تتَّخذ هذه الرِّواية (1)وقائع رفع رأس الإمام الحسين (عليه السَّلام) على رأس رمح عال، ونقله من كربلاء إلى الكوفة فالشام، مروراً بعددٍ من المدن الأخرى، مادة روائيَّة لها.
قد تكون هذه التجربة الأدبيَّة، أي اتخاذ وقائع من مأساة كربلاء مادَّة روائيَّة، تجربة رائدة في مجال الكتابة الرِّاوئيَّة، فقد نُظم كثير من الشعر الوجداني والتاريخي والمسرحي في هذا الحدث التَّاريخي الجلل الذي أثَّر، ولا يزال يؤثِّر، في تشكيل الوجدان ومسار التاريخ في آن.
كما أنَّ السيرة الحسينية لا تنفكُّ تُرْوى في مجالس العزاء التي تتَّخذ شكلاً متميِّزاً من الخطاب، يختلط فيه الشِّعر بالقصِّ والتأمُّل والوعظ، ما يمثِّل نوعاً من الخطاب متميِّزاً يحتاج إلى دراسات تبيِّن خصائصه.
كذلك نرى أنَّ وقائع اليوم العاشر من المحرَّم مُثِّلت أمام الجمهور ولا تزال تُمثَّل. ومؤخَّراً أُعدَّ فيلم للرُّسوم المتحرِّكة يروي أحداث واقعة "الطف"، لكن أحداً لم يكتب رواية عن كربلاء تفارق السِّيرة في الوقت نفسه الذي تصدر فيه عنها لتنطق برؤية إلى العالم.
________________________________________
(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية، من لبنان.
(1)عبد الله خليفة، رأس الحسين، الجزائر: منشورات الاختلاف، وبيروت: الدار العربية للعلوم ط.1، 1427هـ.، 2006م.
[الصفحة - 193]
نلاحظ، بدايةً، فيما يتعلَّق بهذه التجربة الرَّائدة: رواية «رأس الحسين»، بعض الأمور:
أولاً: ريادة الكتابة الرِّوائيَّة عن مأساة كربلاء، وتوظيف وقائعها في قول خطاب روائي معاصر. وفي هذه الرِّيادة جرأة من دون شكٍّ؛ إذ إنَّ الوصول بالنَّص الرِّوائي إلى مستوى الحدث التاريخي يحتاج إلى موهبة ودربة ومعرفة...، فعسى أن يكون الرِّوائي قد حقَّق تميُّزاً في الدَّرب الجديد الذي شقَّه للمبدعين الآخرين.
ثانياً: عدم التقيُّد بالوقائع التاريخية في الوقت نفسه الذي يصدر فيه النص الرِّاوئي عنها، فالرِّوائي يختار، من منظورِه، من تلك الوقائع ما يقيم به بناءً روائياً متخيَّلاً ينطق برؤيته إلى العالم. فالمادة التاريخية/التأريخ هنا تمثل المادة الأولية التي تصنع منها الرِّواية/الأدب، والمنظور الرِّوائي/الرؤية هو الذي يتحول بالمادَّة التَّاريخية إلى أدب، ويشكِّلها بناء يتصف بجمالية تنطق بالدَّلالة.
ثالثاً: يركِّز المنظور الرِّوائي رؤيته على حيِّزٍ معيَّن هو المعسكر الآخر، أي معسكر السلطان الذي ارتكب الجريمة الفظيعة، وصنع أحداث المأساة الكبرى التي تمَّت فيها التَّضحية/الفداء من أجل إحياء الدين ونهوض الأمَّة. فهجرة الحسين (عليه السَّلام) تعدُّ الهجرة الثانية بعد هجرة النبي محمَّد (صلى الله عليه وآله وسلَّم) في التاريخ الإسلامي وتضحيته/الفداء المفضي إلى الاستنهاض، والتحوُّل التَّاريخي والحياة الحقيقيَّة تعدُّ التضحية الثانية في التاريخ الإنساني بعد تضحية السيد المسيح(ع).
رابعاً: يرصد المنظور الرِّوائي التحوُّل الذي حدث في هذا المعسكر بمختلف مكوِّناته: أفراد الجيش، الناس العاديون، أصحاب السلطان، وخصوصاً يزيد بن معاوية وابنه وزوجته.
خامساً: يكشف دور الأمام الحسين (عليه السَّلام) متمثِّلاً بمواقفه قبل المعركة وفي أثنائها وبعدها، ودور الرأس ودور السيدة زينب (عليها السَّلام) في إحداث هذا التحوُّل، ما يعني أنَّ كربلاء نفسها هي العامل الذات/البطل في هذه
________________________________________
[الصفحة - 194]
الرِّواية وهدفها/العامل الموضوع هو إحداث التحوّل التاريخي. وهذا الهدف بقي وسيبقى العامل الموضوع/ الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه الثوَّار في كلِّ زمان ومكان، وهذا الهدف، كما قلنا قبل قليل، يتمثَّل في إحياء الدِّين ونهوض الأمَّة إلى إحداث التحوُّل التاريخي، وفاقاً لمبادئ الدين الحنيف.
فهل حدث هذا التحوُّل (كما تروي الرِّواية)؟ وكيف؟
نحاول، فيما يأتي، أن نجيب عن هذين السُّؤالين، فنجري قراءة في الرِّواية تبيِّن التحوُّل كما يتمثَّل فيها.
تبدأ الرِّواية بانتزاع حمزة الرأس من بين الأيدي المتدافعة للظَّفر به، من أجل الفوز بعطايا الخليفة. وحمزة هذا جندي في جيش عمر بن سعد، كان مهرِّجاً في قصر يزيد، التحق بالجيش طمعاً بالغنائم التي تمكِّنه من الزواج. وكان والده من قبل قد أسلم عندما رأى "الجيوش تملأ جيوب جنودها بالمال".
يسأل حمزة، منذ البداية، عن السبب الذي جعل يزيد يأمر بحصار هذه العائلة الصغيرة، وهي لا تستحقُّ ذلك، ويجد جواباً... ويلاحظ، إبَّان عودة الجيش، أنَّ جماعات البدو الجائعة التي كانت تأكل الجرابيع بنهم لا تلبِّي دعوة قادة الجيش إلى التهام لحم الخراف، ما يعني رفضها التعامل مع هذا الجيش، على الرُّغم من حاجتها الماسَّة إلى ذلك.
يقلق ويتحرَّك صوت في داخله، وفي هدأة الليل يسمع صوتاً يخاطبه: "رأس الحسين يتكلَّم معك": يسمع هو الصوت ولا يسمعه الشمر، ما يعني أنَّ صوتاً في داخله يكلِّمه، وهذا الصوت هو صوت الإنسان العادي الذي اضطر بدافع الحاجة إلى الالتحاق بالجيش، وعاين هول ما حدث، لم يكن يعرف شيئاً من قبل عن طبيعة الصِّراع الدَّائر بين طرفين، وقف هو إلى جانب أحدهما طمعاً بغنائم توفِّر له تكوين أسرة.
نلتقط هنا، إشارات دالَّة: أولاها أنَّ ولاء الجنود سببه المال الذي يملأ الجيوب،
________________________________________
[الصفحة - 195]
وثانيها أنَّ النَّاس العاديين الجائعين رفضوا ملء بطونهم الفارغة من لحم خرافٍ يقدِّمه هؤلاء الجنود، وأنَّ الرَّفض نما في ذات ممثِّل لهؤلاء الناس هو حمزة، وجعله يفكِّر ويكتشف حقائق الصِّراع، ما شكَّل وعياً عنده، وهذه هي بداية التحوُّل الذي أحدثته كربلاء، إذ إنَّها دعت أوَّلاً إلى كشف الزَّيف الذي أراد يزيد أن يجعله حقيقة.
في حوار حمزة الأوَّل مع الصوت، تبرز مسألة إسلامه، وما إذا كان قد أسلم بعدما علم بما يكسبه الجنود من "الغنائم والأسلاب والنساء"... أو لأمر آخر؟ وتدور أسئلة في داخله عمَّا إذا كان هذا هو الإسلام!.
يزداد قلقه وتغزوه الأحلام، فيستحيل ضوءاً غريباً يتوجه إلى خباء النساء والأطفال، فيضمُّ الصِّغار ويحملهم على أجنحته إلى المدن البعيدة، حيث يتحرَّك اللاوعي متمثِّلاً بالحلم ليجيب عن أسئلته. وكان الصوت هو العامل المحرِّك والكاشف حقيقة الواقع الذي يعيشه.
وفيما هو يضمُّ الأطفال في الحلم، يهجم عليه عملاق، وينتزع الرأس منه، فيصحو مذعوراً على يدٍ حقيقية تمسك الرأس وتشده، ويد أخرى تصوِّب السيف إلى صدره، ويسمع صوت الشِّمر يقول: أترك الرأس وإلاَّ قطعت يدك.
يقاوم، فيقطع سيف الشِّمر إصبعين من أصابع يده. يأخذ الشِّمر الرأس ويمضي... يندفع حمزة بين الخيام صارخاً، ويسمع الصوت من جديد يقول له: لا تتركني، فيسرع إلى خيمة القائد، حيث "النسوة الجميلات والعود والدفوف وأطباق الأكل الباذخة والندامى"، ويرى الأحياء الممتلئين بالطعام والشراب كأنَّهم جثث متعفِّنة، فيسأل: من الميت يا رب؟! لماذا يبدو المنتصرون كأنَّهم موتى والموتى أحياء؟
وهنا يكتسب حمزة رؤية جديدة، إذ صار يرى العالم من منظور آخر تختلف قيمه عن المنظور الذي كان يراه به من قبل، فقد أصبح لكلٍّ من الموت والحياة والانتصار عنده مفهوم آخر.
________________________________________
[الصفحة - 196]
قد يُطرح السُّؤال هنا: أليس هذا مجرَّد تخيُّل يفتقر إلى الصدقيَّة الواقعيَّة والتَّاريخيَّة؟
في الإجابة عن هذا السؤال نعود إلى كتب التاريخ، لنرى إن كان شيء من هذا قد حدث فعلاً آنذاك.
جاء، في «تاريخ الأمم والملوك» للطبري، على لسان الرَّاوي: "... أصبحنا، صبيحة قتل الحسين بالمدينة، فإذا مولى لنا يحدِّثنا، قال: سمعت البارحة منادياً ينادي:
أيها القاتلون جهلاً حسيناً
أبشروا بالعذاب والتنكيل...".
وجاء أيضاً: «قعد الذين ذهبوا بالرأس في أوَّل مرحلة من الطريق، وجلسوا يشربون النَّبيذ، فإذا قلم من حديد يخرج عليهم من حائط، فيكتب بالدم:
أترجو أمة قتلت حسيناً
شفاعة جده يوم الحساب!؟
وما كادت الجماعة تشهد هذا حتَّى فرَّت هاربة وتركت الرأس» (6/296).
والوقائع المشابهة كثيرة، يمكن لمن يريد المزيد منها العودة إلى كتب التاريخ . وهذه الوقائع صحيحة؛ فإن لم تكن حدثت في العالم الخارجي، فإنَّها قد حدثت في العالم الداخلي للنَّاس. إنَّها وقائع نفسيَّة تمثِّل حالة النَّاس الذين استفظعوا المأساة، وما كانوا قادرين على فعل شيء، وكان بعضهم يطمع بالمنصب والمال و...، تمثِّل هذه الوقائع أحاسيس النَّاس الحقيقيَّة أكثر ممَّا كان يمثِّلها ما يحدث من وقائع خارجيَّة...
إنَّ الإحساس بهول ما حدث وبالأثم وصل إلى لاوعي النفس الإسلامية، فولَّد وقائع نفسية كونتها في ذات المسلمين الجمعية وقائع تاريخية.
صحيح أنَّ ما تقصُّه هذه الرِّواية متخيَّل، ولكنَّه ذو مرجع تاريخي، فالحدث الهلعي الفظيع الذي عاشه المسلمون آنذاك لوَّن ذواتهم وعالمهم.
________________________________________
[الصفحة - 197]
وتفيد هوية حمزة الدِّينيَّة، المتمثِّلة في «أسلم طمعاً بالمال»، و"التحق بالجيش طمعاً بالغنائم"، أنَّ هذا الإحساس إنساني، وليس إسلاميَّاً فحسب. والرَّاوي، في هذه الرِّواية، إنَّما يجسّد باللغة القصصية ما حدث في الواقع الخارجي وفي الواقع الداخلي النفسي.
فالرَّاوي يتتبَّع، في تشكيل البناء الرِّوائي، عالمين: أحدهما خارجي والآخر داخلي، يؤدِّي أوَّلهما السرد ويؤدِّي ثانيهما التَّداعي والتأمُّل والمناجاة والحوار. ويمضي القصُّ مزيجاً بين هذين متقطِّعاً بالوصف الخلاَّق بين الحين والآخر، إلى أن يكتمل البناء النـاطق بالدلالة على التَّحـول التَّاريخي الذي حدث في ذات المسلمين الجمعية، فأسهم في تكوين وجدانها إسهاماً بقي فاعلاً طوال التاريخ.
تغلق القرى أبواب بيوتها عندما يمرُّ الجيش بها، ويشعر حمزة بأنَّه شريك في جريمة لا يعرف عنها شيئاً... ويقرُّ مع الصوت بأنَّ «هذا الجيش جيش لصوص»، فيقرر أن يزور صديقاً له. وفي الطريق إليه يهجم عليه صبي بسكين صارخاً: "أيُّها القاتل"! ولهجوم الصبي دلالة، إذ إنَّه لا يحسب حساب العواقب كما يفعل الكبار، أي أنَّه يُعبِّر عن حقيقة موقف النَّاس من هذا الجيش ... يقول للصبيِّ: وفِّر دموعك واشحذ سكينك جيداً ليوم آتٍ، ويشعر بأنَّه أصبح أكثر خفَّة من قبل، ويؤمن بأنَّ العصفور لا بد من أن يعثر على أظفار قاسية يخبِّئها تحت ريشه.
وإذ يقترب من السيدة زينب (عليها السَّلام) ويسمع خطابها يقول: «خدعونا يا سيدتي، زعموا أشياء كثيرة ... قالوا: خوارج، وقالوا: طمَّاعون في السلطان، ووجدت أنا فرساناً من نور».
يكشف حمزة الزيف والخداع ويعلن: «وجدت أنا...»، و"أنا" هذه تفيد امتلاك الفرد وعيه نتيجة خبرته الشخصية...
ويبقى أن يتحوَّل هذا الوعي الذي تكوَّن إلى فاعلية مغيِّرة، وهذا ما حدث فعلاً طوال التاريخ، وما يحدث فعلاً في هذا الزَّمن الذي تصنع فيه المقاومة اللبنانيَّة التاريخ بعدما نبتت لها مخالب من تحت ريشها، وغدا مقاوموها فرساناً من نور.
________________________________________