أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

النسوية العراقية في قرن ، أضواء على تاريخ النشاط النسوي في العراق (1923-2023)

النسوية العراقية في قرن ، أضواء على تاريخ النشاط النسوي في العراق (1923-2023)

تأليف : 

حيدر محمد الكعبي 

 

فهرس المحتويات : 

الفصل الأول : المرحلة النسوية البرجوازية(1923-1958)

أولًا: مخاض النسوية العراقية

أ- المرأة العراقية والتعليم

ب- معركة الحجاب والسفور

ج- المرأة العراقية والمساواة

ثانياً: بواكير الصحافة النسوية

ثالثًا: المنظمات النسوية الأولى

رابعا: المؤتمرات النسوية الأولى

 

الفصل الثاني : المرحلة النسوية اليسارية (1942-1978)

أولًا: المنظمات النسوية اليسارية

ثانياً: الدليمي تقود المرحلة

ثالثاً: انتكاس النسويات اليساريات

 

الفصل الثالث : المرحلة النسوية البعثية(1969-2003)

أولًا: بوادر البعث النسوي

ثانياً: نسويات البعث وقانون الأحوال

ثالثًا: قوانين بعثية داعمة للنسوية

رابعاً: انتكاس نسويات البعث

 

الفصل الرابع : المرحلة النسوية الليبرالية(2003-2023)

أولًا: بواكير النسوية الليبرالية

ثانياً: النسوية الليبرالية والسياسة

ثانياً: المنظّمات النسوية الليبرالية

 

توطئة

بواكير الحراك النسوي العالمي

لا يختلف اثنان على أن (النسوية Feminism) مصطلح يعبّر عن حركة انبثقت وتبلورت في الجانب الغربي من العالم – أوروبا وأمريكا تحديدًا- أولًا، ثم عمّت باقي المجتمعات؛ لهذا لا يمكن الحديث عن مفهوم النسوية وتاريخه من دون التطرّق لموضوعه الأساس: المرأة الغربية، وبعبارة أدقّ: الحديث عن واقع المرأة التي عاشت في المجتمعين الأوروبي والأمريكي، والذي تبلورت في خضمّه الموجة النسوية الأولى وما بعدها.

عانت المرأة الغربية عبر قرون مديدة من اعتساف مُزمن تعود جذوره إلى الحضارة اليونانية، فسقراط كان يرى بأن المرأة مثل الشجرة المسمومة التي يكون ظاهرها جميلًا، لكنّ الطيور تموت عندما تأكل منها، أما أفلاطون فقد كان يزدري أمّه لأنها امرأة، ويرى أنّ أحسن ما تأمَلُه المرأة هو أن تتحوّل إلى رجل، وكان أرسطو يرى أن المرأة لا تصلح إلا للإنجاب.

وقد عمّقت النصوص الدينية الواردة في العهد القديم النظرة الدونية للمرأة في المجتمع الغربي، فقد ورد في سفر التكوين أن المرأة كانت هي السبب في وقوع آدم بالخطيئة بعد أن استمعت لنصيحة الشيطان، كما تشكّل الجاذبية الجنسية للمرأة في اللاهوت المسيحي عقدة مشؤومة تلهي الرجل عن التبتّل والرهبانية.

وعلى الرغم من التحوّلات الجذرية في الفكر الأوروبي إبّان ما يسمى بعصري النهضة والتنوير، إلا أن الحال لم يبتعد بالمرأة كثيرًا عن دائرة الامتهان، فهذا فيلسوف الغرب الشهير فردريك نيتشه يقول في مذكرات زرادشت: «إذا ذهبت للمرأة فخذ معك سوطك»، ويرى أن المرأة في أفضل الأحوال لا تزال حيوانًا كالقطط والكلاب، وأنها تتآمر مع كل أشكال الانحلال ضد الرجال، أما الفيلسوف جان جاك روسو فكان يقول: «إن المرأة لم تُخلق لا للعلم ولا للحكمة، وإنما لإشباع غرائز الرجل»، في حين يقول شوبنهاور: «المرأة مُهيّأة بطبيعتها لأن تكون مُمرّضة أو مُعلّمة لنا، وأن تظل سخيفة منذ أبكر أيام طفولتها، لأن عقليتها طفولية وسخيفة وتتميز بقصر النظر».

ومن الطبيعي أن يجرّ مثل هذا الفكر وضعًا اجتماعيًا مُجحفًا يُسانده جوّ الغلبة الذي جُبلت عليه الأجواء الغربية اللاحقة، عسكريًا بحكم الأطماع الاستعمارية القاهرة، وأيديولوجيًا بحكم الرؤية الداروينية في تمجيد البقاء للأقوى، وسياسيًا باعتبار أن الضعفاء –ومنهم النساء- لا يملكون حق امتلاك رأس المال والتصويت[1].

مع ذلك ظهرت أصوات تطالب بإنصاف المرأة وإعطائها حقوقًا في أواخر القرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر، كدعوات الفيلسوف جيرمي بنثام (1748-1832)، والمركيز دو كوندورسيه (1743- 1794)، والفيلسوف جون ستيورات ميل (1806-1873) الذي ألّف كتاب (استعباد المرأة)، فضلًا عن ماري وولستونكرافت (1759- 1797) التي تُوصف بأنها أوّل فيلسوفة نسوية، ولكن دعوات هؤلاء بقيت تتردد في حناجرهم ومخطوطاتهم من دون أن تجد لها واقعًا يُشار إليه بالبنان، وبقيت المرأة الغربية هي الطرف الخاسر على جميع الصُعُد، حتى أنّ حقوق الإنسان التي دعت إليها الثورة الفرنسية كانت تتمثّل بحقوق الرجل وحده[2]، ومن شأن سنين القهر هذه أن تبدو وكأنها راسخة، لولا طروء تحوّل جديد على الواقع الأوروبي في القرن التاسع عشر مُتمثلًا بالثورة الصناعية.

فمع مجيء الثورة الصناعية وارتفاع معدلات الهجرة من الريف إلى المدينة، برزت الحاجة إلى تحوّل المرأة إلى قوة عاملة خارج نطاق المنزل، وعلى هذا الأساس ظهر تيار اجتماعي يدعو إلى إعطاء المزيد من الحقوق السياسية والاقتصادية للمرأة، فانعقد مؤتمر سينيكا فولز في نيويورك الذي وقعت فيه اتفاقية «إعلان المشاعر» في العام 1848، الذي يقضي بالدفاع عن حق المرأة في التصويت، وقد تلا هذا المؤتمر تنظيم مؤتمرات أخرى مشابهة.

وأولى الاستجابات الرسمية للمطالب الداعية لحقوق المرأة الغربية كانت في العام 1882، عندما أصدر البرلمان الإنجليزي قانونًا يقضي بحق المرأة المتزوّجة في الاحتفاظ بمالها الذي تكسبه من عملها، وليس من حق الزوج أخذه منها، وكان مثل هذا التحوّل مرصودًا من قبل الفيلسوف ويل ديورانت الذي قال: «كان ذلك التشريع أخلاقيًّا ومسيحيًّا إلى أقصى حد، فرضه أصحاب المصانع في مجلس العموم ليجذب فتيات إنجلترا للعمل في مصانعهم، ومنذ تلك السنة حتى وقتنا هذا ظلَّ الدافع الذي يدفع إلى الحصول على الكسب يجتذب النساء من عبودية البيت إلى رِقّ الورشة»[3].

وقد دخلت التيارات الاشتراكية على خط تشجيع المرأة في الالتحاق بالمصانع والتخلّي عن أدوارها التقليدية في المنزل، بدعوى أن ارتباط المرأة بالأعمال المنزلية المجانية هو اضطهاد برجوازي لها، وفي ذلك يقول الفيلسوف الماركسي فردريك أنجلز: «إنّ الشرط الأول لتحرر المرأة هو عودة جنس النساء بكليته إلى الإنتاج الاجتماعي، الأمر الذي يتطلّب بدوره زوال العائلة الفردية بوصفها وحدة اقتصادية في المجتمع»[4]. 

لقد تبنّت الاشتراكية بقوّة مسألة دفع المرأة بعيدًا عن كونها ربّة منزل، مُعتبرة إيّاه ظلمًا طبقيًا؛ لكونه عملًا مجّانيًا لا تحصل المرأة من ورائه على أجرٍ مالي، واتّخذت مواقف عدّة تُنبئ عن ارتباط «تحرير المرأة» بنزولها إلى سوق العمل، ففي العام 1909 دعا الحزب الاشتراكي الأمريكي للاحتفال باليوم الوطني للمرأة بتاريخ 28 شباط بمناسبة إضراب عاملات الملابس في عام 1908 [5].

المرأة كوحدة إنتاجية

مما تقدم نلحظ كيف أنّ التوجّه الغربي الحديث قد أعاد تعريف المرأة على أنها وحدة إنتاجية في المجال العام، وعلى الرغم من العداء المُعلن بين الخطّين الرأسمالي والاشتراكي، إلا أن كلمتهما اتفقت على ضرورة تخلّي المرأة عن لعب دور الزوجة والأم في المنزل، ودفعها بقوّة نحو العمل في القطاع الخاص والعام[6]، وقد ألقى ذلك بظلاله على الجانب السياسي في مطلع القرن العشرين، ففي العام 1914 تم تنظيم مسيرات في مُدن أوروبية عدة تطالب بحق النساء في المشاركة بالاقتراع، كما تظاهرت النساء الروسيات في العام 1917 تحت شعار «الخبز والسلام»، الأمر الذي دفع إلى الاعتراف بحقّهنّ بالتصويت في روسيا، في حين لم تقرّ الولايات المتحدة الأمريكية حق النساء في التصويت حتى العام 1920، وذلك بإجماع الولايات على إقرار التعديل التاسع عشر على الدستور الأمريكي الذي يسمح للمرأة بذلك.

كان للحرب العالمية الأولى دور كبير في تعزيز نزول المرأة الغربية إلى قطاع العمل المأجور، إذ إن انخراط الرجال في جبهات القتال والحاجة إلى تعزيز الإنتاج الحربي جعل شرائح كبيرة من النساء العازبات والأرامل يتوجّهن إلى العمل في المصانع والوظائف لإعالة أنفسهن وأطفالهنّ، وبعد انتهاء الحرب، دخل على الخط المروّجون للبضائع الاستهلاكية، واتخذوا من مفهوم تحرير المرأة وسيلة مبتكرة لانعاش الأسواق التجارية، ورائدهم في ذلك إدوارد برنايز (1891- 1995) الذي أطلق حملة دعائية لترويج السجائر من خلال تشجيعه على تدخين النساء الأمريكيات في المناطق العامة تحت غطاء المساواة بين الجنسين وتحرير المرأة، وحقّقت حملته التي كانت بعنوان «مشاعل الحرية» فوائد ضخمة لصالح الشركة الأمريكية للتبغ؛ إذ ارتفعت نسبة استهلاك النساء للسجائر من 5% إلى 12% في الولايات المتحدة الأمريكية[7].

ومع نهاية العقد الثاني من القرن العشرين ظهرت أزمة الكساد الكبير في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1929، واستمرّ أثرها لعشرة أعوام كانت مُفعمة بالاضطرابات، فزادت من معدّلات توظيف النساء في الصناعات الأقل تأثّرًا ببورصة الأوراق المالية بالتزامن مع ارتفاع نسب العزوف عن الزواج بسبب تردّي الأوضاع الاقتصادية، فازداد عدد النساء العاملات بين عامي 1930- 1940 بنسبة 24%.

ولكن على الرغم من ذلك بقي إقبال النساء على الأعمال خارج المنزل محصورًا بالعازبات غالبًا، ففي العام 1940 كان عدد النساء المتزوّجات العاملات في القطاع العام 15% فقط، مقابل 50% من العاملات العازبات؛ إذ لا تزال هنالك وصمة عار تلاحق المرأة المتزوجة العاملة خارج المنزل، ولكن مع اشتعال الحرب العالمية الثانية تغير الحال تمامًا، إذ عملت الدعاية الأمريكية على إزالة هذه الوصمة لتغذية مصانع إنتاج السلاح باليد العاملة النسائية[8].

هذه التحوّلات التاريخية المؤسفة التي واجهت المرأة الغربية والتي تنوعت بين الاستغلال التجاري لها وضغط الظروف السياسية والاقتصادية عليها شجّعت على التعاطف العام مع الحراك النسائي الذي نادى برفع الحيف والظلم المزمن الذي لحق بالنساء الغربيات، وقد عدّ بعض المؤرخين أنّ الحراك المطالب بحقوق المرأة ما بين القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين هو الموجة الأولى من الحراك النسوي، في حين يصف بعضهم هذه المرحلة بأنها حركة نسائية وليست نسوية؛ إذ تتميز بشكل كبير عن طبيعة المطالب التي نادت بها الموجات النسوية التالية.

مما تقدم نفهم أن الحراك النسوي لم يقم بالأصل على أُسس مُنتزعة من عالم الأفكار، بل هو صناعة بلورتها الأوضاع السياسية والاقتصادية التي مرت بالمجتمع الغربي منذ القرن التاسع عشر، ولهذا نلحظ أن النسوية منذ ظهورها وإلى اليوم لا تزال تفتقر إلى فلسفة واضحة المعالم، وتنادي بمفاهيم لا يمكن محاكمتها وفق منطق سليم، وتحمي نفسها بشعارات ضد الذكورية جعلتها كدرع يقيها من النقد الموضوعي؛ لذا فإن النسوية حركة لم تعثر على هويّتها حتى الآن، لكن ما جعلها تنمو بهذا الشكل المضطرد هو (رأس المال) الذي طالما وقف خلف كلّ ظاهرة تبرز بقوّة في المجتمع الغربي، فهو الثابت الوحيد في عالم الغرب السائل، إذ أعطى دفعة هائلة لما يسمى بحركات التنوير لقلب الطاولة على الحكم الأرستقراطي بعد أن صار عائقًا أمام مصالح البرجوازيين، وهو ذاته الذي وطّد أركان النظام النيوليبرالي ليقلب آخر حصون الاشتراكية ويُلبس العالم طوق العولمة في القرن العشرين.

الموجة الثانية وما بعدها

تعد كتابات الفرنسية سيمون دي بوفوار، إلى جانب كتابات الأمريكية بيتي فيردان، المحرّكات الفكرية الأولى لانطلاق الموجة النسوية الثانية، ويُعدّ كتاب الجنس الآخر لبوفوار في العام 1949، وكتاب الغموض الأنثوي لفيردان في العام 1963 من أهم الأعمال التي ألهبت الحماس الغربي للانتقال بالحراك النسوي إلى مستوى جديد، فلم تعد المطالبات تقتصر على حق المرأة على التصويت السياسي والمساواة في الأجور حسب، وإنما في حق التساوي بالفضاء الاجتماعي- الثقافي، بما في ذلك حرية السلوك الجنسي وحق الإجهاض.

 تزامنت هذه الموجة مع تحولات اجتماعية جديدة في الغرب، تمثّلت بنفخ روح جديدة في المفهوم الليبرالي، وهي حقبة ما بعد الحداثة التي بدأت فيها حركات متحرّرة تطفو على السطح، مثل جماعة الهيبيين (Hippies) وحركات الشاذّين جنسيًا (المثليين)، ومن الطبيعي أن تجد الحركة النسوية في موجتها الثانية تماهيًا قويًا مع هذه الحركات؛ إذ إن طَبَق الليبراليةِ الجديد يُقدم أفضل وصفة لكل الحركات المعادية للقواعد التقليدية التي تميّزَ بها عصر الحداثة.

لهذا تُعد المرحلة الثانية من تاريخ النسوية بواكير ولادة مفهوم الجندر Gender، الذي عبّرت عنه بوفوار قائلة: «لا تولَد المرء امرأة، وإنما تَصِيرُ كذلك»، وحاول الطبيب جون ماني (1921-2003) تطبيقها عمليًا في العام 1967 [9]، وجوهر المفهوم يعني أن البشر يُولدون مُحايدين في أدوارهم الجندرية، وأن المجتمع هو ما يحدّد هذه الأدوار كذكر أو أنثى، ومن الطبيعي أن تتضخّم هذه الدعوى في العقيدة النسوية الجائعة لمفهوم المساواة، وتتلمّس لها أسسًا فلسفية تجرّد الأنثى من تمايزها عن الذكر، ومن الطبيعي أيضًا أن يلقى موضوع «لَبْرلة» المرأة ترحيبًا ودعمًا كبيرين من قبل القوى البرجوازية التي تسعى إلى تحقيق نموها الاقتصادي بوساطة عمل المرأة في المجال العام، ولا بدّ من التأكيد على أن البرجوازية «هي التي صنعت الليبرالية على عينها وغيّرت في أشكالها بما يوافق مصالحها الزمانية والمكانية»[10].

رأت الليبرالية الرأسمالية في نساء العصر الجديد فرصة ذهبية لدعم النمو الاقتصادي المفتوح والمحتدم والذي يسير بثبات نحو العولمة[11]، فمنذ الستينات سدّت المرأة في الدول الصناعية الحديثة مثل كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة الحاجة المطلوبة للعمالة رخيصة الأجر من أجل النمو الاقتصادي السريع الذي مارسته هذه المنطقة، كما اعتمدت كل من الفليبين وماليزيا وأندونيسيا وتايلاند على النساء العاملات منذ السبعينات، وهنالك اعتماد كبير على العمالة النسائية وحتى على الأطفال في المجموعة الآسيوية الأخيرة التي أنشأت مناطق عمليات تصديرية خلال الثمانينات، مثل سيريلانكا وبنغلاديش ومناطق من الصين والهند[12].

ولا ننسَ أنّ في إدماج الحركات النسوية بالليبرالية الثقافية يحقّق هدفًا اقتصاديًا آخر غير الوظائف في المصانع، ويتمثل في تجارة الجنس التي تدرّ مليارات الدولارات على أربابها سنويًا، فثقافة التحرّر الفردي تسمح بمزيد من الاستغلال الربحي لجسد المرأة، سواء أكان ذلك في الإعلانات أم في التسويق، أم في الأفلام الخلاعية (الإباحية)، أم في السياحة الجنسية وسواها، إذ ترتبط تجارة الجنس باستثمارات الأعمال الدولية والشركات متعددة الجنسيات[13] والقواعد العسكرية الأمريكية في الدول المتقدمة، وترى بعض المؤسسات المالية العالمية وبعض الدول تطوير هذه الصناعة كحل لأزمات الديون، كما تلعب حكومات هذه الدول دورًا رئيسًا في تطوير هذا الشكل من عمالة النساء غير الرسميّة، وفي الوقت نفسه تقوم بتمجيد فضيلة النساء العاملات في المصانع[14].

هذا الوضع شجّع الأمم المتحدة – التي تمثل أهم منظمة عالمية- إلى وضع «لَبرَلة» المرأة في قلب اهتماماتها، فعلى الرغم من إقرارها بالمساواة في الحقوق بين الرجال والنساء ضمن وثيقة حقوق الإنسان في العام 1948، إلّا أنها عادت في العام 1979 إلى طرح وثيقة خاصة بالنساء تحمل اسم (القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة - سيداو CEDAW) تضمّنت الدعوة إلى نبذ أي أفكار نمطية مثل «لكل جنس دور معين يقوم به دون الجنس الآخر»، وقد واجهت هذه المعاهدة رفضًا من قبل التيارات المحافظة باعتبارها تسعى إلى فرض معيار ليبرالي غربي يتقاطع مع التقاليد الدينية والاجتماعية المتنوّعة لعديد من الشعوب.

في مطلع التسعينات من القرن العشرين وقع تغيّر عالمي كبير تمثّل بتفكّك الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الاشتراكي، مع سعي الليبرالية بنسختها الجديدة (النيولبرالية New liberalism) لتحلّ محلّها على نطاق عالمي، فشهدت النسوية ظهور موجة ثالثة تحمل أفكارًا أكثر تطرفًا من سابقتها، إذ صارت تنظر إلى الرجل كمنافس للمرأة بدل أن يكون مساويًا لها، فالحركة النسوية الثالثة ترى أنه لا نيل لحقوق النساء إلّا بإزاحة الرجال عن نيل الامتيازات وسوقها للنساء فقط، وبذلك تم في عقيدة نسويات الموجة الثالثة إقصاء مفهوم الشراكة بين الجنسين ليحلّ محلّه مفهوم العداوة بينهما، وقد أدى ذلك إلى بروز آراء نسوية مُتطرّفة تستنكر بنود معاهدة سيداو ذاتها، واصفة إياها بأنها تقيّد المرأة بالنموذج الذكوري باعتباره قاعدة سائدة[15].

في تلك الحقبة برزت الفيلسوفة جوديث باتلر وكتابها الموسوم (مشكلة الجندر)، لتمهّد بأفكارها لظهور موجة نسوية رابعة سوف تظهر تاليًا، إذ جرّدت باتلر مفهوم الجندر من ثنائية (رجل-امرأة) الذي طرحته بوفوار، وحوّلته إلى صفة السيولة المُطلقة، فباتلر ترى أنّ الجندر أشبه بالأدوار التي يؤديها المُمثل على المسرح، تُكوّن الذات وتتكوّن من خلالها، وعليه فإن الجندر لا ينفكّ عن التكوّن وأنه حالة من بناء مُستمرّ، وعلى حد تعبير باتلر «إن الجندر أدائيٌّ إلى الحد الذي يعني أنّه ليس واقعيًّا إلا بقدر ما يُؤدّى».

وهذا التوجّه النسوي الجديد المدعوم بالثقافة النيوليبرالية تَمظهَرَ على شكلِ استجابةٍ غير علميّة من قِبل مُنظمة الصحّة العالمية؛ إذ اقتضى حذف الشذوذ الجنسي من قائمة الأمراض النفسية في العام 1990، وهي استجابة تذكّرنا بالإشادة التي تلقّاها البحث الفاشل لجون ماني بخصوص الأدوار الجندرية، وقامت الأمم المتحدة بإدراج مصطلح الجندر في وثيقة مؤتمر القاهرة للسكان لعام 1994 في 51 موضعًا، وفي العام 1995 أثارته مرة أخرى بشرط واضح في مؤتمر بكين للمرأة في العام 1995، ثم شاع استخدامه في المؤتمرات الدولية[16] منها هيئة كير الدولية[17] التي أعلنت في العام 1998 عن مبادرة المساواة في النوع الاجتماعي والتنوّع، وفي العام 2000 دَخَل مجلس الأمن الدولي على الخط ليُصدر قرار 1325 الرامي إلى إشراك المرأة في صنع القرار السياسي للدول الأعضاء، ودمج مفهوم الجندر في جميع أنظمة تقارير الأمم المتحدة وآليات تنفيذ البرامج.

في العام 2010 لاحت طلائع الموجة النسوية الرابعة – وهنالك من يرى أنها ظهرت في العام 2008- التي تُركّز على حماية المرأة من التحرّش الجنسي وتنظر إلى أعمال الدعارة كمهنٍ مشروعة للنساء، إلى جانب دعم النشاط النسوي على شبكة الإنترنت للقضاء على التمييز على أساس جندري، وقد قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2010 بافتتاح وكالة جديدة باسم (الأمم المتحدة للنساء) تتعامل حصريًا مع نشاطات الجندر، وبحلول العام 2015 اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يقضي بتطبيق العالم لخطة التنمية المُستدامة لعام 2030، ويتضمن القرار وضع المساواة الكاملة بين الجنسين وتمكين جندر المرأة كشرط رئيس في تحقيق أهداف هذه التنمية[18]، وهو ما يتّسق تمامًا مع الرؤية النيوليبرالية المولعة بنزول النساء و «أشباههنّ» إلى سوق العمل[19].

على صعيد غير رسمي، ظهرت العديد من الحملات التي تهدف إلى إخضاع جيل ألفا –مواليد عام 2010 وما بعده- للقبول بالمثلية الجنسية[20]، وقد لعب انتشار الأفلام والمسلسلات الخلاعية عبر شبكة الإنترنت دورًا كبيرًا في انتشار وقبول مفهوم الجندر، فهذه المواقع جعلت شرائح واسعة من هذا الجيل يطّلع على الممارسات الشاذة بأنواعها كافة، ما ولّد لدى كثير منهم اضطرابات في الهوية الجنسية؛ لذا تستحق الموجة الرابعة أن توصف بأنها «ما بعد النسوية»؛ لأنها تنكّرت لمفهوم المرأة بالمعنى المألوف ، وصار نضال النسويات ينصبّ على حماية التنوّع الجندري الشامل لقائمة طويلة من الشاذّين والثنائيين والمتحوّلين واللاجنسيين وغير المُحدّدين جنسيًا، الذين بات يُرمز لهم بمصطلح (+LGBTQIA) بالإضافة إلى النساء الملوّنات والسوداوات والثقافات المهمّشة وجماعة الشتات.

العدو المُعلن: الأبوية والذكورية

تُعلن الحركات النسوية الغربية منذ موجتها الثانية العداء لسلطة الرجل، ورأت أنّ هذه السلطة تقوم على مفهومين رئيسين: الأبوية (البطريركية) والذكورية، ولكلٍّ من هذين المفهومين معنى خاص، فالأبوية مفهوم يرادف قيمومة الرجل على المرأة، إذ تكون الانثى تحت رعايته ماديًا ومعنويًا، فيتولّى الرجل حراسة المرأة من نفسها ومن الآخرين بتطبيق المعايير الاجتماعية السائدة، ويُعبّر عنه بالأبوية نسبة إلى دور الأب في العائلة التقليدية، الذي من شأنه أن يحمي أسرته ويرعاها ويحرص على تطبيقها للقيم السائدة، وبذلك فإن مفهوم الأبوية يستبطن وصاية الرجل على المرأة.

أما الذكورية، فهو مفهوم يشتمل على تأكيد امتيازات مُعيّنة يستأثر بها الرجل دون المرأة، من الناحيتين المادية والمعنوية، ومن ثم يكون تصدّر الرجل في الميادين السياسية والثقافية العامة حقًّا مشروعًا يرجع إلى تفوّقه الطبيعي في القدرات النفسية والجسدية؛ لذا فإن هذا المفهوم يستبطن التأكيد على التمايز بين الجنسين، وتفوّق جنس الذكور على جنس الإناث في أصل الخلقة.

والجمع بين هذين المفهومين يعطي النتائج الآتية:

الرجل حامي القيم الاجتماعية ومسؤول أوّل عن تطبيقها.

الرجل مُتفوّق على المرأة عقليًا وجسديًا.

الرجل قيّم على المرأة ومسؤول عن رعايتها.

تصدّر الرجل في المجال الخاص والعام حقّ طبيعي له.

والحركات النسوية ترفض هذه النتائج جملة وتفصيلًا، فلا ترى أن للرجل قوامة على المرأة، وأن القيم التي يُعلن الرجل الدفاع عنها إنما وُضِعت لخدمة مصالحه الخاصة، ولا تُعير النسويات أهمية لما قد يبدو من اختلاف بين الجنسين يستحق على ضوئه التمييز بينهما، ولهذا تُركّز الحركات النسوية على مفهومين أساسيين هما: التمكين والمساواة، اللذان يمثلان ضدين نوعيين لمفهومي الأبوية والذكورية، فبالتمكين تتحرر المرأة من قوامة الرجل لتكون حرّة في اتّباع معايير خارجة عن الثقافة السائدة، وبالمساواة تلغي الاعتراف بتمايز الرجل عن المرأة، لتحقيق فرصتها المتساوية -وربما المُتصدّرة- في كل ما كان يشغله الرجل من أدوار في المجالين العام والخاص.

من جانب آخر، نلحظ أن النتائج الأربع آنفة الذكر التي رفضتها النسوية تتفق مع المعايير الدينية والأعراف السائدة لدى أكثر الشعوب، لهذا نجد أن النسويات يضعن نصب أعينهن معاداة المعايير الدينية والأعراف التقليدية، صراحة في بعض البلدان وضمنًا في بلدان أخرى، ويؤكّدنَ في سبيل ذلك على رفع شعارات التطور والتقدم المستند أساسًا على الفكر النيوليبرالي، واتّخذن في ذلك طيفًا واسعًا يمتد من المُحافظة إلى التطرّف في هذه الشعارات، فلم يعد غريبًا رؤية حركات «نسوية إسلامية» تحاول تأويل النصوص الدينية بما يتلاءم مع الليبرالية الغربية، في محاولة لتطويع الحراك النسوي في البلدان الإسلامية لمعايير السيولة التي تبنّتها النسويات في الغرب.

وحيث إنّ الأسرة التقليدية تلتزم بالأعراف التقليدية السائدة وتتوارثها، فإنّ الحراك النسوي بموجاته الأخيرة كثيرًا ما ينصُب العداء للنظام العائلي التقليدي، بكل ما يتضمّنه هذا النظام من التزامات قيمية ودينية موروثة؛ إذ تشكّل العائلة الضمانة الأولى والأهم للحفاظ على التعددية الثقافية والتمايز الحضاري بين الشعوب، وهي بهذا اللحاظ تمثّل الجدار الأقوى الذي يقف كعقبة تعرقل التمدّد النيوليبرالي السريع على العالم؛ لذا فإن هدف النسوية في معاداة نظام العائلة التقليدي يقع في طول الهدف الخاص بالنظام الرأسمالي، الذي ينشد تغذية حاجة السوق بالعمالة النسائية تحت شعار تمكين المرأة، فالعائلة التقليدية غالبًا ما تعتمد على الرجل كمُعيل للأسرة، ويسند للمرأة مهام إدارة شؤون المنزل ورعاية الأبناء كشكل من أشكال توزيع الأدوار.

وفي ضوء ذلك، يمكن تلخيص الأهداف الإستراتيجية للنظام الرأسمالي العالمي في دعمه للحراك النسوي العالمي في موجاته الأخيرة بما يأتي:

فك ارتباط المرأة بدورها التقليدي كربّة منزل، وربطها أساسًا بالعمل في المجال العام لتغذية التنافس الإنتاجي والاستهلاكي المحموم، ويتفرّع من ذلك: هدف استبدال عمالة الرجال بعمالة النساء الأرخص ثمنًا والأقل اعتراضًا على أرباب العمل.

تحطيم سلطة الأب الناقل للمعايير والقيم السائدة التي من شأنها أن تنافس السلطات السياسية والاقتصادية، ويتفرع من ذلك: هدف فكّ الأجيال الجديدة عن هويتهم المحلية (برعاية الأسرة التقليدية) وجعلها مرتبطة بالهوية المُعولمة (برعاية المنظّمات العالمية).

إشاعة التحرر الجنسي لدعم تجارة الجنس والسياحة الجنسية المُدرّة للأرباح الفلكية لأرباب رأس المال والسلطات المحلية المتعاونة معهم.

استهداف القوة الشرائية للمثليين حول العالم، ويشمل ذلك نشاط سوق العمليات الجراحية الخاصة بالتحويل الجنسي وما يستتبعه من ترويج للأدوية والهرمونات وجلسات العلاج المتعلّقة باضطراب الهوية، ويتفرع من ذلك: هدف إرضاء لوبي المثليين من الطبقة المخملية، وخلق قضية سياسية لأفراد هذه الشريحة، ليجدوا بسببها معنى واضحًا لكيانهم المشوّش.

افتعال صراع داخلي بين أفراد المجتمع (مع–ضد) لإلهاء الرأي العام عن المشاكل المركزية المتعلقة بالفساد السياسي والاقتصادي لشرائح النخبة المُتنفّذة.

تعميم مبدأ الحرية الشخصية (الليبرالية) على نطاق عالمي، ويتفرّع منه هدف تحطيم مبدأ التضحية ببعض المصالح الشخصية لصالح تقوية الأواصر الاجتماعية، كالعلاقات الزوجية المستقرّة، الذي يؤدي تحطيمها إلى تقليل النسل للموازنة مع الموارد الاقتصادية للأرض انطلاقًا من فلسفة الحضارة الغربية.

 

مدخل نظري

التغير الثقافي للمجتمع

من المهم تصدير فصول هذا الكتاب بأنموذج نظري يؤطّر فهمنا للتحوّلات الثقافية التي سايرت الوقائع التاريخية المُثبّتة فيه، وقد رسمتُ ملامح هذا النموذج اعتمادًا على تحليل الظواهر الحضارية المنظورة، وما ينتج عنها من تحوّلات اجتماعية أشار اليها علماء اجتماع قديمون ومحدثون[21].

يقوم هذا النموذج على فكرة: أن المجتمع الإنساني ينمو ثقافيًا على أساس قطبين هما: (التماسك الاجتماعي) و(الاحتكاك الثقافي)، وهذان القطبان لهما قوة شدّ وجذب متعاكستين، فهما أشبه بقطبي البطارية السالب والموجب، فـ(التماسك الاجتماعي) يعزّز الهوية الثقافية الخاصة بالمجتمع، في حين يعمل (الاحتكاك الثقافي) بالمجتمعات الأخرى على زعزعتها، وقد يكون سببًا في تطويرها.

 ونتيجة لعمل هذين القطبين بتوازن؛ ينمو المجتمع نموًا ثقافيًّا صاعدًا بعيدًا عن المسخ والركود، فبالاعتماد على (التماسك الاجتماعي) يتّحد المجتمع وينتظم على مبادئ أساسية خاصة به، وبالاعتماد على (الاحتكاك الثقافي) يستفيد المجتمع من التجارب المغايرة ويتفاعل مع منجزاتها الحضارية، بحيث تدفعه إلى الاستفادة منها لتعميق نظرته في مبادئه الأساسية والعمل على إدماجها في تجربته الخاصة.

ونعني بـ(التماسك الاجتماعي): التفاف الغالبية العظمى من أفراد المجتمع حول «مبادئ أساسية» يتسالمون على الالتزام بها، وتكون محرّكًا لسلوكهم العام، سواء أكانت هذه المبادئ سماوية أم وضعية، على أن تتوافر هذه المبادئ على صفتين أساسيتين تضمن تمسّك أفراد المجتمع بها:

الأولى: كونيّة تلك المبادئ وبساطتها، أي أنها تقوم على تفسير شامل للكون من حيث المبدأ والغاية وطبيعة الأنساق التي توصل إليها، وفي الوقت نفسه تكون قابلة للفهم والاعتناق من قبل أغلب شرائح المجتمع.

الثانية: تلبية تلك المبادئ لحاجات عامّة يحسّ بها أفراد المجتمع، سواء أكانت تلك الحاجات مادية أم معنوية.

وقوة المجتمع ترتبط ارتباطًا عضويًا بـ(التماسك الاجتماعي)؛ لأن من البديهي أن التفاف غالبية الأفراد على مبادئ مُحدّدة ستزيد من وحدتهم الاجتماعية، وتقلّل من احترابهم الداخلي، وتوجّه طاقاتهم الاجتماعية الجبّارة نحو أهداف مشتركة. 

وحيث إن من طبيعة الأشياء في هذا الكون هو الميل نحو الاستقرار، فإن (التماسك الاجتماعي) غالبًا ما يكون هو القطب الذي يميل إليه عامة المجتمع، فهو القطب السالب من البطارية الحضارية الذي يمنح الناس استقرارًا ثقافيًا بعيدًا عمّا ينغّصه من خلافات ومعارضات، وعلى هذا الأساس فإن بعض المجتمعات المُغلقة ثقافيًا تعتقد بأهمية العزلة عن الثقافات الأخرى، وتُبدي ردود أفعال عنيفة تجاه أي انفتاح، فتسعى إلى الهروب منه بالانغماس في رؤيتها الخاصة أكثر، فتتحفّز للانغلاق على الذات، وتكثّف خطابها الأصولي بحجّة الحفاظ على الهوية، ولدينا أمثلة حيّة للركود الثقافي الذي تعانيه بعض الشعوب التي فرضت عليها الظروف حالة من العزلة التامة عن الاحتكاك بالمجتمعات الأخرى، بحيث يصحّ أن يُطلق عليها اسم «شعوب بدائيّة». 

ولكن طبيعة الحياة على الأرض تأبى إلّا أن يكون هنالك نوع من الاتصال أو الاحتكاك بشكل عام، وهنا يأتي دور القطب الثاني (الاحتكاك الثقافي) الذي يُشبه الضريبة الحتميّة التي يدفعها المجتمع كنتيجة للتبادلات التجارية، أو حركات التبشير الديني وما أشبه ذلك.

وعلى الرغم من أنّ هذا الاحتكاك قد يبدو مُزعجًا للجماهير لأوّل وهلة، إلا أنه مهم جدًا لمنع ما قد يُصابون به من ركود يُبعدهم عن خيرات كثيرة، لذا يصح ان نَصِف (الاحتكاك الثقافي) بالقطب الموجب من البطارية الاجتماعية باعتباره أحد أهم محرّكات الذهنية الاجتماعية[22].

ومن خلال هذا المدخل يُمكننا تفسير التبدّلات الثقافية في أي مجتمع إنساني، مثل تخلّيه عن بعض معالم ثقافته الخاصة وإحلال أخرى مكانها، فذلك يحدث عندما يختلّ التوازن بين القطبين، فيحصل تنازل عن بعض أو معظم مبادئ الثقافة الخاصة لصالح الثقافة الوافدة، ويحدث ذلك غالبًا لسببين:

الأول: أن يكون التماسك الاجتماعي هشًّا بسبب وجود ضعف بنيوي في «المبادئ الأساسية» التي يلتفّ المجتمع حولها، بحيث يجد عامة أفراد المجتمع أن هذه المبادئ لا تكفي للإجابة عن أسئلتهم الكونية أو تلبية حاجاتهم العامة، فيميلون إلى تعديلها أو استبدالها، تبعًا لقوّة الثقافة الوافدة.

الثاني: أن تكون عملية الاحتكاك ناشئة عن غزو بربري أو استعمار عسكري يُفقد عموم أفراد المجتمع حاجاتهم الأساسية، من قبيل زوال أمنهم النفسي والجسدي، وهدر كرامتهم الإنسانية، وإشاعة التخلّف الفكري، واستعمال التضليل المُمنهج استنادًا إلى ثغرات موجودة سلفًا، ولعل حديث الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يلخّص كل هذه النتائج بقوله: (:وَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا )[23].

وقد وجدنا في شواهد تاريخية مُتكرّرة كيف كان الاحتكاك الثقافي مُثمرًا عندما يكون في حالة توزان مع التماسك الاجتماعي، منها استفادة علماء المسلمين من التراث الفكري للأمم المُحيطة بهم؛ إذ كان لحركة الترجمة دور بارز في التطوير العلمي للأمة الإسلامية، كما حصل في بيت الحكمة الذي ازدهر في عصر العباسيين الأول، ومن الشواهد الأخرى استفادة الأوروبيين من النتاجات العلمية للحضارة الإسلامية التي أسهمت بشكل كبير في نقل بلدانهم من العصر القروسطي إلى ما يسمى بعصر النهضة.

ولو رجعنا إلى تعاليم الدين الإسلامي، لوجدنا فيه ما يدعم هذا الأنموذج النظري، فمن جانب أكّد الإسلام على ضرورة (التماسك الاجتماعي) من خلال التزام المجتمع بـ «المبادئ الأساسية» للإسلام، ومن جانب آخر قرّر أهمية وحتمية (الاحتكاك الثقافي) الذي يقع بين الناس بسبب خلقهم شعوبًا وقبائل متعددة، إلى جانب مفهوم الثنائية الذي أشار إليه القرآن الكريم كسنّة كونية[24].

ففي جانب (التماسك الاجتماعي) نقرأ مثلًا قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا)[25]، وما ورد عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: (إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَدًا بِفُرْقَة خَيْرًا مِمَّنْ مَضَى وَلاَ مِمَّنْ بَقِيَ)[26]، إذ إن اختلاف الأفراد وتفرّقهم عن المبادئ الأساسية التي ينبغي لهم الالتفاف حولها يُضعف نسيجهم الاجتماعي، إذ تنصرف طاقتهم الاجتماعية نحو النزاع الداخلي وتُستهلك قوتهم في ذلك الخلاف، فيكون المجتمع ضعيفًا أمام التحديات الخارجية التي تحيق به، سواء أكانت هذا التحديات ناعمة أم خشنة، وقد قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[27].

والضامن لدفع التفرّق والاختلاف في المجتمع المسلم هو التمسك بـ «المبادئ الأساسية» للدين الحنيف، ولن يتم هذه التمسّك بصورته المطلوبة إلا بعد أن تشعر عامة الجماهير المسلمة -وليس النخب فقط- بحقيقة هذه المبادئ وما تدرّ عليهم من خيرات عاجلة وآجلة، وإن حدث في المجتمع نزاع حول «المبادئ الأساسية» للإسلام، فعلى المسلمين أن يعودوا إلى النهج الذي قرره الله في كتابه والرسول في سنّته لفض النزاع، قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)[28].

وباختصار: إن (التماسك الاجتماعي) في نظر الإسلام هو الضامن الوحيد لقوة المجتمع المسلم، ولا يتم هذا التماسك إلا بالتفاف المسلمين حول «المبادئ الأساسية» للدين، والضامن لعدم التفرق فيها هو استيعاب الجماهير لتلك المبادئ، وإحساسهم بما تقدمه لهم من خيرات على الصعيد المعنوي والمادي.

أما في جانب (الاحتكاك الثقافي) فنقرأ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)[29]، وإن التعارف الذي جعلته الآية الكريمة غاية خلق البشر شعوبًا وقبائلَ[30] ليس هو التعارف المألوف بين الأفراد، كالتعرّف على الأسماء أو الأنَساب أو ما يحترفه الآخرون من مهن وما أشبه ذلك، فهذا التعارف يمكن أن يقع بين أفراد الشعب الواحد والقبيلة الواحدة ولا يقتضي بالضرورة تفرّق البشر إلى شعوب وقبائل، بل إن التعارف يعني هنا: المعرفة المتبادلة بين خبرات شعب وشعب وبين تجارب قبيلة وقبيلة وتلاقح ما يحملونه من ثقافات مختلفة بسبب اختلاف البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية الخاصة بكلّ طرف منهم.

إن احتكاك المسلمين مع الشعوب والقبائل التي تحمل ثقافات مغايرة يدفعهم إلى البحث في الأفكار التي يقدمها لهم الوحي الإلهي من أجل استدعاء قوة الثقافة الإسلامية في قبال تلك الثقافات[31]، الأمر الذي يُعمّق من فهمهم لحضارتهم الإسلامية ودقائقها الثمينة، وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام قوله: (اعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ، وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمَيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ، وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذَي نَبَذَهُ)[32]، كما إنه وسيلة أساسية لتوسيع آفاقهم الموضوعية وتطوير أدواتهم الإجرائية في حياتهم العملية؛ إذ إنّ «الثقافات البسيطة المتخلّفة والثقافات الراقية تستعير من بعضها البعض وتستخدم تلك العناصر المُستعارة في مناسبات قد تكون مغايرة تمامًا لاستخدامها في بيئتها الأولى، فتُكيّفَه معَ النسق الثقافي الخاص بها، أو تكتفي بأن تأخذ الفكرة فقط دون الشيء نفسه، ويسمي علماء الإنثروبولوجيا الثقافية هذه الظاهرة: انتشار المثير الثقافي»[33].

هذا وتنطوي معادلة (التماسك-الاحتكاك) على وضعية خطيرة جدًا تتمثّل بانقلاب قطب الاحتكاك الثقافي من كونه مُنشّطًا حضاريًا إلى قطب سالب يُشجّع الركود والانغماس بطريقة غير صحيّة في قطب التماسك الاجتماعي، وحينها تتعطّل البطارية الحضارية وتتوقّف عجلة التطور الفكري عن الدوران، لتُصاب قطاعات المجتمع بالشلل الثقافي.

يحدث مثل هذا الحال عندما يأتي الاحتكاك الثقافي على يدي استعمار من النوع البربري، لا يحمل أي خلفية ثقافية مُتحرّكة أو روح حضارية مُتجدّدة، وإنما يكون همّه إعمال القتل والسلب في البلدان التي يغزوها، وذلك تعرض له الشعب العراقي غالبًا خلال تاريخه القديم والحديث، من أمثلته الاحتلال العثماني الذي جثم على صدره أربعة قرون مديدة، الأمر الذي استدعى توغّل المجتمع العراقي بشكل لا صحي في تماسكه الاجتماعي، مُخلّفًا نوعًا من التعصّب القبلي الذي صار ملاذه الآمن الوحيد تجاه التهديدات المستمرّة، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على شتى قطاعات المجتمع وخاصة الضعيفة منها كالمرأة.

ويرى الدكتور مصطفى حجازي[34] أن الفرد الذي يتعرّض لقهر اجتماعي سيفقد كرامته وتقديره لذاته، مما يولّد لديه ضغطًا نفسيًا كبيرًا لا يجد تنفيسًا له إلا بصبّه على من هو أضعف منه، وهو ما عبّر عنه بمصطلح «التماهي مع المتسلِّط»، والنساء والأطفال عمومًا هم الطرف الأكثر ضعفًا الذين يقع عليهم نتائج هذا الغرم، فيُترجم على شكل امتهان المرأة لتصير كسقطِ المتاع، يتبادلها الرجال كسلعةٍ في النزاعات القبليّة، ويتجنّبون الحديث عنها في مجالسهم، ويجد الرجل في تلك البيئة أنّ من حقّه توزيع سخطه على الزوجة والأولاد لأتفه الأسباب، ويُمثل وضع المرأة في الريف أحد أوضح النماذج على ذلك، وقد أشارت إليه صبيحة الشيخ داوود –وهي من النسويات العراقيات الأوائل- قائلة: «إن الرجل حين يستشري به الغضب أو ضيق العطن يفرغ فيها (أي المرأة) كلّ شقائه دون ما رحمة، فينفّس بذلك عن تعاسته هو وشعوره بالظلم اللاحق به من سيادة الإقطاعي وجبروته»[35].

 كما انسحب جانب من هذا القهر على البيئة الحضرية العراقية أيضًا، بعد أن تلبّس بلباس ديني نتج عنه تطرّف في موضوع العفّة والشرف، فتحوّل إلى هَوَس مَرَضي لدى رجال الحَضر، فصاروا لا يُرخّصون للمرأة الخروج من دارها إلّا لجهتين: إلى بيت الزوج أولًا ثم إلى القبر ثانيًا؛ لذا عندما بدأت الحكومة العثمانية تفكّر في إجراء إحصاء لرعاياها من النساء أسوة بالرجال، ثار الرأي العراقي العام، واعتبروا ذلك انتهاكًا لأعراضهم، فخرج أهالي بغداد من محلّات عديدة تتقدّمهم شخصيات بغدادية، رافضين إجراء الإحصاء، كما جرت مظاهرة مماثلة في الموصل ما دفع الوالي العثماني إلى صرف النظر عن الموضوع.

لا شكّ في أن مثل هذه المظاهر لم تكن مُستوعِبة لجميع فئات المجتمع، بل هنالك استثناءات نجدها في طبقات النخب، كعلماء الدين والتجّار وشرائح من الطبقة الوسطى من الضباط والمُعلّمين والموظفين، وهي طوائف ضاعت صورتها في هرج الأحداث العامة وتفاصيلها المريرة.

هذا الوضع تغيّر في أواخر العهد العثماني؛ إذ دبّ الضعف في السلطة العثمانية المركزية، وتمكّنت رياح التغيير من أن تعصف بشكل الحكم، فأمسك بزمام الولايات العراقية ضبّاط أتراك لديهم رؤى مواكبة ساعدت على تحريك المياه الراكدة نوعًا ما، مثل مدحت باشا الذي صار واليًا لبغداد منذ العام 1869، ونامق باشا الصغير الذي استلم ولاية بغداد منذ العام 1899، فبدأت بعض المظاهر الإيجابية تُخفّف من بلوى الأوضاع السابقة، كما إن المبادئ الإسلامية الأساسية لها امتيازاتها كذلك، وهي مرونتها وقابليتها على استعادة التنشيط؛ لأنها تقوم على مبادئ فطرية يتحسّس عامة البشر صوابها بالوجدان؛ لهذا نجد أنه مع أول بوادر التغيير في سياسة الدولة العثمانية تجاه المجتمع العراقي، سرعان ما تمكّنت النخب الدينية والثقافية من نفض بعض الغبار عن بعض رواسب القهر الاجتماعي، فشجّعت ظاهرة إعطاء المرأة الحق في التعليم والعمل والتملّك، حتى شهدت أول مدرسة للبنات يُنشئها نامق باشا التحاق 95 طالبة في بغداد.

يقول الدكتور إبراهيم خليل العلّاف[36]: «إن الدين الإسلامي وعلماء الدين في العراق لم يقفوا موقفًا مُتصلّبًا من المرأة، فقد تسامحوا كثيرًا معها، وأكّدوا حقّها في أن يكون لها دور فاعل في المجتمع ولم أر –على الأقل بالنسبة لي – أن أفتى أحدهم بفتوى تمنع المرأة من العمل أو الإسهام في عملية تكوين الدولة مع ملاحظة بعض الحالات النادرة جدًا، ولم يشهد المجتمع العراقي خلال فترة تكوينه أيّ مصادمات حادة في هذا المجال، بل كانت المرأة العراقية تُمارس دورها بحرية واسعة، وكانت في كلّ ما تقوم به مساندة للرجل ومعاضدة له في جهده البناء»[37]، ويؤكّد المؤرّخ عبد الرزاق الهلالي قائلًا: «لم يكن تعليم المرأة في الإسلام بدعة؛ لأن المؤمنين والمؤمنات مُكلّفون جميعًا بنص القرآن الكريم، ولا تتيسّر معرفة الدين إلا بنوع من التعليم؛ لذلك أفتى الفقهاء بوجوب تعليمهن بأسانيد دينية، وليس ما يمنع تعليمهنّ كما يتعلّم الصبيان أو ذهابهن إلى الكتاتيب في الصغر»[38].

والخلاصة أن التيار الديني الذي دأب الأدباء الحداثويون والكاتبات النسويات وصمه بالتخلّف والرجعية لم يكن يقف من المرأة العراقية موقف الاحتقار والتجهيل كما سنثبت ذلك في تضاعيف الكتاب، فباستثناء بعض الحالات المحدودة[39]، فإن التيار الديني العام كان داعمًا لتعليم المرأة والسماح بتصديها للعمل بشرط الحفاظ على هويتها الإسلامية والتزاماتها الشرعية.

وحيث إنّ من شأن التغير الاجتماعي أن يأتي ببطء، بخاصة مع طول مدة الهدم السابقة، فإن عملية التحوّل الإيجابي التي تمت أواخر العهد العثماني لم تعطِ نتائجها المطلوبة، وذلك بسبب مجيء الاستعمار البريطاني الذي بسط نفوذه الكامل على العراق في العام 1917.

جلب الاستعمار البريطاني للعراق احتكاكًا ثقافيًا غير تقليدي، وتعمّد في الوقت ذاته على توكيد العوار الذي لحق بالتماسك الاجتماعي للعراقيين بسبب الاستعمار العثماني؛ وذلك لأن الإنجليز وجدوا أنّ العراق بما يكتنفه من وقود ثقافي يختلف عن أي مستعمرة احتلّها التاج البريطاني سابقًا[40]، وبذلك واجه المجتمع العراقي أزمة من نوع جديد، تمثّل بنشاط قطب الاحتكاك الثقافي بقوة ماكرة تؤثّر بشكل سلبي على تماسكه الاجتماعي الذي كان يتعافى ببطء، ما أدى إلى الانقلاب على المبادئ الأساسية للثقافة المحلية بسرعة، وكانت المرأة العراقية الحضرية في بؤرة هذا الانقلاب، لما نالها من قهر أشرنا إليه آنفًا، وقد شجّعت التغيرات المُتسارعة في محيط العراق الإقليمي على تسريع ذلك، كالتغيّرات التي حدثت في تركيا وإيران وسوريا ولبنان ومصر.

إن أنموذج القدوة الذي قدّمته بريطانيا للمرأة الحضرية كان أنموذج المرأة الغربية الذي لا يستقيم مع المبادئ الأساسية للمجتمع العراقي، وعلى رأسها المبادئ الإسلامية، وقد لعب عراقيون متأثّرون بالغرب دورًا واضحًا في مهاجمة الإسلام وأهله من دون استثناء، فكالوا أنواع التهم ونعتوهم بأقبح النعوت، وامتلأت الأدبيات النسوية العراقية بالصور النمطية البعيدة عن الطرح المُحايد، إذ تمتلئ بالتوصيفات السلبية التي تصف التيارات المحافظة بالتعصّب والتخلف والرجعيّة والجمود، تقابلها الأوصاف الرنّانة عند ذكر الحراك النسوي، من قبيل: النهضة والتطور والتقدّم والتهذيب، وتحت طائلة ذلك أصيبت الأحداث التاريخية بضبابية تجعل مهمة الباحث عسيرة في استجلاء واقع المرأة العراقية واستيضاح تفاصيل ما مرّت به خلال حقبة الاستعمار البريطاني.

عودًا على بدء، إنّ تطبيق الأنموذج النظري القائم على أساس (التماسك-الاحتكاك) على هذه الحقبة المهمّة من التاريخ العراقي الحديث يكشف لنا أن جوهر المشكلة التي واجهتها المرأة لم يكن يتعلّق بالثقافة الإسلامية كما يرى حداثويون، ولا بالوصمة الذكورية للمجتمع العراقي كما تدّعي النسويات، وليست هي ناشئة عن ازدواجية الشخصية العراقية كما يذهب إليه مؤرخون اجتماعيون، وانما هي بالأصل مشكلة انعدام في التوازن بين (التماسك الاجتماعي) و(الاحتكاك الثقافي) عبر عقود من الاضطهاد الاستعماري المتنوّع الذي طاف بالعراق عبر الأزمان المتعاقبة.

 ومع استمرار غياب الاستقرار السياسي في العراق خلال تاريخه المعاصر، فإن فقدان التوازن بين قطبي (التماسك-الاحتكاك) بقيَ قائمًا، ولا يصعب علينا أن نجد نظائر لما تحدّثنا عنه في تاريخه الأسبق، فما مرّ به المجتمع العراقي في عهد النظام البعثي والصدمة التي تلقّاها بعد الغزو الأمريكي خلّف كثيرًا من النتائج المشابهة التي وقعت بين مرحلتي العثمانيين والإنجليز، حتى يُخيّل للناظر أن كل أطياف المجتمع العراقي من شأنها أن تكون مُنفعلة بالوافد الثقافي لا غير.

ووفقًا ما تقدّم، يتضح لنا أنّ النشاط النسوي في العراق لم تظهر بوادره إلا بعد مرحلة الاستعمار البريطاني، وتحديدًا في العام 1923 عندما ظهرت رسميًا أوّل منظمة نسوية تحمل اسم «نادي النهضة النسائي» وإصدار أول صحيفة نسوية باسم «ليلى»، وما تبعها من تأسيس منظمات وظهور شخصيات أثّرت في واقع المرأة العراقية، خاصة على الصعيد الثقافي الذي يمثّل الوجه الأهم من تاريخ العراق الاجتماعي.

ومما تقدّم يمكن أن نفهم أيضًا لماذا كان الحراك النسوي يتلوّن مع الإرادة السياسية الداخلية والخارجية التي مر بها العراق الحديث، بحيث نجد أن كلّ ما تحقّق من إنجازات لهذا الحراك لم يكن ينفكّ عن القوى السياسية التي برزت في البلد، ولمّا كان العراق يمرّ بتحوّلات سياسية سريعة وفجّة عملت خلالها الأنظمة الحاكمة على تكييف كل المنظّمات والحركات الاجتماعية لصالح توجّهاتها السياسية من أجل ضمان وجودها الطارئ[41]، لذا فإن الصورة الكبرى للحراك النسوي العراقي كان عبارة عن فسيفساء مُبعثرة، كل قطعة فيها لا تنتمي إلى ما سبقها، وعليه فإن استخدامنا لعبارة «تحوّلات سياسية» لوصف الحراك النسوي العراقي هو أقرب إلى التعبير المجازي منه إلى الإحالة لظاهرة واحدة ذات وجود مُتّصل[42]، وعلى هذا الأساس، يمكن تقسيم التحوّلات التي مرّ بها الحراك النسوي إلى أربع مراحل تمثّل انعكاسًا لطبيعة الأنظمة السياسية التي توالت على حكم العراق منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى اليوم:

المرحلة النسوية البرجوازية (1923- 1958)

المرحلة النسوية اليسارية (1942-1978)

المرحلة النسوية البعثية (1969-2003)

المرحلة النسوية الليبرالية (2003-2023)

ولكل مرحلة من هذه المراحل مميزات خاصة، وإن مما يستفاد من هذا التقسيم هو تفنيد دعوى أن الحراك النسوي العراقي كان يُمثل وحدة مُنسجمة؛ إذ هي دعوى تستبطن كثيرًا من التعميم، فكيف يمكن أن يُمثّل نشاط النسويات الليبراليات امتدادًا لنشاط النسويات اليساريات؟ وكيف يمكن أن تكون منجزات النسويات اليساريات امتدادًا لمنجزات البرجوازيات؟ مع أن لكلٍّ من هذه التيارات فلسفات سياسية مُتناقضة في كثير من الأحيان.

نعم يمكن للنسويات العراقيات أن يُحاجِجنَ بناظم مُشترك، وهو التنكّر للثوابت الإسلامية التي ترتكز عليها ثقافة الأغلبية للمجتمع العراقي؛ إذ نجد في كل المراحل آنفة الذكر محاولات لوصم هذه الثوابت بالرجعيّة والتخلّف كلّما سنحت الفرصة للنسويات، وينطلقن في ذلك من تأكيدهن على قاعدتين أساسيتين هما: خلع الحجاب، والمساواة بين الجنسين.

والحق أن هذا الناظم المشترك يمثّل العمود الفقري لكل حراك نسوي في العالم؛ لأن الفكر التأسيسي لهذا الحراك غايته نزول المرأة لسوق العمل كما أشرنا في المقدمة، وهذا لا يتم بالصورة التي ترضي الماكنة البرجوازية – الرأسمالية إلا عندما يتم تحرير المرأة من شرط قيّوميّة الرجل عليها، والتي يؤكد عليها الدين الاسلامي بكل وضوح، وكما ستتضح تفاصيله في طيات هذا الكتاب.

وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أهم الأسس التي اعتمدتُها في تأليف فصول هذا الكتاب، وألخّصها باختصار على النحو الآتي:

اتّباع المنهج الوصفي أساسًا، مع الاستناد أحيانًا إلى المنهج التحليلي والمقارن لتفسير الأحداث التاريخية المفصلية.

التركيز على الحراك النسوي في مناطق وسط وجنوب العراق كمحور أساس، والإشارة للنشاطات النسوية في كردستان بقدر ما يخدم الحديث عن المحور الأساس، باعتباره المنطلق الأهم لهذا الحراك.

التركيز على النشاط النسوي متمثّلًا بشخصياته النسائية ومنظّماته التي تديرها النسويات، ولن أركّز كثيرًا على الشخصيات أو المنظّمات الرجالية التي دعمت الحراك النسوي.

التركيز على النشاط النسوي داخل العراق، ولا أتعرّض إلى النشاط النسوي العراقي في الخارج إلا بمقدار محدود.

يغطي الكتاب الغالبية العظمى من الاحداث الرئيسة المرتبطة بالنشاط النسوي العراقي، ولا يعنى بالتفاصيل الهامشية التي ليس لها تأثير مفصلي في تطور هذا النشاط.

وفي الختام أشير إلى أن هذا الكتاب يتميز بأنه يسرد تاريخ الحراك النسوي العراقي خلال المئة عام المنصرمة بطريقة تحليلية ناقدة؛ لذا نأمل بأن يكون مصدرًا لكل باحث ومثقّف يأمل أن يستجلي الوقائع التاريخية المرتبطة بنشاط النسويات العراقيات خلال تاريخه الحديث والمعاصر، ومن الله تعالى نطلب السّداد لتحقيق المُراد.

 

-------------------------------------------------

[1] الليبرالية بصيغتها الكلاسيكية كانت ترفض شمول الطبقات والفئات الفقيرة والنساء، وهذا ما نجده في نصوص جون لوك بصفته رائد الليبرالية الكلاسيكية وكذلك في آراء عمانوئيل كانط (1724 - 1804) بصفته المنظّر والفيلسوف المؤثر الذي اعتمده لاحقًا الليبراليون من أتباع الديمقراطية الاشتراكية والليبرالية الجديدة، فقد صرّح كانط برأيه القائل: إنّ امتلاك رأس المال (وحسب تعبيره الاستقلالية والسيادة) هو الشرط الأساس الذي يجعل الفرد مواطنًا ومتساويًا مع سائر المواطنين الأحرار، وهذا هو الذي يمتلك حق التصويت والتشريع والحكم (ينظر: الليبرالية - شهريار زرشناس –المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية/ سلسلة مصطلحات معاصرة- دار الكفيل /كربلاء - الطبعة الأولى 2017 - ص71- 72).

[2] الإسلام في مواجهة النسوية – محمد لغنهاوزن – مجلة الاستغراب- المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية- العدد 16/السنة الرابعة/صيف 2019- ص16.

[3] مباهج الفلسفة- ول ديورانت /ج1- المركز القومي للترجمة-الطبعة الثانية 2016- ص 203.

[4] أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة- فريدريك أنجلز – الحوار المتمدن - العدد: 6748 – 30/11/2020.

[5] في العام 1910 طالب المؤتمر الدولي للنساء الاشتراكيات في كوبنهاغن بالدنمارك تحديد اليوم الدولي للمرأة، الذي أفضى أخيرًا إلى الاحتفال لأول مرة بيوم المرأة العالمي في 19 آذار من عام 1911.

[6] مما يبعث على السخرية أن الحركات النسوية لا تزال توجّه أصابع الاتهام –من حينٍ لآخر- نحو النظام الرأسمالي في استغلال المرأة، وفي الوقت ذاته تشجع النساء على تغذية هذا النظام بكل ما يرغب فيه من طاقات النساء العاملات لتنشيط مصانعه وتغذية أسواقه واستهلاك منتجاته على نطاق واسع.

[7] العلاقات العامة واستراتيجية الاتصال – علي فرجاني – دار أمجد للنشر والتوزيع/ الأردن – الطبعة الأولى 2018 – ص13 .

[8] Underpaid, But Employed: How the Great Depression Affected Working Women – history - https://www.history.com/news/working-women-great-depression

[9] أجرى الدكتور جون ماني تجربة متطرفة ولا أخلاقية على الطفل ديفيد لتحويله إلى فتاة باسم بريندا، انتهت التجربة بنهاية مأساوية تمثلت بانتحار ديفيد بعد أن صار شابًا، ولكن ماني رأى أن التجربة كانت ناجحة، وكتب في ذلك كتابًا يحمل عنوان التوقيعات الجنسية في العام 1975 لاقى ترحيبًا إيجابيًا كبيرًا، ما يدلّ على وجود دعم لا علمي وراءه، وفي العام نفسه احتفلت الأمم المتحدة بيوم 8 آذار كيوم عالمي للمرأة..

[10] حقيقة الليبرالية وموقف الاسلام منها- د. عبد الرحيم السلمي- مركز التأصيل للدراسات والبحوث – الطبعة الاولى (جدة) 2009- ص47.

[11] صرح رئيس مجلس الوزراء شينزو آبي أن إنتاج اليابان يمكن أن يرتفع بنسبة 16% إذا عملت المرأة اليابانية بالقدر الذي يعمل به الرجال، ووضع خطة أطلق عليها اسم (المشاركة الاقتصادية الفعالة للمرأة اليابانية Womenomics من أهدافها رفع نسبة القوى العاملة النسائية إلى نحو 73% مقارنة بـ68% للعام 2012 على أمل أن يحصد المجتمع الياباني عائدها الاقتصادي في العام 2020 .

[12] من الحداثة إلى العولمة ج2 – تيمونز روبيرتس وإيمي هايت- عالم المعرفة/الكويت- الطبعة الأولى 2004 – ص 193-194

[13] بلغت نسبة النساء اللواتي يعمل في الجنس في بانكوك 10% من عدد العاملات في ‏الشركات متعددة الجنسيات.

[14] من الحداثة إلى العولمة ج2 – مصدر سابق - ص 205.

[15] Gender and democratic citizenship: the impact of CEDAW - OXFORD ACADEMIC- 30/3/2012- https://academic.oup.com/icon/article/10/2/512/666068?login=false

[16] النسخة الإنجليزية لمؤتمر بكين الدولي المشهور ذكرت مصطلح الجندر 254 مرة دون أن تعربه، وتحت ضغط الدول المحافظة تم تشكيل لجنة تعمل لتعريفه ولم خرجت بتعريف له.

[17] منظمة تعاونية للمساعدة والإغاثة والتنمية.

[18] جاء في القرار ما نصه: «يسهم تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة والفتاة إسهاما حاسما في احراز تقدم نحو تحقيق جميع الأهداف والغايات» (ينظر: قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28/9/2015 – الأمم المتحدة- الدورة السبعون- 21/10/2015 - ص8) .

[19] في تزامن لا يبدو على أنه مصادفة، اطلق المصنعون في الولايات المتحدة حملة تهدف إلى توظيف نصف مليون امرأة بحلول العام 2030 لسد الحاجة للأيدي العاملة في المصانع الأمريكية.

[20] ما بين عامي 2010- 2013 ارتفعت نسب الزواج المثلي في الولايات المتحدة، وتحوّل نهج شركة نتفلكس الشهيرة إلى الترويج للمثلية من خلال منتجاتها بقوة، كما تسنّم البابا فرنسيس عرش البابوية ليصرّح بأن المثليين أبناء الرب، وليس لأحد الحق في أن يحكم عليهم.

[21] أمثال غوستاف لوبون في كتابه (سيكولوجية الجماهير) والدكتور مصطفى حجازي في كتابه (التخلف الاجتماعي).

[22] إن هذا المدخل النظري لا يفسّر حصول التحوّلات الثقافية بفعل الانقلابات التي يشعلها الثوريون، أو بفعل القسر الذي تمارسه السلطات الحاكمة، فهذا القسر وتلك الثورات قائمة على أساس انحسار الخيارات لدى شرائح المجتمع في قبول أو رفض الثقافة الجديدة التي جاءت بها الثورة أو السلطة، وعليه فإن القسر الفكري والثورة عملية تغيير قاهرة لا علاقة لها بالتحول الثقافي القائم على التلاقح الثقافي الحر بسبب الانفتاح على الشعوب الأخرى، ومن المشهود أن كثيرًا من التغيرات التي فرضتها القوى القاهرة لا يُكتب لها الدوام، فسرعان ما تضمحلّ الثقافة التي أجبر المجتمع عليها ويعود تدريجيًا إلى ثقافته الأولى بعد زوال القوى القاهرة.

[23] الكافي للشيخ الكليني – ج5- ص5.

[24] قال تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الذاريات/ 49 .

[25] آل عمران103

[26] نهج البلاغة- الخطبة 176.

[27] الانفال46

[28] النساء59

[29]  الحجرات13

[30] ذكر الشيخ مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل معانٍ عدة لكلمتي (الشعب) و(القبيلة) في هذه الآية، ورجّح أن يكون المعنى المقصود منهما هو: أن دائرة الشعب أوسع من دائرة القبيلة كما هو المعروف في العصر الحاضر أن يطلق الشعب على أهل الوطن الواحد.

[31] لا بد من التنويه هنا إلى أن بركات الاحتكاك الثقافي لا تأتي للمسلمين فقط من خلال احتكاكهم بغير المسلمين، بل إن الاحتكاك الثقافي يأتي ببركاته أيضًا إذا وقع بين شعبين مسلمين أو قبيلتين مسلمتين لكل منهما مذهب أو عادات أو تقاليد أو جغرافية مختلفة.

[32] نهج البلاغة- الخطبة 146.

[33] المدخل إلى علم الاجتماع- د. محمد الجوهري- ص169.

[34] التخلف الاجتماعي. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور- د. مصطفى حجازي.

[35] أول الطريق- صبيحة الشيخ داوود- مطابع الرابطة- بغداد 1958- ص 228.

[36] كاتب ومؤرخ وأستاذ جامعي متخصص بالتاريخ العربي الحديث والمعاصر، حائز على وسام المؤرخ العربي من اتحاد المؤرخين العرب لجهوده في خدمة التاريخ العربي والإنساني.

[37] تاريخ المرأة العراقية ودورها في بناء العراق المعاصر1921-2003 – د.ابراهيم خليل العلاف- نشر بتاريخ 28/6/2013 https://wwwallafblogspotcom.blogspot.com/2013/06/1921-2003.html

[38] تاريخ التعليم في العراق في العهد العثماني 1638-1917 - عبد الرزاق الهلالي- دار الرافدين للنشر والتوزيع- الطبعة الاولى 2017- ص64.

[39] لأجل تحري الدقة في تحليل أحداث التاريخ نقول: إن التيار الديني المحافظ في العراق لم يكن واحدًا، فهنالك المسلمون من أتباع المذهب الشيعي، وهنالك مسلمون من أتباع المذهب السني، وهؤلاء أيضا على طوائف عديدة، كالنقشبندية والحنفية والمالكية.. الخ، ومن ثم لا يمكن أن تمثّل بعض المواقف التي كان يتّخذها بعض أتباع هذه المذاهب تمثيلًا حقيقيًّا لموقف التيار الديني العراقي بشكله العام.

[40] ذاق الجيش البريطاني على سهل الرافدين ويلات لم يكن يتوقّعها ابتداء من دخوله البصرة عام 1914 وحتى الثورة الكبرى عام 1920.

[41] إذ إن جميع الأنظمة السياسية العراقية الحديثة وُلدت ولمّا تعبر عن إرادة شعبية حقيقية، ‏بحيث تنمو من خلالها وتتفاعل معها، وصولًا إلى الانفعال بها، فعلاقة الأنظمة التي حكمت ‏العراق بالشعب ظلّت علاقة أمرًا واقعًا مفروضًا من الداخل بسبب جماعة سياسية معينة، أو من ‏الخارج بسبب قوة استعمارية، أو بسبب الاثنين معًا.‏

[42] لعل ذلك لا يختصّ بالحراك النسوي السياسي في العراق، وإنما يشمل الحركات النسوية بشكل عام، ولهذا يميل بعضهم إلى رفض ما يسمّى بالموجات النسوية، خاصة أن هنالك الكثير من التعارض والصدامات الداخلية بين رائدات هذه الموجات.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف