تأليف :
الدكتور نزار ناجي محمّد
فهرس المحتويات :
الفصل الأوّل: الاستشراق والسيرة النبويّة بين السلطة المعرفيّة وألوان الخطاب
المبحث الأوّل: الاستشراق في الموسوعات والدوائر المعرفيّة
المبحث الثاني: صورة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في أوروبا والغرب (800–1900م)
المبحث الثالث: السيرة النبويّة في تصوّرات المستشرقين
الفصل الثاني: الولادة والنشأة في البيئة المكّيّة بين الأنا الاستشراقيّ وانتقاص الآخر
المبحث الأوّل: القبيلة والولادة وتشويه الآخر
المبحث الثاني: النشأة في البيئة المكّيّة
المبحث الثالث: الأثر والتأثر في البيئة المكّيّة
الفصل الثالث: الوحي والنبوّة بين النصّ الإسلاميّ والرؤية الاستشراقيّة المتخيّلة
المبحث الأوّل: الوحي وبدايات البعثة النبويّة
المبحث الثاني: أُمّيّة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بين تعدّدية النصّ والمعاني والانحراف المعرفيّ
المبحث الثالث: المتخيَّل الجمعيّ لمعارف نبوة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)
الفصل الرابع: العهد المكّيّ: بدايات الدعوة الإسلاميّة وموقف المجتمع المكّيّ
المبحث الأوّل: بدايات الدعوة وموقف المجتمع بين النصّ ومخالفة الخطاب
المبحث الثاني: الإسراء والمعراج ودعوى الاختطاف العجائبيّ
المبحث الثالث: الاضطهاد والهجرة إلى الحبشة حقيقة النصّ وخيال الخطاب
المبحث الرابع: المقاطعة ودعوى صعوبة تفسير النصّ وتشكيك الخطاب
المبحث خامس: بيعتا العقبة ودعوى التأثّر بالنصّ الكتابيّ
المبحث السادس: الهجرة والمصاحبة بين واقع النصّ والانحياز المعرفيّ
الفصل الخامس: العهد المدنيّ: الحياة الأسريّة والصراع مع خصوم الدعوة الإسلاميّة
المبحث الأوّل: محاولات استمالة اليهود وتخيَّل الخطاب
المبحث الثاني: السيف والقتل الصورة النمطيّة لعلاقة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) باليهود
المبحث الثالث: حروب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) مع المشركين بين الشرعيّة والعدوان
المبحث الرابع: نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والحياة الأسريّة في ظلّ الصورة القدحيّة لتعدّد الزوجات
المبحث الخامس: عالميّة الدعوة والأحداث من مؤتة حتّى وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)
مقدّمة المركز
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيِّدنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى آله الأطهار الميامين(عليهم السلام)، وبعد...
لطالما شغلت شخصيّة نبيِّ الإسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتاريخه، وسيرته، ورسالته السماويّة...، المستشرقين على اختلاف مدارسهم، واتِّجاهاتهم، وتوزُّعهم الجغرافيّ في الغرب؛ ولذلك أكثروا من التَّأليف، والتَّنقيب، والبحث في قضايا ترتبط بنبيِّ الإسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل وبكلِّ ما يرتبط بالنُّبوَّة، والرِّسالة، ومصدر القرآن الكريم، والوحي، ولغة القرآن، وحتَّى ملامح النبيّ محمّد، وبعض تفاصيل سيرته وحياته...، وعندما نقارب هذه الكتابات موضوعيًّا، ونسلِّط النَّظر عليها منهجيًّا ومضمونيًّا، سيتَّضح لنا أنَّ القسم الأكبر من المستشرقين الذين كتبوا عن نبيِّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكتبوا بموضوعيَّة، ولم يراعوا منهجيَّةً منسجمةً مع القضايا المبحوثة؛ ولذلك كانت أغلب النَتائج التي قدَّموها للنَّاس متقاربةً من حيث التَّشويش، والتَّشويه، ومجافاة الحقيقة، فضلًا عن عدم الدِّقَّة المضمونيَّة والمنهجيَّة.
ولهذا لم تكن الصُّورة التي رسمها الغربيّون للنَّبي محمّد بن عبد الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الموصوف في القرآن الكريم بنبيِّ الرَّحمة، وصاحب الخُلق العظيم، وأنَّه لا ينطق عن الهوى، وليدة أقلام المستشرقين المعاصرين الباحثين عن معرفة ديانات الآخرين، وحضارتهم كما هو حال العلماء، والمؤرِّخين، بل إنَّ بدايات تشكُّل صورة «محمّد»(صلى الله عليه وآله وسلم) عند الغربيّين قد بدأت في القرون الوسطى بخلفيَّات دينيّة، واستعماريَّة كثيرة، وذات صلة بالمنظومة الفكريّة الغربيّة ومخيالها الأدبيّ ووعيها الجمعيّ، بناءً على تصوُّرات نمطيَّة، ورؤى مشوِّهة، وأيديولوجيَّات اقصائيَّة معتقِدة بتفوُّقها المعرفيّ، والعرقيّ، ومؤمنة بدونيَّة «الآخر».
ويشير إلى هذه الحقيقة إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» بقوله: «لقد كُدِّست فوق محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في العصور حزمة من الخصائص التي تطابقت مع شخصيّة أنبياء «الرُّوح الحرَّة» الَّذين ظهروا في أوروبا في القرن الثَّاني عشر، وادَّعوا أنَّهم صادقون، وجعلوا وراءهم أتباعًا. وبطريقة مشابهة، فما دام محمّد قد عُدَّ ناشرًا لوحي زائف، فقد أصبح هو كذلك تجسيدًا للشَّبق، والفسق، و...، وسلسلة كاملة من الخيانات المتنوِّعة التي اشتُقّت جميعًا بصورة منطقيّة من انتحالاته المذهبيَّة.
ولهذه الغاية فقد خاض في موضوع سيرة المصطفى، وتاريخه(صلى الله عليه وآله وسلم) حشد هائل من المستشرقين، ونخب فكريَّة بمختلف توجُّهاتها، وانتماءاتها، من أدباء، وكهنة، وأكاديميِّين، ومثقَّفين، وصولًا إلى المفكِّرين الكبار، بمناهج مختلفة ومقاربات متنوِّعة، لكن يحكمها جميعًا أحاديَّة المرجعيَّة، وخلفيَّاتها الدينيّة، والاستعماريَّة التي اتَّسمت بتحريف التَّاريخ، وتزوير الوقائع، وتشويه الجميل، وتدنيس المقدَّس. وقد وظَّف هؤلاء الكتَّاب والباحثون معارفَهم، وأرصدتهم الثقافيّة، وآليَّاتهم المنهجيَّة، وأدواتهم التَّحليليَّة لتسويق خطابات عدائيَّة مشوِّهة، تفتقد لكلِّ مقوِّمات البحث التاريخيّ العلميّ، على سيرة نبيِّ الإسلام، والكتاب السَّماوي الَّذي نزل عليه(صلى الله عليه وآله وسلم) من السَّماء.
ويتَّضح هذا الأمر أكثر عندما نتتبَّع بعض كتابات الغربيّين في السِّيرة النبويّة، ووصف شخصيّة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) الخاصَّة، وحياته الدينيّة والقياديَّة، وفي ما يلي باختصار صورة رسول الله محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابات القرون الوسطى، التي ما تزال كما هي إلى حدٍّ كبير عند الكثيرين حتّى اليوم. «فتارة يتَّهمون النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه مصاب بداء عصبيّ نفسيّ، وأنّه يستمدُّ أفكاره، وتشريعاته من سيكولوجيَّته الخاصَّة، فيختلي بنفسه للتَّأمُّل، ربَّما لأنَّه مصاب بداء عصبيّ، فتحوَّل إلى شخص كثير الرُّؤى، اللَّاإراديَّة، والهلوسات المرضيَّة، التي آمن بها كحقائق سيطرت على سلوكيَّاته فيما بعد». وأخرى ينزِّلونه منزل حكَّام الأرض الفاسدين، وأنَّه يملي على الملك جبرائيل، وكما يقول بعضهم: «نراه يمارس نزوات الحاكم، يشكِّل حريمًا، يُدشّن، ويؤسِّس سياسة ماكرة، تجسِّد الطُّموحات والانتقام، فهو الَّذي يملي حاليًّا على الملك جبريل الآيات التي يراها نافعة، فتحوَّلت نبوءته إلى أوامر مفروضة على الله».
وأورد الباحث الألمانيّ الدُّكتور أحمد فون دنفر في بحثه الفريد عن ترجمات القرآن للُّغة الألمانيَّة، أنَّه أحصى واحدًا وأربعين نوعًا من الشَّتائم التي تستخفُّ بالرَّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحطُّ من قدره في موضع واحد من مقدِّمة البروفيسور «صامويل فريدريش غونتر فال» لترجمته للقرآن الصَّادرة عام 1828م.
وفي دراسة أُجريت على تاريخ ترجمة القرآن الكريم في أوروبا من (1140-1900م)، وشملت ثلاثًا وسبعين ترجمة، يقول الباحث معدُّ الدِّراسة: وجدت إجماعًا تامًّا لدى كلّ المترجمين على نسبة القرآن الكريم إلى محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بعدِّه مؤلِّفه. وقد بدت هذه التَّرجمات في مجملها، كأنَّها مباراة في شتم الرَّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، تبدأ من الغلاف الخارجيّ، مرورًا بالمقدِّمة، ثمَّ النَّصِّ والحواشي.
ولا نريد، مراعاةً للموضوعيَّة، مناقشة هؤلاء المستشرقين بخلفيَّة أيديولوجيَّة، بل بروحيَّة بحثيَّة موضوعيَّة تستند إلى الثَّوابت العلميّة التي تقتضي التزام الباحث العودة إلى المصادر المعتمدة، والموثوقة عند مَن نريد دراسة فكره أو أطروحته في أيِّ مجال من المجالات الدينيّة أو العلميّة بشكل شامل ومفصَّل. وهو ما فقده الكثير من المستشرقين في دراستهم شخصيّة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيرته، والشَّريعة التي جاء بها، حيث تحكَّمت بدراساتهم الخلفيَّات الفكريّة، والأيديولوجيَّة، والنَّظرة الدُّونيَّة إلى الآخر، وهذا غاية السُّقوط البحثيّ والمنهجيّ.
ولم يغب عن هذا المشهد صناعة الصُّورة والموقف الانفعاليّ اتِّجاه النبيّ كشخص، وكرسول من عند الله في المنتديات العلميّة، وصناعة رأي عام سلبيّ وحاقد عند الطَّبقات المثقَّفة والعامَّة، ليتكوَّن لدى الجماعة عداء من هذا النبيّ ودينه، وهو ما حصل بحسب ما سجلت الدِّراسات التاريخيّة.
ولم يكتف المستشرقون بالعمل بمختلف الوسائل على محاولة إسقاط شخصيّة النبيّ ونبوَّته، بل عدُّوا القرآن الكريم هدفًا آخر لدراساتهم، وهو ما يفسِّر تصدِّي كبارهم وصغارهم لترجمة القرآن مع ما في هذه التَّرجمات من ضعف وخللٍ منهجيٍّ. وأقلُّ ما يقال في هذه التَّرجمات إنَّها تقدِّم القرآن الكريم منتجًا ثقافيًّا بشريًّا مؤسَّسًا على الأساطير، وتعاليم دينيّة مستقاة من الكتب السماويّة السَّابقة بدقّة وذكاء من محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم). فتحوَّلت التَّرجمة إلى آليّة لصناعة معادل موضوعيّ يُعادي النَّصَّ المُقدَّس، ويُناهضه، وينتقده؛ عوض تقديم معانيه في جماليَّات أدبيّة، ولغويَّة، وفكريَّة.
بالنَّتيجة إنَّ القراءة العلميّة المحايدة، والموضوعيَّة فضلًا عن التَّعمُّق في تقويم بحوث الغربيّين، وكتبهم، ودراساتهم. يجعل الباحث الموضوعيّ فضلًا عن المسلم يقتنع بأنَّ هذه الدِّراسات تستهدف في غايتها نبيَّ الإسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بكلِّ ما يمثِّل، كونه المحور الَّذي ترتبط به قضايا القرآن، والسَّنَّة الشَّريفة بما يمثِّلان من مكانةٍ، وقدسيَّةٍ عند المسلمين، وكونهما مصدريِّ التَّشريع للدِّين الإسلاميّ. وهذا ما يفرض على الباحثين، والمفكِّرين المسلمين وغيرهم في هذا العالم، الحضور العلميّ الفاعل، والمنصف في هذا الميدان البحثي الحسَّاس لناحية النَّقد والتَّقويم، وبيان نقاط الضَّعف، والتَّهافت في كتابات المستشرقين هذه.
إنّ هذه الأطروحة هي جزء من الدراسات التخصّصية النقدية لما بثّه المستشرقون عبر قرون من الزمن حول التراث الإسلامي، ولا سيّما ما يتعلّق بالقرآن وبنبي الإسلام محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يسعنا إلا تقديم خالص الشكر والتقدير والامتنان للباحث الأستاذ نزار ناجي محمّد على هذا الجهد العملي التخصّصي، ولكل من ساهم في هذا العمل المبارك.