البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

October / 23 / 2016  |  1843واشنطن تسمح للمملكة العربية السعودية بارتكاب الفظاعات في اليمن ومن ثم تجبر الأمم المتحدة على الصمت

سامويل أوكفورد - Samuel Oakford مجلة بوليتيكو - Politico Magazine 30 تموز 2016 - 30 July 2016
واشنطن تسمح للمملكة العربية السعودية بارتكاب الفظاعات في اليمن  ومن ثم تجبر الأمم المتحدة على الصمت

التحرير: يتتبع الكاتب بخبرة عالية جهود السعودية لإخفاء جرائمها في اليمن وحذفها من التقارير الدولية وخاصة تقرير الأمم المتحدة، ولا ينسى الإشارة إلى أن قدوة السعودية في مثل هذه الأعمال هو الحليف الأكبر الولايات المتحدة الأميركية التي تتكسب من الحرب وتساعد على نشر الصمت على الجرائم في أروقة المنظمات الدولية.. ولكن الملاحظة الأساس هو أن السعوديين يمارسون جريمة إخفاء الجرائم بوقاحة غير مسبوقة هي أقرب إلى سلوك العصابات منها إلى سلوك الدول.


الأمم المتحدة... تلك المنظمة الدولية التي لم يتوان يوماً «أعضاؤها النافذون» الذين تحتضنهم عن التضييق عليها ومضايقتها، فكم من مرة أجبر فيها الأمناء العامون لهذه المنظمة على أن يعضوا على جرحهم ويلزموا الصمت في العديد من المواقف. ومع ذلك فإن القلة القليلة من الدول تجرأت يوماً على التصرف بالوقاحة نفسها التي تعتمدها المملكة العربية السعودية في ممارساتها، ففي مطلع هذا الصيف أوقع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون نفسه في أحد مستنقعات المملكة، حيث كان ضحية لتكتيكاتها التي هي أشبه بالابتزاز منها بالتكتيك. فبان كي مون لم يجد حرجاً في أن يعلن صراحة أنه اضطر إلى الخضوع لرغبات المملكة العربية السعودية التي طلبت منه نزع التحالف الذي تقوده هي في اليمن ـ حيث توغلت في البلاد وبدأت عملية عسكرية حامية الوطيس ـ عن اللائحة التي تضم أسماء الدول والمنظمات التي ترتكب انتهاكات بحق حقوق الطفل.

 كان بان كي مون قد وضع «الحلف السعودي» في وقت سابق في ملحق تقريره السنوي الذي يعده حول الأطفال والنزاعات المسلحة،  حدث الحذف فقط بعد أن هددت الرياض بأن تقطع التمويل الذي تقدمه للأمم المتحدة. مع العلم أن بان كي مون أخبر مراسلي الوكالات الصحفية أن «التقرير يتضمن تجارب مخيفة جداً لا ينبغي لأي طفل البتة أن يمر بها»، ثم أضاف: «إلا أنه وفي الوقت عينه يتوجب عليّ أن أفكر في أنه من الممكن أن يتعرض غيرهم من الملايين من الأطفال للمعاناة المضنية في ما لو عمدت بعض الدول إلى قطع تمويلها لبعض برنامج الأمم المتحدة، كما قيل لي».

إلا أن الأمين العام لم يقف عند هذا الحدِّ، بل استطرد قائلاً: «من غير المقبول البتة أن تمارس إحدى الدول الأعضاء ضغطاً غير مسوّغ»، وعليه فقد أشار إلى أن رفع اسم المملكة العربية السعودية عن تلك اللائحة لا يزال «موضع دراسة».

أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فإن الحادثة جاءت لتكون على شكل تذكير لها يستحضر أمامها أي نوع من الحلفاء هي المملكة العربية السعودية (تماماً كما هو الحال مع أحد التقارير الذي لا يزال في أحد أجزائه مصنفاً على أنه سريٌّ على الرغم من أنه صدر في العام 2002 والمتعلق بأحداث الحادي عشر من أيلول، حيث يتم الإشارة، من ضمن إشارات أخرى، إلى أن زوجة الأمير بندر بن سلطان الذي كان يحتل منصب سفير المملكة العربية السعودية لدى واشنطن في ذلك الوقت، قد سلمت مبالغ نقدية لزوجة أحد المشتبه فيهم الضالعين في تفجيرات الحادي عشر من أيلول). مع العلم أن أحداً لم يكن محيطاً بهذه المواقف المحرجة قدر ما كانت عليه سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية لدى الأمم المتحدة سامانثا باور، الأسطورة السابقة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان (مؤلفة الكتاب الحائز على جائزة بولتيزر، A Problem from Hell «معضلة من الجحيم») والتي كانت مجبرة على أن تغض الطرف في الوقت الذي كانت فيه حليفة الولايات المتحدة النافذة تسرح وتجول في اليمن فاعلة ما حلا لها بعد أن حصلت على الغطاء السياسي واللوجستي والعسكري من واشنطن. ومنذ اليوم الأول الذي جرى فيه الإعلان عن القرار الذي اتخذه بان كي مون طلبتُ من مكتب باور الحصول على ردٍّ مباشر حيال تهديدات المملكة العربية السعودية بقطع التمويل، إلا أنني لم ألق آذاناً صاغية لا منها ولا من فريق عملها.

لم يتردد السعوديون الذين يستخدمون الأموال التي تدرها عليها ثروتهم النفطية بمثابة سلاح  في رفض تعديل موقفهم ـ وذلك بتشجيع تكتيكي من حليفهم الأقوى، واشنطن، التي بدورها قدمت للرياض المساعدة في تحديد الأهداف إلى جانب المساندة اللوجستية وأمنت الوقود يومياً لطائرات التحالف الحربية المنتشرة فوق سماء اليمن ـ وقد أشار مدير غلوبال أدفوكاسي بالإنابة ومدير الأمم المتحدة في هيومن رايتس واتش، فيليب بولوبيون إلى أن: «صمت الولايات المتحدة بات مطبقاً في وجه ما تمارسه المملكة العربية السعودية من مضايقات بحق الأمم المتحدة من أجل منعها من إدانة الحملة العسكرية الغاشمة والتعسفية التي استطاعت أن تتسبب بموت وإعاقة المئات من الأطفال». وأضاف: «إن ما تمارسه الولايات المتحدة من ازدواجية سافرة في المعايير يقلِّل بشكل كبير من الجهود التي يبذلها هذا البلد في سبيل كشف انتهاكات حقوق الإنسان إن في سوريا أو في غيرها من البلدان في مختلف أرجاء العالم.

ولكن مما لا شك فيه هو أن صراحة بان كي مون هذه لم تصب مطلقاً في مصلحة واشنطن، ففي حين أن منظمات حقوق الإنسان لم تتوان عن البدء بالسخرية من الأمين العام الذي بات في آخر مراحل ولايته ـ  يغادر مكتبه مع أواخر عام 2016 ـ الذي رضخ لتهديدات ذاك المانح الثري، أعلن الكثير من الديبلوماسيين والمراقبين المطلعين على شؤون الأمم المتحدة أن بان كي مون أطلق سابقة جديدة من نوعها إذ استخدم مصطلح «الدول الأعضاء النافذة».

ومن جهة الإدارة الأمريكية، فإن المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارحية مارك تونير أدلى بتعليق ملتوٍ في شهر حزيران الماضي بُعيد أن أطلق بان كي مون كلماته تلك، قائلاً بأنه يتوجب أن تحظى الأمم المتحدة: «بحرية استكمال مهماتها واستكمال مسؤولياتها من دون التخوف من قطع التمويلات عنها». هذا ومع العلم بأن الولايات المتحدة نفسها كانت قد أحرزت سابقة لا مثيل لها من خلال تطبيق المثل: فعلى خلفية قيام الوكالة الثقافية التابعة للأمم المتحدة اليونيسكو في العام 2011 بالاعتراف بدولة فلسطين، عمدت الولايات المتحدة إلى تعليق مساهماتها البالغة  80 مليون دولار سنوياً، أي ما نسبته أكثر من خُمس ميزانية الوكالة السنوية. وبالتالي فإن ما تقوم به المملكة العربية السعودية من تهديدات والولايات المتحدة من تضييقات على اليونيسكو، على سبيل التهديد الدائم والمستمر باستخدام حق النقض في مجلس الأمن، لا يسهم إلا في التقليل من شأن السلطات الموكلة إلى الأمم المتحدة.

من ناحية أخرى، فإن الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة للسعوديين في اليمن قد أسهم في إضعاف موقف واشنطن أخلاقياً لدى الأمم المتحدة، وهو الأمر الذي أفسح المجال أمام روسيا وغيرها من الدول لأن ينعتوا الأمريكيين بالمنافقين إذ قاموا بـ «تسييس» المعابر الإنسانية في سوريا في حين أنهم لا يتوانون عن دعم التحالف الذي يقوم بمحاصرة بلدٍ بأكمله، وهو ما يساهم في مفاقمة الأزمة في اليمن من حيث إن الأرقام تشير إلى أن هذا البلد هو الأسوأ في العالم من ناحية الأزمات الإنسانية، وذلك وفق ما أوردته الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة والمتعلقة بالفئات التي باتت بحاجةٍ إلى المساعدة. فإذا ما كانت الولايات المتحدة تسلط الضوء عالياً على الأضرار التي يتسبب بها القصف الروسي في سوريا، إلا أنها تظل أقل تحفظاً في ما يخص انتقاد موسكو لاستخدامها للقنابل العنقودية؛ والسبب وراء ذلك هو أن هذا السلاح محرم دولياً على أوسع نطاق في إطار إحدى اتفاقيات الأمم المتحدة، ومع ذلك فإن البنتاغون لا ينفك يقول بإمكانية استخدامه بصورة ملائمة. أما من جهتها فإن المملكة العربية السعودية تقدم أكبر مثال على الاستخدام العشوائي للقنابل العنقودية في اليمن، حيث أطلقت لها العنان في مختلف المناطق المأهولة بالسكان. وبالتالي، كلما استفحش السعوديون في سلوكهم في اليمن كلما استعسر على الأمريكيين مواراة سوءة دعمهم المزدوج المعايير.

علماً أنه في شهر شباط المنصرم، وفي خضم الحملة الجوية الضارية التي قامت بها القوات الروسية دعماً لقوات النظام التي تستعد للتضييق على حلب، اجتمع مجلس الأمن بشكل طارئ  من أجل دراسة الوضع الإنساني في المدينة وغيرها من المدن في سوريا، ولكن ما إن همّ السفير الروسي فيتالي شوركين بمغادرة الجلسة حتى استخدم ورقة الملف اليمني حيث قــــال للمراسلين: «سـوف نقترح عقد اجتماعات أسبوعية من أجل الإحاطة بالوضع الإنساني في اليمن».

إلا أنـــه وعندمــا بـــدا وكــأن الحوارات المتعاقبة بشأن اليمن على وشك أن تتوازن من أجل إيجاد حل لفتح معابر إنسانية في البلاد سارع السعوديون وغيرهم من المسؤولين في الدولة الخليجية إلى الاجتماع بدبلوماسيي الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة من أجل تقديم شكواهم. وعلى العكس من الملف السوري، الذي تم تمرير قرار بشأنه، لم يخرج مجلس الأمن بأي قرار مشابه يتعلق باليمن.

في الواقع لا يجب أن يطرح التهديد السعودي بقطع التمويلات الحيوية ـ الذي جاء بصورة حاسمة ومباشرة على لسان وزير الخارجية السعودي الذي أعلم بان كي مون ومستشاريه بهذا القرار ـ الكثير من المفاجآت لدى أي شخص مطلع على تذبذب وسوء العلاقة من جانب المملكة العربية السعودية تجاه الأمم المتحدة منذ أن بدأ السعوديون حملة القصف على اليمن في شهر آذار من العام المنصرم.

في حين أن السلوك السعودي راح يتسم باللامبالاة العلنية أكثر فأكثر، سواء أكان في الميدان في اليمن أو في القاعات في الأمم المتحدة، فإن الصمت من جانب واشنطن والبعثة الأمريكية لدى الأمم المتحدة في نيويورك، لا يزال سيد الموقف، لدرجة أن السفيرة باور وجدت نفسها في معرض الدفاع عن التدخل في اليمن والذي أودى بحياة آلاف المدنيين، وهو ما تصادف مع انتشار تنظيم القاعدة، وفي معرض تحجيم عملها الدؤوب والمضني الهادف إلى لفت الانتباه صوب ما يرتكبه نظام الأسد من جرائم في سوريا.

وعلى الرغم من ذلك يبقى أن ثمة سبباً آخر جعل الولايات المتحدة تتلعثم ولا تبدي رأياً واضحاً أمام التكتيكات الجائرة التي تستخدمها المملكة العربية السعودية: ربما تكون درجة النفاق أكبر بكثير مما يمكن احتماله. فحتى العام الماضي كانت الولايات المتحدة تصرُّ بشدة على أن تبقى إسرائيل بعيدة كل البعد عما وجد السعوديون أنفسهم منخرطين فيه هذا الشهر، إذ إن ليلى زروقي، الممثلة الخاصة للأمين العام المعنية بالأطفال والنزاعات المسلحة، قد صادقت على إدراج كل من قوات جيش الدفاع الإسرائيلي وحماس على اللائحة السوداء، ولكن في نهاية المطاف لم يتم إدراج أي من الفريقين على اللائحة، ولكن الضغط الذي مارسته واشنطن وإسرائيل من خلف الستار كان كبيراً جداً، وفقاً للمعايير الدبلوماسية التي باتت اليوم تحت الضوء.

ولا يخفى بأن للتدخل السعودي في اليمن علاقة وطيدة بتخوف الرياض من عدوتها الألد في المنطقة المتمثلة بإيران التي تقدم الدعم للثوار الحوثيين الشيعة في اليمن. فالأمر كله بدأ في شهر آذار من العام الماضي، حيث وعلى خلفية التقدم السريع الذي أحرزه الحوثيون آنذاك، بالتحالف مع الرئيس السابق علي عبد اللّه صالح، أعلن الملك السعودي الجديد، سلمان، عن قيام تحالف جمع في أحضانه على عجالة الدول العربية السنية، ومن جهته تولى ابنه ولي ولي العهد الأمير محمد ابن سلمان مسؤولية هذه الحملة ـ وهو الذي ذاع صيته مؤخراً في أوساط الصحافة المالية التي بات الوجه المفضل لديها بسبب ما تقدمه شركة الاستشارات التي يمتلكها من خطط تساهم في إنعاش الاقتصاد السعودي وإصلاحه ـ أما الأهداف المعلنة للتحالف فكانت إعادة الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى الحكم وهو الذي كان قد حلّ محل صالح على خلفية الربيع العربي والذي كان قد فرّ من البلاد. ليس هذا فحسب، إنما أيضاً من أجل الوقوف في وجه الصعود الحوثي باعتباره حليفاً لإيران.

وعليه، وبمساعدةٍ من الجيش الأمريكي باتت الرياض قادرة على فرض الحصار على جارتها الجنوبية إن من الجو كما من المياه وسرعان ما بدأت هجومها على هذا البلد. وبما أن اليمن وحتى وقت قصير قبيل الحرب كان قد صنف باعتباره البلد الأفقر في العالم العربي، فسرعان ما راحت المؤن الغذائية والوقود تنفد من الأسواق، دون أن ننسى الأدوية والمعدات الطبية التي بدأت كمياتها تنخفض بصورة خطيرة من المستشفيات. ومع حلول شهر أيلول، كانت الأمم المتحدة قد قدرت أن اليمن يحصل على ما لا يتعدى واحد في المائة من احتياجاته من الواردات النفطية. أما اليوم فإن أكثر من 21 مليون يمني باتوا بحاجة ماسة إلى بعض أشكال المساعدة الإنسانية، ونصف السكان باتوا يعانون من انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية – وهي أرقام تجعل من الوضع في سوريا أمراً عابراً.

مع العلم أن أحد ضحايا هذا الحصار كان الصحافيون الأجانب ممن كانوا يتدبرون أمر العبور إلى البلاد عن طريق الأمم المتحدة، إلى جانب العاملين في مراكز حقوق الإنسان لدى المنظمات غير الحكومية على شاكلة هيومن رايتس واتش ومنظمة العفو الدولية. ففي شهر أيار، أي بعد شهرين اثنين من انطلاق التدخل السعودي في اليمن، وفيما كان عداد الموت قد وصل إلى 400 قتيل يمني، قرّر المسؤولون الكبار في الأمم المتحدة من المبعوثين إلى اليمن بأنه لن يسمح بعد ذلك لأي منظمة بأن تصعد على متن طائرات الأمم المتحدة لدخول البلاد أو للخروج منها. في ذلك الوقت، كانت المقاعد على الخطـــوط الاقتصادية التي تديرها الشــــركة الوطنية الرسمية طيران اليمنية صعبة المنال إن لم نقل مستحيلة ـ هذا في حال إقلاع الطائرات أصلاً. مع العلم أن هذه الرحلات كانت تمر عن طريق المملكة العربية السعودية، حيث كان المسؤولون يشرفون بأنفسهم على كشوف المسافرين.

وكانت الأمم المتحدة قد خصصت لنفسها طائرة خاصة، كبيرة بما فيه الكفاية لاستيعاب ما بين 27 إلى 28 شخصاً، والتي كانت قد بدأت رحلاتها أكثر من مرة في الأسبوع الواحد ما بين دجيبوتي والعاصمة اليمنية صنعاء الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، إلا أن الصحافيين والعاملين في المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان كانوا ممنوعين من الاستفادة من هذه الرحلات أيضاً. ومن جهتهم، فقد أشار المسؤولون في الأمم المتحدة والمتمركزون في اليمن وأوروبا ونيويورك، ممن تحدثوا عن الأوضاع الدائرة مفضلين عدم الكشف عن أسمائهم وغيرهم من العاملين في مجال المساعدات إلى أن هذه السياسة جاءت نتيجة لرغبة من السعودية بعد أن رفضت هذه الأخيرة كشوف إحدى الرحلات في شهر أيار المنصرم والذي كان يضم أسماء العديد من الصحافيين بمن فيهم مراسلين من نيويورك تايمز وبي بي سي.

من ناحية أخرى فقد أشار العديد من الموظفين في الأمم المتحدة إلى أن القرار السعودي جاء متضارباً مع أجندة بان كي مون المتعلقة بحقوق الإنسان والتي يوليها الكثير من الأولوية، فتلك المبادرة، والتي كان من المفترض أن تخصص المساحة الكبيرة  لتحرير التقارير المتعلقة بحقوق الإنسان وحماية المدنيين والحدِّ من انتهاكات القانون الدولي التي بات «يصعب التغاضي عنها»، جاءت على وجه الخصوص جواباً على التقاعس الذي بدر من جانب المنظمة في خلال الأشهر الأخيرة من عمر الحرب الأهلية التي شهدتها سريلانكا في العام 2009 والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين.

كما وأن العاملين في المجال الإنساني وموظفي الأمم المتحدة ممن سُمح لهم ركوب متن الطائرات اكتشفوا أن هذه الرحلات كانت تحتاج إلى موافقة الحكومة السعودية التي كانت إما تسمح أو ترفض عبور أي من رحلات الأمم المتحدة.

«هل من المفترض على الأمم المتحدة أن تسمح لإحدى الحكومات بأن تفرض ضغوطات من هذا النوع، إذ إنها من دون شك تمنع الوصول إلى الفئات التي تحتاج إلى المساعدة؟» هذا السؤال جاء على لسان أحد العاملين في المجال الإنساني والذي فضَّل عدم الكشف عن اسمه من أجل عدم تعريض المنظمة التي يتبع لها للخطر وهي التي لا تزال معابر اليمن مفتوحة أمامها.

وفي المقلب الآخر، فضّل البعض من الصحافيين أن يسلكوا الطريق الخطرة، عن طريق البحر نحو اليمن انطلاقاً من السواحل الأفريقية، فأحد المراسلين، ويدعى ماثيو أيكينز، كان متوجهاً في مهمة أوكلته بها مجلة رولينغ ستون، يرافقه أحد المصورين، استطاع أن يعبر بصورة غير شرعية إلى البلاد عبر زورق لا يتعدى السبعة أمتار ـ والذي أصبح أحد أهم الوسائل التي يستخدمها الصحافيون الغربيون من أجل كسر الحصار وتوثيق الخسائر التي تتسبب بها هذه الحرب الجوية. وقد أعلن أيكينز أنه قبل انطلاقه من دجيبوتي أخبره المسؤولون في الأمم المتحدة بأن السعوديين توقفوا عن السماح للصحافيين الأجانب بالسفر إلى اليمن. ومن جهتها أعلنت دوناتيلا روفيرا، كبيرة مستشاري الأزمات في منظمة العفو الدولية أنها كانت قد حجزت لنفسها رحلة من دجيبوتي إلى صنعاء في حزيران الماضي، قبل أن تتبلغ «في اللحظة الأخيرة» بأن «أسماءنا رُفعت عن اللائحة» ـ مما اضطرها إلى إيجاد رحلة بديلة عن طريق الأردن.

في حين كان الصحافيون والعاملون في المجال الإنساني يصارعون من أجل العبور إلى اليمن، فإن الأخبار التي كانت ترد أمست أكثر إلحاحاً، ففي شهر أيار كانت المرة الأولى التي توثق فيها الهيومن رايتس واتش استخدام القنابل العنقودية من جانب قوات التحالف، ومع حلول منتصف ذاك الشهر كانت الأمم المتحدة قد استطاعت توثيق وفاة ما لا يقل عن 1037 مدنياً منذ بدء العملية العسكرية السعودية في البلاد. وعلى الرغم من أن الكثير من هذه الوفيات جاءت نتيجة إطلاق النار العشوائي والقوي من جانب الحوثيين رداً على النيران التي كانت تطلقها الطائرات الحربية، ولكن يبقى أن العدد الأكبر راح نتيجة الضربات الجوية السعودية. وعليه فقد بدأ يتوضح شيئاً فشيئاً أن جرائم الحرب بدأت تحتل مكانها، ولكن مرّ شهر بأكمله قبل أن يتمكن صحافيون دوليون آخرون من التسلل داخل البلاد.

أما في أروقة الأمم المتحدة في نيويورك فقد استلم مهام الشؤون الإنسانية مدير جديد، هو ستيفن أوبراين، مع نهايات شهر أيار، بعد أن ورث عن سلفه أوزار الأزمات في كل من اليمن وسوريا وجنوب السودان، دون أن ننسى الهوة في التمويل التي تحكم الهيئة. ومع ذلك كان لا يزال ثمة بريق أمل، أو على الأقل هكذا بدا ـ ففي الثامن عشر من شهر نيسان التزمت المملكة العربية السعودية بأن تستجيب للـ«معونة الطارئة» التي أعلنت الأمم المتحدة عن الحاجة إليها في اليمن والبالغة قيمتها 274 مليون دولار والتي كانت قد أعلنت عنها قبل يوم واحد فقط. إلا أن المفاوضات التي جاءت على خلفية هذا الالتزام وتخلف السعوديين عن التمسك بكلمتهم أدت إلى تحديد مخطط للعام القادم، إذ إن دبلوماسيي الرياض ما انفكوا يُحرجون موقف أوبراين ومكتبه. في حين أنه من جانب المسؤولين في الأمم المتحدة الذين كانوا مستميتين للحصول على الأموال من الدول الخليجية، فكانوا قد اعتادوا السعوديين، الذين يتبنون موقفاً بات يتسم بالتنافر يوماً بعد يوم على وقع ارتفاع عداد الموت الذي راح يحصد أرواح المدنيين بسبب قنابلهم، في حين أن الحصار الذي يفرضه تحالفهم على اليمن يعني بأنه يتوجب على الأمم المتحدة أن تؤمن المؤن للمزيد من اليمنيين ممن يتضورون جوعاً.

وفي هذا الصدد أعلن مدير المكتب السياسي في الأمم المتحدة قائلاً: إنه «بات جلياً أن السعوديين أصبحوا ينتقمون من كل من يجرؤ على التفوه بأي موقف ويضيقون عليه، وللأسف فإن الأمم المتحدة لم تعد استثناءً في هذا المجال»..

وفي شهر تشرين الأول ذاك بالتحديد، وبعد أن أعلن السعوديون أخيراً عن التوصل إلى اتفاق مع تسع وكالات تابعة للأمم المتحدة من أجل صرف الأموال (رغم أن شروط الاتفاق لم تخرج يوماً إلى العلن)، أخذت الرياض على عاتقها أن تتكفل بالدعاية الإعلامية في نيويورك من أجل صبّ  المديح على برنامجها الإنساني الرؤوف في اليمن. ومن جانبه، شدّد رئيس الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة ستيفن أوبراين، الذي بدا مقطب الملامح وصعب المراس، على عمق العلاقات التي تجمع ما بين الأمم المتحدة ومركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية. حتى ذلك التاريخ، كانت الأمم المتحدة قد تمكنت من إحصاء مقتل 2355 مدنياً يمنياً، راح أغلبهم بسبب الضربات الجوية التي يقودها التحالف، والتي كان قد سبق لأوبراين أن أعلم مجلس الأمن في وقت سابق من ذاك الصيف بأنها في بعض الأحيان تشكل خرقاً للقانون الدولي. وفي الأيام المقبلة بات واضحاً وجلياً أن الوفد السعودي تمكن بدهاءٍ من سحب أوبراين إلى غرفة الاجتماعات في مكاتب الأمم المتحدة على أثر اجتماع انعقد في مكتب بان كي مون في أحد الطوابق العليا من مبنى الهيئة.

علماً بأن أوبراين أخبر المراسلين بأن الأمم المتحدة لم تعد قادرة على إدارة ظهرها لأية مساعدة تقدّم لها بما في ذلك المساعدات القادمة من جانب المملكة العربية السعودية، «لأن الوضع بات مصيرياً».

 وفي خلال الحفل نفسه، إنما في مناسبة منفصلة في نيويورك، أقرّ سفير الرياض لدى الأمم المتحدة عبد اللّه المعلمي للمرة الأولى أمام مراسلي وكالات الأنباء أن التحالف أقدم على قصف مستشفى تابع لمنظمة أطباء بلا حدود واقع في شمال اليمن في مطلع ذاك الأسبوع (تزامن هذا القصف تقريباً مع المؤتمر الصحفي الذي أعلن أوبراين في خلاله عن التوصل إلى اتفاق مع السعوديين). إلا أن السفير لم يجد حرجاً في أن يلقي باللائمة على منظمة أطباء بلا حدود قائلاً بأنها لم تزودهم بالإحداثيات الصحيحة. مما لا شك فيه هو أن الفضيحة وقعت، إلا أن السفير لم يتوان عن الادعاء إفكاً بأن الصحفيين «أخطؤوا في اقتباس كلامه أو أن النصوص المقتبسة قد وضعت في خارج إطارها». في حين أنه وفي العديد من المناسبات كان المعلمي قد أنكر استخدام التحالف للقنابل العنقودية، على الرغم من التوثيقات التي تقدمها مجموعات الدفاع عن حقوق الإنسان والصحافيين التي تؤكد بما لا يقبل الشك عكس هذه الادعاءات. كما وأنه لم يأل جهداً في أن يشكك مراراً وتكراراً بتقارير الأمم المتحدة التي تشير إلى أن التحالف السعودي يتسبب بالموت في صفوف المدنيين، حتى بعد أن تخطى هذا العدد الألفين.

أما بالنسبة إلى الدول النافذة الأخرى في الأمم المتحدة على شاكلة روسيا، فالمعروف عنها ضمن الدوائر المغلقة في أروقة الأمم المتحدة بأنها تمارس هي الأخرى الأساليب الملتوية إنما بأسلوب راقٍ ومعقول، وذلك عندما تجد نفسها في مواجهة أدلة قادرة على إدانتها، فيما يتعلق بالضحايا المدنيين الذين يذهبون في سوريا بسبب القصف الذي تقوده موسكو في هذا البلد. غير أن السعوديين ليسوا متمرسين في هذا المضمار وقد يبدون وكأنهم رديئو الخلق نوعــاً مـــا عندما يصبحون تحت الأضواء. أضف إلى ذلك أن العام الماضي هو الآخر يسجّل باعتباره نقطة سوداء في تاريخ المملكة: إذ جرى توقيع الاتفاق النووي مع إيران والذي كانت المملكة تحشد القوى في مواجهته؛ أما مصالحها في سوريا فقد أخذت منحىً مأساوياً إذ لم تقف روسيا مكتوفة الأيدي وهبّت لمناصرة نظام الأسد؛ وأسعار النفط تدهورت إلى أدنى مستوياتها مع بلوغها 30 دولاراً للبرميل الواحد؛ كما وأن التدخل الذي قادته في اليمن لم يكتف بلفت الأنظار غير المرغوب فيها بل وأنه اعتُبر وفق أغلب المقاييس بأنه فاشل.

من جانبه، يتذكر أحد الدبلوماسيين الغربيين كيف أن الولايات المتحدة وإلى جانبها إسرائيل تمكنتا من الضغط بكل دهاءٍ على بان كي مون من أجل رفع إسرائيل عن اللائحة نفسها المتعلقة بالأطفال والنزاعات المسلحة ـ وهو الحدث الذي قاد بالكثيرين إلى الغضب ولكنه بالطبع جذب الشيء البسيط من الانتباه. ولكن في حالة السعوديين فإن ما حدث هو العكس تماماً. ويضيف هذا الدبلوماسي بالقول: «الأمر يختلف بين كيفية تولّي المؤسسات الكبيرة للمشكل وكيفية تولّي المافيا لهذه المشاكل».

هذا وقد بلغ سوء السلوك السعودي أقصاه في شهر شباط، عندما قام عدد من المسؤولين السعوديين بتوجيه سلسلة من الرسائل إلى  الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات المعنية بالشأن الإنساني، يحذرونهم في إطارها بضرورة إخلاء المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. وإذا ما أردنا أن نفسر كلامهم هذا حرفياً فسنجد بأن الأمر ينطبق على غالبية المناطق المأهولة في اليمن بما في ذلك صنعاء العاصمة التي تتخذها الأمم المتحدة مقراً رئيساً لعملياتها. في الرسالة الأولى والتي أرسلت بتاريخ الخامس من شباط والموجهة مباشرة إلى الوكالة التي يرأسها أوبراين، أي مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، استخدم المسؤولون لهجة حاسمة طلبوا من خلالها من الأمم المتحدة أن «تعلم جميع المنظمات الدولية العاملة داخل اليمن بشأن ضرورة إيجاد مكاتب جديدة لمقراتها الرئيسية، على أن تكون  خارج منطقة العمليات العسكرية وعلى أن تكون بعيدة عن المناطق التي تنشط في أزقتها ميليشيات الحوثيين وغيرها من المجموعات التابعة لهم، وذلك في سبيل تمكين قوات التحالف من ضمان أمن وأمان هذه المنظمات الدولية». وفي حين أن رسالة أخرى، تم الإشارة إليها على أنها «طارئة» أرسلت مباشرة إلى المنظمات غير الحكومية من جانب السفارة السعودية في لندن.

من جهته، لم يتأخر أوبراين في الرد فقد أرسل جوابه في غضون ثمانٍ وأربعين ساعة مذكراً المملكة العربية السعودية بواجبه الذي يمليه عليه القانون الدولي الإنساني، وشارحاً لها أن الأمم المتحدة لن توقف عملها في اليمن وستظل في خدمة المجتمعات المحتاجة إلى العون في هذا البلد. وبالعودة إلى المعلمي، وفي رسالة لاحقة وجهها إلى مدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أعاد الأول التذكير بالمطالب السعودية، موضحاً بأنه يتوجب على العاملين في المجال الإنساني عدم التواجد على مقربة من القواعد العسكرية العائدة للحوثيين وغيرهم من داعمي علي عبد الله صالح – وهو ما لا يزال بمثابة طلب فضفاف بالنظر إلى أن ما يتم الحديث عنه هي قنابل يبلغ وزنها قرابة الطن. أما بالنسبة إلى العاملين في المجال الإنساني في اليمن، فإن هذه المراسلات التي أصدرتها المملكة العربية السعودية من تلقاء نفسها أظهرت، في أحسن الأحوال، أن البلد يحارب باستماتة متذرعاً بالحجج الواهية طوال الوقت. حتى ولو أن هذه الرسائل لا تعدو كونها محاولة لاحترام القانون الدولي ولكنها خرجت عن مسارها، فلا يزال في جعبة هؤلاء العاملين الكثير من الأسباب التي تدفعهم إلى القلق: فقبيل مجرد أسابيع أشار تقرير أصدره فريق من خبراء مجلس الأمن إلى 22 هجوماً قاده هذا التحالف على المستشفيات خلال الحرب.

وبعد شهر واحد فقط، أي في شهر آذار، وعندما تم في بادئ الأمر تمرير التقرير المتعلق بالأطفال والنزاعات المسلحة بين الدبلوماسيين، جرى حديث جانبي في مجلس الأمن بشأن استصدار قرار يتعلق بالشأن الإنساني وخاص باليمن على وجه التحديد، مع احتمالية استخدام لهجة واضحة وصريحة تطالب بحماية المدنيين. مرة أخرى برز المعلمي وأبدى مخاوفه من احتماليات هذا الطرح، ولم يتأخر لحظة واحدة في أن يدعو إلى مؤتمر صحفي في غرفة الاجتماعات نفسها، عمد بنفسه إلى إدارته ـ وهي خطوة قلما يتخذها السفراء أنفسهم. في تلك القاعة أخبر مراسلي الوكالات الصحفية بكلمات تخلو تماماً من التردد وعدم التيقن بأن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية الذي يديره أوبراين قد أعلمه، في الواقع، بأن لا حاجة البتة إلى قرار من هذا النوع، وأضاف متوجهاً بالكلام إلى الأمم المتحدة: «بإمكانكم اقتباس هذا الكلام عنهم».

وبعد ما لا يزيد عن الأسبوعين على إثر المؤتمر الصحفي، أعلن المحققون التابعون للأمم المتحدة أن الطائرات الحربية التابعة لقوات التحالف قامت بقتل أكثر من 100 مدني في أحد الأسواق الواقعة شمال اليمن.

مع العلم أنه وعلى خلفية هذا الاعتداء أعلن المفوض السامي لحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة ، زيد بن رعد الحسين قائلاً: إنه «على ما يبدو فإن التحالف مسؤول عن ضعفي عدد الخسائر في الأرواح بين المدنيين من بين ما تسببت به باقي القوى مجتمعة ، فعلياً كلها نتيجة للضربات الجوية».

وفي شهر أيلول، وبينما استمر عداد الموت في اليمن يحصد الأرواح تلو بعضها، دعا زيد الحسين إلى تحقيق مستقل ودولي بشأن الصراع. وفي مجلس حقوق الإنسان في جنيف، قدّم الممثلون الألمان مشروع قرار كان من شأنه أن يقود إلى تشكيل لجنة من هذا النوع، إلا أنهم لم يبرحوا أن وجدوا أن مساعيهم ذهبت أدراج الرياح بسبب الضغوطات التي مارستها المملكة العربية السعودية وحلفاؤها. عوضاً عن ذلك، فإن المجلس مرّر قرار وضعت معالمه دول الخليج حيث يدعو إلى قيام تحقيق وطني تشرف عليه حكومة هادي المقيم في المنفى. وبالطبع فإن النظرة تجاه هذا التحقيق كانت على أنه متحيّز وغير مجهز كما ينبغي، أضف إلى أنه لا يملك إمكانية الوصول إلى غالبية المناطق اليمنية.

وبالنسبة إلى الدبلوماسيين، فقد ساد الصمت المطبق من جانب الولايات المتحدة في خلال المفاوضات التحضيرية لهذا النص، مما سمح للمملكة العربية السعودية أن تمارس المضايقات بحق هولندا ـ إذ جلسوا معهم فعلياً على طاولة واحدة من أجل شطب مقاطع من القرار كان المفوض السامي لحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة يرغب بها.

ومع ذلك فإنه حتى الآن لم تخرج تحقيقات الحكومة اليمنية التي جاءت برغبة من مجلس حقوق الإنسان بأي نتائج. ومن جهتها، فإن الولايات المتحدة، لم تتأخر في بيع الأسلحة للمملكة العربية السعودية بقيمة 100 مليار دولار منذ عام 2010، وما انفكت تدعم التحالف من خلال تزويده بالأهداف وتأمين الوقود اليومي للطائرات الحربية في الجو والمؤن اللوجستية، وإذا ما سُئلت عن التحقيقات بشأن الضحايا من المدنيين تحيل الأمر إلى السعوديين. علماً أنه بتاريخ الثاني من شهر حزيران صدر تقرير بان كي مون السنوي الذي يعالج قضايا الأطفال والنزاعات المسلحة، إذاك أكد هذا التقرير على ما كان العديد من الدبلوماسيين قد رأوه قبل شهر من الزمن عندما تم توزيع مسودة عن النص: قوات التحالف مسؤولة عن 60 بالمئة من أرواح الأطفال التي أزهقت في اليمن ـ إذ يقف التحالف وراء مقتل ما لا يقل عن 510 أطفال – فضلاً عن الجرحى الذين سقطوا في العام 2015. أما في المسرد المرفق بهذا التقرير فقد أضاف بان كي مون اسم التحالف السعودي، إلى جانب غيره من أطراف النزاع في اليمن، بما فيهم الحوثيون وتنظيم القاعدة.

أما الرد فلم يتأخر لحظة: فوفق ما جاء عن لسان كبار المسؤولين في الأمم المتحدة، اعترضت الكثير من الدول الخليجية الحليفة أمام الأمم المتحدة بشأن التقرير، حتى أن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير اتصل ببان كي مون خلال العطلة الأسبوعية من أجل الإعراب عن استيائه. وعلى الرغم من ذلك، فإن الناطق الرسمي باسم بان كي مون، ستيفان دوجاريك، أعلم الصحافيين يوم الإثنين أن التقرير لن يخضع للتعديل في أي جزء من أجزائه. في عصر ذاك اليوم اتصل الجبير مرة أخرى وهذه المرة طالباً الحديث مع وكيل الأمين العام للشؤون السياسية جيفري فيلتمان، وهو مسؤول سابق في وزارة الخارجية الأمريكية والذي يحتل حالياً منصب المستشار السياسي الأعلى لدى بان كي مون. وعلى ما أورد الدبلوماسيون، فإن فيلتمان يظل على تواصل دائم مع باور، على الرغم من أن لا معلومات دقيقة تشير إلى مدى اطلاعها على الرسائل السعودية.

وبالعودة إلى الجبير فقد قدّم تهديدات أكبر بكثير إلى فيلتمان، بما في ذلك التهديد بقطع العلاقات مع الأمم المتحدة ووقف التمويل عن الكثير من برامج الأمم المتحدة الكبيرة والتي تبلغ قيمتها مئات ملايين الدولارات، بما في ذلك منظمة غوث اللاجئين في فلسطين. الجدير ذكره هو أن المملكة العربية السعودية تعتبر أحد أكبر المانحين في الأمم المتحدة، إذ إنها المسؤولة عن تمويل عدد من البرامج الإضافية في الشرق الأوسط. ففي العام 2014 حينما كان الجبير سفيراً للمملكة لدى واشنطن أعلن هذا الأخير عن تقديم هبة بقيمة 500 مليون دولار لمساعدة العراقيين الذين هجرتهم الدولة الإسلامية.

إلا أن هذا التعسف والتسلط المالي الذي يمارسه الجبير ليس بالأمر الجديد عليه، إذ سبق له، وفق ما أوردت صحيفة نيويورك تايمز، في مطلع هذا العام أن أخبر المسؤولين والسياسيين الأمريكيين في واشنطن أن الرياض لن تتوانى عن بيع سندات الخزينة البالغة قيمتها مئات الملايين وغيرها من الأصول الأمريكية في حال أن الكونغرس أقر تشريعاً يسهل أمر مقاضاة حكومة المملكة العربية السعودية بشأن ادعاءات تورطها بأحداث الحادي عشر من أيلول.

وبعد وقت قصير مضى على اتصال الجبير بفيلتمان، أعلن مكتب بان كي مون أنه من المرجح أن يتم رفع اسم التحالف من المسرد الذي لا يزال موضع دراسة. أما في أروقة الأمم المتحدة، فقد أعلن المعلمي أنه تم تبرئة السعوديين، بحيث قال: إن القرار «نهائي وغير مشروط».

ربما كانت لدى السعوديين الأسباب التي تدعوهم إلى الغضب، فإذا ما كان صيتهم قد ذاع باعتبارهم من كبار المانحين، فهم لن يتوقعوا سوى أن يلاقوا الاحترام نفسه الذي يلقاه غيرهم من المانحين من أمثال الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان. وفي خضم ما يجري، لا بدّ من الإشارة إلى أن تاريخ الولايات المتحدة يعبق بتجارب التسييس إذ لطالما استخدمت ورقة هباتها في الأمور السياسية، وعلى سبيل المثال نأتي على ذكر التمويلات التي قطعتها عن الأونيسكو. ومن ناحيتها، فإن روسيا التي قتلت العديد من  المدنيين في سوريا ـ والكثير من بينهم من الأطفال ـ لم يرد ذكر اسمها حتى في تقرير بان كي مون الأخير. والحوثيون كذلك الأمر، وفق ما يوضح التقرير الصادر هذا الشهر، يعتبرون مسؤولين عن خروقات جسيمة وبالغة بحق حقوق الإنسان.

وبتاريخ التاسع من حزيران، وبعد أن علت الصرخة لأيام من قبل مجموعات حقوق الإنسان، خرح بان كي مون بمؤتمره الصحفي الذي تمحور بشكل خاص حول التوضيح بأن رفع اسم المملكة العربية السعودية من المسرد جاء من أجل حماية تمويل الأمم المتحدة، وليس لأن احتجاجات الرياض كانت في محلها.

بعيد مؤتمر بان كي مون خرج المعلمي متململاً للحديث مرة أخرى من أجل دحض أقوال الأول. عندئذٍ أخبر السفير السعودي الصحافيين أنه «لم يتم ممارسة أي ضغط غير مسوّغ»، ثم أصرّ على أن «خلاصات [التقرير] قد تم تعديلها الآن». في واقع الأمر، وبالاستناد إلى ما جاء عن لسان بان كي مون، فإن ما يشير إليه التقرير، من أن  60 في المئة من الإصابات في صفوف الأطفال في اليمن إنما تأتي بسبب التحالف السني، لن يتغيّر في هذه الأجزاء. وبالتالي وحده المسرد سيخضع للتعديل من أجل نزع اسم المملكة العربية السعودية ـ وبشكل مؤقت، بانتظار إجراء مراجعة والعودة إلى التوثيقات الإضافية التي سيقدمها التحالف بنفسه. ولكن عوض القيام بذلك، طلب السعوديون أنفسهم من الأمم المتحدة أن تكشف لهم عن مصدر المعلومات التي تم الرجوع إليها في التقرير، وهو الأمر الذي رفضته الأمم المتحدة.

أما ريتشارد غوان، زميل مركز التعاون الدولي التابع لجامعة نيويورك والباحث العتيق في شؤون الأمم المتحدة، قال بأن كلمات بان كي مون التي صدرت في شهر تموز تشير إلى انقلاب خطابي.

وفي معرض حديثه عن السعوديين أشار غوان قائلاً: أن «قلة من الدبلوماسيين أو المسؤولين في الأمم هم من تجرؤوا على القول بأنهم يتصرفون خارج الحدود»، ثم أضاف: «على الأقل فإن هذه الحادثة سلطت الضوء على تكتيكاتهم.» ثم ختم: «لقد استطاع بان كي مون أن يتجنب قطع حبل الود نهائياً مع الرياض، ولكن بينما حافظ على هذا الحبل تمكن من تسليط الضوء على سلوكهم إن كان في اليمن أو تجاه الأمم المتحدة».

بالإضافة إلى ذلك، تبرز دلالات أخرى تشير إلى أن الأمم المتحدة باتت في معرض تبديل موجتها في اليمن، فبعد أن طرحت مجلة بوليتيكو علامات الاستفهام بشأن إتاحة الخدمات الجوية الإنسانية التابعة للأمم المتحدة لرحلاتها، أعلنت الأمم المتحدة أن المنسق الحالي للشؤون الإنسانية في اليمن جايمي ماكغولدريك كان «يعتريه القلق الشديد بشأن استخدام منظمات حقوق الإنسان لهذه الخدمات الجوية».

«وهو يرى بأن لهم الحق في أن تكون الخدمات الجوية التابعة للأمم المتحدة متاحة أمامهم، باعتبارهم شركاء أساسيين لا سيما من ناحية السلامة»، ثم استكمل البيان أن ماكغولدريك كان «ينهي» مباحثاته «مع المنظمات المعنية ويأمل بالحصول على تغيير إيجابي للوضع الراهن».

لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن ثمة علامات تدل على أن السعوديين ليسوا في معرض تغيير عاداتهم، ففي وقت سابق من هذا الشهر وفي آخر الزيارة التي كان يقوم بها إلى الولايات المتحدة، تأخر الأمير محمد بن سلمان مدة 45 دقيقة عن اجتماعه مع بان كي مون مما تسبب بتأخير جميع مواعيد الأمين العام في ذلك اليوم. وفي تصريح أدلى به بعد مراسم التقاط الصور، أعلن مكتب بان كي مون بأن هذا الأخير لا يزال «مستعداً لتلقي أي مواد جديدة من المملكة العربية السعودية» تتعلق بتقرير الأطفال والنزاعات المسلحة.

علماً بأنه وقبل أسبوعين، التقى الجبير من جديد ببان كي مون، وعلى أثر هذا اللقاء أعلن مكتب الأمين العام بأنه «يرحب باستعداد التحالف لاتخاذ الإجراءات الحاسمة من أجل وضع حدٍّ للانتهاكات التي ترتكب بحق الأطفال والحؤول دونها». كما وأضاف مكتب بان كي مون بأنهم بحاجة إلى المعلومات قبل بدء الجدال الحقيقي في مجلس الأمن بشأن الأطفال والنزاعات المسلحة، أي قبل الثاني من شهر آب.

وعلى هامش ما يجري بعث مكتب زروقي برسالة إلى السعوديين، حصلت مجلة بوليتيكو على نسخة منها، حيث اتسمت بالصراحة الأكبر، ففي الرسالة إشارة إلى أنه كان يُتوقع من السعوديين أن «يقدموا إلى الأمم المتحدة الالتزامات والمعايير والخطوات التي سيعمدون إلى اتباعها» في مختلف المجالات، بما في ذلك «الحد من الإصابات في صفوف الأطفال» قبل تاريخ الثامن عشر من تموز. وتضيف الرسالة بأن هذه الإجراءات كان من شأنها المساعدة في « تمكين الأمين العام من أن يورد في تقريره الخطوات الإيجابية التي تم اتخاذها على إثر قراره القاضي بنزع التحالف من مسرد تقريره بصورة مؤقتة».

وبالحكم على الأمور من ظاهر اللغة المستخدمة، يبدو أن الرسالة تمنح السعوديين طريق الخلاص العكسي والدائم من اللائحة.

---------------------------

*مجلة بوليتيكو أُنشئت في العام 2007 وتُعنى بالأخبار والمعلومات العالمية حيث تتقاطع السياسة. تُنشر المجلة في واشنطن ونيويورك وبروكسل. لدى المجلة مروحة واسعة من الصحفيين الذين يُغطون القضايا السياسية في أنحاء العالم.

*سامويل أوكفورد هو صحفي في الأمم المتحدة حيث كان في السابق مراسلاً لموقع فايس نيوز.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف