدأنا في هذه البرهة نشهد مساراً أخذ فيه المتطرفون من اليساريين يطردون زملاءهم من ربقة اليسار ويدفعون بهم دفعاً إلى التيار الآخر. وقد تكررت هذه الظاهرة مراراً طوال تاريخ الصراع المحتدم بين اليسار

(32)

واليمين. وعليه لا بد من التركيز على هذه الظاهرة أكثر.

إن الأمر الذي يجب أخذه بنظر الاعتبار في هذا الشأن هو أن اليسار واليمين ليسا من المصطلحات المطلقة. إنما اليسار واليمين يعكسان الموقع والموقف الذي تتخذه الجماعة السياسية في مرحلة من المراحل. ومن المحتمل أن تبادر تلك الجماعة نفسها إلى تغيير موقفها في فترة ومرحلة زمنية أخرى. وعليه يكون كل من مفهوم اليسار ومفهوم اليمين مفهوماً نسبياً، بيد أن هذه النسبية لا تعني أنها أموراً جوفاء لا تأثير لها. إن اليسار واليمين لا يقدمان مجموعتين من النظريات الثابتة، بل هما طيفان أو "محوران" ينتقلان من جيل إلى جيل آخر[1].

الثورة بين الأخذ والرد

في فترة الحروب بين فرنسا والنمسا وبروسيا، انتقل "لويس السادس عشر" من محل استقراره الدائم في فرساي الواقعة في ضاحية باريس، ليسكن في قصر التوليري في قلب باريس. وكان هذا القصر مراقباً من قبل اليعاقبة، وبعبارة أدق: كان الملك الفرنسي محجوزاً في هذا القصر. وكان اليعقابة هم الذين يديرون شؤون باريس، وكان "دانتون" اليعقوبي الشهير محافظاً لباريس. وقد شهدت تلك السنوات ـ علاوة على الأزمات والفوضى المنتشرة في عموم الداخل الفرنسي، والحروب الاستنزافية الخارجية ـ مجاعة تسبب به الجفاف الذي قضى على المحاصيل الزراعية. حتى كان من الصعوبة بمكان العثور على رغيف خبز في باريس، وكانت المجاعة قد أقضّت مضاجع الناس. وفي تلك الفترة حثّ اليعاقبة الشعب على الثورة، والاتجاه نحو قصر

(33)

التويلري، حيث قتلوا جميع حراس القصر. وحيث كان الثوار يُرجعون جميع مشاكلهم إلى مؤامرات الملك الخائن، لم يعودوا يقبلون بما دون إقالة الملك وعزله عن السلطة، وحل النظام الملكي.

وفي خضمّ تلك الأحداث، بادر اليمينيون في المجلس التشريعي ـ الذين كان يصرون على التأكيد على الملكية الدستورية وضرورة حضور الملك على رأس السلطة السياسية في البلاد، وكانوا يمثلون الأغلبية في المجلس ـ إلى الاعتراض مستدلين لذلك بأن النظام الثوري في فرنسا يقوم على ثلاث ركائز، وهي: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية. وحيث أخذ الناس يفرغون السلطة التنفيذية من محتواها، لا يعود هناك من محل للسلطة التشريعية من الإعراب. وعليه لا بدّ من حل المجلس التشريعي. وسرعان ما نال هذا القرار ـ سواء أكان صائباً أم خاطئاً ـ رضا الناس والتيار اليساري في المجلس. فأنهى المجلس أعماله، وحلّ محله أكثر المجالس راديكالية وتطرفا شهدته تلك المرحلة من التاريخ البشري في الأول من أكتوبر من عام 1791 للميلاد، ألا وهو المجلس التنفيذي المعروف بـ "مجلس المدراء".

وخلافاً للمجلس التشريعي، كانت الأكثرية في "مجلس المدراء" في جانب تيار اليسار، وبطبيعة الحال كان اليسار في تلك الفترة قد تحوّل إلى جماعتين متعارضتين، وهم الجيرونديون الحمائم وأغلبهم من سكان المدن من غير الباريسيين، واليعاقبة الصقور والمحاربين الذين يرون كل شيء مختزل في باريس.

وقد واصل "مجلس المدراء" نشاطه على مدى ثلاث سنوات، شهدت فرنسا خلالها أسوأ مراحلها دموية. حيث كانت النزاعات وتصفية الحسابات قائمة على قدم وساق، وكانت سوق المحاكم

(34)

الثورية عامرة. حيث كانت المحاكم تسلم لائحة الاتهام للشخص في حدود الساعة العاشرة، وكان عليه أن يعرّف نفسه إلى المحكمة حتى ما قبل الساعة الثانية عشرة، ليصدر عليه الحكم في تمام الساعة الثانية، وفي تمام الساعة الرابعة يتمّ تنفيذ الحكم الصادر بحقه، وكان في الغالب يتم من خلال قطع الرأس بحدّ المقصلة.

وقد اعتبرت الانتفاضات الشعبية العارمة في تلك المرحلة ثورة فرنسية أخرى، وهي ثورة أكثر "يسارية" بأضعاف مضاعفة عن دستورية عام 1789 للميلاد، وكانت على استعداد حرق كل ما كان سائداً في تلك المرحلة. وكان هذا المجلس هو الذي أصدر قرار عزل الملك، وحل النظام الملكي، وتأسيس الجمهورية الفرنسية الأولى بتاريخ الثاني والعشرين من أيلوم عام 1792 للميلاد[1]. وبعد ذلك بشهرين تمّ ضرب عنق الملك بالمقصلة بعد مصادقة المجلس المذكور على ذلك.

كان النظام الجديد بزعامة اليعاقبة يرى أولى مهامّه في تحشيد الجماهير في مواجهة الجيرونديون والمطالبون بعودة الملكية. وحيث كانت جموع الثائرين في باريس ترتدي سراويل من نوع خاص تميزت تلك الجموع بوصف "أصحاب السراويل". وكانت هذه الجموع هي التي تحكم الشارع وتعمل على مساندة الجموع الغاضبة والحانقة على أصحاب الثروة ودعاة عودة الملكية. وعليه فإن مركزية الدولة الجديدة المتمثلة باليعاقبة وأصحاب السراويل قد تشكلت من أشد أنواع الحكومات اليسارية المتطرّفة في تلك الحقبة، وكانت تواجه بطبيعة الحال أعتى المشاكل في ذلك الحين. حيث شهدت تمرّد ستين

(35)

مقاطعة من بين مجموع المقاطعات الفرنسية ـ البالغ عددها ثمانين مقاطعة ـ على الحكم في باريس، ولولا وجود اليعاقبة وعلى رأسهم حقوقي متطرف مثل روبسبيير، لكانت الدولة الثورية في فرنسا قد انهارت على الصعيد العملي.

لقد تم القضاء في تلك المرحلة على البقية الباقية من الإقطاعيين، وأقر نظام التصويت العام بوصفه حقاً من حقوق الشعب والجماهير. كما أقر العمل على مواجهة الدين، واضمحلت سلطة الكنيسة عملياً، وكذلك الكثير من الأمور التي تمّ إلعمل بها للمرة الأولى في تلك المرحلة، حيث ظهر إلى الوجود عالم جديد لم يسبق للشعب أن رأى مثيلاً له. لقد أقام اليعاقبة أكثر الحكومات مثالية لأنصارهم، وأكثرها رعباً وهولاً بالنسبة إلى معارضيهم. وقد شهدت تلك الأعوام القضاء على الكثير من الجيرونديون تحت طائلة التناغم مع الملك وبطانته من الارستقراطيين. وبعد الفراغ منهم، وصل الدور إلى اليعاقبة المخالفين لروبسبيير أنفسهم، بحيث لم تعد المقصلة في ربيع عام 1794 للميلاد، تميّز بين اليسار واليمين. حتى كانت الحرب وحدها هي التي أبقت على أنصار روبسبيير رغم العزلة التي وجدوا أنفسهم فيها. وفي نهاية المطاف وصل الدور إلى حكومة روبسبيير ـ التي كانت تعتمد في كل أمورها على الجماهير ـ لتحيق بها نقمة الجماهير، حيث انقلبت عليها شفرة المقصلة التي كانت حتى ذلك الحين هي التي تتحكم بها، ليعدم بها في الثامن والعشرين من حزيران سنة 1794 للميلاد . وهناك كانت الثورة في أقصى يساريتها قد تخلت عن اليسار إلى الأبد[1].

(36)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

الليبراليّة

 

(37)

الفصل الثالث:

الليبراليّة

أسلم الفرنسيون مقاليد أمورهم ـ بعد خمس سنوات صاخبة عجاف مفعمة بالمجاعات والحروب والنزاعات ـ إلى حكومة تدار من قبل لجنة من الحكماء. وأخذ البرجوازيون من حملة أعباء الثورة الأوائل يعودون إلى السلطة بالتدريج. وعاد الاحترام للملكية الخاصة بعد أن كان اليعاقبة قد انتهكوها. وبدأت الكنيسة تتحرّر من سطوة اليعاقبة، وأخذ الناس يمارسون طقوسهم الدينية والمذهبية بمزيد من الأمن والسكينة. وقد شهدت تلك السنوات بلورة شخصية لقائد عسكري فذ اسمه (نابليون بونابارت)، وقريباً سيُسلم العالم قياده إليه. ولكن على الرغم من اعتبار تاريخ فرنسا في تلك الأعوام واحداً من أهم مراحل التاريخ خطراً، بيد أننا نضطر إلى الخروج عنه قليلاً، لنتحدّث شيئاً ما عن بريطانيا التي شهدت في ذات الفترة ثورة صناعية. وهي ثورة قد أحدثت ـ شأنها شأن الثورة الفرنسية ـ شرخاً كبيراً ترك بتأثيره العميق في تاريخ الفصل بين تيار اليسار وتيار اليمين، حيث أخذنا نشهد هوّة بين العامل وربّ العمل، أو البروليتاريا والبرجوازية.

الليبرالية التقليدية

قبل كل شيء لا بد من البحث بشأن المفكرين الإنجليز المؤثرين في حقل العلوم الاجتماعية، باعتبار ذلك مقدمة للدخول في دائرة الفضاء الفكري لإنجلترا في تلك الحقبة الزمنية. ولهذا السبب نعود

(38)

إلى سنوات ما قبل الثورة الفرنسية، لكي نعمل على ربطها ثانية بالعالم الاجتماعي اللاحق لها. لقد عرفت إنجلترا بوصفها مهد الليبرالية، ولكن يجب القول: رغم الاستعمال الكثير لمصطلح الليبرالية، حتى في الحوارات اليومية المتداولة بين الناس، كان الفرد يضيع في متاهة معانيها المختلفة والمتنوّعة.

يذهب الكثير من المحققين إلى اعتبار الليبرالية ظاهرة تفوق الأيديولوجيا[1]. لا لأن الليبرالية ليست أيديولوجيا، بل لأن القسم الأكبر من الأيديولوجيات والمدارس الفكرية المتنوعة في العالم قد تمخضت من رحمها، أو أنها آمنت بقواعدها وأصولها الأساسية تصريحاً أو تلميحاً. ويمكن الوقوف على هذه الحقيقة في تسمية هذه الأيديولوجيا، فإن الليبرالية مشتقة من مفردة (liberty) بمعنى الحرية، حيث كانت أمنية الحرية أو الخلاص حاضرة في وجدان كلا التيارين (اليسار واليمين)، رغم اختلافهم الجذري في فهم معنى الحرية وطرق الوصول إلى إليها. فمن ناحية تاريخ الفكر السياسي في الغرب، كانت الليبرالية تمثل عقيدة الطبقة البرجوازية الفتية التي رفعت راية المعارضة ضد الحكومات الأوروبية المطلقة والمستبدة، وطالبت بتحديدها ضمن أطر القانون والدستور[2]. وعلى هذا الأساس فإنه رغم إمكان القول: إن الليبرالية كانت في بداية الثورة الفرنسية تعد مدرسة ثورية، إلا أنها على مرّ الزمن وفي مواجهة المسائل الاجتماعية والسياسية، أخذت تعتبر يمينية من وجهة نظر اليسار المتطرّف. وعلى

(39)

كل حال فإن الليبرالية الراهنة تعدّ من أهم المذاهب اليمينية.

إن الليبرالية ترى المجتمع مجموعة من الأفراد الذين يتمتعون باستقلالية في العمل، ويسعون وراء تحصيل مصالحهم الخاصة. ولهذا السبب يذهب الليبراليون إلى الاعتقاد بأن العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع يجب أن تكون في صيغتها المثالية أمراً طوعياً بالكامل، وأن يكون لكل شخص الحق في أن يكون بمأمن من التطبيق الاعتباطي للسلطة[1].

وقد كان (توماس هابز) من أوائل المنظرين الذين خلقوا صورة للإنسان بوصفه فرداً منفصلاً عن المجتمع بالكامل. فحيث كان يعيش في مستهل العصر الجديد، كان يرى أفراد البشر كائنات فردية ونفعية لا تسعى إلا وراء حاجاتها الخاصة، ولا تسير إلا بوحي منها، ولكن ـ بسبب القسوة الذاتية في وجود الإنسان ـ إذا لم يكن هناك قانون ينظم حياة الناس فيما بينهم، فإنهم سيأكلون بعضهم. من هنا فإن أفراد المجتمع ـ في إطار حفظ الأمن ـ يضعون قدرتهم الفردية تحت تصرّف الحاكم ضمن العقد الاجتماعي، كي يتمكن من خلال توظيف السلطات الكبيرة الممنوحة له من إقامة النظم في المجتمع. وعليه لا بد من إطاعة حكم الحاكم دائماً، وذلك لأن وجوده ضروري لحفظ أرواح الناس. من هنا فإن هابز لا يرى المجتمع والحياة الاجتماعية جزءاً من ذات الأفراد ـ كما كان يرى أرسطوطاليس ـ بل هو عقد ثانوي يبرمونه فيما بينهم تطوعاً.

وعلى الرغم من أن فهم (هابز) لفردية الإنسان قد ترك تراثاً قيّماً لمن تلاه من الليبراليين، إلا أن تأييده لاستبداد السلطة لاقى

(40)

مخالفة من المفكر الإنجليزي (جون لوك) الذي كان يُعدّ في حينها من أهم المنظرين الليبراليين.

كما كان (جان لوك) ـ مثل هابز ـ يرى المجتمع حصيلة "عقد اجتماعي". إلا أنه ـ بخلافه ـ لم يكن يسيء الظن بالأشخاص، ويرى أنهم يتمتعون بقوّة العقل والتفكير التي يمكنهم من خلالها اكتشاف القوانين الطبيعية، لتلبية مصالحهم، كما تمثل بيئة صالحة لتعريف الحكومة[1]. كان (جان لوك) ـ خلافاً لهابز ـ يرى ضرورة تحديد سلطة الدولة حتى الإمكان؛ لأن كل تدخل من قبل الدولة في الشؤون الخاصة للأشخاص يعمل على سلب حرياتهم. لقد استدل (جان لوك) في مقالتين له لإثبات أن الملكية الفردية على أنفسهم وأعمالهم حقيقة بديهية ثابتة حتى قبل قيام العقد الاجتماعي لتأسيس الدولة. وعليه فإن الحفاظ على هذه الملكية الخاصّة من أهم واجبات الدولة.

لقد شهدت إنجلترا طوال هذه الأعوام، الكثير من الاضطرابات السياسية، حتى تمكنت من الدخول في مرحلة الثورة الصناعية بالتدريج.

الثورة الصناعية

لو أننا اعتبرنا الثورة الفرنسية برمّتها ثورة سياسية، فإن مجموع المتغيّرات التي تعرف بالثورة الصناعية، هي في الواقع ثورة اجتماعية أحدثت تغييرات جذرية وعميقة في مجمل بنية حياة البشر. لقد تبلورت الثورة الصناعية في ظل متغيرات متعددة الجوانب. فقد ارتفع عدد السكان بشكل ملحوظ نتيجة تحسّن الأوضاع الصحية، وتضاعفت طرق المواصلات الرابطة بين كل من بريطانيا وفرنسا والولايات

(41)

المتحدة الأمريكية، حيث كانت هذه البلدان تشكل أهم مراكز وعواصم الثورة الصناعية والاقتصادية، واتسعت خطوط الملاحة البحرية بشكل غير مسبوق. وسرعان ما التحق أسطول السفن التي تعمل على قوّة البخار بالسفن الشراعية القديمة، الأمر الذي أسهم ـ بشكل تصاعدي ـ في تسريع حركة الإنسان والبضائع وظاهرة الهجرة والتجارة على نحو مذهل. وفي خضم ذلك كان عالم "الثورات المزدوجة"[1] يشهد مناخاً جديداً وغير مسبوق بالمرة.

وقد كانت بريطانيا تمثل قلب هذه الثورة الصناعية. ففي تلك الحقبة كانت بريطانيا تختلف اختلافاً ملحوظاً عن سائر البلدان والدول الأوروبية الأخرى، حيث كانت تتراوح بين ما يشبه الأوضاع الفرنسية من الثورات المستمرة والاضطرابات المتواصلة، وبين ما يشبه وضع ألمانيا من المعاناة من الأنظمة الاجتماعية القديمة والبالية. ففي بريطانيا "بعد ما يقرب من القرنين من الإعداد التدريجي الهادئ، لم يكن هناك ما يمكنه أن يشكل عقبة أو عائقاً جوهرياً أمام عناصر الانتاج والازدهار الاقتصادي وتكديس الثروة"[2]. في ظل السياسة البريطانية القائمة على التمثيل البرلماني، والاجتذاب الهادئ والمتواصل للثروات من المستعمرات التي لا ينضب معينها، والأهم من ذلك: الاستعانة بنظريات المنظرين من أمثال: آدم سميث، ومالتوس، وريكاردو ونظرائهم، كانت إنجلترا تحفر شرخاً عميقاً بينها وسائر

(42)

البلدان الأخرى، حتى بدا من الصعب ردم الهوّة الحاصلة بينها وبين سائر الدول. وبطبيعة الحال فإن الثروة الإنجليزية لم تكن لينتفع بها الملايين من العمال الذين كانوا يكدحون في مصانعها الحديثة. فلم يكن علم الاقتصاد السياسي الذي ازدهر في بريطانيا، لينفتح عليهم أو يفتح لهم ذراعيه بحنان.

لنتحدث بتفصيل أكبر حول هذا العلم وأصحابه. لقد كان كبير الممثلين لهذا العلم في تلك المرحلة هو آدم سميث، وهو في الوقت نفسه كبير أساتذة علم الأخلاق والاقتصاد في جامعة جلاسيكو. وقد طبع في عام 1776 للميلاد ـ وهي السنة التي اندلعت فيها الثورة الأمريكية ـ كتاباً في ماهية وأسباب ثروة الأمم. ويمكن اعتبار آدم سميث امتداداً لمفكرين آخرين من أمثال: أريك هابز بام، وجان لوك، والمستنيرين الإسكتلنديين.

لقد كان هؤلاء المفكرون يحملون في أذهانهم سؤالاً أساسياً يقول: "كيف يمكن الحفاظ على النظم الاجتماعي في مجتمع يشهد تغيّراً متسارعاً؟"[1]. وقد أدرك هؤلاء بأن هناك بشكل عام نوعاً من التعارض بين المصالح الفردية لأعضاء المجتمع، وبين المطالب والقرارات الحكومية للدولة. ولذلك كانوا يتساءلون قائلين: في الصراع المحتدم بين مصالح الفرد والمجتمع، هل يجب تغليب مصلحة الفرد على المصلحة العامة أم العكس؟ لقد كان التوفيق بين المصالح الفردية والمصالح العامة بالنسبة إلى آدم سميث مضافاً إلى كونه مسألة اقتصادية، مسألة أخلاقية أيضاً. ولقد كان لهذه الرؤية تأثير كبير على

(43)

الكثير من المفكرين الذين جاؤوا بعده، ومن بينهم أحد أعتى مناوئيه، ألا وهو "كارل ماركس" أيضاً. وفي الحقيقة يكمن إبداع "آدم سميث" ـ الذي لقب بـ "أبي علم الاقتصاد الحديث" ـ في تدوين نظرية للحفاظ على المجتمع على أساس المصطلحات الاقتصادية، وعلى مبنى التجاذبات الاقتصادية.

يرى "آدم سميث" أن لدى كل فرد ميلاً ونزوعاً طبيعياً إلى التجارة، بحيث لو تركنا له الحرية وأطلقنا له العنان، فسوف ينحو من تلقائه ناحية النشاط الاقتصادي، وزيادة الانتاج. وكل تاجر يستحوذ عليه دافع الربح، وإن هذا الدافع هو الذي يلهمه الجدّ والنشاط والمثابرة. وعلى هذا الأساس رغم أن المحرّك للتجار هي الدوافع الأنانية والفردية، إلا أن هذه النزعة الأنانية تعمل في الوقت نفسه وبتحريك من "أيد خفية" على مضاعفة وزيادة الثروة الاجتماعية، وتؤدي بالتالي إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية لعموم أفراد المجتمع[1].

لقد حظيت نظريت "آدم سميث" بترحيب كبير من قبل الكثير من الطبقة البرجوازية وأصحاب المصانع في إنجلترا. وقد كانت هذه الطبقة تعمل بكل طاقتها وجهدها من أجل الحد من حجم تدخل الدولة في الاقتصاد؛ وذلك لاعتقادهم بأن العالم الاقتصادي يقوم على أساس منطقه الخاص (أو ما اصطلح عليه باليد الخفية"، وأن كل تدخّل من قبل الدولة من شأنه أن يضرّ به ويحرفه عن مساره. وفي الحقيقة فإن النظرية الاقتصادية لـ "آدم سميث" بشأن الثروة ورأس المال، شديدة الوثوق والارتباط بنظريته الأخلاقية. فلم يكن "آدم

(44)

سميث" يرى الرأسمالية صيغة واضحة ومحددة للنظم الاجتماعي والاقتصادي، بل يراها حالة طبيعية في المجتمع. وكان يرى الرأسمالية شيئاً مثل "الطبيعة" و"الحسن".

إلا أن التاريخ قد أثبت أن هذه النظرية والرؤية ـ رغم قيامها على أساس انتقاد الاستبداد والدكتاتورية، والدعوة إلى "الحرية" ـ لا تقل في القسوة والهمجية عن أعتى الدكتاتوريات في العالم. ونموذج المجاعة التي أصابت إيرلندا خير شاهد ودليل على ذلك. ففي بداية القرن التاسع عشر للميلاد قامت إيرلندا باتباع السياسات البريطانية؛ فتخلت عن زراعتها وصناعتها التقليدية، وتحوّلت إلى مزارع صغيرة ولا متناهية من مزارع البطاطس. فتحول السكان الإيرلنديون إلى جماعات مستأجرة، وكانوا يدفعون أقصى ما يمكن دفعه من الإجارات لأعداد قليلة من أرباب التجارة، الذين كانوا في الأساس يعيشون خارج إيرلندا أصلاً. وحيث لم يكن هناك من محصول آخر يزرع، ولم تكن هناك أي صناعة أخرى، لم يكن هناك من حيلة للبقاء على قيد الحياة إلا من خلال اللجوء إلى زراعة البطاطس، وأكل البطاطس. وفي عام 1845 للميلاد أصابت البطاطس آفة أتلفتها. وفي عام 1846 للميلاد أضحت الأوضاع أكثر سوءاً وتعقيداً، وفي عام 1848 للميلاد جاء الجفاف ليقضي على البقية الباقية من مزارع البطاطس، وانعدم الطعام بالمرّة.

إن الدولة الإنجليزية التي كانت سياستها هي السبب في انهيار البنية التقليدية لإيرلندا، كانت تعتقد ـ بتأثير من الهيمنة والسيادة الكاملة لأفكار ونظريات "مالتوس"[1] ـ بأن الطبيعة تفعل فعلها في

(45)

إعادة التوازن السكاني لإيرلندا، وأن الوقوف بوجه الطبيعة سيعود بـ "نتائج قاتلة" على بريطانيا. هذا في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تعيش ذروة الانتعاش والازدهار الاقتصادي، وكانت في الحقيقة من أكثر دول العالم ثراءً. وكان اللورد جان راسل ـ جد الفيلسوف الوجودي "برتراند راسل" ـ رئيساً لوزراء إنجلترا في حينها، وقد امتنع عن تقديم أبسط المساعدات للإيرلنديين الخاضعين لاستعماره، وقال في جواب الإيرلنديين الغاضبين الذين كانوا يرون تصدير فائض الحنطة والشعير من مزارعهم وأمام أعينهم، تحت حراسة ومراقبة مشددة من الجيش الإنجليزي: "لا تفكروا في الوقوف بوجه التصدير؛ لأن الطريق الصحيح يتمثل في الحرية التجارية التامّة".

وفي الشتاء المرعب والرهيب لعامي 1846 ـ 1847 للميلاد ـ حيث اقتصرت وجبة طعام الأسر في بعض المناطق الإيرلندية، على بضع أوراق من اللفت المغلي في كل يومين ـ كتب ممثل الجيش البريطاني في إيرلندة مخاطباً جان راسل: "لا أتصور أن هناك في عموم أوروبا قانوناً يتجاهل ما تعانيه المناطق الغربية من إيرلندة من الحرمان، أو أن يصرّ بكل برود على مثل هذه السياسة المتّبعة"! والملفت أن جان راسل قال في مجلس العوام ـ في الردّ على ذلك ـ بكل برود: "نرى أن

(46)

من الأفضل إيكال الأمر إلى القطاع الخاص والتجارة السائدة". ولم يقدم لهم أي مساعدة، ولا حتى قرشاً واحداً. وقد كتب أحد المنظرين الإنجليز في تلك الحقبة: "كنت على الدوام أعيش رعباً قاتلاً من النمط الفكري الذي يحمله علماء الاقتصاد السياسي! .. وقد سمعت أحدهم يقول: أخشى أن تقل نتائج المجاعة في أيرلندة ـ والتي حدثت في عام 1848 للميلاد ـ عن المليون قتيل، وهذا هو العدد الأدنى الذي يمكن التفاؤل بحدوثه، لما يترتب عليه من النتائج الإيجابية".

وبطبيعة الحال كانت النتائج إيجابية إلى حدّ كبير. فعلى مدى خمس سنوات، عانت إيرلندة من مجاعة قاتلة على مرأى من أنظار إنجلترا التي كانت غارقة في الثراء الفاحش، وبغض النظر عن هروب مليون نسمة من سكان إيرلندا البالغ عددهم سبعة ملايين نسمة، تذهب أكثر التقادير تفاؤلاً إلى تسجيل مليون ونصف قتيل بفعل المجاعة. وذلك لأن السياسة الليبرالية تذهب إلى الاعتقاد بأن الفقر إنما يصيب الناس بسبب تكاسلهم وتقاعسهم عن العمل، أو في الحد الأقصى قد يحل بسبب الكوارث الطبيعة ـ كما حصل لإيرلندة ـ إلا أن هذا لا يجب عدّه مصيبة، بل هو هبة إلهية، ولا يمكن الوقوف بوجه المواهب والقضاء الإلهي المحتوم. بل علينا ـ من منطلق الاعتقاد الراسخ ـ أن نرحب بقواعد الانتصار في العالم الحديث، والمتمثلة بأسس الرأسمالية[1].

كما سبق أن ذكرنا، فإن مفهوم "الحرية" كان يُمثل بالنسبة إلى المفكرين في تلك المرحلة أهم غاية تستحق أن تتظافر جميع الجهود الفكرية والعلمية من أجل تحقيقها. ولكن هناك الكثير من التعابير

(47)

المختلفة في بيان وإفادة هذا المفهوم. فقد كانت الحرية بالنسبة إلى المفكرين الذين يُعرفون بوصفهم من علماء الاقتصاد السياسي التقليدي، من أمثال: (سميث، وريكاردو، ومالتوس، ونظرائهم)، تعني التحلل من القيود والقوانين الحكومية، والاستقلال في النشاط الاقتصادي الشخصي. وقد كانوا يذهبون إلى الاعتقاد بأن القرارات الحكومية حتى إذا لم تقم على أساس من إرادة فرد واحد، بل كانت قائمة على أساس موافقة أغلب المواطنين، تبقى مسألة غير إجماعية. وعليه سيكون في تطبيقها على الجميع سلباً لحرية تلك المجموعة من المواطنين الذين لم يوافقوا عليها. كما كان لهذه المسألة وجه آخر، وهو أن الأغنياء والمنتجين الصناعيين في جميع المجتمعات يشكلون طبقة قليلة من مجموع المجتمع. ولذلك فإن مصالحهم تكون ـ على الدوام ـ متعارضة مع مصالح الجماهير. من هنا فقد ذهب علماء الاقتصاد السياسي من التقليديين إلى الاعتقاد بأن الدولة إذا تدخلت في المسائل الاقتصادية، فإن ذلك سيحمل في طياته احتمال تعريض مصالح أصحاب الثراء إلى الخطر. وقد كان هذا الأمر بالغ الخطورة من وجهة نظرهم؛ لأنه يعرّض العناصر الرئيسة في تطوير الاقتصاد إلى الخطر، وهذا سيضر بالتالي في مجمل الانتاج وتكديس الثروة ومراكمتها. وبطبيعة الحال فإن تحقيق ظروف الحرية كان يتوقف على مقدمات في غاية الأهمية، ومن بينها: الاعتراف بـ "حق الملكية الخصوصية". وقد كانت الملكية الخاصة تمثل مركز الجدل الكبير المحتدم بين تيار اليسار وتيار اليمين، وهو جدل لا يزال قائماً.

(48)

الملكية الخاصة

لقد كان اليمينيون ـ الذي يتبعون في الاقتصاد قاعد الـ "لاسه فر"[1] الشهيرة ـ يخالفون أي نوع من أنواع تدخّل الدولة في الشؤون الاقتصادية. حيث يرون أن لدى السوق نظمه التلقائي الذي يجب أن يأخذ مجراه بعيداً عن تدخل الدولة. وفي الحقبة الزمنية موضع البحث ـ التي تبدأ من أواخر القرن الثامن عشر للميلاد ـ حيث تمّ إلغاء أكثر القيود المفروضة من قبل الدولة، اكتسبت الملكية الخاصة قوّة عملية لم تكتسبها في أيّ مرحلة أخرى. أما الجناح الاقتصادي لدى اليسار، الذي كان معروفاً في تلك المرحلة بـ "الراديكالية" فكان ـ خلافاً لليمين ـ يرى الملكية الخاصة من مخلفات مرحلة ما قبل التنوير، وأن هذه الملكية الخاصة لا تختلف في شيء عن سلطة الحكومات والدول المستبدة، وأنها تعارض الأهداف التنويرية. وكان اليساريون يذهبون إلى الاعتقاد بأن الملكية الخاصة حيث تحمل في ذاتها بذور الأنا ـ الكامنة في الاستبداد ـ فإنها تتناقض مع الصالح العام للمجتمع؛ إذ لو كان هدف الأفراد في الحياة مقتصراً على ملكيتهم الخاصّة فقط، فإن النظم الاجتماعي سيأخذ طريقه إلى الانهيار. فصحيح أن جميع الأفراد في مثل هذه الظروف يمتلكون حق الانتخاب، ولكن الصحيح في الوقت نفسه أن الجميع لا يمتلكون فرصاً متساوية في حلبة التنافس. فإن الفقراء والمعدمين أو الذين يمتلكون القليل من الأموال لا يمكنهم الصمود في وجه أصحاب الثروات الطائلة. وفي الحقيقة فإن الخوف

(49)

من الموت جوعاً يدفعهم إلى قبول العمل في أصعب الظروف القاسية والمجحفة والظالمة. وعليه فإذا كان اليمينيون يرون في الملكية الخاصة مقدمة للحصول على الحرية، كان اليساريون يرون فيها أرضية خصبة لانعدام العدل وإنتاج الطبقية[1].

(50)

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

بركان اليسار

(51)

الفصل الرابع:

بركان اليسار

كان الوضع الجديد يدفع بالقارّة الأوروبية نحو ثورة شاملة، وهي ثورة قذفت بالقسم الأعظم من أوروبا في أتونها. وكما في السابق عادت فرنسا لتقف في مقدمة المتغيّرات الثورية. لقد تركنا فرنسا منذ اعتلاء نابلوين بونابرت للسلطة. وعليه نشير إلى متغيرات هذا البلد إلى عام 1849 م الحاسم ضمن خطوط عريضة. استمر نابلون في حكمه لإمبراطوريته من عام 1804 إلى عام 1815 م. وبعد ذلك عاد الحكم إلى فرنسا ملكياً تحت سلطة لويس الثامن عشر، واستمر حكمه إلى عام 1830 م، وبعد حكم لويس الثامن عشر، تلاه على العرش كل من شارل العاشر، ولويس فيليب الأول حتى عام 1848 م، حيث تعاقب هؤلاء الملوك على حكم فرنسا.

وطوال هذه الحقبة كانت فرنسا ساحة للاضطرابات السياسية المتواصلة. وقد حصلت الجماعات السياسية المتنوّعة في فرنسا ـ بطبيعة الحال ـ بعض التجارب التي اكتسبتها من الثورة الفرنسية بالتدريج، الأمر الذي انعكس على النزاعات لتتحول من النزعة العملية البحتة، لتتخذ طابع النقاشات الأيديولوجية الجادّة. وكان ورثة النزعة الثورة ينقسمون بشكل رئيس إلى ثلاث مجموعات رئيسة، وهي:

1 ـ "الليبرالية المعتدلة" التي تمثل اتجاه الطبقة المتوسّطة العليا، وطبقة النبلاء الليبراليين.

(52)

2 ـ "الراديكالية ـ الديمقراطية"، التي تمثل اتجاه الطبقة المتوسطة الدنيا، وقطاع الحرفيين الجدد، والمستنيرين، والنبلاء المعارضين.

3 ـ "الاشتراكية"[1] التي تمثل الطبقة الكادحة والمستضعفة أو طبقة العمال في المصانع، وطبقة البروليتاريا بشكل عام.

لقد كانت الليبرالية على المستوى النظري ذات جذور فرنسية ـ إسبانية. وكانت الراديكالية منبثقة من الأصقاع البريطانية، وكانت الاشتراكية إنجليزية ـ فرنسية. وعلى المقلب الآخر كانت الأيديولوجية الرابعة المتمثلة في "المحافظين" حيث يمكن العثور عليها في كل مكان، ولا سيما في فرنسا وإنجلترا.

والذي ألهم الجماعة الأولى، هي ثورة عام 1789 م، والتي كانت غايتها وتطلعاتها السياسية تتمثل في حكومة ملكية دستورية شبيهة بما كان عليه الوضع في بريطانيا، مقرونة بنظام برلماني يعترف بالملكية الخاصة. وكان ملهم الجماعة الثانية الاتجاه المعتدل بين اليعاقبة بعد مرحلة الثورة، وكانت تطلعاتها السياسية تتجه إلى نظام جمهوري ديمقراطي ومنهج شبيه بـ "حكومة الرفاهية" المخاصمة للأغنياء. وكان ملهم الجماعة الثالثة، أصحاب السراويل الممثلين بالجناح المتطرف لمدرسة روبسبيير والصقور من ممثليه[2].

وفي قبال هذه الجماعات الثلاث، كان المطالبون بعودة الملكية، والمحافظون التقليديون، وإلى حدّ ما التشكيلات الكنسية. إن هذه الجماعة الرابعة كانت تعتبر كل الجماعات الثلاث مخلة بالنظم والاستقرار، ولكن

(53)

على درجات مختلفة، إلا أنهم كانوا يختلفون بشدّة ـ بطبيعة الحال ـ مع الاشتراكيين الذين لم يكن لهم من همّ سوى إثارة الفوضى.

وعليه إذا أردنا الآن أن ننظر إلى هذه الصفحة الشطرنجية في ضوء هدفنا العام من هذا الكتاب، والمتمثّل بالتقابل بين تيار اليسار وتيار اليمين، فإن الإنصاف يقتضي منا اعتبار المحافظين والليبراليين المعتدلين من "اليمين"، واعتبار الراديكاليين ـ الديمقراطيين والاشتراكيين من "اليسار". وكانت السلطة الفرنسية على طول الانتصارات القصيرة الأجل دولة بين اليسار واليمين. ولكن يمكن القول بشكل عام إن تيار اليمين في مرحلة إمبراطورية نابليون (أو نابليون الأول)، ومرحلة عودة السلطة الملكية، كان هو الغالب على تيار اليسار بشكل عام.

ولكن بمقدار ما كان ساسة اليمين ممسكين بعصب المتغيّرات في تلك المرحلة على المستوى العملي، كان اليسار في الطليعة على المستوى التنظيري. وفي هذه الحركات، كان الفوضويون من الجماعات اليسارية الهامة. وقد كان الفوضويون من الجماعات التي تعرّضت لأكبر أنواع الانتقادات من كلا التيارين، ولكن يجب أن لا ننكر وجود أفكار هامة في مجموع تصوّراتهم.

الفوضوية

على طول تاريخ الفكر السياسي، كان يُنظر إلى الفوضوية ـ إلى حدٍّ كبير ـ بوصفها جزيرة منعزلة عن سائر الأفكار الأخرى. وربما كان السبب الرئيس في هذه الظاهرة يعود إلى أن هذه الرؤية ـ خلافاً لسائر الأيديولوجيات السياسية الأخرى ـ لم تتوفر على مصداق عملي لها.

(54)

لقد أظهرت هذه الرؤية نفسها غالباً في إطار "الحركات الاجتماعية التلقائية". ولكن يجب أن لا نغفل عن أن عدم الإتقان والتناغم الداخلي لهذه الرؤية يُعد واحداً من عناصر تجاهلها في السنوات الأخيرة. وعلى كل حال يمكن القول بشكل عام: إن الفوضوية ـ التي كانت في القرن التاسع عشر تعدّ من أهم التيارات اليسارية ـ قد اضمحلت في القرن العشرين حتى أضحت بحكم العدم.

إن مصطلح الفوضوية (anarchism)[1] مأخوذ من اللغة اليونانية، ويراد به "عدم الحكم"[2]. وإن الفوضوية ـ بوصفها رؤية سياسية ـ عبارة عن: "مجموعة من النظريات والتعاليم والحركات التي تنفي لزوم أي تمايز بين الدولة والمجتمع"[3].

يذهب الفوضويون إلى رفض الدولة صراحة، ويرونها "شرّاً لا ضرورة له". حيث يرون السلطة المطلقة التي تفرض على المواطنين بالإكراه، مرادفة للظلم المشرعن، وإن هذه السلطة تصبّ في مصلحة المقتدرين وأصحاب الممتلكات والطبقات الممتازة. وإن انتقاد الفوضويين لـ "السلطة" لا يقتصر على السلطة السياسية فحسب، وإنما يطال السلطة المذهبية والدينية، حيث يوجّه مفكرو الفوضوية سهام انتقاداتهم القاسية لرجال الدين أيضاً.

وإذا أردنا أن نتحدّث بدقة أكبر، أمكن لنا تعريف الفوضوية ـ من الناحية "الإيجابية" و"السلبية" ـ على النحو الآتي: إن الفوضوية

(55)

من الناحية السلبية تعني إلغاء القانون والحكومة والدولة والسلطة والمجتمع، كما أنها من الناحية الإيجابية تعني: "نظرية الاجتماع الطوعي، وعدم المركزية، والحرية" وما إلى ذلك من الموارد[1]. ومن بين مشاهير الفوضويين التقليدين يمكن لنا الإشارة إلى: بيير جوزيف، وبرودون، وميخائيل باكونين.

إن الأفكار المشتركة بين مختلف الجماعات الفوضوية، تتمثل بنبذ الدولة، والقول بالنظم الطبيعي، ومحاربة رجال الدين، والذهاب إلى نوع من الاعتقاد بالاقتصاد الحر[2].

وفيما يتعلق بإمكانية اعتبار الاقتصاد الحر بوصفه واحداً من قواعد التفكير الفوضوي، هناك اختلاف في وجهات النظر. إذ يذهب الفوضويون إلى الاعتقاد بأن النظم يسود المجتمع بشكل طبيعي، دون أن تكون هناك من حاجة إلى مؤسسة لها اليد الطولى في فرض هذا النظم على المجتمع. فالنظم ليس بالشيء الذي يحتاج منا إلى بذل الجهد لتحصيله، بل هو شيء يزدهر ببساطة من تلقائه لو تجنب الناس التدخل فيه. إن هذه الرؤية إلى النظم شديدة الشبه بالاعتقاد السائد بين الاقتصاديين الليبراليين التقليديين فيما يتعلق بالنظم في السوق. وعليه يمكن القول: إن الفوضويين من كل فرقة أو مذهب يرجّحون كفة النظام الاقتصادي الحر الذي يمنح الأفراد الاستقلالية في نشاطهم الاقتصادي.

هناك تقسيم شائع في الفوضوية يقسّم هذه الفكرة إلى رؤيتين رئيستين، وهما: الفوضوية الفردية، والفوضوية الجماعية. وبطبيعة الحال فإن الأغلبية الساحقة من الفوضويين المعروفين يُعدّون من

(56)

أتباع الفوضوية الجماعية.

إن الفوضوية الجماعية أو الاشتراكية، من أشهر فروع الفوضوية. من أمثال الماركسية (التي سوف نتحدث عنها لاحقاً بتفصيل أكبر) حيث تنبثق من الأفكار الفوضوية الاشتراكية. إن الفوضوية الجماعية فيما يتعلق بمسألة النظم في المجتمع الخالي من الدولة، تقترح قيام مجموعة من الكوميونات[1] أو الجماعات المتطوعة. وإن من بين أبرز أشكال هذه الجماعات المتطوّعة من وجهة نظرهم ما يعرف بـ "الاتحاديات"[2] أو النقابات العمالية. وعليه فإن الفوضويين الجماعيين كانوا يدعون إلى نوع من الديمقراطية المتطرّفة.

لقد كان (برودون) من أوائل الفوضويين الاشتراكيين. إذ كان يذهب إلى الاعتقاد بالنسق الطبيعي والحقوق الثابتة للإنسان، أي: "الحرية" و"المساواة" و"الاستقلال الفردي"، وكان يقول بأن النظام الاقتصادي الحاكم قد أطاح بهذا النسق وتلك الحقوق[3]. وقد مثل كتابه (ماهية الملكية) ـ وهو من أهم كتبه ـ هجوماً على حقوق الملكية وعلى الماركسية أيضاً. وفي المقابل كان يعتقد بنوع من التعاون الطوعي بين الأفراد لرفع الاحتياجات البشرية أكثر من اعتقاده بالحصول على المزيد من الربح الذي يمثل غاية الرأسمالية. وإن عبارته الشهيرة في هذا الكتاب، حيث يقول: "الملكية سرقة" تبيّن شدّة تمسّكه بهذا الاعتقاد. وفي مواجهة الفوضوية الجماعية أو الشيوعية، يُمثل مفهوم

(57)

"الذات" أساساً للفوضوية الفردية. وطبقاً لهذه الرؤية فإن الأفراد ـ انطلاقاً من احتياجاتهم وتطلعاتهم ـ هم الذين يقرّرون ما هو الأصلح لهم. إن الفوضويين الفردانيين لا ينكرون مفهوم التعاون بالمرّة، وذلك لأن هذا التعاون يعتبر ضرورياً لتلبية بعض الاحتياجات البشرية. بيد أنهم يعتقدون أن "الفرد" وحده هو الذي يستطيع بشكل حقيقي أن يقيم المجتمع الطوعي من خلال التعاون مع الآخرين. وعليه فإن هذا المجتمع لا يكون هو الهدف والغاية في حدّ ذاته، وإنما هو مقدمة وطريق ناجع للوصول إلى الأهداف الفردية المؤقتة[1].

إلى ذلك هناك بعض الفروق بين الفوضوية الفردية، وبين الفردانية الليبرالية؛ فالليبراليون يؤمنون بأهمية الحرية الفردية بشكل كامل، ولكنهم لا يؤمنون بإمكانية تحقيق هذه الحرية في مجتمع لا يحكمه القانون[2]. وعلى هذا الأساس فإن الليبراليين يدعون إلى قيام الحكومة ومؤسسات الدولة بوصفها "شرّاً لا بد منه"، ويسعون في الوقت ذاته إلى الحدّ من صلاحياتها وسلطاتها. أما الفوضويون فينكرون الدولة بالمرّة، كما أن الفوضويين الفرديين ـ علاوة على رفضهم للدولة ـ ينكرون الديمقراطية أيضاً.

ماركس

يكفي للجدول النظري لمعسكر اليسار أن تشهد حاضنته في الربع الثاني والثالث من القرن التاسع عشر للميلاد، ولادة مفكر عالمي بقامة (كارل ماركس)، وهو المفكر الذي تركت أفكاره تأثيراً عملياً ونظرياً

(58)

على مليارات النفوس في القرن العشرين للميلاد، وبذلك فاق غيره من المفكرين بأعداد خيالية من المؤيدين. وبطبيعة الحال فإن تحديد ما إذا كان هذا التأثير الكبير كان على المستوى الإيجابي أو السلبي، يحتاج إلى دراسة مستقلة. وعلى كل حال فإن كارل ماركس ونشاطه الفكري والعملي يمثل انعطافة في تاريخ اليسار؛ إذ أمكن له أن يحقق نجاحاً باهراً في المزج بين ثلاثة تيارات فكرية كبرى، ظهرت على المستوى الأوروبي، في القرن التاسع عشر للميلاد. وقد تمثلت هذه التيارات الفكرية الثلاثة بـ: الفلسفة الألمانية، والاقتصاد السياسي الإنجليزي، والاشتراكية الفرنسية[1]. بيد أن الذي ميّز كارل ماركس في عالم "اليسار" من غيره، هو رؤيته الخاصة إلى الاشتراكية. فقد كانت الاشتراكية مفردة بدأنا نسمعها بُعيد سنوات قليلة من ثورة عام 1789 م. وقد تمثل جناحاها الرئيسان، بجناح "الاشتراكية الأخلاقية"، لـ (سان سيمون)[2]، و(شارل فورييه)[3]، و(روبرت أوفين)[4]، وجناح: "الشيوعية الثورية، حيث يقف

(59)

(بابوف)، و(بلانكي)، اللذين تميّزا من أصحاب الجناح الأول بموقفهما من الثورة الفرنسية. فقد ذهب الجناح الأول إلى رفضها، بينما وافق عليها الجناح الثاني، وسعى إلى تكميلها. لقد عاش كل من (سان سيمون)، و(شارل فورييه) في خضم الثورة، وبالتالي تحملوا الكثير من تداعياتها وآلامها، فقد حكم على (سان سيمون) بالسجن في مرحلة الاغتيالات، وتمّ هدم بيت (فورييه) في ليون.

وبطبيعة الحال لا بد هنا من التأكيد ثانية  على أن الإخلاص لقيم التنوير لا تقتصر على هاتين الجماعتين الرئيستين في الاشتراكية، بل إنها تعدّ في الأساس نقطة اشتراك بين اليساريين واليمينيين. وعلى كل حال فإن الاشتراكيين الأخلاقيين (الذين كان كارل ماركس يسخر منهم في وصفه لهم بالطوباويين)، يذهبون إلى الاعتقاد بأن "العقل" في مسار التنوير، سينتصر في نهاية المطاف، وأن الأفكار الاشتراكية سوف تغيّر وجه العالم بالتدريج. لقد كان لدى الاشتراكيين الأخلاقيين أفكار لا تختلف عن آمال وتطلعات (كامبانيلا) الذي بدأنا به قصة هذا الكتاب. لقد كان (شارل فورييه) يعتقد بأن الرأسمالية  ـ خلافاً لما يعتقده المفكرون في التيار التنويري ـ ليست هي الشكل الطبيعي للمجتمع الإنساني، بل على العكس من ذلك يمكن اعتبارها شكلاً غير طبيعياً؛ لأنها تنكر بعض أهم الاحتياجات والميول الإنسانية. وعلى هذا الأساس حيث كان المستنيرون ينتقدون الاستبداد والخرافات، كان (شارل فورييه) يصبّ جام نقده وغضبه على مجمل الحضارة المتمثلة بالمجتمع الطبقي. وفي مقابل "الجحيم الاجتماعي"

(60)

للمجتمع المعاصر، كان الطوباويون يرسمون أفقاً مغايراً للمستقبل، حيث نجد أبرز صوره في كلام (سان سيمون) إذ يقول: "إن العصر الذهبي للإنسان، لا يكمن خلفنا، بل هو ماثل أمامنا"[1].

أما الجماعة الثانية فهم الثوريون: لقد كان (بلانكي) قد سبق (كارل ماركس) بوصفه أكبر الممثلين لهذه الجماعة. وقد كانت أفكار هذه الجماعة مستمدّة من الجناح اليساري المتطرّف لليساريين الجمهوريين الراديكاليين في الثورة الفرنسية. كان الشيوعيون الثوريون في تلك الفترة يرومون الذهاب إلى ما هو أبعد من تطلعات اليعاقبة، إذ أرادوا تحقيق شعار (الحرية، والإخاء، والمساواة)، من خلال إلغاء الملكية الخاصة وفرض المساواة المطلقة. لقد عمد (بلانكي) إلى دعم الطوباويين في انتقادهم الحاد للرأسمالية، كما يدعم رؤيتهم إلى شكل المجتمع في المستقبل، والذي كان يراه متمثلاً بـ "الشيوعية". إلا أنه كان ـ على غرار (بابوف) ـ يرى أن الشيوعية لا تقوم إلا من خلال إسقاط الدولة بقوّة السلاح، وإقامة ديكتاتورية ثورية على أنقاضها. وكان (بلانكي) هو أول من استعمل مصطلح "دكتاتورية البروليتاريا".

وقد انتفض (كارل ماركس) على كلتا هاتين الجماعتين الاشتراكيتين، وبعد رفضه لنظريتيهما؛ لعدم علميتهما وعدم واقعيتهما، سعى إلى تأسيس "الاشتراكية العلمية".

إن نقطة الانطلاق الرئيسة للاشتراكيين حتى تلك الفترة كانت تتمثل بالظروف القاسية التي تلقي بكلكلها على صدور العمال، ولا سيما منها "الفقر". وأما نقطة انطلاق (كارل ماركس) فلم تكن لتكمن في الفقر، وإنما في "الاغتراب عن الذات"، بمعنى أن الأفراد

(61)

قد انفصلوا عن عملهم وعن نتائجه المادية والمعنوية والاجتماعية التي تتخذ شكل البضاعة والفكر والمؤسسة السياسية. كما أن الإدارك الطبقي للبروليتاريا ليس إدراكاً للفقر، بل هو إدراك للاغتراب، وإن هذا الإدراك والوعي لن يحصل إلا عند بلوغ الاغتراب عن الذات قمته وذروته[1]. وعلينا أن نتحدّث بشأن الاغتراب عن الذات بتفصيل أكبر.

لقد كان "الاغتراب" واحداً من مواريث الفلسفة الألمانية لـ (كارل ماركس). فقد كان (هيجل) في الأساس قد أقام فلسفته حول هذا الموضوع، إلا أن (ماركس) قام بتطبيقها بعد إجراء بعض التغيير على محتواها. لقد كان الاغتراب من وجهة نظر (كارل ماركس) ينقسم إلى أربعة أقسام، وهي كالآتي:

1 ـ الاغتراب عن المنتوجات والمحاصيل الذاتية.

2 ـ الاغتراب عن الطبيعة التي نعيش فيها.

3 ـ الاغتراب عن المجتمع وأفراده.

4 ـ الاغتراب عن الذات.

والقسم الرابع يمثل بشكل من الأشكال جوهر جميع أنواع الاغتراب الأخرى. والسؤال الذي نطرحه هنا، هو: متى يحدث الاغتراب عن الذات؟ إن الجواب الذي يقدمه (كارل ماركس) عن هذا السؤال، بسيط جداً؛ إذ يقول: إن الاغتراب عن الذات إنما يتحقق عندما لا يعود الإنسان مدركاً لقيمة العمل الذي يقوم به. ولكي نفهم هذا الجواب علينا أن ندرك أن "العمل" بالنسبة إلى (ماركس) يمثل المسار الذي يعمد الإنسان من خلاله إلى إبراز نفسه وإثبات وجوده

(62)

في هذا العالم، بل إن الإنسان في الأساس لا يمكن له أن يدرك ذاته في الارتباط بعالمه إلا من طريق العمل. وبعبارة أدق: إن العمل هو الذي يحدّد "الوجود"[1]. فمثلاً: إن الفلاح طبقاً لمقتضى مهنته يقيم علاقة مع الزمن والأرض وسائر الأفراد. فهو يعلم أن عليه أن ينثر البذور في أوقات محدّدة، وأن يختار لذلك أرضاً خصبة بعينها، وعليه لذلك أن يقيم مع الآخرين ارتباطاً محدداً. إن هذه الأمور مجتمعة هي التي تضفي قيمة ومعنى ودوراً لوجوده وحياته في هذا العالم. والأهم من كل ذلك أن الفلاح من خلال مشاهدته لنتيجة عمله ونضوج محصوله، يدرك قيمته وازدهاره في هذا العالم. فإذا عمد هذا الفلاح إلى ترك الفلاحة والزراعة، سوف ينفرط عقد جميع هذه الحلقات المتصلة التي أضفت القيمة والمعنى على حياته.

يذهب (كارل ماركس) إلى الاعتقاد بأن هذا ما يحدث للعمال في العالم الصناعي، ولكن لا لأنهم يتقاعسون عن القيام بأعمالهم، بل لأن العمل قد تمّت تجزئته إلى جزيئات وقطع صغيرة، ولأن العمال لم يعد بإمكانهم رؤية نتيجة أعمالهم، حتى لم تعد نتيجة عملهم مرتبطة بهم. وقد أبدع الممثل الساخر (شارلي شابلن) في فلم (العصر الجديد) في تصوير هذه الحقيقة، حيث جسّد كيف يستغرق العامل لساعات طويلة في مجرد شدّ الصمولات، حتى لا يكون له من شغل شاغل طوال فترة العمل سوى هذه الجزئية من مجموع العمل، فيكون من الطبيعي أن يغترب عن ذاته وهويته؛ إذ لا يستطيع أن يُبعد حتى أذى الذبابة عن نفسه؛ إذ فرضت عليه طبيعة العمل ـ طبقاً لطريقة الانتاج الرأسمالي ـ أن لا يكون له من مجموع العمل سوى تلك الحصة التافهة من

(63)

الانتاج فقط. ولذلك لم يعد باستطاعته أن يدرك نتيجة عمله. وهذا يمثل نقطة البداية للاغتراب عن الذات. حيث يعود العمل والانتاج أجنبياً عنه، وخالياً من المفهوم والمعنى، وتبعاً لذلك يغدو غريباً عن طبيعته ومجتمعه أيضاً.

ولا بد من الالتفات إلى أن الاغتراب عن الذات لم يكن نهاية الطريق بالنسبة إلى (كارل ماركس) في تحليل الرأسمالية، بل بدايته. لقد كان (ماركس) يسعى ـ من خلال إدراكه للاغتراب عن الذات ـ إلى تصوير عالم لنفسه يرجو بلورته في المستقبل، وهو العالم الذي لا يعود العامل فيه منفصلاً عن ثمار عمله، وطبيعته، ومجتمعه وذاته.

أما السؤال الآخر، فهو: مع وجود مثل هذه المعضلة الكبرى، كيف أمكن للرأسمالية أن تبصر النور، وأن تواصل وجودها؟

إن الإجابة الفريدة التي يقدّمها (كارل ماركس) عن هذا السؤال هي التي جعلت منه بحق واحداً من أعظم المفكرين في العصر الحديث. لقد ذهب (كارل ماركس) إلى الاعتقاد بأن الرأسمالية ـ مثل سائر الأنظمة الانتاجية / الاقتصادية القديمة ـ تقوم على أساس التناقض أو التضاد والتخالف المركزي. ففي المرحلة القديمة كان هذا التناقض والتضاد قائماً بين العبد والسيد، وفي المرحلة الاقطاعية انتقل هذا التناقض ليقوم بين الفلاح والإقطاعي، وفي المرحلة البرجوازية انتقل التناقض ليقوم بين العامل وربّ العمل. وحيث نشهد اليوم جماعة قليلة ظالمة، وجماعة كبيرة مظلومة، لا يكون هناك من فرق بين المرحلة الحديثة والمراحل القديمة. بيد أن المرحلة الحديثة تشتمل على خصائص لم تكن موجودة في المراحل السابقة.

فأولاً إن البرجوازية أو الطبقة المهيمنة على المجتمع الرأسمالي،

(64)

لا تستطيع الحفاظ على حكومتها دون إجراء تغيير أو تحوّل مستمر في وسائل الانتاج[1]. ولكي نفهم هذه الجملة، لا بدّ لنا من إيضاح مفهومين في تفكير (كارل ماركس)، وهما:

1 ـ القوى الانتاجية: إن القوى الانتاجية تمثل في الحقيقة ظرفية وقدرة النظام على الانتاج. إن هذه المسألة تعود إلى المستوى التكنولوجي وأسلوب تنظيم العمل أكثر من أي شيء آخر. وإن القوى الانتاجية في الرأسمالية أعظم وأكبر من أي شيء آخر على طول التاريخ. إن القوى الانتاجية هي ـ بمعنى من المعاني ـ ذات وسائل الانتاج أو أدواته.

2 ـ العلاقات الانتاجية: إن العلاقات الانتاجية تشير إلى أمور من قبيل: الملكية وطرق توزيع الأرباح وما إلى ذلك. بمعنى: نوع من العلاقة التي تقوم بفعل قوى أو وسائل الانتاج الخاصة بين العامل وربّ العمل.

وعليه بالاستناد إلى هذين المفهومين، نعيد قراءة عبارة (كارل ماركس) المتقدّمة: إن النظام الرأسمالي بمنزلة التنافس الاقتصادي الذي يسعى سعياً جنونياً إلى تحقيق المزيد من الربح. إذ يضطر كل واحد من الرأسماليين إلى البحث باستمرار عن سبل جديدة لتحقيق أكبر الأرباح بأقل التكاليف، ولذلك نجده شديد الارتباط بالتكنولوجيا. وهذه المسألة تتناقض مع الأنظمة ما قبل الحديثة التي كانت وسائل الإنتاج فيها ثابتة.

أما الاختلاف الثاني بين الرأسمالية وسائر الأنظمة الاقتصادية

(65)

السابقة عليه، فيكمن في أننا فيما يتعلق بأساليب الإنتاج الرأسمالية، كلما تقدمنا إلى الأمام تتسع الهوّة ما بين العامل وربّ العمل أكثر فأكثر. والسبب في ذلك يعود إلى أن الرأسماليين يحصلون على أرباحهم من خلال الاستيلاء على جزء من حاصل عمل العامل. بيد أن ذلك يتمّ عبر آلية غير مباشرة ومعقّدة (من قبيل: الإبقاء على مستوى الأجور متدنية). إلا أن النتيجة العامة واضحة، حيث يزداد الفقراء فقراً، ويزداد الأثرياء ثراء. وإن هذا التناقض والتضاد هو الذي سيعمل على اجتثاث الرأسمالية من جذورها؛ إذ أن أعداد العمال الكبيرة والآخذة بالازدياد على نحو مطرد، ستدرك يوماً أنها تزداد فقراً، رغم الازدياد المطرد للثروة في المجتمع. إن إدراك هذه الحقيقة سوف يعمل على تحويل العمال إلى طبقة. وبعد ذلك سوف تطالب هذه الطبقة برفع هذا الظلم والحيف عنها، وحيث يكون هذا الظلم والحيف جزءاً ذاتياً من النظام الرأسمالي، فإن السعي إلى رفعه سيقترن حتماً بالقضاء على النظام الرأسمالي من خلال انفجار ثوري عارم لا يُبقي ولا يذر[1]. وإن القضاء على الرأسمالية سيقضي بدوره على الاغتراب عن الذات. بيد أن هذه الثورة لن تحدث بفعل الإرادة أو القرار الصادر من قبل جماعة من الناس، بل سيكون بفعل الحتمية التاريخية، بمعنى أن النظام الرأسمالي محكوم عليه بالزوال بفعل القوانين التاريخية الثابتة.

حان الآن وقت الإشارة إلى مفهوم جوهري آخر في تفكير (ماركس)، ألا وهو: التقابل بين السطح والقعر. لقد كان (ماركس) مادياً، بمعنى أنه كان يعتقد بأن الذي يحظى بالأهمية هو الشرائط المادية والعينية. فإن الذهن والأفكار، أو "الوعي" والإدراك بشكل عام

(66)

ـ سواء كتب لها التحقق أم لا ـ لا تحظى بسوى أهمية هامشية. فهي لا تعدو أن تكون قناعاً أو مظهراً للعلاقات المادية. وبهذه المقدمة لا بد من القول بأن (كارل ماركس) كان يرى أن المسائل الاقتصادية هي من أكثر المسائل مادية وعينية. ومن هنا كان يسعى إلى تقديم تحليل "علمي" لها. إن العلاقات الاقتصادية من وجهة نظره كانت تمثل حجر الأساس في المجتمع. وفي قبال ذلك كانت جميع الأمور التي نشعر خطأ أنها تملأ عالمنا، من قبيل: الثقافة والسياسة والفلسفة والحقوق، والأديان والمذاهب والأدبيات وما إلى ذلك، هي بأجمعها من الأمور الفوقية الطافية على السطح. وإن من أهم وظائف السطح هو "توجيه" العلاقات الاقتصادية الكامنة في القعر والتي تشكل أساساً للأمور القائمة على السطح. وبعبارة أوضح: إن الرأسمالية تسعى ـ من خلال أدوات من قبيل: الحقوق أو السياسة والثقافة ـ إلى إظهار سلطتها وهيمنتها على العمال بوصفها أمراً طبيعياً. كان (ماركس) يعتقد بأننا بعد الثورة العمالية وسحب البساط من تحت الرأسمالية، سوف يفقد السطح آليته الرئيسة، وربما لهذا السبب سوف تزول الدولة التي كانت تمثل مركز السلطة في جميع المجتمعات الطبقية على طول التاريخ! وبطبيعة الحال لا بد من الالتفات إلى التفكيك بين السطح والقعر في المنظومة النظرية لـ (كارل ماركس) من التعقيد بحيث تعدّدت الأفهام بشأنها. وربما أمكن القول: إن الأفهام المتعددة للعلاقة بين هذين الأمرين، هي التي تشكل المحاور الرئيسة لتقسيم وتصنيف الماركسيين بعد وفاة المؤسس (كارل ماركس).

وفي الختام لا بد لنا من الكلام حول ما كان (ماركس) يطلق عليه

(67)

مصطلح "الشيوعية". يرى (كارل ماركس) أن الشيوعية هي العنوان الآخر للتحرر من الاغتراب عن الذات. إن الشيوعية هي التغيير الكامل للوجود الإنساني. في المجتمع الشيوعي يزول تصنيف الحياة وتقسيمها إلى دوائر خاصة وعامة، كما يزول الاختلاف بين الدولة والمجتمع. وكذلك تزول الحاجة الملحّة إلى المؤسسات السياسية والحكومية، والأهم من ذلك الملكية الخاصة، وهي بأجمعها تنبثق عن تقسيم العمل. الأمر الآخر أن الشيوعية المثالية ـ خلافاً لما يدعيه الاشتراكيون الطوباويون ـ ليست في تقابل مع العالم الواقعي، وليست نظرية يمكن اكتشافها في كل لحظة من التاريخ والعمل على تطبيقها على أرض الواقع. إن الشيوعية هي في حدّ ذاتها اتجاه في التاريخ المعاصر، وإن التاريخ يسير تلقائياً باتجاه بلورة وتعزيز مقدمات هذا الاتجاه[1].

لم يكن (كارل ماركس) مجرّد منظر أو مفكراً في حقل الفلسفة والاقتصاد وعلم الاجتماع، يترك مؤلفاته ليستفيد منها المفكرون من بعده. وفي الحقيقة كانت مسيرة حياة (ماركس) مليئة بالمنعطفات[2]. حيث أمضى شطراً كبيراً من حياته في النضال العملي من أجل تحقيق أهدافه وتطلعاته الاشتراكية والشيوعية التي آمن بها. وفي الحقيقة فإن جانباً هاماً من أهمية (كارل ماركس) في تاريخ اليسار، يعود إلى هذه الأنشطة العملية التي قام بها من أجل توحيد البروليتاريا وبث الوعي بين أفرادها. حتى كانت الانتفاضات العمالية إلى ما بعد سنوات طويلة من رحيله، تندلع

(68)

رافعة ذات الشعار الأصلي الذي طرحه (كارل ماركس) في "البيان الرسمي الشيوعي"[1]، وهو الشعار القائل: "يا عمال العالم اتحدوا".

ففي عام 1864 م، كان (كارل ماركس) هو الرجل الأوحد في المؤتمر الدولي الذي اجتمع فيه الممثلون من أهم النقابات العمالية للبلدان الأوروبية، ومن بينها: إنجلترا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا. ويصطلح على هذا المؤتمر اسم "الدولي الأول". وقد كان هذا الدولي الأول يشتمل على خليط من الجماعات اليسارية التي ربما يعود السبب الوحيد لاتحادها هو البحث عن سبيل لتنظيم "العمال"[2]، بيد أن هذه التوليفة كانت تنطوي على الكثير من الاختلاف في الآراء. لقد كان أغلب الفرنسيين من أتباع (برودني). أما الإنجليز فقد كانوا مخلصين لـ (روبرت أوفين)، وكان أنصار (باكونين) يعتبرون من المنافسين الشرسين لأفكار (ماركس). لقد عمد (كارل ماركس) في هذه المرحلة إلى الدخول في جدل لا ينضب مع سائر اليساريين، وانتقد كافة الجماعات بقلمه اللاذع والقوي في الوقت نفسه. وبالتدريج أصبحت آراؤه هي الاتجاه الأول المهيمن على "الدولي الأول" وعموم تيار اليسار في أوروبا. وعلى كل حال فإن "الدولي الأول" بشكل كان مصيره الانهيار والفشل، حيث مثل الهجوم الدامي على حكومة باريس النهاية التراجيدية له.

(69)

حكومة باريس[1]

إن ما حدث في فرنسا عام 1871 م، ويعرف اليوم بـ "حكومة باريس"، يشتمل على الكثير من الأمور العميقة بشأن الصراع بين اليسار واليمين على الساحة السياسية، حيث جسّد كلا من هذين الجناحين نقاط ضعفهما وقوتهما على نحو مبالغ به.

فمنذ عام 1870 م، احتدمت حرب ضروس بين فرنسا وبروسيا. حيث كانت فرنسا في حقبة حكم الجمهورية الثالثة تعاني أزمة اجتماعية خانقة، وقد خسرت الحرب على كافة الجبهات تقريباً. وقد كان الفرنسيون ولا سيما سكان باريس يلقون بالمسؤولية واللائمة في خسارة الحرب والإذلال الذي لحق ببلادهم من قبل بروسيا، على فشل الدولة. وبعد ازدياد الوضع سوءاً ارتفعت الأصوات المطالبة بالصلح بين الطرفين المتحاربين، إلا أن بروسيا اشترطت لذلك أن ترزح باريس تحت احتلالها.

طوال الأشهر الستة المنصرمة كانت باريس رازحة تحت محاصرة القوات البروسية، والأمر الوحيد الذي حال دون سقوطها هو المقاومة المستميتة لسكانها في مواجهة البروسيين. وفي هذا النزاع تحول السكان في باريس ـ من المسلحين بوصفهم من الحرس الوطني ـ إلى قوّة كبرى للدفاع عن المدينة. وقد تمكن هذا الجيش الجماهيري من التسلح بكميات كبيرة من مختلف أنواع الأسلحة، وكانت المدافع من أهمها.

(70)

كانت القرارات بشأن أساليب المقاومة تتخذ من قبل اللجنة المركزية للحرس الوطني، وقد أدرك (لويس أودولف) رئيس الجمهورية الفرنسية الثالثة أن هذه اللجنة يمكن لها في تلك الظروف أن تدعي إمساكها بزمام السلطة الفعلية. من هنا عمد إلى تسليم باريس إلى البروسيين؛ الأمر الذي فاقم من نقمة الجماهير. فقاموا بالمسارعة إلى إخفاء المدافع عن أعين البروسيين، واحتفظوا بها في أماكن آمنة، وأخذوا يعدون العدّة إلى جولة جديدة من القتال. لقد دخل البروسيون إلى باريس في فترة قصيرة جداً، وسرعان ما خرجوا منها دون القيام بأية خطوة. وبقيت باريس تحت الحصار.

في الثامن عشر من شهر آذار تم إرسال جزء من الجيش الفرنسي إلى باريس للاستيلاء على ما بحوزة الناس من المدافع البالغ عددها 400 مدفعاً. بيد أن هذه القوات سرعان ما التحقت بالجماهير، وأعدمت قائدها بالرصاص ميدانياً. وبعد ازدياد قوة التمرد الجماهيري في باريس، انضمّ جزء كبير من الجيش الفرنسي إلى المتمرّدين. فلم يكن من رئيس الجمهورية إلا أن استدعى جميع القوات الموالية له، وهرب من باريس إلى فرساي.

كانت باريس تحت سيطرة الحرس الوطني بالكامل. فأعلنت اللجنة المركزية للحرس الوطني عن بيان الاستقلال، وبعد ذلك بثمانية أيام أقيمت انتخابات عامة لاختيار "شورى الحكم" كي تباشر الحكومة مهامها.

تألفت شورى الحكومة من تسعة وتسعين شخصاً من مختلف الطبقات الاجتماعية من الذين يشكلون طيفاً متنوّعاً من قوى اليسار، وقد

(71)

تم انتخاب (بلانكي) رئيساً لهذه الشورى غيابياً تكريماً لمكانته؛ وذلك لأن بلانكي ـ الذي كان يمثل قائداً كارزمياً لليسار الفرنسي في تلك المرحلة ـ كان قد حبس قبل ذلك بعشرة أيام بأمر من الحكومة الفرنسية.

نجحت قرارات حكومة باريس في تحقيق أول حكومة شيوعية في العالم على أرض الواقع. وتمّت المصادقة على قوانين واسعة أضفت على باريس مناخاً ومشهداً جديداً. وكانت بعض هذه القوانين عبارة عن:

ـ إلغاء أجور البيوت المستأجرة طوال فترة الحصار (والتي كان أصحاب البيوت طوال تلك الفترة قد ضاعفوها بمقادير ملحوظة).

ـ إلغاء العمل الليلي في مئات المخابز في باريس.

ـ إلغاء حكم الإعدام.

ـ إحراق المقصلة.

ـ رصد رواتب لزوجات وأبناء أفراد الحرس الوطني الذين قتلوا في المعارك.

ـ إعادة أدوات العمل إلى العمال من مخازن الدولة (بعد أن أخذت من العمال بالقوة طوال فترة الحصار والقتال، حيث تم حفظها في تلك المخازن).

ـ تأجيل مدة دفع القروض، وإلغاء الأرباح المضافة عليها.

ـ إلغاء التجنيد الإجباري.

ـ السماح لجميع المواطنين بحمل السلاح.

ـ الفصل الكامل بين الكنيسة والدولة.

(72)

ـ مصادرة أملاك الكنيسة لصالح الدولة.

ـ إلغاء مادة الدين من المناهج الدراسية.

ـ إقرار قانون التعليم المجاني للجميع، في كافة المراحل الدراسية.

ـ استبدال العلم الفرنسي ذي الألوان الثلاثة بعلم يحمل اللون الأحمر فقط.

تمكنت حكومة باريس من الحصول على رضا عامّة الناس على مختلف المستويات والجهات. وقد أدى التعاون الواسع من قبل الناس مع الحكومة إلى التسهيل والتسريع في أداء شؤون الدولة. حتى قال (فريدريك أنجلز) بعد ذلك: إن غياب الجيش المنظم، واستقلال المؤسسات المحلية وما إلى ذلك من الخصائص، قد أفضت في الحقيقة إلى أن لا تكون الحكومة "دولة" بالمعنى التقليدي والقمعي للكلمة، بل كانت تمثل نوعاً من المؤسسة الانتقالية التي تتجه إلى إلغاء الدولة بالمعنى القديم للكلمة.

إلا أن هذا الحقبة لم تستمر طويلاً. لقد كانت حكومة باريس تضمّ أفراداً من مختلف الاتجاهات، وكان كل واحد من أعضائها يمتلك الكثير من الأفكار التي رأى في هذه الحكومة مكاناً مناسباً لتحقيقها. ومن هنا فقد احتدمت الخلافات وتضاربت الآراء سريعاً، وأخذ الخلاف والتشتت بين قادة حكومة باريس يتسع يوماً بعد يوم.

ومن ناحية أخرى، عمد رئيس الجمهوري (تيير) ـ بعد أسبوع واحد من تشكيل حكومة باريس ـ إلى إعادة تشكيل قوة كبيرة، ليستأنف الهجوم على باريس. كانت المدينة تتعرّض لقصف ممنهج، وكان

(73)

تفوق الحكومة بحيث لم تعد منذ منتصف الشهر فما بعد تقبل حتى بالتفاوض.

كما حظيت حكومة باريس بدعم كبير من قبل اللاجئين والمبعدين السياسيين الذين كانوا يتواجدون في باريس بأعداد كبيرة. وكان من بين تلك الشخصيات البارزة ضابط بولندي سابق يدعى (ياروسلاف دامبروسكي)، إذ كان يُعدّ من أفضل جنرالات حكومة باريس. كانت حكومة باريس تنكر الأفكار القومية، حيث نشهد في تشكيلاتها شخصيات من مختلف الجنسيات والبلدان.

وفيما يتعلق باليساريين في خارج فرنسا، كان قيام حكومة باريس بمثابة "بناء الفردوس على الأرض". حيث كانت تخرج مختلف أنواع المسيرات والمظاهرات في الدفاع عن هذه الحكومة، وإرسال مختلف الرسائل التي تحمل التعبير عن الآمال بنجاحها. إلا أن (تيير) ووزراؤه قد تمكنوا في "فرساي" من قطع أي تواصل بين باريس والعالم الخارجي. وقد استحال أن يأتي أي دعم لحكومة باريس من الخارج. وبادرت حكومة باريس باتخاذ خطوة ـ تذكر بمرحلة روبسبيير ـ تمثلت بتشكل لجان باسم لجان الأمن العام، ومنحتها صلاحيات مطلقة. في ظل هذه الظروف لم يكن الحديث مطروحاً بشأن تحسين أوضاع السكان تحت ظل إدارة حكومة باريس، وإنما بشأن أصل استمرار سلطة حكومة باريس التي كانت تتعرض لقصف عنيف ومتواصل من قبل الجيش.

وفي نهاية المطاف وفي الحادي والعشرين من شهر أيار، انهارت إحدى البوابات الغربية من باريس، وتم فتح ثغرة لنفوذ الجيش إلى

(74)

داخل المدينة. لم يكن هناك برنامج واضح للدفاع عن العاصمة، وكان أفراد الشعب يقاتلون من محلة إلى أخرى. وبعد أسبوع واحد من المواجهات الدامية، تمّ الاستيلاء على معظم المناطق الباريسية، وانهارت أهم بؤر المقاومة في السابع والعشرين من شهر أيار أيضاً.

عُرف هذا الأسبوع في التاريخ الفرنسي بـ "الأسبوع الدامي". حيث أظهرت القوات الحكومية قسوة غير متناهية في إبادة السكان في باريس. لم تكن هناك إحصائية دقيقة بعدد الضحايا، ولكن تذهب أقل التقادير إلى موت ما يقرب من عشرين ألف نسمة في موجة من المواجهات والقتل الذريع. وهناك من أرجع أسباب تلك القسوة إلى خوف البرجوازية الفرنسية بقيادة (تيير) من نقمة الشعب المؤيد لحكومة باريس. لقد كانت البرجوازية الفرنسية محتقرة من قبل الألمان، إلا أن جلّ خشيتهم إنما كانت من الثوريين الباريسيين. حتى أن شدّة ذعرهم قد قضت على أدنى شعور لديهم بالرحمة والشفقة على ضحاياهم. لقد قام (تيير) وجنرالاته بإحداث أنهار من الدم أثناء تجوالهم في شوارع باريس[1].

وبعد انهيار حكومة باريس، تحويل الجيش إلى جماعة من القتلة. وكان يلقى القبض على كل من تحوم حوله شبهة التعاون مع حكومة باريس، ليحال إلى المحاكم، ومن هذه المحاكم كان المتهمون يواصلون طريقهم إلى مفارز الإعدام حيث أعدم ما يقرب من خمسين ألف شخص. وكان عدد المعدومين من الكثرة بحيث غصّت بهم

(75)

المقابر الباريسية، ولم تعد تكفي لاستيعاب الأعداد الكبيرة؛ فكانت الجثث منتشرة في جميع أنحاء المدينة وضواحيها.

وعلى الرغم من أن عمر حكومة باريس لم يمتد لأكثر من شهرين من الأداء السياسي، إلا أن هذه الفترة كانت كافية ليذكرها اليساريون طويلاً بوصفها حادثة في غاية الأهمية. وفي الحقيقة كانت حكومة باريس بمثابة الحلم الذي تمّ القضاء عليه وخنقه في مهده. وقد ألف (كارل ماركس) في هذا الشأن واعتبره "أول ثورة مباشرة للبروليتاريا في التاريخ"[1].

وفيما بعد أضافوا قطعة من العلم الأحمر لحكومة باريس إلى كفن لينين لتدفن معه. وتمّ إرسال قطعة أخرى من هذا العلم إلى خارج الغلاف الجوي على متن أول سفينة فضاء روسية[2].

(76)

 

 

 

 

 

 

الفصل الخامس

اتّساع رقعة الصراع

(77)

الفصل الخامس

اتّساع رقعة الصراع

لو ألقينا نظرة على السنوات الأولى من القرن العشرين، آخذين بنظر الاعتبار عملية الفرز الرئيسة بين اليسار واليمين، سنشهد هناك ظاهرتان في طور التبلور في عموم العالم الغربي. وقد تجلت الظاهرة الأولى في انخفاض مستوى التدين والعقائد المذهبية بين الأوروبيين، وتمثلت الظاهرة الثانية في إقبال الحكومات على المزيد من الديمقراطية.

لقد خفّ بريق التدين في هذه الفترة إلى حدّ كبير بفعل الزخم الحاصل من التطور والتنمية التكنولوجية الجارفة. وقد تجلت هذه الظاهرة بين الأوساط العلمية والفكرية على نحو أشد وأكبر، فمثلاً: نجد جامعتي أوكسفورد وكامبرج ـ اللتين كانتا حتى منتصف القرن التاسع عشر للميلاد، تمثلان حصناً منيعاً لرجال الدين في الكنيسة الإنجليزية ـ تضطران في مستهل القرن العشرين إلى التخلي عن أكثر من نصف المقاعد التدريسية لصالح أساتذة من غير المحسوبين على المتدينين[1]. وبالتدريج اندلعت مواجهة عنيفة بين الدين وما كان يُسمى بـ "العلم"، وأخذ الكثير مما يقع على عاتق الدين، ينتقل شيئاً فشيئاً ليكون العلم هو الذي يتولى رعايته.

إن اتساع رقعة السلوك الديمقراطي في هذه المرحلة ـ كما نوّه

(78)

(ألبرت هيرشمان) بشأن تعميم الديمقراطية ـ يجب أن لا يُعزى إلى أن الدول قد أضحت أكثر أخلاقية من ذي قبل، أو أنها بدأت تميل إلى ترجيح كفة الصلح والإنسانية في الأبعاد الدولية من جهة أو الداخلية من جهة أخرى. وذلك لأن الأنظمة الديمقراطية الحديثة لم تظهر بفعل الاتفاق الشامل الذي كان موجوداً سابقاً، وإنما يعود سبب ذلك إلى أن الجماعات المختلفة التي أفنت عمرها في التقاتل والنزاعات فيما بينها، قد آمنت في نهاية المطاف إلى عبثية تلك الحروب، واعترفت بضعفها وعجزها عن حسم الأمور واكتساب السلطة لصالحها؛ فآثروا بأجمعهم سلوك طريق السلام والقبول بما تحكم به الديمقراطية. وبالتالي فقد انبثقت الديمقراطية من خلال إقامة التوازن بين الجماعات والأحزاب المتنافسة التي كانت متخاصمة ومتحاربة إلى أبعد الحدود والأعماق[1].

وعلى كل حال فقد كان تيار اليسار هو أول من ينتفع من الدمقرطة وتحويل المجتمع إلى مجتمع لا مذهبي. وكانت أكثر الجماعات في هذه الأجواء سعادة هم الماركسيون، حيث كانوا يجمعون بين مدعيات البرجوازية بشأن العقل والعلم، وبين نبذ الدين بكل ما أوتوا من قوّة[2].

ومن جهة أخرى كنا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر للميلاد نشهد تغيّراً جوهرياً في اصطفافات قوى اليسار، وهو تغيير كان من الصعب تبيّن معالمه.

وفي السنوات الأولى من القرن العشرين، كانت الدول الأوروبية

(79)

المتطوّرة ترى نفسها في قمة النجاح في العالم، ولم يكن يدور في خلد ساستها أنهم في ظرف ثلاثة عقود ـ وهي فترة قصيرة حقاً في مسار القوى العظمى ـ سوف تتجزّأ مركزيتهم إلى العديد من الأجزاء، وأن عدداً منها سيقف على حافة الانهيار، وأن الجزء الأعظم من هذه القارّة سيبلغ أدنى مستوياته من الناحية الاقتصادية، وأن البعض الآخر سينهار، وبالتالي فإن مصير مستقبلهم سوف يتحدد على يد أصحاب القرار في كل من واشنطن وموسكو.

منذ ظهور الاصطفاف اليساري واليميني بعد الثورة الفرنسية، كانت جميع أنواع النقاش المرتبط بالمعسكر اليساري أو اليميني هي في الأساس نقاشات أوروبية. أما في النصف الأول من القرن العشرين، فقد تمثل هذا الفرز بين اليسار واليمين بين القوتين العظميين اللتين ظهرتا على الساحة العالمية مؤخراً. وهما: روسيا التي اختارت لنفسها بعد الثورة اسم "الاتحاد السوفيتي"، وأصبحت أكبر مظهر لليسار في العالم، وفي المقابل مثلت الولايات المتحدة الأمريكية مركز استقطاب لليمين في العالم. وبذلك يكون هذا النقاش والجدل الأوروبي قد امتد إلى ما وراء القارة الأوربية؛ ليتحوّل إلى مسألة عالمية[1]. ومن ناحية أخرى نواجه في القرن العشرين ولادة ظاهرة جديدة على الساحة الدبلوماسية في العالم. حيث أن الدول الأوربية ـ كما سبق أن ذكرنا ـ قد أدركت أنها لا تستطيع لوحدها التغلب على جميع خصومها، الأمر الذي قادها إلى إنشاء الاتحاد الدبلوماسي. وبذلك أخذنا نشهد نشوء اتحادات متنوّعة في ما بين هذه الدول، الأمر الذي أخذ يدفع العالم

(80)

باتجاه تعزيز القوتين والقطبين العظميين أكثر من ذي قبل[1].

روسيا وارثة اليسار

توجه (كارل ماركس) في السنوات الأخيرة من عمره ـ بعد أن ذهبت آماله لإشعال فتيل ثورة البروليتاريا في أوروبا أدراج الرياح ـ لينتقل إلى روسيا، وما تشهده تلك الأرض الجليدية من متغيّرات متسارعة[2]. لقد كانت روسيا في مستهل القرن العشرين بلداً عجيباً وغريباً. فقد كانت الإمبراطورية الروسية المقدسة لأربعة قرون متوالية تحت حكم القياصرة، وقد امتدت رقعتها الجغرافية غرباً وشرقاً وجنوباً، وعلى الرغم من بعض التراجعات، لم يكن هناك من توقف عن الفتوح الجديدة. وكان الجيش الروسي طوال القرن التاسع عشر يعدّ أعظم قوّة في العالم، وكانت التنمية وإعادة الترميم الحكومي المتواصل قد خلق وضعاً معقداً. ويمكن القول إن روسيا في تلك السنوات كانت تعاني من الضعف رغم كونها قوة عظمى. فعلى مدى تلك الأعوام كان الازدهار الصناعي الروسي المنفلت قد خلق من روسيا رابع أكبر قوة صناعية في العالم، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وألمانيا. ومع ذلك كان الشرخ بينها وبين تلك الدول الثلاث كبيراً جداً. ورغم ذلك كله كانت روسيا في الأساس بلداً زراعياً. فكان 80% من مجموع السكان يشتغلون بالزراعة، وكانت الغالبية الكبرى من بقية السكان ترتبط بشكل وثيق بالحياة القروية والريفية. هذا في الوقت الذي كان الجزء الأعظم من ارتفاع عدد السكان يتحقق في هذه

(81)

القرى، وفي أكثرها فقراً بالتحديد. لقد كان الازدهار الصناعي مقترناً ـ على نحو ضمني ـ بركود عظيم أو حتى تراجع حادّ في القطاعات الاقتصادية الأخرى، ولا سيما القطاع الزراعي والاستهلاك الشخصي. وكان هذا ناشئاً ـ إلى حد ما ـ من أن أعمال التطوير كانت تبادر إليها الدولة بشكل كامل، وقلما نجد عملاً تطوعياً من قبل الناس في هذا الشأن. وكانت الدولة تتجه لتوفير الميزانية لتشغيل عجلة الصناعات الكبرى من طريق فرض الضرائب الكبيرة من جهة، وتصدير أكثر المحاصيل الزراعية من جهة أخرى. ومن هنا كانت أعداد السكان الكبيرة والمتزايدة في هذا البلد، تشهد تعقيداً وصعوبة في أوضاعها، وكانت الأزمة تتفاقم تدريجياً على مرّ الأيام.

يمكن لنا أن نتصوّر جيداً العواقب الاجتماعية التي تنشأ من التركيب الخاطئ بين الزراعة المتخلفة والتنمية الصناعية المتسارعة، والنفقات العسكرية الطائلة والباهظة. إن تخصيص ميزانية عامة متواضعة للتعليم والصحة، واقتران ذلك بوضع مؤسف مصحوب بتشديد الانضباط والعنف في المصانع، لا يبقي على كوّة أمل يمكن أن تنفتح على تحسين مستوى الحياة، كان قد خلق نوعاً من الكراهية المقرونة بالحنق والغضب على الدولة والرأسماليين، الأمر الذي حوّل روسيا في المجموع إلى قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في كل لحظة[1].

وعلى الرغم من ذلك كله كان المواطنون الروس يؤمنون بأرضهم وبقيصرهم إيماناً راسخاً، بيد أن هذه الثقة كانت تذوي وتذبل رويداً رويداً. وكان من بين الأحداث التي ساعدت على ذلك الأحداث التي

(82)

عُرفت بالأحد الدامي. ففي شهر كانون الثاني من عام 1905 م، كتب جمع غفير من المواطنين الروس عريضة إلى القيصر[1]، وحملوها ليعرضوها عليه متجهين إلى قصره الشتوي في بطرسبورغ، بيد أن الجنود منعوهم من التقدم، وبعد لحظات وجيزة تأزم الموقف وأخذ منحى عنيفاً، وفتح الجنود نيران بنادقهم على الحشود المجتمعة من المواطنين، فكان من جراء ذلك أن قتل ما يقرب من ألف مواطن في هذه المواجهة غير المتكافئة، الأمر الذي أضرّ بشرعية سلطة القيصر إلى حدّ كبير.

وعلى كل حال فقد انتهى حكم القيصر نيقولاي الثاني، إثر أعمال عنف شديدة، مع شيء من الإصلاحات. وفي عام 1914 م، اندلعت الحرب الكونية الأولى، وكانت نتائجها وخيمة على خلاف توقعات الروس. فلم يقتصر الأمر على عدم تحقيق الروس نصراً يُذكر فحسب، بل قد شهدت السنة الأولى وحدها من الحرب خسارة ما يقرب من ثلاثة ملايين جندي من الجيش الروسي ما بين قتيل وجريح أو أسير. وبلغت الأوضاع مرحلة من التأزم الشديد، اضطرّ معها القيصر إلى التنحي عن السلطة، وبعد الكثير من الجدل السياسي تمكن واحد من الأحزاب في تلك الحقبة الروسية ـ واسمه "حزب العمال الاجتماعي الديمقراطي" المعروف بـ "الحزب البلشفي" ـ من الفوز بالسلطة[2].

(83)

وقد كان زعيم هذا الحزب رجل قيادي اسمه (فلاديمير لينين) ـ وهو من المفسرين البارزين لـ (كارل ماركس) ـ وربما كان لينين هذا من أسعد الماركسيين حظاً في العالم حتى ذلك الحين.

الماركسية ما بعد كارل ماركس

إن  القرن العشرين ـ كما سبق أن ذكرنا ـ كان شديد الوطأة على الماركسيين دون سائر التيارات الفكرية والتنظيرية الأخرى. حتى كان "اليسار" في مقاطع كبيرة من القرن العشرين يعدّ مرادفاً لـ "الماركسية" تقريباً. بيد أن مسار الماركسية في القرن العشرين كان مليئاً بالمنعطفات.

لقد تم تفسير أفكار ماركس في القرن العشرين بتفسيرات متنوّعة، قد تبلغ حدّ التعارض أحياناً. ويعود جزء من هذه المسألة إلى الغموض الذي يكتنف جانباً من أفكار ماركس، ويعود البعض منها إلى اختلاف البيئات الاجتماعية المتنوّعة التي تسللت إليها هذه الأفكار، ويعود بعضها إلى أن جزءاً هاماً من مؤلفات ماركس الشاب بقيت مجهولة حتى عقد الثلاثينات من القرن العشرين، وبعد اكتشاف هذه المؤلفات اتضح أن أفكار ماركس قد مرّت بسلسلة من المتغيرات والتحولات الكبيرة منذ صدر الشباب إلى فترة النضج والاختمار. من هنا كان الكثير من الاختلافات بين الماركسيين أنفسهم يدور في الأساس حول ما الذي كان يقوله ماركس حقيقة؟

ولبيان قصة الماركسية في القرن العشرين بالالتفات إلى مختلف العناصر، يمكن لنا إجراء عملية تبويبية. ويبدو أن من بين التقسيمات المعتبرة هي تلك التي قام بها الباحث الشهير في الماركسية (ديفد

(84)

ماكللان) في كتابه (الماركسية بعد ماركس).

فقد قسّم الماركسية إلى خمسة أقسام رئيسة، وذلك على النحو الآتي:

1 ـ الاشتراكية ـ الديمقراطية الألمانية.

2 ـ الماركسية الروسية.

3 ـ الماركسية الأوربية بين الحربين.

4 ـ الماركسية المعاصرة.

5 ـ الماركسية في الصين والعالم الثالث[1].

من الواضح أن الخوض في القسم الخامس، فوق طاقة هذا الكتاب. إلا أن تقسيمه لفروع الماركسية يرشدنا إلى توضيح مجمل التيار اليساري في الساحة التنظيرية للقرن العشرين.

1 ـ الاشتراكية ـ الديمقراطية الألمانية

إن المسعى الأول في إطار عرض الماركسية بوصفها نظاماً فكرياً متكاملاً، قد ظهر في كتاب (آنتي دورينك) لأنجلز. وعليه يمكن القول: إن الماركسية بوصفها "مذهباً" هي حصيلة جهود أنجلز[2]. لقد قدّم أنجلز تفسيراً وضعياً وجبرياً عن الماركسية، حيث رأى في الاقتصاد العنصر الوحيد في حدوث أي تحوّل أو تغيّر في المجتمع. فقد كان يرى أن حصول المعرفة الاجتماعية، هي من قبيل حصول المعرفة في العلوم الطبيعية، ومن خلال الالتفات إلى عبارة (كارل ماركس) الشهيرة، والتي يقول فيها: "إن الأفراد يصنعون تاريخهم،

(85)

ولكن لا على النحو الذي يريدونه"، يؤمن بالديالكتيك ما بين الأفعال الإنسانية والطبيعية[1]. بيد أننا سنرى أن رؤيته وإن كانت ذات مناشئ ألمانية، إلا أنها تركت تأثيراتها العميقة على رقعة جغرافية أخرى، وهي روسيا، الأمر الذي أدى إلى بلورة الماركسية الأورثودوكسية.

1 / 1 ـ الماركسية الراديكالية: إن الماركسيين الراديكاليين، كانوا يرفضون الماركسية الوضعية والاقتصادية. إن هؤلاء كانوا يعتقدون أن هذه الماركسية سوف تتحول إلى نوع من الانفعالية في حقل السياسة، في حين أن هؤلاء الراديكاليين أنفسهم كانوا يصبون كل اهتمامهم على التأثير في الساحة السياسية، ولم يكونوا يعترفون بحدود أو قيود من أجل تحقيق تلك الغاية. وقد كان زعيمهم هو (روزا لوكزامبورغ). وقد كان لوكزامبورغ من الناحية السياسية يدعو إلى الاشتراكية الثورية الصلبة والقائمة على النزاع الطبقي العالمي، وكان يدافع عن النقابات العمالية والعسكرية بوصفها ركناً رئيساً في الثورة الاشتراكية المبكرة[2]. وقد ذكر ثلاثة عناصر لانهيار النظام الرأسمالي وقيام النظام الاشتراكي، وهي العناصر الآتية:

1 ـ الهرج والمرج والفوضى المتزايدة والأزمة المتفاقمة في الاقتصاد الرأسمالي.

2 ـ اتجاه العلاقات والمسار الانتاجي نحو المزيد من الأواصر الاجتماعية.

3 ـ ارتفاع مستوى الوعي الطبقي، والعمل على تنظيم طبقة البروليتاريا.

(86)

وبطبيعة الحال فإنه من بين هذه الأمور كان يؤمن بالعنصر الثالث، ونظم جهوده ضمن هذا الإطار. وأما بشأن العنصرين الأولين ـ اللذين يتم طرحهما من قبل الماركسيين الآخرين مراراً ـ فكان يراهما غير عمليين أو غير واقعيين؛ إذ يرى أن الرأسمالية لم تبد أي ظاهرة أو مؤشر يدل على أنها سوف تسقط بفعل التناقضات الاجتماعية. ومن هنا فإنه يرى أن بقاء الرأسمالية وقدرتها على الصمود لا تعود إلى مقومات داخلية، وإنما هي تعود إلى العوامل الخارجية. وقد عمد إلى تصوير هذا العامل في إطار نظرية باسم "الشخص الثالث". إن الازدهار الاقتصادي في ظل النظام الرأسمالي ـ طبقاً لهذه النظرية ـ لا يعود سببه إلى القوانين الفطرية الحاكمة على أسلوب وطريقة الإنتاج الرأسمالي، وإنما هو من تبعات استمرار وجود أقسام ما قبل الرأسمالية في البلدان التي استولت عليها الرأسمالية، وعملت على ضمّها إلى دائرة نفوذها[1]. كان لوكزامبورغ يذهب إلى الاعتقاد بأن هذا التيار ما أن يستولي على بلد بأكمله، فإن الرأسماليين سيضطرون إلى التطلع إلى الأجزاء والبلدان الأخرى من العالم، وهي البلدان التي لا زالت تعيش ظروف ما قبل الرأسمالية. وهذا يعني أنه يرى أن النظام الرأسمالي مجرد نظام مغلق، وإنه بالالتفات إلى قوانينه الداخلية ليس جديراً بأن يكون "حاضنة للثورة". بل إن الأمر على العكس من ذلك؛ إذ تتغذى الرأسمالية على العناصر الخارجية، وإن سقوطها التلقائي إنما يحدث عند استيلائها على جميع بلدان الكرة الأرضية وابتلاعها[2].

(87)

وبطبيعة الحال فإن لوكزامبورغ كان يواجه بعض التناقضات على المستوى العملي والتنظيري. فإنه في الوقت الذي يؤكد من جهة على ضرورة العمل الجماهيري الفوري، معتقداً أن الاستيلاء على السلطة السياسية من قبل طبقة العمال لن يكون مبكراً أبداً، وأن الأداء السياسي لهذه الطبقة في جميع الأحوال يعوّض عن عدم توفر الظروف الثورية، يذهب من جهة أخرى في كتيّب له بعنوان "التمرّد الجماهيري" إلى القول بأن الثورة الاشتراكية لن تحقق الانتصار مرّة واحدة وبجرّة قلم، وإنما سوف تكتمل عبر مرحلة طويلة وبطيئة من الكفاح الاجتماعي العظيم. كما ذهب (روزا لوكزامبورغ) إلى انتقاد ثورة أكتوبر الروسية، معتبراً إياها ثورة من الأعلى، وأنها مجرد ثورة برجوازية[1].

1 / 2 ـ التعديلية: وهي جماعة أخرى من الماركسيين الألمان، كانت ترفض الجبرية الماركسية الأورثودوكسية من جهة، وكان أفرادها يبتعدون عن العملانية الراديكالية لـ (روزا لوكزامبورغ) ـ الذي لم يكن ليأبى عن اللجوء إلى العنف ـ من جهة أخرى. وقد كان هؤلاء يسعون من خلال جهودهم التنظيرية إلى تقديم ماركسية مطابقة للشرائط الرأسمالية المتغيرة. وقد اختار هؤلاء مصطلح "التعديلية"[2] للدلالة على اتجاههم في الماركسية. كان هؤلاء التعديليون يؤمنون بالإصلاح والتكامل التدريجي لأمور المجتمع وعدم ضرورة الثورة السياسية. لقد رفض (إدوارد برنشتاين) ـ وهو من المفكرين التعديليين ـ فكرة السقوط الحتمي للرأسمالية وانقسام المجتمع إلى قطبي (الرأسمالية

(88)

والبروليتاريا)، وذهب إلى الاعتقاد بأن زوال مفهوم النزاع الطبقي ـ بالمعنى الذي قال به كارل ماركس ـ سوف يستتبع الإصلاح والتكامل التدريجي الذي يكون بديلاً عن الثورة المسلحة. إن الاتجاه الرئيس لـ (برنشتاين) في انتقاده للماركسية الأورثودوكسية، يتعلق بقانونية حركة المادية التاريخية[1]. ومن خلال رفضه لرأي (هيجل) ـ القائل بأن هدفية التاريخ وحركته الحتمية باتجاه ذلك الهدف ـ قال بأن الاشتراكية غاية أخلاقية يمكن اختياره بالإرادة.

وكان من أوائل الذين أشاروا صراحة إلى مواطن الشبه بين الماركسية التي يؤمن بيها وبين الليبرالية، حيث قال: "إن الاشتراكية الديمقراطية ليست من الناحية التاريخية فحسب، بل كذلك من حيث خصائصها المعنوية وارثة لمشروع الليبرالية بوصفها نهضة تاريخية كبرى"[2]. وكان ينظر إلى الديمقراطية بوصفها وسيلة وغاية، خلافاً لـ (أنجلز) الذي يرى في الديمقراطية مجرد وسيلة لتحقيق الاشتراكية.

كما كان (جان جورس) من بين المفكرين التعديليين أيضاً، بيد أنه خلافاً لـ (برنشتاين) ـ الذي كان يرى بأن التحولات التاريخية قد أسقطت بعض أصول كارل ماركس العقائدية عن الاعتبار ـ يذهب إلى القول بأن هذه الأصول كانت باطلة منذ البداية. وكان من أكثر المنتقدين للمادية التاريخية، واتجه من الناحية المذهبية إلى القول بأن العالم أوسع من أن يكون مجرد تركيب للمادة والطاقة، وقال بأنه يحتوي على عنصر روحاني هو الذي يحافظ على النظام والانسجام في العالم. كما أنه ـ على غرار برنشتاين ـ ينظر إلى الاشتراكية بوصفها أصلاً أخلاقياً،

(89)

ويرى أن تحققها يمثل شرطاً في تحسين الحياة الاجتماعية.

الماركسية الروسية

2 / 1 ـ كاؤوتسكي وبلاخانوف: إن التفسير الذي قدّمه أنجلز في كتابه "آنتي دورينغ" عن الماركسية، أضحى أساساً للماركسية الأورثودوكسية لمفكرين من أمثال: (كارل كاؤوتسكي)، و(غنوركي بلاخانوف).

لقد كان فهم (كاؤوتسكي) للماركسية متأثراً بنظرية التطور لـ (تشارلز دارون). وبعبارة أخرى: كان (كاؤوتسكي) يرى أن "التطور" يمثل مفهوماً مشتركاً ورئيساً في نظرية (تشارلز دارون)، و(كارل ماركس)[1]. وعلى هذا الأساس يكون (كاؤوتسكي) ـ تبعاً لـ (أنجلز) ـ قد قدّم فهماً وضعياً لفلسفة التاريخ عند (ماركس)، وهو فهم ينتهي بنا إلى الحتمية الاقتصادية. يرى (كاؤوتسكي) أنه "وإن كان من الضروري القول بنوع من الدور للإرادة والسلوك الإنساني، ولكن يجب التأكيد على الظروف الاقتصادية التي تعمل على تحديد مسار وماهية إرادة وعمل الإنسان"[2]. إن الثورة الاشتراكية ـ طبقاً للحتمية الاقتصادية الماركسية ـ لا تتحقق بالمعنى الحقيقي والواقعي للكلمة، إلا إذا توفرت الشرائط الاقتصادية اللازمة لتحققها.

كما تعرّض الماركسي الأورثودوكسي الآخر ـ أعني: (غنوركي بلاخانوف) ـ في كتابه "دور الفرد في التاريخ" إلى هذه المسألة أيضاً، حيث بحث حجم التأثير الذي يمكن للفرد أن يتركه على مسار

(90)

التاريخ. إذ يرى أن التاريخ وإن شهد في جميع مراحله ظهور بعض الأبطال الذين قاموا ببعض الأعمال الخارقة، إلا أن ظروف وشرائط ظهور أولئك الأبطال لم تكن من صنعهم. وبعبارة أخرى: "إن الأفراد المؤثرين والنافذين قد يتمكنون ـ بواسطة خصائصهم الفكرية والشخصية الخاصة ـ من إحداث التغيير في الخصوصيات الجزئية للأحداث وبعض النتائج الجزئية، إلا أنهم لا يستطيعون تغيير اتجاه ومسار الأحداث التي تتحدد بواسطة القوى والعوامل الأخرى"[1].

إن التبعات العملية المترتبة على مثل هذا الفهم للماركسية أوضح من أن نحتاج معها إلى المزيد من الشرح والتبسيط: فإن العمل الثوري ليس له ربط كبير بتحقق الظروف والشرائط المثالية للاشتراكية، وإن السعي إلى الثورة الاشتراكية عمل ليس له من طائل. إنما الاشتراكية انعكاس مباشر للتغير والتحول في الأسس الاقتصادية.

2 / 2 ـ لينين: بعد انتصار ثورة أكتوبر عام 1917 م في روسيا، نجحت قراءة لفكر (كارل ماركس) للمرة الأولى بأن تستولي على السلطة السياسية. إن هذه الثورة والنظام السياسي الناجم عنها قام في مستواه الأكبر على أساس من فهم (فلاديمير إليتش لينين)، و(يوسف إستالين) لنظرية (كارل ماركس). وقد اقتصر الجزء الأعظم من الجهود الفكرية لـ (لينين) على تطبيق فكر ماركس ـ ولا سيما المادية التاريخية ـ على واقع المجتمع الإقطاعي ـ الزراعي لروسيا.

لقد تعرف لينين على الماركسية في صدر شبابه خلال فترة نضاله ضد السلطات القيصرية في روسيا. وكان معلّموه الأوائل في الماركسية كل من (كارل كاؤوتسكي)، و(غنوركي بلاخانوف)، ولكن لم يمض

(91)

طويل وقت حتى اختط (لينين) لنفسه طريقاً مختلفاً عنهما في الساحة السياسية. وفي المجموع يمكن لنا أن نرصد ثلاث مراحل من المراحل الفكرية لـ (فلاديمير إليتش لينين)، وهي المراحل الآتية:

1 ـ المرحلة الأولى التي تميّزت بشدّة تمسّكه بالمادية التاريخية، وعلى أساسها كان يرى ضرورة لوقوع الثورة البرجوازية التي تسبق الثورة الاشتراكية.

2 ـ مرحلة التأرجح، حيث تراوح في الاتجاه الفكري له ما بين المرحلة الأولى السابقة والمرحلة الثالثة اللاحقة.

3 ـ المرحلة الأخيرة، حيث أخذ ينظر فيها إلى الماركسية من منظار الأفق الروسي، وسعى إلى تطبيق أفكار ماركس بشكل يتلاءم مع الوضع الخاص لروسيا. فمن خلال تأليفه لكتابه الذي يحمل عنوان "ما الذي يجب فعله؟" ابتعد عن الماركسية الأورثودوكسية، وعمل على تطوير نظريته الخاصة بشأن "تحقق الثورة الاشتراكية"[1].

وإن الذي تمّ تداوله في القرن العشرين تحت عنوان "الماركسية ـ اللينينية"، إنما يمثل نظريات لينين بشأن "الحزب" و"الثورة المستمرة"، و"الاشتراكية الحكومية" في المرحلة الثالثة من الحياة الفكرية لـ (فلاديمير إليتش لينين). لقد عمد لينين من خلال تأكيده على الحزب الطليعي بوصفه ناظماً للجماهير، إلى العمل ـ بنحو من الأنحاء ـ على إحياء التعاليم الثورية لـ (بلانكي). وقد كان يرى استحالة إيجاد الوعي السياسي الطبقي بين الجماهير إلا من خلال حقنهم بالنظرية الثورية

(92)

من قبل منظمة ثورية فقط[1]. لقد كان الحزب الطليعي من وجهة نظر لينين هو العقل الأكمل الذي يدرك ما يصلح للجماهير، على نحو أفضل من إدراك الجماهير أنفسهم لما يصلح لهم.

إن مفهوم "الثورة المستمرة" من بين المفاهيم الأخرى التي تقوم عليها البنية النظرية لـ (لينين) وقد حظيت باهتمام كبير. إن هذه الاستراتيجية تقف على الطرف الآخر من النظرية الماركسية الشائعة، حيث كان الاعتقاد السائد في تلك المرحلة يقول بأن الثورة الاشتراكية لا يمكن لها الظهور إلا بعد الثورة البرجوازية. فقد ذهب لينين إلى الاعتقاد بأن الثورة الاشتراكية عندما تبدأ، فإنها توجد ما يرتقب من الثورة البرجوازية توفيره على نحو تلقائي، وعلى هذا الأساس بادر ـ خلافاً لـ (كارل كاؤوتسكي)، و(غنوركي بلاخانوف) ـ إلى إقامة الاتحاد بين الفلاحين والعمال لتحقيق النصر في ثورة عام 1917 للميلاد[2].

إن لينين بعد انتصار الثورة، من خلال تأكيده على الوضع الإقطاعي للمجتمع الروسي، وعدم تحقق الاشتراكية فيه، كان ـ خلافاً للمناشفة[3] الذين كانوا يذهبون إلى ضروة تحويل السلطة بعد الثورة إلى البرجوازيين ـ يدعو إلى حماية قيام الرأسمالية الحكومية في روسيا. وبذلك كانت الرأسمالية الحكومية بمنزلة البديل للرأسمالية البرجوازية في الاضطلاع بهذا الدور التاريخي. وفي الحقيقة فإن الماركسية تحولت من خلال اللينينية إلى أيديولوجيا لـ "للتنمية

(93)

والتحديث"، واكتسبت بذلك جاذبية أكبر بالنسبة إلى الشعوب الأكثر تخلفاً من الناحية الصناعية[1].

3 / 2 ـ ستالين: لقد كان يوسف ستالين شارحاً لأفكار لينين في إطار نوع من "اللينينية" الرسمية ـ التي تحولت إلى أيديولوجية رسمية لحكومة الاتحاد السوفيتي لاحقاً ـ أكثر منه منظراً في حقل الماركسية. وقد كان أهم عنصر لـ "اللينينية ـ الاستالينية" يتمثل في التأكيد على عامل قوّة الحزب وحصر السلطة في يد الزعيم بوصفه الشخص الذي يقع على عاتقه تحديد المسار والاتجاه العام للنظام. لقد عمل ستالين بوضوح على التخلي عن التطلعات العالمية وهذا الطموح الكبير الذي اقترن على الدوام بالثورة الاشتراكية التحررية في روسيا، وركز على الحفاظ على الاشتراكية والثورة في حدود القطر الروسي فقط. من هنا فقد عمل على بناء نظام سياسي مركزي، لم تتضح معالم الجرائم والقسوة والوحشية فيه إلا بعد انتهاء فترة حكمه.

وفي عام 1931 م أعلن يوسف ستالين عن أنه قد استخرج جميع الأصول والقواعد الرئيسة للماركسية ـ اللينينية، بوصفها "علماً"، وأن على جميع العلماء الروس من الآن فصاعداً أن يتعاملوا مع تلك الأصول بوصفها قانوناً ثابتاً سواء في العلوم الاجتماعية أو السياسية أو العلوم الطبيعية. إن هذه الرواية الوضعية ترى جميع العلم كلاً واحداً ومتناغماً، يعرض علينا معرفة ماوراتاريخية معتبرة بشكل مطلق.

لقد تلخص حل ستالين لإقامة الاشتراكية في التسريع من حركة التصنيع، واعتباره الزراعة اشتراكية[2]. وقد واصل تطبيق سياسته هذه

(94)

من خلال اللجوء إلى استخدام البطش والقوّة.

يتم الجمع بين هاتين الجماعتين الماركسيتين ـ اللتين مثلتا الجناح الرئيس لتيار اليسار في النصف الأول من القرن العشرين ـ تحت عنوان عام يختزل بالماركسية التقليدية[1]. وبالتدريج خرجت سائر فروع الجناح اليساري من المعترك السياسي؛ فإن الفوضويون ـ على سبيل المثل ـ الذين كانوا يمثلون نحلة رئيسة من نحل النشاط اليساري في أغلب البلدان الأوربية، قد فقدوا جميع أنصارهم تقريباً، ولم يبق منهم سوى النزر القليل في إسبانيا[2].

الولايات المتحدة الأمريكية: رائدة اليمين

يجب القول بشكل عام: إن تبلور تيار اليمين في القرن العشرين قد اقترن ـ بالمقارنة إلى تيار اليسار ـ بصعوبات أكبر. فإن الكثير من المفكرين في هذه الحقبة الزمنية قد استفادوا من عناصر ونظريات معقدة يصعب تصنيفها على اليسار أو اليمين. ولكن يجب بشكل عام تعريف اليمين في هذه الحقبة من خلال مفاهيم من قبيل: الرأسمالية، والأحزاب المحافظة، والليبرالية. وفي الوقت نفسه ليس هناك من شك في أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر ـ من بين سائر البلدان في القرن العشرين ـ رائدة كل ما يمكن تسميته أو تصنيفه ضمن دائرة "اليمين".

لا شك في أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اتصفت بأنها من أسعد دول العالم طالعاً في القرن العشرين؛ إذ تحولت من دولة

(95)

هامشية في بداية القرن العشرين، لتغدو في نهايته إلى أعظم دولة في العالم دون منازع.

هناك مجموعة من العوامل والظروف الطبيعية والاجتماعية التي تظافرت لتسمح للولايات الأمريكية المتحدة في الوصول إلى تنمية مذهلة بعد انتهاء الحروب الداخلية بين الشمال والجنوب. فقد ساعدت أمور من قبيل: الأراضي الزراعية الخصبة الشاسعة، والتحول التكنولوجي الحديث والمذهل في صناعة سكك الحديد، وقاطرة البخار، والمعدات الضرورية لاستخراج المعادن، وزوال الموانع والقيود الاجتماعية والجغرافية، وعدم وجود التهديدات الخارجية الملحوظة، وارتفاع أسهم الاستثمارات الأجنبية والداخلية، على جعل الولايات المتحدة الأمريكية تأخذ طريقها إلى التطور والازدهار في سرعة مذهلة، أعجزت الدول الأخرى عن منافستها. وكانت التكهنات تذهب إلى القول بأن التنمية والازدهار في الولايات المتحدة الأمريكية إذا استمرّ على ذات الوتيرة، فإنها سوف تتقدم في عام 1925 للميلاد على الدول الأوروبية مجتمعة. بيد أن الحرب العالمية الأولى كبدت القوى الأوربية خسائر اقتصادية فادحة، أسهمت في تعجيل تحقق تلك التكهنات، لتتجلى قبل ست سنوات من موعدها[1].

رأى كل من (ليولين) و(راكول) في كتاب لهما بعنوان "اليسار واليمين والدولة" إلى الاعتقاد بأن الدور الأبرز للولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين قد تلخص في الحفاظ على الليبرالية واستمرارها. فقد ذكرا ـ على سبيل المثال ـ أن البلدان الليبرالية كانت

(96)

تعاني في عقد الثلاثينات من أزمات حادّة بحيث أصيب أكثر المفكرين الطليعيين بخيبة أمل من الليبرالية، وأخذوا يبحثون عن حياة جديدة في الفاشية والشيوعية، ولولا الدور المحوري للولايات المتحدة الأمريكية، لكان مصير الليبرالية قد سار نحو المجهول[1]. وبطبيعة الحال فإن محورية الولايات المتحدة الأمريكية في الاقتصاد أثناء الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين قد أدت إلى أن تمنى البلدان الأخرى بأفدح الخسائر بسبب انهيار الاقتصاد الأمريكي. إن الركود الكبير ـ الذي بلغ ذروته ما بين عامي 1929 ـ 1932 م ـ قد أصاب الليبرالية بضربة غير مسبوقة، حتى بدا أن الاقتصاد الرأسمالي يسير باتجاه الانهيار الذي تكهّن به (كارل ماركس). لقد خلقت البطالة أزمة متصاعدة في البلدان الأوروبية، حيث بلغ حجم البطالة في البلدان الأوروبية المستويات الآتية: من 22% إلى 23% في إنجلترا، و24% في السويد، و27% في الولايات المتحدة الأمريكية، و29% في النمسا، و31% في النرويج، و23% في الدنمارك، وما لا يقل عن 44% في ألمانيا. حيث سقطت جميع الدول الليبرالية تحت وطأة هذا الركود، ولم تتمكن من تجاوزه إلا الدولة النازية الألمانية بقيادة أدولف هتلر[2].  والأكثر لفتاً للانتباه في هذه المعمعة أن الاتحاد الجماهيري السوفيتي تحت القيادة الاستبدادية لـ (يوسف ستالين) والاقتصاد المبرمج، كان في مأمن من تداعيات هذه الأزمة الاقتصادية. كان الاتحاد السوفيتي يواصل خططه الاقتصادية الخمسية نحو الازدهار الاقتصادي المتسارع، حتى تحوّل في نهاية المطاف إلى قوّة اقتصادية عظمى

(97)

في العالم. ومع ذلك لم تكن هناك تلك الرغبة نحو اليسار بوصفه طريق حل للخروج من الركود الماحق في البلدان الأصلية الأوربية[1]. وبدلاً من ذلك فإن الذي كان يحظى بشعبية متزايدة هي الأيديولوجية الالتقاطية والمغمورة والتي كان من أهم نماذجها الحزب القوي الاشتراكي الألماني أو "النازي".

وقد تمثلت الجهود الأخيرة لليبرالية في الحفاظ على مشروعيتها على يد الفيلسوف وعالم الاقتصاد الإنجليزي الكبير (جان مينارد كينز). وإن كان ما قام به إنما تكلل بالنجاح بعد فترة من التأخير دامت لعشرين سنة، حيث لم يتحقق الإقبال والإجماع عليها من قبل المجتمعات والدول الرأسمالية إلا بعد ذلك الحين.

جان مينارد كينز

لقد كان (جان مينارد كينز) ليبرالياً في غاية الاعتدال. وقد جاءت منجزاته النظرية والعملية لإنقاذ الرأسمالية المأزومة في السنوات التي تخللت الحربين العالميتين. حيث أدرك أثناء دراساته الاقتصادية خطأ إحدى القراءات الليبرالية التقليدية القائمة على أن تدخّل الدولة في الاقتصاد لا يساعد على تنشيط وازدهار الحراك الاقتصادي، بل لا يؤدي إلى غير اختلال قواعد السوق الحرة. وقد كان يذهب ـ خلافاً لخبراء الاقتصاد التقليديين ـ إلى الاعتقاد بأن الاقتصاد الرأسمالي الحر، والمحصن من رقابة الدولة، مخالف للحفاظ على "الاستقرار الاقتصادي"[2]. لهذا السبب ـ وعلى خلاف غيره من الليبراليين ـ يرفض

(98)

الانفعال التقديري للدول الليبرالية في مواجهة الركود الكبير[1].

لقد كان (كينز) متفائلاً بالفطرة. فحتى في الفترة التي كان يتحدّث فيها الجميع عن "الركود العميق" و"الأزمة"، كان يكتفي بالتعبير عن تلك الأوضاع بـ "الاضطراب". وكان يعتقد بالتطوير التدريجي للتنوير، وكان ينتقد تشاؤم الرجعيين الذين يرون في كل نوع من أنواع الإبداع أو التجريب أمراً مقروناً بمخاطر جسيمة، وكذلك تشاؤم الثوريين الذين يرون كل شيء قبيحاً، ويدعون إلى إجراء تغييرات واسعة جداً، على حدّ سواء[2]. وعلى هذا الأساس كان (جان مينارد كينز) يرسم نظاماً يدعو إلى الملكية الخاصة والسوق الحرة، وفي الوقت نفسه يدعو إلى المزيد من تدخل الدولة في مسار تحسين الأوضاع الاقتصادية. لقد كانت الدولة من وجهة نظر (كينز) دولة ليبرالية تعمل على التدخل في الاقتصاد من أجل توسيع رقعة الرفاه العام. ففي الوقت الذي كان عموم خبراء الاقتصاد التقليدي من السابقين لعصر (كينز) ـ من الذين كانوا يعوّلون على الآليات الداخلية للرأسمالية ـ يذهبون إلى الاعتقاد بأن مراحل الركود في النظام الرأسمالي إنما هي مراحل طبيعية تزول تلقائياً وعلى نحو تدريجي، كان (كينز) يعتقد بأن هذه الدورة الهدّامة قد لا يمكن العودة منها على المدى الطويل، وعليه يجب على الدولة أن تتدخل في الاقتصاد بشكل وآخر للوصول إلى القضاء على البطالة بشكل كامل. فإن أزمة البطالة في تلك المرحلة، كانت ـ كما سبق أن ذكرنا ـ واحدة من الأزمات الهامة، وإن كينز لم يكن يرى طريقة حلها في التعادل والتوازن

(99)

التلقائي في المجتمع، بل في توفير فرص العمل من قبل الدولة[1].

لقد تحول نظام (كينز) الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية إلى أصل اقتصادي فرض على الحكومات الغربية بموجبه أن تتكفل على نطاق واسع بمسؤولية توفير  فرص العمل بشكل كامل لغرض تحقيق الازدهار الاقتصادي[2]. إن الركود الكبير، كان قد أدى إلى سقوط قاعدة الـ "لاسه فر" الاقتصادية إلى حد كبير[3]. كما أن نظرية (كينز) كانت قد استوجبت الشك في الأصول النظرية لقاعدة الـ "لاسه فر" الاقتصادية، وأثبتت الحرب العالمية الثانية أن الخطة الحكومية يمكنها أن تعمل على توفير فرص العمل بشكل كامل. ولهذا السبب جاء "تدخل الدولة ـ بعد انتهاء الحرب ـ في الاقتصاد والتخطيط بمختلف الصور من أجل الحيلولة دون تكرار الركود الكبير، بوصه جزءاً أساسياً لاقتصاد الغرب"[4]. إن هذه الدول ـ التي انبثق أكثرها من بين الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية ـ قد اشتهرت بدول الرفاه. وبطبيعة الحال لا ينبغي عدّ هذه الدول يسارية، بمعنى أنها لم تكن تدعو إلى القضاء على الرأسمالية أبداً، بل كانت تسعى إلى الخفض من حدّة بعض الأنشطة الرفاهية لهذا النظام المستذئب. وفي الحقيقة فإن (كينز) كان قد اتخذ موقف بعض الاشتراكيين الغربيين، ولكنه عمل على تبريره والبرهنة عليه من زاوية الاقتصاد الرأسمالي[5].

(100)

 

 

 

 

 

 

الفصل السادس

اليمين غير الليبرالي

في القرن العشرين

(101)

الفصل السادس:

اليمين غير الليبرالي في القرن العشرين

الحروب العالمية

هناك الكثير من الأسباب التي ذكرت لاندلاع الحرب العالمية الأولى، إلا أن هذه الأسباب أياً كانت، لم تقدم أي تصور من قبل أيٍّ من الطرفين المتنازعين عن النتائج الكارثية التي سوف تترتب على تلك الحرب.

لو ذهبنا إلى ما قاله (كلافزويتس) ـ الخبير الاستراتيجي الألماني البارز ـ من أن "الحرب هي استمرار للسياسة"، يجب القول بأن كلامه هذا كان شديد الواقعية فيما يتعلق بالحروب العالمية التي اندلعت في القرن العشرين.

إن الحروب في القرن العشرين قد تمت دمقرطتها ـ تبعاً للسياسة ـ بشكل عجيب، وهذا يعني أن انخراط بلد ما في الحرب، هو تورّط للشعب بأكمله في تلك الحرب أيضاً. وهي ظاهرة يجب اعتبارها بالتحديد ظاهرة خاصة بالقرن العشرين. إن أهمية تواجد الشعوب في الحرب، قد أفضت إلى مضاعفة أهمية الأيديولوجيات السياسية، وأن تتغير الخطوط والحدود الأيديولوجية في كل حرب من الحروب صعوداً ونزولاً.

في الحروب الديمقراطية ـ على غرار السياسات الديمقراطية ـ

(102)

كان يجب العمل على شيطنة الأعداء، كي تبدو منهم صورة كريهة أو مذمومة في الحد الأدنى[1]. ونتيجة لهذه الآليات والعناصر، لم يعد من العملي فرض السلام والقرارات ـ التي تبرم في الخفاء بين ساسة الطرفين المتنازعين، التي سبق لها أن نجحت مراراً وتكراراً في إخماد الحروب ـ من خلال ذات تلك الآليات. وقد كان القتل الذريع للشعوب يتواصل بشكل منفلت لا يمكن تصوره فضلاً عن تصديقه.

المسألة الأخرى التي تعيد فرض نفسها هنا، هي مسألة "التكنولوجيا". فقد سبق لنا أن أثبتنا كيف قام (كارل ماركس) ـ في معرض توضيحنا لأفكاره ـ بإدخال الآلة في مسار الاغتراب عن الذات، بيد أنه قد لا يمكن إبراز الوجه المتحجر والمريع للتكنولوجيا كما أمكن ذلك في الحربين العالميتين. حيث كان يتم القضاء على المدنيين والنساء والشيوخ والأطفال زرافات زرافات بكبسة زرّ واحدة، حتى صارت هذه المظاهر تتخذ طابعاً روتينياً وعادياً بحيث أصبح من النادر أن ترى من تثير هذه المشاهد غضبه واستياءه، وأصبحت هناك حاجة ملحة لاستحداث مفردات جديدة من قبيل "الإبادة الجماعية" لتوصيف ما بدأ يحدث في عالم الإنسان.

لو عدنا إلى تقسيمنا السابق لرقعة الشطرنج العالمية ما بين يمين ويسار، تعين علينا القول بأن تيار "اليسار" في خضم الحرب العالمية الأولى لم يكن قد تحول بعد إلى قوة اجتماعية يحسب لها حساب بوصفها واحدة من طرفي النزاع المستعر. لقد كان اليساريون ينظرون إلى الحرب العالمية الأولى بوصفها نزاعاً بين القوى الإمبريالية

(103)

للاستيلاء على المزيد من مصادر القوة، ويعتبرونها مجرد حرب عبثية مشؤومة وكارثية من تلك الحروب التي تقع بين الحيوانات الكاسرة. وقد عمد أكثر المنتمين إلى التيار اليساري من الشخصيات الهامة في سنوات الحرب العالمية الأولى، إلى نقد هذه الحرب الفتاكة، وأخذوا يدافعون عن الصلح والسلام. وقد اتضحت هذه النزعة بين التيارات اليسارية الروسية ـ ومن بينها البلاشفة ـ على نحو أشد، الأمر الذي شكل واحداً من الأسباب الرئيسة لإقبال الشعب الروسي ـ المنهك واليائس من هذه الحرب العبثية ـ عليهم. كما قام لينين بعد استلام السلطة في روسيا، ببذل كل ما بوسعه من أجل تخليص روسيا من شرور تلك الحرب.

بيد أن الأوضاع في الحرب العالمية الثانية قد اتخذت منحى آخر. حيث أجمع أغلب المؤرخين على أن سبب اندلاع الحرب العالمية الثانية يعود إلى ظهور قوة اجتماعية خارقة باسم "الفاشية"، حيث وضعت العلاقات العالمية وجهاً لوجه أمام مسألة مستجدة لم يسبق للعالم أن رأى مثيلاً لها.

اليمين غير الليبرالي: التيار المحافظ والفاشية

سبق لنا أن ذكرنا أن الليبرالية كانت تعد في بداية الثورة الفرنسية من التيارات اليسارية، وفي المقابل كان أنصار النظام القديم محسوبين على التيار اليميني. بيد أن هذا التصنيف قد واجه الكثير من التحولات طوال السنوات المنصرمة، بحيث أضحت الليبرالية شيئاً فشيئاً من أهم أقطاب التيار اليميني. إلا أن أحداث القرن العشرين أثبتت ضرورة عدم الغفلة عن سائر الجماعات اليمينية أبداً؛ وهي الجماعات التي أخذت

(104)

تستعر ـ أثناء أفول الليبرالية في سنوات ما بين الحربين العالميتين ـ استعار النار تحت الرماد.

إن أهم الأيديولوجيات المدرجة ضمن هذه المجموعة، هي: التحفظ، والفاشية. فإن هاتين الأيديولوجيتين كانتا مختلفتين بل ومتعارضتين في الكثير من الجهات، إلا أن الشيء المشترك بينهما والذي جعلهما يندرجان معاً في تيار اليمين، هو حقدهما الشديد للشيوعية وروسيا وسائر التيارات اليسارية في حقل الفكر والسياسة. وفي الوقت نفسه فإن هاتين الأيديولوجيتان من جهة أخرى لم تكونا تبديان مرونة تجاه الليبرالية أيضاً.

1 ـ التيار المحافظ

إن التيار المحافظ يُعد واحداً من حقول الفكر والعمل السياسي التي كان عرضة لأنواع الحملات والانتقادات الطويلة والعريضة من قبل مختلف التيارات السياسية من الليبرالية والاشتراكية والمعتدلة والمتطرفة وغيرها. وربما كان السبب في ذلك يعود إلى أن المحافظين كانوا ينظرون إلى الكثير من أهداف وتطلعات الثورة الفرنسية ـ التي تم القبول بها على نطاق واسع وشامل في حقل الممارسات السياسية الحديثة ـ بعين الشك والريبة والإنكار. وقد كان (أدموند بيرغ) ـ الذي يراه الكثيرون (أصابوا أم أخطأوا) أباً للتيار المحافظ ـ يعد من الناحية العملية أقوى منتقد للثورة الفرنسية. يرى المحافظون في الجهود الثورية لإقامة الجنة على الأرض كارثة ماحقة، ويسعون في المقابل إلى جعل الماضي والتقاليد والتجارب التاريخية الملموسة دعامة متينة قابلة لأن يركن إليها ويعتمد عليها. حيث تحظى عندهم الملكية،

(105)

والأسرة، والأعراف والتقاليد، والدين، والدولة، وسائر المؤسسات الإنسانية، التي تمّ الوصول إليها بعد مخاضات عسيرة من التجارب والتكامل عبر الإخفاقات الكثيرة، ذات قيمة كبيرة تستحق التقديس والاحترام. يقول مايكل أوشكات: "إن التحفظ يعني ترجيح الأمر المعلوم على الأمر المجهول، وتقديم الأمر الذي تم اختباره على الأمر الذي لم يختبر بعد، ويعني تفضيل الحقيقة على الأسطورة، والحفاظ على الأمر الموجود وعدم التفريط به من أجل الأمر المنشود، وإيثار الأمر المحدود على الأمر اللامحدود"[1]. وعليه فإن هذا التعريف يشير على نحو ضمني إلى نمط العقائد التي يؤمن بها المحافظون.

لقد كانت انتقادات المحافظين الموجّهة إلى العالم الحديث مثار تأمل على الدوام. يذهب (كارل منهايم) ـ وهو من بين المحللين والناقدين البارزين للمحافظين ـ إلى الاعتقاد بأن المحافظين كانوا هم أول المخالفين للمجتمع البرجوازي، وليس الاشتراكيون[2]. يمكن تقسيم انتقادات المحافظين ـ تبعاً لـ (هيرشمان) ـ إلى ثلاثة مجموعات عامة. فهو يقول: عندما يتم تقديم طريحة للمتغيرات الجذرية لمؤسات المجتمع، فإن أول نقيضة تصدر من قبل المحافظين تدول حول مفردة "المخاطرة". أما النقيضة التالية فتقوم على محور "الانحراف" إذ يتم تقديمها ـ في الغالب ـ بعد تراكم التجارب المريرة الناتجة عن السياسات الجديدة والفتية، وفي نهاية المطاف ـ وبعد فترة من الإرجاء والتأخير ـ يأتي دور الطريحة الثالثة

(106)

والأخيرة والتي تدور حول محور "العبثية"[1].

ويمكن تلخيص وتبويب أسس وقواعد تفكير المحافظين، ضمن العناوين الآتية:

1 ـ إن المحافظين يشككون جداً في طبع الإنسان وإمكانية إصلاحة بمساعدة العقل. وفي الحقيقة فإنهم في الأساس ينكرون العقلانية الفردية التي يؤمن بها التيار التنويري، ويعتقدون أن العقل الفردي أصغر وأعجز بكثير من أن يستطيع فهم جميع مسائل العالم البشري، فضلاً عن أن يتمكن من وضع الحلول لها. وفي المقابل فإنهم يقيّمون ويجلّون العقل العام الذي يفرزه التقليد أو الدين.

2 ـ كان هناك بين المحافظين والعقائد الدينية ـ على العموم ـ علاقة وثيقة؛ إذ كانوا ينتقدون العلمانية الآخذة في الانتشار، وأنواع التطرف لدى الثوريين الفرنسيين، ومن بعدهم الشيوعيين في الاستهانة بالدين. وكانوا يعتقدون أن الدين يمكنه تلبية حاجات العالم الإنساني على نحو أفضل بكثير من سائر الأفكار المستحدثة الأخرى. كما لا بد أيضاً من الالتفات إلى أن العلاقة بين الدين والمحافظين لم تكن شديدة الرسوخ والثبات، حيث كان يقع الانفصال بينهما في بعض المفاصل الحساسة والهامّة.

3 ـ يرى المحافظون أن من بين الحقائق الملموسة والمحسوسة والطبيعية في المجتمع، هي أن الأفراد يختلفون فيما بينهم من حيث القدرات والإمكانات. وعليه فإن كل سعي أو محاولة لإثبات أن الناس متساوون من الناحية الذاتية بلحاظ القابليات والإمكانات، لا يعدو أن

(107)

يكون مجرد وهم، وسيكون سعياً طائشاً ومن غير طائل. وعليه فإن الاختلاف وعدم التساوي يعتبر من الخصائص الطبيعية لعالم البشر، وإن كل جهد من أجل رفع هذا الاختلاف سيكون محكوماً عليه بالفشل.

4 ـ تعتبر "الملكية الخاصة" من بين المفاهيم المحترمة من قبل المحافظين، بل هي موضع تقديسهم أيضاً. وبذلك فإن المحافظين يتفقون مع الليبراليين في هذه النقطة، غاية ما هنالك أن الليبراليين يبررون الملكية بنظريات من قبيل: "العقد الاجتماعي"، بينما المحافظون يعتبرون ذلك أمراً بديهياً وطبيعياً لا يحتاج إلى تبرير أبداً؛ وذلك لوجود عنصر الملكية في المجتمعات الإنسانية على طول التاريخ.

5 ـ إن التيار المحافظ ـ تبعاً للرؤية القائمة على سلسلة المراتب، والاتجاه الإيجابي لها نحو عدم المساواة ـ يميل عموماً إلى دعم نوع من الحكم الأبوي. وعلى الرغم من اقتران هذا النوع من الحكم بشكل معقد بالاقتصاد الرأسمالي والسوق الحرة، إلا أنه لم يبدِ مرونة تجاه النماذج الديمقراطية التي تضع زمام الأمور ومقاليد القرارات الاجتماعية في يد عامة الناس[1].

يمكن لنا أن نرصد مرحلتين هامتين في التاريخ الفكري للتيار المحافظ. المرحلة الأولى هي مرحلة ردود الأفعال على سياسات الثورة الفرنسية والليبرالية التقليدية، ويمكن لنا أن نعيد هذه المرحلة إلى ما قبل القرن العشرين. أما المرحلة الثانية ـ التي تعود إلى فترة ما بين الحربين العالميتين بالتحديد ـ فقد شهدت اجترار الأدلة على بطلان المنهج الليبرالي  للدولة، حيث شهدت في هذه المرحلة

(108)

تحديات كبرى. وكما سبق أن ذكرنا فإن الليبرالية في نهاية الحرب العالمية الأولى وبداية الركود الكبير، كانت تعيش أسوأ مراحلها، حيث كانت الشكوك تتزايد في صوابية مدعياتها. وقد كان كل من (جوزيف شومبتر) و(ليو شتراوس) من أهم المنظرين في التيار المحافظ في هذه المرحلة الثانية من تاريخ المحافظين.

أ ـ جوزيف شومبتر: كان شومبتر خبيراً اقتصادياً نمساوياً، وكان في بداية أمره ليبرالياً، إلا أنه قدم بعد ذلك تفسيراً فريداً للرأسمالية أدخله في حلقة المحافظين. حيث كان يذهب إلى الاعتقاد بأن نجاح الرأسمالية سوف يقترن بانهيار جميع عناصر حيويتها وعنفوانها. وقد بحث ظهور وأفول الرأسمالية في إطار بسط الديمقراطية على الساحة السياسية. يزعم شومبتر أن الحكومة التي تختبر الإصلاحات وتدخّل الدولة في الاقتصاد، تعمل بالتدريج على تخريب القيم التقليدية والبنية الاجتماعية وسلسلة الرتب الضرورية للحفاظ  على الشعور العام بحبّ الوطن والتضحية والحياة الأخلاقية، وإن هذا المسار سيؤدي بالتدريج إلى الانهيار التلقائي للنظام الرأسمالي. وقد مثل لذلك بالعلاقة القائمة بين الرأسمالية العقلائية في السوق الحرة والأسرة، وأثبت أن الرأسمالية من خلال تشجيع الناس على تأخير الزواج، أو تحديد النسل وقلة الإنجاب، تعمل على إضعاف كيان الأسرة. في حين أن إضعاف هذا الكيان، يعمل في المقابل على تعريض المنظومة بأسرها إلى خطر الزوال والفناء. كما يذهب شومبتر ـ خلافاً لسائر الاقتصاديين الليبراليين ـ إلى الاعتقاد بأن الدولة يجب أن تكون حامية أو بمنزلة الوالد الذي يستطيع الحفاظ على المواطنين في المراحل العصيبة[1].

(109)

كانت هذه الفكرة تبدو مطلوبة لمرحلة ما بين الحربين، وشيئاً فشيئاً تبلورت رغبة المحافظين في إدارة الدولة على شكل أبوّة الحكومة، و"دولة الرفاهية". وكان أهم منظر في هذه الدولة ـ وهو (جان مينارد كينز) ـ واحداً من تلاميذ (جوزيف شومبتر)[1].

ب ـ ليو شتراوس: لقد كان (شتراوس) فيلسوفاً سياسياً، وقد أمضى سنوات طويلة في التدريس في جامعة شيكاغو، وخلال تدريسه لتاريخ الفلاسفة السياسيين كان يبحث عن ظاهرة أطلق عليها مصطلح "أزمة الحداثة". وكان يرى هذه الأزمة ناشئة عن التأثيرات الكارثية لتراث التنوير، من قبيل: الفردانية، والنسبية الأخلاقية، والإيمان بالتكنولوجيا. ومن هنا كان يُعدّ من أكبر الناقدين للحداثة في القرن العشرين. يذهب (شتراوس) إلى الاعتقاد بأن النسبية تمثل جوهر الحداثة وعلم الفلسفة الحديثة. وإن هذه النسبية أدت إلى الانفصال عن الأمر المطلق وسقوط العالم في ورطة العدمية[2] والنهلستية[3]. ويمكن لنا أن نشاهد هذه العدمية في التجليات المختلفة لليبرالية في الساحة السياسية إلى التاريخية والوضعية في حقل العلوم الاجتماعية. كما أنه ـ خلافاً لهذه الاتجاهات ـ باشر دراسة الفلسفة الإسلامية والفلسفة العبرية في القرون الوسطى، ومن هذه الناحية كان من المنتقدين القلائل للغرب الذين أبدوا اهتماماً خاصاً بالفلسفة الإسلامية أيضاً[4].

(110)

لقد كان (شتراوس) من عتاة أنصار الفلسفة التقليدية الإغريقية بوصفها الفلسفة المعتبرة الوحيدة التي يمكنها أن ترشدنا إلى الحقيقة المطلقة، ويرى أن سقراط هو المؤسس للفلسفة السياسية. ولكننا عندما خرجنا من اليونان القديمة والعصور الوسطى، ودخلنا أعتاب العالم الحديث، قامت الحقيقة بإخفاء نفسها، أو بعبارة أخرى: أصبحت بعيدة المنال[1]. وقد رأى أن من بين أهم الأسباب لهذه الظاهرة هو التأثير السلبي للفلاسفة السياسيين في العصر الحديث على المعرفة البشرية بشأن السياسة. وفي تأثر واضح منه بـ (هيدغر) قال بأن غايته الأخيرة تكمن في التخلص والتحرر من قيود الفلسفة، واستعادة الفهم العام والطبيعي للعالم، بمعنى الفهم ما قبل الفلسفي الذي كان شائعاً في العصور الإغريقية[2].

إلا أن هذه الفلسفة الجديدة والعلم الحديث، ليسا هما وحدهما اللذين يقفان موقف الرفض للفلسفة الحقيقية، بل إنه يرى حتى المجتمع السياسي وعامة الناس يناهضون الفلسفة والفلاسفة؛ لأن المجتمع السياسي يمتلك نظريات متنوعة بشأن السياسة، وإن هذه النظريات تكتسب من مجتمع إلى مجتمع آخر مزيداً من التعددية بالنظر إلى اختلاف تقاليدها وأعرافها. في حين أن الهدف والغاية التي تنشدها الفلسفة الصادقة، هي الوصول إلى الحقيقة المطلقة التي تتجاوز التاريخ[3].

(111)

2 ـ الفاشية

لقد أمكن للآراء المحافظة أن تعيد حيويتها ما بين الحربين العالميتين من جديد، وأن تحصل على عدد من المؤيدين، إلا أنها ـ في الحقيقة ـ لم تتمكن من إثبات أهميتها كما أمكن لجماعة أخرى من اليمينيين الجدد الذين كانوا يشبهونهم في بعض تعاليمهم، ويختلفون معهم تمام الاختلاف في بعض التعاليم الأخرى. وقد تمثلت هذه الجماعة بالفاشيين. إن الفاشية ـ خلافاً للتيار المحافظ أو الأيديولوجيات الأخرى الهامة في القرن العشرين ـ لا تحتوي على مفكرين كبار. لقد كانت الفاشية حركة عملية إلى حد كبير، حيث استعرت شرارتها فجأة لتحترق، وتحرق العالم معها.

تكمن النقطة المحيّرة في أن الفاشية قد ظهرت في قلب الحضارة الغربية المتقدمة، وفي ألمانيا وإيطاليا اللتان هما من المراكز الرئيسة للثقافة والحضارة الطليعية في الغرب. فقد كانت هناك أعراف وتقاليد فكرية متجذرة لدى كلا هذين البلدين، وكانت هناك الكثير من المراكز الثقافية والعلمية فيهما، بيد أن الظروف والشرائط في كلا البلدين قد مهدت الأرضية لظهور اتجاه عام لصالح الفاشية، من قبيل: الدولة المتآكلة، والآليات والعناصر التي لم تعد مجدية، وجمهور من المواطنين المحبطين واليائسين، والمعارضين الذين لم يعودوا يدركون من الذي يجب عليهم البقاء على التمسك به والوفاء له، والحركات الاشتراكية الموالية في ظاهرها للثورة الاجتماعية، ولكنها على المستوى العملي تفتقر إلى القدرة التي تؤهلها لإحداث أي نوع من أنواع التغيير، وبالتالي فقد أدى ذلك كله إلى جرح المشاعر القومية

(112)

لدى المواطنين بعد إبرام وثيقة السلام في فرساي[1]. إن هذه الظروف هي التي دفعت بنُخَب المجتمع إلى الميل نحو اليمين المتطرّف، وقد تحقق هذا الأمر عملياً في إيطاليا سنة 1920 ـ 1922 م، وبعد ذلك بعشر سنوات في ألمانيا ما بين عامي 1932 ـ 1933 م. لقد كان الفاشيون مثل المحافظين في عدائهم اللدود لتراث التنوير والثورة الفرنسية، وكانوا يرفضون الحداثة على المستوى الرسمي، إلا أنهم مع ذلك كانوا يبسطون سيطرتهم بكامل اختيارهم على التكنولوجيا الحديثة في المسائل العلمية[2].

لقد كانت الفاشية تشارك اليمين المحافظ في الإيمان بالقومية ومناهضة الشيوعية، ورفض الليبرالية، ولكن كان هناك اختلاف جوهري بينهما، يكمن في تمسك الفاشية بحشد الجماهير من القاعدة. فإن الفاشية على الرغم من احتقارها للديمقراطية، إنما كانت في الأساس مرتبطة بمرحلة السياسات الديمقراطية والجماهيرية. ومن هذه الناحية كانت الفاشية ـ مثل الشيوعية ـ في ذروة اقتدارها تفاخر بحشدها للجماهير، وكانت تقيم الكثير من الاستعراضات لإثبات شعبيتها وجماهيريتها[3].

على الرغم من أن الفاشية كانت في البدء بمنزلة المذهب الفكري الذي يرمي بجميع المذاهب المنافسة في مزبلة التاريخ، إلا أنها كانت تنظر باستمرار إلى الماضي، وتسعى إلى إحياء تصوير عن المجتمع

(113)

و"التعلق" الذي كان قائماً في مرحلة ما قبل الحداثة[1]. بيد أن هذه المسألة تحتوي على تناقض؛ إذ أن عودتهم إلى الماضي ـ كما هو الحال بالنسبة إلى المحافظين والتقليديين ـ لم يكن شاملاً، بل إن ماضيهم كان ماضياً وهمياً ومصطنعاً. لم تكن هناك نسبة بين الفاشية والدين، وكانت الفاشية تسخر من القيادة الدينية علناً، وبدلاً من ذلك كانت ترسم صورة للزعيم والفوهرر[2]، الذي هو بحسب ادعائهم يمثل مفهوماً من قبيل "الرجل الأمثل" الذي رسمه (فريدريك نيتشه)، فهو رجل فذ لا يكتسب شرعيته من دين محدد، وإنما يكتسب شرعيته من ذاته فقط.

لقد وصلت الدولة المتسرّعة لهذه الأيديولوجيا الغريبة إلى نهايتها بانتهاء الحرب العالمية الثانية. ولم يقتصر الأمر على سقوط الدولتين الفاشيتين (ألمانيا وإيطاليا) بعد تكبدهما خسائر فادحة في الحرب فحسب، بل تمت محاكمة وتجريم فكرهما وأيديولوجيتهما بوصفهما المسببين الرئيسين للحرب. وفي السنوات اللاحقة كانت تظهر من حين لآخر بعض التيارات الاجتماعية في بعض البلدان الغربية على نطاق محدود، كان يعبّر عنها بمصطلحات، من قبيل: الفاشية، والفاشية الحديثة، أو النازية الجديدة، بيد أن عنوان الفاشية في المجموع قد تحول في الغالب إلى نوع من الشتيمة السياسية في قاموس المصطلحات السياسية للمجتمعات المعاصرة.

(114)

 

 

 

 

 

 

الفصل السابع

انسلاخ اليسار من جلده

(115)

الفصل السابع

انسلاخ اليسار من جلده

طبقاً لتوقعات (كارل ماركس) كان لا بدّ لمسار الأزمات الداخلية للرأسمالية أن تؤدي إلى انهيارها في المجتمعات الصناعية في أسرع وقت ممكن. بيد أن مسار التحولات في العقود الأولى من القرن العشرين، وإن شهدت أزمات حادة في الرأسمالية، إلا أنها لم تحمل كبير أمل لليسار. فإن الثورات الفاشلة المتعددة، والانتفاضات التي تم قمعها، والتي تهاوت تباعاً، قد ضاءلت من فرص نجاح هذا الحلم الساذج. ويمكن لنا أن نشير من بين هذه الثورات الفاشلة إلى ثورة سبارتاكوس بقيادة (روزا لوكسمبورغ)[1] سنة 1919 م في ألمانيا، والتي لم تحقق سوى الفشل الكامل، والإعدام لشخص السيدة (روزا لوكسمبورغ). بل حتى أكثر فترات الرأسمالية تأزماً، وهي فترة بداية عقد الثلاثينات من العقد العشرين، قبل أن تعمل على إثارة حماسة اليسار والماركسية، قد عملت على ظهور تيار جديد من اليمين المتطرف اسمه (الفاشية). كما أن الثورة الشيوعية الوحيدة الناجحة (في روسيا)، لم تؤد إلى تحقق الوضع المثالي المنشود لليساريين في سائر البلدان الأوروبية. إن التنازع على السلطة بعد لينين، واقتران

(116)

دكتاتورية الرعب بالقمع تحت لواء حكم النقابات العمالية، أنزل ضربة قاسية على الآمال والتطلعات والأهداف الماركسية.

إن هذه الظروف والشرائط أدت ببعض المفكرين والأيديولوجيين الماركسيين إلى إعادة النظر بالرواية التقليدية لماركس، أو أنهم سعوا ـ على حدّ تعبيرهم ـ إلى تطبيقها على الظروف والشرائط المتغيّرة للعالم الرأسمالي.

لقد كانت الماركسية التقليدية في أهم آرائها، وضعية. هذا في الوقت الذي كانت الوضعية في تلك المرحلة تعتبر من أهم أساليب البحث العلمي لدى التيار اليميني أيضاً. وقد كانت هذه المسألة موضع نقاش بالنسبة إلى بعض المفكرين اليساريين. فقد كان هؤلاء يسعون إلى نقد وإنكار الماركسيين التقليديين بما يرونه تحليلاً ماركسياً أصيلاً. يرى (لوسين جولدمن) أن الماركسيين التقليديين قد ترعرعوا في البيئة الاجتماعية ما بين عام 1848 إلى عام 1914 للميلاد، وفي هذه المرحلة كانت الرأسمالية هي النظام المهيمن والغالب في العالم الغربي. إن هذه البيئة الاجتماعية قد تركت تأثيرها في شرح الماركسيين التقليديين لأفكار (كارل ماركس). إلا أنهم في الحقيقة قد ذابوا بشكل وآخر في الأيديولوجية الرأسمالية، وعلى الرغم من أنهم فيما يتعلق بالجانب التنظيري لا يزالون يحيلون إلى مؤلفات (كارل ماركس)، إلا أنهم من الناحية العملية لم يكونوا يختلفون في شيء عن التيار اليميني. وقد تكررت هذه الظروف والشرائط للمرة الثانية في الماركسية الروسية بعد وصول (يوسف ستالين) إلى السلطة. حيث شهدنا ذات هذه المشكلة المتمثلة باستقرار الظروف والشرائط الاجتماعية وفقدان

(117)

الأمل بالثورة[1]. وقد كانت الماركسية الأوربية في العقد الثاني والثالث من القرن العشرين عبارة عن محاولة لتشذيب الماركسية من الوضعية، وإعادة مبادئ الديالكتيك الهيجلي إليها.

وقد ساعد على ذلك عامل آخر: ففي العقد الثالث من القرن العشرين للميلاد، تم الكشف عن كمّ كبير من المخطوطات التي كتبها (كارل ماركس) في شبابه بخط يده، وتم نشرها للمرة الأولى[2]. وقد عكست هذه المخطوطات عن ماركسية واضحة الاختلاف عن الماركسية التي فهمها الماركسيون التقليديون. ففي تلك المرحلة كان (كارل ماركس) متأثراً بفلسفة هيجل على نحو كامل، الأمر الذي يثبت ـ خلافاً للتصور العام ـ حصول تحول فكري كبير في أفكار ماركس بين ما كانت عليه في فترة شبابه، وما آلت إليه في مراحل النضج الفكري. ومن خلال هذه النظرة الجديدة حاول بعض المفكرين المولعين بماركس إنشاء ماركسية مستلهمة من ماركس الشاب، وأن تكون ذات جذور فلسفية واضحة.

كما سبق أن ذكرنا في بيان أفكار (كارل ماركس) فإن من بين مفرداته الهامة هي مفردة "الاغتراب عن الذات"، وقد اقتبسها من (هيجل). ولكي نفهم الفرق بين فهم (هيجل) وفهم (ماركس) لهذه المفردة، وكذلك ما كان يسعى إليه الماركسيون الهيجليون، ننقل حكاية روح هيجل بأوجز عبارة ممكنه، وذلك على النحو الآتي:

إن الروح قد أبدعت الطبيعة والتاريخ من تلقائها، وتجلت هي

(118)

على شكل عينية طبيعية ومؤسسات تاريخية، وبذلك فقد اتسعت في المكان والزمان واغتربت عن ذاتها. وكان هدف الروح التعرف على ذاتها للوصول إلى الإدراك الذاتي بنفسها. بيد أن الإنسان هو الوحيد من بين الظواهر الطبيعية والتاريخية الذي يمكنه الوصول إلى الماهية الروحانية غير الواعية للطبيعة والتاريخ. وعليه فإن الروح في الإنسان تصل إلى الوعي والإدراك الذاتي المنشود لها. إن على الإنسان أن يدرك العالم بوصفه روحاً مغتربة عن ذاتها. إن المعرفة الذاتية للروح تتكامل على مرّ التاريخ، وغاية هذا المسار هو وصول الروح إلى المعرفة المطلقة بذاتها[1].

وقد عمد (كارل ماركس) إلى توظيف هذا التفلسف من قبل (هيجل) حول روح العالم واغتراب الروح بشأن العالم الاجتماعي واغتراب البروليتاريا عن ذاتها. بيد أن الماركسيين الهيجليين حاولوا أن يمزجوا أفكار ماركس بالفلسفة الواقعية مجدداً. إن من بين النتائج الأولى المترتبة على هذه المحاولة، تحول ماركس من ناقد للرأسمالية إلى ناقد للحداثة؛ إذ أن (ماركس) في أعماله المتأخرة قد ارتضى أهداف ومعطيات العالم الحديث بشكل واضح، بيد أنه من خلال إعادة ربط هذه الأفكار بهيجل، تحوّلت منظومته الفكرية إلى نقد شامل وجامع لمختلف وجوه العالم الحديث[2].

وكان من بين أشهر الماركسيين الهيجليين، كل من: (أنطونيو غرامشي)، و(جورج لوكاتش). كما يمكن الإشارة من بين هؤلاء إلى

(119)

أمثال: (كارل كرش)، و(إرنست بلوخ) أيضاً.

جورج لوكاتش: يعتبر (لوكاتش) من أهم المنظرين في الماركسية الهيجلية. فقد ألف كتابه الرئيس بعنوان "تاريخ وآگاهي طبقاتي"[1] حتى قبل اكتشاف المخطوطات الاقتصادية الفلسفية لـ (كارل ماركس)، إلا أن اكتشاف هذه المخطوطات قد أيد تفسيره لأفكار ماركس.

إن الخدمة الرئيسة التي قدمها (لوكاتش) إلى النظرية الماركسية، تتمثل بمفهومين رئيسين، وهما: التشيّؤ، والوعي الطبقي. أما مفهوم التشيّؤ عند (لوكاتش) فهو في حقيقته تفصيل وبسط لفكرة (كارل ماركس) حول تشيّؤ البضاعة. حيث كان (ماركس) يذهب إلى الاعتقاد بأن الناس في مرحلة الرأسمالية ينسون حقيقة أن البضائع هي من صنع أيديهم، وأنهم هم الذين يمنحون البضائع قيمتها. ومن هنا سوف ينظرون إلى البضائع بوصفها شيئاً خارجياً ومستقلاً عنهم. وقد عمل (لوكاتش) على تعميم هذا المفهوم وتطبيقه على جميع ظواهر المجتمع الرأسمالي، من قبيل: الدولة، والقوانين، والاقتصاد، وما إلى ذلك. وقد قال في هذا الشأن: "إن الفرد في المجتمع الرأسمالي يواجه الحقيقة التي قد صنعها بنفسه. وتكون هذه الحقيقة بالنسبة له وكأنها ظاهرة طبيعية غريبة عنه ولا علاقة له بها، حتى يتصور نفسه ألعوبة بيد قوانين هذه الواقعية بالكامل"[2]. أما المفهوم الآخر الهام بالنسبة إلى (لوكاتش) فهو الوعي الطبقي. وإن الوعي الطبقي في رؤيته ليس مجرد وعي تجريبي قائم لدى الأفراد أو الطبقات بوصفها كلاً كاملاً،

(120)

بل هو الشيء الذي يمكن للطبقة أن تكونه[1]. وفي الحقيقة فإن الوعي الطبقي عبارة عن: "ردّة الفعل العقلانية المناسبة، والتي تتناغم مع الوضع الشاخص المعين في مسار الانتاج"[2].

يعمل (لوكاتش) على تصنيف الوعي الطبقي في التضاد مع الوعي الزائف. وإن الوعي الزائف عبارة عن النوايا أو الجهود الفردية للناس من أجل بلورة المسارات التاريخية، بيد أن المسألة هنا هي أن التاريخ على الرغم من كونه مؤلفاً من هذه النوايا والأفعال الصادرة عن الأفراد، إلا أن مساراتها تنطوي على شيء من المفارقة التي لا يمكن التنبّؤ بها أو السيطرة عليها. إن التاريخ من وجهة نظره عبارة عن نتيجة غير متوقعة لتلاقي ومشاركة جماعة من أفراد البشر في مسار صياغته. وبسبب هذا الإخفاق من قبل أفراد البشر في توجيه التاريخ، يكون وعيهم وعياً زائفاً. وهنا يسعى (لوكاتش) من خلال تقسيمين يقوم بهما إلى حلّ هذا السؤال القائل: كيف يمكن تحويل هذا الوعي الزائف إلى الوعي الصادق الذي هو الوعي الطبقي؟ التقسيم الأول هو التقسيم بين عالم الرأسمالية أو البرجوازية وعالم ما قبل الرأسمالية. إن الوعي الطبقي لا يمكن تحققه إلا  في العالم الرأسمالي؛ وذلك لأن مستوى الاكتفاء الذاتي لكل فئة اجتماعية في المجتمع الإقطاعي، هي من الارتفاع ـ من جهة ـ بحيث أن الإدراك المناسب للعلاقات المتبادلة لا يمكن له أن يوجد، ومن جهة أخرى ليست هناك صياغة وتبويب للعلاقات الاقتصادية؛ إذ أن هذه العلاقات قد تعقدت ضمن الروابط

(121)

الحقوقية والسياسية والأسرية وما إلى ذلك، بحيث تعاضدت فيما بينها لتبني وحدة منسجمة ومتكاملة. من هنا لا يمكن للأفراد أن يكوّنوا إدراكاً أبعد من محيطهم. أما في العالم الرأسمالي، فحيث الصياغة الاقتصادية المحددة والواضحة المعالم، وفصلها عن الصياغات السياسية والاجتماعية، يكون الوعي الطبقي قد بلغ نقطة بحيث يمكنه الوقوف عندها وإدراكها[1].

أما التقسيم الثاني، فهو التقسيم بين البرجوازية والبروليتاريا. حيث يثبت (لوكاتش) أن هناك طبقتين في المجتمع الرأسمالي هما وحدهما اللتان تستطيعان إدارة وتنظيم المجتمع على أساس منافعهما الطبقية، وهما: البرجوازية والبروليتاريا.

يذهب (لوكاتش) إلى الاعتقاد بأن البرجوازية ـ بسبب التناقض الذاتي القائم في النظام الرأسمالي ـ لا تستطيع الوصول إلى الوعي الطبقي أيضاً. فإن الرأسمالي من جهة يرى نفسه كائناً منفعلاً في قبال البنى والقوى العامة في المجتمع، كما يرى نفسه في مساحة الاقتصاد من ناحية أخرى كائناً فاعلاً منعزلاً وفردياً. فالمجتمع لذلك يتجلى له بوصفه كلاً واحداً من جهة، كما يتجلى له بوصفه مجموعة من الأفراد المنعزلين من ناحية أخرى. وبسبب هذا الشرخ الواسع، يبلغ الوعي الطبقي البرجوازي ذروته، ليبدأ مرحلة السقوط ثم يتلاشى[2]. وفي المقابل ليس من الممكن للبروليتاريا فحسب، بل من الواجب والضروري أن تطلع على موقعيتها بوصفها فاعلاً جمعياً

(122)

في اتجاه القوى الحاكمة على المجتمع. إن هذا الوعي الجمعي حيث يربط ـ في المسار الديالكتيكي ـ بين النظر والعمل، ويزيل الحدود والعقبات بين الفاعل الفردي والآخرين[1]، فإنه يتحرر من ربقة الاغتراب، ولا يكتفي بتحرير نفسه فحسب، بل ويعمل على تحرير البشرية بأسرها أيضاً[2].

لقد قدم (لوكاتش) نظرية اجتماعية معقدة، استفاد فيها من أفكار (ماكس فيبر)، و(جورج زيمل) أيضاً، بيد أن رؤيته ـ على كل حال ـ بشأن مسألة الوعي وأهميته في مسار النزاع الطبقي قد ألهمت الكثير من الماركسيين الذين جاؤوا بعده.

أنطونيو غرامشي[3]: لقد كانت السيرة الذاتية لـ (غرامشي) زاخرة بالمحن والمصائب. حتى أنه كتب الجانب الأهم من أفكاره في السجن، ومن هنا أطلق عليها اسم (دفاتر السجن). وقد استهدف الجزء الأكبر من انتقاداته ماركسية الحتمية الاقتصادية. فإن الاشتراكية ـ من وجهة نظره ـ إنما تظهر إلى الوجود بفعل الوعي الذاتي للطبقة

(123)

العمالية بالظروف والشرائط التي تعيش فيها وترزح تحت وطأتها. وفي هذا الخضم لا نقطع كثيراً بالانهيار الحتمي للرأسمالية وانتصار الاشتراكية على حسابها. وعلى هذا الأساس فإن هذه هي المسألة الأهم في النزاع الفعال والواعي للعمال في حقل السياسة. وقد رأى أن الطريق للوصول إلى الاشتراكية يكمن في المشاركة الديمقراطية. ولذلك فإنه كان يرفض معتقد اليساريين فيما يتعلق بالاستيلاء على السلطة، والحفاظ عليها لاحقاً من خلال "الدكتاتورية البروليتارية"، وكان يسعى إلى إدراك كيفية امتلاك المجتمع الاشتراكي لجماعة من المفكرين الذين يمكنهم الاستيلاء على السلطة، وفي الوقت نفسه يقبل جمهور الناس بهم بوصفهم قادة ومرشدين له[1].

إن هذه الفكرة تعود إلى أمر أطلق عليه (غرامشي) مصطلح "السيطرة". والسيطرة هنا تعني القيادة الثقافية التي تفرضها الطبقة الحاكمة على الجماهير بواسطة الطبقات الوسطى[2]. وعلى هذا الأساس فقد كان يسعى إلى فهم كيفية رفع سيطرة المجتمع البرجوازي على الشعب. وفي الحقيقة فإن الجماهير ـ طبقاً لنظرية السيطرة ـ كانت بحاجة إلى أيديولوجيا من أجل المشاركة الفاعلة، ولم يكن بإمكان هذه الجماهير العمل من تلقائها لصياغة هذه الأيديولوجيا، وإن هذه المسؤولية كانت تقع على عاتق المستنيرين أو الحزب، إذ يجب على الحزب أو هؤلاء المستنيرين صياغة هذه الأيديولوجية لهم. وعلى هذا الأساس فإن طريق الثورة ـ من وجهة نظر (غرامشي) ـ  لم يكن في

(124)

انهيار البنى، بل في تغيير العقائد العامة من الأفكار البرجوازية إلى الأفكار الاشتراكية.

عودة الرأسمالية إلى رشدها؟

في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حدثت مجموعة من التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية الهامة في المجتمعات الرأسمالية، وقد تركت هذه الأحداث بتأثيرها على ساحة الصراع بين التيارات اليسارية واليمينية إلى حدّ كبير. وكان من بين أهم هذه التحولات اتساع رقعة السياسات الموسومة بدولة الرفاه، واستبدال الليبرالية التقليدية بليبرالية كينز المعدّلة. وفي الحقيقة فإن كابوس تكرار الأزمة الكبرى وخطر انهيار أسس النظام، قد دفع بالرأسمالية إلى القبول بحدود من تدخل الدولة في الاقتصاد وممارسة السياسات الضامنة للرفاه (من قبيل: الضمان الاجتماعي، والتقاعد، وما إلى ذلك). وقد عبر البعض عن هذه الاستدارة بعبارة تعريضية قال في نصها: "عودة الرأسمالية إلى رشدها".

واضح أن النتيجة الضمنية لهذه الحالة هي تجريد التيار اليساري من سلاحه. فإن توسيع سياسة الرفاهية الجديدة عملت بشكل وآخر على تحسين مستوى الحياة بالنسبة إلى الطبقة العمالية. وبذلك صار لدى البروليتاريا ما تخسره بالإضافة إلى قيودها[1]! وأخذت الشعارات البرّاقة والسلوكيات الراديكالية للتيار اليساري تفقد بريقها سريعاً في الأوساط العمالية.

وقد شرح بعض الكتاب الماركسيين ـ ومن بينهم: (بول باران)،

(125)

و(بول سويزي) ـ لاحقاً أن تغيّر موقف الرأسمالية في الداخل، يقوم على التحول في علاقاتها الدولية. وقد ذكروا أن اتساع السياسات الرفاهية في المجتمعات الغربية يعود سببه إلى أن الرأسمالية قد عمدت إلى إبعاد الأزمة من المركز إلى الضواحي، وبعبارة أوضح: إنها نقلت الأزمة من مجتمعاتها إلى البلدان المعروفة ببلدان العالم الثالث. وفي الحقيقة فإن مسار عولمة الرأسمالية في هذه المرحلة ـ الذي كان قد بدأ منذ عدّة قرون ـ قد وصل إلى مرحلة من التنمية والاتساع، بحيث تمكن من تخصيص حصة من غاراتها العالمية للعمال في بلدان العالم الأول أيضاً. وبعبارة أخرى: إن الاستغلال الذي كان يتم بشكل رئيس في داخل الوطن (استغلال الرأسمالي للعامل)، تحول لاحقاً ليغدو استغلالاً عالمياً.

إن نقل الكثير من الصناعات الثقيلة إلى مجتمعات العالم الثالث، لم يعمل على تنعم الرأسمالية بنعمة الأيدي العاملة الرخيصة ـ الأمر الذي خفض من تكاليف الانتاج ورفع الأرباح ـ فحسب، بل أدى إلى حصول تحوّل هام في داخل المجتمعات الرأسمالية أيضاً. حيث انتقلت محورية الحياة الاقتصادية في العالم الرأسمالي من الانتاج الصناعي إلى تقديم الخدمات. إن اتساع الأنظمة البيروقراطية، والنظام التعليمي، والأنشطة التخصصية قد خلق طبقة جديدة واسعة ومؤثرة في دائرة المجتمعات الرأسمالية، يتم التعبير عنها بـ "الطبقة المتوسطة الحديثة"[1]. إن المجتمع الرأسمالي قد خرج من ثنائية الرأسمالي ـ العامل (التي كان ماركس مغرماً بها)، وحالت بين هاتين الطبقتين

(126)

طبقة آخذة في الاتساع، وهي طبقة كانت مرتبطة قبل ذلك بالعلاقات والمناسبات الاجتماعية ـ الاقتصادية للرأسمالية كي تتمكن من أن تكون مخاطبة بالشعارات الإنقلابية والثورية لليسار.

مدرسة فرانكفورت

لقد أدت هذه الأمور مجتمعة ببعض الماركسيين ـ بعد أن بهت عندهم بريق الأمل الثوري ـ إلى الابتعاد أكثر عن الماركسية التقليدية. إن التأكيد على العناصر الثقافية بدلاً من العناصر الاقتصادية التي كانت قد بدأت من قبل الماركسيين الهيجليين، قد تجلت على نحو أوضح في تفكير أتباع مدرسة فرانكفورت (النظرية الانتقادية). لقد ابتعد الماركسيون الانتقاديون عن أسس المباني المادية لنظريات (كارل ماركس) إلى حد كبير، بيد أنهم واصلوا نقد النظام الرأسمالي بشكل أكثر جدية، ولكنه أتى إلى حد كبير في إطار نقد الثقافة البرجوازية والحداثوية المهيمنة.

لقد عمد هؤلاء إلى تسرية نقد ماركس للنظام الرأسمالي إلى نقد العلم الوضعي، والثقافة الحداثوية، والمجتمع الصناعي أيضاً. إن هذه الأفكار قد تبلورت بفعل ضعف وأفول النهضة الاشتراكية العالمية، والتفرقة داخل الحركة العمالية، وذوبان جزء من الطبقة العمالية داخل الثقافة والأيديولوجيا البرجوازية[1]. إن الفرانكفورتيين لم يعتبروا هذا الأمر مجرد نتيجة للامتيازات المادية والرفاهية التي تم إعطاؤها للطبة العمالية. وقد بلغوا الذروة في نشاطهم عندما عمدوا ـ من خلال

(127)

طرحهم لمفهوم "الصناعة الثقافية ـ إلى تحليل الآليات والمسارات الثقافية التي تجتذب وتدمج البروليتاريا على نحو كامل في علاقات ومناسبات المجتمع الرأسمالي لمنتصف القرن العشرين. وإن مرادهم من الصناعة الثقافية جميع الأشكال الجديدة للانتاج الفني والتي تتصف بالخصائص الميكانيكية والانتاج الكمي الهائل، من قبيل: الأفلام السينمائية، والموسيقى التي تستهوي العامة، والبرامج التلفزيونية. يرى أنصار مدرسة فرانكفورت ـ من أمثال: (أدورنو)، و(هوركهايمر) ـ أن الصناعة الثقافية تمثل نموذجاً واضحاً وبارزاً للمنتجات التي تجعل من المجتمع البرجوازي مجتمعاً مغترباً عن ذاته. إن محاصيل ومنتوجات الثقافة المبتذلة محاصيل مخدّرة تسوق الناس إلى السقوط في هاوية الحماقة[1]. إن لب الكلام وجوهره هو أن الطبقة العمالية قد أصابها الوهم بسبب استهلاكها لمنتوجات ومحاصيل الصناعة الثقافية، وتجرّدت من نزعتها الثورية بشكل كامل.

لقد قام المفكرون الانتقاديون في الطبقات الأعمق بانتقاد الفكر الإثباتي والنزعة العلمية لعصر الحداثة. إن هذا الانتقاد يرتبط بتوجهاتها العملية؛ إذ أنهم كانوا يرون النزعة الوضعية (الإثباتية) إن هي إلا اتجاه محافظ يخدم الوضع القائم. كما يرون أن كل علم ومنطق يرى في المجتمع ظاهرة ثابتة ومتضمنة لآليات خاصة جامدة، غافلاً عن الطبيعة التاريخية والحيوية للمؤسسات الاجتماعية[2]. إن مثل هذا العلم إنما يخوض في تشريح وتحليل الوضع القائم فقط، ويكون ذا صبغة آلية.

(128)

بمعنى أن بالإمكان أن تكون أدلة لوصول كل جهة إلى مآربها، سواء أكانت من الدول الرأسمالية البرجوازية أو الأنظمة السلطوية النازية. إن العلم الوضعي لا يحتوي على أي إمكانية للنقد والذهاب إلى ما هو أبعد من الوضع القائم. إن هذا النقد الذي لم يكن غير ذي صلة بما جرى في الحرب العالمية الثانية وبعدها، قد طال (كارل ماركس) أيضاً. لقد عمد كل من (أدورنو)، و(هوركهايمر) إلى اتهام (كارل ماركس) بالقول بألية العلم، والقيام بتعميم ذلك على المجتمع أيضاً[1]. ومن هذا المقطع التاريخي عمدوا بالتدريج إلى التخلي عن (كارل ماركس). وإن كتابهما المثير للجدل الذي يحمل عنوان (ديالكتيك التنوير)[2] لم تكن له غير صلة باهتة بالماركسية.

وبطبيعة الحال فإن انتقاد أعضاء مدرسة فرانكفورت للمجتمع الرأسمالي وعناصره لم يكن ناظراً إلى البحث عن سبل للخلاص، وإنما كان يطغى عليه نوع من اليأس والإحباط الزاخر. وبعد الحرب العالمية الثانية كانوا في الغالب ينظرون إلى المجتمعات الرأسمالية بوصفها أنظمة مغلقة لا يمكن العثور فيها على منفذ للهروب، وأن كل محاولة للخلاف معها تستحيل وتتحلل في داخلها، حيث أضحت جميع أشكال الارتباط المنفرد قائمة من طرف واحد فقط. وفي هذا المعترك كان (هربرت ماركوزه) هو الاستثناء الوحيد في المدرسة الفرانكفورتية. إذ أنه على الرغم من إذعانه بعدم انتقال البروليتاريا إلى المرحلة الثورية، عقد الأمل على ظهور قوى جديدة تحمل على عاتقها

(129)

أعباء الثورة الاشتراكية. وقد تمثلت هذه القوى المنشودة لـ (ماركوزة) بالأقليات العرقية والقومية، والمهمشين، والعاطلين عن العمل، ولا سيما الطلاب الجامعيين. وفي عام 1968 م كان هذا الأمل الأخير لثورة اليسار قد نال فرصته لاختبار حظه في هذا المجال أيضاً.

الانتفاضة الطلابية لعام 1968 م

لقد شهدت السنوات الأخيرة من عقد الستينات من القرن العشرين للميلاد موجة من الاعتراضات الطلابية التي تركت بظلالها وتأثيرها على المجتمعات الرأسمالية. إن هذه الاعتراضات كانت تشمل طيفاً واسعاً من المطالب والإرادات، حيث تبدأ من الاعتراض على الظروف والقواعد التعليمية والأكاديمية إلى الاعتراض على العنصرية والتمييز العرقي والطبقي والاعتراض على حرب الفيتنام، والوحشية الرأسمالية، وحتى المطالب الراديكالية والفوضوية.

وقد بلغت هذه الاعتراضات ذروتها في شهر أيار من عام 1968 م في باريس. لقد بدأت "نهضة أيار عام 68" في أول الأمر على شكل اعتراضات نقابية وتعليمية وجامعية وكليات التعليم العالي، ولكنها اتخذت لاحقاً طابع الثورة العارمة. حيث أدى عنف السلطة في قمع هذه الحركات وإلقاء القبض على عدد من الطلاب في الموجة الأولى إلى مفاقمة الأمور وتأزيمها ليزداد لهيب الثورة اشتعالاً؛ إذ بادر الطلاب اليساريين إلى احتلال الجامعات، وغلق الشوارع بالمتاريس استعداداً لمواجهة الشرطة. وقد التحقت بهم عدة نقابات عمالية وأعلنت إضرابها عن العمل. وبدا أن النظام اليميني لـ (شارل ديغول) يواجه أسوأ أزمة في تاريخه.

(130)

لقد كانت المطالب والشعارات  الطلابية في انتفاضة أيار لافتة للانتباه جداً. وفي الحقيقة فإن زوال النظام الرأسمالي كان يمثل أسّ مطالبهم، وكان يعد من أبسط شعاراتهم! فلم يقتصروا في هجومهم على النظام الاقتصادي ـ السياسي للرأسمالية، بل شمل جميع عناصر الثقافة والحياة البرجوازية أيضاً، فكانوا يرتدون ـ على سبيل المثال ـ ثياباً مهلهلة ومخرّمة الحواشي، للتعبير عن اعتراضهم على الثقافة الاستهلاكية التي اتسمت بها آداب الحياة البرجوازية[1]! كما كان الطلاب يطلقون بعض الشعارات الغريبة والراديكالية، من قبيل: "فلتسقط الثقافة"! و"أحظروا الحظر"! و"اطلبوا المستحيل"! وما إلى ذلك. في حين أن مطالب النقابات العمالية كانت تؤكد على إصلاح الأجور وبعض الامتيازات الرفاهية فقط.

وبالتالي فإن الدولة عملت في نهاية المطاف على استثمار هذا الشرخ لإنهاء ربيع هذه الانتفاضة؛ حيث دخلت من جهة في مفاوضات مع النقابات العمالية، وقطعت لهم وعداً بتحسين ظروفهم الرفاهية وزيادة أجورهم. ومن جهة أخرى عملت على إثارة المشاعر والحماسة الوطنية، وقامت بتحريك القطعات العسكرية لقمع الطلاب. وبذلك تم القضاء على انتفاضة الطلاب في أيار عام 1968 م، من خلال قمعها بواسطة الجيش.

لقد ذهب الكثير من المحللين إلى اعتبار انتقاضة أيار عام 1968م الفاشلة نموذجاً بارزاً لنهاية مرحلة من السياسة في الغرب، والانتقال

(131)

إلى مرحلة جديدة. ومن أهم خصائص هذه المرحلة الجديدة حذف اليسار (بمعناه الأصيل) من الساحة السياسية، واستبداله بنوع من التيار الهامشي المتمثل بالتنوير الفكري من جهة، وإدغام الأحزاب اليسارية في الأنشطة السياسية للأنظمة الليبرالية الرأسمالية.

(132)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثامن

نهاية الأيديولوجيا؟

(133)

الفصل الثامن

نهاية الأيديولوجيا؟

لقد أشار (ألسدير ماكنتاير)[1] ـ الماركسي الذي تخلى عن الماركسية، ليعتنق المسيحية لاحقاً ـ إلى أن الماركسيين كلما تمتعوا بالسلطة السياسية، مارسوا نموذجاً من الحكم يشبه في ذاته طريقة إدارة الحكم في دول القطب المخالف لها[2]. وقد تجلى هذا الشبه على أفضل وجه في العقود الخمسة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى انهيار الاتحاد السوفيتي. لقد انتهت الحرب العالمية الثانية دون إبرام أيّ عقد للسلام؛ إذ أن الدولة التي خسرت الحرب ـ ونعني بذلك ألمانيا ـ قد انهارت تماماً، وتم احتلالها بشكل كامل. وبذلك لم يكن هناك بعد نهاية الحرب طرفاً في قبال دول التحالف، لتكون هذه الدول مضطرة إلى إبرام عقد السلام معه. وفي الأيام الأخيرة من الحرب التقى الجيش الروسي الأحمر وجيوش التحالف الأمريكي والإنجليزي في برلين، وكان نصف المدينة تحت الاحتلال الروسي، والنصف الآخر تحت احتلال الحليف الآخر. وقد عمد الحلفاء بعد عقد عدّة جولات من التفاوض فيما بينهم إلى اتخاذ القرارات الحاسمة بشأن أوضاع

(134)

العالم، وقاموا بتقسيم أوروبا فيما بينهم. وبذلك بدأت ملامح ظهور القطبين والقوتين العظميين في العالم بشكل تدريجي بعد تبلور الماردين الروسي والأمريكي على الساحة السياسية في العالم.

ومنذ ذلك الحين شهد العالم مرحلة هادئة ولكنها في الوقت نفسه مصحوبة بنوع من التشويش والقلق. حيث امتلكت الولايات المتحدة الأمريكية القنبلة الذرية في أواخر الحرب العالمية الثانية، واستخدمتها مباشرة بإلقاء قنبلتين منها على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين. وكان حجم الكارثة قاصماً للظهر. وبعد سنوات قليلة من ذلك توصل الروس إلى امتلاك هذا السلاح الفتاك أيضاً. ومنذ عام 1953 للميلاد إلى العقود الأربعة اللاحقة كان العالم في كل لحظة يعيش على شفير اندلاع حرب ذرية، يقدّر لها ببساطة أن تكون نوعاً من "الانتحار العالمي لجميع أفراد البشر". ويطلق على هذه الفترة مصطلح الحرب الباردة؛ إذ على الرغم من عدم احتدام حرب حقيقية بين القطبين العظيمين على المستوى العملي، إلا أن سباق التسلح وانتاج أسلحة الدمار الشامل كان قائماً بين القطبين (اليسار واليمين) على قدم وساق. كما كانت الحرب المعلوماتية والاستخباراتية والتكنولوجية تسير على نفقات باهضة وجنونية. وكان المؤرخون من أمثال (هابزبام) يعتقدون بأن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي كانا على يقين من عدم اندلاع حرب شاملة، الأمر الذي كان يساعد على مواصلة النزاع الأيديولوجي والاستخباري اللامتناهي بين هذين القطبين.

ولكن من الجدير أن نسأل: كيف يمكن لنا أن نحلل وندرس مرحلة

(135)

الحرب الباردة في نقاشنا المحوري في هذا الكتاب، والمتمثل في الجدل القائم بين اليسار واليمين؟

كما سبق أن ذكرنا فإن المظاهر العالمية لليسار واليمين في هذه المرحلة كانت شديدة الشبه ببعضها في كل من (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي)، ولم يخف ذلك عن أنظار المستنيرين والمفكرين في تلك المرحلة. وقد أوصلت الحرب العالمية الثانية ـ بكل أبعادها الكارثية ـ الكثير من المفكرين إلى نتيجة مفادها أن الحضارة الغربية قد بلغت نهايتها. وكان هناك العديد من المدارس والمذاهب الفكرية التي أخذت بالظهور التدريجي تبحث عن سبيل جديد بعيداً عن الاستقطاب الرسمي لليمين واليسار. وبدأت الشكوك الجادة والكثيرة بشأن أهداف التنوير التي كانت على رأس الحضارة الغربية على مدى أربعة عقود من الزمن تبدأ بالظهور إلى السطح، وأخذت الانتقادات تستهدف جوهر الحداثة أكثر من ذي قبل. وعلى الرغم من ذلك كانت السياسات الرسمية للمجتمعات الرأسمالية في الساحة السياسة، وظهور نوع من التناغم والوفاق العام حول تركيبة اقتصاد السوق، والتدخلات الحكومية المحددة، والديمقراطية  الليبرالية الحزبية ملحوظة ومشهودة على نحو واضح.

الجذب والاندماج، نهاية اليسار بعد عام 1968 م

تقدم أن أشرنا بشكل عابر إلى نهاية حركة أيار عام 1968 م بوصفها آخر ظهور جاد لتيار اليسار الراديكالي على الساحة السياسية. إن من

(136)

بين الأمور الملفتة في مرحلة اشتعال فتيل الحركة الاعتراضية، نجدها في مواقف الأحزاب اليسارية الاشتراكية والشيوعية. فإن هذه الأحزاب بدلاً من الدخول عملياً في الحركة الثورية الطلابية ورفع شعارتها، اكتفت بتحيّن الفرص واستثمار هذه الحركة كورقة لها في التنافس الانتخابي. ولذلك بعد أن أخفقت هذه الحركة الطلابية، ظهرت موجة من الاعتراضات التي تحمّل قادة الأحزاب اليسارية نتيجة الفشل، متهمة إياها بالتخاذل والمهادنة وسلوك منهج التحفظ، حيث أصبح قادة الأحزاب اليسارية جزءاً من المنظومة الحاكمة!

لقد كان هذا المورد صورة للشرائط العامة التي سادت النصف الثاني من القرن العشرين لتيار اليسار السياسي. في هذه الحقبة من الزمن أمكن لليسار أن يسجل حضوره الرسمي في الساحة السياسية للمجتمعات الرأسمالية من خلال الأحزاب الاشتراكية والشيوعية. إلا أن هذا الحضور كان باهظ الثمن؛ إذ لا سبيل إلى الدخول في المنظومة الحاكمة سوى أن تكون جزءاً منها.

إن تاريخ ما يقرب من قرن من الجهود الفاشلة لإسقاط الرأسمالية، مضافاً إلى الإبهامات والاختلافات النظرية والاستراتيجية، وكذلك المجتمع البرجوازي ـ الرأسمالي، قد قضى على كل بارقة أمل في إحداث الثورة والتغيير الجذري. ومن هنا أدرك اليساريون أن عليهم القبول بالنظام الرأسمالي بوصفه أمراً واقعاً لا يقبل الزوال ـ بحسب الظاهر ـ وأن عليهم التأقلم في إطاره. ومعنى هذا التأقلم تقريباً هو أن اليساريين لم يعد بإمكانهم سوى الاضطرار إلى التخلي عن اليسار!

(137)

ومنذ ذلك الحين انتقل اليسار عملاً من المعنى المعهود له في صلب الأحداث السياسية، ليقيم في هامش دائرة التنوير الفكري. وأما الأحزاب السياسية التي كانت تعد ضمن قائمة اليسار، لم تكن من الناحية العملية لتختلف كثيراً عن اليمين المعتدل. وقد بلغ الأمر حداً تداول فيه الحديث في بداية عقد السبعينات من القرن العشرين عن انتهاء الأيديولوجيا اليسارية[1]. وإن سلسلة الأبحاث الأيديولوجية التي كانت قد بدأت منذ القرن التاسع عشر للميلاد في العالم الحديث، قد انتهت بتوافق عام حول مطلوبية الرأسمالية ودولة الرفاه والديمقراطية الحزبية.

تجديد قوى اليمين: الليبرالية الحديثة

على الرغم مما تقدم، فقد أظهرت الموجة الجدية على الساحة السياسة الأوروبية في بداية عقد الثمانينات من القرن العشرين للميلاد أن الأحداث لم تبلغ مرحلتها الأخيرة بعد، وأن الحصيلة المذكورة كانت متسرّعة. إلا أن هذه الموجة الجديدة ـ بطبيعة الحال ـ لم تنبثق من ناحية اليسار، وإنما انطلقت من أقصى اليمين.  وكانت بداية هذا التحول قد برزت من خلال انتصار حزب المحافظين الإنجليز بقيادة (مارغريت تاتشر). وقد أكدت السيدة (تاتشر) كما أكد (رونالد ريغن) في الولايات المتحدة الأمريكية على ضرورة خفض النفقات الحكومية بغية تحسين وتطوير الوضع الاقتصادي. ومن الواضح أن هذا الأمر كان يعني تقليص الضرائب على الصناعات والشركات الكبرى وكذلك تحديد المشاريع والامتيازات الرفاهية. لقد تلقى تراث دولة الرفاه بعد

(138)

الحرب العالمية ضربات ماحقة. وكان يبدو أن الروح قد عادت إلى الرأسمالية والليبرالية الأولى. ويمكن اعتبار التيار المذكور ـ الذي يعبّر عنه بالليبرالية الحديثة ـ هو التيار الحاكم على سياسة المجتمعات الرأسمالية حتى الآن (ولا سيما ما قبل أزمة 2008 م).

ومن بين المفكرين هناك شخصيتان يمكن عدّهما من الممهدين الرئيسين لتيار الليبرالية الحديثة، وفيما يلي نشير إليهما باختصار.

1 ـ هايك: لقد كان فريدريش أوغوست فون هايك (1899 ـ 1992 م) عالم اقتصاد وفيلسوف سياسي نمساوي، وكان يعد من كبار المفكرين الليبراليين في القرن العشرين. وهو من الاقتصاديين القلائل الذين لم يرحبوا أو يتفاعلوا مع دول الرفاه حتى في ذروة شعبيتها وإقبال الناس عليها، وظل وفياً لفكرة السوق الحر. لقد كان (فريدريش فون هايك) ـ تبعاً لـ (كانت) ـ يرى أننا لا نستطيع إدراك الظواهر والأمور كما هي. وبعبارة أخرى: كان هايك يعتقد "أن العلم الذي يمتلكه الأفراد في المجتمعات الحديثة هو علم ناقص بالضرورة، ولا يمكن أن يكون كاملاً في أيما وقت من الأوقات"[1]. ومن هذه الزاوية كان فيما يتعلق بإمكان التحول في عموم المجتمع، يذهب إلى الاعتقاد بأن النظم إذا ساد المجتمع فإنه لن يكون حصيلة التخطيط العقلاني، وإنما هو نظم تلقائي يحصل من خلال التجارب واختبار الخطأ والعمل على تصويبه، بيد أننا لن نحيط بجميع جوانبه أبداً. وهنا

(139)

يقدم لنا (جون هايك) نظرية "النظم التلقائي" في قبال نظرية "الهدفية والنظم التاريخي". يذهب (جون هايك) إلى القول بأن النظريات التي ترى أن الحضارة حصيلة التخطيط والتنظير، إنما تقوم على التصور الخاطئ القائل بأن عقل الإنسان مستقل عن المجتمع.

كما أنه يتحدّث عن النظم التلقائي في النظام الاقتصادي والسوق تحت عنوان "الاقتصاد المنظم تلقائياً" أيضاً. إن الاقتصاد المنظم تلقائياً هو نوع خاص من النظم الذي تبلور بسبب مشابهته للكثير من الأساليب الفردية في النشاط الاقتصادي القائم على السوق والملكية والمكافآت والعقوبات والعقود والمواثيق. في الاقتصاد المنظم تلقائياً "يؤدي تتبع المصالح والمنافع إلى ضمان الخير العام، ولا يمكن لأي منظمة أو مؤسسة مصطنعة أن تحل محل هذا الأسلوب الاقتصادي من حيث الكفاءة والحياد"[1]. وعلى هذا الأساس فإنه يخالف تدخل الدولة في مصير أفراد المجتمع بشدة. ومن وجهة نظره لا يمكن التنظير مسبقاً بشأن مسار السوق، واعتباره عادلاً أو غير عادل؛ إذ لا يستطيع أحد أن يتكهن بما سيحدث في هذا السوق. إنه ـ بطبيعة الحال ـ يؤمن بأن الآلية الراهنة للسوق آلية ظالمة، ولكنه لا يرى سبب ذلك عائداً إلى السوق نفسه، وإنما يعود من وجهة نظره إلى الدعم أو الحرمان الذي يفرض على الأفراد. لا يمكن لأي برنامج منظم أن يحل محل النظم التلقائي والذاتي للسوق. ويرى (جون هايك) أن استحالة الاشتراكية لا تعود إلى أسباب اجتماعية أو سياسية، وإنما إلى أسباب معرفية.

(140)

"بمعنى أنه لا يمكن لأي نظام اجتماعي ـ قد آل نظام السوق فيه إلى الانهيار ـ أن ينتفع بشكل مؤثر بالمعرفة العملية والمشتتة لمواطنيه"[1].

كما يذهب (هايك) إلى الاعتقاد بأن الحياة الأخلاقية تابعة للنظم والتكامل التلقائي أيضاً. ومن وجهة نظره فإن الأصل الأخلاقي الوحيد الذي يجعل من ازدهار الحضارة أمراً ممكناً هو أصل الحرية الفردية. وفي الحقيقة فإن الناس قد سلكوا بحريتهم الذاتية طرقاً، واكتسبوا تجارب، وأقاموا نظاماً أخلاقياً على أساسها. ومن هنا فإنه لم يكن شديد التعاطف مع الديمقراطية، ويرى أن الديمقراطيات الراهنة والقائمة على الأغلبية تعتبر رأي الأكثيرية قانوناً، في حين يتعين على الدولة ذاتها أن تتبع قانوناً أصيلاً يحقق العدالة ويضمن حدود الحرية للفرد، والقدرة للدولة[2]. وكان (جون هايك) يرى الخطر الأهم يأتي من قبل مفهوم العدالة الاجتماعية. يجب على دولة القانون في تعاملها المتكافئ مع الأفراد، أن تنظر إليهم بوصفهم كائنات ومصاديق مجهولة وغير معينة، وأن تتجاهل عدم تكافئهم في امتلاك الإمكانات والقابليات. إن السعي إلى إقامة المساواة وإلغاء هذا النوع من الفروق وانعدام التكافؤ الأولي، يؤدي في حدّ ذاته إلى سلوك مختلف تجاه الأفراد[3].

2 ـ كارل بوبر: يعتبر كارل ريموند بوبر من أشهر الفلاسفة السياسيين الليبراليين في القرن العشرين للميلاد. وعلى الرغم من اشتهار بوبر ـ بشكل رئيس ـ في فلسفة العلم، إلا أنه أحدث تحوّلاً

(141)

جذرياً وأساسياً من خلال طرحه المجدد للسؤال الرئيس في الفلسفة السياسية. لقد كان سؤال الفلسفة الرئيس حتى ما قبل (بوبر) يقول: "من هو الأنسب للحكم؟". يرى بوبر أن كل جواب عن هذا السؤال هو في الأساس  جواب سلطوي. فإن المسألة الرئيسة ـ من وجهة نظره ـ تقول: "كيف يمكن بناء المؤسسات السياسية بحيث لا يتمكن حتى الحكام الفاسدون من إلحاق الضرر بالمجتمع؟"[1].

إن إجابة (بوبر) عن هذا السؤال، تمثل الجانب الأهم من نظريته السياسية. يمكن القول بعبارة مبسطة تنطوي على شيء من التسامح: إن نظرية بوبر تقول بأن ضمان الحرية في المجتمع، والحفاظ على هذه الحرية في مواجهة الاستبداد والعنف، يتوقف على التخلي عن الأيديولوجية الثورية.

إن الأيديولوجية الثورية تشتمل من وجهة نظر (بوبر) على خصوصيتين رئيستين، وهما:

1 ـ تأصيل التاريخ، فهو يعرّف أصالة التاريخ على النحو الآتي: "رؤية إلى العلوم الاجتماعية تسلّم بأن النبوءة التاريخية هي الهدف الرئيس من تلك العلوم، وتفترض بأن الهدف المذكور إنما يحصل من خلال اكتشاف التناغمات أو النماذج والقوانين أو المسارات التي تمثل ركائز المسار التكاملي للتاريخ"[2].

2 ـ الخصوصية الأخرى تأصيل الكل. تذهب أصالة الكل إلى

(142)

الاعتقاد بأن الأحداث البشرية جزء من كل اجتماعي، ويجب إدراكها وفهمها من خلال النسبة والتناسب القائم بينها. وقد ذهب (بوبر) إلى القول بأن النزعة الكلية هي نزعة يوطوبية أو من قبيل المدينة الفاضلة.

كان (كارل بوبر) يرى "أن أهم الأسباب النفسية والاجتماعية للدكتاتورية، تكمن في هروب الجماهير من رهاب الحرية، والمسؤولية غير المطلوبة، ورغبتهم في الحصول على الأمن"[1]. لقد زالت (الأصالة) بوصفها عامل اطمئنان في المجتمع الحديث، وإن الأساليب المختلفة القائمة لنقد وتقييم المسائل كانت تؤدي إلى المزيد من التشويش والمخاوف والقلق. ومنذ القدم كانت جذور الانحياز إلى المجتمع المغلق ـ الذي ظهر في قبال الميل إلى الحرية والانتقاد ـ يمثل ذات هذا النوع من الشعور بالخطر في مواجهة المسائل المستجدة. يرى (بوبر) أن كل نوع من أنواع الانقطاع عن الزمن الراهن ـ سواء على شكل تمني العودة إلى الماضي، أو على شكل تحقيق المدينة الفاضلة والتي تعني تعلق الأنظار إلى مستقبل غير معلوم ـ بحثاً عن الأمن، يقضي على التفكير الحر، ويميل إلى العنف. يشن (بوبر) هجوماً عنيفاً على (هيجل) بوصفه أبو الدكتاتورية، ويرى أن جميع المفاهيم الرئيسة للدكتاتورية قد تسللت من (هيجل) إلى سائر المفكرين المناهضين للديمقراطية، من دعاة: القومية بمعناها العنصري، وتقديس الدولة والحرب، وتبرئة الدولة من المسؤولية الأخلاقية، واتحاد القمع والحق،

(143)

وامتداح الزعماء وشخصيات العالم ـ التاريخي[1].

كما كانت الماركسية من وجهة نظره "تمثل الشكل الأكثر خلوصاً والأكمل والأشد خطراً من أشكال أصالة التاريخ". وعلى هذا الأساس يعتبر (كارل ماركس) من وجهة نظر (بوبر) ـ لهذا الدليل الواضح ـ قد فشل في أطروحته، حيث يتصور أن كل ما يحدث في التاريخ مرة واحدة، سوف يتكرر بشكل متواصل. وبطبيعة الحال فإنه يذهب في نقده إلى أبعد من ذلك، حتى يصل إلى نتيجة مفادها أن الأيديولوجيات الثورية ـ بشكل عام ـ تؤمن بأصالة التاريخ، كما أنها تنتهج الدكتاتورية في الوقت نفسه، وحيث أنها ترى أن التاريخ يسير على طبق خطة مرسومة، فإنها تصور لذلك غاية أو يوطوبيا أيضاً. من هنا فإن "أعمال الإنسان بشكل عام، والأعمال السياسية بشكل خاص، تترتب عليها آثار خارجة عن نوايا فاعلها"[2]. بيد أنه في الوقت نفسه يبدي مرونة تجاه بعض النواحي الخاصة من الماركسية أيضاً، حيث يقول: "إن هذه الراديكالية لماركس هي التي تبرّر نفوذه وتأثيره، وهذه المسألة بدورها تدعو إلى التفاؤل. إن هذه الراديكالية الأخلاقية لا تزال حية، وإن من الواجب علينا أن نحافظ على بقائها حية، وأن نحول دون سلوك طريق يطيح براديكاليتها السياسية. إن الماركسية العلمية قد ماتت، بيد أن الشعور بالمسؤولية الاجتماعية والتعلق بالحرية يجب أن يبقى حياً"[3].

(144)

وفي قبال التغيير الثوري كان (بوبر) يعتقد بالتغيير الإصلاحي أو الهندسة الاجتماعية التدريجية. حيث يرى (بوبر) أن الأسلوب الأمثل لبناء المجتمع الأفضل هو الحل التدريجي للمشاكل التي يعاني منها ذلك المجتمع. وفي هذا الشأن يذهب (بوبر) إلى الاعتقاد بأن النظم الاجتماعي لم يتمكن في أي حقبة تاريخية من توفير السعادة بشكل كامل. فقد شهدت جميع المجتمعات مظاهر من انعدام العدل والقمع والفقر والضياع. ولم تشذ عن ذلك حتى الديمقراطيات الغربية، وإن كانت هذه الأمور تحدث فيها على نحو أقل بالمقارنة إلى غيرها من المجتمعات. وعلى كل حال يجب حتى على الحكومات في هذه المجتمعات أن تسعى إلى تحسين واقعها أكثر فأكثر، إلا أن هذه المسألة تختلف تماماً عن الأمل بإقامة مجتمع كامل على وجه الأرض؛ إذ أن "جميع الجهود المبذولة في إطار إقامة جنة الله على الأرض، قد انتهت على الدوام بتحويل هذه الأرض إلى جحيم"[1].

انهيار الشيوعية

لقد خرج الروس من الحرب العالمية الثانية مرفوعي الرأس. فقد كانوا أسرع وأكثر صراحة في اتخاذ المواقف المناهضة للفاشية بالقياس إلى الدول الليبرالية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من التضحيات الجسام والخسائر التي تكبدوها في الحرب، كان هذا الجيش الأحمر في نهاية المطاف هو الذي دحر

(145)

الجيش الألماني[1].

وإذا تجاوزنا هذا الأمر، فقد شهدت السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية ـ كما سبق أن ذكرنا ـ انعدام الثقة من قبل الكثير من الناس بالنموذج الليبرالي بوصفه نظاماً صالحاً للحكم. وقد عمل الركود الكبير وعدم جدوائية الدولة على تأكيد هذا التصوّر. ومن هنا كانت جميع الظروف والأجواء بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية معدّة للاتجاه نحو اليسار بشكل منطقي[2]. وهكذا كان الأمر على الصعيد العملي؛ فقد انتصر حزب العمال في إنجلترا على تشرتشل، وبشكل عام حيثما أقيمت الانتخابات في أي بلد أوروبي كانت كفة اليسار هي الراجحة على نحو ملحوظ. والمسألة الأهم هي أنه بعد اندحار الفاشية، كان المصدر الوحيد الذي أمكن على أساسه نقد الديمقراطية البرجوازية هي الشيوعية[3].

وكان الذي يضاعف من أهمية هذه الأجواء انتقادات المنظرين الناقدين ـ ولا سيما (ماركوزه) ـ الذي كان يساوي بين ظروف الولايات المتحدة الأمريكية في عقد الستينات وبين ألمانيا في عقد الثلاثينات. لقد كان (ماركوزه) يعتقد بوجود فاشية كامنة في صلب الديمقراطية الأمريكية، وأن هذه الفاشية ستؤدي إلى ظهور دولة مقتدرة من رحم

(146)

الليبرالية الموجودة في هذا البلد[1].

وعلى الرغم من ذلك كله، كان هناك نوع من اعدام الثقة بما يجري في روسيا. وبعد الفضائح التي حدثت في عهد (يوسف ستالين)[2]، ذهب عدد من المنظرين ـ ومن بين أهمهم (حنة آرنت)[3] ـ إلى القول بإمكانية العثور على الكثير من أوجه الشبه بين الفاشية والشيوعية الاستالينية. وقد كان مصطلح السلطوية هو المصطلح الذي أطلقته (حنة آرنت) على كلا الموردين.

وعلى كل حال فإن الشيوعية ـ بالنظر إلى التجربة الروسية ـ أخذت تفقد تفوّقها الأخلاقي بالتدريج. ومن ناحية أخرى فإن الإعلام الأمريكي المتواصل طوال سنوات الحرب الباردة قد صوّر المعسكر الشيوعي وكأنه عدو يمكنه في كل لحظة أن ينقضّ على العالم الحرّ بقنابله الذرّية.

وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر إنما كان يمثل مجرد جانب من القضية فقط. أما الجانب الآخر فهو يتمثل بالمشاكل الداخلية للمنظومة الحكومية للاتحاد السوفيتي. فإن اقتصاد الاتحاد السوفيتي

(147)

ـ الذي كان طوال عقد الثلاثينات  بسبب العزلة والاكتفاء الذاتي بمأمن من التأثيرات السلبية للركود الكبير ـ يعاني كل يوم من المزيد من المشاكل. فإن اقتصاد التخطيط كان قد نما تحت ضغط النظام البيروقراطي بشكل هيولي ملغز، حتى فقد تأثيره وجدوائيته. وفي نهاية المطاف أخفق البرنامج الإصلاحي لآخر سكرتير في الحزب الشيوعي الذي كان يتولى قيادة الاتحاد السوفيتي، وبالتالي فقد انهار الاتحاد الجماهيري السوفيتي في الأيام الأخيرة من عام 1991 م بعد سبعة وسبعين سنة من قيامه.

بيد أن انهيار الاتحاد السوفيتي كان مظهراً عينياً لتيار قوي قد بدأ بالتبلور منذ أمد بعيد، وهو ما يمكن لنا تسميته انحلال اليسار في اليمين.

(148)

الملحقات

الملحق رقم (1)

الديمقراطية ومناقشة اليسار واليمين

إن من بين المسائل الرئيسة في الفلسفة السياسية للغرب، والتي نتعاطى معها في الجدل القائم بين معسكر اليسار ومعسكر اليمين باستمرار، هو مفهوم الديمقراطية. وكما سبق أن ذكرنا في القسم الخاص بالثورة الفرنسية بالتفصيل، فإن الديمقراطية التي تعني الحكومة التي تكتسب شرعيتها من الشعب والتي يكون الشعب هو المالك الشرعي لها، قد كانت في مرحلة الثورة الفرنسية فكرة يسارية خالصة. وفي قبال الديمقراطيين كان هناك المطالبون بالملكية الدستورية الذين يرومون تقنين حدود صلاحيات الملك، كما كان هناك الملكيون الذين يعتبرون من الموالين للنظام الملكي القديم.

وفي تلك المرحلة كان هناك تقارب بين الديمقراطية والليبرالية، بيد أن هذا التقارب والامتزاج كان يشتد مع تقدم الزمن. ففي المراحل

(149)

الليبرالية كان أحد أهم الأسباب في إضفاء المشروعية عليها يكمن في قدرتها على تحقيق الديمقراطية في المجتمع. بحيث يقول الأستاذ بشيريه: "إن الرؤية الليبرالية تمثل الأساس الفلسفي والتنظيري للأنظمة الديمقراطية في الغرب. وعلى هذا المفهوم تكون الديمقراطية هي التحقق العيني والمعدّل للنظرية الليبرالية"[1].

ومن ناحية أخرى فقد كان اليساريون يرون أنفسهم عهم الديمقراطيون الحقيقيون على الدوام، وكانوا يتجهون في سعيهم إلى تحقيق الديمقراطية. وفي خضم ذلك كان النقاش قائماً حول فهم وتفسير الأسس والقواعد الديمقراطية والوزن النسبي لكل واحد منها. فبينما كانت الديمقراطيات الليبرالية تؤكد على حفظ الحقوق الفردية ونظرية حكم القانون، كانت الأنظمة الشيوعية تؤكد على المشاركة الجماهيرية وضمان مصالح الجماهير الشعبية[2].

وعلى هذا الأساس يبدو أن الديمقراطية طوال القرن العشرين للميلاد قد حققت انتصارا تاريخياً على سائر النظُم الأخرى، وكان الجميع تقريباً من اليسار واليمين وتيار الاعتدال يدعي وصلاً بالأصول الديمقراطية[3]. وعلى حد تعبير ديفد هيل: "يبدو أن الديمقراطية تضفي هالة من الشرعية على الحياة السياسية الراهنة. إن القواعد والقوانين

(150)

والسياسات واتخاذ القرارات عندما تكون ديمقراطية، تصبح مبرّرة"[1].

إن الديمقراطية بمفهومها الأعم، تدلّ على شكل من الحكم يختلف عن الحكومات التي يقودها شخص واحد أو مجموعة محددة، فالحكومة الديمقراطية هي التي يحكمها الناس من خلال مشاركتهم العامة. إلا أن من بين الأسئلة المطروحة على الدوام، هو السؤال القائل: من هم هؤلاء الناس؟ وكيف يجب أن يكون حكمهم؟ إن الإجابات المختلفة عن هذه الأسئلة قد أفرزت أشكالاً متنوّعة من الديمقراطيات.

وعلى طول التاريخ، يمكن لنا أن نرصد ثلاثة أنواع من الديمقراطيات، على النحو الآتي:

1 ـ الديمقراطية الأثينية التي كانت ملهمة للكثير من المفكرين في العصر التنويري وما بعده. إن هذا النوع من الديمقراطية ـ التي يطلق عليها مصطلح "الديمقراطية المباشرة" أيضاً ـ تقوم على المشاركة المباشرة للمواطنين في جميع القرارات، وهي وإن كانت عند الكثير من المفكرين تمثل نوعاً مثالياً من الديمقراطية، إلا أنها تبدو ـ بالالتفات إلى شرائط المجتمعات السياسية الحديثة، ومن بينها زيادة أعداد السكان، والمشاكل المتزايدة، وظهور التطلعات السياسية المتنوّعة ـ مستحيلة التحقق على أرض الواقع.

2 ـ الديمقراطية الانتخابية من الأنواع الهامة للديمقراطية في العالم الغربي، حيث يبدي التيار اليميني انحيازاً وميلاً إلى هذا النوع من

(151)

الديمقراطية. في الديمقراطية الانتخابية تتم مشاركة الناس في الحكم من خلال الممثلين عنهم من النواب الذين يختارونهم. إن هؤلاء الممثلين يحظون بفترة حكم محددة، وبانتهاء هذه الفترة تستعاد منهم جميع الصلاحيات والمزايا الممنوحة لهم في فترة الحكم. كما يمتلك الناس حق عزل ممثلهم الذي انتخبوه أيضاً، وهذا يدل على أنهم وإن خولوا هؤلاء الممثلين اختياراتهم في الحكم، إلا أنهم لا يزالون هم المالكون الحقيقيون للسلطة. وكان الليبراليون يرون أن هذه الآلية الديمقراطية تجلب السعادة الأكبر للعدد الأكثر من أفراد المجتمع، ولو قدّر لعناصر الحكومة هذه أن ترتبط بشكل وثيق مع مؤسسات السوق الحر، فسوف يمكن القضاء على الاستبداد وفي الوقت نفسه يتم حلّ مشكلة الحرية أيضاً. وكان كل من (جيرمي بنتام) و(جون ستيورات ميل) من أهم الفلاسفة الليبراليين الداعمين لهذا النوع من الديمقراطية[1].

إن من بين المسائل الرئيسة لهذا النوع من الديمقراطية الشائعة في القرن العشرين للميلاد، هو السؤال القائل: من هي الجماعات التي تمتلك حق التصويت والانتخاب من بين المواطنين؟ وقد احتدم جدل واسع حول هذه المسألة. فحتى فترة طويلة لم يكن يحق الانتخاب إلا للذين يمتلكون سقفاً معيناً من الأموال والممتلكات أو الذين يتمتعون بالمكانة الاجتماعية. والكثير من الحكومات لم تمنح المرأة حق الانتخاب والتصويت إلا بعد منتصف القرن العشرين. ولم تتمكن

(152)

الأقليات العرقية ـ من أمثال: حمر الجلود والزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية ـ من التمتع بحق التصويت إلا بعد فترات طويلة من الكفاح.

لقد كان اليساريون ـ والأهم من الجميع (كارل ماركس) ـ يذهبون إلى الاعتقاد بأن الكفاح والنضال الليبرالي ضد الاستبداد، واستماتة الديمقراطيين الليبراليين من أجل تحقيق المساواة السياسية، يمثل خطوة من الخطوات الهامة والمتقدمة في الحضارة الحديثة، ولكنها لم تكن تمثل نهاية الطريق أيضاً. كان الماركسيون يسعون إلى إثبات أن الحصول على الحريات السياسية في إطار الديمقراطية ـ ما دام النظام الاقتصادي الرأسمالي قائماً ـ لا يعدو أن يكون مجرّد شيء ظاهري ومؤقت. وفي الحقيقة فإن عناصر الاستبداد والاستثمار والسلطة لا تزال قائمة في نسيج النظام الرأسمالي، وإن الكفاح الحقيقي من أجل تحقيق المساواة يجب أن يستهدف بالنقد العلاقات الاقتصادية التي تحكم السوق الحر ـ كما يستهدف مؤسسات من قبيل السلطة ـ أيضاً.

3 ـ النوع الثالث من أنواع الديمقراطية، هي الديمقراطية الحزبية، وهي الديمقراطية التي دعا إليها التيار اليساري. لقد كان الماركسيون يخالفون الديمقراطية الليبرالية؛ إذ يرونها محدودة للغاية، ويعتقدون بأن المؤسسات الديمقراطية اليبرالية ليست سوى أداة بيد المصالح الاقتصادية للبرجوازيين[1]. وقد كان هؤلاء يذهبون إلى الاعتقاد بوجوب استبدال التركيبة الجمعية ـ الاشتراكية بنظام الدولة الليبرالية

(153)

الديمقراطية[1]. وذلك بأن تعمد أصغر الجماعات الاشتراكية إلى انتخاب ممثليها، على أن يتم إرسال هؤلاء الممثلين إلى وحدات انتخابية أكبر، ليعملوا بدورهم على انتخاب ممثلين يرسلونهم إلى نواحي أكبر، وهكذا دواليك حتى يتم في نهاية المطاف اختيار ممثلين يتولون مسؤولية إدارة الدولة، بيد أن بالإمكان عزل جميع هؤلاء الممثلين؛ إذ يجب أن يكونوا تابعين لإرادة الناس الذين انتخبوهم. وقد تم العمل بهذا النموذج الهرمي في الاتحاد السوفيتي، إلا أن نتيجته في الغالب كانت تصبّ لصالح الحفاظ على سلطة الحزب الواحد بشكل كامل، ولا تصبّ في مصلحة حرية الانتخاب. ومن هنا لم يكن اليمين ليعتبر هذا النموذج بوصفه ديمقراطية حقيقية أبداً.

والأمر الآخر الجدير بالاهتمام فيما يتعلق بموضوع الديمقراطية، فهو أن الاتجاهات اليمينية المتطرفة طوال هذه السنوات ـ كما هو شأن الملكيين السابقين ـ كانت ترفض الديمقراطية من الأساس.  فقد كانت الفاشية والنازية تنكر مشروعية الديمقراطية من جذورها. كما لم يكن المحافظون يتعاطون معها بإيجابية. في حين أن أكثر الجماعات اليسارية تطرّفاً ـ وهم الشيوعيون ـ كانوا يدّعون بأنهم أكثر ديمقراطية من الديمقراطيين أنفسهم[2].

(154)

الملحق رقم (2)

ليس صدفة أن لا نعثر على مفردة الليبرالية في الآثار المكتوبة للكثير من المفكرين الليبراليين إلا نادراً. وأحياناً يحجمون عن استعمال مفردة الليبرالي ومشتقاتها المتنوّعة. إلا أن هذا الإحجام يتأكد بشأن الليبرالية بشكل أكبر. يصرّ الليبراليون على عدم تحويل الليبرالية إلى مذهب. وليس من الصعب تفهّم ذلك. فقد أنفق الشطر الأعظم من مناقشات الليبراليين في النصف الأخير من القرن بالطعن واللعن على المذاهب والأيديولوجيات التي سادت القرن التاسع عشر، لتلاقي مصيرها الكارثي في القرن العشرين، وينتهي أمرها بطرح أفكار من قبيل "نهاية الأيديولوجيات". إن إيضاح أن هذه الأبحاث هي في حد ذاتها جزء من النزاع الأيديولوجي، وهجوم أحد التيارات المتنازعة على المعسكر المنافس، يعني في الحقيقة قيام أساسه على جرف هار. وهذا هو الذي يأباه الليبراليون ويخشونه تماماً.

والعجيب أن الأيديلوجيا ـ والفهم الأيديولوجي ـ كانت حتى الأمس القريب أداة يعمل التيار اليساري على توظيفها للهجوم على التيار اليميني (المتمثل بشكل رئيس بهؤلاء الليبراليين). وقد عزف أمثال (كارل ماركس) و(لوكاتش) على معزوفة جميع الأفكار البرجوازية (ومن بينها الاقتصاد التقليدي الذي يمثل حجر الأساس للفكر الليبرالي) تحت ذريعة كونها مؤدلجة، بوصفها صوراً ناقصة ومحرّفة عن الوعي والإدراك. بيد أنه من الواضح أن الذي يسل سيف

(155)

المواجهة بوجه الأيديولوجيا، سوف يرتدّ عليه ولن يكون في مأمن من سيفه. فإن مثل هذه المدية يمكنها أن تقطع اليد القابضة عليها أيضاً! وقد كان (كارل ماركس) و(لوكاتش) أكثر نباهة من أن لا يلتفتا إلى هذه الحقيقة. ومن هنا فقد كان الشطر الأعظم من المسائل التي يطرحانها ـ ولا سيما (لوكاتش) ـ تختص بتبيين هذا الأمر، وهو: لماذا لا يمكن اعتبار الموضع الذي ينطلقان منه للافتاء بأدلجة الأفكار الأخرى، بوصفه موضعاً أيديولوجياً أيضاً؟! إن تفصيل هذه الأدلة لا ربط له بموضوع بحثنا، ولكن يمكن القول على نحو الإجمال: يمكن حل هذه المشكلة بالنسبة إلى (كارل ماركس) والسائرين على نهجه، من طريق وضع البروليتاريا (الطبقة العمالية الصناعية) على قمة التاريخ، وفهمها ـ من خلال عبارات هيجل ـ بوصفها الكينونة الوحيدة لفهم النقيضة والطريحة على السواء. وبذلك لا يكون فهم ومعرفة طبقة العمال (الممثلة بالطبقة المستنيرة بطبيعة الحال!) أيديولوجية مثل سائر الأيديولوجيات، بل هي معرفة أصيلة وحقيقية.

في النصف الثاني من القرن العشرين كان الليبراليون هم الذين يهاجمون خصومهم تحت ذريعة وصفهم بالتأدلج. وبطبيعة الحال كان هذه المرّة يتم التأكيد بشكل رئيس ـ لبعض المآرب والغايات ـ على القوة والصلابة التي تتمتع بها الأيديولوجيا. ولكن يبقى السؤال الجوهري على ما هو عليه يفرض نفسه: أين يقف المعارضون الجدد للأيديولوجيا، وكيف يبرئون ساحتهم من صبغة وعار التفكير الأيديولوجي؟ فإذا كان (لوكاتش) قد نوى حل هذه المسألة من خلال

(156)

التركيز عليها، فقد عمد الليبراليون في النصف الثاني من القرن العشرين إلى إضمار حلها من طريق السكوت والتمويه وإنكار هذه المسألة من أساسها. كان على الليبراليين إخفاء وإنكار تمذهبهم، كي يتسنى لهم إقصاء خصومهم ـ أو إيقافهم عند حدّهم في الحد الأدنى ـ تحت ذريعة اتهامهم بالتمذهب. كان الليبراليون يصورون الليبرالية ـ بذكاء ـ لا بوصفها إمكاناً وخياراً مثل سائر الإمكانات والخيارت الأخرى، بل بوصفها إطاراً للتنافس والتعاطي مع سائر الإمكانات والخيارات. وكأن الليبرالية في حد ذاتها عبارة عن مساحة خالية يمكنها أن تستوعب كل شيء مع اشتراط رعاية قواعد اللعبة بطبيعة الحال! وهذه القواعد هي التي تمثل بيت القصيد الذي تضطر الليبرالية من خلاله إلى الكشف عن أيديولوجيتها.

ومن هذه الناحية تعيش الليبرالية وضعاً مشابهاً لصنوها التاريخي المتمثل بالعلمانية. فالعلمانية تدّعي أنها تشتمل على منهج سلمي يضع حداً للنزاع المستمر بين المذاهب والشرائع؛ وذلك من خلال حصر الطقوس المذهبية على المساحات الشخصية والخاصة من مرافق الحياة، وهكذا يتم التعايش بين أفراد مختلف المذاهب والأديان. ولكننا بعد قليل من التدقيق والتأمل في ماهية هذا المنهج والحل، ندرك أنه ـ خلافاً للتصور البدوي ـ لا ينطوي على حل إبداعي مبتكر. فإن العلمانية من خلال إقصاء الدين من دائرة الحياة الاجتماعية، تطلب ـ في الحقيقة ـ من أتباع جميع الأديان التنازل عن شطر كبير من معتقداتهم وأحكامهم الدينية، واستبداله بالصور والأشكال العرفية للتفكير (العلماني). وهذا يعني أن الأمور المرتبطة

(157)

بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لا تقوم على أساس الأديان والمذاهب المتخاصمة، وإنما على أساس الشريعة العلمانية. قد يمكن للمسلم والمسيحي واليهودي الوصول إلى نوع من التعايش السلمي في ظل تحقق النظام العلماني، إلا أن هذا لن يحصل إلا إذا تخلى المسلم عن إسلامه، والمسيحي عن مسيحيته، واليهودي عن يهوديته في حياتهم الاجتماعية. وباختصار: إن العلمانية بدورها دين مثل سائر الأديان، وشريعة مثل سائر الشرائع، وعليه يمكن القول: لماذا لا يمكن حل النزاع المحتدم بين أتباع مختلف المذاهب والأديان، من خلال اعتناقهم للإسلام مثلاً، بدلاً من اعتناقهم للعلمانية؟! وبعبارة أدق: إن الإسلام يمنح الحرية لأتباع سائر الديانات والمذاهب الأخرى بممارسة شعائرهم الدينية في حدود دوائرهم الخاصة والشخصية أيضاً؛ وعليه فإن النزاع إنما يدور حول المذهب والدين الذي يجب أن يتم فيه تنظيم القواعد والخلافات العقائدية، وهذا ما تسعى العلمانية إلى إخفائه. إن القول بحل النزاع القائم بين الأديان من خلال انخراط جميع الأديان في العلمانية، لا يختلف كثيراً عن القول بحل النزاع القائم بين المذاهب الفقهية الأربعة لدى أهل السنة، من خلال انخراط جميع الأحناف والحنابلة والشافعية والملكية في المذهب الفقهي الشيعي الجعفري!

كما تدعي الليبرالية بدورها أنها تمثل إطاراً صالحاً لاحتواء التنافس السلمي بين مختلف وجهات النظر ضمن منظومتها السياسية. وذلك بطبيعة الحال يتوقف على شرط مراعاة جميع هذه الآراء والأيديولوجيات المتناحرة لقواعد اللعبة، وتتمثل قواعد اللعبة بمجملها في أن تغدو جميع الطاقات المشاركة في المنظومة (على

(158)

اختلاف مراتبها)، ليبرالية! ومن هذه الناحية لا تختلف الليبرالية كثيراً عن سائر المنظومات السياسية الأخرى. إذ يمكن لمن يؤمن بقواعد لعبة الأنظمة الأخرى أن ينخرط فيها بحسب القاعدة أيضاً. وربما تميّز النظام الليبرالي بقدرته الكبيرة والمدهشة على اجتذاب ألد خصومها وأعدئها وإدخاله ضمن إطارها. وهذا ما يؤكد عليه المغرمون بالليبرالية على الدوام، إلا أنهم لا يشيرون إلى حقيقة هامة في مسار هذا الاجتذاب، وهي أن هذا الاجتذاب والادغام مسبوق بمسار آخر، يعبر عنه بعض المنتقدين بتعبير لاذع؛ إذ يطلقون عليه مصطلح "الإخصاء"! وهذا يعني أن النظام الليبرالي من خلال تجريد القوى المعارضة له من مقوماتها، يعمل من خلال مسار غاية في التعقيد على تحويلها إلى عناصر للديكور والزينة. ومن هنا لا عجب من أن يتمخض النظام الليبرالي الرأسمالي ـ من قبيل: الجمهورية الفرنسية الخامسة ـ عن الحزب الشيوعي الذي يحصل في جميع الانتخابات على معدل يتراوح ما بين أربعة إلى ستة بالمئة من مجموع الأصوات والآراء. والملفت أن طلاب الجامعات من الراديكاليين الفرنسيين عندما خرجوا إلى شوارع في تظاهرات شهر أيار من عام 1968 م، رافعين تلك الشعارات المتطرفة التي حولت الشوارع الباريسية إلى ساحة مواجهة مع النظام السياسي الليبرالي الرأسمالي، لم يحصلوا على دعم من حزبهم، بل تحول الحزب إلى صفوف المحافظين على الواقع القائم. وبذلك نجح النظام الليبرالي في إخصاء الحزب الشيوعي وتدجينه.

(159)
المؤلف في سطور د.محمد سجاد صفار هرندي د.محمد ملا عباسي د.محمد سجاد صفار هرندي: باحث في العلوم الاجتماعية في جامعة طهران،وعضو في هيئة إدارة مؤسسة كوثر الثقافية ومدير قسم الدراسات الثقافية فيها،مدير تحرير مجلة: (كتاب ماه علوم اجتماعي) ومدير تحرير سلسلة كتب (انديشة اجتماعي غرب جديد). من مؤلفاته: 1. مدرنيته. 2. وهذا الكتاب. 3. وله مشاركات في مجلات مختلفة د.محمد ملا عباسي: مؤلف ومترجم وباحث في العلوم الاجتماعية ومدير تحرير مجلة (ترجمان) التي تصدر في العاصمة الايرانية طهران. من مؤلفاته 1. تصور عصر بسا توسعه. 2. ليبراليسم ومسألة عدالت. 3. وله مشاركات في مجلات مختلفة.
هذا الكتاب اليمين واليسار رؤية أبستمولوجية نقدية للمفهوم في هذه الحلقة من سلسلة مصطلحات معاصرة يتناول الباحثان الإيرانيان سجاد صفار هرندي ومحمد ملا عباسي مفهوم اليمين واليسار انطلاقا من رؤية جديدة سعت إلى الإحاطة به من الجانبين النظري والتطبيقي. لا شك بأن قراءة إجمالية لتاريخ هذا المصطلح سوف تبين لنا المساحة الكبرى لحضوره في عالم السياسة والفكر والاجتماع غير أن الإضاءة عليه على النحو الذي عرضته هذه الدراسة يكتسب أهمية معرفية خاصة.فقد بين الكاتب استنادا إلى التجارب التاريخية في الغرب والعالم الإسلامي ناهيك عن رؤيته النقدية لتلك التجارب. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف