تـاليف
في البدء
طلب النبي صحيفة لهم تملى ليأمنهم من الغدر
فأبوا عليه وقال قائلهم قوموا بنا قد فاه بالهجر
ومضوا إلى عقد الخلافة وما حـضـروه إلّا داخل القبر
جعلوك رابعهم أبا حسن ظلموا وربّ الشفع والوتر
وعلى الخلافة قد سابقوك وما سبقوك في أُحدٍ وبدر( )
حديثُ الرزية وما أدراك ما حديث الرزية، حديثٌ يندى له الجبين وتشمئزّ من وقعه القلوب، حينما طلب رسول الله (ص) دواةً وكتفاً ليكتب للأُمّة ما يعصمها من الضلال ويقوّم طريقها، فجُوبه بقسوةٍ تامّةٍ، واتُّهم أيّما اتهام! ممّا أدّى إلى ضياع الفرصة ونقض الغرض.
ولتسليط الضوء على هذه الحادثة المؤلمة آثرنا إعادة نشر ما كتبه العلّامة السيد محمد مهدي الخرسان حفظه الله تعالى والمطبوع ضمن موسوعة عبدالله بن عباس في الجزء الأول تتميماً للفائدة.
المقدمة
حديث.. وأي حديث؟! حديث ترك الأمة تخبط في عشواء إلى يوم القيامة..
حديث وأي حديث؟! حديثٌ فتح باب الفرقة والاختلاف بين الأمة؛ والنبيّ (ص) بعدُ بين ظهرانيهم، يدعوهم لما يحييهم فلم يستجيبوا له، بل كايدوه وعاندوه حتى أغمي عليه.
حديث وأيّ حديث بعده يؤمنون؟! حديث ما ذكره حبر الأمة عبد الله بن عباس (رض) إلاّ وبكى، بكاءٌ وأيّ بكاء؟! بكاءٌ يبلّ دمعه الحصى، بكاءٌ كأنّ دموعه حين تسيل نظام اللؤلؤ..
هكذا يصفه الرواة فلنقرأ ولنبك مع حبر الأمة، ولنندب حظ الأمة العاثر حيث أضاعت تلك الفرصة الثمينة، فرفضت ذلك العرض السخيّ المؤمِّن من الضلالة أبداً.
فلنقرأ ما يرويه ابن عباس (رض):
قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس؟! يوم اشتد برسول الله وجعه فقال: (إيتوني بدواة وبياض اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً). فتنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبيّ تنازع ـ فقال عمر: إنّ النبيّ يهجر ـ وفي حديث آخر: «إنّه ليهجر»، وفي ثالث: «إنّه هجر» ـ ثمّ قال: عندنا القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف مَن في البيت، واختصموا فمن قائل يقول: القول ما قال رسول الله (ص)، ومن قائل يقول: القول ما قال عمر. فلمّا أكثروا اللغط واللغو، وتمادى القوم في نزاعهم، غضب رسول الله (ص) فقال: (قوموا عني، لا ينبغي عند نبيّ تنازع)، فقاموا.
قال ابن عباس: فجئناه بعد ذلك بصحيفة ودواة، فأبى أن يكتبه لنا، ثمّ سمعناه يقول: (بعد ما قال قائلكم: عدى العَدَوي وسينكث البكري)، ثمّ قال: (ما أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه)، ثمّ أوصى بثلاث فقال: احفظوني في أهل بيتي، وأخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به)( )».
فكان ابن عباس (رض) بعد ذلك يقول: «الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، لولا مقالته ـ يعني مقالة عمر ـ لكتب لنا كتاباً لم تختلف أمته بعده ولم تفترق».
هذه إحدى صور الحديث الآتية، وأعتقد أنّ القارئ يستفزه مثل هذا الحديث ويتسرّع إلى الحكم بوضعه، لشدة صدمته، وقد تذهب به المذاهب في الحكم على أولئك الصحابة الّذين شاقـّوا الله ورسوله، فنسبوا الهجر إلى نبيّ اصطفاه الله لأداء رسالته إلى الناس كافة، فكان سفيره في خلقه، وأمينه على وحيه، ورسوله المسدّد (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْـهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4].
لكني أعتقد أيضاً أنّ القارئ سيظهر له من متابعة صور الحديث الآتية، وما يتبعها من أقوال العلماء في توجيهه، اعتذاراً عن المعارضة، أنّ الحديث صحيح وأنهُ حديث رزيّة وأيّ رزيّة، ولم يكن ابن عباس (رض) مبالغاً حين قال ذلك فيه، لأنّ فيه الردّ على الرسول (رض) وهو عين الرد على الله تعالى، أوليس الردّ على الله وعلى الرسول من موجبات الكفر فالله سبحانه يقول: (مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر3:].
والمعارضة تردّ على الرسول ما طلب، وتصرّ على الامتناع من تلبية طلبه. والله سبحانه يقول: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْـهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3-4].
والمعارضة تقول: إنّه يهجر. والله سبحانه يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِـمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24]. والمعارضة: تأبى ذلك وترد عليه بعنف وقسوة. والله سبحانه يقول: (وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَـهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36].
والمعارضة تأبى ذلك. والله سبحانه يقول لنبيّه: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) [المائدة: 67].
والمعارضة تشاكسه في التبليغ، وتردّ عليه بعنف وسوء أدب، وكأنّهم لم يسمعوا جميع تلكم الآيات الكريمة ولم يسمعوا الله سبحانه يقول في كتابه: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيْدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:13].
أليس هذا هو الضلال البعيد؟ أليس هذا هو الخسران المبين؟ أليس هذا هو الظلم والجفاء؟ أليس هذا هو الغباء والشقاء؟ أيّ غباء فوق هذا يتركون طريق التأمين على السلامة إلى الأبد، ويرتطمون أوحال الجهالة!؟
يا لله لقد سبق أن آذوا رسول الله (ص) في نفسه وآله، حتى وبّخهم القرآن الكريم في آية (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الله) [الأحزاب:53]. وآذوه الآن في قدسه وعصمته، منتهكين بذلك حرمته في أداء رسالته.
وهل يعني غير ذلك ردّهم: إنّه يهجر؟
هذه نبذة عن حديث الرزية، بل نفثة حرّى جاش بها الصدر فباحا، وما قدّمتها إلاّ لتنبيه القارئ على استعداده لقراءة ما سيقرأه من حديث الرزية وملابساته، وما تبعه مـن أعذار واهيـة، لا تزيد علماً ولا تغني عملاً، سوى كشف صفحات ـ لولا حديث الرزية ـ لسنا بصددها والكشف عنها، ولكنها جناية السلف، وخيانة الخلف، أودت باُمّة محمّد (ص) إلى حافة الهاوية والتلف. ولئلا يصدمه عنف الردّ كما صدم الرسول الكريم (ص) حتى أُغمي عليه كما في بعض الروايات، فليستعد ويتدرع بالصبر من الآن.
لنقرأ (أوّلاً) صور الحديث في الصحاح والسنن والمسانيد وكتب التاريخ واللغة والأدب، من ثمّ نتابع معه قراءتنا (ثانياً) في مصادر الحديث، و(ثالثاً) مع العلماء في آرائهم حول الحديث.
وليقرأ القارئ كلّ ذلك بروحٍ موضوعية مع التجرد عن العاطفة والابتعاد عن التعصب، ونترك له الحكم في تلك القضية وبالأصح الرزية، فعلى مَن تقع المسؤولية؟
ولا نريد أن نستبق الحكم في ذلك بل له ما سيؤديه نظره إليه من رأي حول رموز المعارضة أياً كانوا ومهما كانوا، فهم أولاً وأخيراً إنّما نكنّ لهم الإحترام، ما داموا في طاعة النبيّ وخدمة الإسلام. أما وقد نبذوا أمر الرسول (ص) ولم يكتفوا بذلك حتى نسبوا إليه الهجر (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف:5]. فنحن في حل من حسابهم، وهم كسائر الناس في خطأهم وصوابهم. فهم غير معصومين، ولا نحن في حسابهم بملومين.