البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الأمّة والمواطنة في الفكر الاسلامي النائيني والكواكبي في دراسة مقارنة

الباحث :  السيد صادق عباس الموسوي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  66
السنة :  السنة السابعة عشر صيف 1433 هجـ 2012 م
تاريخ إضافة البحث :  June / 16 / 2015
عدد زيارات البحث :  2949

الأمّة والمواطنة في الفكر الاسلامي
النائيني والكواكبي في دراسة مقارنة

السيد صادق عباس الموسوي (*)
حيث كانت إشكاليّة الأمّة والمواطنة من الإشكالات الأساس في الفكر الإسلاميّ، وقد أثيرت في الحركات الإسلاميّة متأخّراً بشكل لافت، كان لا بدّ من العودة إلى الإثارات التي شهدها تاريخ الفكر الإسلاميّ حول هذه الإشكاليّة. وتعرض هذه المقالة لمفكّرين إسلاميَّين تعرَّضا لمعالجة هذا الموضوع وهما الشيخ النائيني والكواكبي.
القسم الأوّل: الأمّـة والمواطنة لدى الشيخ النائِيني
إنّ السعيَ لدراسةِ شخصيّةٍ فكريّةٍ ننقطعُ عنها زماناً ومكاناً دونه شؤون وشجون, فكيف إذا كان الشخص خارج السياق المستمرّ للزمان ولم يستطع أن يحويه المكان؟ وكيف إذا ما كان من صنفٍ مُمعنٍ في الزمن، خرجَ في طروحاته منهم مع أنّه بقي فيهم؟
الميرزا مُحمد حُسين النائِيني كان ذا فرادة في طرحه وفكره وذا تطوّر في رؤيته وتصوّره, لم تقيّده أغلال التقليد، فكان دأبُه المسارعة إلى ما هو جديد, ولم يوثقه المكان فتردّد وهاجر طلباً لما هو أفضل. لم ينقطع عن المجتمع, بل عاش آلامه وآماله إلى حدًّ لم يرضَ أن يحيا صفوَ العيش, بل كان من
________________________________________
(*) كاتب وباحث، من لبنان.

[الصفحة - 177]


المناضلين بقسوة في سبيل خير البلاد والعباد.
أولاً: تنبيه الأمّـة وتنزيه المِلّـة
يُعدّ الكتاب من أهمّ المفاصل في حياة الحوزات الدينيّة وطلاّبها وأساتذتها, حيث يطرح إشكاليّة الدولة من وجهة نظره، ويُعطي شروط شرعيّتها ومشروعيّتها، ويفرد إشكالات الخصوم ويفنّدها، ويسوق الدولة والبراهين الشرعية والعقليّة ويؤكّدها. كما أنّه يدافع عمّا قدّمْ بمنهج علمي ناقد، وأسلوب هجوميّ صارخ.
- ظروف كتابة الرسالة: لا يمكن فصل رسالة الميرزا عن حياته العمليّة والعلميّة، ولا عن الواقع الذي ساد ودفعه لتدوينها, لذلك يجب تناول هذين الطرحين.
ولد الميرزا النائيني في محافظة أصفهان, حيث ترعرع في سلالة علمائية, ساهمت في إغنائه بالتراث الديني, لكنه ما إن اشتدّ عوده حتى نزحَ طلباً للعلم في المدينة، وبعدها جدّد هجرته إلى العراق، وبالتحديد سامراء حيث كان يقطن الميرزا مُحمد حسن الشيرازي سنة 1884م.
عاش الميرزا أولى المحطّات السياسية حين اندلعت انتفاضة التنباك بدعم بل بقيادة الشيرازي، وذلك لمّا باع الشاه ناصر الدين امتياز احتكار التنباك للشركات البريطانيّة التي أوفدت إلى إيران آلاف الموظّفين لسحب التنباك ولو بالقوّة, فأفتى الشيرازي بحرمة التعامل بالتبغ بيعاً وشراءً واستعمالاً. استجاب الإيرانيون لأوّل محطّة مفصليّة حقيقيّة في نزاع الحوزة والبلاط, ما أدّى إلى انكسار الشاه وتراجعه.
بعد وفاة الشيرازيّ انتقل النائِيني إلى كربلاء، ومنها إلى محطته النهائية النّجف الأشرف سنة 1898م. كانت التّجربة العمليّة الأساس لصاحب الرّسالة في هذه المدينة التي كانت مرجعاً يتوجّه إليه المتديّنون وموئلاً يهفو إليه المضطرّون. احتضنت النّجف مراجع في العلوم الدينيّة كالآخوند الخراسانيّ والميرزا الخليلي والسيّد اليزدي وشيخ الشريعة الأصفهانيّ, وضمّت علماء لهم صلة بالشأن السياسيّ كالميرزا النائِيني.
من أهمّ الأحداث التي اضطلعت بها النّجف الحركة الدستوريّة في إيران, حيث
________________________________________

[الصفحة - 178]


انطلقت هذه الحركة من شرارة الضغط الانتقاديّ المنعكس من فساد سلطة الشاه, حيث قادها الشيخ عبدالله النوري والسيد البهبهاني والطباطبائي. واجهت حكومة الشاه المطالب بقوّة الرصاص ما اضطرّ العلماء لطلب العون من النّجف الّتي ما خيّبت النداء، فأعلن مرجعها الكبير الميرزا الخليلي وكبار العلماء ومن بينهم النائِيني موقفهم المؤيّد لها, الأمر الذي فرض على الشاه القبول بدستورية مجلس شورى البلاد.
الإجماع الشعبيّ والعلمائيّ في إيران والعراق انفرطَ قوامه مع البدء بتشكيل الدستور, حيث رفض بعض النواب أن يكون الإسلام مصدراً للدستور وشنّت حملات إعلاميّة لتشويه سمعة علماء الدّين، وصوّرت مقالات كثيرة للتسخيف من أحكام الإسلام(1) .
تشكّلت لجنة صياغة الدّستور من مجموعة من أصحاب الأفكار المتضادّة، ولم تستطع أن تُنهي أعمالها, خاصة في البنود التي تتعلق باشتراط موافقة القوانين الصادرة عن المجلس لتعليمات الشريعة. وقفَ أحدُ أركان الحركة الدستوريّة الشيخ النوريّ موقفاً معارضاً لما يصاغ من دستور إلى حدٍّ جعله يقترب من عدوّه السابق الشاه في رفضه للدستور, وكان ذلك بسبب قلقه من وضعِ دستورٍ سقيمٍ غيرِ محكم, يتحوّل فيما بعد إلى مبرّر لكلّ سياسة تخالف الشريعة، أو يسوق الدولة لمواجهة الشرع. فأعلن أنّه «يجب أن تشكّل لجنة من الطبقة الأولى من المجتهدين وفقهاء المتديّنين لمواجهة القوانين التي يضعها المجلس، وإذا وجدها هؤلاء غير مُطابِقة لأحكام الشريعة فلن تتخذ صفتها كقانون »(2) . كما أضاف إلى صفة المشروطة التي يتّصف بها الدستور سِمَة المشروعة. وقد نجح النوريّ فيما يريد فأُضيفت الموادّ المقترحة بعد اعتصامات ورفضٍ مُعلَن من قِبله. واصل الشيخ فضل الله مطالبه ورفض الدستور ومجلس الشورى لغايةِ جعلِ الفقهاء الولاة الأساسيين على الحكم. هذا الموقف قسّم حوزة النّجف بين فريق الدستور(المشروطة) بقيادة الآخوند والنائيني، والمستبدّة بقيادة السيد اليزدي ومتابعة النوري.
تواصلَت الاحداث إلى أن أقدم الشاه بدعمٍ روسيّ على الانقضاض على مجلس الشورى وقتلِ أبرز الدستوريّين واعتقال آخرين. ما جعل الحوزة الداعمة للدستوريّين
________________________________________
(1)- السيف, توفيق, ضد الاستبداد, بيروت, المركز الثقافي العربي, ط1 ,1999، ص71.
(2)- م. ن, ص74.

[الصفحة - 179]


تدعم حركتهم إلى حدِّ خروج أركانها لمحاربة الشاه, وكان ردّها على المعارضين لمجلس الشورى بأنّه يجب على الجميع القبول بقوانينه، وأنّ «الإقدام على مقاومة المجلس بمنزلة الإقدام على مقاومة أحكام الدّين الحنيف »(3) .
إستطاعت الحوزة بمساندة رجل الفكر والدّين جمال الدين الأفغاني الذي دفع دمَ أصحابه ثمناً لهذا المطلب أن تحشد حشوداً وصلت إلى قلب السلطة على الشاه وتولّي الدستوريين الأمور وقتلِ الشيخ النوري ابن السبعين عاماً.
في هذه الأثناء وفي مرحلة الانتظار وتتالي الأحداث, إنتهى الشيخ النائِيني من كتابه العزيز (تنبيه الأمّـة وتنزيه المِلّـة).
ثانياً: أبرز مميّزاته
بغضِّ النظر عن الأسباب المُوجبة والظروف المواكِبة, أوّلُ ما يُطالع الباحث هو أنّ الشّيخ النائِيني اتّجه ليكتب في (اللامُفكّر) فيه, وطرَقَ أبوابَ مسائلَ جديدة في علم الفقه والشريعة كانت غائبةً عن سطور العلماء وغائمةً في مفردات مُبعثرة. ولا يخفى أنّ الظروف والأحداث ساهمت محلياً في الدفع نحوه والجذب إليه, لكن رغم كلّ الموجِبات المُفترضة, فقد سدَّ هذا الكتاب ثغرةً كانت واضحةً، وظهر كمفصل برّاق في تاريخ نصوص الحوزة العلمية ونتاجاتها. وقد تميّز بأمور:
1- القدرة على الخوض في مسائل جديدة وخوض غمار مفردات وطروحات لم تعتد الحوزة على تداولها أو الحديث عنها. وقد استطاع أن يفرِدَ مساحةً جيّدة للبحث في مسائل الدستور ومجلس الشورى والمواطنة ووظائف السلطة والحكم. كما ظهرت مفردات لها حضور خافِت في الحوزة كالحريّة والمساواة والسلطة التمليكية ووظيفة السلطة وغيرها.
2- الجرأة على نقد نمط من أنماط السلطة وهو ما يسميه الاستبداد الدّيني, والتعدّي إلى رمي أصحاب
________________________________________
(3)- السيف, توفيق, ضد الإستبداد, م.س, ص84.

[الصفحة - 180]


المغالطات من المدافعين عن قوى الجور بصوَر مختلفة, حيث يهاجم من يدافع عن الشاه ويستدلّ مُدعّماً قوله: «لقد قام عبدَة الظلَمة ولأجل رفع هذا اللجام (الدستور) عن الأفواه الكبيرة لأسيادهم الظلمة بالضرب على أوتار مختلفة... إنّ حقيقةَ هذه المغالطات تُشبه قصّة رفع المصاحف من قبل الشاميّين, كما إنّها تشبه ما قاله الشاميون.. »(4) . لكنه يُخرج نفسه منهم فيقول: «أمـّا نحن عبدة الظلَمة حيث كنّا بالأمس نُعِدُّ التحرّر من ذلّ هذه العبودية مروقاً عن الدين ونعتبرُ دستوريّة الدولة ديناً ومذهباً جديداً مقابل الدين الحقّ... وفي المقابل نتلقّى الجوائز والهدايا... »(5) .
3- حضور تأصيل فقهي مميّز وحشد لأدّلة وبراهين واستدلال من المصادر الأربعة, ورصد لآيات وروايات متنوِّعة لم يسبقه إليها أحد. هذا الحضور الهام والفاعل جعل من الكتاب فاتحاً في هذا المجال الصعب. حيث لا تكاد تلحظ في بحوث الفقهاء إلا الشَّيء اليسير من المفردات السياسيَّة في بحوث صلاة الجمعة والقضاء وغيرهما, وبأغلبِه مرَّ عليه الزمن ولم يعُد له مصداق عمليّ. لذا تُعتبر رسالة النائِيني المحاولة الأولى لوضع أساس فقهي للمشروع الدستوري.
4- لا يخفى على القارئ بل المتصفِّح بداهةَ تأثّر الشيخ النائِيني بالمفكّر والعالم الإسلاميّ عبد الرحمن الكواكبي, حيث إنّه مع وحدة القضية المستهدفَة والمسعيّ وراءها يُطاح بالحواجز المناطقيّة والخصوصيّات المذهبية. فالنائِيني العالم الشيعي الاثنيّ عشريّ الفارسيّ القاطن في العراق يُبدي إعجابه بالكواكبي السّني السوريّ المهاجر إلى مصر، ولا يجدُ حرجاً في مدحه والثناء عليه, وسيأتي الحديث عنهما.
كما يَظهر من الكتاب تأثّر العلاّمة بالشيخ جمال الدين الأفغاني الذي كان رائداً في نقد قوى التسلّط والاستعباد. وكان مثارَ إعجابِ الشباب والطلبة في سامراء حيث درس العلامة, وذلك لجرأته في التّعمّق بالعمل السياسي ودعوته للتحرّر ونصرته للضعفاء والمظلومين، وتنبيهه الناس إلى حقائق الأشياء(6) , ودخوله في الصراع مع الشاه خاصة عندما أرسل رسالة إلى الميرزا الشيرازي - أستاذ النائِيني - يدعوه لدعم ثورة التنباك ضدَّ الشاه.
________________________________________
(4)- النائيني, محمد حسين, تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة، تحقيق عبد الحسن آل نجف, قم, مؤسسة أحسن الحديث, 1419هـ, ص163.
(5)- م. ن, ص 157.
(6)- السيف, توفيق, ضد الاستبداد, م. س, ص48.

[الصفحة - 181]


5- مِن الأمور التي ينبغي سردها مقدّمة لطرحِها أو القبول بها هي ما قرّره الشيخ من إتلافٍ لكتابه بعد أن صدر سنة 1909م, حيث تعدّدت الآراء في ذلك إبتداءً من أنّه تخلّى عن فكرة الدستور، ومروراً بأنّه يريد التّخلص من السياسة نهائياً للدخول إلى ساحة المرجعيّة الفقهيّة, وصولاً إلى فكرة أنّه يريد التبرّؤ من الحركة الدستوريّة المُعاصِرة له. إختصاراً لذلك نقول إنّ السببَ الأساس هو الثالث, حيث خرجَت الحركة الدستورية عمّا كان مخطّطاً لها, وتمّت تصفية رموزها من العلماء, وتدخلت الأيدي الأجنبية فيها، وبدأت بالانحراف عن خطّ الشريعة المرسوم لها. لذلك نفضَ الشيخ غبارها عنه وأمرَ بإتلاف الكتاب حتّى لا يبقى مطيّةً بأيدي المنحرفين الجدُد. وما يؤكّد بقاءَ الفكرة وتبنّيها هو أنّ الشيخ المُنهَك ممّا أحدثه قادة الحركة الدستورية الإيرانيّة والمرهَق من أفعالهم وتمرّدهم على الرموز الدينيّة سرعانَ ما تزعّم الحركة الدستوريّة العراقيّة وقادَها حتّى الرمق الأخير حيث تمّ نفيه من العراق.
ثانياً: الأمّـة والمواطنة
يؤشّر اسم الكتاب المتداوَل إلى طبيعة نظرة الشيخ وآفاق خطابه, حيث يوجّه الصوت للأمة, لكن لماذا؟ لينبّههم إلى مسائلَ أحدها المواطنة.
لذلك تبدو الأمّـة والمواطنة مفهومان يتناولَهما المصنّف بصراحة من دون تكلّف، حيث يرسم لأبناء الأمّـة العناوين العريضة لدوام عيشِها واستمرارها وصحّة سياستها، ويضعُ المفاهيم السليمة برأيه للسلطة والسياسة والحكم, وينظّر بشكلٍ مباشر أو غيرِ مباشر لمفهوم المواطنة.
أولاً: الأمّـة والوطن
على غرار من سبقه وفي سياق من سيلحقه لم يحدّد النائِيني مصطلحي الوطن والأمّـة, وإنّما أطلقهما وخاصّةً الوطن على عواهنِهما, لكنّه كانَ واعياً إلى ما يقصده
________________________________________

[الصفحة - 182]


وهادفاً لما يصبو إليه. فأساس توجّه خطابِه هو للأمّة التي أصبحت مجموعة من الأوطان التي قد تسمّى أُمماً.
يظهر مصطلح الأمّـة صاخباً في مصنّف العلاّمة,حيث يستهلّ كتابه بالحديث عن الأمم الأوروبيّة والمسيحيّة التي أفلت وتخلّفت، لكنّها ما لبثت أن عادَت إلى رشدها وتطوّرت حينما استلهمت مِنَ الإسلام أصوله وفروعه... أمّا المسلمون فساروا القهقرى لما تحوّلوا أسرى بأيدي طواغيت الأمّـة(7) .
ويمكن استلهام أنّه وببساطة استعملَ مصطلح الأمّـة للدلالة على أمرين:
الأوّل: الأمّـة بمعنى المجتمع الإسلاميّ: حيث نستقرئ في عددٍ كبير عبارات الحديث عن أمّة الإسلام بل إنّ أصل البحث هو تنزيه الإسلام عمّا ينسبه إليه المُغرِضون الذين يُلقون عليه تَبِعَات صلَتهم الذليلة بالسلطان ويشرّعون حكمه وسلطانه واستبداده, وهدفُ الرسالة تنبيهُ أمّةِ الإسلام إلى مخاطر ما يحوكه المستبدّون ممّا قد يُصبح خطراً داهماً يهدّد مستقبل الأمّـة الإسلاميّة التي تخلّفت لأنّها ابتعدت عن الشريعة وسادها الاستبداد الذي تخلّت عنه الأمم الأوروبيّة وقادها إلى التقدّم. فرُكنا الحريّة والمساواة كانا المستحكِمَين في حياة الأمّـة في صدر الإسلام, وقاداها إلى التقدُّم، لكن قد أصبح رائجاً أنّ التزام المسلمين بدينهم هو سبب الخراب الذي أصاب الأمّـة الإسلاميّة.
كما إنّ الارتباط الوثيق بين اتّحاد الكلمة وبين وحدة الأمّـة الإسلامية من البديهيّات التي ليست محلا للنقاش, وإنّ الحفاظ على الدستور هو الأساس للإبقاء على سعادة الشعب(8) .
الثاني: الأمّـة بمعنى الوطن: هذا التحديد للمفهوم قَد لا يكون مطّرداً في كلام العلامة بل قد يكون مُقتصراً على إيران التي كانت منفصلة عن الأمّـة الإسلاميّة خاصة أيّام الدولة العثمانيّة, حيث كانت تتمتَّع بشخصيّتها المعنويّة وعراقة قيَمها وجذورها الواحدة. هذا ما جعله يقول إنَّ «حفظ شرف وقوميّة الأمّـة مرهون بكون السلطة الحاكمة فيها ممثلّة لها ونابعة منها »(9) .
________________________________________
(7)- النائيني, محمد حسين, تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة, م. س, ص94.
(8)- السيف, توفيق, ضد الاستبداد, م. س, ص323.
(9)- م. ن, ص246.

[الصفحة - 183]


وفي مورد آخر يتضّح استعمال العلامة للمفهوم المذكور بالمعنى المزبور, حيث يقول: «إنَّ حفظَ موجبات الشرف والدين والاستقلال الوطني... متوقفٌ على اتّحاد الكلمة وعدم تشتّت الآراء. بل إنّ الارتباط الوثيق بين هذه الأمور وبين وحدة الأمّـة من البديهيّات »، ليظهر أنّه يُرادف المصطلحين بمعنى واحد.
وفي هذا الخيار يربط العلاّمة بين الأمّـة والدولة لتكون الأمّـة ممثِّلة لأفراد يعيشون معاً ويرتبطون بتاريخٍ واحد، وتكون الدولة مجسّدة للجانب الوظيفيّ الذي يفصل بين الحاكم والمحكوم, حيث يقول: «إنّ أحوالَ الأمَم الخاضعة لسلطات الجور يرجع إلى ما يتمتّع به كلّ من طرفي الدولة والسلطة والشعب من ملكات.. »(10) , كما وإنّ استمرار هذا الحال البائس - الفساد - قد يؤدّي إلى «أيلولة المجتمع إلى التمزّق بل إلى الفساد في الدّين والدولة والأمّـة معاً... »(11) .
ثانياً: المواطنة
إنّ فرادة كتاب العلاّمة تتجلّى في كونه تنظيراً متجدّداً بل جديداً لمواضيع مرّت وقرّت دون أن يتناولها الفقهاء بالبحث والاستدلال, بل اكتفوا بإعطاء حكم اعتماداً على إجماع فقهيّ دون النظر إلى ما آلت إليه الأمور من تقسيم للأمّة إلى دويلات متفكّكة, لكلٍّ منها سلطتها.
بقراءة متأنّية لتفاصيل الكتاب يظهر الربط ما بين الدينيّ والمدنيّ, حيث ينساب الفكر الدينيّ في خدمة المدنيّة العادلة بل يدعو إليها ويشجب من يتعرّض لها, حتّى أنّ القصد من الكتاب ومؤدّاه الحقيقيّ قد يكون هذا الأمر، إضافةً إلى التأكيد على أنّ بقاء الإسلام وعودته إلى الحياة مرهونٌ بإعادة الصيغة العادلة للحكم.
تُطالعنا في كتاب النائِيني ثلاثة أهداف, يتصدّرها الهدف الدينيّ لتصل في النهاية إلى ما يخدم فكرة المواطنة, حيث يعتبر أنّ السلطة الدستوريّة توجب حفظ بيضة الإسلام وصيانة حوزة المسلمين(12) , ويؤكّد أن الأصلَين المباركَين (الحريّة
________________________________________
(10)- م. ن, ص250.
(11)- م. ن, ص260.
(12)- م. ن, ص289.

[الصفحة - 184]


والمساواة) هما هدفا الحكم(13) . وفي موردٍ ثالث يقول إنّ: «مطالبة رؤساء المذاهب بالحريّة والمساواة وتحديد صلاحيات الحاكم لا تستهدف إلا رضا ولي الأمر, إمام العصر والزمان أرواحنا فداه، بالعمل لحفظ بيضة الإسلام وصيانة البلاد الإسلامية من الخراب والفساد »(14) . بهذا التصوير يفتح العلاّمة النقاش حول المواطنة؛ لأنّه يحاول وضعَ المداميك الأولى لها, ليجعل عناصر المواطنة تتقاطع وتتلاءم مع الإسلام.
1- السلطة: إنّ شرعيّة السلطة في النظام القائم على أساس المواطنة تنبع أساساً من رضا الشعب الذي يسبغ عليها قانونيتها وأحقيّة استمرارها وديمومتها. فالعقدُ الاجتماعيّ المكوّن من أفراد المجتمع، والتوافق الإيجابيّ بين المواطنين هو الذي يؤسّس قواعد السلطة ويعزّز مكانتها، ولا يمكن لأيِّ جهةٍ أو شخصيّةٍ أو شخص أن يكون مصدر السلطة. التوافق المعبَّر عنه بالدستور هو الذي يفصل بين النزاعات ويضع الموازين ويحقّ الأمور ويعطي لكلِّ ذي حقٍّ حقّه...
في (تنبيه الأمّـة) يعتبر العلاّمة أنّ هدف السلطة هو حفظ وتنظيم البلاد وتربية الشعب والاهتمام بأمر الرعيّة... وهي عبارة عن تحمّل الأمانة والمسؤوليّة صيانةً لنظام الأمّـة، وهي لا تعني القهر والملوكية والتحكُّم بالبلاد(15) .
بعد هذا التلاؤم مع مفهوم المواطنة يعتبر العلاّمة أنّ هذه السلطة متوقّفة على النصب الإلهي, لأنّ الله هو المالك الحقيقيّ وهو واهب الولاية للآخرين, وقد أوكلها الله إلى الإمام المفترَض الطاعة والمعصوم عن الخطأ. ومع غيابه عن الأنظار يقوم فقهاء عصر الغيبة بها نيابةً عنه, وهم الذين يمنحون الشرعيّة لمن يتولّى الأمانة لمصلحة الشعب. وفي العصر الذي استُلب مقام الولاية عن النوّاب العامّين للإمام الغائب (الفقهاء) بحيث لا يستطيعون القيام بواجباتهم واستنقاذها من الغاصِب فيجب العمل على إعادتها إليهم أو على أقلِّ تقدير تحديد الاستيلاء الجَوري بالقدْر الممكن(16) . وفي الفقه في باب الغصب: لو أنّ غاصباً وضع يده عدواناً على شيءٍ من الولايات ولم يمكن رفع يده لكنْ أمكن تحديد تصرّفه لمنع التعدّي وصيانة
________________________________________
(13)- م. ن, ص297.
(14)- م. ن, ص276.
(15)- النائيني, تنبيه الأمّة وتنزيه الملة, م. س, ص129.
(16)- توفيق السيف، ضد الإستبداد,كتاب تنبيه الأمة وتنزيه الملة, م.س, ص283.

[الصفحة - 185]


الحال لوجب ذلك بشكل بديهيّ. لذا من الضروريِّ تحويل السلطة المستبدّة إلى ولاية دستورية فيكون الدستور هو الحَكَم والحُكم, فيكون الدستور تحديداً لسلطة الجائر وردعه عن ظلم العباد، وهو بحكم الضرورة، وإلا فالأصل أن تكون السلطة للفقهاء, لكن وبإشارةٍ لها دلالات, يُضيف العلاّمة أنّ تحصيل المشروعيّة لهذا الدستور ممكن إذا صدر الإذن عمّن له الولاية الشرعية وهم نواب الإمام(17) . أخيراً يمكن أن نضع خطوطاً فارقة بين نظريّة العلاّمة لمشروعيّة السلطة وبين نظرة أهل المواطنة لها.
2- مجلس الشورى: هو حلقة ربطٍ أساس بين أدوات الحكم وعناصره, حيث يشعر المحكوم بمشاركته الفاعلة وبأنّه جزء من مؤسّسة السلطة, وأنّه فرع أصيل في بقاء الدولة واستمرارها, وأنّه مع إخوانه في الوطن يُساهمون في خير حياتهم ومستقبل أولادهم ويشكّلون جذع شجرة المواطنة الجميلة. كما إنّ النواب هم ممثلو الشعب والناطقون باسمه يستمّدون شرعيّتهم من تمثيلهم, يشرّعون القوانين, ويسنّونها طبقاً لمصالح الشعب فقط.
أمّا العلاّمة النائِيني فيرى في مجلس الشورى أموراً:
- الشرعيّة: إنّ أصل إنشاء مجلس الشورى رغم الآيات والروايات الدالة على أهميّة الشورى ليس لكونه أداة متمحّضة بالشرعيّة، لأنّ شرعية الحكم هي للإمام الغائب ومِن بعده النواب العامّون المتمثّلون بالفقهاء, لكن حيث إنّ الوصول للحكم غير مُتاح, ودفعاً للأسوأ
________________________________________
(17)- م. ن, ص 286.

[الصفحة - 186]


المتمثّل بالحاكم المتفرّد بالسلطان، وسعياً لحفظ الحدّ الأدنى المتّفق عليه بين الأمّـة وهو تحديد السلطة, لا بُدَّ من مجلس للشورى. فهو ليس صاحب شرعيَّة بنفسه إنّما هو بحسب النائِيني مثلُ أمَةٍ سوداء يدُها قذِرة لكن يمكن تطهير يدِها, فالسواد يدلُّ على أنّ أعضاء الشورى غاصبون واليد القذرة التي يمكن تطهيرها إشارة للغصب الزائد، والدستور ومجلس الشورى تطهير لقذارة اليد(18) . لكن يمكن تحصيل الشرعيَّة لقرارات المجلس فيما إذا صدر به الإذن عمّن له الولاية الشرعيّة (الفقهاء) ليكون سبيلاً له لإخراجه من صفة الغصب, فلا يعود المتصدّي غاصباً لمقام الإمام, فيكون كالمتنجّس الذي يطهَّر(19) . كما أنّ القوانين التي يصدرها المجلس لا تكون نافذة إلا مع مطابقتها مع مقتضيات الشريعة المقدّسة, وعدم مخالفتها للشرع المقدّس.
- الأعضاء: هذا الأمر امتحان دقيق لطبيعة المواطنة التي يرضاها النائِيني ويبتغيها, فهل الأعضاء المشرّعون هم المسلمون فقط؟ أين الشركاء في الوطن؟ ويمكن أن نجد شيئاً مهمَّاً يذكره العلاّمة في صفة أعضاء المجلس, حيث يعتبر أنّ أحد أهمّ أوصاف النائب هو الحرص والغيرة الكاملة على الدين والدولة والوطن الإسلاميّ بل نوع المسلمين، فيعتبر دماء وأعراض وأموال المسلمين كريمة مثل دمه وماله وعرضه, والدين ناموساً أعظم بل أهمَّ النواميس(20) . وهذا ما يحدّد ويؤطّر مفهوم المواطنة بالتعريف الغربيّ الذي يعتبر أنّ أولويّة نظر النائب يجب أن تكون أبناء وطنه، والوطن هو الأساس والأصل, وهذا لا يمنعه من التأثُّر بغيره, لكن ليس إلى هذا الحدّ الذي خطَّه العلاّمة.
وهناك نوعان من الأعضاء المقرّرين في رسالة الشيخ, أحدُهما يخرق قانون المواطنة وآخر يعتبر صفحة بيضاء تتلاءم معها:
1- الفقهاء: وهم أعضاء المجلس الثّابتون, صفتُهم هي التي تؤهّلُهم للتصدّي لمقام سنّ القوانين وليس تمثيلهم الشعبيّ, لهُم حقُّ النّقض حتّى لو أجمعَ المجلس على عكس رأيهم, حيث يوضَع قانون ثابت وملزم يوجِب تمثيل الفقهاء في
________________________________________
(18)- م. ن, ص287.
(19)- م. ن, ص 286.
(20)- م. ن, ص 329.

[الصفحة - 187]


المجلس, ويضّم في عضويته عدداً من المجتهدين لتصحيح أو تفنيد القوانين الصادرة عنه والتأكُّد من مطابقتها لمقاصد الشريعة الغرّاء(21) . وحين تنضمّ معرفة أعضاء المجلس بأمور السياسة والقانون الدوليّ والعلاقات الدوليّة ومقتضيات العصر إلى هيئة المجتهدين يكتمل عقد القوّة العلميّة اللاّزمة لسياسة الأمّـة وإدارة أموره(22) .
هذا الأمر يتناقض كليّاً مع التصوُّر القائم للمواطنة الذي يجعل من مجلس الشعب أداة الشعب والمراقبة من دون تدخّل من أحد.
2- عضويّة غير المسلمين: في هذه النقطة يُوضَع مفهوم المواطنة على المحّك, وهنا يتنفّس المفهوم حين يعتبر العلاّمة أنّ عضويّة المجلس لا تقتصر على المسلمين, بل لا بدَّ أن تتمثّل الأقليّات غيرُ المسلمة في المجلس, ولا بدَّ أن تشارك في الانتخابات؛ لأنّ أتباعها شركاء في الوطن, وشركاء في أموال الدولة وغيرها, وتتوقّف عمومية الشورى والانتخاب على دخولهم(23) .
إنَّ إخلاص هؤلاء للوطن وللناس واتّصافهم بالمعارف السياسية كافٍ لصحّة عضويّتهم رغم أنّهم لن يعيروا الإسلام ولا المسلمين أهمّية مطلوبة، ولا يُنتظَر منهم حفظ ناموس الدين. فوجود هيئة المجتهدين ستكفي للذَود عن الدين وأحكام الشرع.
هذه الإشارة من العلاّمة علامة فارقة في كتابه, تُقرّب ما قنّنه مع مفهوم المواطنة وتسير باتجاهه لكن بضعف ملحوظ.
3- المساواة بين أبناء الوطن: هي أصلٌ حقيقيٌّ لما يجب أن تتمتّع به السلطة، وعنصرٌ مهمّ في مواطنة الشعب, تضمن إذا ما تحقّقت مشاركة فاعلة من المواطنين في تنمية بلدهم، وتُساعد على جلاء الإحساس بالتفرُّق عن الوحدة المجتمعيّة.
يُدافع العلاّمة عن المساواة فيجد جذورها الإسلاميّة ويعتبرها واجباً شرعياً ويرفض كلَّ الإشكاليّات التي وجّهها المغرضون
________________________________________
(21)- م.ن, ص320.
(22)- م. ن, ص 328.
(23)- م.ن, ص 329.

[الصفحة - 188]


لهذا المفهوم. فقانون المساواة بين أشرف القوانين المباركة التي تنطوي عليها السياسات الإسلاميّة, وهو مبنى وأساس العدالة وروح القانون(24) .
ويعتبر النائِيني أنّ المساواة في مرحلة التنفيذ تجري على كلِّ مصاديقها وأفرادها بالسويّة من دون تفاوت من دون لحاظ لجهة شخصيّة أو إضافات أو استثناءات. لكن الإمتحان العسير الذي التفت إليه الكاتب فيما بعد هو أنَّ القانون بحسب الشريعة يُفرّق بين المسلم وغيره, فكيف ينفِّذ المساواة في تنفيذ القانون ويكفّ الشريعة عن التنفيذ؟!
يقسّم العلاّمة الأمر إلى جهتين: الأولى هي المساواة بين جميع الرعيّة، وهنا لا تفريق بين مسلم وغيره, فالاطمئنان على النفس والمال والعرض والمسكن, ومنع التّعرّض من دون سبب, وعدم التجسّس على الخفايا, وعدم الحبس والنفي من دون موجب... مشتركات بين كلّ الناس وليست متعلّقة بطائفة خاصة.
والثانية هي القانون المختصّ بأفراد طائفة معيّنة, فلهُم قانون يجري على كلّ فرد منهم ممن يدخل تحت العنوان نفسه, بلا تمييز بين الشريف والوضيع والجاهل والعالم...
ثمَّ يتطرَّق إلى العلاقة بين الفقهاء والمحاكم, فيعتبر رجال المجتمع المدنيّ من المحاكم وغيرها تمتلك الحقّ في تنفيذ الأحكام المؤدّي إلى حفظ النّظام أو الشرعيّات المشتركة... أمّا سائر العقود والإيقاعات والمواريث والقصاص وإجراء الحدود الإلهيّة على المسلم والكافر وغير ذلك فموكول إلى الفقيه المجتهد, وخارج اختصاص السلطة التي يأمر بها المجتهد, فلا تتدخّل في وظيفته.
من هنا يظهر أنّ مبدأ المساواة بين المسلمين وغيرهم هي في المثول أمام القاضي وإنفاذ حكمه, أمّا في مضامين الأحكام حيث تختلف بين المسلم وغيره فلا يمكن سماع إلا صوت الشّرع, عبر المجتهدين الذين يصدرون الأحكام, وهذا خللٌ آخر في صفوف المواطنة.
4-الإنتماء: هو التفافُ كلِّ فردٍ من أفراد المجتمع إلى وطنهم, ليس
________________________________________
(24)- م.ن, ص 307.

[الصفحة - 189]


على مستوى المستندات والوثائق فقط بل على مستوى الشعور والإحساس, حيث ينتمي المواطن إلى وطنه باعتباره القيمة العليا التي تجمعه وشركاؤه, وتربطه بهم وبه علاقات ولا يمكن أن تكون هناك قيمةٌ أعلى منه, وهذا أبسط مفاهيم المواطنة.
إنّ ما يُمكن استخلاصه من رسالة الشيخ النائِيني هو وجميع الإسلاميين أنّ القيمة العليا والهدف الأسمى والغاية الأهم هي الإسلام وشريعته الغرّاء, والمسلم يشعر بالوحدة الشعورية مع إخوانه المسلمين مهما تباعدت الأقطار والأمصار أو وضعت الحواجز والحدود.
لم يبتعد النائِيني عن هذا الاتجاه وهذا المسار بل تحاشى فصوله وخاض غماره، حتّى إنّك لتستوحي من رسالة (تنبيه الأمّـة) أنّ غاية الحكم والسلطة هي تنفيذ أهداف الإسلام وتطبيق أحكامه وشرائعه, فلا يتناقض أيُّ حكم ورسالة الإسلام، ولا يتعارض أيُّ قانون ووحي الرسالة, والتفاصيل في كلّ حياة الإنسان هو الذَود عن دينه. نعم, القيمة الثانية هي الشعور الوطني وهي فرعٌ من ذلك الأصل الشامخ ومترشّحة منه وتأخذ قيمتها من قيمومته. لذلك يتحدّث الميرزا عن المسؤوليّة الدينية والمسؤوليّة الوطنيّة(25) , ويتكلّم عن جناحَين متّصلين هما الإيمان الديني وحبُّ الوطن. لكنه في أحيان أخرى يوضح الأصل والفرع. فيعتبر أنّ ممثّل الشعب في مجلس الشورى يجب أن يعتبر الدين هو الناموس الأعظم والأهم, وحفظ استقلال الدولة الإسلاميّة أعظم المهمّات...لكن بعد حفظ الدين(26) . كما لا يخفى أنّ جلَّ الرسالة هي دفاعٌ عن الدين لتنزيهه, منطلقة منه لتصل إلى تخوم البلد والوطن وحدوده. فالقوانين يجب أن لا تتعارض مع أحكام الإسلام, وتنفيذها يجب أن يراعيه والسلطة وتقسيمها مستمدّة من الدين وآيبة إليه. لذلك يمكن الخلوص إلى أنَّ الإنتماء للدين أصلٌ وما عداه في سلّم أولويات الإنسان فرعٌ مستخلصٌ منه أوّله الوطن.
لقد ظنَّ
________________________________________
(25)- م. ن, ص330.
(26)- م.ن.,ص329.

[الصفحة - 190]


الإسلاميّون وخاصة المحدثون أنَّ مفردات حبّ الوطن الواردة في الشريعة تكفي لإرساء الانتماء الذي هو ركيزة المواطنة, وغفلوا أنّ المسلم لن يرى الوطن إلا بعين الدين, ولن يشعر بالمواطن إلا انطلاقاً من خلفيّته الدينيّة. وتوهّموا أنّ العبور إلى الأوطان من بوابات الدّيانات يؤدّي إلى ازدواجيّة الانتماء, فبدلاً من أن يفكّروا في صيغة مواطنة إسلامية ذات حدود وحقوق وواجبات ضمن منظومة متكاملة ومتراصّة, ذهبوا بعيداً إلى المواطنة الغربيّة ليطرقوا أبوابها ويبحثوا عن ثمارها علّها تناسب أحجامهم.
القسم الثاني: الأمّـة والمواطنة لدى عبد الرحمن الكواكبي
لا يساورُ أحداً الشك بأنّ السيّد عبد الرحمن الكواكبي كان من البذور التي اختلفت عن باقي أقرانها رغم وجودها بينهم، وتمايزَت عنهم رغم حضورها فيهم. ولا يُخالج امرءاً الوهم بأنّه كان من الفاتحين في ميدانٍ دأب الماضون ومنهم أهل الرأي والحكمة على التغاضي عنه أو تجاوزه أو المرور عليه بخجل إلا القليل من عباد الله. ولا يعترينا شك أن السيّد الفراتيّ كما وصفَ نفسه افتتح عهداً جديداً وآفاقاً أخرى للبحث والتفكير، رغم أنّ مواهبه تؤّهله لبلوغ مناصب يَفتتنُ بها أي إنسان غيره. ما يجعله فريداً في تطلّعاته ووحيداً في تأمّلاته، أثّر في أهل الخاصة والعامة على السواء، وتجاوز بكتبه حدّ المذهب ليكون إسلامياً بكتاباته إنسانياً بتحدّيات أفكاره.
أولا: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
يُعد الكتاب من المفاصل المهمّة في تطوّر الحراك الفكريّ والسياسيّ في العالم العربيّ، بل في العالم الإسلاميّ، حيث يُحاول أن يُعطي تفسيراً واضحاً ومُقنعاً لِما وصلت إليه الحضارة الإسلاميّة، ويُبادر لوضع العلّة لحالة الاعتلال والسبب لوضع التخلُّف الذي طال أمده وامتدّ وقته.
________________________________________

[الصفحة - 191]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف