دراسة مفهومها ومنزلتها في علم المعرفة المعاصر
تأليف:
سامر توفيق عجمي
الفصل الأول:
الوضعية الكلاسيكية والوضعية الحديثة المنطقية
الوضعيّة دراسة مفهومها ومنزلتها في علم المعرفة المعاصر
1. الوضعيّة جذرًا ومفهومًا
الفلسفة الوضعيّة عند كونت
قانون الأطوار الثلاثة
فقدان تقسيم كونت للضابط الموضوعيّ
النظريّة الاجتماعيّة لوضعيّة كونت
2. مسار الوضعيّة الجديدة أو الوضعيّة المنطقيّة
الفصل الثاني:
الاستقراء والتجربة في ضوء المنطقين العقلي والوضعي
1. مشكلة الاستقراء
2. التجربة على ضوء المنطق العقليّ
الاستقراء على ضوء المنطق الوضعيّ
أطروحة هانز ريشنباخ
احتماليّة المعرفة البشريّة
مناقشة أطروحة ريشنباخ
الفصل الثالث:
القضيّة العلميّة بين المنطقين الوضعيّ والعقليّ
1. القضيّة العلميّة بين المنطقين الوضعيّ والعقليّ
حصريّة معيار التجربة يلزم من وجوده عدمه
القضيّة على ضوء المنطق الوضعيّ
القضايا التركيبيّة والتحليليّة
معيار الصدق والكذب في القضيّة التركيبيّة
معيار التحقّق
القابليّة للتحقّق بين الإمكانين المنطقيّ والفعليّ
بين العبارات الكاذبة والعبارات الزائفة
الفلسفة هي: التحليل المنطقيّ للغة العلم التجريبيّ
العبارات الأخلاقيّة ليست قضايا
العبارات الأخلاقيّة على ضوء المنطق العقليّ
العبارات الفلسفيّة ليست قضايا
مناقشة معايير معنى القضيّة
القابليّة للتأييد
معيار الصدق والكذب في القضيّة التحليليّة
مفارقة اليقين في قضايا المنطق والرياضة
2. القضايا المنطقيّة والرياضيّة تحليليّة
الوضعيّة وسؤال: «هل الله موجود؟»
كلمة أخيرة: المنهج العلميّ يقود إلى الإيمان بالله
مقدمة المركز
تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة في سياق منظومة معرفيّة يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى بحث وتأصيل ونقد مفاهيم شكَّلت ولمّا تزل مرتكزاتٍ أساسيّةً في فضاء التفكير المعاصر.
وسعيًا إلى تحقيق هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطةً شاملةً للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضورًا وتداولًا وتأثيرًا في العلوم الإنسانيّة؛ ولا سيّما في حقول الفلسفة، وعلم الاجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين، والاقتصاد، وتاريخ الحضارات.
أمّا الغاية من هذا المشروع المعرفي، فيمكن إجمالها بالآتي:
أوّلًا: الوعي بالمفاهيم وأهميّتها المركزيّة في تشكيل المعارف والعلوم الإنسانيّة وتنميتها وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورةٍ للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرُّف على النظريّات والمناهج التي تتشكّل منها الأنظمة الفكريّة المختلفة.
ثانيًا: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبًا ما تُستعمل في غير موضعها، أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها؛ لا سيّما وأنّ كثيرًا من الإشكاليّات المعرفيّة ناتجة عن اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقيّة.
ثالثًا: بيان حقيقة ما يؤدّيه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتّب على هذا التوظيف من آثارٍ
سلبيّةٍ بفعل العولمة الثقافيّة والقيميّة التي تتعرَّض لها المجتمعات العربية والإسلاميّة، وخصوصًا في الحقبة المعاصرة.
رابعًا: رفد المعاهد الجامعيّة ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكريّة بعملٍ موسوعيٍ جديدٍ يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحيّة، ومجال استخداماته العلميّة، فضلًا عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى.
وانطلاقًا من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع، فقد حرص المركز على أن يشارك في إنجازه نخبةٌ من كبار الأكاديميّين والباحثين والمفكّرين من العالمين العربي والإسلامي.
* * *
في هذا الكتاب من سلسلة مصطلحات معاصرة نتقدم من القرّاء والباحثين الأعزاء بدراسة معمّقة حول مصطلح "الوضعيّة" وتحديد مفهومها ومكانتها المعرفيّة والتاريخيّة في الثقافة الغربيّة الحديثة. فلقد شكّل البحث في هذا المفهوم قضية محوريّة في مساجلات فلسفة الحداثة فضلاً عن العلوم الإنسانيّة المختلفة خلال ولادته وتبلوره في القرن التاسع عشر عبر الفيلسوف المعروف أوغوست كونت (1798 ـ 1857) مع أن جذوره تمتد إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر مع فرانسيس بيكون وجون لوك وديفيد هيوم وكوندياك وسواهم..
مقدمة المؤلف
يُعدّ السؤال عن إمكان المعرفة، ومصدرها، وحدودها، وطبيعتها، محور الفلسفة في كلّ عصورها، إذ لا يمكن لأيّ نسقٍ معرفيّ أن يُقام دون أن يُحدّد موقفه من الشروط الإبستمولوجيّة والمنطقيّة التي تجعل المعرفة ممكنة أو ممتنعة، يقينية أو ظنيّة، عقلية أو حسية. ومن هنا كانت الفلسفة الوضعية في التاريخ الحديث، بمختلف أطوارها، لحظةً فاصلة في مسار تطوّر الفكر الغربي، إذ مثّلت إعلانًا صارخًا عن تحوّل مركز الثقل من الميتافيزيقا إلى التجربة، ومن المبدأ العقلي إلى الملاحظة الحسّية، ومن السؤال عن "العلّة الأولى" إلى البحث في "القانون الطبيعي" الذي يفسّر انتظام الظواهر. لقد أرادت الوضعيّة أن تقيم للعقل الحديث يقينًا جديدًا بديلاً عن اليقين الميتافيزيقي، يقينًا يُبنى لا على الضرورة الفلسفيّة بل على الملاحظة التجريبية، وأن تُحوِّل المعرفة إلى أداةٍ وظيفية للسيطرة على الطبيعة، لا وسيلةٍ لتأمل الماهيات أو الغايات.
تتمثّل الإبستمولوجيا الوضعيّة في جوهرها في محاولة إعادة تعريف مفهوم الحقيقة والمعرفة على أسس حسية محضة، فالمعرفة الصادقة عندها هي ما يمكن التحقّق منه تجريبيًا، وما لا يخضع للاختبار أو الملاحظة يُعدّ بلا معنى. هذا التحوّل المعرفي الجذري لم يكن مجرّد تعديل في أدوات التفكير، بل كان انقلابًا في فلسفة العقل ذاتها، إذ جُرّد العقل من فاعليته الاستنباطية المستقلة، وأُحيل إلى وظيفة تسجيلية لا تتجاوز ما تمنحه الحواس من معطيات. بهذا المعنى، نقلت الوضعية الفكر من (العقل المشرِّع للمعرفة) إلى (العقل المسجِّل للظواهر)، ومن الحقيقة بوصفها مطابقة الوعي للوجود، إلى الحقيقة بوصفها مطابقة القول للخبرة.
غير أنّ هذا التحوّل، على ما فيه من وعيٍ علمي- تجريبيّ، ينطوي على تناقضٍ إبستمولوجي خفيّ، إذ إنّ إنكار الميتافيزيقا باسم التجربة يفترض ميتافيزيقا ضمنيّة حول طبيعة الواقع والمعرفة معًا، أي إيمانًا مسبقًا بانتظام الطبيعة وبقابلية العالم لأن يُدرَك بالقانون، وهي مصادرات لا يمكن استمدادها من الحسّ ذاته. وهنا تتجلّى المفارقة الكبرى للمنهج الوضعي، فهو في الوقت الذي يرفض كلّ ما هو قبليّ، يُقيم بنيته المنطقية على قضايا قبلية غير تجريبية مثل نفي التناقض، والاطراد في الطبيعة، دون أن يمتلك تفسيرًا تجريبيًا لشرعية هذه القضايا. فكيف يمكن للعلم أن يُعمّم من جزئيات محدودة إلى قوانين كلية دون أن يفترض مبدأ (ماثل الأمثال)؟ وكيف يمكن أن نُثبت صدق التجربة ما لم نُسَلِّم سلفًا بانتظام الواقع وثبات قوانينه؟ بهذا المعنى، فإنّ كلّ استقراء يستبطن استنباطًا، وكلّ تجربة تنطوي في عمقها على قبليات عقلية تُبرّر إمكانها.
من هنا، يتضح أنّ النقاش في الوضعيّة ليس نقاشًا في نتائجها العلمية، بل في شرعيتها الإبستمولوجية. فالمسألة لا تتعلق بما حققته التجربة من نجاحات في الفيزياء والكيمياء والطب، بل بما إذا كانت هذه النجاحات تكفي لتجريد الإنسان من بعده العقلي التأملي، أو لإلغاء الحاجة إلى الميتافيزيقا بوصفها شرطًا لإمكان المعرفة ذاتها. ذلك أنّ العلم –مهما بلغ من دقّة– لا يبرّر نفسه بنفسه، بل يقتضي إطارًا مفهوميًا يحدّد معاني "الواقع" و"الصدق" و"القانون" و"الضرورة". وهذا الإطار هو ما كانت الفلسفة تحرسه قبل أن تُقصى إلى الهامش باسم "التحليل المنطقي للغة العلم".
إنّ التحليل المنطقي الذي رفعته الوضعية المنطقية إلى مرتبة البديل عن الفلسفة، لم يُلغِ الميتافيزيقا كما أراد أصحابه، بل استبدلها بميتافيزيقا لغوية جديدة، جعلت من اللغة التجريبية معيارًا وحيدًا للمعنى، متجاهلةً أنّ اللغة ذاتها لا يمكن أن تُفهم إلا في ضوء مفاهيم كلية تتجاوز الحسّ والتجربة. فكلّ "تحقّق" تجريبي يفترض قبلًا إمكان المطابقة بين الفكر والواقع، وهي فكرة لا يمكن التثبت منها حسيًا، بل تنتمي إلى بنية العقل ذاته.
وعلى ضوء هذا التناقض الداخلي، يمكن القول إنّ الفلسفة الوضعية، في نزعتها لتطهير الفكر من الميتافيزيقا، قد انتهت إلى نوعٍ من الميتافيزيقا السلبية التي تنكر ذاتها، إذ جعلت من "التجربة" مطلقًا جديدًا، ومن "التحقق" معيارًا ميتافيزيقيًا للوجود والمعنى. وهكذا تحوّل العقل الوضعي إلى سلطةٍ دوغمائية حديثة، تفرض حدوده الخاصة على ما يجوز التفكير فيه وما يجب إسقاطه من مجال المعنى.
إنّ إعادة قراءة الفلسفة الوضعية في ضوء المنطق العقلي لا ترمي بالضرورة إلى استعادة "ميتافيزيقا ما قبل الحداثة"، بل إلى استعادة التوازن المفقود بين التجربة والعقل، بين الملاحظة والاستنباط، بين الحسّ والمبدأ. فالعقل لا يكون عقلًا ما لم يكن قادرًا على تأسيس التجربة وتبريرها، والتجربة لا تكون علمًا ما لم تستند إلى مبادئ عقلية تضمن صدق نتائجها. ومن دون هذا التكامل، تغدو المعرفة مجرّد ظاهرة نفسية أو آلية براغماتية بلا أساس منطقي. من هنا، يصبح الموقف العقلي النقدي هو الكفيل بإنقاذ العلم من الدوغما الوضعية، وإعادة الفلسفة إلى وظيفتها الأصلية التفكير في شروط المعرفة، لا في محتواها فقط، وحراسة الحدود التي تفصل بين ما يُختبر في المعمل وما يُؤسَّس في العقل.
وهكذا، جاء هذا البحث في سياقٍ منطقي-إبستمولوجيّ يسعى إلى مساءلة الأسس التي قامت عليها الفلسفة الوضعية، وتحليل منطقها الداخلي في ضوء العقل البرهاني، للكشف عن تناقضاتها المضمَرة ومحدوديتها المعرفية. إنّه محاولة لاستعادة حضور الفكر التأمّلي في وجه النزعة الاختزالية التي أرادت أن تحصر الوجود في ما يُرى ويُقاس.