تأليف :
الشيخ عبد الحسين خسروپناه
تعريب وتلخيص :
هاشم مرتضى
فهرس المحتويات :
القسم الأوّل: بيان بعض آراء عبد الكريم سروش في الوحي ونقدها
الفصل الأوّل: مراحل مدعيات سروش حول الوحي ونقدها
الفصل الثاني: النقد المبنائي لنظريّة سروش في الوحي
الفصل الثالث: النقد البرّاني لنظريّة سروش في الوحي
القسم الثاني: تبيين ونقد آراء محمّد مجتهد شبستري المتعلّقة بالوحي
الفصل الأوّل: رؤية مجتهد شبستري الهرمنيوطيقيّة والتفسيريّة ونقدها
الفصل الثاني: نقدُ مجتهد شبستري للقراءة الرسميّة للدين، ونقدُ نقدِه
الفصل الثالث: تبيين رؤية مجتهد شبستري حول الوحي ونقدها
الفصل الرابع: نقد مقالة (كيف انهارت المباني الفقهيّة والكلاميّة)
مقدمة المرکز
يُعتبر الفكر المعاصر مكوّنًا أساسيًّا في المنظومة الفكريّة الإسلاميّة، ويتبلور هذا الفكر على أرض الواقع حينما تشهد الساحة ظهور فكرٍ «آخر» بصفته ثقافةً وسلسلةَ مفاهيم دلاليّة منافسة، فالزمان والمكان إلى جانب المنافسة التي تحدث على ضوء مجموعةٍ مِن المفاهيم التي يطرحها «الآخرون»، كلّها أمورٌ تحفّز المدارس الفكريّة والثقافات الأصيلة للعمل على التأقلم مع الظروف الجديدة، وفي الحين ذاته تحفّزها على السعي للحفاظ على حيويّتها وخصوصيّاتها التي تميّزها عن «الآخر». غير أنَّ التاريخ شهد في بعض مراحله، إقبال العلماء المسلمين على التراث الفلسفي الإغريقي باعتباره نطاقًا منسجمًا مِن الناحية الدلاليّة وذا مضامين عميقة، لدرجة أنّ بعض الفلاسفة مِن أمثال الفارابي وابن رشد ولجوا في فضائه الفكري، وحاولوا إقامة تعريف لمعانيهم ورؤاهم الدينيّة متلائمًا مع هذا الآخر الدخيل. ففي العصر الراهن، باتت الثقافة والحضارة الغربيّتان الحديثتان المتقوّمتان على أسسٍ علمانيّةٍ وتوسّعيّةٍ، تمثّلان «الآخر» بالنسبة إلينا ولسائر الثقافات غير الغربيّة. النظام الدلالي المنبثق مِن الفكر الغربي قد أسفر عن إيجاد تحدّياتٍ كبيرةٍ لـ«ذاتنا الإسلاميّة» بفضل تفوّقه سياسيًّا واقتصاديًّا، ويتّسع نطاق هذا التحدّي أكثر يومًا بعد يومٍ؛ لذلك طرحت العديد مِن الحلول لمواجهته، وقد استسلم بعضهم لواقع الأمور، فراحوا يبحثون عن الحلّ في العالم الغربي نفسه، لذا دعوا بانفعالٍ إلى ضرورة ملاءمة «ذاتنا» مع هذا «الآخر»، إلا أنَّ آخرين سلكوا نهجًا مغايرًا، ودعوا إلى تفعيل تراث «ذاتنا»، وأكّدوا على أنّ الحلّ لا يتبلور في ديار منافسنا. نعم، تراثنا المعاصر هو ثمرةٌ لكلّ حلٍّ يمكن أنْ يطرح في هذا المضمار.
وفي هذا السياق، بادر المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيّة عبر مجموعة مِن الباحثين إلى استطلاع المشاريع الفكريّة لأبرز العلماء والمفکّرين في العالم الإسلامي مِن الذين تنصبّ نشاطاتهم الفكريّة في بوتقة الفكر المعاصر؛ وذلك بهدف بيان واقع مسيرة إنتاجهم الفكري وكيفيّة تبلور آرائهم بصياغتها النهائيّة. وفي هذا النمط مِن الدّراسات، عادةً ما يتمّ تسليط الضوء على مسيرة الإنتاج الفكري الهادف إلى إيجاد خلفيّاتٍ ومبانٍ فكريّةٍ ونظريّاتٍ تحت عنوان «المنهجیّة التأسیسیّة» مِن خلال دراسة وتحليل مدى نجاح الفكر المعاصر أو إخفاقه بشكلٍ صريحٍ وشفّافٍ.
يتضمن هذا الجزء دراسة نقدية لآراء المفكرين الإيرانيين المعاصرين عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري حول مفهوم الوحي، مع التركيز على تحليل جذورها الفكرية وبيان تناقضاتها مع المبادئ الإسلامية. يناقش الكتاب النظريات الظاهراتية عند سروش، التي تصف الوحي كتجربة ذاتية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو كرؤى تحتاج إلى تفسير، والتي يرى المؤلف أنها تضعف الطبيعة الإلهية للوحي وتتعارض مع النصوص القرآنية الواضحة. كما يتناول نقد رؤية شبستري التي تعتمد المنهج الهرمنيوطيقي، والتي تسعى إلى فصل النص القرآني عن قدسيته وعصمته.
يركز الكتاب على تحليل ثلاث اتجاهات رئيسة تناولها المفكران مع بيان سبب اتّّخاذهما لهذه الآراء: الاتجاه المبنائي الذي يهتم بالمباني المعرفية واللغوية والهرمنيوطيقية للوحي، الاتجاه الظاهراتي الذي يبحث في ماهية الوحي وأركانه، والاتجاه الوظيفي الذي يتناول آثار الوحي في المجالات الفقهية والسياسية والاجتماعية. من خلال هذا التحليل، يقدم الكتاب نقداً شاملاً لنظريتي سروش وشبستري، مبيناً خطورة محاولاتهما لفهم النص القرآني بعيداً عن إطاره الإلهي وعصمته.
وفي الختام، نتقدّم بالشكر الجزيل لجميع الزملاء الذين أسهموا بشكل أو بآخر في تحقيق هذا العمل، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی رسوله الأمين وآله المیامین.
تمهيد
لقد اختصّ أنبياء الله تعالى بصفاتٍ مميزّةٍ بسبب الرسالة الخطيرة وسفارة ذات الله المقدسة التي تحمّلوها، وتعدّ هذه الصفات من لوازم البعثة التي لا تنفك عن شأن الهداية الملقاة على عاتقهم من قبل الله تعالى. وقد ذكرت الكتب الكلاميّة هذه الصفات تحت عنوان: (خصائص النبيّ)، وهي ثالث مسألةٍ تُبحث في النبوّة بعد مسألة (إثبات ضرورة بعثة الأنبياء) و(طرق معرفة النبيّ وإثبات نبوّته).
أمّا الصفات المميَّزة فهي: 1. العصمة. 2. العلم والحكمة اللدنيّة. 3. حسن الخلق وسائر المقامات الأخلاقيّة والمعنويّة. 4. الإعجاز. 5. تلقي الوحي النبوي.
الصفات الأربع الأولى يمكن عدّها تمهيدًا للصفة الخامسة، أي تلقّي الوحي النبويّ، كي يكون تلقّي الوحي أيضًا مركز اللطف والحكمة والفضل والكرامة الإلهيّة في موضوع هداية الإنسان[1]. وعلى ما روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فإنّ أعظم المصيبة هي فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وانقطاع الوحي[2].
تقضي فطرة الإنسان السليمة، وعقل البشر السليم، وجود استعداد الوصل إلى الكمال والسعادة الأبديّة في الإنسان، والوصول الى الكمال هو هدف خلق الإنسان والحياة الدنيا، ومن الواضح أنّ العقل والحسّ وحتى الشهود، من أفضل الأدوات لنيل هذه الحقيقة، ولكن لا يمكن الاكتفاء بها؛ لأنّه مضافًا إلى وجود عدة لصوص في هذه الطريقة لتشويش أدوات المعرفة العادية، توجد منطقةٌ معرفيّةٌ لا ينالها الحسّ والعقل، بل تحتاج إلى أداةٍ أخرى هي الوحي. فالوحي مصدرٌ معرفيٌّ آخر ما وراء المصادر المعرفيّة المتعارفة، ويُعدّ من خصائص أنبياء الله، ويصعب علينا إدراك حقيقته، لكن نتمكّن من حيازة بعض آثاره وعلائمه فقط، وهي القرآن والأوصاف النبويّة.
الإشارة إلى أهميّة الموضوع وضرورته وبيان ذلك
مع قطع النظر عن ضرورة وجود خاصيّة تلقّي الوحي الإلهي ــ الذي تنشأ ضرورته من براهين لزوم الهداية ــ فإنّ بيان حقيقة الوحي وتبيين كيفية تلقّيه بوساطة النبيِّ، يُعدّ من المسائل التي بُحثت ونوقشت تارةً من قبل منكري الوحي، وتارةً أخرى من قبل دراسات الفلاسفة والعرفاء المتعلّقة بمعرفة الوجود، كما ذكرت النصوص الوحيانيّة وكلمات الأنبياء والأوصياء معنى الوحي وأقسامه وكيفيّته، وأصبح أيضًا مدار البحث بين مفسِّري النصوص المقدّسة.
نعم المائز الكبير بين آراء المتقدّمين والمتأخّرين، التشكيك والتردّد في ماهية الوحي اللغوية من جهة، ومصدر الوحي من جهة ثانية. وهذه الآراء تطرح في الأغلب من قبل من يُسمَّى بالمتنوِّر الديني، وبتأثيرٍ مباشرٍ وواسعٍ من النظريّات الهرمنيوطيقيّة واللسانيّة لدى بعض علماء الغرب التي سرت إلى الساحة العلميّة والدينيّة، وأدّت إلى مباحث وردّات فعلٍ متنوّعة.
ومع قطع النظر عن الدواعي العلميّة والبحثيّة الصرفة - سواء عند الموافقين للآراء الحديثة أم المخالفين - التي توجب تنشيط المعرفة الدينيّة وتطويرها، فإنّ إنكار ماهية الوحي اللغويّة، ونفي أثر المبدأ الإلهي في المحتوى اللغوي، يهدف إلى زعزعة الأنظمة الدينيّة المستحكمة كالفقه والكلام (وهما العنصران الأساسيّان في عمليّة الاستنباط من النصوص الدينيّة)، وإلى خرق السدود المستحكمة التي بناها التفقّه والاجتهاد في الاسلام أمام التيّارات الفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الموجودة في عالمنا المعاصر.
إذ من الطبيعي جدًّا، وبعد خلوّ ترسانة هؤلاء عند السجال العلمي مع أصحاب الرؤية الاجتهادية والمجتهدين أو أمام قوة الكلام الإلهي، من الطبيعي أنْ يلجأوا إلى التشكيك في قلب الاجتهاد النابض والرؤية العلميّة الدينيّة، أي في ماهية الوحي اللغويّة واتّصال النصوص الوحيانيّة بالمبدأ الإلهي، كي يقوموا كما يزعمون برفع التضاد بين الرؤية الكونيّة الدينيّة وبين رؤى الإنسان والعالم المعاصرين، وذلك من خلال محو صورة المسألة من أساسها.
لقد نهج عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري هذا المنهج، وزعما أنّ الوحي (رواية النبيّ لرؤيا نبويّة) و(كلام محمّد). ونحن هنا نتعرّض إلى آراء سروش الظاهراتيّة، ورؤية مجتهد شبستري الهرمنيوطيقيّة بالنقد والتحليل.
سوابق البحث
ربما يُعدّ نصر حامد أبو زيد أوّل من قال في الوحي أنّه من كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد استفاد أبو زيد كثيرًا ممّن سبقه من مفكّري مصر[3]، وبعض اللغويّين[4]، مضافًا إلى تأثّره الكبير بالهرمنيوطيقا الفلسفيّة لدى غادامير في مختلف كتبه[5]. وقد سعى أبو زيد أنْ يستعين بمجموعةٍ من أفكار هؤلاء في تبيين نظريّة ماهية الفهم وفهم النصّ المقدّس لا سيّما القرآن. وقد استفاد من آرائه في وقتنا الحاضر عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري بغية الوصول إلى أهدافهما الخاصّة.
وقد قام كثيرٌ من علماء الحوزة والجامعة بمواجهة آراء سروش وشبستري، بالرد والنقد من خلال المحاضرات، والمناظرات، والمذكرات، والبحوث، والكتب، ممّا لا نستطيع الإشارة إليها كلّها هنا، نعم كان الوحي ولا يزال من المسائل الأساسيّة المتداولة بين المتكلّمين وسائر علماء الدين، بنحو لا يمكن أنْ تجد قولًا حديثًا لا يوجد له أساسٌ في الماضي، ولكن ما ينفع القارئ هنا تحت عنوان (سوابق البحث) اطّلاعه على رأينا حول الوحي، وسنشير إلى أهمّه فيما يأتي.
لقد استعمل الوحي في القرآن في أربعة معانٍ: الإشارة الخفيّة[6]، والأمر الغريزي والتكويني[7]، والإلهام النفسي أو الشعور والإحساس الباطني[8]، والإلهام الغيبي والرسالي الموحى من الله إلى الأنبياء بهدف تبليغ الرسالة الإلهيّة وهداية الناس، وقد استعمل الوحي أكثر من سبعين مرّةً في القرآن[9].
والقرآن الكريم مضافًا إلى بيانه لمختلف معاني الوحي، قد اهتم ببيان أنواع الوحي النبوي أيضًا، وجعلها ثلاثة:
الوحي الإلهي المباشر إلى النبيّ.
الوحي المباشر عن طريق الملك.
الوحي عن طريق الحجاب وباقي الأمور[10].
وتشير آياتٌ أخرى إلى الوحي عن طريق الرؤيا[11]، وعن طريق روح الأمين[12]، والوحي المباشر[13]، وينقسم الوحي في تقسيمٍ آخر إلى التكويني والتشريعي، فالوحي التشريعي هو مجموعة التعاليم والأحكام التي أنزلها الله بشكلٍ دفعيّ أو تدريجيّ تحت عنوان الشريعة والدين، والوحي التكوينيّ عبارةٌ عن القابليات وغريزة الموجودات والقوانين الكلّيّة الحاكمة على المنظومة الكونيّة الجارية بأهداف معيّنة.
نحن بالاعتماد على تعاليم القرآن، نعتقد بأنّ القرآن وحيٌ كلّه، قد نزل لفظه ومعناه من قبل الله تعالى، والقرآن كتابٌ لم يحرّف ولا يقبل التحريف خلافًا لكتب الشرائع السابقة، وهو أيضًا حجّةٌ دائمةٌ ومعجزةٌ تدلّ على صدق دعوى نبوَّة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتسدّ بأعجازها أبواب إنكار الملحدين.
إنّ إعجاز القرآن واضحٌ وجليٌّ للعرب وللمختصّين بالبنى الأدبيّة والبلاغيّة العربيّة، ولكن من لم يعرف اللغة العربيّة لا يواجه مشكلةً أيضًا في إدراك إعجاز القرآن؛ لأنّه قد ثبت أنّ اليهود والمشركين والكفّار رغم وجود دواعي الإنكار، لم يتمكّنوا من تحدّي القرآن من صدر الإسلام إلى يومنا الحاضر، والحال أنّ الله تعالى قد أنزل هذا القرآن العظيم بما فيه من جوانب إعجازيّةٍ بلاغيّةٍ وعلميّةٍ وغيبيّةٍ وتشريعٍ متقنٍ وعظيمٍ ومنسجمٍ على رجلٍ أُمّي.
يُعدّ الوحي من سنخ العلم الحضوري بل من أكمله، وهو عبارةٌ عن مشاهدة الحقيقة التي تُعدّ قوام الإنسان، والإنسان بعلمه الحضوري الخالص يجد نفسه، ويجد مقوّم وجوده، أي الله وكلام الله، والوحي النبويّ نوعٌ من المواجهة مع الله تعالى، لكنّه لم يكن من قبيل التجربة الدينيّة التي يقول بها بعض فلاسفة الغرب؛ لأنّ الوحي النبويّ مشهودٌ ومسموع.
إنّ تعاليم الدين تُلقى من الله تعالى على النبيّ بوساطة ملك الوحي أو من دون وساطته، والنبيّ يسمعها بأذنه الباطنيّة، ويرى الملك بعينه الباطنيّة. والوحي النبويّ مقرونٌ بالعصمة ولا يتطرّق إليه الخطأ، ولكن التجربة الدينيّة - ومن حيث كونها تجربة دينيّة - غير مصونةٍ من الخطأ، وتؤثّر فيها قبليات المجرّب وفروضه وعقائده وأفكاره الخاصّة وتتسبّب في تشويش انعكاسها للواقع، كما أنّ مشاهدات العرفاء الباطنيّة غير مصونةٍ من الخطأ وتصرّف الشيطان، وتحتاج إلى معيارٍ وميزانٍ كالعقل القطعي والنقل المعصوم.
لم يكن النبيّ في أمر الوحي إلّا قابلًا ومتلقيًا للوحي، ولم يكن خالقًا وفاعلًا فيه، أي لم ينشأ الوحي من داخل النبيّ، ولم يكن جبرئيل عقل النبيّ - كما يقول بعض الباحثين - لأنّ هذا الزعم مضافًا إلى كونه يعاني من مشكلةٍ عقليّةٍ في اتحاد القابل والفاعل، يخالف صريح آيات القرآن أيضًا، التي تدلّ على أنّ النبيّ كان قابلًا لمحتوى الوحي وألفاظه، وكان موجودٌ مفارقٌ لوجود النبيّ وعلى صورة الملك، مأمورًا بإيصال محتوى الوحي وألفاظه من الله تعالى إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) [14].
وبناءً على هذا فإنّ الوحي النبويّ لم يكن وحيًا نفسيًّا، كما ذكره بعض فلاسفة الغرب، واعتقدوا أنّ الوحي النبويّ ينشأ من عقل النبيّ وروحه، لم يكن له منشأ خارجي وغيبي. نعم قد شهد التاريخ مصلحين بهممٍ عاليةٍ ونوايا خيِّرة، سعوا لإنقاذ الناس، لكن لم يأتوا بتعاليم وبرامج جامعةٍ وكونيّةٍ نبويّة، تجمع بين الروح والجسم، والظاهر والباطن، والمادّة والمعنى، والدنيا والآخرة، والمُلك والملكوت، والحياة الفرديّة والأسريّة والاجتماعيّة.
كما يتّضح ممّا مرّ أنّ الوحي النبويّ لم يكن نبوغًا أيضًا، ومن قال بأنّ الأنبياء نوابغ مخطئ، فهؤلاء يعتقدون بأنّ منشأ الوحي هو نبوغ الأنبياء الذاتي، وينكرون المنشأ الخارجي للوحي، مضافًا إلى أنّ النوابغ لم يكونوا كالأنبياء معصومين علمًا وعملًا، كما لا تقاس المعارف والمفاهيم الوحيانيّة مع أيّ أنواع النبوغ البشري من حيث العمق والسعة. ومن جهة أخرى فإنّ الأنبياء قد صرّحوا - خلافًا للنبواغ - بأنّ تعاليمهم وأوامرهم التي جاؤوا بها لهداية الناس لم تنشأ من نبوغهم، بل تنشأ من عالم الغيب ومن العلم الإلهي، وأخيرًا فنحن نعتقد بختم النبوّة، والحال أنّ الخاتميّة لا معنى لها في موضوع النبوغ.
هدف هذا البحث وموارد استعماله
نحن في كتابنا هذا، نهتمّ بتحليل ونقد آراء عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري حول الوحي، ونسعى لإبراز هدفهما الأساس عند تبيين آرائهما الوحيانيّة ونقدها؛ لذا نتطرّق هنا إلى بعض المباحث التي ربما لا علاقة لها بالوحي مباشرة من قبيل آراء سروش حول الدين، ونقد شبستري للقراءة الرسميّة للدين، وقد قمنا بنقدها وبعبارة أدقُّ أنّ لمعرفة الوحي اتّجاهات مختلفة من قبيل: الاتجاه المبنائي، والاتجاه الظاهراتي، والاتجاه الوظيفي.
فالاتجاه المبنائي يهتمّ بمباني الوحي الدينيّة والمعرفيّة واللسانيّة والهرمنيوطيقيّة، أمّا الاتجاه الظاهراتي فيشير إلى ماهية الوحي وأركانه، وفي الاتجاه الوظيفي يُبحث عن آثار الوحي الفقهيّة والسياسيّة والإجتماعيّة. ولمّا كان هذان المؤلِّفان قد تطرّقا إلى هذه الأبعاد الثلاثة سوية، فنحن أيضًا نتطرّق إليها. ولكن ما هو الأهمّ في هذه المباحث، نقد آراء عبد الكريم سروش حول ظاهراتيّة الوحي، وآراء محمّد مجتهد شبستري حول هرمنيوطيقا الوحي.
منهج البحث
كانت مباحث هذا الكتاب حصيلة دوراتٍ مضغوطةٍ ثلاث، تطرّقنا في دورتين إلى بيان آراء عبد الكريم سروش الوحيانيّة ونقدها، وخصّصنا دورةً واحدةً لبيان آراء محمّد مجتهد شبستري ونقدها، ثمّ انتشرت ملفات هذه الدورات ولاقت إقبالًا، وبعد عقدٍ من الزمن كنت أزعم عدم الحاجة إلى نشر محتوى تلك الدورات بعد نقد آرائهما من قبل فضلاء الحوزة والجامعة، غير أنّ إلحاح أتباع شروس وشبستري على ترويج آرائهما الباطلة، وحاجة المجتمع إلى ردّ هذه الآراء، بعد إصرار بعض الأحبّة ذلك كلّه دعاني إلى تدوين محتوى تلك المباحث مع ما يقتضيه المقام من تطوير في المنهجيّة، وإضافة بعض المطالب، وقمنا بنشره بمنهج التوصيف والتحليل والاستفادة من النصوص المكتبيّة.
تعريف المسألة وبيان أسئلة البحث
لقد لفتت الآراء الهرمنيوطيقيّة واللسانيّة لبعض علماء الغرب، أنظار بعض المتنوّرين المعاصرين إلى مسألتين أساسيّتين، جعلوهما مستمسكًا لنيل أغراضهم، إحدى تلك المسألتين تتعلّق بماهية الوحي اللغويّة، والأخرى تتعلّق بمسألة مصدر الوحي.
وقد استطاع علماء الشيعة بالتفقّه والاجتهاد في المسائل الفقهيّة والكلاميّة، الصمود أمام التيّارات الفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة المعاصرة، وإظهار حيويّة الإسلام لأهل العالم، ولو أنكر بعض المتنوّرين المخدوعين بالغرب ماهية الوحي اللغويّة، بهدف التقليل من الصيغة الإلهيّة في إرسال الوحي، فإنّ سبب ذلك يعود إلى علمهم بأنّ منشأ هذه الحيويّة التي منعتهم من تحقّق أحلامهم، إنّما هو اعتقاد علماء الشيعة العميق بإلهيّة النصّ القرآني وعصمته، واعتقادهم بأهل البيت (عليهم السلام)، وعلموا بوضوح أنّ هذا المعتقد ما دام قائمًا في المجتمع، وما دام الناس يعتقدون بمرجعيّة القرآن وأهل البيت للإجابة على متطلبات العصر، لا تتحقّق أحلامهم في لحوق المجتمع بالغرب.
إنّ إفهام الآخرين بالنقطة المركزيّة التي اعتمد عليها عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري في المباحث التي ذكروها حول الوحي، تغنينا عن الخوض في كثيرٍ من المباحث الأخرى. فنحن هنا نسعى للفت نظر القارئ الكريم إلى هذه النقطة. ويمكننا ذكر السؤال الرئيس لهذا البحث بالنحو الآتي: ما هو الدالّ المركزي وما هي مباني عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري في التطرّق الى مسألة الوحي، لا سيّما من وجهة نظرٍ ظاهراتيّةٍ وهرمنيوطيقيّة.
وهنا ترد أسئلةٌ فرعيّةٌ كثيرة، نشير فيما يلي إلى أهمها:
كيف تطرّق سروش وشبستري إلى مسألة الوحي وبأيّ اتّجاه؟
ما الأفكار والشخصيات التي تأثّرا بها؟
ما الخلل الوارد في آرائهما؟
ما نتائج آرائهما وآثارها؟
مميزات البحث
إنّ ميزة هذا البحث تتلخّص في بيان وتحليل آراء عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري حول الوحي -كما أشرنا إليه سابقًا- ونقد آراء سروش في ظاهراتيّة الوحي، وآراء مجتهد شبستري في هرمنيوطيقا الوحي، مع تبيين منطلقات آرائهما أيضًا، وبعبارةٍ أخرى لحظنا موقفهما من الوحي من حيث الاتّجاه المبنائي والظاهراتي والوظيفي، مع بيان سبب اتّخاذهما لهذه الآراء.
هيكليّة البحث
تحدّثنا في القسم الأوّل تحت عنوان: (بيان بعض آراء عبد الكريم سروش في الوحي ونقدها) عن سير تطوّر آراء سروش حول الوحي، ثمّ ذكرنا نظريّته حول رؤيوية الوحي ونقدناها. ثمّ نذكر مباني سروش اللغويّة والمعرفيّة والهرمنيوطيقيّة والدينيّة حول الوحي، كما ننقد في المبنى الديني آراءه في التجربة الدينيّة، والذاتي والعرضي في الدين، والدين الأقلي. وفي الخاتمة نتطرّق إلى أهمّ الأسئلة المطروحة في هذا المضمار مع الإجابة الإجماليّة عليها.
أمّا القسم الثاني فنذكر آراء محمّد مجتهد شبستري في الوحي ونقدها، إذ نذكر نظريّته التفسيريّة واللغويّة والوحيانيّة وننقدها ضمن أربعة محاور:
بيان رؤيته التفسيريّة ونقدها.
الإشارة إلى نقده للإسلام الفقاهتي، ونقد نقده.
بيان آرائه الوحيانيّة والدينيّة ونقدها.
نقد بحثه الأخير تحت عنوان: (كيف انهارت المباني الفقهيّة والكلاميّة).
وختامًا أشكر الأخ الفاضل الدكتور القمي لاهتمامه بتدوين هذا الكتاب، كما أشكر زوجتي الفاضلة حيث راجعت الكتاب. وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين
------------------------------------
[1]. نقرأ في دعاء يوم المبعث النبويّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهم بارك لنا في يومنا هذا الذي فضّلته وبكرامتك جلّلته، وبالمنزل العظيم منك أنزلته، وصلِّ على من فيه إلى عبادك أرسلته، وبالمحلّ الكريم أحللته».
[2]. نقرأ في زيارة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم السبت: «أصبنا بك يا حبيب قلوبنا فما أعظم المصيبة بك حيث انقطع عنّا الوحي وحيث فقدناك، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون».
[3]. من قبيل محمّد عبده، أمين الخولي، ومحمّد أحمد خلف الله.
[4]. من قبيل سوسور.
[5]. مثل: مفهوم النصّ، ونقد الخطاب الديني، وإشكاليّات القراءة، آليات التأويل.
[6]. مريم: 11.
[7]. النحل: 68-69.
[8]. القصص: 7، الانعام: 112، 121.
[9]. على سبيل المثال: يوسف: 3، الشورى: 7، العنكبوت 45، يونس: 2، النساء: 163.
[10]. الشورى: 51.
[11]. الفتح: 27.
[12]. الشعراء: 193.
[13]. المزمل: 5.
[14]. الشعراء: 192-195، يوسف 1-2، الشورى: 7، النحل: 102، البقرة: 97، مريم: 64.