فهرس المحتويات

مقدمة المركز | 7  

■ الفصل الأول | 9

تعريف العلمانية وأسبابها ودوافعها | 10

إطلالة على منعطفات الكنيسة والدولة | 17

الكنيسة الرومية الكاثوليكية | 20

التضاد (والنزاع) بين الملوك والبابوات | 21

الوقائع الثلاثة التي مهّدت لظهور الأفكار العلمانية | 25

■ الفصل الثاني | 29

دراسة ونقد أسباب ظهور الفكر العلماني في الغرب | 30

■ الفصل الثالث | 49

آثار وتداعيات العلمانية | 50

شخصية الإنسان في إدارة البُعد الأول (الحياة الحيوانية) | 53

شخصية الإنسان في البُعد الثاني (الحياة مع الأصول والقوانين الموضوعية) | 54

شخصية الإنسان في البُعد الثالث | 55

شخصية الإنسان في إدارة البُعد الرابع (الحياة المعقولة) | 63

تقسيم شخصية الإنسان إلى البُعد الدنيوي والبُعد الأخروي | 65

■ الفصل الرابع | 83

الإسلام والعلمانية | 84

نماذج من القواعد العامة | 102

السيادة والحكم في القرآن | 119

الآيات القرآنية المشتملة على الحكم وبعض مشتقاته | 120

■ الفصل الخامس | 133

علاقة الحكومة والسياسة بالأحكام الإلهية | 134

سلسلة مصطلحات معاصرة 2 العتبة العباسية المركز الاسلامي للدراسات الاستراتجية العلمانية دراسة وتحليل تأليف: العلامة محمد تقي الجعفري ترجمة السيد حسن مطر
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الأهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها،وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة. ثانيا: ازالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها لا سيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية. ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من اثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية
(4)

الفهرس

مقدمة المركز7

الفصل الأول

تعريف العلمانية وأسبابها ودوافعها10

إطلالة على منعطفات الكنيسة والدولة17

الكنيسة الرومية الكاثوليكية20

التضاد (والنزاع) بين الملوك والبابوات21

الوقائع الثلاثة التي مهّدت لظهور الأفكار العلمانية25

الفصل الثاني

دراسة ونقد أسباب ظهور الفكر العلماني في الغرب30

الفصل الثالث

آثار وتداعيات العلمانية50

شخصية الإنسان في إدارة البُعد الأول

(الحياة الحيوانية)53

شخصية الإنسان في البُعد الثاني

(الحياة مع الأصول والقوانين الموضوعية)54

(5)

الفهرس

شخصية الإنسان في البُعد الثالث55

شخصية الإنسان في إدارة البُعد الرابع

(الحياة المعقولة)63

تقسيم شخصية الإنسان إلى البُعد الدنيوي

والبُعد الأخروي!65

الفصل الرابع

الإسلام والعلمانية84

نماذج من القواعد العامة102

السيادة والحكم في القرآن119

الآيات القرآنية المشتملة على الحكم

وبعض مشتقاته121

الفصل الخامس

علاقة الحكومة والسياسة بالأحكام الإلهية134

(6)

 مقدمة المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً إلى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برمجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الاجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحو التالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أويجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

(7)

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص المركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

 *   *   *

في هذه الحلقة من سلسلة المفاهيم نقرأ دراسة حول مفهوم العلمانية للباحث الإسلامي العلامّة محمد تقي الجعفري.

فيها يتناول تعريف المصطلح في مصدره اللغوي والإصطلاحي فضلاً عن ظروف ودوافع نشأته في الفكر الغربي وفي تجارب الحداثة على وجه الخصوص.

كما يتطرّق البحث بالنقد والتحليل التاريخي لأسباب ظهور الفكرة العلمانية في الغرب، وتداعياتها الثقافية والسوسيولوجية، ولاسيما لجهة الآثار المعرفية التي ترتبت على ظهورها في حمى المواجهة مع الإيمان المسيحي. إلى ذلك أفرد الباحث فصلاً خصّصه لإجراء مقاربة سجالية بين العلمانية والإسلام.

والله ولي التوفيق

(8)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

تعريف العلمانية

وأسبابها ودوافعها

(9)

 

الفصل الأول

تعريف العلمانية وأسبابها ودوافعها

تعريف العلمانية والإلحاد والنظام العلماني باختصار[1]

يجب أن تكون لدينا ـ قبل كل شيء ـ وقفة على أصل مفهوم العلمانية[2]، المتناغم بالكامل مع مفاهيمه الاصطلاحية. فقد ورد شرح هذه الكلمة في المعاجم اللغوية والمصادر الموسوعية على النحو الآتي:

إن العلمانية تعني المخالفة للقواعد الشرعية والتعاليم الدينية، والانسجام مع الروح الدنيوية، واتباع الأصول الدنيوية والعرفية.

إن مادة العلمانية مرتبطة بالدنيا، ومنفصلة عن الروحانية، وغير دينية، وعامية، وعرفية، وأميّة، وخارجة عن الصوامع، ومخالفة للأمور الشرعية، ومنحازة إلى صيرورة الأشياء دنيوية.

إن العلمانية تعني الدنيوية، وغير الروحانية، والتحرر من قيود القساوسة أو الرهبانية، وتعميم الملكية، وتخصيص الأمور على غير الروحانية، والخروج عن عالم الروحانية (فيما يتعلق بالقساوسة)، وعبادة الدنيا، والانغماس في المادية، وإضفاء حالة من الدنيوية إلى العقائد أو المقامات الكنسية[3].

(10)

ويبقى هناك مصطلحان نرى ضرورة لبيانهما هنا تكميلاً للبحث، وهما:

ـ الإلحاد[1]: بمعنى إنكار وجود الله، وعدم الاعتقاد بوجود الباري تعالى[2].

ـ النظام العلماني أو ما يصطلح عليه في الإنجليزية بـ (Laicism): بمعنى التبعية إلى الشخص الدنيوي وغير الروحاني، والخروج من سلك الروحانية (بالمعنى الأخص)، وفصل الدين عن السياسة[3].

طبقاً للتعريف الوارد في دائرة المعارف البريطانية يعتبر النظام العلماني من مصاديق العلمانية؛ وذلك لأن فصل الدين عن السياسة أخص من العلمانية، والعلمانية أعم من النظام العلماني. إن هذين النمطين من التفكير لا يعملان على نفي الدين بالكامل، وإنما يبعدانه ويفصلانه عن شؤون الحياة الدنيوية، ولا سيما فيما يتعلق بالجانب السياسي من الحياة.

ـ الإلحاد: إن هذا النوع من التفكير حيث ينكر وجود الله، فإنه يحكم تلقائياً ببطلان الدين، ولا يتعامل مع الدين بوصفه أمراً واقعياً. نعم قد يعمل الإلحاد على توظيف الدين واتخاذه وسيلة وأداة لتحقيق مآربه وأهدافه، وهذا هو الأسلوب الميكافيلي الذي أسقط السياسة عن أصالتها.

(11)

لقد ظهرت العلمانية على الساحة الفكرية في العالم الغربي خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر للميلاد كنتيجة للصدام الفكري بين الأساليب الاجتماعية والسياسية للكنيسة. وكما سنرى فإن هذا التعارض ـ بالالتفات إلى معنى الحياة والدين والسياسة من وجهة نظر الإسلام ـ غير ممكن الحدوث؛ لأن العقائد الدينية، والسياسة، والعلم، والاقتصاد، والفقه، والحقوق، والثقافة، والفن، والأخلاق وما إلى ذلك، كلها من وجهة نظر الإسلام أجزاء لحقيقة واحدة.

هل يعود السلوك العلماني بجذوره إلى الفلسفة السياسية لأرسطوطاليس؟

هناك من المؤرخين للفلسفة السياسية من نسب النظرية العلمانية لأرسطوطاليس. بيد أن هذه النسبة غير صحيحة على الإطلاق. ومما قيل في ذلك:

«ومن بين الأمور التي غفل عنها كل من الفيلسوفين (دانته) و(توما الأكويني) أنهما لم يلتفتا إلى أهمية وخطورة المسلك العلماني، بمعنى عبادة الدنيا والانغماس فيها على ما هو كامن في تضاعيف كتاب «السياسة» لأرسطوطاليس. ولا سيما تلك الفرضية الناشئة من قوله: (إن المجتمع المدني في حدّ ذاته بالغ حدود الكمال والاستغناء، فلا يحتاج إلى التطهير والحصول على الإذن من عامل فوق الطبيعة»[1].

(12)

ولكن يرد على ذلك ما يلي:

أولاً: لم يُشاهد مثل هذا الأمر في المفاهيم المذكورة عن أرسطوطاليس.

ثانياً: إن أصل نظرية أرسطوطاليس، كالآتي:

1 ـ ماهية الحياة الفضلى؟ هناك نقطة أولى لا يجادل فيها أحد (لأنها تمثل الحق الصريح)، وهي أن المزايا التي يمكن أن يتمتع بها الإنسان منقسمة إلى ثلاثة أصناف، وهي:

1 – خيرات خارجة عنه.

2 ـ خيرات الجسم.

3 ـ خيرات النفس.

لا أحد يميل إلى الاعتقاد بسعادة الإنسان الذي ليس به من شجاعة ولا اعتدال  ولا عدالة ولا حكمة، والذي يضطرب لطيران ذبابة، والذي يستسلم لشهوات الظمأ والجوع الجافية، والذي هو مستعد لخيانة أعز أصدقائه من أجل سدس درهم. والذي قد انحد إدراكه يكون أبله يصدّق كل شيء كالصبي أو المجنون ... يظن المرء دائماً أن بحسبه ما به من فضيلة، وإن لم يكن به منها إلا قليل. أما الثروة والسلطان والصيت، فلا يرى المرء أبداً لهذه الخيرات حدوداً مهما كانت كمية ماله منه.

وبعد أن أثبت أرسطوطاليس أن السعادة عبارة عن مجموع الخيرات الثلاثة، وهي: (الخيرات الخارجة عن وجود الإنسان، والخيرات ذات الأبعاد الجسمانية، والخيرات ذات الأبعاد النفسية

(13)

والروحية)، انتقل إلى إثبات أن (خيرات النفس) مقدمة على جميع الخيرات فهي أكثرها أصالة، وإن هذه الخيرات هي التي تستطيع أن تحقق السعادة للإنسان. وفي ذلك يقول:

«وحينئذٍ إذا كانت النفس، إذ يُتكلم عنها على وجه مطلق ـ أو حتى بالإضافة إلينا ـ هي أنفس من الثروة ومن الجسم (والشهرة)، فكمالها وكمالهما يكون على هذا القياس. وبحسب قوانين الطبع، كل الخيرات الخارجية ليست مرغوباً فيها إلا لمنفعة النفس.

وحينئذ نحن نعد من الأمر المسلم به تماماً أن السعادة هي دائماً على نسبة الفضيلة والحكمة والطاعة لقوانينهما متخذين هنا شاهداً على أقوالنا الله نفسه الذي لا تتعلق سعادته العليا بالخيرات الخارجية، بل هي في ذاته وفي جوهر طبعه الخاص[1] ... يمكن للمصادفة الطارئة أن تكسبنا الخيرات الموضوعة خارج النفس في حين أن الإنسان ليس عادلاً ولا حكيماً مصادفة أو بسبب المصادفة. ونتيجة لهذا المبدأ ـ مستندة إلى الأدلة عينها ـ أن الدولة الفضلى (أو الجمهورية الفضلى) هي الدولة السعيدة والناجحة معاً.

فالدولة شأنها كشأن الفرد لا ينجح إلا بشرط الفضيلة والحكمة»[2].

من البديهي أن الفضيلة والحكمة والعدالة، ولا سيما مع الالتفات إلى استشهاد أرسطوطاليس بالله ـ والقول بأن هذه الحقائق موجودة في ذاته ـ لا يمكن أن تكون من نوع الأمور الطبيعية والدنيوية التي

(14)

تقوم على مجرد الغرائز والذات الطبيعية. ونتيجة لذلك فإن نظام الدولة والحكومة والسياسة لا يمكن أن يكون المراد منه (فصل الدين عن الحياة الدنيوية). وقد استطرد أرسطوطاليس قائلاً:

«قد تكون هذه الحياة الشريفة ذات الفضيلة والحكمة (المفعمة بالسعادة)، فوق طاقة الفرد، أو في الحد الأدنى إن الفرد الذي يعيش على هذه الشاكلة، قد لا تكون موافقة لطبيعته الاعتيادية، بل من ناحية أنه يعيش ضمن حقيقة مقدّسة، وبحجم عظمة هذا الأصل المقدّس يرتفع نشاط أصل السعادة، فإذا كان الإدراك أمراً مقدساً، فإن أسعد أنواع الحياة ستكون هي الحياة المدرَكة».

لا شك في أن مراد أرسطوطاليس ـ بالنظر إلى سائر آرائه ـ ليس مجرد الفهم والإدراك، بل هو الحكمة التي يكون الاتصاف بالفضيلة من مختصاتها، لا سيما بالالتفات إلى هذه العبارة الصريحة التي يقول فيها: «والسعادة الإلهية لا تمكن إلا بإدراك الأبدية»[1]، ومن الثابت أن مجرّد تصوّر الأبدية بشكلها المفهومي لا يمثل السعادة الحقيقية، بل إن السعادة الحقيقية لإدراك وفهم الأبدية يكمن في التعرّض لشعاع وجاذبية الكمال السرمدي المطلق الذي هو فوق الأزل والأبد. يقول أرسطوطاليس:

«إن السعادة لا تكون بالبخت والاتفاق، بل هي موهبة من الله يغتبط الإنسان بها حيث يستحق هذه الموهبة بمجهوده. ومن هنا وقع الشك في أمر السعادة، هل هي شيء يُتعلم أم يُعتاد أم يُستفاد بجهة أخرى؟ أو أنها تأتي بحظ من الله أم بالبخت والاتفاق؟ إلا

(15)

أنه إن كان ههنا موهبة من الله للناس فخليق بها أن تكون موهبة من الله[1] على الناس ... ولكن النظر في هذا الأمر أشبه به أن يترك. فقد تبيّن أنه إن لم تكن موهبة من الله، بل كانت فضيلة أو بعلم أو اكتساب، فهي من الأمور التي هي في غاية الشرف والجلالة، لأن غاية الغايات وما يستفاد منها يرى أنه أمر إلهي يغتبط الإنسان به»[2].

بلحاظ هذه العبارة لا تكون نسبة التفكير العلماني إلى أرسطوطاليس قائمة على مستند صحيح. وأما ما نقل عن أرسطوطاليس من القول: «فالطبع ـ إذن ـ يدفع الناس بغرائزهم إلى الاجتماع السياسي»[3]. فلا يتنافى ـ أبداً ـ مع ضرورة تحصيل الإنسان للسعادة والفضيلة على المستوى الفردي والجماعي بواسطة الدولة والسياسة؛ لأن هذه العبارة تنسب سياسة الإنسان إلى طبعه، وأما ماهية وإدارة وغاية السياسة ـ المتمثلة في العبارات اللاحقة بـ «السعادة» ـ فقد سكت عنها في هذه العبارة.

وأما ضرورة تحصيل السعادة والفضيلة للناس من وجهة نظر أرسطوطاليس فقد تمّ التنبيه إليها في كل من كتابيه (السياسة) و(الأخلاق) بكثرة. وكما لاحظنا في التاريخ السياسي للمجتمع البشري فقد تم طرح السياسة الثيوقراطية[4] في قبال المنهج الفكري القائم على أساس فصل الدين عن الدولة أيضاً، وإن معنىv

(16)

الثيوقراطية على ما ورد في المعاجم اللغوية والمصادر الموسوعية هو «الحكومة الإلهية، وسيادة الله، والحكومة التي يكون الإله هو السلطان فيها، والاعتقاد بوجوب إقامة الحكومة الإلهية، وإدارة الدولة على طبق الأحكام الإلهية ...»[1].

ولكي نقف على مسار ومنعطفات الدولة والكنيسة والظواهر السياسية المتمثلة بالثيوقراطية (الحكومة الدينية) والعلمانية (فصل الدين عن مسرح الحياة الدنيوية والسياسية) من الضروري أن تكون لنا إطلالة سريعة على تاريخ هذه المنعطفات.

إطلالة على منعطفات الكنيسة والدولة

جاء في دائرة المعارف البريطانية حول الكنيسة والدولة[2]: «إن المسألة مورد النزاع تكمن في أن كلتا المؤسستين الرسميتين (الكنيسة والدولة) في المجتمع الواحد بجميع أفراده تدعيان الوفاء والتبعية للشعب»[3]. ومن الناحية النظرية طبقاً للفقرة الحادية والعشرين من الإصحاح الثاني والعشرين من إنجيل متى يجب العمل بحسب القاعدة القائلة: «دعوا ما لقيصر لقيصر، ودعوا ما لله لله». وأما من الناحية العملية فيقع التضاد والتنافي بين ادعاء الحكم للسلطة الدنيوية وادعاء الحكم لسلطة الدينية والروحية.

فلم يكن هذا الفصل في المجتمعات السابقة بين الأبعاد الدينية

(17)

والدنيوية من الحياة الاجتماعية ـ على نحو ما هو سائد حالياً ـ بالأمر الممكن من الناحية العملية. فإن الحضارات القديمة كانت تعتبر الملك أو الحاكم خليفة الله (السلطات الإلهية ـ السماوية). وحتى في مرحلة اعتناق الإمبراطور الروماني للديانة المسيحية كان شخص الإمبراطور يتمتع بصفة أعلى مرجعية دينية حيث يشرف ديانة وولاية (الإمبراطورية)، بل أضحى مورداً للعبادة بوصفه «إلهاً في الأرض».

وعلى كل حال فإن مفهومي «الدولة» و«الكنيسة» إنما يتجليان بوصفهما هويتين منفصلتين، عندما يتم رسم الخط الفاصل الذي يميّز بين المجتمع البشري العلماني من جهة، والمجتمع أو المجتمعات الدينية ضمن إطار الوجود السياسي من جهة أخرى. وعليه من غير الصحيح القول إن الفصل بين الدين والدولة قد بدأ من المسيحية، رغم أن المسيحية تتحمّل القسط الأكبر من المسؤولية في هذا الشأن. بيد أن الأمر قد بدأ بالدين اليهودي؛ إذ بعد سقوط أورشليم سنة 586 ق م لم يعد اليهود يمثلون مجتمعاً سياسياً مستقلاً، بل تحولوا من حينها إلى أقلية دينية في إطار وصلب دولة غير يهودية، ومنذ ذلك الحين مالوا إلى التفكير في عضويتهم ضمن المجتمع الديني الخاص بهم، ومواطنتهم العلمانية بوصفهما أمرين منفصلين. وبعد ظهور الديانة المسيحية تعيّن على المسيحيين أن يعيشوا لفترات طويلة تحت سيطرة الحكومات غير المسيحية.

وبعد انتهاء مرحلة معاناة المسيحيين التي تمثلت بسنوات طويلة من الهروب والسجن والتعذيب والقتل والتشريد، وبداية مرحلة

(18)

التسامح الديني من قبل الإمبراطور قسطنطين العظيم في القرن الرابع للميلاد، واجهه المسيحيون السؤال الجوهري القائل: ما هو نوع العلاقة التي يجب أن تقوم بينهم (رجال الكنيسة) وبين السلطة السياسية للإمبراطورية وحكامها الذين أصبحوا من المسيحيين أيضاً؟ لا شك في أن الأباطرة المسيحيين قد احتفظوا لأنفسهم بتلك المنزلة التي كانوا يرونها لأنفسهم قبل أن يتحولوا إلى المسيحية، حيث كانوا يعتبرون أنفسهم ـ طبقاً للتفكير الروماني الشركي القديم ـ فلم يقتصروا على اعتبار أنفسهم مجرد حماة للكنيسة، بل كانوا بمعنى من المعاني هم قادة الكنيسة الروحيين أيضاً.

ومنذ عهد العظيم ثيودوسيوس الأول في نهاية القرن الرابع للميلاد لم تتحول المسيحية إلى دين الإمبراطورية الرومانية، وتم القضاء على جميع مظاهر الشرك والبدع فحسب، بل كانت هذه المرحلة هي بداية لتحول الكنيسة والسلطة إلى وجهين لعملة المجتمع المسيحي الواحد. حيث أضحى للمسيحية نوع من الرقابة والإشراف المعنوي والسلطة السياسية على كافة المواطنين بمن فيهم القادة والزعماء السياسيين في المجتمع».

وقد ورد في ذات المصدر:[1] يمكن تعريف الكنيسة الأورثودوكسية الشرقية بـ  «النظام البيزنطي أو الشرقي بوصفه (Caesaropapism)، بمعنى: (الحكومة المطلقة لرجال الدين أو «البابوية القيصرية»). لقد كان الأباطرة الشرقيون يعتبرون أنفسهم حماة وحراساً على الكنيسة، وأن الله هو الذي منحهم هذه السلطة،

(19)

حيث كان بإمكانهم إصدار الأحكام فيما يتعلق بشؤون القسس
(أو الكنيسة) وضوابطها، وكان يتم التعامل مع هذه الأحكام من قبل الكنيسة بوصفها جزءاً من قوانين الشريعة. وهذا ـ بطبيعة الحال ـ لا يعني أن الكنيسة كانت مستسلمة للسلطة السياسية بالمطلق، بل إن هذه العلاقة الجدلية المصحوبة بالتقدّم والتقهقر المتبادل كانت تقاس بحجم قوة قادة الكنيسة أو السلطة والحكومات في الأزمنة المختلفة، وحيث كان بعض القياصرة لا يراعون الحدود الأخلاقية للكنيسة، كانت الكنيسة تسحب دعمها لهم بشكل تدريجي.

وقد عمد (لويس بريهير)[1] ـ وهو من كبار الخبراء في الشأن البيزنطي ـ إلى تعريف نظام الحكم في بيزنطة (الروم الشرقية، والقسطنطينية، وإسطنبول) لا على أساس الـ (Caesaropapism)، بل بوصفه سلطة دينية وثيوقراطية يتمتع الإمبراطور فيها بسلطات واسعة (ولكن لا على نحو الحصر الذي لا يقبل الاستثناء في بعض المفاصل التاريخية).

الكنيسة الرومية الكاثوليكية

حتى القرن الحادي عشر للميلاد لم يكن الوضع في الشطر الغربي من العالم المسيحي مختلفاً إلى حدّ كبير، رغم أن البابا الذي كان يدعي السلطة المعنوية والروحية لنفسه على جميع أنحاء الرقعة الجغرافية للمسيحية، إلا أنه كان يتمتع بسلطة كبيرة لم يتمتع بها أي واحد من كبار أساقفة القسطنطينية.

(20)

التضاد (والنزاع) بين الملوك والبابوات

في الفترة الواقعة ما بين القرن الحادي عشر والثالث عشر للميلاد كانت هذه النظرية قائمة سواء على المستوى العلني أو الضمني، حيث كانت سلطة القساوسة (ورجال الكنيسة) أقوى ـ بطبيعة الحال ـ من السلطة العلمانية، حيث كان بإمكانها السيطرة على القرار في نهاية المطاف. لم يكن رجال الإكليروس يعتقدون بهذه النظرية، وإنما كانوا يتمتعون بتأثير كبير في النزاع المحتدم بين البابا والإمبراطورية الرومية المقدسة، والذي كان متفشياً في حينها على نطاق واسع. إن الدفاع عن هذه النظرية كان يقوم في العادة على أن شخص الحاكم إذا قام بانتهاك القوانين الأخلاقية المسيحية أثناء ممارسته لسلطته، فإنه سيكون عرضة للتحجيم من قبل الكنيسة ـ شأنه في ذلك شأن أي شخص مسيحي آخر ـ وسيغدو غرضاً لسهام نقد الكنيسة وتقريعها، وكان من شأن ذلك أن يجعل منه لقمة سائغة في أفواه عامة الناس (من غير رجال الدين) من الأوفياء والمخلصين للكنيسة، يلوكونه إلى حدّ الضغط عليه وتهديده حتى باستعمال القوّة. (وهذا هو الاستدلال الذي يستدل به في مورد السلطة غير المباشرة الممنوحة للبابا في التدخل بالشؤون الدنيوية).

والأطروحة الأكثر تطرّفاً التي قدمها البابا بونتيفاس تقوم على أن السلطات الممنوحة من قبل السيد المسيح عيسى ـ عليه‌السلام ـ لـ (سان بطرس) والحواريين، ويتمّ تفويضها من قبلهم إلى خلفائهم (من القساوسة والبابوات) تشمل السلطة الدنيوية الغائية أيضاً، وذلك لأن السلطة الروحية والمعنوية بطبيعتها (الماهوية والذاتية)

(21)

أقوى من السلطة الدنيوية (المادية). فقد ذهب إلى الاعتقاد بأن السيد المسيح عيسى ـ عليه‌السلام ـ قد منح القديس بطرس  وخلفاءه سيفين[1]. وقد كان هذان السيفان رمزين للسلطتين: السلطة المعنوية والروحية، والسلطة المادية (الدنيوية)، وكان البابوات يتولون السلطة المعنوية والروحية بأنفسهم، في حين كانوا يفوّضون السيف الدنيوي لأشخاص من خارج رجال الدين، وكان على هؤلاء الأشخاص توظيف هذا السيف على طبق تعاليم وتوجيهات البابا.

فصل الدين عن الدولة (الفصل بن الكنيسة والسلطة السياسية)

ربما كان (مارتن لوثر) ـ من الناحية النظرية ـ هو الذي قدم أكثر النظريات راديكالية بشأن فصل الدين عن السياسة. فقد قدّم في هذا الإطار نظرية تحت عنوان (ملكيتين)[2]. ويمكن اختصار رؤيته في هذا الشأن على النحو الآتي: «يجب أن يحكم إنجيل الله رقعة الكنيسة، وقانون الشريعة يجب أن يحكم رقعة المجتمع. لو أردنا إدارة الكنيسة بالقانون الديني (Law) أو المجتمع بواسطة الإنجيل (Gospel)، سوف يضطرّ الناس إلى سحب القانون والقرارات إلى رقعة اللطف والفيض الإلهي، ومن ناحية أخرى سحب الأحاسيس والعواطف إلى رقعة العدالة (الاجتماعية)، وستكون نتيجة ذلك تجريد الله من سلطانه، بعد تتويج الشيطان ملكاً يحكم علاقاتهم ونظامهم الاجتماعي (Civil) واتخاذ ذلك ديناً رسمياً في المناطق ذات الأكثرية السكانية، مثل: ألمانيا والبلدان الإسكندنافية.

(22)

وفي الكثير من المناطق كان الأمراء ـ من الناحية العملية ـ يتمتعون بذات النوع من الإدارة والإشراف الممنوح للأساقفة الكاثوليكيين في روما.

وقد بذل (جان كالون) جهوداً نظرية (Theoritical) أقل في سياق فصل الرقعة الدينية عن غير الدينية (Civil). وكان يرى ضرورة أن تغدو جنيف حكومة ثيوقراطية يحكمها القديسون. حيث كان يجب إقامة المجتمع الإلهي الموعود على أساس الشريعة الإلهية كما أوحي في الكتاب المقدس. ولم يكن هناك جزء من الحياة الاجتماعية أو المدنية على هذا المستوى من البعد أو العلمانية أو على هذا المستوى من عدم الأهمية التي تتيح له الهروب والانفصال عن دائرة إشراف أو سلطة قرارات الكالونيين.

إننا نرى مفهوم العلمانية في التاريخ السياسي والديني القديم للشرق غير الإسلامي والغرب بشكل أوضح وأكثر تحديداً ـ إلى حدّ ما ـ من المفهوم الثيوقراطي؛ لأن مفهوم فصل الدين عن الحياة الدنيوية والسياسة والعلم أوضح  بكثير من الثيوقراطية (حكومة الله) في المجتمع. إن عدم تدخل الدين في الحياة السياسية والاجتماعية الدنيوية واستناد الإدارة وتوجيه دفّة الحياة الفردية والجماعية إلى الإنسان يعد مفهوماً واضحاً لا يصعب إدراكه. في حين أن مفهوم الحاكمية الإلهية في المجتمع ـ حيث يحتمل العديد من المعاني المتنوّعة ـ يبدو مبهماً وغامضاً. وفيما يلي نذكر احتمالين هامين بشأن المفهوم المذكور:

الاحتمال الأول: إن جميع الفاعلين والناشطين في الشأن السياسي

(23)

والعلمي والثقافي والاقتصادي والحقوقي للمجتمع يحصلون على الواقعية بشأن الأمور المذكورة عن الله مباشرة من طريق الوحي أو الإلهام. إن هذا الاحتمال لا يصحّ بأيّ وجه من الوجوه؛ إذ أولاً: لم يثبت أن ادعى قادة المجتمع نزول الوحي عليهم (باستثناء الأنبياء الذين حصلوا على الحقيقة الدينية من طريق الوحي وقاموا بإبلاغها إلى الناس). وثانياً: لو أن الوحي كان ينزل على قادة المجتمع حقاً، لما وقع الخلاف بينهم، في حين أن النزاع والخلاف قد وقع بينهم بكثرة، بل تحول إلى مواجهات وصدامات أحياناً.

الاحتمال الثاني: إن قادة المجتمع من السياسيين كانوا يحصلون على قدر من التهذيب والصفاء الروحي بحيث تعرض عليهم حالة من الشهود وينكشف لهم الواقع من الله سبحانه وتعالى، ويطبقون ما يشاهدونه من الحقائق في حياة الناس. من البديهي أن قادة المجتمع ـ بالإضافة إلى الاختلافات القائمة فيما بينهم ـ كانوا يرتبون أخطاء لا يمكن نسبته إلى الله تعالى.

وعليه كما أشرنا في بداية البحث فإن العلمانية كانت للوهلة الأولى في الأسلوب الاجتماعي الخاص من التعارض الشديد بين رجال الكنيسة ورجال السياسة والمجتمع. وقيل في بيان الجذور الرئيسة لهذا التعارض: إن جميع النزاعات وتحليل الأفكار والتحولات الفكرية قد تجلت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر للميلاد وأخذ يتطوّر بالتدريج. إن هذا التحول الفكري قد حدث في إطار ثلاثة وقائع معروفة، وسوف نتناول الواقعة الأولى في هذا الفصل، ونرجئ البحث في الواقعتين الأخريين إلى الفصل اللاحق.

(24)

الوقائع الثلاثة التي مهّدت لظهور الأفكار العلمانية

الواقعة الأولى: عبارة عن النزاع الذي احتدم بين سلطة البابا والسلطة الفرنسية ما بين الأعوام من 1269 إلى 1303 م، وكانت نتيجة ذلك بلوغ فرضية إمبريالية البابا حدّ الكمال بعد إدراجها في قانون الشرع، ولكن في الوقت نفسه وإثر ضم الشعوب الفرنسية إلى بعضها وتشكيل السلطنة الفرنسية وتعزيز الشعور بالانتماء الوطني في فرنسا، تعرّضت هذه الفرضية إلى انتكاسة كبيرة، ومنذ ذلك التاريخ لم تستطع استعادة مكانتها السابقة. ومن هنا تبلورت بالتدريج مسألة الاعتراض على إمبريالية البابا في نهاية هذه الواقعة، وتم تحديد معالم أهدافه وتوجهاته شيئاً فشيئاً، وظهرت فكرة وجوب تحديد سلطات رجال الدين وحصرها. كما نتجت عن هذه الفكرة ظاهرة أخرى هامة أيضاً وهي مسألة استقلال جميع السلطات بوصفها مؤسسات سياسية مستقلة في المجتمع. وفي الحقيقة يمكن القول: إن بذرة الوطنية[1] الأصيلة، وحق الملكية واستقلال الشعوب التي نمت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد، قد غرست في تلك المرحلة من الزمن.

الواقعة الثانية: الصراع بين يوحنا الثاني والعشرين ولويس البافاري، والذي استمر لما يقرب من ربع قرن، وقد بدأ هذا النزاع بالاعتراض على استقلال البابا. وفي هذا الصراع بادر أولاً (غيوم دوكام) ـ المتحدّث باسم الروحانيين الأورثودوكس الفرنسيسكانيين

(25)

(ممثل المنحرفين بحسب قول أنصار البابا) ـ إلى معارضة استقلال البابا، وأخذ يقود جميع عناصر المعارضة للبابا والتقاليد المسيحية وتحشيدهم إلى صفه. وثانياً: عمد (مارسيل دوبادو) إلى بسط فرضية استغناء المجتمع المدني وعمل على تطويرها وإخراجها على شكل نوع من العلمانية (الدنيوية) المقرونة بالتقوى والقريبة من المذهب الآراستي الذي يعني اتباع عقيدة توماس آراست (في القرن السادس عشر للميلاد) القائم على أن الحكومة يجب أن تتولى قيادة شؤون الكنيسة والدين، وأن على الكنيسة والدين تبعاً للحكومة. وفي أثناء هذا الصراع تكاملت فرضية تحجيم السلطة السياسية لرجال الدين وحصر مسؤولياتهم بشؤون العالم الآخر، مع بقاء الكنيسة تحمل عنوانها بوصفها مؤسسة اجتماعية.

الواقعة الثالثة: عبارة عن الصراع الداخلي الأول من نوعه والذي احتدم داخل الكنيسة بين رجال الدين أنفسهم. وقد اختلف نوع هذا الصراع عن الصراعات السابقة بين السلطتين الروحية والمادية، حيث اتخذت معارضة سلطة البابا المطلقة في هذا الصراع شكلاً جديداً. وكانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ المسيحية التي يسعى فيها رعايا وأتباع السلطة الحاكمة بالمطلق ـ تحت ذريعة القيام بالإصلاحات ـ إلى فرض قيود دستورية[1]، وإرغام سيدهم على القبول بالحكم التمثيلي. بيد أن هذا الصراع لم يحسم لصالح المعارضين للبابا، ولم يفلح الحزب المعروف بكونسيليد (دعاة التهدئة) في تحقيق أهدافه، ولكنه أسس لفلسفة سياسية سوف تؤدي

(26)

في المستقبل إلى تحقيق نتائج سياسية هامة وإحداث تحوّلات عظيمة. حيث أدى هذا الصراع إلى فتح باب الحوار والجدل بين الزعماء الدنيويين ورعاياهم، بمعنى أنه أيقظ رعايا الحكام السياسيين، وحثهم على التفكير في تحجيم سلطة الحكام بواسطة عنصري الدستور والحكم التمثيلي ...»[1].

كان هذا هو المنشأ الإجمالي لانتشار الفكر العلماني في الغرب، حيث اعتبر الدين مخالفاً ومعارضاً للعدالة والحرية والعلم.

لقد كان من شأن هذه الوقائع الثلاثة أن تعمل على إصلاح الدين (وأرباب الكنيسة) على يد أدعياء الطليعية، ولكن هؤلاء الأدعياء خدشوا الإنسانية وجرحوها بسبب إفراطهم وتفريطهم في تقييم الدين. ثم جاء ميكافيللي ليزيد هذا الجرح عمقاً. ولو قدر أن ينقطع تيار الحياة الدينية في أفئدة الكثير من سكان وشعوب الشرق وحتى الغرب، لما بقي هناك من أمل في نجاة الإنسان الذي يعاني أصلاً من حالة الاحتضار التي كان قد وقع فيها.

أيها الخالق العظيم، أيها القادر المطلق، وأيها الحكيم على الإطلاق، ما أقوى وأعظم الخلق الذي أبدعته، وما أعظم وأقوى حكمتك ومشيئتك التي رددت بها جميع الهجمات التي شنها الجاهلون بهدف القضاء على الدين متسلحين بسلاح الترويج للميكافيللية والدعوة إلى أصالة القوّة والاختيار الطبيعي، وغيرها من الأسلحة الفتاكة، دون أن يتمكنوا من استئصال جذور الحياة الدينية من وجدان البشر.

(27)

وقد بلغت الغفلة بهؤلاء الطالحين حدّاً تصوّروا معه أن باستطاعتهم تحديد ما يتعين على الإنسان فعله في المستقبل أيضاً، حتى قال بعضهم: يتعيّن على الإنسان أن يسير على هذا الطريق الذي نحدده له إلى الأبد! إن هؤلاء لم يأخذوا بنظر الاعتبار أن ذرية أبناء آدم ـ عليه‌السلام ـ يأتون إلى الدنيا بحياة جديدة وذهن ونفس جديد، وإنهم سيدخلون هذا العالم بعيداً عن تحديد مصيرهم من قبل هؤلاء؛ فإذا لم يتم تلقينهم الإلحاد بواسطة هؤلاء المغرورين من عبيد الدنيا والمستبدين والأنانيين من دعاة الإلحاد والعلمانيين، سوف ينعمون بجميع الأصول والقيم الإنسانية السامية.

فيا حبذا لو رفع هؤلاء رؤوسهم من التراب لبضع لحظات؛ ليسمعوا صرخات الندم بسبب الإفراط والتفريط الذي ارتكبوه في إنكارهم للدين.

(28)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

دراسة ونقد أسباب ظهور

الفكر العلماني في الغرب

(29)

الفصل الثاني

دراسة ونقد أسباب ظهور الفكر العلماني في الغرب

سوف نطرح في هذا البحث عدداً من المسائل على المحققين المحترمين، وذلك على النحو الآتي:

المسألة الأولى: هل كان هؤلاء المستبدون والمتسلطون وكل صاحب منصب يرى نفسه فوق أن يُسأل، يعتقدون حقاً أن العلم والحرية يقفان حقاً في مواجهة الدين الإلهي؟ من الواضح بداهة أن الجواب عن هذا السؤال هو النفي القاطع. إننا بالنظر إلى الكمال المطلق لمنزل الدين وحكمته الربانية والغاية التي من أجلها أنزل الدين إلى الناس، لا يبقى أمامنا من خيار سوى الاعتقاد بأن ماهية الدين عبارة عن تنمية جميع الطاقات والقابليات السامية من أجل الوصول إلى جاذبية الكمال الإلهي الأسمى. وعليه فإن الغاية العظمى والهدف الأسمى للدين يكمن في تزويد جميع الناس بالفكر والتعقل والحرية المعقولة  والكرامة والشرف الإنساني، الذي لا ينسجم أبداً مع الجمود الفكري والإكراه والذل والمهانة.

ولذلك لو حدث في التاريخ عدوان وظلم وترويج للجهل ونشر للظلام باسم الدين، فإنه ليس من الدين قطعاً، بل هو ناشئ بدافع من مصالح الجبابرة والسلطويين الذين يتخذون من الدين ذريعة للوصول إلى مآربهم، سواء أكان ذلك الدين هو دين اليهودية أو

(30)

المسيحية أو الإسلام. ونحن نوظف ذات هذا الاستدلال لانتشال ظاهرة السياسة القيّمة وكذلك الحقوق والاقتصاد والأخلاق والفن، من براثن المستبدين الذين يريدون احتكار تفسير جميع الحقائق لأنفسهم، لأننا جميعاً نعلم أن السياسة عبارة عن إدارة الحياة الاجتماعية للبشر في مسار الأهداف والغاياة السامية من الحياة. فهل من المعقول أن نقول: حيث أن ظاهرة السياسة الميكافيللية قد تسببت على طول التاريخ بإزهاق آلاف الأرواح البريئة وسفكت الدماء الطاهرة، وهي مستمرة بهضم حقوق الناس على طول الخط، إذن يجب أن نلغي السياسة من مسرح الحياة؟! ألم يعمل الأقوياء من البشر على إساءة استغلال قوتهم لمنافعهم الشخصية؟ الجواب: نعم، من دون شك. ولو أن شخصاً ادعى أن المفاهيم من قبيل: (الحقوق، والاقتصاد، والأخلاق، والفن) لم يتم إساءة استغلالها أبداً، فهو إما جاهل بحقائق التاريخ الخالدة أو أنه مغرض بلغ به الحقد حدّ الخروج على ذاته وضميره.

المسألة الثانية: يمكن الرجوع إلى الكتب السماوية الثلاثة وهي: القرآن الكريم، والإنجيل، والتوراة لإثبات أن الاستبداد وممارسة العنف بالقوّة، واستغلال المناصب وطلب الجاه والسلطة واكتناز الثروة لا ربط له أصلاً بالأديان الإلهية (الديانات الإبراهيمية الفطرية) الثلاثة المتمثلة بالإسلام والمسيحية واليهودية إطلاقاً. فقد صرّحت هذه الكتب المقدسة ـ ولا سيما القرآن منها ـ بما لا لبس فيه أن الدين الإبراهيمي ـ الذي عرّف النبي الأكرم (ص) نفسه بأنه من القائلين به ـ يعارض الظلم والعدوان والاستبداد والجهل والجمود

(31)

الفكري، وكما سنرى في الأبحاث القادمة أن القرآن الكريم يؤكد على أن الغاية من بعث الأنبياء هي: التعليم والتزكية والحكمة وإقامة القسط والعدل بين الناس. وهذه الغاية لا تتناسب أبداً مع السلوك الذي شهدناه على طول التاريخ من المتصدين في المذاهب الإسلامية وغير الإسلامية (كالمسيحية على سبيل المثال).

المسألة الثالثة: يجب اليوم التحقيق بدقة عالية في مسألة «فصل الدين عن الدنيا» بوصفها مسألة علمية واجتماعية وسياسية. فهل هي مسألة علمية متأصلة في الواقع، بمعنى آخر: هل فصل الدين عن الشؤون السياسية والاجتماعية باعتبار هذه الشؤون دنيوية خالصة، يعبّر عن حقيقة طبيعية قام المفكرون بشرحها وبسط البيان فيها، أم أن المنظور الأصلي ـ بالنظر إلى بعض العوامل الملموسة وغير الملموسة ـ من جميع هذه الأبحاث، هو أن هذه الأمور «يجب أن تكون كذلك ضرورة»؟ بمعنى أنه يجب فصل الدين عن السياسة والعلم والحقوق والاقتصاد والفن والأخلاق وحتى العرفان!

ومن الأمور التي تدعو إلى العجب من هذا التيار الفكري هو أن الكتّاب الذين وظفوا أقلامهم في الكتابة عن «فصل الدين عن الدنيا» مستندين إلى أدلة علمية ـ بزعمهم ـ هم أنفسهم الذي قاموا ـ من جهة ـ بتوظيف المنهج الميكافيللي في العلم! أخذوا يتحدثون ـ من جهة أخرى ـ عن ضرورة الفصل بين «الحقائق» و«الضرورات» متجاهلين جميع الأجوبة المقنعة التي تمّ تقديمها لهم، مستخدمين ذات المنهج الميكافيللي الذي يدفعهم إلى أن يصوغوا من «فرضية» خيالية «غير واقعية» (وهي القول بفصل الدين عن السياسة) الذي

(32)

هو مجرد وهم وخيال لا أكثر، ليستنتجوا منها «حقيقة» تقول: (إن الدين يجب أن يكون منفصلاً عن السياسة)!

المسألة الرابعة: إننا الآن نغض الطرف عن الماضي، ونقصر النظر على الواقع الراهن حيث شاع في الغرب النمط الفكري القائم على «فصل الدين عن مسرح الحياة الدنيوية»، وقد أدى هذا النمط الفكري إلى إفراز نتائج ومعطيات متطابقة مع رغبة المجتمعات الغربية.

فهل نستطيع بدورنا أن نعمل على تطبيق ذات المنهج الفكري؟!

إن الإجابة عن هذا السؤال كالآتي: إن الوضع الراهن في الغرب ـ بالنظر إلى التطوّر العلمي والتكنولوجي وتنظيم الظواهر والعلاقات الاجتماعية في حياة الناس ـ لم يكن نتيجة لفصل الدين الإلهي الفطري عن المجتمع، بل هو نتاج فصل رجال الدين المستبدين الذين فسروا الدين الإلهي ـ الضامن لإصلاح الناس ـ على طبق أهوائهم ورغباتهم، وعملوا على تطبيق هذا التفسير وتنفيذه خدمة لاستبدادهم. وعندما عمد الناس في الغرب إلى فصل الدين تحت ذريعة فصل أولئك الذين يشكلون إزعاجاً لـ «الحياة المعقولة»، كان مرادهم من ذلك هو الدين المختلق والزائف الذي صنعه الذين تصدوا لتفسير الدين وتمثيله؛ فصوّروه ديناً مخالفاً للعلم والتقدّم والحرية المعقولة والعدالة والكرامة الذاتية للإنسان. وهذا في الحقيقة لا يمكن أن ينطبق من الناحية المنطقية على الإسلام بأيّ وجه من الوجوه. إذ من المحال بداهة أن يعمد الدين الإسلامي ـ الذي قدّم للإنسان والإنسانية واحدة من الحضارتين اللتين شهدهما

(33)

تاريخ البشرية[1] ـ إلى حرمان هذه الحضارة الإنسانية من نعمة العلم والسياسة والاقتصاد والحقوق.

وسوف نتناول في الأبحاث الآتية أدلة خواء الوهم القائل بـ «فصل الدين عن مسرح الحياة الدنيوية» في المجتمعات الإسلامية بتفصيل نسبي.

المسألة الخامسة: بالالتفات إلى حقيقة أن عنصر أو عناصر شيوع ظاهرة «فصل الدين عن الحياة الدنيوية» في الغرب لا ينطبق بأيّ وجه من الوجوه على الدين الإسلامي، يعد الترويج إلى هذا النوع من التفكير في الأوساط الإسلامية فاقداً للروح العلمية والنظرة الواقعية للأمور، ولذلك يجب علينا أن نبحث عن أسباب هذا النشاط المحموم في أمور أخرى.

وفيما يلي نبحث في بيان حقيقة أن الاستناد إلى تلك العناصر والأسباب التي أدت إلى ظهور وانتشار «فصل الدين عن السياسة» في الغرب، وتطبيقها على الدين الإسلامي والمجتمعات الإسلامي لا يعدو أن يكون خطأ محضاً.

والخطوة الأولى في هذا الاتجاه عبارة عن مفهوم الحياة والدين والسياسة من وجهة نظر العالم الغربي المعاصر (وذلك في مسرح الحياة الاجتماعية لهذا العالم على أقل التقادير)، ومن وجهة نظر الإسلام وتلك المجتمعات المتأثرة بالثقافة الإسلامية، وذلك لوجود الاختلاف بين الإسلام والغرب في تفسير مفهوم الحقائق المذكورة آنفاً.

(34)

1 ـ المعنى الطبيعي للحياة في الغرب المعاصر: لا يعدو أن يكون معنى الحياة في الغرب مفهوم الحياة الاعتيادية التي تتبلور في مسرح عالم الطبيعة، والذي يقوم على أساس الأنانية الحرة والمنفلتة في إشباع الغرائز الطبيعية المؤطرة لصالح الحياة الاجتماعية غير الملتزمة بعقيدة خاصة تجاه معنى الحياة وتبريرها على أساس غاية عليا، ومن دون الشعور بالتكليف والتخلق بالأخلاق الإنسانية العالية (لتهذيب النفس في مسار الأبدية).

2 ـ المعنى الطبيعي للدين في الغرب المعاصر: عبارة عن ارتباط روحي على المستوى الشخصي بين الإنسان وبين الله والحقائق ما فوق الطبيعية الأخرى، دون أن يكون لها أدنى تأثير أو دور في مسرح الحياة الدنيوية للبشر.

3 ـ المعنى الطبيعي للسياسة في الغرب المعاصر: عبارة عن توجيه وإدارة دفة الحياة الطبيعية للناس في المجتمع وهدايتهم نحو الأهداف والغايات التي يبدو أن الأكثرية تختارها لنفسها بحسب الظاهر. ومن خلال الالتفات إلى التعريف الذي قدمناه آنفاً للدين والسياسة، يبدو عدم ضرورة وجود الدين في السياسة وأنشطتها للحياة ـ سواء الفردية منها أو الاجتماعية ـ أمراً بديهياً تماماً؛ إذ لا ضرورة لظاهرة الدين من وجهة نظر إدارة المجتمعات الغربية لا على مستوى الحياة الفردية، ولا على مستوى الحياة الاجتماعية.

وبطبيعة الحال فإن مفهوم الحياة والدين والسياسة في الغرب وما هي الفترة الزمنية والتاريخية التي تبلورت فيها، وما هي الأسباب التي أكسبتها هذه المفاهيم ـ رغم المقدمة التحقيقية التي أوردناها

(35)

في المبحث الأول لدراسة الوقائع الثلاثة بشأنها ـ تحتاج إلى مزيد من الدراسات والأبحاث التفصيلية التي يجب أن يكتب لها الظهور في المستقبل.

وعلى أساس المعاني المذكورة أعلاه من زاوية الرؤية الغربية المعاصرة للحياة والدين والسياسة، أصبح من المقطوع به أنه لا يجب أن يقتصر الأمر على فصل الدين عن السياسة فحسب؛ إذ لا وجود لنقطة التقاء بين هذين المفهومين أبداً، بل إن حياة الفرد بدورها لا تحتوي على ارتباط شامل مع الدين، إلا في حدود اتخاذ الدين وسيلة للشؤون الأنانية؛ إذ بناء على تعريف الدين ـ طبقاً للرؤية أعلاه ـ فإنه عبارة عن نوع من إشباع وإرضاء الإحساس الشخصي الذي قد يكون معلولاً لعلل غير واقعية.

إن النمط الفكري لـ «فصل الدين عن السياسة» القائم على أساس التعاريف المذكورة أعلاه بشأن الدين والسياسة والحياة، لا ينسجم أبداً مع التعاريف الواردة بشأنها في الإسلام. ومن أجل إثبات نمط التفكير المذكور مع الإسلام وأصول العلوم الإنسانية، نتعرّض فيما يلي إلى تعريف وبيان ماهية وخصائص هذه المفاهيم الثلاثة، وذلك على النحو الآتي:

الحياة الإنسانية من منظار الإسلام: عبارة عن ظاهرة لها قابلية التكامل من خلال السعي الواعي بغية الوصول إلى الغايات السامية والأكثر سموّاً.

إن اجتياز كل واحدة من مراحل الحياة، تزيد من الشوق إلى الانتقال نحو المرحلة التالية واللاحقة.

(36)

تعتبر الشخصية الإنسانية هي رائدة هذا السعي والكفاح، وهي الشخصية التي تعتبر الأزلية مصدراً لها، وهذا العالم ـ ذو المغزى ـ ممرّاً لها، وغايتها النهائية التعرّض لجاذبية الكمال المطلق في تلك الأبدية. إن هذا المطلق الذي يثير نسيم محبته وعظمته وجلاله تموّجاً في حقائق الوجود، يمثل منارة وقبساً ينير الطريق الزاخر بالمنعطفات المؤدية إلى التكامل المادي والمعنوي.

وحيث تبدأ هذه الحياة من الله، وتكون في ديمومتها وحركتها معتمدة على الله، فمن البديهي أن تكون غايتها ومحطتها الأخيرة إلى الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك يقول عزّ وجل: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[1].

السياسة من منظار الإسلام: عبارة عن تفسير وتوجيه دفّة حياة الناس نحو أعلى وأسمى الأهداف المادية والمعنوية والملكوتية للحياة من أجل قطف ثمارها. وكما يعتبر الحصول على الهواء النقي ضرورياً لمواصلة الحياة، كذلك يكون الدين والسياسة المعقولة ضرورتان للوصول إلى الحياة المعقولة. وعليه لا بد هنا من تعريف ذلك الدين وتلك السياسة المعقولة، حيث يشكلان عنصرين رئيسين في تحقق تلك الحياة (المعقولة)، وذلك على النحو الآتي:

تعريف الدين من منظار الإسلام: يقوم الدين في الإسلام على ثلاثة أركان، وهي كالآتي:

الركن الأول: عبارة عن الاعتقاد بوجود الله سبحانه تعالى الواحد والمهيمن والمسيطر على جميع الكون والوجود، والعادل المطلق

(37)

الذي لا تتطرّق إليه الأهواء والنزوات. وهو المتصف بجميع الصفات الكمالية، والذي خلق العالم بحكمته، والذي وضع الإنسان في طريق الحركة التكاملية بواسطة نوعين من أنواع الهداية الأصيلة، وهما: (هداية العقل السليم بوصفه حجة داخلية، وهداية الأنبياء والأصياء والمرسلين بوصفهم حجة خارجية)، والاستمرار في هذه الحركة إلى حين الوصول إلى الغاية الأخيرة المتمثلة بلقاء الله سبحانه وتعالى. والاعتقاد كذلك بالأبدية التي لولاها تبقى الحياة وكل عالم الوجود لغزاً محيراً لا سبيل إلى حله والوصول إلى كنهه. وجميع هذه العقائد رهن بالعقل السليم والإدراك الفطري والوجداني.

الركن الثاني: عبارة عن القوانين والمشاريع العملية للمسير في الحياة التي يمكن توجيه دفتها وقيادتها نحو الهدف والغاية العليا من الحياة، مما يطلق عليه عنوان الأحكام والتكاليف والحقوق. ويقوم مبنى هذا الركن الثاني على الأصلين الآتيين:

أ ـ القضايا الأخلاقية للأحكام المقررة من أجل تحصيل الكفاءات المناسبة.

ب ـ الحقوق والواجبات. والواجبات تشمل الأحكام العبادية ومسؤليات الإنسان في مسرح الحياة الاجتماعية والسياسية، وأما الحقوق فهي عبارة عن الامتيازات التي يختص الإنسان بحرية الاستفادة منها. كما تنقسم الأحكام بدورها إلى الأحكام الأولية والأحكام الثانوية. والأحكام الأولية هي تلك التي تتعلق بالأمور والقضايا الثابتة، بينما تنشأ الأحكام الثانوية من المصالح والمفاسد العارضة على الحياة.

(38)

الركن الثالث: القضايا التي تشمل جميع الحقائق والواقعيات والظواهر المقوّمة للحياة. وقد ترك الإسلام الخيار للإنسان في جميع هذه القضايا ـ إلا فيما ندر ـ ليعمل على تحقيقها بحواسه وعقله وقواه العضلية وتطلعاته ورغباته المشروعة.

إن السياسة من منظار الإسلام عبارة عن إدار الحياة البشرية سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي للوصول إلى أعلى وأسمى الأهداف المادية والمعنوية.

وأما العقائد والقوانين العملية فهي للتنظيم والإصلاح الإنساني فيما يرتبط بالعلاقات الأربعة، وهي:

1 ـ علاقة الإنسان بنفسه.

2 ـ علاقة الإنسان بخالقه.

3 ـ علاقة الإنسان بعالم الوجود.

4 ـ علاقة الإنسان بنظرائه في الخلق.

وكل حقيقة أو ظاهرة يمكن توظيفها في تنظيم وإصلاح الحياة الإنسانية فيما يرتبط بالعلاقات الأربعة الآنف ذكرها، تعد من وجهة نظر الإسلام جزءاً من الدين.

اتحاد وتناغم جميع شؤون الحياة الإتسانية في الدين الإسلامي

يستنتج ممّا تقدم أن العلم والعقيدة والسياسة والاقتصاد والحقوق والأخلاق والثقافة بمفهومها الطليعي والتقدّمي، والصناعة (أو التكنولوجيا)، وكل ما له تأثير ـ بشكل وآخر ـ في تنظيم وإصلاح الحياة، يعتبر جزءاً من الدين الإسلامي. هذه حقيقة يعتبر من لا

(39)

يعلمها جاهلاً بالدين نفسه قطعاً. وبعبارة أخرى: إن العالم بالدين يعلم هذه الأمور بداهة. وفيما يلي نذكر ـ على سبيل المثال ـ كلام علمين من المتخصصين في القانون والحقوق على النحو الآتي:

1 ـ قال جان جاك روسو:

«سادت الروح النصرانية كل شيء، وقد ظلت العبادة المقدسة دائماً، أو صارت للمرّة الثانية مستقلة عن السيد ومن غير ارتباط ضروري في كيان الدولة، وكانت لمحمد [(صلى الله عليه وآله وسلم)] آراء صائبة جداً، فقد أحسن وصل نظامه السياسي، وذلك أن ظل شكل حكومته باقياً في عهد خلفائه، فكانت هذه الحكومة واحدة تماماً، وصالحة إلى هذا الحدّ، غير أن العرب أصبحوا موسرين متعلمين مثقفين مترفين مرتخين؛ فأخضعهم البرابرة، وهنالك بدأ الانقسام بين السلطتين»[1].

وقال في موضع آخر:

«ولا تزال الشريعة اليهودية القائمة دائماً، وشريعة ابن إسماعيل [محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم] ـ التي تسيطر على نصف العالم منذ عشرة قرون، تنبئان بالعظيمين اللذين أملياهما. ومع أن الفلسفة المنفتحة أو روح التعصّب العمياء لا ترى فيها غير مخادعين مبخوتين، فإن السياسة الصحيحة تبصر في نُظُمها تلك العبقرية العظيمة القوية التي تهيمن على المؤسسات الخالدة»[2].

(40)

2 ـ قال روبرت هوكوت جاكسون[1] (النائب العام للولايات المتحدة الأمريكية):

«إن أشد الاختلافات الجوهرية ـ من وجهة نظر الفرد الأمريكي ـ تكمن في العلاقة القائمة بين القانون والدين. وفي الغرب تذهب حتى الدول التي لا تتشبّث بقوة بمبدأ فصل  الدين عن السياسة، إلى اعتبار النظام القانوني شأناً دنيوياً تلعب فيه مقتضيات الوقت واللحظة دوراً كبيراً. ولا شك ـ بطبيعة الحال ـ في أن التأثير المذهبي والديني في صياغة القوانين كان فاعلاً للغاية.

وقد أسهم القانون العبري الموسوم بـ «البنتاكوك» ـ الذي يتضمّن الكتب الخمسة الأولى من التورات، وتعاليم السيد المسيح والقوانين الكنسية ـ في المساعدة على صياغة تفكيرنا القانوني. وفي العصور السابقة لم يكن من غير الطبيعي أو المستغرب أن يتم اختيار الساسة المؤثرين والقضاة والمشرّعين من بين رجال الكنيسة، ومع ذلك ظل القانون على ما هو عليه من اعتباره شأناً دنيوياً.

لقد تمّ التأسيس للكثير من المجالس الخاصة بتشريع القوانين، والمحاكم بغية تطبيقها، وكلها تعتبر مؤسسات دنيوية تتعاطى مع الدولة، وهي المسؤولة عنها دون الدين أو الكنيسة.

ومن هنا فإن قانوننا في أميركا لا يطرح واجبات دينية بل هو يحذفها بكل دقة .. إن القانون في أميركا له تماس محدود مع تطبيق الواجبات الأخلاقية. والحقيقة هي أن الفرد الأمريكي في نفس

(41)

الوقت الذي يكون فيه فرداً مطيعاً للقانون، يستطيع أن يكون فرداً وضيعاً وفاسداً»[1].

إلى هنا تعتبر كلمة جاكسون أفضل توضيح للنظرية العلمانية في القانون والسياسة الجارية حالياً في أميركا والبلدان الغربية. ثم واصل جاكسون كلامه، قائلاً:

«وخلافاً لذلك فإن القوانين الإسلامية تعتبر الإرادة الإلهية هي المصدر في تشريع القوانين. وهي الإرادة التي ظهرت وانكشفت لرسوله محمد (ص). إن هذا القانون والإرادة الإلهية تعتبر جميع المؤمنين أمة واحدة ومجتمعاً واحداً رغم كونهم من قبائل وعشائر شتى، ويقطنون في أماكن متباعدة ومنفصلة عن بعضها. فالدين هنا يمثل الطاقة الصائبة المؤلفة بين الجماعة، وليس القومية أو الحدود الجغرافية. وهنا تكون الدولة مذعنة ومطيعة للتعاليم القرآنية، ولا يكون هناك أي مساحة لجهة تشريعية أخرى، ناهيك عن السماح لها بممارسة النقد أو إثارة الشقاق والشغب والنفاق.

يرى المؤمن أن هذا العالم ما هو إلا ممر ينتقل عبره إلى عالم آخر أفضل منه. ويعمل القرآن على سنّ القواعد والقوانين وأنماط سلوك الأشخاص تجاه بعضهم وتجاه مجتمعهم بغية إحداث ذلك التحول والانتقال السليم من هذا العالم إلى العالم الآخر.

لا يمكن الفصل بين النظريات القضائية والسياسية وتعليمات النبي ووصاياه التي ترسم لون السلوك وفق الأسس الدينية، بل تحدّد طبيعة الحياة الشخصية والاجتماعية والسياسية. إن هذه التعليمات

(42)

تقوم بتعيين التكليف للناس أكثر من بيان الحقوق بمعنى الالتزامات الأخلاقية»[1].

إن الخطأ القاتل الذي يرتكبه جاكسون في عبارته المتقدمه يكمن في قوله: «إن هذه التعليمات تقوم بتعيين التكليف للناس أكثر من بيان الحقوق بمعنى الالتزامات الأخلاقية»! لأن الفقه الإسلامي يتكوّن من التكاليف (الواجبات) والحقوق وجميع شؤون الحياة الدنيوية والأخروية.

ومن الغريب أن هذا الحقوقي الكبير لم يلتفت إلى أن التكاليف في الفقه الإسلامي على نوعين، وهما:

1 ـ التكاليف الشخصية: من قبيل العبادات المبيّنة للواجبات والأمور التي ينبغي على الإنسان فعلها فيما يتعلق بعلاقته الأولى من بين علاقاته الأربعة الرئيسة، ونعني بذلك (علاقة الإنسان بنفسه وخالقه). وبطبيعة الحال فإن هذه التكاليف لا توجب «حقاً» على ما هو المصطلح رسمياً على المستوى الحقوقي؛ لأن الفرد في هذه العلاقة مكلف بإصلاح نفسه، ولا يُنتزع من هذا التكليف حق بالمعنى الحقوقي الرسمي. إذ لا يمكن للإنسان أن يطلب من نفسه حقاً (بمعنى اختصاصه بامتياز يمتلكه)، وإن كان بمعنىً من المعاني الأخلاقية والعرفانية السامية يمكن لنا أن نتصوّر أن يكون هناك حق للطاقات الإيجابية التي تصوغ شخصية الفرد في مسير الكمال، ويجب توظيف هذا الحق، ولكن هذا الحق ليس بالمعنى الاصطلاحي الرسمي في الحقوق بداهة.

(43)

2 ـ التكاليف الحقوقية المقررة: فيما يتعلق بالعلاقة الرابعة من بين العلاقات الرئيسة الأربعة (وهي علاقة الإنسان بنظرائه في الخلق)، والتي يتم وضعها في قبال الحقوق.

والذين يظنون أن التكليف والواجب فيما يرتبط بعلاقة الناس بعضهم ببعض ممكن دون أن يترتب عليه حق، يجهلون أكثر حقوق الأقوام والشعوب بداهة؛ لأن كل واحدة من هاتين الحقيقتين تستلزم الأخرى.

إن معنى القول بأن ربّ العمل يجب عليه أن يدفع أجر العامل، هو أن للعامل حقاً في الحصول على أجره الذي تعهد له به صاحب العمل. وإن جزءاً كبيراً من الفقه الإسلامي يتناول بحث هذه الحقوق المؤلفة من الحقوق المدنية والحقوق السياسية وغيرها.

وقد ورد الحديث في نهج البلاغة عن حقوق الناس على الحاكم وحقوق الحاكم على الناس صراحة وكناية وإشارة، من قبيل قول الإمام علي (عليه‌السلام): «وَأَعْظَمُ مَا اِفْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ اَلْحُقُوقِ، حَقُّ اَلْوَالِي عَلَى اَلرَّعِيَّةِ، وَحَقُّ اَلرَّعِيَّةِ عَلَى اَلْوَالِي»[1].

كما يشتمل عهد الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ إلى مالك الأشتر على تعاليم حقوقية سياسية أشبعها المختصون في العلوم السياسية بالشرح والتحقيق والتفسير. ونجد حالياً أن كتب ومصادر الحقوق التطبيقية أو الفقه المقارن المؤلفة بشأن الإسلام وسائر الأنظمة الحقوقية على نطاق واسع، لا تترك مجالاً للشك في اشتمال الإسلام على نظام حقوقي متكامل.

(44)

ثم يستطرد جاكسون في شرح التكاليف المقررة في الإسلام على الناس، قائلاً:

«بمعنى أن التعهّد الأخلاقي ـ الذي يكون الفرد ملزماً بالعمل على طبقه ـ هو الذي يكون مطمحاً للأنظار أكثر من غيره، ولا يمكن لأي سلطة أو شخص في العالم أن يعفيه من القيام به، ولو أنه تمرّد على ذلك فإنه سيعرّض حياته المستقبلية للخطر»[1].

أما الخطأ الآخر الذي ارتكبه جاكسون في العبارة الآنفة، فهو:

أولاً: إن التعبير بالتعهدات الأخلاقية لا ينسجم مع تطبيقها القطعي؛ لأن فضيلة ورقيّ الأخلاق تكمن في اختيارية العمل بها، كما أنها لا يمكن أن تستند إلى عامل طبيعي.

وثانياً: كان على جاكسون أن يلتفت إلى أن تكاليف الأشخاص والمجتمع والدولة تجاه بعضهم لا يمكن أن يكتب له البقاء دون تحقيق الحقوق، وإن جاكسون نفسه يعترف بأن التعاليم الإسلامية عبارة عن أحكام ووظائف تحدد الأصول الدينية ونمط الحياة الشخصية والاجتماعية والسياسية بالنسبة إلى الجميع. ولا شك في أن الوظائف والأحكام الاجتماعية والسياسية في مسرح الحياة الجماعية تقتضي بحسب ذاتها حقوقاً يجب على الناس مراعاتها.

يقول جاكسون: «حيث أن الأمريكيين يرفضون الأساس الديني أو الفلسفي للقوانين والتشريعات الإسلامية، فإنهم يجنحون في تفكيرهم إلى القول بأن كل ما يقوم على هذا الأساس لا يمكن أن يستحوذ على اهتمامنا، بيد أن الحقيقة هي أن هذه المنظومة التي

(45)

تعتبر غير عملية، قد تمكنت من تحقيق إنجازات عظيمة وبشكل محيّر ومذهل. إذ تمكنت الطاقة الحيوية والجاذبة للدين المحمدي في ظرف قرن من الزمن بعد رحيل النبي محمد [(صلى الله عليه وآله)] من تمكين قومه وعشيرته ـ رغم افتقارهم لمقومات الدولة الحقيقية المحصّنة بجيش ثابت، وافتقادهم للطموح السياسي المشترك ـ من الاستيلاء على السواحل الشمالية لأفريقية واجتياز البحر الأبيض نحو إسبانيا وتهديد فرنسا ...

والشيء الأهم الذي بدأنا ندركه مؤخراً هو أن هذا الدين اليافع ـ الذي يعتبر من أكثر الأديان حداثة في العالم ـ قد أقام فقهاً يلبي رغبة ملايين الناس وتوقهم إلى العدالة تحت السماء اللاهبة في كل من أفريقيا وآسيا، وأقنعت كذلك آلاف الأشخاص الآخرين الذين يعيشون في أميركا»[1].

وبطبيعة الحال فإن هذه الإحصائية التي يذكرها جاكسون قد مضى عليها ما يقرب من ثلاثة عقود. أما الإحصائية الأخيرة التي ظهرت بشأن عدد المسلمين فنها تقول بأنهم قد بلغوا حوالي المليار ومئة مليون نسمة، يعيش منهم ثمانية ملايين نسمة في غرب أوربا، وعشرة ملايين نسمة في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من البلدان غير الإسلامية الأخرى.

ثم يقول جاكسون أيضاً:

«على الرغم من إمكانية أن نشك في الإلهام الديني بالنسبة إلى حقوق المسلمين، ولكن هذه الحقوق ـ مع ذلك ـ تعطينا دروساً هامة في تطبيق القوانين.

(46)

وقد حان الوقت لكي نتخلى عن القول بأننا وحدنا في العالم نمجد العدالة، أو أننا وحدنا من يفهم معنى العدالة؛ لأن البلدان الإسلامية قد وضعت الوصول إلى هذه الغاية في صلب منظومتها القانونية، ويمكن لتجارب المسلمين أن تقدّم لنا دروساً قيّمة في هذا المجال»[1].

لقد شهدت الأعوام الأخيرة انعقاد مؤتمر في فرع الحقوق من الجمعية الحكومية للحقوق المقارنة في كلية الحقوق من جامعة باريس تحت عنوان «أسبوع الفقه الإسلامي» للبحث في الفقه الإسلامي، ودعي إليه عدد من المستشرقين وأساتذة الحقوق والقانون من مختلف البلدان الأوربية والإسلامية.

وقد حددت الأمانة العامة لهذا الجمعية خمسة مواضيع فقهية، تناولها المشاركون في المؤتمر بالدراسة والبحث، وخلال المؤتمر توصل علماء الحقوق الفرنسيين وغيرهم من سائر البلدان وكذلك المستشرقون الكبار إلى الإقرار بعظمة وأهمية وشمولية الفقه الإسلامي، واعترفوا بصلاحيته لجميع المجتمعات البشرية على مختلف العصور. وفي واحدة من محطات المؤتمر المذكور صرّح نقيب المحامين في باريس قائلاً:

«أنا لا أعلم كيف أوفق بين ما كان يُحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي، وعدم صلاحيته كأساس للتشريع يفي بحاجيات المجتمع العصري المتطوّر، وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها،

(47)

مما يثبت خلاف ذلك تماماً ببراهين النصوص والمبادئ»[1].

وفي ختام هذا المؤتمر أصدر المؤتمرون ـ من الحقوقيين ورجال القانون ـ بياناً موقعاً من قبلهم، وصادقوا فيه بأجمعهم على عظمة ومتانة الفقه الإسلامي، واعترفوا بصلاحيته لحل المعضلات والمشاكل التي تواجه المجتمعات البشرية.

وفي الختام عبّر أعضاء المؤتمر عن رغبتهم في أن يظل أسبوع الفقه الإسلامي يتابع أعماله سنوياً، ولكن حال بعض الأشخاص ـ للأسف الشديد ـ دون تحقيق هذه الرغبة النبيلة.

(48)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

آثار وتداعيات العلمانية

(49)

الفصل الثالث

آثار وتداعيات العلمانية

التناقض البدوي بين نظريتين لعبد الرحمن ابن خلدون حول حاجة الناس إلى الأنبياء في حياتهم الدنيوية

إن لعبد الرحمن ابن خلدون فيما يتعلق بحاجة الناس إلى الدين في حياتهم الدنيوية نظريتين قد تبدوان متناقضتين أو متهافتتين، ونرى هنا ضرورة الإشارة إلى هاتين النظريتين في سياق بحثنا هذا، وذلك على النحو الآتي:

النظرية الأولى: «وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي، وأنها خاصة طبيعية للإنسان، فيقررون هذا البرهان إلى غايته وأنه لا بد للبشر من الوازع، ثم يقولون بعد ذلك: وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر وأنه لا بد أن يكون متميزاً عنهم بما يودع الله فيه من خواص هدايته؛ ليقع التسليم له والقبول منه، حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزييف. وهذه القضية للحكماء غير برهانية، كما تراه، إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه»[1].

النظرية الثانية: ذكرها ابن خلدون في الفصل الحادي والخمسين

(50)

تحت عنوان (في أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره)، حيث قال:

«إعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري، وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه، وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه، وحكمه فيهم: تارة يكون مستنداً إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه، وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة، ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة، والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط. وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب، وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأساً. ويسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك بالمدينة الفاضلة، والقوانين المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامة، فإن هذه غير تلك. وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع، وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير. ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين: أحدهما يراعى فيها المصالح على العموم، ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص. وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة. وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملة ولعهد الخلافة، لأن

(51)

الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة والآداب، وأحكام الملك مندرجة فيها ... إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم، فقوانينها إذاً مجتمعة من أحكام شرعية، وآداب خلقية، وقوانين في الاجتماع طبيعية، وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية، والاقتداء فيها بالشرع أولاً، ثم الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم»[1].

وهكذا نلاحظ أن الرؤية الأخيرة لابن خلدون تتجه إلى ما شرحناه آنفاً بالتفصيل، وهو أن الحياة بعد فصلها وتجريدها من الدين تعني الحياة الطبيعية والمادية البحتة التي تركز على البعد المادي من الإنسان فقط، دون تلك الحياة المعقولة التي تهدف إلى إيصال الإنسان بجميع أبعاده الوجودية إلى كماله المنشود، وعليه يمكننا القول: إن نظرية ابن خلدون لا تنطوي على تناقض أو تهافت.

المنهج العلماني (فصل الدين عن مسرح الحياة الدنيوية للناس) يؤدي إلى حدوث الخلل في شخصية (الأنا الإنسانية) في إدارة الوجود الإنساني

يتألف الوجود الإنساني من أربعة أبعاد أساسية، نجملها على النحو الآتي:

البُعد الأول: الحقائق المتعلقة بالوجود الطبيعي للإنسان، وهي عبارة عن أعضاء الجسم الفسيولوجية ولوازمها الطبيعية. من قبيل: الارتباط بالمحيط والبيئة الطبيعية والتوالد والتناسل وما إلى ذلك.

البُعد الثاني: من قبيل الحقوق والاقتصاد والسياسة والثقافة

(52)

بالمعنى المتعلق بعناصر الحياة الدنيوية منها. وسوف يأتي تفصيل ذلك في (البعد الثامن) من أبعاد مبحث بعنوان: «مصداق من تلك الأصول والقيم التي تزعزعت بعد فصل الدين من حياة الناس أو انهارت تماماً».

البُعد الثالث: الأنشطة الذهنية والنفسية للإنسان. من قبيل التصورات والأخيلة والتجسيم والتعقل والتفكير والإرادة والعزم والاختيار والأحاسيس والعواطف وما إلى ذلك.

البُعد الرابع: الحقائق المتعلقة باستعداد الإنسان إلى الكمال، وأهمها الدين والأخلاق وغيرهما من الحقائق السامية.

شخصية الإنسان في إدارة البُعد الأول (الحياة الحيوانية)

تمارس الحقائق المرتبطة بالوجود الطبيعي للإنسان إدارتها بشكل مباشر ما دامت تتمتع بشرائط الإدارة، من قبيل: الوعي والسلامة وغيرهما من الشرائط، إلا إذا تدخل عنصر قاهر بسبب فقدان تلك الشرائط بحيث يسلب الشخص قدرته على الإدارة، أو يكون النشاط بالنسبة إلى ذلك العضو من اليسر بحيث لا تكون هناك معه ضرورة لتدخل الشخصية بشكل كامل.

إن أغلب أنشطة أعضاء الجسم المستندة إلى الحاجات المتأصلة، والتي تتكرر على مدى الحياة، تغدو بحيث تكتسب تلك الأعضاء نصيباً من الوعي والقدرة الذاتية على إدارة نفسها تلقائياً ولا شعورياً، ومن هنا لا تكون بحاجة إلى وعي كامل وتوظيف لقدرة الإدارة الشخصية.

(53)

وقد أصبح هذا النوع من النشاط أمراً عادياً، بحيث يصطلح على الأعمال المستندة إليها بـ «العادة». وعلى هذا الأساس تقوم الشخصية في موارد الأنشطة الجديدة وغير المسبوقة، أو المسبوقة على نحو نادر، وفي الموارد الهامة ـ بمقدار أهميتها ـ بإدارتها التامة بالاعتماد على الوعي وسائر الشرائط الأخرى، وتمارس دورها في هذا الشأن.

وكما هو ملاحظ فإن شخصية الإنسان في إدارتها لهذا البُعد (الحقائق المرتبطة بالوجود الطبيعي للإنسان)، تمارس دورها مع الأخذ بنظر الاعتبار الحاجات المحركة للأعضاء الطبيعية، وتسند نشاطها ودورها إلى تلك الحاجات.

شخصية الإنسان في البُعد الثاني (الحياة مع الأصول والقوانين الموضوعية)

في البُعد الثاني ترتبط شخصية الفرد بالحقائق التي يتمّ تقريرها من خلال دوافع الحياة الدنيوية الجماعية ودون اختياره، وبذلك يرى نفسه ملزماً بتنظيم حياته بما يتوافق مع تلك الحقائق. من قبيل: الحقوق والاقتصاد والسياسة وما إلى ذلك. يكمن التفاوت والاختلاف بين البعدين الأول والثاني في أن العلاقة القهرية للشخصية مع الحقائق المرتبطة بالبُعد الأول (الأعضاء المادية) أشد بالقياس إلى العلاقة القهرية التي تربطها بحقائق البُعد الثاني؛ لأن التخلف عن القوانين الاجتماعية من قبيل الحقوق أيسر من التخلف عن قوانين أعضاء الجسم التي تدير الحياة الطبيعية للإنسان بشكل مباشر.

(54)

فعلى سبيل المثال: إن فتح العين أثناء السير في الشارع والنظر إلى الأمام يحظى بإلزام جبري أكبر من اتباع القوانين التي تحكم الحياة الاجتماعية؛ لأن عدد الأشخاص الذين يتخلفون ويتمرّدون على القانون عن علم وسابق إصرار بسبب امتعاضهم ـ الصائب أو الخاطئ ـ من ذلك القانون أو لقدرتهم على التهرّب منه، كبير جداً.

إن الإنسان في البُعد الأول من الحياة يستطيع مواصلة حياته الطبيعية الفردية من خلال مجرّد اتباع الدوافع والعناصر القهرية، كما تعيش سائر الحيوانات. وأما في البُعد الثاني فيذهب الإنسان بخطاه إلى أبعد بكثير من دائرة سائر الكائنات الحيّة، وبذلك يمتاز منها بحمل عنوان النوع الأخص والأكمل.

يمكن للناس الالتزام بحقائق البُعد الثاني (الاقتصاد والحقوق والسياسة وغيرها) لمجرّد ضمان حياتهم الدنيوية، ويتماهون في حياتهم مع تلك الأصول والقوانين، دون أن يستندوا في ذلك إلى أيّ نوع من أنواع القيم، من قبيل: القيم الدينية والأخلاقية في تبعيتهم لتلك الحقائق.

إن هذا النوع من الحياة الدنيوية الاجتماعية شبيه بحياة سائر الكائنات الحيّة الأخرى، ولكنها ذات مستويات وأبعاد أوسع وأعمق بكثير، كما أنها أشدّ تعقيداً وخطورة.

شخصية الإنسان في البُعد الثالث

إن الشخصية في إدارة هذا البُعد تتعاطى مع حقائق ذات وجوه ومستويات متنوّعة وأكثر دقة، وهناك إمكانية لتدخل الشخصية ـ بما

(55)

لها من الخصائص ـ في توجيه وبيان كيفية تلك الحقائق بشكل وآخر.

توضيح ذلك: إن الشخصية في تحريك اليد وتناول الكتاب من المكتبة والعثور على الصفحة التي تشتمل على ضالة القارئ، لا تحتاج إلى أكثر من تحريك القدم للوصول إلى المكتبة، وتحريك اليد لتناول الكتاب والعثور على الصفحة المنشودة. في حين أن إدارة الأنشطة الذهنية والنفسية التي ترتبط بالشخصية مباشرة، تحتاج إلى التدقيق والتحليل والاستنتاجات الدقيقة والمجرّدة.

إن الأنشطة والانعكاسات الذهنية والنفسية للإنسان هي من قبيل: التصوّرات والتخيلات، والتجسيد، والاكتشاف، والعلم الحضوري (العلم بالذات وإدراك الذات)، وتحقيق الذات، والتعقل، والتفكير، والتجريد، والإدارة، والعزم، والاختيار، ومختلف أنواع الأحاسيس (من قبيل: الإحساس بالجمال، والإحساس بعظمة النظم الذي يحكم الوجود)، وكذلك أنواع العواطف وما إلى ذلك.

من البديهي أن لا شيء من الأنشطة والانعكاسات المذكورة يحدث صدفة، أو أنه يقع في الفراغ، كما أنه بعد أن يوجد لا يمكن القضاء عليه في وجود الإنسان دون قانون.

تنقسم هذه الأنشطة والتداعيات إلى نوعين رئيسين، وهما:

النوع الأول: هو الأنشطة والتداعيات التي لا تحتاج إلى وعي وإدارة الشخصية، من قبيل: تصوّر الأشياء التي نواجهها للمرّة الأولى.

لا شك في انعكاس صور في ذهننا عن تلك المشاهدات، وفي هذا الانعكاس يحدث الذهن ارتدادات متناسبة، شبيهة بالدوائرة المتتالية

(56)

التي تحدث في بركة الماء عندما نرميه بالحجر. فإذا كانت تلك التصورات لأشياء غير ذات أهمية، فإن الذهن سيتركها لحالها دون أن تتحمّل الشخصية (الأنا الإنسانية) عناء دراستها وتحليلها (أو تحويلها إلى مركز خاص لتخزينها)، وإنما ستهمل حتى تزول وتضمحل من تلقائها وتمحى من أفق الذهن بشكل وآخر بعد فترة من الزمن.

ومن هذا النوع جميع تلك الأنشطة الذهنية التي تظهر للحظات في المنطقة الواعية أو شبه الواعية من الذهن، ثم تأخذ طريقها إلى الاضمحلال وتختفي، دون أن تكون لسلطة وإدارة الشخصية سبيلاً عليها.

النوع الثاني: الأنشطة والتداعيات التي تخضع لإدراك وإدارة وسلطة الشخصية. وفي هذا القسم تعقد الشخصية ارتباطاً مع الحقائق التي تفوق القوانين الجسدية (الفيزيقية والفسيولوجية وغيرهما). من قبيل:

1 ـ التجسيد: (اعتبار الموجود معدوماً، أو المعدوم موجوداً، أو تصور الأشياء على غير ما هي عليه).

إن أفضل مصداق للتجسيد، هو الأداء التمثيلي على خشبة المسرح وغيره، حيث يعتبر المشاهدون الممثلين أحياناً هم الأشخاص الحقيقيين لا أنهم يؤدون مجرد أدوارهم، بل يرتبون الآثار على ذلك أحياناً. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ الشخص الذي يلعب دور الإمام الحسين ـ عليه‌السلامـ في مشهد تمثيلي يجسد واقعة الطف، ويشاركه في التمثيل شخص آخر يؤدي دور قاتله شمر بن ذي الجوشن. فعلى الرغم من علم جميع المشاهدين بأن

(57)

الذي يؤدي دور الإمام الحسين ليس هو الحسين، وأن الذي يؤدي دور الشمر ليس هو الشمر، إلا أنهم مع ذلك يتفاعلون مع المشهد التمثيلي وكأنهم يعيشون لحظات مقتل الإمام الحسين ويتعاطون مع هذا المشهد بواقعية، وربما تعاملوا بجفاء مع الذي أدى دور الشمر حتى بعد انتهاء العرض والتعاطي معه خارج المسرح، الأمر الذي يثبت ما تتمتع به الـ «أنا الإنسانية» لـ (الشخصية) من القدرات ما فوق الطبيعية.

2 ـ الاكتشاف: ظاهرة لا يمكن تفسيرها بأي قاعدة من القواعد العلمية. وعلى حد تعبير (كلود برنارد)[1] في كتابه: (مدخل إلى دراسة الطب التجريبي):

«لا يمكن العثور على أي قاعدة يمكن من خلالها إيجاد رؤية صحيحة ومثمرة عند مشاهدة أمر محدد في ذهن المحقق، بحيث يعد نوعاً من التوصل الذهني للتحقيق الصحيح. إنما يمكن ذلك بعد أن يكتب الظهور والتبلور للتفكير، حيث يمكن القول عندها كيف يجب اعتباره تابعاً للقواعد المنطقية الصريحة التي لا يجوز لأي محقق أن يحيد عنها. بيد أن أسباب ظهورها لا تكون معلومة، كما أن طبيعتها شخصية تماماً، وهي شيء خاص يمكن أن يُعدّ منشأ لابتكار واختراع ونبوغ أي شخص»[2].

وقد اعترفت الأكثرية الساحقة من العلماء بتدخل الحالات الشهودية في الاكتشافات والابتكارات، وكل شخص يرى لنفسه

(58)

حظاً من تلك القدرات المذكورة، فإنه حتى إذا اقتصرت مشاهدته على مورد واحد منها بشكل مباشر، سوف يعترف بتدخل الشهود في الاكتشافات.

3 ـ العلم الحضوري: (العلم بالذات أو إدراك الذات)، إذ يحصل هذا العلم لكل شخص له القدرة على العلم بذاته. وفي هذه الظاهرة الفذّة والمذهلة يكون المدرِك (بالكسر) هو عين المدرَك (بالفتح) الذي هو عبارة عن الـ «أنا» أو الشخصية، في حين أن هذا الأمر الحاصل ـ بالالتفات إلى هذه الظاهرة ـ يبدو شبيها بالتناقض. لأن «الأنا» هنا دون أن ينقسم إلى شطرين: (عالم، ومعلوم) يكون هو (العالم المعلوم) في وقت واحد. وعلى حدّ تعبير الشيخ محمود الشبستري: «إن هذا الأمر من قبيل أن يشاهد المرء عينه بعينه، دون استخدام أداة أخرى!».

4 ـ التعقل: وهو عبارة عن التفكير في ضوء الأسس والقوانين الثابتة من أجل الوصول إلى الغايات المنشودة للشخصية في إطار نشاطها العقلي المجرّد من التعميمات المتبعة للتطبيق على مصاديق القضايا، وحيث أن إدراك القضايا الكلية يستلزم إدراك الحقائق التجريدية، فإن الشخصية في هذا الشأن تبذل نشاطاً يفوق الطبيعة أيضاً.

5 ـ الاختيار: إن هذه الظاهرة هي من أعظم الأنشطة التي يقوم بها «الأنا الإنساني» بمعنى الشخصية، في إدارتها، بل إن هذا النشاط يفوق حتى المعقولات التي يعمل الفرد على الموازنة والمقارنة فيما بينها، ولهذا فإنه يواصل نشاطه في ظل حالة من الإشراف والهيمنة

(59)

التي تفوق الأعمال والتداعيات الطبيعة في البُعد المادي والجسمي.

6 ـ تحقيق وحكم الشخصية على ذاتها: إن كل من يمتلك عقلاً وروحاً معتدلة، يستطيع أن يدرس أعضاءه الجسدية وإصدار الحكم بشأنها وترجيح بعضها على بعض (من قبيل: اليدين والرجلين والرأس والوجه وغيرها من الجوارح الأخرى). كما يمكن للفرد أن يخضع قواه وقابلياته وأنشطته الداخلية ـ من قبيل: التفكير، والتعقل، والإحاسيس، والعواطف، والأنشطة الوجدانية، وردود الأفعال تجاه الشعور باللذة أو الألم، والإرادة، والعزم، والاختيار وما إلى ذلك ـ للدراسة والحكم بشأنها. من قبيل: هل أتمتع بمشاعر سليمة؟ وهل يقوم عقلي وتفكيري بنشاط صحيح؟ وهل يسير نشاطي الوجداني على النسق القانوني؟ وهل تعمل قواي وقابلياتي مجتمعة وبشكل منسجم ومتناغم فيما بينها أم لا؟ والذي يقوم بهذا البحث والدراسة في هذه الشؤون هو شخصية الإنسان.

ولو قال أحد: إن هذه الدراسة والأحكام يمكن أن تكون مستندة إلى واحدة من قوانا العقلية المجهولة والغامضة، وليس هناك من دليل على وجود شخصيّة «الأنا» المجرّدة. يجب القول في الجواب عن هذا الاعتراض: إن هذا الاحتمال إنما يصح إذا وضع الشخص جميع أعضائه وقواه وقابلياته الوجودية وعمل على المقارنة بينها من الناحية الكمية والكيفية في قبال الشخصية؛ إذ يقوم الافتراض على خضوع جميع أعضاء وقوى وقابليات الإنسان الداخلية والخارجية للدراسة والحكم.

ولو افترضنا صحّة هذا الاحتمال، وقلنا بأن الحكم في هذا الشأن

(60)

يتعلق بقوّة ذهنية غامضة ومجهولة، ستفرض هذه المسألة نفسها، وهي أننا لو شككنا في صحة دراستنا لهذه القوى المذكورة وصوابية الحكم عليها، فإننا إنما نقوم حتماً بإجراء دراسة بين تلك القوّة وجميع الأعضاء والقوى والاستعدادات وإصدار الحكم بشأنها. وفي هذه الحالة سوف نواجه السؤال القائل: من هو الذي يقوم بتلك الدراسة؟ ومن هو الذي يصدر ذلك الحكم؟ أياً كانت حقيقة ذلك الشيء أو ذلك الشخص، يجب أن يكون أعلى وأسمى من جميع تلك الأعضاء والقوى والقابليات، وتلك القوّة المفترضة. ولن تكون تلك الحقيقة سوى هذه الشخصية التي نعبّر عنها بـ «الأنا المجرّدة».

إن هذا يعدّ واحداً من الأدلة التي تثبت تجرّد الشخصية (الأنا الإنسانية). وهناك من يذهب إلى القول بأن الأدلة المذكورة على تجرّد «الأنا»، تزيد على الستين دليلاً.

ولو أننا تجاهلنا هذا النوع من النشاط التجريدي لـ «الأنا» (الشخصية)، وقلنا: لا يحدث في مسرح الطبيعة المترامي الأطراف أي نوع من الأمور الطبيعية، كي نفتح الطريق أمام «فصل الدين عن السياسة» في حياة الناس، فإننا سنكون في الحقيقة قد تجاهلنا وباء «الاغتراب عن الذات»، الذي يعدّ من أشدّ أمراض القرن العشرين فتكاً. ونتيجة هذا البحث هي أن القول بفصل الدين عن الحياة الدنيوية، يُسلم قياد الشخصية للأحداث والوقائع الجزئية المتغيّرة باستمرار، وهذا يتنافى مع أصالة هذه الشخصية وثباتها المنبثق عما فوق الطبيعة.

7 ـ إشراف «الأنا» على عالم الوجود: لا شك في أن ذوي البصيرة

(61)

من الناس يحصلون من خلال المعارف العالية على نوع من المقام السامي من الشهود، بحيث يدركون جميع الوجود في ذواتهم بالعلم الحضوري. بل إنهم يدركون حتى وجودهم وذواتهم بوصفهم جزءاً من مجموع عالم الوجود بشكله العام.

وإن أول مفكر أشار إلى دلالة هذا الأمر على استثنائية وما فوق طبيعية (التجرّد العالي) «الأنا الإنساني» الذي يصطلح عليه بـ «الشخصية» هو الشاعر والرحالة ناصر خسرو القبادياني[1].

8 ـ الشخصية الإنسانية: بالإضافة إلى تلك العظمة وما تتمتع به من القابليات، فإننا نتمتع أيضاً بحقيقة أخرى ثابتة ومستقرة في مواجهة المتغيّرات والتحوّلات. لو ارتكب شخص جريمة قتل، وتمكن من الهرب من العقوبة مئات المرات، يبقى قاتلاً ومداناً من قبل جميع محاكم الدنيا، رغم أن أبعاده الجسدية قد تغيّرت طوال هذه الفترة مراراً وتكراراً. وربما نشأت أصالة الشخصية من هذه الناحية (أصالة العنصر الثابت).

إن شخصية الإنسان التي تسعى على مدى العمر أن تتخذ موقفاً ثابتاً ومقبولاً فيما يتعلق بالارتباط مع كل حادثة والقيام بأي عمل والتلفظ بأيّ كلمة، إنما يعود في حقيقته إلى هذا العنصر الثابت .. فإن شخصية الإنسان رغم تقلبها وسط المتغيّرات، وارتباطها بهذه المتغيّرات، إلا أنها تحافظ على ثوابتها.

(62)

وعليه فإن حصر الشخصية وأنشطتها ـ طبقاً للأبحاث الآنفة ـ بمتغيّرات الشؤون الدنيوية، يساوي الحكم على تلك الشخصية بالتغيّر والفناء.

شخصية الإنسان في إدارة البُعد الرابع (الحياة المعقولة)

البُعد الرابع: بُعد الحياة المعقولة على أساس حياة الوجود الإنساني. وعلى الرغم من إمكان القول: إن اتجاه هاتين الحقيقتين يعتبر من الخصائص العالية لشخصية «الأنا الإنسانية»، ولذلك يمكن لنا أن نذكر هاتين الحقيقتين ضمن الحقائق المرتبطة بالبُعد الثالث، ولكن حيث أن ارتباط هاتين الحقيقتين بما فوق الطبيعة هو ارتباط مباشر وأكثر أهمية من جميع الخواص التجريدية الشخصية، لذلك فإننا سنطرح هاتين الحقيقتين بوصفهما بُعداً مستقلاً. وفي البداية لا بد من ذكر عدد من الأمور بشأن الأخلاق الواردة في آراء المفكرين في الشرق والغرب عبر مختلف العصور، وذلك على النحو الآتي:

1 ـ أخلاق ازدهار الحقيقة في نفس الإنسان.

2 ـ الأخلاق المجسّدة للحياة والوجدان الإنساني السليم. فما هو الوجدان؟ إن الوجدان هو البوصلة التي توجّه دفة وجود الإنسان في بحر الوجود المتلاطم.

3 ـ الأخلاق المفسّرة لـ «الحياة المعقولة» للناس.

4 ـ الأخلاق عنصر انتصار الإنسان على الغرائز الحيوانية.

5 ـ ليس هناك انبساط وانشراح يعدل البهجة والسرور الذي يعمر قلوب الأخلاقيين.

(63)

6 ـ إن الإرادة والعزم الناشئين بدافع الأخلاق الإنسانية العالية لا يجرّان ندماً.

7 ـ إن الشعور بالتكليف القائم على فاعلية الفضائل الأخلاقية، يمثل أعلى أنواع المشاعر التي تزدهر في وجدان البشر.

8 ـ ليس هناك قوم أو شعب يستحق أن يُدرس كظاهرة في كتب ومصادر التاريخ الكبرى، إلا إذا كان متصفاً بأسمى الصفات الأخلاقية.

9 ـ ليس هناك علامة يمكن من خلالها معرفة الإنسان، مثل الأخلاق.

10 ـ لو أننا فصلنا الأخلاق الإنسانية السامية من حياة الإنسان، فإننا سنكون وجهاً لوجه أمام كائن خطير وشديد التعقيد لا يحمل من الإنسان سوى الاسم فقط.

وعليه فإن الكلام بشأن فصل الأخلاق الإنسانية السامية من حياة الناس، يساوق تماماً القول باستغناء الإنسان عن شخصيته أو الدعوة إلى القضاء على تلك الحقيقة. وهي الحقيقة التي ميّزته من الحيوان. لا شك في أن الحياة في إطار «فصل الدين» (العلمانية) والتي تقوم على أساس النزعة الأنانية المشروطة بعدم الاعتداء القهري على حق الآخرين في الحياة، لا تبقي للشخصية والأخلاق الصانعة للشخصية أيّ محل من الإعراب.

فصل الدين عن الحياة والشخصية البشرية في الحياة الدنيوية على أساس (العلمانية) يستلزم تجزيء وحدة «الحياة المعقولة»، وتجزيء «اتحاد الشخصية» أيضاً.

إن حصر الأهداف والتطلعات الجادّة للشخصية البشرية

(64)

وأنشطتها بنماذج دنيوية منفلتة وعابرة، مع فصل الدين من هذه النماذج (المنفلتة والعابرة)، يشبه تماماً إقناع الشخصية بمشاهدة المحسوسات الجزئية التي تدخل إلى ذهن الفرد بواسطة الحواس والمختبرات.

وإذا لم يدخل العقل الإنساني إلى الحلبة لتنظيم وانتزاع القانون من تلك المحسوسات، فإنه سيكون من المحال على البشر أن يتمكنوا من إدراك القوانين العلمية في عالم الوجود.

كما أن الحياة البشرية بدورها سوف تفقد ـ بفصلها الدين عن الدنيا ـ القدرة على تقديم القوانين والمنهج الأصلي للحياة الهادفة.

تقسيم شخصية الإنسان إلى البُعد الدنيوي والبُعد الأخروي!

إن «الحياة المعقولة» التي بدأت جذورها الأصيلة من العالم الأعلى، من المحال أن تنتهي عند العالم الاسفل، أو أن تكون قابلة للتجزيء بحيث يكون جزء منها في هذه الدنيا وفي اختيار الإنسان نفسه يصوغها بما يتناسب ورغباته وأهوائه وطموحاته، والجزء الآخر بوصفه جزءاً أخروياً يتم ضمانه بمقدار من الحركات والأذكار لا أكثر!

إن بإمكان الإدراك والوعي الذاتي السليم أن يجعل من وحدة الحياة والشخصية في دائرة الدنيا والآخرة أمراً مشهوداً للإنسان.

نموذج لخصائص المنهج العلماني والأضرار الكارثية المترتبة على فصل الدين عن الحياة الدنيوية للناس تجاه الأصول الأساسية والقيم البشرية العالية

(65)

لا بدّ أولاً من التذكير بمقدمة مختصرة حول الإفراط والتفريط الذي أحاط بجميع التاريخ البشري: يمكن لنا أن ندعي أن الإنسان قلما أدرك مفهوم الإفراط والتفريط على طول التاريخ، أو إذا تمكن من إدراك هذين المفهومين، فمن النادر أن يكون قد استطاع تجنبهما بوعي كامل.

يجب القول: إن أشد أنواع الإفراط والتفريط ضرراً من بين الأنواع التي ارتكبها البشر بحق الوقائع هو النوع الذي ارتكبه بحق نفسه. إن هذا الانحراف الذي أدى بالإنسان على الدوام إلى ارتكاب مختلف الأفكار والميول المنحرفة في سائر شؤون حياته، هو الإفراط والتفريط الذي ارتكبه بشأن تعريفه وتقييمه لذاته، من هنا يجب علينا الاعتقاد بأن هذا الانحراف الخطير إذا استمر في مدّ جذوره في وجود البشر، فإن تلك الأفكار والميول المنحرفة ستؤدي ـ لا محالة ـ إلى حرمانهم من «الحياة المعقولة» في الدنيا والآخرة. ولكي نوضح هذا الأمر سنذكر في هذا البحث بعض النماذج على ذلك:

1 ـ لقد وقع الإنسان أحياناً في الإفراط عند التعريف بماهيته وتقييمه لذاته، حيث تعاطى مع نفسه بوصفه واسطة عقد العالم تارة، وتنزل بنفسه تارة أخرى ليغدو أخطر من الوحوش والكواسر![1]

2 ـ لقد كانت «العبودية» في الأزمنة الغابرة تشكل عصب حياة الإنسان وأساساً لجميع شؤون حياته. من قبيل: الحقوق، والأخلاق،

(66)

والدين، والاقتصاد، والسياسة، والثقافة وما إلى ذلك من الأمور! أما اليوم فقد شاع الحديث عن «مفهوم من الحرية» يعني بشكل رئيس التحرر من جميع القيود الدينية والأخلاقية وغيرها من القيم والأصول الإنسانية السامية في جميع المجتمعات الصناعية (أو التي يصطلح عليها بالمجتمعات المتقدمة والمتطوّرة)!

ولا شك في أن هذا التفريط يأتي كنتيجة لذلك الإفراط، والعكس صحيح أيضاً، بمعنى أن هذا الإفراط يأتي كنتيجة لذلك التفريط.

3 ـ وفي الأزمنة السابقة كان التقيّد بالأحكام والتكاليف والحقوق والاتجاهات المتطرّفة باسم الدين قد ضيّق الخناق على بعض المجتمعات بحيث لم يبق لها ولو فسحة صغيرة لحرية التفكير. في حين أن بعض المجتمعات في المرحلة الراهنة لا يطيقون حتى سماع مصطلح الدين!

4 ـ لقد كان علم النفس بالأمس رأساً بلا جسد، وهو اليوم يعتبر جسداً بلا رأس. بمعنى أن العلوم والمعارف الإنسانية كانت في السابق تتخبط فيما يتعلق بشرح صفاتها ونزعاتها النفسية ضمن هالة من المفاهيم التجريدية والخيالية، وهي اليوم تتخبط في هالة من الأصول والمفاهيم الفسيولوجية والبايولوجية والسلوكية المعلولة لسلسلة من العلم التي لم تخضع لأيّ دراسة أو تحقيق. ومن هنا كان علم النفس يتحدّث عن كل شيء إلا عن نفس «الأنا» و«حقيقة الشخصية» وما إلى ذلك.

5 ـ يبلغ التفريط تارة مرحلة يقول فيها: إن الاقتصاد لا أهمية له في الحياة الشرية. وقد يبلغ الإفراط تارة أخرى مرحلة ليقول: إن

(67)

الاقتصاد هو الوحيد الذي يمثل ماهية الحياة وهو العنصر الرئيس في جميع التحولات والمتغيّرات في الحياة البشرية![1]

6 ـ إن صفحات التاريخ ملأى بنظريتي الإفراط والتفريط بشأن تفاؤل وتشاؤم الطبيعة البشرية. وعلى الرغم من أن الإفراط والتفريط في كل واحد من الأبعاد والشؤون والقابليات البشرية المتنوّعة يسريان ـ لناحية ارتباطهما الشديد ببعضهما ـ إلى سائر أبعاده الأخرى، بيد أن سرايتهما إلى سائر الأبعاد الأخرى فيما يتعلق بموردين من بين تلك الموارد أشد ضرراً على الإنسان والعلوم الإنسانية من بين الأضرار التي تتسبب بها الموارد الأخرى، وذانك الموردان هما:

المورد الأول: الإفراط والتفريط في تعريف وتقييم «النفس»، و«الأنا»، و«الروح»، و«الشخصية» الإنسانية[2].

المورد الثاني: إن هذا النوع من التفكير المنحرف (الإفراط والتفريط) بشأن تعريف وتقييم الدين هو الذي من شأنه أن يكون عنصر الاختلال في معرفة الحقيقة وخصائص جميع القيم الأساسية للإنسان.

نتعرّض الآن إلى بيان نموذج من خصائص أسلوب «فصل الدين عن السياسة»، والأضرار الفادحة المترتبة على هذا الفصل.

(68)

لا نتحدث حالياً في الأضرار المترتبة على المورد الثاني الذي هو من حيث الأهمية أدنى من المورد الأول الذي هو من موارد التفكير المنحرف في الطبيعة والهوية الأساسية للإنسان نفسه.

لسنا نعلم ما إذا كان المفكرون في تلك المرحلة (من القرن الرابع عشر والخامس عشر للميلاد) حيث كانت الأمور تتجه إلى فصل الدين عن الحياة الدنيوية للناس، بشأن الأسس الرئيسة والقيم الإنسانية التي كانت تتجه إلى الفناء بفعل ظهور هذا المنهج الفكري المذكور؟ وهل تنبه هؤلاء المفكرون ـ الأعم من الفلاسفة، وعلماء الاجتماع، والدين، والأخلاق، والسياسة ـ إلى النتائج والتبعات الكارثية المترتبة على هذه العلمانية في حياة الناس؟ وهي الكارثة الناشئة عن فصل الإنجازات العظيمة والأصول الأساسية والقيم الإنسانية الماضية واغتراب الأشخاص عن عالم الوجود، وعن الله، وعن أضرابهم في الخلق، لينتهي بهم الأمر في نهاية المطاف إلى اغترابهم عن ذواتهم.

نموذج من الأصول والقيم التي تزلزلت واندثرت تماماً بعد فصل الدين عن حياة الناس[1].

1 ـ شرح وتفسير الحقيقة والجذور الرئيسة للجمال المحسوس والمعقول؛ لأن الدين هو وحده الذي يعرّف القطب الحقيقي

(69)

والعيني للجمال بوصفه مظهراً وتجلياً من تجليات الجمال الإلهي، ويقول بأن القطب الذاتي للجمال (الكامن في ذات الإنسان) يعبر عن شوق الفرد إلى تحصيل مظهر أو تجل من تجليات الجمال الإلهي. سواء أكان عينياً فيزيقياً، من قبيل: طاقة الأزهار الجميلة، أو القمر، أو الخط الجميل، أو الصوت الجميل، أو حقيقياً باطنياً من قبيل: العواطف السامية والعفو والصفح، وحبّ الخير، والشعور بالمساواة مع سائر الناس.

وإن كل شخص يتمتع بهذه الصفات يكون متصفاً بجمال باطني معقول يشعر بسببه بانشراح كبير يفوق شعوره بالانشراح الناتج عن جماله الخارجي والظاهري. ولكي نقف على التفسير الحاسم والأخير لحقيقة الجمال وجوهره الرئيس لا يوجد ما يقنع المفكرين المدققين غير النظرية المذكورة آنفاً، ومن البديهي أننا إذا قمنا بفصل الدين الذي يمثل الله جذره الرئيس، لن يكون هناك أيّ تفسير معقول للجمال.

2 ـ العدالة بمفهومها الحقيقي: نعلم أن للعدالة معاني أو مصاديق مختلفة؛ لأن العدالة الإلهية بمعنى الفعل أو القول المستند إلى حكمة الله البالغة واستغنائه الذاتي. إن العدالة الحقوقية تعني تطبيق الفعل أو القول على الأصل والقانون المقرّر.

إن العدالة بالمفهوم الأخلاقي تعني الانطلاق والحركة على أساس الوجدان القاضي بضرورة اتباع الخير واجتناب الشرور والقبائح، دون توقع لأجر أو خوف من عقوبة. كما أن العدالة بالمعنى الفلسفي عبارة عن تلك المشيئة العالية التي يتجلى فيها

(70)

النظم الذي يحكم عالم الوجود.

وعلى الرغم من أن العدالة بمفهومها الأخلاقي الذي يعني التحرّك على أساس الوجدان في القيام بأعمال الخير واجتناب عن ارتكاب الشرور والقبائح على أساس إرضاء الوجدان صفة ممدوحة للغاية، حتى عدّها كبار فلاسفة الشرق والغرب من الأدلة على التكامل الإنساني، ولكن عندما يعمد الشخص إلى تحليل إرضاء الوجدان الاعتيادي ويبحث عن جذور ذلك، سيدرك اللذة الحاصلة بسبب ذلك أيضاً. ومن هذه الناحية فإن طلب اللذة حتى إذا كان ميتافيزيقاً، لا يخلو من طعم الأنا، ولذلك فإنه يشكل قاطع طريق أمام الحركة التكاملية للغالبية العظمى من الناس.

نستنتج من ذلك أن العدالة بمفهومها الأخلاقي تمتدّ بجذورها في الوجدان الاعتيادي والذي يعود نشاطه إلى الصبغة الإلهية التي تفوق اللذات والآلام.

3 ـ الحرية الشخصية إلى أعلى درجات الاختيار: إن الذي تقتضيه المدركات وميول الحياة الطبيعية والاعتيادية، هو أن الذات الطبيعية (من قبيل العامل الناظم لحياة سائر الحيوانات) هو الذي يتولى صيانة ذات الإنسان، ويعمل على استقطاب عناصر اللذة، وطرد عناصر الضرر والألم.

إن هذه الأنا والذات الطبيعية لا تقوم بشيء غير الأنانية وإشباع الرغبات الطبيعية، وإذا لم يتمكن المرء من تجاوز هذه الأنا، فإنه حتى إذا اتصف بأكثر أشكال الجمال الظاهري، لن يستطيع تجاوز الأنا والذات الطبيعية، وصولاً إلى تحقيق قابليات «الأنا العالية».

(71)

ومن هنا تذهب جميع الأديان الإلهية إلى التأكيد على الانتقال من الأنا والذات الطبيعية إلى «الأنا الإنسانية السامية».

وقد ورد في كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ قوله: «عباد الله، إن من أحبّ عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه»[1].

وأما إذا تجرّد الإنسان من «الأنا الإنسانية السامية»، فإنه سيغدو كائناً بهيمياً مثل سائر البهائم بل هو أضل على ما ورد في الكلام الإلهي؛ إذ يقول تعالى في محكم كتابه الكريم: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[2].

أهم عامل لانتقال الإنسان من «الأنا الطبيعية» إلى «الأنا الإنسانية العالية» يكمن في التعرّض لجاذبية الكمال المطلق المتمثل بالله تعالى

وذلك لأن أي امتياز يتم اعتباره في هذه الدنيا بوصفه «غاية الحياة»، هو في أحسن حالاته أدنى من «الأنا السامية»، ولا يستحق أن يكون غاية مطمح للإنسان.

وأوضح دليل على هذا المدعى هو أن الإنسان مهما حصل على هذا النوع من الامتيازات، من قبيل: الثروة، والمناصب، والمساكن الفارهة، والسمعة الاجتماعية، وحتى العلم والفن، فإنه عندما يعمل

(72)

على تحليلها وتقييمها بشكل دقيق، سيدرك أنها بأجمعها ـ قياساً إلى عظمة وسعة وهيمنة «الأنا العالية» ـ أحقر وأدنى بكثير من أن يتم اختزال «الأنا العالية» وحبسها في الذات.

إن الذين لهم حظ من الشخصية أو «الأنا العالية»، يدركون بما لا غبار عليه أن كل هدف مادي ودنيوي يشكل قبل الوصول إليه حافزاً ومحركاً جذاباً، ولكن ما أن يصل الفرد إلى ذلك الهدف، فإنه ـ إذا لم يتمّ تخديره بذلك الهدف، أو لم يعتبره بسبب النشاط الجسدي والروحي غاية مطمح ومعشوقه المطلق واللانهائي ـ سوف لا يكتفي بذلك الهدف ولن يقنع به بوصفه هدفاً مطلقاً يمكن للشخصية أن تكتفي به، ولذلك فإنه سيواصل حركته التكاملية، حتى يتعرّض لجاذبية الكمال المطلق، وهذا الكمال المطلق هو الله الذي لا يمكن أن يُحدّ في «الأنا» أبداً.

وفي هذه المرحلة تحظى شخصية الإنسان بالحرية الحقيقية (المختلفة عن التهتك الذي هو حصيلة معادلة مهلكة من قبيل: «حيث أريد هذا الشيء فهو حق إذن»)!. وإن هذه النتيجة العظيمة هي التي تحرّره من قيود الرغبات والأهواء الدنيوية العابرة والزائلة والنسبية، ولا تسمح للشخصية الإنسانية باعتبار ظاهرة «الحرية» هدفاً مطلقاً في هذه الحياة. وتعمل في الوقت نفسه على توجيهه وهدايته للتعرض إلى جاذبية الكمال المطلق.

وبواسطة هذه الحركة التكاملية يتحوّل الفرد من «الحرية» إلى «الاختيار» الذي يعني توظيف الحرية في مسار الخير وغايته. وبتخلص الحرية من دائرة الامتيازات المادية، سوف تتحول الأنانية

(73)

ـ بداهة ـ إلى القرب من الله؛ إذ لا يمكن لأيّ حقيقة ـ غير حقيقة الإيمان بالله والاعتقاد به ـ أن تعمل على تعديل الأنانية وتحويلها إلى الصيانة التكاملية للذات.

وفي ختام هذا البحث لا بد من الالتفات إلى هذه المسألة وهي أنه لم يشهد التاريخ البشري أي شخصية مقتدرة تمكنت من أن تكون خادمة حقيقية للناس، إلا إذا تمكنت من الحصول على أعلى درجات الحرية والاختيار (طلب الخير وتوظيف الحرية في مسار الخير والكمال).

4 ـ التضحية والإيثار من أجل خدمة الناس: إن من بين الخصائص الضرورية للعلمانية، نفي أيّ نوع من أنواع التضحية والفداء في سبيل الإصلاح  والإحسان لأفراد المجتمع، لا سيما تلك التضحيات المشتملة على الألم والعذاب بل وحتى غض الطرف عن الحياة. في حين لا يمكن لأي قيمة عظيمة أن ترقى إلى مستوى هذه الفضيلة الإنسانية السامية. فما أعظم تلك الروح التي تغض الطرف عن النظر إلى العالم الأرحب، وتفضل بطن التراب على ظاهره من أجل أن يواصل الآخرون حياتهم.

5 ـ الإحساس بالوحدة الإنسانية العالية: منذ بداية الحياة الاجتماعية للبشر، وتعرّف الناس على بعضهم، ظهر نوع من الإحساس بالاتحاد العالي بين الناس. وإن هذا الشعور يتراءى عند كل شخص تمكن من تخليص نفسه من أدران الأنانية. وذلك لأن مبنى حركات الحياة الدنيوية يقوم على الأنانية، وإن الفرد في حركته الأنانية لا يرى غير نفسه، ولا يعترف لأي أحد بما يعترف لنفسه من

(74)

الحق في الحياة. ومن هنا فإنه لا يعترف بالاتحاد السامي بين البشر، بل هو عاجز حتى عن تصور هذا المفهوم السامي.

إن هذا المدعى يقوم على أصل ثابت يقول: كلما كانت المادية كائناً أقوى، كانت أكثر عرضة للتضاد والتباين، ومن هنا كان التجرّد من المادة والماديات ضرورياً للوصول إلى الاتحاد والانسجام بين الناس.

6 ـ الإجابة عن الأسئلة الستة الرئيسة للإنسان فيما يرتبط بالعلاقات الأربعة الرئيسة، وهي: (علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته بخالقه، وعلاقته بعالم الوجود، وعلاقته بنظائره في الخلق)، وأما تلك الأسئلة الستة، فهي كالآتي:

1 ـ مَن أكون؟

2 ـ من أين أتيت؟

3 ـ إلى أين أتيت؟

4 ـ مع من أكون؟

5 ـ لماذا أتيت؟

6 ـ إلى أين أذهب؟

وكما هو واضح فإن الإجابة الحاسمة عن هذه الأسئلة الستة لا تكون إلا من خلال الاستناد إلى الدين.

7 ـ صفاء الوجدان وسيادته: لو اعتقدنا بأن الناس في حياتهم الدنيوية قادرون على إدارة جميع شؤونهم الحياتية المادية والروحية والمعنوية، دون أن يكونوا بحاجة إلى أيّ عوامل ما فوق الحياة

(75)

المادية، فإن الأمر لن يقتصر على عدم الحاجة إلى صفاء الوجدان وتنزيهه من أجل السيادة الخالصة فحسب، بل يجب بشكل ظريف حذف وإلغاء هذا الوجدان من مسرح الحياة أيضاً؛ إذ أن الوجدان الخالص والمنزّه الذي يمثل البوصلة التي تهدي فُلك الوجود الإنساني في بحر الكون المتلاطم، على طرف النقيض من الأنانية التي تشكل أساساً للحياة الدنيوية وقوامها القطبين الكبيرين المتمثلين بالحصول على اللذة، ودفع الألم؛ إذ كيف يمكن لوجدان الإنسان النوراني الذي يمثل رسالة الله المباشرة في بواطن البشر أن ينسجم ويتناغم مع الأنانية القائمة على أساس «أن الجميع وسيلة وأنا الغاية»! و«حيث أريد هذا الشيء؛ فهو حق إذن»!

في السنوات الماضية كنت قد أضفت مقطوعة أدبية إلى الفصل الأخير من كتاب «الوجدان». وقد رأيت من المناسب أن أذكر هنا بعض عبارات تلك المقطوعة، على النحو الآتي:

تمتاز الشخصية اللامتناهية في الحقارة من الشخصية اللامتناهية في السموّ بامتلاك وعدم امتلاك الوجدان.

لا يمكن العثور على حجم الاختلاف بين أفراد الكائنات في عالم الوجود، كما نجده بين أفراد الإنسان. إن جميع أفراد الإنسان يتشابهون في جميع الأعضاء والجوارح الداخلية والخارجية، وكلهم يحملون اسم الإنسان. ثم قيل في وصف هذا الإنسان بشكل عام بما يشمل الأشقياء الطالحين الذين ينحطون إلى مستوى البهائم، والسعداء الصالحين الذين يرتقون إلى مستوى الملائكة، توصيفات ومدح وأشعار مبالغة في المدح، ثمّ لم يتمّ الاكتفاء بهذا الغلو، حتى

(76)

بلغوا بالبعض إلى مستوى استحقاق الخضوع والعبادة!

بل حتى أن هناك عدداً من المفكرين المتقدمين والمعاصرين ـ ممّن أسكرتهم خمرة السعي وراء الشهرة ـ قد وظف القلم وهو مأخوذ بتلك السكرة، ليقول: «يمكن للإنسان أن يشبع النزعة إلى الكمال والرغبة إلى إدراك الكائن الأسمى (الله) من خلال حبّه للإنسان!».

وفي الرسالة الجوابية التي أرسلها برتراند راسل على رسالتي (بشأن هذا التناقض الموجود في هذه المسألة) أتى على ذكر هذا الأمر.

ولم يتضح لي ما إذا كان برتراند راسل ـ القائل بأن الإنسان يستحق المحبّة الإلهية ورفعه إلى حدّ التأليه ـ قد صادف في حياته أشخاصاً من أمثال: نيرون، وكاليجولا، وأتيلا، وجنكيز خان، وهولاكو، وتيمور لنك، وأضرابهم ـ الذين هم كثر في تاريخ البشرية ـ أم لا؟

أجل إن أعضاء وجوارح نيرون لا تختلف عن جوارح وأعضاء سقراط، وهكذا لا يختلف ابن ملجم المرادي في الشكل الخارجي عن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام)، بيد أن الاختلاف بينهما في الشكل الروحي والباطني لهاتين الشخصيتين من حيث امتلاك وعدم امتلاك الوجدان يصل إلى ما لا نهاية.

ليس هناك من تفسير لعظمة الوجدان اللانهائية، غير أنها موضع للتجلي الإلهي، ألا توجد إساءة للإنسان عندما نقول: «إن على البشرية أن تعمل على توظيف هذه الحقيقة العظمى والأمانة الإلهية (الوجدان) لقول الصدق والاعتراف والادعاء في المحاكم

(77)

فقط؟» مما يعني أن الوجدان يجب أن يكون واحداً من قطع الغيار والأدوات الاحتياطية في تطبيق القانون لا أكثر!

8 ـ في النظام العلماني لتطبيق القوانين المرتبطة بحقائق البعد الثاني ـ (أي الحقائق المقرّرة في الحياة الدنيوية والاجتماعية المرتبطة بإدارة حياته الجماعية، من قبيل: الحقوق والاقتصاد وما إلى ذلك)[1] ـ لا حاجة لدافع غير توفير الحياة الطبيعية البحتة، من قبيل الحاجة إلى الدوافع الطبيعية الخالصة التي تمسّ الضرورة إليها من أجل توظيف الجوارح واستمرار نشاطها. ومن هنا فإن اتباع القوانين والقواعد بالنسبة إلى الحقائق المذكورة (الحقوق والاقتصاد والسياسة وما إلى ذلك) إنما يُعد مقبولاً من قبل الأقوياء إذا كان فيه ربح لهم أو يدفع الضرر عنهم، وإلا سيكون وجود وعدم تلك الحقائق عندهم سواء.

ومن هنا لو ذهب شخص إلى الاعتقاد بـ «فصل الدين عن الحياة الدنيوية»، وقال بأنه يحترم قوانين تلك الحقائق، فإنه إذا لم يكن مرائياً، ولم يوظف كلامه هذا على طبق المنهج الميكافيللي، فإنه لن يخلو من إحدى حالتين: فهو إما يعاني من الانفصام في الشخصية، أو أنه يجنح نحو الطوبائية والخيال.

لقد سمعنا بأجمعنا العبارة القائلة: «إن القانون نسيج عنكبوت»، ولن يكون بمقدور هذا النسيج أن يعيق الحيوانات المفترسة، من قبيل: الأسد والنمر بل وحتى الفأر القادر على

(78)

قضم هذه الخيوط التي ينسجها العنكبوت.

9 ـ في النظام العلماني يعدّ القول بضرورة الثورات والحركات التكاملية والتضحية بالحياة عملاً غير مبرر ولا معنى له؛ لأن الغاية والهدف من وجهة نظر هذا النظام العلماني لا يعدو تنظيم الحياة الدنيوية البحتة. وفي هذا المنهج لا يكون الإنسان بنفسه وذاته ـ لأنه يتمتع بقابلية الوصول إلى الخير والكمال الذاتي (من قبيل: الحكمة والفضيلة والشرف والأخلاق الفاضلة والتطوّر التكاملي) ـ مأخوذاً بنظر الاعتبار؛ إذ أن ذات الملاك الذي يدعو إلى فصل الدين عن المجتمع العلماني، يدعو إلى وجوب التخلي عن الخير والكمال الذاتي للناس أيضاً. ومن هنا فإن الأنظمة الحقوقية والقانونية المعاصرة ـ حتى ما كان منها يحمل صبغة عالمية ـ لا شأن له بالحقائق التكاملية، من قبيل الأمور الآنف ذكرها (الحكمة والفضيلة والشرف و...).

يتم تنظيم المواد الحقوقية والقانونية في العادة على أساس أن الناس متساوون ومتآخون، وأنهم على درجة واحدة من حيث الشرف والكرامة الإنسانية! ولا يذكرون حتى في الهامش أو في الملحق أن هذه المساواة إنما تكون في السطح الظاهري من الحياة الطبيعية البحتة، وإلا فإن اختلاف الناس في الأخلاق والحكمة والشرف والحيثية الاكتسابية يصل إلى ما لا نهاية. فهناك ـ على سبيل المثال ـ من يقول: يا ليت لو كان لجميع الناس رأس واحد، وكان بمقدوري أن أطيح بهذا الرأس بضربة واحدة من سيفي[1].

(79)

في حين نجد شخصاً آخر يقول في المقابل:

«وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ»[1].

10 ـ في النظام العلماني لا تبقى هناك من قيمة للشعور بالمسؤولية والتكليف السامي الذي يعد من أعظم وأشرف مشاعر البشر في تطبيق حقائق البُعد الثاني، (من قبيل: الحقوق والاقتصاد والسياسة وما إلى ذلك) في الحياة، ولم يعد الناس في الحياة العلمانية سوى أجزاء لا واعية في الآلة الصناعية، كما نشاهد ذلك في المرحلة المعاصرة (بداية القرن الخامس عشر للهجرة ونهاية القرن العشرين للميلاد).

إن الإنسان ـ كما أشارت الأديان الإلهية وكبار الحكماء في الشرق والغرب ـ إنما يدرك قيمته الحقيقية من خلال هذا الشعور بالتكليف والمسؤولية والواجب الذي يفوق المصالح والأنانيات. انظر إلى العبارة الآتية على سبيل المثال:

«أيها الواجب، ما أجلّ لفظك، وما أرفع اسمك. حقاً إنك لا تثير لدينا أي شعور ملائم، كما أنك قلما تغرينا وتأسر لبّنا. لكنك مع ذلك تأمرنا من علياء سمائك بأن نخضع لك ونستمع لندائك دون أن نستعين من أجل تحرير إرادتنا بأي تهديدات تستثير في نفوسنا الشعور الطبيعي بالخوف أو الفزع .. أنت الذي يقرر القانون الذي يجد في ذاته منفذاً إلى أعماق نفوسنا، أنت الذي يكتسب من ذاته رغماً عنا إجلالنا، ذلك الإجلال الذي تنمحي أمامه كل نوازعنا وانحرافاتنا رغم كونها تعمل ضدّه بخفاء .. أيها الواجب ما

(80)

أجمل منبتك، وما أسمى المصدر الذي تنبع منه! ولكن أنّى لنا أن نهتدي إلى تلك الجذور العميقة التي ينبثق منها فرعك الأصيل، وما من نسب يجمع بين تلك الأصول السامية وبين ميولنا الطبيعية المبتذلة؟! أليس علوّ منزلتك وسموّ أصلك هو الذي يجعل الناس ينسبون إلى أنفسهم قيمة عظمى؟ فلنقل إذن: إنك تنبع من مصدر علوي يسمو بالإنسان فوق نفسه ـ من حيث هو جزء من العالم المحسوس ـ ولنقرر بكل صراحة: أنك أنت الذي تربط الإنسان بنظام عقلي محض يخضع له كل ما في العالم الحسّي، بما في ذلك الوجود التجريبي للإنسان في الزمان، وشتى الغايات العملية التي تتحقق في دائرة التجربة، وهو الأصل المتمثل  بشخصية الإنسان والذي يعني اختيار النفس واستقلالها في مواجهة الطبيعة»[1].

لو لم يترتب على القول بـ «فصل الدين عن الحياة الدنيوية» من ضرر على إنسانية الإنسان سوى قتل شعوره بالواجب والمسؤولية المستند إلى شخصية الفرد التي تنشد الكمال، لكان ذلك وحده كافياً لتراجع البشرية عن هذه النظرية، وإنقاذ شخصية الإنسان من براثن هذه المهلكة.

11 ـ فيما يتعلق بارتباط حقائق البعد الثاني بين العلل العالية فيما بينها في العلمانية؛ (حيث تكون بأجمعها وسيلة للحركة في مسار الحياة المعقولة)، مع الأخذ بنظر الاعتبار المشاكل الآنفة، تواصل الشخصية الإنسانية وجودها في جميع أبعاد الحياة بشكل ناقص، ولا يمكن لأيّ تلقين أن يحول دون هذا النقص؛ لأن الشخصية

(81)

الإنسانية التي تعلم بأنه لا يشذ أيّ جزء من عالم الطبيعة ولا وجود لأيّ حركة في مسرح الحياة إلا وهو خاضع لحكم القانون، فكيف يمكن لهذه الشخصية أن تواصل وجودها في عالم خال من القانون الخاص بذات هذه الشخصية التي هي عبارة عن الاحترام الذاتي للقانون والحركة والموران الدائم الذي يعتمل في داخل الإنسان من أجل الرقي والتكامل والشعور بالمسؤولية والتكليف السامي، مع الحفاظ على اتحاد ذات الشخصية.

12 ـ الإخاء والمساواة بين الناس: هل يمكن بعد تمكن النظام العلماني من خلال فصل الأخلاق والدين من حياة الناس ـ وجعل الناس مغتربين عن بعضهم، بل وصول الأمور حتى إلى «الاغتراب عن الذات»، بل تجاوز هذه المرحلة إلى سقوط الإنسان في مستنقع «الإنسان الذئب» ـ تعريف الناس بأنهم إخوة؟! وهل تمكن واضعو شرعة حقوق الإنسان في الغرب من الإجابة عن هذا السؤال؟

13 ـ ألا تعلمون أنكم من خلال فصل القيم والأسس الإنسانية العالية، إنما تعملون على إبطال جميع ما قيل بشأن العظمة والكرامة والشرف الإنساني في آلاف الكتب والمؤلفات التي كتبت بأقلام علماء الشرق والغرب؟! وما يستتبع ذلك من إصابة الناس بجراح لا يرجى شفاءها!

(82)

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

الإسلام والعلمانية

(83)

الفصل الرابع

الإسلام والعلمانية

إطلالة على بعض مؤلفات ودراسات المسلمين في المسائل السياسية[1]

من الضروري جداً للمحققين في التاريخ السياسي للمجتمعات، أن تكون لهم دراسة ـ ولو إجمالية ومن الناحية التاريخية ـ في المصادر والمفاهيم السياسية لأمة عظمى باسم الإسلام والمسلمين؛ لأنهم يشكلون ما نسبته مليار ومئتي مليون نسمة من مجموع سكان المعمورة البالغ عددهم خمسة مليارات ونصف المليار نسمة.

إن ما يتذرّع به بعض المحققين والمترجمين لتاريخ الفلسفة السياسية، بالقول: «إن منشأ الفلسفة السياسية ومصدر ظهور الآراء والأفكار المرتبطة بالحكم والسياسة والفلسفات السياسية الرئيسة الشائعة في العالم المعاصر، هو الدولة الإغريقية، والتي انتقلت بعد ذلك إلى روما، ومن روما إلى سائر أنحاء أوروبا في العصور الوسطى، حتى وصلت إلى المرحلة المعاصرة والمتأخرة لتعم جميع أنحاء العالم»[2]، إذا كان يراد منه عدم تأليف كتاب في الفلسفة السياسية للإسلام، فهو مجانب للصواب قطعاً؛ إذ هناك نوعان من التحقيق في الفلسفة السياسية للإسلام، وهما:

(84)

النوع الأول: لقد عمد أغلب فقهاء وفلاسفة وحكماء الإسلام إلى تخصيص جانب من تحقيقاتهم بالحكمة العملية، والقسم الأهم منها يتعلق بما يطلقون عليه مصطلح «سياسة المدن». فقد قسّم الشهيد الأول (محمد بن جمال الدين مكي العاملي) أبواب الفقه إلى أربعة أقسام، وهي:

1 ـ العبادات.

2 ـ العقود.

3 ـ الإيقاعات.

4 ـ السياسات.

ولا شك في أن الشهيد الأول لم ينطلق في تقسيم الفقه إلى هذه الأقسام من مزاجه الخاص، بل إنه سار في ذلك على طبق رؤية جميع الفقهاء[1].

النوع الثاني: الكتب التي تمّ تأليفها بشكل مستقل في الفلسفة السياسية في الإسلام، ومنها على سبيل المثال:

1 ـ مكاتيب الرسول، تأليف: علي بن حسين الأحمدي الميانجي. وهو يشتمل على مجموعة من الأحكام السياسية والوصايا والتعاليم الدينية والأخلاقية في الإسلام، الواردة في الأحاديث المأثورة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

2 ـ الوثائق السياسية، تأليف: د. محمد حميد الله حيدر آبادي. وقد اشتمل هذا الكتاب على مجموعة من الأبعاد السياسية للإسلام

(85)

من خلال الأحاديث المأثورة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

3 ـ مجموعة كبيرة من خطب ورسائل أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في نهج البلاغة، والتي عمد الشريف الرضي على جمعها. ولا سيما عهده إلى مالك الأشتر النخعي، وقد أفردنا له مجلداً خاصاً من ترجمتنا وتفسيرنا لكتاب (نهج البلاغة).

4 ـ الأحكام السلطانية والولايات الدينية، في الجمع بين المسائل الشرعية والسياسية، تأليف: أقضى القضاة أبو الحسن علي بن حبيب البصري البغدادي الماوردي (م: 450 هـ).

5 ـ الخراج، تأليف: القاضي أبو يوسف بن إبراهيم (م: 182 هـ).

6 ـ الأموال، تأليف: أبو عبيد القاسم بن سلام (م: 224 هـ).

7 ـ معالم القربة في أحكام الحسبة، تأليف: محمد بن أحمد القرشي المعروف بـ «ابن الإخوة»، (م: 729 هـ).

8 ـ الأحكام السلطانية، تأليف: أبو يعلى محمد بن محمد بن الحسين البغدادي الحنبلي، المعروف بـ « ابن الفرّاء» (م: 458 هـ).

9 ـ كتاب الفخري في الآداب السلطانية والدولة الإسلامية، تأليف: محمد بن علي بن محمد بن ابن طباطبا العلوي أبو جعفر، المعروف بابن الطقطقي (م: 709 هـ).

10 ـ سياست نامه، تأليف الخواجة نظام الملك (مصدر فارسي).

11 ـ الولاة والقضاة، تأليف: أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي المصري (م: 355 هـ).

12 ـ الخراج وصناعة الكتابة، تأليف: قدامة بن جعفر بن قدامة

(86)

بن زياد البغدادي أبو الفرج (م: 337 هـ).

13 ـ السياسة المدنية، تأليف: محمد بن محمد بن طرخان بن أبي نصر الفارابي (م: 339 هـ).

14 ـ آراء أهل المدينة الفاضلة، تأليف: محمد بن محمد بن طرخان بن أبي نصر الفارابي.

15 ـ أخلاق ناصري (الأخلاق الناصرية)، تأليف: الخواجة نصير الدين الطوسي.

16 ـ فقه السياسة، تأليف: السيد محمد الحسيني الشيرازي.

17 ـ الإمامة والسياسة، تأليف: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (م: 213 هـ).

18 ـ تنبيه الأمة وتنزيه الملة، تأليف: آية الله العظمى الميرزا محمد حسين النائيني.

19 ـ حكومت از نظر اسلام، تأليف: آية الله السيد محمود الطالقاني، شرح لكتاب (تنبيه الأمّة وتنزيه الملة) للمرحوم النائيني (مصدر فارسي).

20 ـ تاريخ سياسي وديني وفرهنگي در اسلام، في  ثلاثة مجلدات، تأليف: د. حسن إبراهيم حسن (مصدر فارسي).

21 ـ مقدمة ابن خلدون، تأليف: عبد الرحمن بن خلدون.

22 ـ فلسفه سياسي اسلام، تأليف: د. عسكري حقوقي (مصدر فارسي).

23 ـ الإسلام والحضارة العربية، تأليف: محمد كرد علي.

(87)

24 ـ الإسلام والتكامل الاجتماعي، تأليف: الشيخ محمود شلتوت.

25 ـ السياسة من واقع الإسلام، تأليف: السيد صادق الشيرازي.

26 ـ الحضارة الإسلامية، تأليف: آدم ميتز، نقله إلى العربية: محمد عبد الهادي أبو ريدة.

27 ـ تمدن اسلام در غرب، تأليف: غوستاف لوبون (مصدر فارسي).

28 ـ تاريخ التمدن الإسلامي، تأليف: جرجي زيدان.

29 ـ الفكر الإسلامي والمجتمع المعاصر في مشكلات الحكم والتوجيه، تأليف: د. محمد البهي.

30 ـ الإسلام النظام الإنساني، تأليف: د. مصطفى الرافعي.

31 ـ الفكر الإسلامي والتطوّر، تأليف: فتحي عثمان.

32 ـ انديشه سياسي در اسلام معاصر، تأليف: حميد عنايت (مصدر فارسي):

33 ـ فلسفه سياسي اسلام، تأليف: د. أبو الفضل عزتي (مصدر فارسي).

34 ـ اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية[1]، مباحث هامّة من تأليف: الفاضل المقداد السيوري.

(88)

35 ـ عوائد الأيام، تأليف: الملا أحمد النراقي[1].

36 ـ كتاب السياسة، تأليف: قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي أبو الفرج (م: 337 هـ).

37 ـ أدب السلطان، تأليف: أبو الحسن علي بن نصر.

38 ـ كتاب السياسة الكبير، تأليف: أحمد بن سهل أبو زيد البلخي.

39 ـ كتاب السياسة الصغير، تأليف: أحمد بن سهل أبو زيد البلخي[2].

40 ـ كتاب الدولة، تأليف: أبي إسحاق إبراهيم بن العباس الصولي[3].

41 ـ سياسة الملوك، تأليف: أبو دلف القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل العجلي[4].

بل كيف يمكن لنا أن نتصور قيام حضارة، تبلغ قمة الرقي والأهمية، دون أن تشتمل على نظام سياسي معقول؟![5]

إن عدم تدوين سلسلة من القوانين والأصول المحدّدة في المراحل الأولى من ظهور الإسلام ـ وحتى العصور والقرون اللاحقة ـ بوصفها من القوانين والأصول السياسية للإسلام بشكل

(89)

منفصل عن سائر شؤون الحياة البشرية في الإسلام، له علة هامّة للغاية يعرفها المنظرون والمحققون في الدين الإسلامي، وتلك العلة عبارة عن: الاتحاد بين جميع شؤون وأبعاد الحياة الإنسانية (الاقتصادية، والسياسية، والحقوقية، والأخلاقي،ة والفنية).

ومن هنا فإن المباحث السياسية التي تمّ تدوينها على طول القرون والأعصار، والتي اتخذت تارة شكل كتاب مستقل، أو على شكل باب من أبواب الفقه تارة أخرى، إنما تمثل بيان بُعد من أبعاد الدين. وإن الأهمية التي يحظى بها البعد السياسي للإنسان من منظار الإسلام سيتم بيانها إلى حدّ ما في هذا الكتاب، وبمقتضى الحديث القائل: «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين، فليس بمسلم»[1] ـ والمروي متظافراً ـ يعتبر عدم التدخل في تنظيم الحياة الاجتماعية للإنسان، انحرافاً عن جادّة الإسلام.

وبالالتفات إلى الحقائق السياسية التي يمكن العثور عليها في التعاليم الإسلامية بكثرة، ندرك جيداً أن الإسلام وحده القادر على تنظيم  وإدارة الحياة المعقولة للناس.

ألا تكفي كل هذ الآيات الواردة في وجوب العدل والقسط[2]، والآيات الدالة على ضرورة رفع القيود والأغلال المعيقة للحياة المعقولة التي تؤدي إلى الحرية المنطقية، دليلاً على إثبات أهمية البُعد السياسي للإنسان في الإسلام؟

وسوف نذكر المزيد من التوضيح بشأن الحقائق السياسية في

(90)

الأبحاث اللاحقة إن شاء الله. وسنكتفي هنا بذكر بعض الآيات القرآنية الدالة على أن من بين أهم أهداف رسالة الأنبياء ـ بل يمكن القول إنه الهدف الأهم على الأطلاق ـ هو قيام المجتمعات على أساس القسط والعدل. ومن ذلك قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[1].

وبطبيعة الحال فإننا أمام ظاهرة تاريخية يتعيّن علينا البحث عن أسبابها. وهذا الظاهرة هي أن الأهمية الموجودة في مسائل وأصول الفلسفة السياسية للإسلام غالباً ما لم تأخذ حقها التفصيلي من البحث والنقاش العلمي والفقهي، كما أنها لم تُتبع من الناحية العملية أيضاً. فما هو سبب هذه الظاهرة؟

للإجابة عن ذلك يجب أن نلتفت ـ قبل كل شيء ـ إلى أن الحكومات والدول إنما كانت في الغالب تدار من قبل مدرسة الخلافة، وكانت هذه المدرسة تتبنى نظريات وأفكار أهل السنة في السياسة وإدارة الدولة، وحيث أن مدرسة أهل البيت في أغلب العصور والمجتمعات الإسلامية وحتى المرحلة المتأخرة لم تحصل على فرضة للظهور العملي في المسائل السياسية، لم يجد الفقهاء والمفكرون ضرورة إلى بحث وتحقيق الأصول والمسائل السياسية. ولكن مع ذلك تم عقد أبواب في الفقه والفلسفة والكلام وتم إخضاعها للتحقيق، الأمر الذي يثبت بوضوح مدى أهمية التفكير في سياسة المجتمع وإدارة شؤونه. وقد تطرقنا إلى بيان شيء من هذا البحث في تفسير عهد الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ إلى مالك الأشتر

(91)

النخعي ضمن كتاب لنا تحت عنوان «حكمت اصول سياسي»[1].

أدلة اشتمال الحقوق والأحكام الدينية ـ من منظار المصادر الإسلامية ـ على جميع الشؤون الدنيوية كاشتمالها على جميع الشؤون الأخروية:

1 ـ لو لم تكن شؤون الحياة الدنيوية مشمولة للحقوق والأحكام الدينية ـ على غرار الحياة الأخروية ـ لما وردت كل تلك التأكيدات والتعاليم الدينية لاجتثاث الفساد من على وجه الأرض. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ قوله تعالى:

أ ـ (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[2].

ب ـ (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [3].

لقد اشتمل القرآن الكريم على واحد وأربعين مورداً من الموارد التي تشير بمختلف الأشكال إلى ضرورة استئصال الفساد من على وجه الأرض.

من الواضح أن الدين إذا لم يكن له شأن بأمور الحياة الدنيوية، لما كان من المنطقي أن يشتمل القرآن الكريم ـ بوصفه كتاباً سماوياً ـ على كل هذه التعاليم والتأكيدات بشأن محاربة الفساد على

(92)

المستوى الأخلاقي والحقوقي؛ لأن الناس في العادة يدركون قبح وفداحة الفساد في الأرض، ويعلمون استحالة الحياة مع الفساد والإفساد.

إن القول بأن الدين ـ فيما يتعلق بمكافحة الفساد ـ لا يعدو أن يكون بياناً لقضية عقلية، هو مجرّد توهّم لا أساس له من الصحة؛ إذ أن الذين يقومون بالفساد وأتباعهم لا يرون أعمالهم فاسدة، بل ربما ذهب بهم التصور ـ بسبب أنانيتهم وتكبّرهم ـ إلى أن ما يقومون به هو عين العدل والإحسان والإصلاح!

لقد شهدنا على طول التاريخ مئات التفسيرات والتبريرات الباطلة بشأن الفساد والفاسدين، التي يتمّ من خلالها تنزيه وتبرئة أنفسهم. ولربما وصفوا جرائمهم وسفكهم للدماء البريئة بأنها نوع من مقارعة الفساد والمفسدين!

يقول الدين: إن تشخيص الفساد والمفسد، إنما يكون ـ مثل سائر الحقائق ـ من طريق العقول والفطرة الخالصة، لا من قبل أولئك الذين يعتبرون أنفسهم حماة الحق حتى إذا أبادوا جميع سكان الكرة الأرضية.

2 ـ الدعوة الأكيدة إلى التسابق نحو الخيرات، من قبيل قوله تعالى:

أ ـ (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[1].

هناك مسألتان في هذه الآية الشريفة، وهما:

المسألة الأولى ـ إن كلمة «الخيرات» تشمل جميع أنواع الخير

(93)

الأعم من الخير الفردي، والاجتماعي، والمادي، والمعنوي، والدنيوي، والأخروي. وإن الذي يسعى بشتى الطرق إلى حصر كلمة «الخيرات» بالخيرات الأخروية فقط، إما أن يكون جاهلاً بأساليب اللغة العربية، أو أنه يسعى إلى التشبّث بالمنطق التبريري لإثبات غاية في نفسه[1].

المسألة الثانية: إن ذات القاعدة الهامّة التي ذكرناها في تفسير الفقرة الأولى، تجري في هذه الفقرة أيضاً. بمعنى أن كل فرد أو جماعة تذهب ـ في الغالب ـ إلى اعتبار كل ما يوافق أنانيتها خيراً، حتى إذا كان من أسوأ أنواع الشرور، في حين يقيم الدين الإلهي أوامره وتعاليمه على أساس «الخير الواقعي».

3 ـ حليّة استثمار الموارد النافعة في الأرض لمواصلة الحياة الطيبة والعمل على تنظيمها، كما في قوله تعالى:

أ ـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا ...)[2].

وقد ورد هذا المضمون في القرآن الكريم ست عشرة مرّة.

إن الذين يعيشون في هذه الدنيا بوعي كامل، يتعاملون مع ما يتناولونه بحذر كامل؛ فلا يأكلون طعاماً أو يشربون شيئاً إلا بعد التأكد من صلاحيته للأكل والشرب، كذلك يفعلون تجاه تصرّفاتهم وأقوالهم وفي جميع أنواع ارتباطهم بعالم الطبيعة أيضاً. بمعنى أنهم حيث يحتملون الضرر من القيام  بهذه الأمور، فإنهم سوف يجتنبونها

(94)

ويحجمون عنها. بمعنى أنهم لا يعتبرون أنفسهم فيما يتعلق بجميع أنواع العلاقات الأربعة الرئيسة: «العلاقة بالذات، والعلاقة بالخالق، والعلاقة بعالم الطبيعة، والعلاقة بالنظراء في الخلق) أحراراً في القيام بكل فعل أو اتخاذ أي موقف أو قول كل شيء. فإنهم يراعون الاحتياط العقلي لدى احتمال أي نوع من أنواع الضرر.

وطبقاً لهذه القاعدة في ضمان الحياة، أقرّ الله سبحانه وتعالى جميع ما في هذه الأرض لاستفادة الإنسان، إلا ما كان منه خبيثاً وينطوي على ضرر (أعم من أن يكون هذا الضرر مادياً وطبيعياً أو ضرراً معنوياً وروحياً).

4 ـ الواجبات المالية لتنظيم البُعد المادي من الحياة، من قبيل: الزكاة، والخمس، والحق المعلوم بداعي اجتثاث الفقر والفاقة. والحيلولة دون الاكتناز (وجمع الذهب والفضة ومراكمتهما واحتكار ما يحتاج إليه الناس في سياق السعي وراء الثراء)، والربا، وأكل مال اليتيم لذات الغاية.

وفي القطب المقابل لهذه الواجبات، هناك حقوق تمّ إقرارها. بمعنى أنه يحق للفقراء وسائر موارد ومصارف الزكاة أن يعيشوا على الزكاة. وهكذا هو الشأن بالنسبة إلى الذين يستحقون الانتفاع بالخمس والحق المعلوم. وكذلك فقراء المجتمع يحق لهم الاستفادة من الأموال المكتنزة أيضاً. بمعنى أنه يجب على الحاكم الإسلامي أن يضع يده على المكتنز من الذهب والفضة بشكل يضر بمعاش المجتمع، وإخراجه إلى التداول لصالح إنعاش اقتصاد المجتمع، وفي ذلك يقول تعالى:

(95)

1 ـ (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[1].

2 ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ ...)[2].

3 ـ (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[3].

4 ـ (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[4].

5 ـ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)[5].

6 ـ (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)[6].

7 ـ (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[7].

5 ـ وجوب الوفاء بالعهود:

1 ـ (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) [8].

2 ـ (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً)[9].

3 ـ يجب أن يحصل العامل على أجره الذي يستحقه بأزاء عمله:

(96)

(... وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ...) [1].

6 ـ القصاص.

7 ـ الحدود.

8 ـ الديات.

9 ـ الوصايا.

10 ـ مسائل الإرث.

11 ـ حرمة التصرف في الأموال غير المشروعة.

12 ـ الجهاد.

13 ـ الدفاع.

14 ـ النكاح.

15 ـ الطلاق.

16 ـ التجارة والمعاملات.

17 ـ إقامة الوزن وسائر المقادير والأوزان.

18 ـ حرمة الاحتكار.

19 ـ حرمة بيع الأسلحة للمتحاربين، إلا ما كان للدفاع فقط.

20 ـ الدّين وتوابعه.

21 ـ الرهن.

22 ـ الضمان.

23 ـ الصلح.

(97)

24 ـ الوكالة.

25 ـ الإجارة.

26 ـ الشراكة.

27 ـ الأمانة.

28 ـ السبق للتمرين واكتساب المهارة والقوّة.

29 ـ حرمة الغصب.

30 ـ الإقرار.

31 ـ القضاء والشهادات.

32 ـ منع السفهاء من التصرّف المباشر في أموالهم وسائر شؤون الحياة.

33 ـ الوقف.

34 ـ الهبة.

35 ـ الأصول والقواعد الاقتصادية.

36 ـ الأصول والقواعد الحقوقية.

37 ـ الأصول والقواعد السياسية.

38 ـ تنظيم العلاقات مع الإقليات والشعوب والتي تعتنق الديانات الأخرى.

39 ـ إدارة الصحة والمسائل الطبية.

40 ـ التنظيم والتغيير أو الأمور المستحدثة التي تظهر في حياة الناس بمرور الزمن.

(98)

ومن هنا يمكن تقسيم الفقه الإسلامي إلى الأنواع والأقسام الآتية:

1 ـ فقه العبادات.

2 ـ فقه الأحوال الشخصية والمدنية.

3 ـ فقه المعاملات والعقود والإيقاعات.

4 ـ فقه الأخلاق.

5 ـ فقه السياسة.

6 ـ فقه العرفان.

7 ـ فقه الصناعة.

8 ـ فقه الارتباطات والعلاقات الدولية.

9 ـ فقه الثقافة.

10 ـ فقه الإدارة.

11 ـ فقه الجهاد والدفاع.

12 ـ فقه العلوم.

13 ـ فقه الاكتشافات.

14 ـ فقه الحقوق الجزائية.

15 ـ فقه العلوم.

16 ـ فقه سائر أنواع الحقوق.

17 ـ فقه القضاء (المحاكم).

18 ـ فقه مقارعة الجور والظلم.

(99)

19 ـ فقه مقارعة القبائح.

20 ـ فقه التشجيع والحث على الفضائل والخيرات.

21 ـ فقه المسائل الطبية.

22 ـ فقه التدبير للمستقبل.

23 ـ فقه الاطلاع على ما يجري في العالم وما إلى ذلك.

الأصول والقواعد الفقهية القائمة على المدركات الفطرية والقضايا العقلية والمتبنيات العقلائية والمبيّنة لكليات الواجبات وحقوق الحياة الدنيوية والأخروية[1].

في البداية لا بد من ذكر بعض المقدمات باختصار:

1 ـ إن الأصول والقواعد الفقهية هي تلك القضايا العامة لتوجيه دفّة الحياة الإنسانية في الدائرتين: (المادية والمعنوية)، والتي يمكن تطبيقها على الكثير من المسائل الجزئية. بمعنى أنه يتمّ الاستناد إلى تلك القضايا الكلية لاستنباط حكم المسائل الجزئية. من قبيل: قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، وقاعدة (أصالة اللزوم في المعاملات). حيث يتساوى المجتهد والمقلد في العمل بهذه القضايا.

في حين أنه في قواعد أصول الفقه، يكون المجتهد وحده الذي له حق توظيف هذه الأصول ـ بعد تحقيقها وإثباتها ـ في الاستدلال على إثبات القضايا الفقهية العامة، من قبيل: حجية الظواهر وما إلى ذلك.

2 ـ تنقسم الأصول والقواعد التي يُستند إليها في الفقه إلى قسمين، وهما:

(100)

القسم الأول: الأصول والقواعد المنصوص عليها في المصادر الأولى، من قبيل قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}[1] (قاعدة نفي العسر والحرج)، و(قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام).

القسم الثاني: الأصول والقواعد المستنبطة من الأدلة المعتبرة، من قبيل: أولوية تقديم الأهم على المهم في موارد التزاحم.

3 ـ على الرغم من أن طرق الوصول إلى الأحكام الواقعية في الفقه تختلف بلحاظ الكشف، إلا أنها بأجمعها تستند إما إلى المدركات الفطرية البحتة، من قبيل: القطع واليقين، أو عقلية، من قبيل: قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) حيث تنتفي الأحكام في موارد الضرر، والأمارات التي تكتمل كاشفيتها من قبل المشرّع، من قبيل: الآيات القرآنية الظنية الدلالة، والأحاديث والروايات غير قطعية الصدور، بيد أن كاشفيتها ـ بعد تتميم حجيتها من قبل الشارع ـ تعتبر من الواقعيات القانونية من الناحية العقلية.

وأما الأصول التي يستند إليها لرفع الحيرة والتردد في موارد الشك، من قبيل: (أصالة البراءة)، و(أصالة تقدم دفع الضرر على جلب المنفعة)، فهي قضايا عقلائية، تثبت حجيتها أو يتمّ تعزيزها وتقويتها من خلال إمضائها من قبل المشرّع الإسلامي.

4 ـ تنقسم القواعد الفقهية بالنظر إلى سعة وضيق موارد استعمالها في الفقه، إلى قسمين، وهما:

القسم الأول: القواعد العامة التي يمكن تطبيقها في جميع الأبواب الفقهية.

(101)

القسم الثاني: القواعد الخاصة التي تستعمل في بعض الأبواب الفقهية.

5 ـ هناك من بين هذه الأصول والقواعد بعض القواعد والأصول الاجتهادية (المتعلقة بأصول الفقه)، ما يتمّ بحثها لإمكان انظباقها على المسائل الفقهية.

نماذج من القواعد العامة

1 ـ قاعدة نفي الضرر والضرار: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».

2 ـ قاعدة نفي العسر واالحرج: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) [1].

3 ـ قاعدة نفي السبيل على المحسن: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) [2].

4 ـ قاعدة أولوية تقدّم الأهم على المهم في موارد التزاحم: «في موارد التزاحم بين الأهم والمهم، يُقدّم الأهم».

5 ـ قاعدة الاشتراك في التكليف: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [3].

6 ـ قاعدة عدم تداخل الأسباب والمسبّبات.

7 ـ أصالة الصحّة في قول وفعل المسلم: «ضع فعل أخيك المسلم على أحسنه».

(102)

8 ـ أصالة الصحة في عمل المكلف نفسه، بمقتضى الوعي والاختيار.

9 ـ أصالة صحّة الأشياء. وهذا الأصل لا يختص بعمل المسلم أو المؤمن، بل يشمل جميع الأشياء والحالات وأفعال الإنسان في الحياة الحقوقية، والقوانين الطبيعية السالمة.

10 ـ قاعدة: «دفع الضرر أولى من جلب النفع».

11 ـ قاعدة: «الضرورات تبيح المحظورات».

12 ـ قاعدة: «الضرورات تقدّر بقدرها».

13 ـ قاعدة دفع الشر والضرر بحدود الإمكان: «الشرّ يُدفع، والضرر يُدفع».

14 ـ قاعدة أن الأعم والأغلب يمكن أن يشكل مرجعاً وقرينة على الحكم: «الظن يُلحق الشيء بالأعم الأغلب».

15 ـ قاعدة: «ما لا يُدرك كله، لا يترك كله»، و«الميسور لا يسقط بالمعسور»، و«إذا أمرتكم بشي فأتوا منه ما استطعتم».

16 ـ قاعدة حرمة الإعانة على الإثم والعدوان: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [1].

17 ـ تعميم الأحكام الوضعية بالنسبة إلى مختلف الأحوال. ثبوت الأحكام الوضعية في مورد إتلاف مال الغير، دون اشتراط البلوغ أو العلم أو سائر شرائط الأحكام التكليفية الأخرى.

18 ـ إلزام كل شخص بما يلزم به نفسه: «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم».

(103)

19 ـ أصالة العمل بأحكام الشرائع السابقة ما لم تخالف القوانين والأحكام الإسلامية: «استصحاب الشرائع السابقة».

20 ـ يقوم الأصل العقلائي على العمل بالفروع بعد إثبات حجيتها عقلاً، إلا في موارد الشك، حيث يجب عندها إحراز عدم مخالفتها لأحكام الإسلام.

21 ـ كل ما تحتاج إليه شؤون قوانين الحياة الفردية، تقع مسؤولية توفيره بالدرجة الأولى على الفرد في حدود استطاعته، فإن عجز عن ذلك انتقلت المسؤولية إلى المجتمع والحكام. قانون «أمور الحسبة».

22 ـ كل ما تمسّ الحاجة إليه في تنظيم الحياة الاجتماعية، فهو واجب على الجميع كفاية «الواجب الكفائي»، إلا إذا توقف القيام به على شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص؛ فيجب عليهم حينها عيناً «الواجب العيني».

23 ـ أصالة عدم تسلط أحد على أحد، إلا ما ثبت بالدليل، من قبيل: ولاية الكبير على الصغير، وولاية الإمام المنصوب من قبل الله سبحانه وتعالى.

24 ـ قاعدة: «الإمام وليّ من لا ولي له».

25 ـ قاعدة: «الإسلام يجبّ ما قبله».

26 ـ أصالة الوفاء بالعهود والعقود والشروط: «المسلمون عند شروطهم، إلا ما خالف الكتاب أو السنة».

27 ـ قاعدة: «القرعة لكل أمر مشكل».

(104)

28 ـ أصالة بقاء الحكم السابق أو الذي شك في بقائه لاحقاً: «أصالة الاستصحاب».

29 ـ أصل  الإباحة في الأشياء: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه النهي».

30 ـ أصالة براءة الذمة من التكليف.

31 ـ قاعدة أن الجهل يرفع فعلية التكليف، إلا إذا كان عن تقصير: «رُفع عن أمتي ما لا يعلمون».

32 ـ نفي الحكم بالإكراه والإجبار: «رُفع عن أمتي ... وما استكرهوا عليه».

33 ـ قاعدة الاضطرار يُبطل المعاملة: «سيجيء زمان ... ويُعاملون المضطرّين». رغم الكراهة الشديدة في معاملة المضطر.

34 ـ أصالة نسبة العمل إلى السبب عندما يكون المباشر بمنزلة الآلة: «العمل للسبب، عندما يكون المباشر كالآلة المحضة».

35 ـ كل حكم شرعي يؤدي إلى ضرر على النفس أو المال أو العرض أو خالف المذهب الآخر، فإنه يكون ساقطاً بحكم التقية، إلا إذا بلغ الدم وإزهاق النفس (وعندها لا يمكن للمكلف أن يعمل على طبق التقية): (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)[1]، و(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) [2].

36 ـ أصالة عدم تحمل المكلف أحكام وتكاليف الآخرين، إلا

(105)

في بعض الموارد، من قبيل: تحمّل الإمام القراءة في صلاة الجماعة عن المأمومين: «الأصل عدم تحمّل الإنسان عن غيره، إلا موارد ورد الدليل عليها».

37 ـ لو كانت علة الحكم مركبة من أجزاء، كانت جميع تلك الأجزاء داخلة في تلك العلة، بحيث إذا انتفى جزء واحد من تلك الأجزاء، سيؤدي ذلك إلى انتفاء العلة، وبالتالي يسقط الحكم من رأس: «كلما كانت العلة مركّبة، توقف الحكم على اجتماع جميع أجزائه».

38 ـ قاعدة العدل: وهذه القاعدة من أكثر قواعد الفقه تعميماً على جميع الأبواب الفقهية.

39 ـ شمول الحكم لما لم يكن في السابق مورداً له، من قبيل: أن يعمل المكلف على وقف شيء من ماله على الفقراء، ثم يغدو فقيراً فيكون مشمولاً لوقفه بوصفه واحداً من موارده.

40 ـ قاعدة الأقربون أولى بالمعروف ـ في استحقاق الخيرات ودفع الأضرار ـ من الأبعدين. كما هو الحال في مسائل الأرث، وبشكل عام فإن الأقربين أحق بالمعروف، والأقرب يمنع الأبعد، وهكذا الأمر في تحمّل الأضرار، من قبيل: دية الخطأ على العاقلة، وهو من أهم القوانين في الحفاظ على التماسك في العلاقات بين الناس، وصيانة المجتمع من آفة اغتراب الناس عن بعضهم، وآفة «الاغتراب عن الذات» أيضاً.

41 ـ قيمة العمل بالنية: «لكل امرئ ما نوى»، و«إنما الأعمال بالنيات»، و«النية روح العمل».

(106)

42 ـ كل حكم خاص أو عام يستند إلى سبب خاص، يزول بزوال سببه: «الحكم الخاص أو العام المستند إلى السبب المعيّن، ينتفي بانتفاء السبب».

43 ـ الوصية حق على كل مسلم: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)[1].

44 ـ قاعدة: «من سبق إلى شيء لم يسبقه إليه أحد قبله، فهو أولى به».

45 ـ إذا لم يكن لدى الشخص ما يثبت مدعاه سوى ما يقوله، كان قوله حجة، إلا إذا كان متهماً بالكذب: «يجب قبول قول من لا يُعلم إلا من قبله، إلا أن يكون متهماً».

46 ـ كل حكم تحريمي إذا كان الترخيص فيه مشروطاً بتحقيق شرط أو سبب، كان إحراز ذلك الشرط والسبب ملازماً للحكم بترخيصه: «كل محرّم اشترط رفع الحرمة عنه بشرط أو سبب، لا بد من إحرازه للحكم بالرخصة فيه». وهذا الأصل أو القاعدة تعم حرمة النفوس والأعراض والأموال.

47 ـ وهكذا الأمر بالنسبة إلى الأحكام الواجبة إذا كان الترخيص في تركها مشروطاً بشرط أو سبب.

48 ـ العمل النافع محترم، ويجب عدم إسقاط قيمته: «العمل المحترم لا يكون ضائعاً».

(107)

49 ـ يجب دفع القيمة الواقعية للعامل: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) [1].

50 ـ قاعدة: الولد للزوج الشرعي، وأما الزاني فليس له من حكم غير الرجم: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر».

51 ـ قاعدة حرمة أكل الأموال بالأسباب والوسائل الباطلة: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)[2].

52 ـ قاعدة اعتبار البلوغ والعقل والقدرة من الشروط العامة للتكليف والالتزام: «رفع القلم عن الصبي والمجنون».

53 ـ قاعدة عدم جواز التقليد في الأصول والعقائد وجميع القضايا التي يكون العقل فيها هو الحاكم: «أصول العقائد بالنظر والاستدلال، لا بالتقليد».

54 ـ قاعدة حجية خبر الواحد في الموضوعات والأحكام، على ما ورد في آية النبأ والأدلة الأخرى.

55 ـ قاعدة: «تعيين طرق امتثال التكاليف والأحكام الوضعية موكول إلى العقلاء».

56 ـ تطبيق المفاهيم والقضايا العامة على مواردها، عقلي.

57 ـ قاعدة: «من له الغنم؛ فعليه الغرم».

58 ـ قاعدة: «كل ما تصحّ إعارته، تصح إجارته».

59 ـ قاعدة: «الممتنع شرعاً، كالممتنع عقلاً».

(108)

60 ـ إن الذي يمكن غض الطرف عنه في الأمور الفرعية، قد لا يمكن غض الطرف عنه في الأصول، فعلى سبيل المثال: لا يصح الوقف على المعدوم، ولكن يصح الوقف على المعدوم تبعاً للموجود: «يُغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها».

61 ـ قاعدة انصراف المطلق إلى فرده الشائع، شريطة أن لا يكون الانصراف هنا بدوياً: «المطلق ينصرف إلى فرده الشائع».

62 ـ لا يمكن إثبات شيء على سكوت من يستطيع التعبير عن نفسه، إلا إذا شكل سكوته قرينة على الرضا أو الرفض: «لا يُنسب لساكت قول».

63 ـ قاعدة: «لا يصحّ تأخير البيان عن وقت الحاجة».

64 ـ ما يخرج عن الاختيار بالمقدمة الاختيارية لا ينافي الاختيار والمسؤولية: «المنافي للاختيار بالاختيار، لا ينافي الاختيار»

65 ـ ما ثبت سابقاً بوصفه سنة صالحة، ولم يثبت خلافه لاحقاً، يبقى على حاله: «يا مالك، القديم يترك على قدمه، ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة».

66 ـ قاعدة: «الإقرار في موضع الإنشاء، إنشاء».

67 ـ قاعدة: «الأصل دليل، حيث لا دليل».

68 ـ قاعدة: «إعمال الكلام أولى من إهماله».

69 ـ قاعدة: «الإذن في الشيء، إذن في لوازمه البيّنة (البديهية)؛.

70 ـ قاعدة: «إذا زال المانع، عاد الممنوع».

71 ـ قاعدة: «الصلح سيّد المعاملات».

(109)

72 ـ إذا تعارض حكمان أو دليلان، فإنهما سيسقطان كلاهما: «إذا تعارضا تساقطا».

73 ـ قاعدة الجمع بين المتزاحمين أو المتعارضين ـ مهما أمكن ـ أولى من سقوطهما: «الجمع مهما أمكن، أولى من الطرح».

74 ـ قاعدة إذا ورد الاحتمال المعقول بطل الاستدلال: «إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال».

75 ـ يعتبر تصرف صاحب المال الذي نقله بأحد وجوه النقل والمعاملة فسخاً للمعاملة، كما يعتبر تصرف المنقول له فيه إمضاء لتلك المعاملة: «التصرّف فيما انتقل عنه فسخ، وفيما انتقل إليه إجازة وإنفاذ».

76 ـ قاعدة: «الالتزام بالشيء، التزام بلوازمه».

77 ـ قاعدة: «تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية».

78 ـ قاعدة: «في تعارض الوصف والإشارة، تقدّم الإشارة بشرط أن تكون مختصات الموضوع وأوصافه واضحة».

79 ـ قاعدة العجز عن أداء الدين يوجب تأجيله وتأخيره: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) [1].

80 ـ قاعدة نفي التكاليف التي تفوق الطاقة: «رفع عن أمتي تسعة ... وما لا يطيقونه».

تنويه: إن القاعدة الواردة في الرقم (2) يتعلق بأصول وقواعد قاعدة نفي الحرج. وعليه تكون لدينا ثلاث قواعد للنفي قد يتم الخلط بينها، وهي:

(110)

1 ـ قاعدة نفي العسر.

2 ـ قاعدة نفي الحرج.

3 ـ قاعدة نفي ما لا يُطاق.

إن الأدلة الفقهية التي تثبت هذه القواعد الثلاثة عديدة، ومن بينها: العقل. حيث يحكم العقل بداهة بأن التكليف يجب أن لا يؤدي إلى إرهاق المكلف وتحميله ما لا يطاق.

لا شك في أن الإرهاق يتحقق بالمشقة والعسر أيضاً. والحرج مشقة تفوق العسر، وما لا يطاق كما يبدو من العبارة يعني أنه يفوق الطاقة. وبالإضافة إلى الدليل العقلي القائم على نفي التكليف بما لا يطاق، تقوم الآيات القرآنية بدورها على تأييد هذا الأصل أيضاً، ومن ذلك قوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)[1]، والمأثور عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إذ يقول: «إن شريعتنا سهله سمحة»، وقوله للإمام علي (عليه‌السلام): «يا علي .. إِنَّ هذَا الدِّينَ مَتِينٌ؛ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُكَرِّهُوا عِبَادَةَ اللَّهِ إِلى عِبَادِ اللَّهِ؛ فَتَكُونُوا كَالرَّاكِبِ الْمُنْبَتِ الَّذِي لَاسَفَراً قَطَعَ، وَلَا ظَهْراً أَبْقى»[2].

نموذج من القسم الثاني (القواعد الخاصة المستفادة في أبواب خاصة من الفقه)

أولاً: نماذج من الأصول والقواعد القضائية

1 / 83 ـ قاعدة: «البيّنة على من ادعى، واليمين على من أنكر».

(111)

2 / 84 ـ قاعدة: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز».

3 / 85 ـ قاعدة: «من ملك شيئاً، ملك الإقرار به».

(إن هذه القاعدة هي ـ من ناحية ـ من مصاديق القاعدة المتقدّمة).

4 / 86 ـ قاعدة وجوب إظهار الشهادة، وحرمة كتمانها: (وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا)[1]؛ و(وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ) [2].

5 / 87 ـ عند دوران الأمر بين تخطئة البريء وتبرئة الخاطئ، يكون التقدم لتبرئة الخاطئ.

6 / 88 ـ لا إشكال في العقوبة على الذنوب والجرائم الدينية مع مراعاة العدل، وأخذ أهداف وغايات «الحياة المعقولة» بنظر الاعتبار.

7 ـ 89 ـ قاعدة: «لا يصحّ الإنكار بعد الإقرار».

ثانياً: نماذج من الأصول وقواعد القصاص والحدود والديات

1 / 90 ـ قاعدة لا يهدر دم امرئ مسلم. فإنه بالنظر إلى الآيات والأحاديث وحكم العقل لا يهدر دم أي نفس محترمة: «لَايَبْطُلُ  دَمُ امْرِئ مُسْلِمٍ»، وقوله سبحانه وتعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [3]، و(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيماً)[4].

2 / 91 ـ قاعدة: «تدرأ الحدود بالشبهات».

3 / 92 ـ قاعدة: «الدية في قتل الخطأ، على العاقلة».

(112)

4 / 93 ـ قاعدة: «في القتل العمدي أحد الأمور الثلاثة: القصاص، أو الدية، أو العفو»[1].

5 / 94 ـ الحكم في مورد التلف والجراحة غير المنصوص عليه بدية أو أرش من قبل الشارع، يعود تحديده إلى القاضي.

6 / 95 ـ تقع العقوبة على المذنب لا غير: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[2]. ولا ينافي ذلك دية قتل الخطأ على العاقلة، راجع هذه القاعدة.

7 / 96 ـ قاعدة القسامة في اللوث. واللوث يعني وجود قرينة أو قرائن سابقة تدل على أن المقتول قد قتل على يد المدعى عليهم.

وقد روي عن الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنه قال: «إنما جعلت القسامة ليغلظ بها في الرجل المعروف بالشر المتهم، فإن شهدوا عليه جازت شهادتهم». وعن يونس بن عبد الرحمن، عن ابن سنان قال: سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول: «إنما وضعت القسامة لعلة الحوط يحتاط على الناس لكي إذا رأى الفاجر عدوّه فرّ منه مخافة القصاص».

(113)

والقسامة أيمان يحلفها أولياء المدعي (خمسين قسماً) في قتل العمد، وخمسة وعشرين قسماً في قتل الخطأ، وفي غير هذه الحالة يعود الحكم على طبق القاعدة الأولية وهي: «البيّنة على من ادعى، واليمين على من أنكر». والقسامة تكون بأن يأتي المتهم ببينة على براءته، فإن لم يأت بالبيّنة ينتقل الأمر إلى القسامة من قبل أولياء المقتول.

ثالثاً: نماذج من الأصول والقواعد الحقوقية بشكل عام

1 / 97 ـ قاعدة: «العقود وما يشابهها (وما قام مقامها) تتبع القصود.

2 / 98 ـ قاعدة: انحلال العقود إلى أجزاء موضوع العقد، عند الإمكان.

3 / 99 ـ قاعدة: الوفاء بالعقود: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[1]، و«المسلمون عند شروطهم، إلا ما خالف الكتاب أو السنة».

4 / 100 ـ قاعدة: «كل عقد شرط فيه خلاف ما يقتضيه، فهو باطل».

5 / 101 ـ قاعدة: «كل عقد يتعذّر الوفاء بمضمونه، فهو باطل».

6 / 102 ـ قاعدة: «الأصل في العقود اللزوم».

7 / 103 ـ قاعدة: «حرمة ماله [الإنسان]، كحرمة دمه».

8 / 104 ـ قاعدة الصلح جائز ونافذ: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)[2]،

(114)

و«الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحلّ حراماً، أو حرّم حلالاً»[1]، و«الصلح جائز بين الناس».

9 / 105 ـ قاعدة: «المغرور يرجع إلى من غرّه»[2].

10 / 106 ـ قاعدة الضمان ينقل الدين من عهدة المدين إلى عهدة الضامن: «الضمان ناقل».

11 / 107 ـ قاعدة الأمين لا يضمن، إلا على وجه التعدي أو التفريط أو الاشتراط: «ليس على المؤتمن ضمان».

12 / 108 ـ قاعدة: «من أتلف مال الغير، فهو له ضامن».

13 / 109 ـ قاعدة: لا ضمان في العارية، إلا إذا كانت ذهباً أو فضة، أو كان إتلافها بالتعدي أو التفريط، أو إذا اشترط ضمانها.

14 / 110 ـ أصالة اليد: «لولا اليد لما قام للمسلمين سوق».

15 / 111 ـ قاعدة كل شخص أخذ شيئاً من شخص لا على نحو المعاملة والأمانة والعارية، كان ضامناً لذلك الشيء حتى يعيده إلى صاحبه: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي».

16 / 112 ـ حجية سوق المسلمين. إذا كان المجتمع عاملاً بالأحكام الإسلامية، أو كان أغلب أفراده ملتزمين بالأحكام الإسلامية، كانت الأقوال والأفعال والنوايا في ذلك المجتمع صحيحة: «لو لم يجز هذا، لما قام للمسلمين سوق».

17 / 113 ـ قاعدة كل دين حالّ (يجب أداؤه دون تأجيل): «كلّ

(115)

دين حال في موارد يبحث عنها في الفقه»، إلا في بعض الموارد، و«الدين مقضيّ».

18 / 114 ـ على الكفيل والضامن أن يكون على مستوى مسؤولية ما يكفل أو يضمن: «الزعيم غارم».

19 / 115 ـ قاعدة: «ما يُضمن بصحيحه، يضمن بفاسده».

20 / 116 ـ قاعدة كل ما كان له مثل يضمن بمثله، وما لا يكون له مثل يضمن بقيمته: «المثليّ يُضمن بالمثليّ، والقيميّ يُضمن بالقيمي».

21 / 117 ـ قاعدة: «منافع الأموال تضمن بالفوت أو بالتفويت»، و«المعتبر في الضمان، يوم التلف».

22 / 118 ـ الحرّ لا يقبل البيع والشراء: «الحرّ لا يباع».

23 / 119 ـ قاعدة من حاز شيئاً من المباحات العامة أصبح مالكاً له بالحيازة: «من حاز ملك».

24 / 120 ـ قاعدة: «من أحيى أرضاً ميّتة فهي له».

25 / 121 ـ قاعدة حرية تصرف الشخص في ماله: «الناس مسلطون على أموالهم».

26 / 122 ـ قاعدة: الإعراض عن المال، يسقطه عن الملكية.

27 / 123 ـ حريم الملك يدخل في اختصاص المالك بالمقدار العرفي: «من ملك شيئاً من الأرض ملك قراره في حريمه».

28 / 124 ـ الأصل عدم دخول شيء في ملك الإنسان قهراً، إلا إذا كان من الإرث أو الوصية للجنين: «لا يدخل في ملك إنسان

(116)

شيء قهراً إلا الإرث والوصية للحمل».

29 / 125 ـ قاعدة: «لا يقع عقد على عين أو منفعة إلا من مالكٍ أو بحكمه».

30 / 126 ـ قاعدة: «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه».

31 / 127 ـ قاعدة: «كل ما صحّ بيعه، صحّ رهنه».

32 / 128 ـ قاعدة تحقق الرهن مشروط بالقبض: «لا رهن إلا مقبوضاً».

33 / 129 ـ قاعدة: الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال، إلا في قحط أو مخمصة».

34 / 130 ـ قاعدة: «الكفر والقتل يمنعان الإرث».

35 / 131 ـ قاعدة: وجوب مراعاة الغبطة في الشؤون المهجورة.

36 / 132 ـ قاعدة: «كل من صحّ ـ أو جاز ـ منه المباشرة، صحّ منه التوكيل».

37 / 133 ـ قاعدة: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها».

38 / 134 ـ قاعدة: «من ملك شيئاً، ملك منافعه».

39 / 135 ـ إذا باع الشريك حصته من الملك، كان شريكه أو الشركاء الآخرون أحق بشراء حصته من غيرهم: «حق الشفعة».

40 / 136 ـ عند إبرام العقود ينبغي أن يكتب العقد أضعف الطرفين؛ لأن المغالطة أو سوء الاستغلال من قبل الأقوى أشدّ احتمالاً. (من الواضح أن هذا ليس أصلاً أو قاعدة عامة، وإنما

(117)

ترد لدفع الظلم المحتمل عن الضعيف).

41 / 137 ـ قاعدة: «الضمان يسقط بالإذن».

42 / 138 ـ في موارد إمكان الرد في المعاملة، يعتبر عدم رد المال إمضاء للمعاملة: «عدم الرد يعني الإمضاء».

43 / 139 ـ حرمان الشخص من منفعته الطبيعية والقانونية يعد من مصاديق الضرر: «عدم النفع الذي يقتضيه القانون ضرر».

 

نتيجتان في غاية الأهمية يمكن استنتاجهما من خلال الملاحظة الدقيقة في الأصول والقواعد الفقهية

النتيجة الأولى: إن الفقه الإسلامي لم يضع لإدارة الحياة الدنيوية والأخروية للناس في مسار هداية الشخصية إلى كمالها حدوداً وأطراً مصطنعة أو مختلقة؛ لأن كل أصل وقاعدة أقرها للحياة الفردية والاجتماعية، لا تكون متناغمة ومنسجمة مع الماهية الحيوية للحياة الإنسانية فحسب، بل هي كذلك تدفع إلى تحريك البشرية نحو «الحياة المعقولة» التي هي عبارة عن «الحياة الطيّبة» و«الحياة المستندة إلى البيّنة» بمعنى الدليل الواضح، والذي يعني بالتالي الهداية إلى الحياة التي يمكن أن تسند إلى الله ـ بوصفه مالك الحياة والموت ـ إذ يقول تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[1]. وإن ذات تلك الأصول والقواعد تعتبر عنصر تحريك إلى الحياة الآنف ذكرها.

(118)

النتيجة الثانية: بمساعدة الأخلاق الإسلامية السامية، تتمكن الأصول والقواعد الفقهية المذكور بعد تسليط الضوء التكاملي على الحياة الإنسانية من منح الفقه الإسلامي امتياز «الطليعية» و«الاتباع». فإن الفقه الإسلامي هو فقه طليعي من حيث ضمانه للاحتياجات المادية الثابتة للناس، في حين لا يمكن لأيّ شخص أو عامل أن يحدث تغييراً فيها. كما أنه تبعي من حيث فتح المستويات والأبعاد الإنسانية عند ظهور الموضوعات أو الظواهر الجديدة فيما يتعلق بالطبيعة، وعدم اعتراضه لامتلاك الزراعة والصناعة والتجارة ومئات الأنشطة الأخرى لتنظيم شؤون الحياة الدنيوية والأخروية، وعدم وضعه لأي عقبة أمام تطوير وتنويع هذه الأمور، بل يعطي الإنسان حق إيجادها وتطويرها، إلا أذا أخلت بالحياة الهادفة للناس، من قبيل: استغلالها في انتاج المخدرات، وإعداد عناصر الهيمنة خارج الأطر القانونية، واتخاذها وسيلة للإفراط في الشهوات، وتمهيد الأرضية لخلق الأجواء الاجتماعية لظهور المفاسد الأخلاقية، الأمر الذي يؤدي إلى الشعور بالفراغ والتفاهة في الحياة.

السيادة والحكم في القرآن

من الضروري أن تكون هناك دراسة وتحقيق بشأن «الحكم» من وجهة نظر القرآن الكريم؛ لإثبات حقيقة أن الدين الإلهي لا ينفك عن السياسة والحكم وسائر شؤون الحياة الدنيوية للإنسان.

فهاهو السيد مرتضى الزبيدي ـ الذي يُعدّ من كبار علماء اللغة ـ ذكر الكلام الآتي في بيان مفهوم «الحكم» لغة:

(119)

«الحكم ـ بالضم ـ القضاء في الشيء بأنه كذا أو ليس بكذا ـ سواء لزم ذلك غيره أم لا ـ هذا قول أهل اللغة. وخصص بعضهم، فقال: القضاء بالعدل. نقله الأزهرى». والمراد بالقضاء المعنى الأعم منه، الذي هو عبارة عن الإنشاء والجعل. ثم أورد الزبيدي ـ الملقب بإمام اللغة ـ شرحاً مسهباً لكلمة «الحكم»، ولم يرد في هذا الشرح والتحقيق أن يكون «الحكم» بمعنى العلم أبداً، ثم قال:

«الحكم أعم من الحكمة فكل حكمة حكم ولا عكس»[1]. وذلك لأن معنى الحكمة ـ على ما ذكره الحكماء وأورده الزبيدي في هذا المورد ـ هو «العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها». ولا يخفى أن الحكم على مقتضى العدل والتقوى والمعرفة الشاملة هو من أبرز مصاديق الحكمة، ولو أن الحكيم امتنع عن الحكم ـ رغم اجتماع الشروط لرفع الخصومات وإدارة الحياة الاجتماعية للناس ـ عُدّ مجانباً لرؤية الشرع والحكمة وخاطئاً.

إن الذي نستنتجه من ملاحظة مجموع الآيات القرآنية وموارد الاستعمال الشائعة بشأن «الحكم» هو (إنشاء وجعل ما يجب أو ينبغي أو ضدهما بشأن شيء واحد). ولو استعمل في بعض الموارد بمعنى العلم والمعرفة والحكمة النظرية البحتة، فهو استعمال شاذ، ويمكن أن يكون بداعي المقدمة الضرورية لـ «الحكم الصحيح» أي: (إنشاء وجعل ما يجب أو ينبغي أو ... بشأن شيء واحد) وليس الحكم ذاته.

الآيات القرآنية المشتملة على الحكم وبعض مشتقاته

(120)

تنقسم هذه الآيات إلى عدّة أقسام:

القسم الأول: الآيات التي تبيّن الحكم المستند إلى الله. وعدد آيات هذه الطائفة خمسة وخمسون آية. حيث تذكّر هذه الآيات بالحاكمية المطلقة لله عزّ وجل. من قبيل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ)[1].

إن الحكم في هذه الطائفة من الآيات يعني القضاء والحاكمية، وليس العلم والحكمة، رغم أن العلم والحكمة المطلقة لله سبحانه وتعالى يعدّان من مقدمات حكمه وقضائه.

القسم الثاني: الحكم المستند إلى أنبياء الله، من قبيل قوله تعالى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)[2].

القسم الثالث: الأحكام التي يصدرها الناس، من قبيل قوله تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)[3].

وقد ورد الحكم بهذا المعنى في ثمانية عشر مورداً من القرآن الكريم.

القسم الرابع: الحكم المستند إلى الكتاب السماوي، من قبيل قوله سبحانه وتعالى: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)[4].

وقد ورد هذه القسم في ثلاثة موارد من آيات القرآن الكريم.

(121)

ولا شك في أن معنى حاكمية الكتب السماوية، هو الفصل بين الخصومات وإزالة الخلافات بين الناس على نحو ما كان يقوم به الأنبياء (عليهم‌السلام) بالنظر إلى محتويات تلك الكتب.

القسم الخامس: هناك ثلاث آيات في القرآن الكريم يمكن للحكم فيها أن يكون بمعنى الحكم بالمعنى المصطلح والشائع (أي الحكم والحاكمية وجعل الوجوب وما ينبغي)، ويمكن أن يكون بمعنى العلم والحكمة، من قبيل قوله تعالى:

1 ـ (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[1].

2 ـ (أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ)[2].

3 ـ (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)[3].

هناك من توهّم أن الحكم الذي أعطاه الله للنبي داوود ـ عليه‌السلام ـ لا يمكن أن يكون بمعنى الحكم بحسب المصطلح الشائع؛ إذ أن الشخص قبل البلوغ لا يمتلك القدرة على الحاكمية بهذا المعنى. والجواب عن هذا التوهّم واضح؛ إذ كما أمكن لله أن يعطي مقاليد النبوة والكتاب إلى النبي عيسى ـ عليه‌السلام ـ بعد الولادة مباشرة، يمكنه أن يمنح صلاحية الحكم بحسب المصطلح الشائع (الحكم وجعل الوجوب وما ينبغي) للنبي يحيى (عليه‌السلام). وإن احتمال أن يكون الحكم في الآية رقم (2) بمعناه المصطلح الشائع أقوى بكثير من أن يكون المراد منه هو العلم

(122)

والحكمة؛ وذلك لأن العلم والحكمة قد تمّ تضمينهما في الكتاب والنبوّة، ومراد الآية هو الحكم وجعل الوجوب والتناسب بواسطة الكتاب والنبوة. كما نجد هذا المعنى في قوله تعالى:

ـ (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)[1].

ـ (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ...)[2].

القسم السادس: الآيات التي ورد فيها الحكم مقروناً بالعلم. من قبيل قول الله سبحانه وتعالى: (وَلُوطاً آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً)[3]. ولو كان الحكم هنا بمعنى العلم والمعرفة، لما كان هناك موضع لذكر كلمة «العلم» بعد ذكر «الحكم».

وفي ختام هذا البحث تجب الإشارة إلى هذه المسالة، وهي أنه لو وجد مورد في القرآن الكريم يكون فيه الحكم بمعنى العلم والمعرفة، فلكي لا يحصل تضاد بين معنى الحكم (جعل الوجوب وما ينبغي) والذي هو من أفعال النفس، و(معرفة الحقائق) الذي هو من مقولة الفهم والإدراك، من الضروري اعتبار الحكم هنا بمعنى الحكمة الشاملة للحكمة النظرية والحكمة العملية، والحكم بمعناه المصطلح الشائع يعتبر من أبرز مصاديق الحكمة العملية.

هناك آيات أخرى في القرآن الكريم تبيّن التدخل القطعي للدين في شؤون حياة الناس بشكل صريح، من قبيل قوله تعالى: (لَقَدْ

(123)

أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[1].

ولا شك في أن القيام بالعدل ومراعاة الحساب والقانون بشكل عام إنما يكون من أجل تنظيم شؤون الحياة.

إن النتيجة الهامة للغاية والتي نحصل عليها من مبحث (الحكم والحكومة في القرآن الكريم)، هي أن الحكم بمعناه الاصطلاحي الشائع هو من مختصات أنبياء الله وخلفائهم الحقيقيين. وهذا الأصل لا ينسجم مع نمط التفكير العلماني. وقد تم طرح مسألتين هامتين في هذا السياق، وهما جديرتان بالبحث والتحقيق:

1 ـ إن الحكومة هي الحكمة والعلم بالمسائل السياسية والحياة الاقتصادية للناس، لا أكثر.

إن لازم هذا الأمر هو أن الساسة الاعتيادين الذين يميلون في الغالب إلى اتباع الأسلوب الميكافيللي (القاضي بأن الغاية تبرر الوسيلة، وأن بالإمكان ارتكاب أفضع الجرائم من أجل الوصول إلى الغاية) في إدارة الدولة، لا يصلحون للحكم الحقيقي في المجتمع؛ لأن سياسة هؤلاء تقوم على أساس تنظيم حياة الناس في المجتمع على طبق الغرائز الطبيعية البحتة، لا على أساس الحكمة النظرية والعملية المناسبة التي هي من «مباني وأصول الحياة المعقولة».

2 ـ أن الحكومة ليست من سنخ الهيمنة والسلطة المطلقة على الناس، ناهيك عن الولاية والقيادة بالمصطلح الديني.

(124)

من البديهي أن مسألة إدارة المجتمع وسياسة المدن، وفهم الحكمة النظرية والحكمة العملية بوصفهما تعبيراً عن الواقعيات في دائرتها لا تمثل هذين النوعين من الحكمة، بل أن السياسي يلتزم من خلالهما بان يحكم ويفاوض، بمعنى أنه ينشئ ويجعل الواجبات وما ينبغي للحياة الاجتماعية للناس في الدائرتين المادية والمعنوية بالالتفات إلى عناصر ودوافع «الحياة المعقولة» للمجتمع. وتثبت الشواهد التاريخية أن الساسة ينقسمون إلى قسمين متضادين، وهما:

1 ـ الحاكم العادل.

2 ـ الحاكم الجائر والظالم.

من البديهي أن مصطلح «الحاكم» يحمل في أحشائه مفهوم القائد أيضاً، وهكذا الأمر بالنسبة إلى «مصطلح الوالي». فهذان المصطلحان لا ينطويان على معنى الاستبداد والأنانية، وإنما ذلك يتوقف على شخصية الأمر والحكم والولاية. ونحن في المصادر الإسلامية نواجه مصطلح الوالي، والولاة، والحاكم، وحكام العدل والجور كثيراً. بيد أن انطباق كل واحد من هذه المصطلحات على أولئك الذين يسلبون الاختيار والشخصية من الناس، ويعملون على إهانة واحتقار أبناء المجتمع، هو أمر مرفوض من منظار الحكمة السياسية في الإسلام بشدة.

عناصر اختلاط مفاهيم الحكم والحكومة في أذهان الحكام والناس

في هذا المورد يجب التفريق بين عناصر وأسباب اختلاط مفاهيم

(125)

الحكم والحكومة في أذهان الحكام والناس. إن أسباب اختلاط مفاهيم الحكم والحكومة في أذهان الكثير من الحكام هي ذات الأسباب التي تؤدي إلى اختلاط مفاهيم من قبيل: الحرية، والفن، والثقافة، والقدرة وأمثال ذلك مما يعمل الحكام المستبدون على توظيفه في مآربهم الخاصة.

وفي الحقيقة فإن هذا هو نفس عنصر الأنانية والاستبداد الذي دفع الأغلبية الساحقة من الحكام ـ بسبب رغبتهم الجامحة إلى ممارسة السلطة والهيمنة على الناس ـ إلى التخبّط في مستنقعها. وبطبيعة الحال قد لا يكون الشخص مبتلياً بداء الأنا والطغيان على القوانين في بداية تربّعه على عرش الحكم، وإنما يُصاب بهذا المرض تدريجياً بعد تذوّق طعم السلطة وخضوع الناس له. إن هذا المرض الذي ينشأ من طبيعة حبّ التسلط، لا يفرّق بين الحاكم السياسي والعادي والديني، ويجب على الناس والمدركين لحقهم في الحياة الكريمة أن يبذلوا كل ما بوسعهم ويقدموا كافة التضحيات من أجل القضاء على هذا المرض أو إزاحة الحاكم المريض من كرسي الحكم وإدارة الدولة.

أما أسباب اختلاط مفاهيم الحكم والحكومة في أذهان الناس، فهي على أنواع نذكر فيما يلي أهمها. وعلينا أولاً أن نلتفت إلى هذه المسألة وهي أنه منذ ظهور الحضارات وسطوع نور الأنبياء ـ عليهم السلام ـ والحكماء الحقيقيين في المجتمعات البشرية، كان الناس ـ كما أدركوا ويدركون شؤون حياتهم الفردية من حيث الحسن والقبح ـ يفهمون كذلك شؤون حياتهم الاجتماعية التي يفسرها الساسة

(126)

ورجال الدولة ويعملون على توجيهها. وأما عجز البشرية في بعض المجتمعات والمراحل التاريخية عن التمييز بين مختلف معاني الحكم والحكومة، ونتيجة لذلك أذعنوا للحكم والحكومة الظالمة، يمكن أن يكون معلولاً لعلل من قبيل:

1 ـ العجز عن مواجهة السلطات المستبدة والطاغية، بحيث لا يتمكنون من توظيف أدنى أدوات إبداء الاعتراض القولي والعملي.

2 ـ اتباع الهوى والشهوات والبذخ، دون التفات إلى ماهية الحكم ومعنى الحكومة. إن هؤلاء يتبعون مدرسة «اغتنام الفرصة للحصول على أكبر مقدار من السعادة، ولو كان ذلك على حساب الآخرين، فما الحياة سوى ساعة يتعين على المرء أن يقضيها بالاستمتاع قبل أن يحين أجلة»!

3 ـ إن المساكين الذين ليس لديهم من هم سوى البحث عن لقمة العيش، والعثور على خيمة يبيتون فيها، بعيدون كل البعد عن هموم الحكم والحكومة أو معرفة ما إذا كانت حسنة أم سيئة. إن الذين عاصروا الحرب الطاحنة بين المطالبين بالمشروطة وأنصار الاستبداد، يقولون: في تلك الفترة كان السؤال الشائع الذي يتم توجيهه إلى الكثير من الأشخاص هو: هل أنتم من جماعة المشروطة؟ أم أنتم من جماعة الاستبداد؟ وكان الجواب: نحن أصحاب عوائل، ولا نفقه شيئاً مما تقولون، وكل الذي نرجوه منكم هو أن لا تقتلوا الناس اعتباطاً!

هناك من يحمل هذا التصور عن الحكم والحكومة، ويرى أنها لا تعدو إصدار الأحكام على نحو مطلق. بمعنى أن الحاكم يكون

(127)

من وجهة نظرهم فوق المسؤولية وأسمى من التكاليف والواجبات، وأن الناس هم دون مستواه، ويجب عليهم أن يذعنوا ويستسلموا لأرادته المطلقة!

من البديهي أن هذا النوع من الحكم والحكومة ليس معدوماً في الإسلام فحسب، بل إن الإسلام يحارب هذا النمط من الحكم والحكومة بكل قواه وإمكاناته، كما سنبين ذلك في الأبحاث القادمة إن شاء الله.

سبق لنا أن أشرنا بأن الحكم والحكومة ـ أياً كان مفهومها المعقول ـ حيث يجب أن تتحلى بقدرة ملزمة للناس في اتباع التفاوض وتدبير شؤون الدولة؛ لذلك لا يمكن اعتبار مجرّد العلم بطرق وأساليب إدارة الدولة حكومة وحكماً. بالالتفات إلى ضرورة رفع الخلط بين مفاهيم الحكم والحكومة، يأتي توظيف الأخلاق الإنسانية العالية والدين الإلهي العام ليثبت لزومه، ولا يمكن لهذا التطور في الحياة أن يتم مع اتباع سياسة «فصل الدين عن الحياة الدنيوية».

هل يجب البحث عن الفلسفة السياسية في المجتمع الإغريقي والقرون التي أعقبت عصر النهضة لاحقاً فحسب؟!

لا شك في أن الحضارة الإسلامية لم تكن لتكون لولا اشتمالها على فلسفة سياسية معقولة وقابلة للتطبيق. لذلك يجب على المؤرخين والمحللين في الفلسفة السياسية اجتناب هذه القفزة الاعتباطية (القفزة من الفلسفة السياسية الإغريقية والرومية إلى الفلسفة  السياسية في المرحلة المعاصرة)، وأن يتناولوا الفلسفة السياسية للإسلام بالدراسة والتحقيق أيضاً. وقد ارتكب هذه القفزة الخاطئة

(128)

في تاريخ العلم أكثر المؤرخين في حقل علم الفلسفة والمحللين لهذين النوعين من المعرفة. حيث نشاهد أن هؤلاء المفكرين في حقل العلم والفلسفة، يقفزون فجأة من العلم والفلسفة الإغريقية، ليخوضوا في تداعيات هذين النوعين من المعرفة في مرحلة ما بعد عصر النهضة! إن هؤلاء من خلال هذه النظرة الناقصة والمجتزأة، يتجاهلون الدور العظيم للإسلام فيما يتعلق بهذين النوعين من المعرفة المذكورة، وإن هذه المحدودية هي التي تسقط قيمة نظرياتهم في هذه المباحث فائقة الأهمية. إن على هؤلاء أن يعلموا أن مصطلح العصور الوسطى المظلمة إنما يخص الشعوب والأمم الغربية، ففي تلك المرحلة كانت االمجتمعات والبلدان الإسلامية ـ ولا سيما في نهاية القرن الثاني إلى القرن الخامس للهجرة ـ وبعض المجتمعات والشعوب الأخرى في الشرق تعيش ذروة ازدهارها العلمي وأعلى درجاتها الدينية والاعتقادية.

إن النتيجة التي نحصل عليها من هذا البحث هي ضرورة تناول الفلسفة السياسية للإسلام التي لا يمكن تناول أي حضارة أخرى دون أخذها بنظر الاعتبار. ولكي تقف على حقيقة الإسلام بوصفه فلسفة سياسية «طليعية» ومنسجمة مع الحقوق والاقتصاد والأخلاق «التقدمية»، راجع بحث «إطلالة على حجم الكتب المؤلفة والمحققة من قبل المسلمين في المسائل السياسية» في الصفحات السابقة.

عجز كلا النظامين (نظام الفلسفة السياسية القديم والحديث) القائمين على العلمانية عن حل المشاكل السياسية للبشر

إن النظريات بشأن التفاوت بين الفلسفة السياسية القديمة والجديدة مختلفة.

(129)

هناك من المحققين والمنظرين من يذهب إلى الاعتقاد بأن الاختلاف الجوهري بين أسلوب التفكير السياسي القديم وأسلوب التفكير السياسي الحديث، يكمن في أن النظريات السياسية القديمة كانت تأخذ جميع الحقوق والامتيازات البشرية لمجموع أفراد المجتمع بنظر الاعتبار، وفي الحقيقة فإن وظيفة جهاز السلطة تقوم على تطبيق هذه السياسة، دون أن يكون آحاد أفراد المجتمع محط اهتمام الدولة بشكل مستقل، وإنما هي تستهدف في الغالب الرفاه والحقوق والحريات الفردية.

يبدو أن تشخيص التفاوت الدقيق ما بين الفلسفة السياسية في العالم القديم والعالم المعاصر (لا على نحو الحدس والظنون) أمر في غاية الصعوبة؛ إذ أن لاهتمام الناس باستقلاليتهم وكرامتهم الذاتية، سابقة طويلة في تاريخ البشرية. رغم اختلاف ظهورها وتنوّع هذا الظهور الكبير في المجتمعات البشرية على المستويين الكمي والكيفي. فقد كانت الخدمات الجليلة التي قدمها الأنبياء العبريين إلى الحرية ـ على حدّ تعبير (هوايتهيد) ـ كبيرة للغاية.

أفهل يمكن في الأساس تصور حضارة في مجتمع لا يتمتع أفراده بالشعور بالهوية الفردية والشرف والكرامة الذاتية؟ يذهب بعض الفلاسفة في القرن الأخير (القرن العشرين) من أمثال (نورث هوايتهيد) إلى الاعتقاد بعدم تفسير الاختلاف الجوهري ما بين النظريات السياسية القديمة والجديدة فيما يتعلق بظاهرة العبودية ومفهوم الحرية. حيث قال ما نصه:

1 – Now in respect to the Political factions to the

(130)

ancient world nothing has yet been settled. Every problem which Plato discusses is still alive today yet there is a vest difference between ancient and modern political theories. For we differ from the ancients on the one premise on which they were all agreed slavery was the (to supposition) of premicag theorists then. Freedom is the presupposition if political theorists now).

In those days the penetratiny minds found a difficulty in reconciling sociological practice, and in those days our sociological find a difficulty in reconciling, irreconcilable only to do conceived as a hateful brute necessity. yet, when all such qualifications have been made, freedom and Equality consistiute an inevitable Presupposition for modern Political thought with an admixture of subsequent lame qualification: while slavery was a corresponding presupposition for the ancients. their with admixture of lame qualification. For both sets of thinkers God has been a great resource: a lot of things, which wont work on Earth, can be conceived as true in his sight. Ancients and Moderns in respect to this question face in directly opposite directions.

وترجمته: «فيما يتعلق باختلاف النظريات السياسية للعالم القديم لا تزال المشاكل على حالها دون حلول. ولا تزال جميع

(131)

المسائل التي بحثها إفلاطون مطروحة على طاولة البحث حتى هذه اللحظة. ومع ذلك هناك اختلاف رئيس ما بين النظريات السياسية القديمة والجديدة. لأننا نختلف مع القدماء في نقطة يتفقون عليها بأجمعهم. ففي المرحلة القديمة كانت العبودية هي محور استدلال نظريات السياسيين، أما الذي يشكل محور استدلال الساسة في العصر الراهن فهي مسألة الحرية والقيم الاجتماعية الإشكالية.

واليوم تتعرض التحقيقات الاجتماعية في مقارنة عقيدتنا بشأن الحرية مع مجموعة أخرى من الحقائق الواضحة والمذهلة والتي لا يمكن تطبيقها، حيث تبقى على شكل حقائق وحشية ومنفّرة، إلى الكثير من الإشكالات. وعلى كل حال فإن الحرية والمساواة هي التي تشكل محور الأفكار السياسية الجديدة رغم ما يعلق بها من الشوائب والعيوب.

يبدو أننا إذا أردنا الحصول على يقين بماهية هذا الاختلاف في المنهج الفكري السياسي القديم والحديث، يجب أن ندرس العلاقات الاجتماعية للناس فيما بينهم وندقق في مناسباتهم الثقافية والطبقية والاقتصادية والدينية والأخلاقية، وإلا فإن نظرياتنا في هذا الشأن لن تتجاوز حدود الحدس والظن.

وبالنظر إلى الاختلاف بين قواعد الفلسفة السياسية (القديمة والجديدة)، والمشاكل الرئيسة الموجودة في كلتا هاتين الرؤيتين، فإن الرؤية المذكورة جديرة بالبحث وإعادة النظر. يضاف إلى ذلك وجوب التحقيق في تشخيص كيفية وكمية حرية الأفراد في المجتمع اليوناني القديم في دائرته الاجتماعية والسياسية بشكل دقيق.

(132)

 

 

 

 

 

 

الفصل الخامس

علاقة الحكومة والسياسة

بالأحكام الإلهية

(133)

الفصل الخامس

علاقة الحكومة والسياسة بالأحكام الإلهية

هل الحكومة والسياسة خارجة عن مدار التكاليف والأحكام الإلهية العامة؟

تذهب العلمانية إلى انفصال الدولة والسياسة الحديثة عن دائرة التكاليف والأحكام الإلهية العامة. ويأتي التوضيح والاستدلال على إثبات الجواب المذكور على النحو الآتي: عندما نلقي نظرة على التاريخ البشري، ندرك أن جميع الحكومات التي أدارت المجتمعات ـ حتى في أرقى أنواعها ـ إنما كانت منبثقة من حقيقة بسيطة وناشئة عن الحاجة الطبيعية القائمة على أصول وقواعد تجريبية. إن هذه الظاهرة شبيهة بحاجة جميع الكائنات الطبيعية إلى العيش في بيئة صالحة للحياة، وهذا ما يفعله الكائن البشري لنفسه ولأسرته. وقد استنتج من هذا التوضيح أن الحكومات وإدارة المجتمعات لا ربط له بحقائق ما بعد الطبيعة، وهي مفتقرة إلى الثوابت الإلهية. وأما من منظار الحكمة العالية (لا بمعناها المصطلح) فلا بد لتنظيم جميع شؤون «الحياة المعقولة» من نظام إلهي لإدارة الدولة، بل ومن منظار أوسع حتى تلك الأصول والتجارب ومباحثات إدارة الدولة التي تتم بهدف تنظيم الحياة الطبيعية للناس من أجل الوصول إلى «الحياة المعقولة» أو (الحياة الطيّبة) فهي قطعاً ذات صبغة إلهية وتحظى

(134)

بشعاع إلهي. ويمكن رصد توضيح أرضية هذا النوع من الحكومة في البحث الآتي.

نظام إدارة الدولة مهما كان متطوّراً يمكن أن تكون له ناحية طبيعية ويمكن أن تكون له ناحية إلهية

إن أنظمة إدارة الدولة لدى الأقوام والشعوب على طول التاريخ تتبلور في عالم الطبيعة وبين المجتمعات البشرية كما تتبلور حياة الفرد في عالم الطبيعة والأفراد في المجتمع. لا شك في أن الفرد والمجتمع وكذلك الأنظمة والساسة الذين يديرونها، يتجلى في رقعة الطبيعة وأجزائها وقوانينها ويواصل نشاطه على هذه الشاكلة، ولكن كما يمكن تصوّر درجات متفاوتة من الحياة لأفراد البشر، فإن الحياة الاجتماعية ونظام إدارة الدولة تشتمل على مثل هذه الدرجات أيضاً. ويمكن بيان الأقسام الرئيسة لحياة البشر على النحو الآتي:

1 ـ الحياة الطبيعية البحتة: وهي التي تواصل نشاطها بإدارة الذات الطبيعية الحيوانية. وفي هذا القسم من الحياة، تخضع جميع قوى الإنسان ـ من إدراك وتصوّر أبسط الأمور إلى أهم الأنشطة الفكرية والعقلانية والوجدانية ـ لأمر هذه الذات الطبيعية وفي خدمتها. إن هذا النوع من الحياة مهما كان متطوّراً، لا يقبل التفسير والاستدلال المعقول؛ إذ لا يمكن أن يلبي الهدف والغاية الأسمى من الحياة، كما لا يمكن أن يمتلك دفاعاً معقولاً في مواجهة تيار الصراع من أجل البقاء، حيث يكون الأقوياء هم وحدهم سادة الميدان. إذا كان نظام إدارة الدولة ـ حتى في أكثر أشكاله تقدماً ـ يدور حول محور

(135)

الذات الطبيعية للناس، والذي يمثل حبّ الذات أهم خصائصه، لن يكون بحاجة إلى تدخل العامل الإلهي، بل إن هذا النوع من العوامل يشكل عنصر إزعاج لنظام إدارة الدولة، وإن هذا النظام يجب أن يواجه تلك العوامل.

2 ـ الحياة الطبيعية الإلهية: إن معنى هذه الحياة أولاً: أن يعمل الأشخاص على رفع مشاكلهم من خلال العمل على توظيف الطبيعة، والتعاون مع أبناء جلدتهم على أساس القوانين الطبيعة. وثانياً: أن ينظموا حياتهم على أساس الأصول تجاه الهدف الأسمى من الحياة التي تتمثل بالاقتراب من دائرة جاذبية الكمال الأعلى. في هذا النوع من الحياة يبدو تدخّل العنصر الإلهي ضرورياً. بمعنى أن الإجابة عن الأسئلة القائلة: (من أكون؟ ومن أين أتيت. وإلى أين أتيت؟ ومع من أكون؟ ولماذا أتيت؟ وإلى أين المصير؟)، لن تكون ممكنة إلا من خلال تدخّل العامل الإلهي المتمثل بقوله سبحانه وتعالى: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[1]. كما لا يمكن لأي قاعدة أو قانون أن يجيب عن المسائل البشرية فيما يتعلق بعلاقاته الأربعة، وهي: (1 ـ علاقة الإنسان بنفسه. 2 ـ علاقة الإنسان بخالقه. 3 ـ علاقة الإنسان بعالم الوجود. 4 ـ علاقة الإنسان بنظرائه في الخلق)، دون أن يكون هناك تدخل من العامل الإلهي الذي يشتمل عليه الدين بأجلى صوره.

وعليه يمكن للسياسة والدولة أن تكون طبيعية بحتة، كما

(136)

ذهب [الدكتور مهدي حائري يزدي][1] مؤلف كتاب (حكمت وحكومت)، حيث قال: «إن الحكومة ونظام إدارة الدولة مهما كان متطوّراً في شكله، لا يعدو أن يكون مفهوماً تجريبياً طبيعياً وفي غاية البساطة...».

إن هذا هو ما عليه نظام حياة النمل والنحل، حيث تبني مستعمراتها على طبق القوانين الغريزية والأنا الطبيعية لهذه الحشرات، مع فارق أن نظام حياة الإنسان وإدارة هذه الحياة أشدّ تعقيداً وأكثر تشعباً؛ وذلك لأن الإنسان بخلاف هذه الحشرات يتمتع بقوى وطاقات هامة للغاية، من قبيل: الإدراكات العامة، والعقلانية التجريدية، والفكر والتعقل، والتنافس البناء، وتوظيف العهود والعقود والاكتشافات والإبداعات المستندة إلى النبوغ والعبقرية وما إلى ذلك. وعلى الرغم من ذلك فإن هذه القوى والطاقات إذا دارت حول محور الأنا، وعملت على تبرير ذاتها بأمواج القوانين الطبيعية، ولم تعمل على الاستفادة من الأشعة الإلهية ما فوق المادة والماديات، فهي لن تعدو ماهية حياة الكائنات والحشرات الآنف ذكرها. كما يمكن للسياسة والدولة أن تكون طبيعية ـ إلهية. وذلك عندما تكون في خط الأنبياء (عليهم السلام).

3 ـ الحياة العقلانية (Intellectualism): مرادنا من هذه الحياة

(137)

هو توظيف جميع شؤون الحياة بالعقل وأدلته. واليوم يُنسب هذا النوع من الحياة إلى الغرب عادة، كما أن المجتمعات الغربية تدعي ذلك بكثرة.

إن الذي يبرزه من يدعي منطقية هذا النوع من الحياة، هو أن جميع أمور وشؤون حياة الناس يعطي ثماره في هذا النوع من الحياة والعقل بمعناه العام الشامل للعقل النظري والعقل العملي. ويبدو أن إسناد جميع شؤون وأمور الحياة إلى العقل وأدلته الواضحة والمقنعة لم يبرز حتى الآن بشكله الكامل في أيّ من المجتمعات البشرية، ويمكن القول: إن مثل هذا الإسناد غير ممكن، (إلا في الأنظمة الدينية الحقيقية، والتي يستفيد فيها العقل السليم والحر من جاذبيات الذات الطبيعية الحيوانية، بمعنى من المعاني الإلهية في الحقوق والثقافة والسياسة والحكومة). فعلى سبيل المثال: أي عقل نظري وأي عقل عملي اعتيادي يمكنه ـ فيما يتعلق بأصالة القوّة والصراع من أجل البقاء ـ أن يُثبت القيمة الحقيقية للعدالة والكرامة الإنسانية والحرية المعقولة؟! في حين أن جميع المجتمعات التي تدعي اتباع المنهج العقلاني في الحياة الاجتماعية والسياسية، تعرّف نفسها بوصفها الحامي الرئيس للحقائق الأخلاقية المذكورة.

وإن أبرز نماذج هذه الحماية نجده فيما يقرب من عشرين مورداً من الموارد المذكورة في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ضمن عبارات تحمل في طياتها هذه القيم الأخلاقية، وذلك على النحو الآتي:

« لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصّلة في جميع أعضاء الأسرة

(138)

البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم ..

ـ ولما كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني، وكان غاية ما يصبو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة ..

ـ ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية الإنسان، لكيلا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرّد على الظلم والاستبداد ..

ـ ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أكدت في الميثاق من جديد إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية، وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن ترفع مستوى الحياة في جوّ من الحرية أفسح ..

ـ ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها ..

ـ ولما كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى للوفاء التام بهذا التعهد ..

فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع ـ واضعين على

(139)

الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم ـ إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات مطردة (قومية وعالمية) لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها».

وكما تلاحظون فإن ما يقرب من جميع فقرات هذا الإعلان تدعو إلى الدفاع عن قيم الحياة. إن المصطلحات والكلمات الأخلاقية الواردة في مجموع مقدمات ومواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هي كالآتي:

1 ـ الإنسان محترم بوصفه كائناً.

2 ـ الحيثية الذاتية للإنسان.

3 ـ أعضاء الأسرة البشرية.

4 ـ الإخاء والمساواة.

5 ـ علاقات الصداقة والمحبة.

6 ـ الروح الإنسانية.

7 ـ الحقوق المتكافئة.

8 ـ الحرية.

9 ـ السلام.

10 ـ العدالة.

11 ـ أسمى آمال البشر.

12 ـ العقل والوجدان.

(140)

13 ـ الحياة.

14 ـ العقيدة.

15 ـ الإيمان بالأمم المتحدة.

16 ـ الاحترام العالمي.

17 ـ الإحساس بالتفاهم المشترك.

18 ـ الممارسات الوحشية (التي يكون ضدّها مطلوباً ومنشوداً).

19 ـ التمرّد (وضدّه مطلوب أيضاً).

20 ـ السعي وبذل الجهد.

21 ـ الحدّ الأكمل من النضج والرشد.

22 ـ الرعاية الصائبة للمقتضيات الأخلاقية[1].

والذي يمكن قوله هو إن هناك في هذا النوع من الحياة والحكم والسياسة (العقلانية بحسب المصطلح)، مقداراً من القضايا العامة بوصفها من الأصول السابقة (أو الأمور المفترضة مقدّماً)[2] المقبولة، والتي تقوم الحياة والحكم والسياسة على أساسها. بمعنى أن الناس والحكام والساسة يعمدون إلى الاستدلال بهذه الأصول لإثبات واقعياتهم ومطالبهم وأنشطتهم، في حين أن ذات هذه الأصول قد تواجه عند التحقيق بعض المشاكل التي لا يمكن حلها وفصلها أبداً.

وخير مثال على هذه الأصول في المرحلة المعاصرة هو مفهوم الديمقراطية في بعض بلدان العالم حيث يمثل أساساً مقبولاً في

(141)

تلك البلدان والحكام ورجال السياسة، ويعملون على توظيفه والاستفادة منه في تفسير وإثبات القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية والحقوقية والاقتصادية وما إلى ذلك.

وعلى هذا الأساس فإن المراد من عقلانية الحياة والحكم والسياسة لا يعني بالضرورة أن جميع هذه القواعد والمسائل يمكن تفسيرها بتلك الأصول والقواعد العقلية الواضحة والبديهية.

ولإثبات هذا المدعى يكفي أن نلتفت إلى المشاكل الستة الهامة الكامنة ـ من وجهة النظر العلمية والعقلية ـ تحت المستويات والسطوح الظاهرية للنظام الديمقراطي.

النظام الديمقراطي في الحياة والحكم والسياسة ومشاكله الستة

قبل بيان هذه المشاكل الستة، من الضروري جداً التذكير بهذه الحقيقة، وهي أنه لا يشك عاقل ومدرك في أن الحرية هي من أعظم النعم التي منحها الله سبحانه وتعالى للإنسان بعد نعمة الوجود والحياة. إن الفرد المحروم من الحرية يعني الكائن المجرّد من هويته وشخصيته؛ فهو مجرّد ورقة في مهبّ العوامل الطبيعية، وأداة جامدة تحرّكها السلطات الدكتاتورية والمستبدة كيفما تشاء. ومن البديهي أن الإنسان الفاقد للهوية والشخصية والذي يكون مجرّد آلة جامدة، إذا قدّر له أن يعيش في الحياة، فإنه لن يعدو أن يكون مجرّد كائن متحرّك كتب عليه أن يحمل الحياة عبءاً على كاهله مكرهاً. إنه يمتلك هوية مستعارة وشخصية مقطّعة الأوصال ـ هذا إن كان له مثل هذه الشخصية ـ ويجب عليه في كل لحظة أن يستأذن العوامل الطبيعية وإرادة السلطات المستبدة من أجل تحريكها، ولذلك فإننا

(142)

نقول بشكل قاطع: إن كل شخص أو جهة تعمل على سلب الإنسان حريته، فإنه يقوم بذات الجريمة التي يقوم بها من يسلب الإنسان روحه وحياته، أو أن يلحق الضرر بها في الحد الأدنى.

1 ـ هل كل ما يطالب به الناس يقوم في جميع الأحوال على أساس من العقل، أم هناك تدخل شديد للأهواء في هذه المطالب؟

2 ـ هل كل ما حصل على طول التاريخ وإلى هذه اللحظة من الظواهر بوصفه غاية مطمح للناس والحكام، كان في إطار المصلحة الحقيقية للناس والحكام؟ إذا كان الأمر كذلك، إذن كيف يمكن تفسير وتوجيه الحروب وسفك الدماء والعنف ونقض العهود التي طبقت التاريخ بأسره، ولم يكن لها من دافع سوى حب الناس والحكام للسلطة والجاه وتعطشهم إلى المناصب؟ يضاف إلى ذلك: كيف يمكن تفسير مرحلة العبودية والاسترقاق التي كانت حاضنة لجميع المسائل الثقافية والحقوقية والسياسية والأخلاقية؟!

3 ـ إن التلقينات الحاذقة لتحسين أو تشويه الحقائق والأهداف والغايات، أو الشخصيات التي تحظى باستقبال وترحيب الناس نتيجة لتأثرهم بتلك التلقينات، تؤدي إلى بلورة وظهور آراء الناس ونظرياهم بما يتوافق مع تلك التلقينات. وبعبارة أوضح: إن ذلك سيخلق «عرضاً مصطنعاً، وطلباً مصطنعاً»! وعليه هل يمكن لنا بذلك أن نتبجّح بالديمقراطية الحقيقية؟!

4 ـ لقد كان للشعارات والمصطلحات والخطب البليغة والجميلة على طول التاريخ البشري تأثير كبير وعميق على توجيه دفة أذهان الناس، مع أن غرض أصحاب تلك الخطب والشعارات لم يكن هو

(143)

محتوى تلك الشعارات، وإنما هي مجرّد تمنيات مفرطة وخيالية تنشد بناء المدن الفاضلة أو اليوطوبيا لا أكثر، وعليه كيف يمكن التعامل مع مثل هذه الأمور؟!

وفيما يلي نقدم بعض الصور عن المصير المؤلم الذي تعرّض له البشرفيما يتعلق بهذه الخطب الرنانة ذات الألفاظ القشيبة والشعارات الجميلة والخادعة؛ لنفتح عليها أعيننا جيداً:

«أيها الحرية، المناوئة للسلاسل والقيود، يا خير وسيلة لاستنشاق عبيرالحياة، ما أكثير الأغلال التي ربطت أقدام البشر باسمك»!

«أيتها العدالة! كم هو حجم المظالم التي تم تجميلها باسمك المقدّس، وتم حرمان المجتمع البشري من لقائك وتطبيق الحياة على قواعدك، وبقيت كما أنت مضيّعة ومهجورة»!

«أيها الحق! يا بداية ونهاية أساس عالم الوجود، كم هي الأباطيل التي تمّ تزيينها وتزويقها باسمك، وحرموا بذلك الإنسانية من حقيقتك»!

هذا هو لسان حال العاجزين والجاهلين بحقل التاريخ حيث يوجهون خطاباتهم وشعاراتهم من قعر أكواخهم المظلمة إلى المستبدين الذين بدلوا حياتهم بواسطة هذه الشعارات والمفردات الخلابة إلى حركة فاقدة للروح والحيوية.

5 ـ لو عمدنا إلى تقسيم السياسة ـ على غرار الحقوق والثقافة ـ إلى قسمين هامين (طليعي وتبعي)، فإن النظام الديمقراطي سيندرج ضمن القسم «التبعي» دون الطليعي. ولأيضاح هذه المسألة لا بد

(144)

لنا من تقديم تعريف مختصر للطليعي والتبعي.

إن معنى التبعي في الموارد الآنف ذكرها (الحقوق، والثقافة، والسياسة وغيرها) أنه لا يوجد أيّ أصل أو قاعدة تفوق الحياة الطبيعية والاعتيادية للرفعة والسمو الروحي للإنسان، أو أنه لا توجد في الموارد المذكورة حاجة لتبعيتها. وأما معنى الطليعي فهو أن على البشر في جميع الموارد الآنفة أن يتبع سلسلة من الأصول والقواعد العالية من أجل السمو والرقي الروحي للإنسان من التي لا يمكن تطبيق شؤون الحياة عليها. عندما نقول «الحقوق التبعية» فالمراد أن الناس هم الذين يقبلون ببعض القضايا ـ (وغالباً ما يكون ذلك على نحو تدريجي) بالاستناد إلى تشخيص مصالح ومفاسد الحياة ـ بوصفها مواد حقوقية، ويعملون على تطبيقها على مسرح الحياة. ولا يحق لأي جهة أو شخص أن يتدخّل في تحديد المصير الحقوقي لأبناء المجتمع. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الاقتصاد والسياسة والأخلاق والثقافة وما إلى ذلك. وعليه يكون معنى «الحقوق الطليعية» هو أن الذي يضمن الأبعاد الحقوقية المناسبة للناس هو ذلك الجانب من الأصول والقواعد التي تهدف إلى رقي وتكامل الهوية الإنسانية بالإضافة إلى تنظيم الحياة الطبيعية للأفراد.

من البديهي أن لا يكون هناك أي نظام حقوقي أو أخلاقي أو ثقافي أو سياسي أو اقتصادي، طليعي تماماً أو تبعي تماماً؛ إذ أن الإدراك والفهم العقلي والوجداني للناس يلعب دوراً هاماً للغاية في تشخيص وأسلوب تطبيق موضوعات حياتهم. ومن هنا فقد منح الدين الإسلامي الحجية للعقل والوجدان والتجارب البشرية

(145)

في تشخيص الموضوعات (إلا فيما ندر) واعتبر هذه الأمور لازمة الاتباع، وبذلك كان للإسلام «نظاماً طليعياً» في دائرة الموضوعات والتوجّهات القانونية. بمعنى أن الناس هم أنفسهم الذين يجب عليهم تحديد وإيجاد الموضوعات وأساليب الحياة والتوجّهات القانونية التي لا تضرّ بأبدانهم وأرواحهم. وعليه فإن للإسلام ـ فيما يتعلق بقسم الموضوعات والظواهر وتلبية الحاجات الأصيلة للحياة البشرية ـ صبغة تبعية، سواء في دائرة الحقوق والأخلاق والسياسة والثقافة وما إلى ذلك.

وبالنظر إلى الحقوق والأخلاق والثقافة والسياسة التي يمكنها أن تضع حياة الناس الهادفة في مدار جاذبية الكمال المطلق، وتجيب عن أسئلته الرئيسة، وهي: (من أكون؟ ومن أين أتيت؟ وإلى أين أتيت؟ ومع من أكون في هذه الدنيا؟ ولماذا أتيت؟ وإلى أين أذهب؟)، يجب عليه أن يتبع سلسلة من الأصول والقواعد الطليعية فيما يرتبط بالعلاقات الأربعة، وهي: (علاقة الإنسان بذاته، وعلاقته بخالقه، وعلاقته بعالم الوجود، وعلاقته بنظرائه في الخلق). من قبيل: إصلاح ذات البين مع الاتصاف بالأخلاق العالية والتمتع بروح الارتباط والتعلق بالله سبحانه وتعالى والتوظيف المسؤول لعالم الوجود الذي يعيش فيه. بمعنى أنه بالالتفات إلى النظم والجلال الذي يحكم عالم الوجود، عليه أن يعي ويعتقد بأن الله حكيم مطلق وأنه قد خلق هذا العالم العظيم، وأنه لم يخلقه عبثاً ودون غاية أو هدف، وإن هذه الغاية لا تتحقق بواسطة الأكل والنوم والغضب والشهوة، وأنها فوق المادة والماديات قطعاً. فالآن إذا أردنا حصر السياسة في النظام

(146)

الديمقراطي، وفسرنا مفهوم الديمقراطية بأن يفعل الناس كل ما يحلو لهم، وأن يوظفوا جميع الوسائل والأدوات في الوصول إلى مآربهم، إلا فيما عرّض حرية الآخرين لخطر أو شكل إزعاجاً لحريتهم، فإن هذه ستكون هي السياسة التبعية التي تحبس البشرية في تلك المرحلة من حياة الكهوف، حتى وإن وضع الخافقين تحت تصرّفه واختياره؛ إذ أن البشر من خلال انصياعه للسياسة التبعية لا يستطيع أن يتخطى حدود الأنانية، في حين أن لديه لا محالة أهدافاً تكاملية تعود بجذورها إلى الله وما وراء الطبيعة.

6 ـ إن الحركات والتحوّلات التكاملية في التاريخ ـ سواء منها الحركات العلمية أو الدينية أو الصناعية أو السياسية أو الأخلاقية ـ كانت تتمّ على الدوام من قبل الأفراد والقلائل من الناس الذين لا يؤخذون بنظر الاعتبار ـ بسبب قلتهم من الناحية الكمية ـ ولو تركت تلك الأساليب والصيرورات على عاتق معلومات ورغبات الأكثرية من الناس، لما أمكن للبشرية أن تتقدم حتى خطوة واحدة نحو الرقي والازدهار. بمعنى أنه لم يشهد التاريخ قيام أكثرية أفراد المجتمع ابتداء وعلى نحو مباشر، أو أن تعمل هذه الأكثرية على تقديم الاكتشافات والاختراعات أو أن تنقذ المجتمع من الجهل والبؤس، وأن تعمل على إيجاد عناصر التقدم والازدهار.

7 ـ هناك عبارات من نمط أفكار إفلاطون مطروحة بشأن الديمقراطية تقول:

«كلما أمعن إفلاطون النظر والتفكير في حقيقة هذا الأمر، فإنه يندهش من هذا الجنون الذي يسمونه ديمقراطية. هذا النظام

(147)

الديمقراطي الذي يعمل على إستمالة الشهوات وغرائز الجمهور في انتخاب رجال السياسة. ودليل إفلاطون على تبرير دهشته هو أننا في المسائل الصغيرة من قبيل رفع حاجتنا إلى حذاء لا نقصد غير الإسكافي الحاذق في مهنته. وفي مثل هذه الحالة كيف نلجأ إلى كل شخص ينال أكثر الأصوات والآراء (أو الذي يحظى بدعم غالبية الأصوات) ليكون هو الحاكم علينا.

وعندما نمرض نكون بحاجة إلى طبيب ماهر في مجال تخصصه، لا إلى مجرّد طبيب وسيم أو يتمتع بلباقة في الكلام»[1].

إن اعتبار السياسة حرفة خاصة تحتاج إلى تخصص لا ينافي ضرورة سقايتها بالبُعد الإلهي

لإثبات أن السياسة فن خاص، نقل عن إفلاطون تمثيل جميل جداً يقول فيه:

«إن فن السياسة شبيه بفن النسج. فكما أن النساج الماهر يعمل أولاً على تبديل الصوف إلى خيوط رفيعة، ثم يعمل على ربط تلك الخيوط ببعضها بشكل بالغ الدقة، ليحملها بعد ذلك إلى مصنع النسيج، لتغدو في نهاية المطاف قماشاً وحلّة قشيبة تليق بقامة الإنسان ... كذلك فن السياسة حيث يتمكن السياسي الحاذق من التأليف بين قلوب فئات من الناس الأحرار المتفرقين، ويعمل على تنظيم صفوفهم وترتيب العلاقات والتعايش السلمي فيما بينهم بشكل دقيق حتى يجعل منهم كتلة متماسكة تليق بقامة البلد الحر والمستقل»[2].

(148)

ثم قال مؤلف كتاب (حكمت وحكومت) في إيضاح وإثبات هذا الكلام من إفلاطون:

«يتضح من هذا التشبيه الفلسفي الذي يقدمه إفلاطون ـ والكلام السابق لأرسطوطاليس ـ بوضوح أن فن السياسة هو بمنزلة الفنون اليدوية التي هي من الفنون التجريبية، وهو من حيث علاقته المباشرة بحاجة الأفراد والمواطنين والأحداث اليومية وسياسة الدولة وعلاقتها بسائر الدول الأخرى القريبة والبعيدة، كالثوب الذي يجب أن يتصف بالتناغم والانسجام. إن السياسي الحاذق بعد إدراكه للقواعد الأخلاقية العامة والعلوم النظرية الجوهرية، والتحلي بالصفات والكمالات النفسية، من قبيل: الحكمة (الحكمة العملية)، والشجاعة، والعفّة التي تختزل في العدالة، يجب عليه من الناحية العملية والحفاظ على سياسة التعايش السلمي بين المواطنين والحفاظ على علاقة حسن الجوار مع بلدان الجوار أن يكون عالماً على نطاق واسع بالأمور الجزئية العملية والحقائق المتغيرة المحيطة به، لكي يتمكن من إدارة هذه المسؤولية التجريبية بجدارة. خلاصة القول: إن العنصر الجوهري في السياسة لا يكمن في التفكير في الكليات والأصول والقواعد العقلانية أو الدينية المتناسبة مع العقل النظري، بل إن واجبه ومسؤوليته تكمن في تشخيص الموضوعات والأحداث الداخلية والخارجية للبلاد، والحقائق الجيوسياسية المتغيّرة، مما هو خارج بالمرّة عن دائرة الفكر العقلاني الأسمى والعقل النظري، بيد أنه كما يلعب العقل العملي دور الرابط بين

(149)

العلم والعمل أو المعقول والمحسوس أبداً، ويعمل على تطبيق كليات العقل النظري على جزئيات وصغريات العقل العملي، يجب على السياسي أن يأخذ ما يحتاج إليه من أفكار الفلاسفة وعلماء الأخلاق، وتطبيقها على المصاديق والموضوعات الجزئية للبلاد في حدود الإمكانات المتاحة والضرورات الأخلاقية»[1].

وهناك مسائل هامة من الضروري بحثها ودراستها بالنظر إلى كلام المؤلف، وهي كالآتي:

المسألة الأولى: لقد شبّه إفلاطون في عبارته الآنفة بُعداً وأحداً من الأنشطة العملية للسياسي من خلال مثال جيّد للغاية

إن ذلك العبد عبارة عن التجلي الفيزيقي للمجتمع الذي أوجده سياسي محترف بما يمتلكه من فنه السياسي، ولذلك لا يمكن لتشبيه إفلاطون أن يصف أو يعرّف جميع عقائده فيما يتعلق بالماهية السياسية ومختصات السياسي والغاية من الأنشطة السياسية التي تصب في إعداد الناس للوصول إلى الهدف الأسمى من الحياة.

المسألة الثانية: إن هذا التشبيه لا يمكن أن يعكس جميع عقائد إفلاطون بشأن الحكم والسياسة

إن تشبيه إفلاطون للسياسة بالثوب القشيب الذي يجب أن يتصف بالانسجام والتناسق الذي يليق بقامة الناس، لا يعكس جميع عقائد إفلاطون. مما لا شك فيه أن السياسي يجب ـ وربما لا يستطيع ـ أن يفعل شيئاً تجاه الوضع النفسي والروحي والقيم التي

(150)

يتحلى بها المواطنون أو يجب أن يتصفوا بها. لو أن السياسي كان جاهلاً بالناس الذين يريد أن ينسج لهم الثوب ويعمل على تفصيله وخياطته على مقاسهم، وكيف يجب أن يكونوا، فإنه في الحقيقة يرسم على سقف لا وجود له أو لا يتمكن من تقبل ذلك الرسم! والمثل المعروف يقول: «العرش ثمّ النقش».

ولكننا نعلم من مجموع نظريات أفلاطون في السياسة والحكم هي ذاتها التي يؤمن بها في حقل كليات الدين الإلهي، والتي يقيم عليها الحكماء الحقيقيون تطوير جميع الأبعاد والقابليات المادية والمعنوية للناس على أساسها، وهو ما سنبيّنه عبر العنوان الآتي:

المسألة الثالثة: بالالتفات إلى مجموع نظريات إفلاطون بشأن السياسة وتعليم أبناء المجتمع لا يمكن اعتبار هذه القامة الكبيرة ـ مثل أرسطوطاليس ـ من الموافقين للأفكار العلمانية

حيث كانت نظريات إفلاطون بشأن الحكم والسياسة من أهم النظريات السياسية التي يعتمد عليها المنظرون في الفلسفة السياسية ـ قديماً وحديثاً ـ نجد من اللازم أن نستعرض خلاصة لآراء إفلاطون في هذا البحث.

يعتبر بارتلمي سانتهيلير من أكثر فلاسفة الغرب المختصين في فهم وترجمة آراء وعقائد أرسطوطاليس وإفلاطون، وقد بيّن العناصر والأركان الرئيسة للفلسفة السياسية لإفلاطون على النحو الآتي: لا يخفى أن السبب في النقل التفصيلي للأركان والعناصر الرئيسة للفلسفة السياسية لأفلاطون تكمن في أن كل محقق في الفلسفة

(151)

السياسية عليه الاهتمام بنظريات إفلاطون الهامة للغاية من أجل إثبات صحّة نظريته. «لا يكفي مع ذلك أن يُباعد بين نفوس الأطفال وبين كل ما يمكن أن يلوّث طهارتهم؛ لا تكفي إضاءة عقولهم بنور العلم وطبعهم على الفضيلة بالنصائح وضرب الأمثال، بل لا بد فوق ذلك من أن تنمّى فيهم أصول الدين التي أودعها الطبع قلوبهم جميعاً والتي منها تظهر الاعتقادات القوية التي تصل بين المرء وبين الله. إن الله هو الأول وهو الوسط وهو الآخر لجميع الكائنات. إنه لدى الناس الذين خلقهم هو المقياس العدل لجميع الأشياء، وإن الإيمان بوجوده هو أساس للقوانين[1]. هذه العقائد الكبرى الضرورية التي يجب تثقيف الأولاد بها والتي يبثها الشارع ـ إن كان حكيماً ـ بجميع ما لديه من وسائل اللين والقسوة في أنفس المواطنين، هذه العقائد بسيطة بقدر ما هي نافعة. وإنها لتردّ إلى عقائد ثلاث، وهي:

1 ـ وجود الله.

2 ـ هيمنه على عالم الوجود.

3 ـ عدالته التي لا يتطرّق إليها ميل ولا حيف.

وبدون هذه العقائد يضل المرء بالمصادفة في هذه الدنيا إذا استسلم للنزعات وإلى غياهب شهواته وجهالته. إنه لينكر نفسه ما دام لا يعرف من أين أتى، ولا ما هو المثال الكامل المقدس

(152)

الذي يجب أن يروّض نفسه دائماً على الاقتداء به والتوكل عليه. وليس للدولة من قاعدة قارّة ما دامت لا ترتكز إلى هذه القاعدة. ذلك بأن العدل المقوّم لحياة الدولة ونظامها لا يأتي إلا من الله الذي هو يتحد به في جوهره الأبدي. فينبغي إذن البدار منذ السنين الأولى لبذر هذه العقائد المقدسة في القلوب جميعاً، بل القانون نفسه لا ينبغي أن يهمل بعد ذلك أن يدعو إليها بالإقناع أو القسوة على أولئك الذين ينسونها ويتركونها تنعدم في الصدور لضعف في أنفسهم أو سوء في أخلاقهم.

إن كل تربية ليست دينية ناقصة وباطلة، وكل دولة يكون المواطنون فيها معرضين عن هذه المسائل الكبرى أو عمياً عنها فتلك دولة توشك أن تهلك. ليس الأمر كما قد يظن الساسة العاميون، أن يجدوا في الدين آلات يستخدمونها للحكومة، كلا إنه للجماعات والدول حاجة ـ وأكثر من حاجة ـ إنه أكثر من ضمانة للنظام، بيد أنه ذو حدّين تبعاً لما يستخدم فيه. إن الدين قد تولد من التوثّب الذي لا يقاوم للعقل الإنساني. إنه في صوره المختلفة للعقل الإنساني الترجمان الطبيعي المحض والأعمق ما يكون غوراً. إن الإنسان يقدّس الآلهة [الأنبياء والأولياء] كما يحترم أباه، إنه يعبدهم بأنهم الينبوع المقدس لجميع الخيرات، وعلى الخصوص للفضيلة والعقل.

الدولة ـ كما يفهمها إفلاطون ـ هي إذن جماعة من أناس متساوين أحرار. يجعلون شركة بينهم عملهم وفطنتهم، وينمون جميعاً البذور الإلهية التي تنطوي عليها نفس الإنسان، يرتبطون فيما بينهم بأواصر

(153)

الأخوة ويطيعون ـ لبقاء النظام في المدينة ـ الحكام المستنيرين أولي الرعاية والحزم الذين اتخذوهم لهم رؤساء. يخضعون للقوانين التي ليست إلا قواعد العقل ذاته. طبعتهم تربية صادقة على جميع الفضائل وعلى جميع العلوم، يقضون حياتهم المقدسة تحت أعين الآلهة.

يكاد يكون غير نافع أن يقول: إن الدولة الفلانية التي رتبت لبقاء السلام والاتحاد في داخلها، لا تبحث عند جيرانها إلا عمّا يشبه حالها من الرغبة في السلام، على أنها تكون دائماً على استعداد للحرب لدفع هجوم الغير، ويكون حماتها ـ وهم على استعداد لطول ما تعاطوا من التمرينات الرياضية القاسية والدراسات العلمية ـ واثقين بالظفر على قدر ما تؤتي الشجاعة الوطنية مهما كثر عدد أعدائهم. غير أن المدينة لا تجعل من الحرب الغرض الوحيد لهمّها كما قد فعلت الشعوب ذوات الشهرة. بل تنظم كل ما يختص بالحرب تمهيداً للسلام، لا أن تجعل السلام مهداً للحرب ... وتتقي الخصومات مع الخارج بقدر ما تتقي الثورات الداخلية تقريباً. ولما أنها عازمة على ألا ترتكب أبداً مظالم نحو الأغيار، فهي تتفادى من نصف الغرض الذي يحمل الدولة في الغالب على حمل السلاح، بل ليس عليها إلا أن تدفع عن نفسها بكل ما للقضية العادلة من قوّة إذا هاجمها منافسون ظالمون على رغم ما لها من الفضائل[1].

وبعد أن فصل (بارتلمي سنتهيلير) في بيان العناصر الرئيسة لفلسفة إفلاطون السياسية، أفاد قائلاً: «تلك هي القسمات الرئيسة

(154)

للسياسة الإفلاطونية. أفليس ملؤها الحق والعظمة والخصب؟ وهل في هذه السياسة النبيلة الحكيمة شيء ناب؟ وهل بها من الخيال شيء؟ وهل هي لا يمكن تطبيقها إلا على المدينة الإغريقية التي فيها ولدت؟ ... ألا فليعلم حق العلم أن هذه هي الوجهة الكبرى لسياسة إفلاطون. وهذا هو الذي يجعلها خالدة ويوصي بها تفكير الحكماء، ويوصي بها أكثر من ذلك رجال الدولة. يتحدّث الناس غالباً بأحلام إفلاطون بل تردها عقول كبيرة ـ أحياناً ـ إلى السخرية. إن التصريح بأن هذه المبادئ العجيبة أحلام وأنها ليس فيها ما هو حقيقي ولا قابل للتطبيق ليس نقداً للفيلسوف الذي له المجد بأن كان أول مستكشف لها .. بل هو تصريح بأن العدل والعقل والفضيلة هي عند الناس أسماء جوف. إنما هو تنكر للطبيعة الإنسانية وللتاريخ وللمدنية[1].

إن ما ذكرناه من العبارات السابقة عن إفلاطون من الصراحة والوضوح التام بحيث يكفينا عناء المزيد من الشرح والتوضيح. وإنما نكتفي بالإشارة إلى بعض الفقرات الختامية التي يعكس فيها مترجم ومفسر فلسفة إفلاطون المرارة التراجيدية للتاريخ الإنساني والبشري. ويتمثل ذلك بتجاهل الناس وعدم اهتمامهم بالعدالة والعقل والفضيلة واعتبارها مسائل جوفاء وفارغة من المحتوى. وبطبيعة الحال كان على المترجم والمفسر المحترم (سانتهيلير) أن يستخدم كلمة «العاميين» صفة للناس، لا إلى الفلاسفة؛ لأن

(155)

اعتبار عموم الفلاسفة لا يهتمون بالحقائق الثلاثة (العدل والعقل والفضيلة) ويعتبرونها أموراً جوف، فيه نوع من التطرف في الحكم. وأما قوله: «إن هذه التهم والسخريات التي تم التحامل بها على العقائد الاجتماعية والسياسية لإفلاطون، تمثل إنكاراً للطبيعة الإنسانية الأصيلة والتاريخ والمجتمع» فهي أكثر الصرخات الضرورية والبناءة التي قالها حتى الآن شخص لأبناء جلدته.

المسألة الرابعة: يقول المؤلف: إن العنصر الجوهري للسياسة والتفكير في الكليات والأصول والقواعد العقلانية أو الدينية لا يتناسب مع العقل النظري

بل إن واجبه ومسؤولية الساسي الرئيسة تكمن في تشخيص الموضوعات والأحداث الداخلية والخارجية للبلاد، والحقائق الجيوسياسية المتغيّرة، مما هو خارج بالمرّة عن دائرة الفكر العقلاني الأسمى والعقل النظري.

وهنا يبرز السؤال القائل: هل يمكن دون التعرف الضروري والكافي على الكليات والصول والقواعد العقلانية والدينية والاعتقاد بالنفع منها والأكثر إلحاحاً، توجيه دفة الناس نحو «الحياة المعقولة»؟ لأن السياسي لا يتحدّث عما وقع في المجتمع من الأحداث المنصرمة، أو التي تحدث حالياً، أو التي يمكن أن تحدث في المستقبل، كما أنه لا يتحدّث عن عللها وأسبابها، وإنما يعمل من خلال فهمه وإدراكه لها على الاختيار من بينها، ويحكم عليها ويصدر الأوامر والنواهي بشأنها. هل يمكن للسياسي العاقل

(156)

والعادل والحكيم أن يدرك من بين متاهة الحوادث في مقاطع زمنية ـ دون معرفة الكليات والأصول والقواعد العقلانية والدينية (في حدود جغرافية البلد التي يولى سياستها في الحد الأدنى) ـ أفضل الأهداف، ويختار من بينها الطرق والسبل المناسبة، ويصدر للناس ما يناسبهم من الأحكام (في حدود ما هو قائم وما ينبغي)!

بالالتفات إلى ضرورة توجيه الناس إلى «الحياة المعقولة»، وإعدادهم للوصول إلى الهدف الأعلى من تلك الحياة بالتزامن مع النشاط السياسي المحترف، يبدو وجود المقام المعنوي السامي ضرورياً.

1 ـ لو دققنا النظر في الأشخاص من زاوية القابليات والثروات والمرونة، ولا سيما ما يتمتعون به من الطموح إلى الكمال.

2 ـ ولو أدركنا الفطرة والعقول والوجدان البشري وتوظيفها المذهل جيداً.

3 ـ ولو أدركنا تلك العظمة والكفاءة واللياقة التي أبداها النوع الإنساني من نفسه عبر المنعطفات التاريخية.

4 ـ ولو أخذنا بنظر الاعتبار الدفاع الجاد والجهود الهامة التي قام بها الناس في سبيل القيم.

5 ـ ولو اعتبرنا الإجابة عن الأسئلة الستة ـ وهي: (من أكون؟ ومن أين أتيت. وإلى أين أتيت؟ ومع من أكون؟ ولماذا أتيت؟ وإلى أين المصير؟)، والتي تعدّ من أمّهات الأسئلة ـ أمراً ضرورياً.

(157)

ولو قبلنا بأن السياسات والساسة ـ كما أدرك الجميع ـ يعملون في العادة على تنظيم وترتيب المتغيّرات، وإن الإنسان من خلال امتلاكه للمؤسسات والقوى الثابتة لا يمكن أن يختزل في ذات الثوب الذي فصله له السياسي، من الضروري للسياسي أو السياسيين في كل زمان وفي كافة المجتمعات أن ينسجموا مع المقام الروحي والمعنوي ـ أعم من أن يتمثل في شخص واحد أو يتحد في عدد من الأشخاص ـ بإخلاص تام، وهداية المجتمع نحو أفضل الأهداف والغايات.

إن هذا التناغم لا يعني أن السياسي والمتصدّي للمقام الروحي يعمل على تجزئة وشطر الإنسان إلى بعدين، ويقوم كل واحد منهما بإدارة أحد البعدين المادي والمعنوي، بل المراد هو أن كلا البعدين يعملان على إدارة حقيقة «الحياة المعقولة» للإنسان بواسطة المقامين السياسي والمعنوي دون أن يحدث تعارض أو تزاحم فيما بينهما، كما هو الحال بالنسبة إلى بعد علم النفس وعلم الطب، حيث يقوم كل واحد منهما بالاهتمام بواحد من بعدي الإنسان، وفي الوقت نفسه فإن عظمة علم النفس والصحة الروحية بالنظر إلى موضوعه أسمى من حقل الطب الذي يعمل على التنظيم والاهتمام بصحّة الجسد، في حين يهتم علم النفس بالروح والذات والنفس والشخصية، ومن البديهي أن هذين العلمين لا يعملان على شطر الإنسان إلى جزئين، بحيث يقول أحدهما: لا شأن لي بالبعد الجسدي من البشر، ويقول الآخر: لا شأن لي بالبُعد الروحي من البشر. ألا تحتملون أن خروج الإنسان من مسرح الحياة المعاصرة،

(158)

ودورانه الثابت حول نفسه في أودية التيه والضياع والأنا والاستبداد والوهم واجترار المصطلحات والاتجاه نحو العبثية والخواء، إنما ينشأ من التجزئة والفصل المذكور؟ لا شك في ذلك قطعاً.

 

(159)
المؤلف في سطور العلامة محمد تقي الجعفري محمد تقي الجعفري (1344-1419) فيلسوف ومجتهد واديب من مؤلفاته: 1-شرح نهج البلاغة 2-شرح ديوان المتنوي المولوي 3-فلسلفة الدين 4-تعاون العلم والدين 5-العرفان الاسلامي وغيرها....
هذا الكتاب العلمانية دراسة وتحليل في هذه الحلقة من سلسلة المفاهيم نقرأ دراسة حول مفهوم العلمانية للباحث الاسلامي العلامة محمد تقي الجعفري. فيها يتناول تعريف المصطلح في مصدره اللغوي والاصطلاحي فضلا عن ظروف ودوافع نشأته في الفكر الغربي وفي تجارب الحداثة على وجع الخصوص. كما يتطرق البحث بالنقد والتحليل التاريخي لأسباب ظهور الفكرة العلمانية في الغرب،وتداعيتها الثقافية والسوسيولوجية ولا سيما لجهة الاثار المعرفية التي ترتبت على ظهورها في حمى المواجهة مع الايمان المسيحي الى ذلك أفرد الباحث فصلا خصصه لاجراء مقاربة سجالية بين العلمانية والاسلام المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف