تأليف :
مجموعة مؤلفين
تقديم وتحرير :
د. محمود حيدر
فهرس المحتويات :
نقد المركزية الغربية الجزء الاول / الأسس الفلسفية والأيديولوجية
الفصل الأوّل: ماهية المركزيّة الغربيّة وهويّتها
الفصل الثاني: المركزيّة الغربيّة ونظريّة ما بعد الاستعمار
الفصل الثالث: نقد مرجعيّات التمركز الغربي
نقد المركزية الغربية الجزء الثاني / نقد التأسيسات التاريخية والفلسفية والثقافية للاستشراق
الفصل الأول: التأسيس الاستشراقي للتمركز الغربي
الفصل الثاني: التمهيد الاستشراقي للسيطرة على المشرق العربي
الفصل الثالث: إستراتيجيات الاستشراق الثقافي في شمال افريقيا
نقد المركزية الغربية الجزء الثالث / مركزية الإعلام والميديا كأداة سيطرة على العالم
الفصل الأول: الميديا كمفهوم وتجربة في مركزية الغرب
الفصل الثاني: التمركز الغربي وخطاب الميديا الثقافي
الفصل الثالث: نقد الميديا الاستعمارية
الفصل الرابع: مناقشات نقدية للميديا
نقد المركزية الغربية الجزء الرابع / الإمبريالية الاقتصادية كأساس في التمركز الغربي
الفصل الأول: المركزية الاقتصادية في بعدها القيمي والثقافي
الفصل الثاني: تحولات العولمة الاقتصادية
الفصل الثالث: موقعية التكنولوجيا في التأسيس لتمركز الغرب
الفصل الرابع: الرؤية الاسلامية كبديل عن التمركز الاقتصادي الغربي
مقدّمة المركز
(الجزء الاول)
ما كان لمفهوم المركزيّة الغربيّة أنْ يصير ظاهرة في الواقع التاريخي للعالم المعاصر، لولا سلسلة مِن التحوّلات الكبرى جرت وقائعها في جغرافيّات الغرب على امتداد خمسة قرون متّصلة. ولو عاينَّا المدوَّنة المعجميّة الأوروبيّة في حقولها المختلفة، الفلسفيّة والثقافيّة والسوسيولوجيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، فإنَّنا نكاد لا نعثر عليه كمصطلح قائم بذاته، كما هو واقع الحال مع المصطلحات والمفاهيم المنتزعة مِن فضاء الحداثة. السبب في ذلك يعود في الغالب الأعمّ إلى طبيعته التوصيفيّة للحالة التاريخيّة الغربيّة أكثر ممّا هو منحوتة - اصطلاحيّة تحكي ما يريده الغرب لنفسه؛ أي إنَّنا سنكون أمام لوحة لا تتناهى في توصيف أحوال الغرب وسلوكه، سواء حيال نفسه أو حيال جهات العالم الأخرى، الأمر الذي يفضي إلى استنتاج مركَّب، مؤدّاه الآتي، مِن وجه أنَّ المركزيّة الغربيّة، التي خُلعت على أوروبا كنعتٍ لحقبتها المعاصرة، قد اكتسبت ماهيتها وهويّتها مِن تموضعها المتدرِّج في النظام العالمي. ومِن وجهٍ ثانٍ، أنَّها اتّخذت مفهومها بأبعاده الدلاليّة والاصطلاحيّة ممّا ترتّب على تموضعها مِن آثار في الميدان الجيّوستراتيجي في الحروب الاستعماريّة المتواترة، لكنَّ منبت الجدل الذي يطلقه مصطلح المركزيّة الغربيّة، هو أنَّه حاصل خطبة فكريّة وفلسفيّة وسياسيّة مضت بعيدًا في تسويغ أطروحة العنف التي أخذت بها أوروبا الحديثة لتسويغ تمدّدها الاستعماري الاستيطاني إلى ما سمّي بعالم الأطراف.
مِن مفكّري الغرب وعلمائه مِن هالهم التناقض الحاصل بين مدَّعيات الأنسنة والعقلانيّة والتنوير، والمسلك التقويضي الاستعماري تجاه الأعراق غير الأوروبيّة. إلّا أنَّ الخطاب التساؤلي، وأحيانًا النقدي لهؤلاء، لم يكن له أثر جوهري في تصويب سلوك الطبقات الحاكمة، كما لم يبدِّل مِن ضراوة التمركز حول الذات ونزعاتها الاستعلائيّة، حتّى إنَّ هنالك مَنْ رأى إلى هذا التناقض بأنَّ عقل الغرب بات منحكمًا إلى ذهنيّة انفصاميّة لا شفاء منها، ذلك أنَّه لا يتعلّق فقط بإعادة إحياء الوثنيّة الموروثة مِن السَلَف الإغريقي عبر الإصرار على العلمنة الحادّة، بل أيضًا وأساسًا مِن تضخّم الأنانيّة الحضاريّة التي بلغت ذروتها مع الامتداد الكولونيالي نحو العالم.
مؤدّى ما ستنتهي إليه إيديولوجيّة التمركز، أنَّ التفكير الاستعماري العنصري هو حيِّزٌ معرفيٌّ متأصِّلٌ في منطق الغرب ومناهج تفكيره، ولو كان مِن استدلالٍ أوّليٍّ على هذا المدَّعى، فسنجده فيما درج عليه جمعٌ مِن فلاسفة وعلماء الطبيعة الأوروبيين، بدءًا مِن عنصر النهضة في القرن الثامن عشر حتّى أزمنة ما بعد الحداثة، فقد انصرف جلّ هؤلاء إلى وضع فلسفة سياسيّة عنصريّة أجرت تصنيفًا هَرَميًّا للجماعات البشريّة، لا سيّما مبدأ الأرقى والأدنى، الذي كان له عظيم الأثر في تحويل نظريّة النشوء والارتقاء الداروينيّة إلى إيديولوجيا للعنف والإفناء الجماعي. أحد أكثر التصنيفات حدةً للمجتمعات غير الغربيّة، ذلك الذي تزامن مع نمو الإمبرياليّات العابرة للحدود، ولقد كان مِن تمظهرات هذا التمدّد على وجه الخصوص، ملحمة الاستشراق التي سرت كترجمةٍ صارخةٍ لغيريّةٍ إنكاريّة لم تشأ أنْ ترى إلى كلّ آخرَ حضاريٍّ إلّا بوصفه كائنًا مشوبًا بالنقص. لهذا ما كان غريبًا أنْ تتحوّل هذه الغيريّة الإلغائيّة إلى عقدة «نفسٍ حضاريّةٍ» ليس منها بارقة أمل بشفاء، وما جعل الحال على هذه الدرجة مِن الاستعصاء، أنّ العقل الذي أنتج معارف الغرب ومفاهيمه، كان يعمل في أكثر وقته على خطٍّ موازٍ مع السلطة الكولونياليّة، ليعيدا معًا إنتاج إيديولوجيا لمركزيّة تنفي الآخر وتستعلي عليه.
تتغيَّا هذه السلسلة «نقد المركزيّة الغربيّة» الإحاطة المعرفيّة والنقديّة بواحدة مِن أبرز وأهمّ تحوّلات تاريخ الغرب الحديث، والمآلات التي بلغها في حقول الفكر والفلسفة والاقتصاد والعلاقات الدوليّة. ولعلَّ في أطروحة «المركزيّة الغربيّة» ما يعكس لحظة مفصليّة بدأت إرهاصاتها المعاصرة مع ظهور ما يسمّى الاستعمار الجديد. غير أنَّ الجذور الفلسفيّة والفكريّة راسخة ومتجذّرة في العقل الذي أسّس لحضارة استعلائيّة عنصريّة، تنظر إلى نفسها بوصفها الحضارة المنقذة للأمم البشريّة كلّها.
مقدمة المركز
(الجزء الثاني)
لا نشكٌّ عندما نقلِّب صفحات تاريخ الاستشراق والمستشرقين من القرن الثَّامن عشر، وحتى تاريخنا الحديث أنَّ المشروع، والخطاب الاستشراقي متلبِّس بالعدائيَّة، والنَّظرة الدُّونيَّة للشَّرق، وللإسلام، وللمكوِّنات الحضاريَّة للشُّعوب، فلقد برز الخطاب العدائي الكنسي المتحامل ضد الإسلام، ونبيِّه(صلى الله عليه وآله وسلم) مبكّرًا بشكل جلِّي على الكثير من الصُّعد، إلى جانب خطاب مشبوه طاول الجانب الأكاديمي، والأدبي، والتاريخي، والقيَمي، والفنِّي في فكر، وحياة شعوب، وبلدان الشرق.
وليس بعيدًا من المنطق، والصَّواب إن قلنا إنَّ هذا التَّاريخ المثقل بالشُّبهات، والإسقاطات غير البريئة على الشَّرق، والإسلام والحضارة، والتُّراث العربي، سينتج ظاهرة التطرُّف، والعداء اتِّجاه الآخر بكلِّ بنيانه الفكري، والدِّيني، والمعرفي، والمادي، وبالفعل هذا ما يُتحفنا به الاستشراق الجديد، والمستشرقون المتطرِّفون بخطابهم الاستشراقي المعاصر الَّذي يعدُّ المركزيَّة الغربيَّة ثابتة حاكمة على الأفكار، والقيم، والثقافات عند الآخرين، ويبرز هذا الخطاب من خلال اتِّجاهين؛ الأوَّل ديني، والثَّاني ثقافي عرقي، ومن الواضح أنَّ الاتِّجاه الدِّيني في الاستشراق المتطرِّف امتدادٌ للتَّوجه الثيولوجي نحو الإسلام، حيث يهتمُّ علم الثيولوجيا، أو الَّلاهوت بدراسة الدِّين، فهو يفحص التَّجربة الإنسانيَّة للإيمان، وكيفيَّة تأثير الدِّيانات المختلفة في العالم على المجتمع، وقد شاع استعمال مصطلح «التيولوجيا» في مؤلَّفات المعاصرين في وصف الحال الإيمانيَّة للإنسان المتديِّن، ومع أنَّ التَّوجُّه التيولوجي كان سائدًا في العصور الوسطى، كما أنَّه يعُّد إحياءً للاستشراق الدِّيني في مدرسة الاستشراق القديم حتَّى أوائل القرن العشرين. «حيث كان الخطاب الكنسي عن الإسلام هو الخطاب السَّائد، وكان ينظر للإسلام بعدِّه «مسيحيَّة مشوَّهة»، فعلى الصَّعيد الثيولوجي-أي اللَّاهوتي- كان خطاب الغرب المسيحي نحو الإسلام حتى القرن التَّاسع عشر يدور حول عدِّ الإسلام «هرطقة مسيحيَّة»، بمعنى أنَّ التَّعاليم الَّتي جاء بها الإسلام ما هي إلَّا تحريفٌ للمسيحيَّة أريد له أن يتَّخذ شكل دين جديد. وساد القول بأنَّ محمدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) قام بتوليف هذا الدِّين الجديد من التُّراث اليهودي-المسيحي معتمدًا على تعاليم العهد الجديد...» وأمَّا الاتِّجاه المتطرِّف الثَّاني، والمتمثِّل بالبعد الثَّقافي العرقي، والَّذي يقوده بعض الأقليِّات الدِّينيَّة المتطرِّفة في الغرب، بحيث يفرطون في تصوير خطورة الإسلام، والمسلمين على المجتمع، والحضارة الغربيين. ويستثمرون كلَّ فرصة للانقضاض على قيم الإسلام وعقيدته، كونه - بنظرهم- مصدر الإرهاب، والعنف في المجتمعات الغربيَّة، مع تهمة إلقاء اللَّوم على المعتقدات الإسلامية بصفتها مصدر أوَّل، ووحيد للإرهاب المدني في أوروبا.
وبالعودة إلى الاستشراق الجديد، والمتطرِّف فهو على أحسن تصوير لا يعدو كونه نسخة محدَّثة من الاستشراق القديم، لكن بمنظومة أهداف خبيثة، وخلفيَّات فكريَّة حاقدة، وفجاجة خطاب متعالٍ، ومتطرِّف عمل على تقديم صورة نمطيَّة للشَّرق لا تعكس سوى الجهل، والهمجيَّة، وعبادة الشَّهوات. ولم يغب عنهم توصيفًا، وعناوين أخرى مثل الهمجيَّة، والتَّوحُّش والبداوة والجِمال والرِّقِّ. والهدف الاستراتيجي واضح، وجليُّ، وهو الاستحواذ على الشَّرق، وثرواته، وعدم تمكينه من أمره وقراراته، وإفراغه من القيم المعرفيَّة، والفكريَّة الأصيلة الَّتي دعا إليها الإسلام، وقامت عليها الحضارة الإسلاميَّة والعربيَّة.
ومع أنَّنا هنا لسنا في موقع النِّقاش، والنَّقد المستفيض مع أفكار هذا الاتِّجاه المتطرِّف، إلَّا أنَّه من الضَّروري أن نبيِّن جانبًا من رؤيتنا لأدوار هذا الإنسان الفرديَّة، ووظائفه الاجتماعيَّة أينما عاش في هذا الكون، لنرفع جانبًا من إسقاطات، وشبهات المستشرقين المتطرِّفين الَّتي ألبسوها للإنسان المسلم، ولعقيدته، ودينه، وقيمه.
فإنَّ البحث في وظائف الإنسان مع الجماعة، وحضوره الاجتماعي، وفلسفة وجوده، من القضايا الَّتي شغلت الأرض بما تمثِّل من فكر إنساني، والسَّماء بما تمثِّل من تشريع إلهي؛ فالأرض بحكمائها، وفلاسفتها، وعلمائها على اختلاف مشاربهم، وانتماءاتهم الفكريَّة- الدِّينية منها، والوضعيَّة – من علماء النَّفس، والاجتماع، والطَّبيعة، والمادَّة، وغيرهم.. قدّم كلٌّ منهم نظريَّته، ورؤيته حول طبيعة أدوار الإنسان، وفلسفة وجوده في الحياة. وأعطت السَّماء حكمها الواضح بواسطة الوحي والأنبياء، بتفضيل هذا الإنسان على سائر المخلوقات، وتحميله الأمانة الإلهيَّة كخليفة لله في الأرض.
وبين تشريع السَّماء هذا؛ وتعدُّد نظريَّات أهل الأرض، وفلاسفتها حول وظيفة الإنسان، وفلسفة خلقه ووجوده في الحياة، تكاوَن، وتوالد الكثير من المناهج، والمذاهب، والمدارس حول الإنسان، ما أثَّر تأثيرًا مباشرًا على الحياة الإنسانيَّة، وانعكس على المجتمع الإنساني؛ والشَّخصية الدِّينية، والاجتماعية، والسِّياسية للبشر، وتحوَّل هذا المجتمع الكبير إلى مجتمع أسير، وتابع في فلسفة وجوده، ونمطه في الحياة لتلك الرُّؤى، والأفكار، والفلسفات الواردة من أعماق التَّاريخ، ما أدَّى إلى تحوُّل الحياة الاجتماعية إلى ما يشبه الصَّحراء الهائجة برمالها لتبتلع الضُّعفاء، والفقراء، وتسيطر على العقول، والأفكار الشَّهوات، وحبِّ الجاه والمال..، ولهذا كلِّه كانت أهميَّة العودة إلى تعاليم السَّماء، وبخاصة ما جاء في الشَّريعة الإسلامية من نظرة حول وظائف الإنسان، والحياة والوجود.
إنَّ النِّظام الإسلامي يربِّي الفرد المسلم على النَّظرة الدِّينيَّة إلى الحياة والكون. وفي هذه النَّظرة الدينيَّة يدرك الإنسان أنَّه يسير على خطّ طويل لا يحدِّده الموت، وأنَّ الموت ليس إلَّا انتقالًا من مرحلة معيَّنة في هذا الخطِّ إلى مرحلة أخرى أوسع أفقًا، وأرحب مجالًا، وأطول بقاءً. وحين يزرع التَّنظيم الاجتماعي البذور الأخلاقيَّة في نفوس الأفراد، ويجعل من القيم الخُلقيَّة قوى فعَّالة في سلوكهم وحياتهم، يحصل من ناحية على ضمانات ذاتيَّة للتَّنفيذ، والإجراء نابعة من شعور الفرد بالمسؤوليَّة الأخلاقيَّة، ويستطيع من ناحية أخرى أن يتسامى بالفرد تدريجيًا، ويفجِّر كلَّ طاقات الخير فيه، ولا يعود النِّظام مجرَّد تحديد خارجي صارم لتصرُّفات الأفراد، بل يصبح مجالًا يتسامى الأفراد ضمن إطاره، وخلال تطبيقه روحيًّا، ويحقِّقون المثل الصَّالح للإنسانيَّة على الأرض. وقد عدَّ الشَّهيد محمد باقر الصَّدر(قده) أنَّ الدِّين هو صاحب الدَّور الأساس في حلِّ المشكلة الاجتماعيَّة عن طريق تجنيد الدِّافع الذَّاتي لحساب المصلحة العامَّة. فما دامت الفطرة هي أساس الدَّوافع الذَّاتيَّة الَّتي نبعت منها المشكلة، فلا بدَّ أن تكون قد جُهِّزت بإمكانات لحلِّ المشكلة أيضًا؛ لئلَّا يشذُّ الإنسان عن سائر الكائنات الَّتي زُوَّدت فطرتها جميعًا بالإمكانات الَّتي تسوق كلَّ كائن إلى كماله الخاصِّ. وليست تلك الإمكانات الَّتي تملكها الفطرة الإنسانيَّة لحلِّ المشكلة إلَّا غريزة التَّديّن، والاستعداد الطَّبيعي لربط الحياة بالدِّين، وصوغها في إطاره العام. ومن هنا كانت الفطرة تملي على الإنسان دوافعه الذَّاتيَّة الَّتي تنبع منها المشكلة الاجتماعيَّة الكبرى في حياة الإنسان (مشكلة التَّناقض بين تلك الدَّوافع، والمصالح الحقيقيَّة العامَّة للمجتمع الإنساني)، ولكنَّها في الوقت نفسه تُزوِّده بإمكانيَّة حلِّ المشكلة عن طريق الميل الطَّبيعي إلى التَّديّن، وتحكيم الدِّين في الحياة بالشَّكل الَّذي يوفِّق بين المصالح العامَّة، والدَّوافع الذَّاتيَّة، وهذا الدِّين الَّذي فُطرت الإنسانيَّة عليه يتميَّز بكونه دينًا قيِّمًا على الحياة، وقادرًا على التَّحكُّم فيها، وصياغتها في إطاره العام.
مقدمة المركز
(الجزء الثالث)
ما كان لمفهوم المركزيّة الغربيّة أنْ يصير ظاهرة في الواقع التاريخي للعالم المعاصر، لولا سلسلة مِن التحوّلات الكبرى جرت وقائعها في جغرافيّات الغرب على امتداد خمسة قرون متّصلة. ولو عاينَّا المدوَّنة المعجميّة الأوروبيّة في حقولها المختلفة، الفلسفيّة والثقافيّة والسوسيولوجيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، فإنَّنا نكاد لا نعثر عليه كمصطلح قائم بذاته، كما هو واقع الحال مع المصطلحات والمفاهيم المنتزعة مِن فضاء الحداثة. السبب في ذلك يعود في الغالب الأعمّ إلى طبيعته التوصيفيّة للحالة التاريخيّة الغربيّة أكثر ممّا هو منحوتة - اصطلاحيّة تحكي ما يريده الغرب لنفسه؛ أي إنَّنا سنكون أمام لوحة لا تتناهى في توصيف أحوال الغرب وسلوكه، سواء حيال نفسه أو حيال جهات العالم الأخرى، الأمر الذي يفضي إلى استنتاج مركَّب، مؤدّاه الآتي، مِن وجه أنَّ المركزيّة الغربيّة، التي خُلعت على أوروبا كنعتٍ لحقبتها المعاصرة، قد اكتسبت ماهيتها وهويّتها مِن تموضعها المتدرِّج في النظام العالمي. ومِن وجهٍ ثانٍ، أنَّها اتّخذت مفهومها بأبعاده الدلاليّة والاصطلاحيّة ممّا ترتّب على تموضعها مِن آثار في الميدان الجيّوستراتيجي في الحروب الاستعماريّة المتواترة، لكنَّ منبت الجدل الذي يطلقه مصطلح المركزيّة الغربيّة، هو أنَّه حاصل خطبة فكريّة وفلسفيّة وسياسيّة مضت بعيدًا في تسويغ أطروحة العنف التي أخذت بها أوروبا الحديثة لتسويغ تمدّدها الاستعماري الاستيطاني إلى ما سمّي بعالم الأطراف.
مِن مفكّري الغرب وعلمائه مِن هالهم التناقض الحاصل بين مدَّعيات الأنسنة والعقلانيّة والتنوير، والمسلك التقويضي الاستعماري تجاه الأعراق غير الأوروبيّة. إلّا أنَّ الخطاب التساؤلي، وأحيانًا النقدي لهؤلاء، لم يكن له أثر جوهري في تصويب سلوك الطبقات الحاكمة، كما لم يبدِّل مِن ضراوة التمركز حول الذات ونزعاتها الاستعلائيّة، حتّى إنَّ هنالك مَنْ رأى إلى هذا التناقض بأنَّ عقل الغرب بات منحكمًا إلى ذهنيّة انفصاميّة لا شفاء منها، ذلك أنَّه لا يتعلّق فقط بإعادة إحياء الوثنيّة الموروثة مِن السَلَف الإغريقي عبر الإصرار على العلمنة الحادّة، بل أيضًا وأساسًا مِن تضخّم الأنانيّة الحضاريّة التي بلغت ذروتها مع الامتداد الكولونيالي نحو العالم.
مؤدّى ما ستنتهي إليه إيديولوجيّة التمركز، أنَّ التفكير الاستعماري العنصري هو حيِّزٌ معرفيٌّ متأصِّلٌ في منطق الغرب ومناهج تفكيره، ولو كان مِن استدلالٍ أوّليٍّ على هذا المدَّعى، فسنجده فيما درج عليه جمعٌ مِن فلاسفة وعلماء الطبيعة الأوروبيين، بدءًا مِن عنصر النهضة في القرن الثامن عشر حتّى أزمنة ما بعد الحداثة، فقد انصرف جلّ هؤلاء إلى وضع فلسفة سياسيّة عنصريّة أجرت تصنيفًا هَرَميًّا للجماعات البشريّة، لا سيّما مبدأ الأرقى والأدنى، الذي كان له عظيم الأثر في تحويل نظريّة النشوء والارتقاء الداروينيّة إلى إيديولوجيا للعنف والإفناء الجماعي. أحد أكثر التصنيفات حدةً للمجتمعات غير الغربيّة، ذلك الذي تزامن مع نمو الإمبرياليّات العابرة للحدود، ولقد كان مِن تمظهرات هذا التمدّد على وجه الخصوص، ملحمة الاستشراق التي سرت كترجمةٍ صارخةٍ لغيريّةٍ إنكاريّة لم تشأ أنْ ترى إلى كلّ آخرَ حضاريٍّ إلّا بوصفه كائنًا مشوبًا بالنقص. لهذا ما كان غريبًا أنْ تتحوّل هذه الغيريّة الإلغائيّة إلى عقدة «نفسٍ حضاريّةٍ» ليس منها بارقة أمل بشفاء، وما جعل الحال على هذه الدرجة مِن الاستعصاء، أنّ العقل الذي أنتج معارف الغرب ومفاهيمه، كان يعمل في أكثر وقته على خطٍّ موازٍ مع السلطة الكولونياليّة، ليعيدا معًا إنتاج إيديولوجيا لمركزيّة تنفي الآخر وتستعلي عليه.
تتغيَّا هذه السلسلة «نقد المركزيّة الغربيّة» الإحاطة المعرفيّة والنقديّة بواحدة مِن أبرز وأهمّ تحوّلات تاريخ الغرب الحديث، والمآلات التي بلغها في حقول الفكر والفلسفة والاقتصاد والعلاقات الدوليّة. ولعلَّ في أطروحة«المركزيّة الغربيّة» ما يعكس لحظة مفصليّة بدأت إرهاصاتها المعاصرة مع ظهور ما يسمّى الاستعمار الجديد. غير أنَّ الجذور الفلسفيّة والفكريّة راسخة ومتجذّرة في العقل الذي أسّس لحضارة استعلائيّة عنصريّة، تنظر إلى نفسها بوصفها الحضارة المنقذة للأمم البشريّة كلّها.
مقدمة المركز
(الجزء الرابع)
كلمة الاقتصاد ذات تأريخ طويل في التفكير الإنسانيّ، وقد أكسبها ذلك شيئًا من الغموض؛ نتيجة للمعاني التي مرّت بها، وللازدواج في مدلولها بين الجانب العلميّ من الاقتصاد والجانب المذهبيّ. فالاقتصاد كعلم يتناول تفسير الحياة الاقتصاديّة وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامّة التي تتحكّم فيها. وبغض النظر عن حداثة أو قدم هذا العلم، إلا أنّ جذوره البدائيّة تمتدّ إلى أعماق التأريخ، فقد ساهمت كلّ حضارة في التفكير الاقتصاديّ بمقدار ما أتيح لها من إمكانات.
وأمّا المذهب الاقتصادي فهو عبارة عن الطريقة التي يفضّل المجتمع اتّباعها في حياته الاقتصاديّة، وحلّ مشاكلها العمليّة. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نتصوّر مجتمعًا من دون مذهب اقتصاديّ؛ لأنّ كلّ مجتمع يمارس إنتاج الثروة وتوزيعها لا بدّ له من طريقة يتّفق عليها في تنظيم هذه العمليّات الاقتصاديّة، وهذه الطريقة هي التي تحدّد موقفه المذهبيّ من الحياة الاقتصاديّة. ولا شكّ في أنّ اختيار طريقة معيّنة لتنظيم الحياة الاقتصاديّة ليس اعتباطيًّا أو مطلقًا، وإنّما يقوم دائمًا على أساس أفكار ومفاهيم معيّنة ذات طابع أخلاقيّ أو علميّ أو أيّ طابع آخر.
وهذه الأفكار والمفاهيم تكوّن الرصيد الفكريّ للمذهب الاقتصاديّ القائم على أساسها. وحين يُدرس أيّ مذهب اقتصاديّ يجب أن يُتناول من ناحية طريقته في تنظيم الحياة الاقتصاديّة، ومن ناحية رصيده من الأفكار والمفاهيم التي يرتبط بها هذا المذهب. فإذا درسنا - مثلًا - المذهب الرأسمالي القائل بالحرّيّة الاقتصادية، كان لزامًا علينا أن نبحث عن الأفكار والمفاهيم الأساسيّة، التي يقوم على أساسها تقديس الرأسماليّة للحرّيّة وإيمانها بها... وهكذا الحال في أيّ دراسة لمذهب اقتصاديّ آخر.
وبغض النظر عن مداليل العلمية والمذهبية في ما بتعلق بالاقتصاد فإنّ أيديولوجيا الهيمنة الغربية وسيطرته الاقتصادية والمعرفية والسياسية...، على مقدرات الدول والشعوب ما فارقت مخيّلة الغربي حتى أصبحت «الهيمنة» مرادفة لعلاقة الغرب بالآخر ومع العالم. وبالفعل فقد استمرت الهيمنة الأوروبية عدة قرون من الزمن ابتداءً من عصر النهضة الأوروبية.
ونتيجة للكثير من التبدّلات في المشهد العالمي الحالي ثمة أسئلة كبرى وحاسمة راحت تتواتر حول ما إذا كان بإمكان المركزية الاقتصادية للغرب الاستمرار في حقبة الهيمنة المطلقة على الاقتصاد العالمي. وهو الأمر الذي بتنا نشهد وقائعه في عقود التسعينيات وبداية القرن الحادي والعشرين، وخصوصًا لجهة بروز معطيات انعطافية تنبيء بولادة نظام اقتصادي وماليّ عالمي متعدّد الأقطاب. ولعلّ أبرز الشواهد على مثل هذه الولادة حضور الصين كقطب عالمي وازن، والحضور القوي للاتحاد الروسي، ناهيك عن الهند ودول جنوب شرق آسيا، والتحوّلات الكبرى التي عرفتها دول إقليمية مثل إيران وتركيا إلى سائر دول منظمة البريكس وشنغهاي وسواها من التكتّلات الاقتصادية الدولية المتحرِّرة من هيمنة رأس المال الغربي.
ختامًا، تتغيَّا هذه السلسلة «نقد المركزيّة الغربية» الإحاطة المعرفية والنقدية بواحدة من أبرز وأهم تحوّلات تاريخ الغرب الحديث، والمآلات التي بلغها في حقول الفكر والفلسفة والاقتصاد والعلاقات الدولية. ولعلّ في أطروحة «المركزية الغربية» ما يعكس لحظة مفصلية بدأت إرهاصاتها المعاصرة مع ظهور ما يسمى الاستعمار الجديد. غير أن الجذور الفلسفية والفكرية راسخة ومتجذرة في العقل الذي أسّس لحضارة استعلائية عنصرية، تنظر إلى نفسها بوصفها الحضارة المنقذة للأمم البشرية كلها.
في هذا الجزء من السلسلة النقدية للمركزية الغربي نتناول الوجه الاقتصادي للغرب لنتبيَّن تحوّلاته وتطوّراته ومعاثره ومآلاته المستقبلية. وقد شارك فيه عدد من الباحثين المتخصصين في الاقتصاد السياسي والمالي من العالَمَين العربي والإسلامي. لهم منّا خالص الشكر والامتنان ولكل من ساهم في إنجاز هذا الجزء من السلسلة.