تأليف:
مجموعة مؤلفين
إعداد:
د. محمد حسين كياني
فهرس المحتويات :
النسبة بين الدين والثقافة من وجهة نظر علم الاجتماع / السيّد حسين شرف الدين
ماهية الثقافة وتحققها العيني / السيّد يدالله يزدانپناه
النظرية والثقافة: المنهجیة الأساسیة في تكوين النظريات العلمية / حميد پارسانيا
الثقافة التبعية والثقافة الطليعية / محمد تقي الجعفري
مساحة الثقافة / السيّد يدالله يزدانپناه
المفاهيم والأبعاد الثقافية في القرآن الكريم / علي رضا قائمينيا
الأسس الأنطولوجية للثقافة / السيّد حسين شرف الدين
دور الثقافة في التدين وشبكة المعرفة الدينية / قدرت الله قرباني
النسبة بين العلم والثقافة / حميد پارسانيا
دلالات نظریة الفطرة فی النظریة الثقافیة / محسن لبخندق
الأمن الثقافي / محمد إسماعيل نباتيان
كلمة المركز
بسم الله الرحمن الرحيم
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا * إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»
(حجرات: 13)
تعريف الثقافة في العلوم الإنسانية المعاصرة أمر معقد ومتعدد الطبقات. في معظم التعريفات، تُعتبر الثقافة مجموعة من المعتقدات، القيم، القواعد، الرموز، العادات والتقاليد، الأنظمة المعنوية، وأنماط السلوك في مجتمع ما والتي تُنقل من جيل إلى جيل عبر عمليات التنشئة الاجتماعية. في تعبير آخر، يُنظر إلى الثقافة على أنها نمط ثابت من المعاني، القيم، القواعد، والهياكل التي يستخدمها أفراد مجموعة اجتماعية لتوجيه وإضفاء معنى على حياتهم.
على الرغم من أن مصطلح «الثقافة» يُعتبر مصطلحاً متأخراً، إلا أن الحقائق الثقافية كانت موجودة منذ البداية، مرافقة ومتزامنة مع المجتمعات البشرية. الثقافة بهذا المعنى، تشمل الأبعاد المادية وغير المادية؛ من اللغة، الفن، الأخلاق، الآداب الاجتماعية، العادات والتقاليد إلى القوانين، المعارف، التقنيات، وطرق النظر إلى العالم.
من بين عناصر الثقافة الأساسية، تشكل المعتقدات، القيم، والقواعد، طبقات المعرفة الأساسية ومصادر العمق الروحي للثقافة ولها استقرار وأهمية أكبر، بينما تمتلك المستويات الأخرى من الثقافة العرفية، ديناميكية وتنوعاً يعتمد على هذه الأسس. في هذا السياق، يُعتبر الدين والمعارف الدينية الأساس والمصدر الأهم للثقافة.
العلاقة بين الدين والثقافة هي واحدة من أكثر المواضيع أساسية وفي الوقت نفسه تعقيداً في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية. الدين والثقافة كلاهما جوانب من الحياة الاجتماعية التي كانت عبر التاريخ، مشكلة للعالمية، القيم، القواعد، الرموز، الطقوس وأساليب الحياة. تعقيد هذه العلاقة يأتي من كون الدين والثقافة ليسا فئتين مستقلتين ومنفصلتين، بل متداخلتين وتؤثران بشكل جدلي على بعضهما البعض. الدين، بوصفه نظاماً معنوياً وقيمياً وعقدياً، يمكن أن يوجه الأنماط الثقافية، والثقافة، بوصفها السياق التاريخي والاجتماعي، تجعل فهم وتجربة الدين ممكنة أو تحد منها. التأثير والتأثر بين الدين والثقافة على المستويات الفردية، الجماعية والاجتماعية من أهم العوامل المشكلة للحضارات، الهويات والتحولات التاريخية.
على مدار القرن الأخير، سعى العديد من المنظّرين في مجالات علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، الدراسات الدينية والثقافية إلى تفسير أوجه العلاقة المختلفة بين الدين والثقافة. تنوعت هذه النظريات بين مقاربات وظيفية وبنائية إلى تفسيرية ونقدية، وبين رؤى أنثروبولوجية إلى مقاربات فلسفية ولاهوتية.
من المنظور اللاهوتي، يرى العديد من المفكرين أن الدين يتجاوز البنى الثقافية. في اللاهوت، يُنظر إلى الدين على أنه وحي أو حقيقة متعالية تتجلى في إطار الثقافة. الثقافة تشكّل سياقًا لتحقق أو ظهور بعض جوانب الدين، لكن حقيقة الدين تتجاوز الثقافة ويمكنها أن تغيّرها.
في المجتمعات الحديثة، تأثرت العلاقة بين الدين والثقافة بشكل كبير بعملية العلمنة. مع نمو الحداثة، فقد الدين موقعه المركزي في الثقافة وتم تهميشه. أدت العلمنة إلى فصل الدين عن المجالات العامة (كالسياسة، الاقتصاد، التعليم)، وجعلت الثقافة تنفصل عن المرجعية الدينية. من جهة أخرى، أثرت وسائل الإعلام الحديثة، العولمة، وزيادة التفاعل مع التنوع الثقافي في خلق وضع جديد للعلاقة بين الدين والثقافة في العالم المعاصر.
ومع ذلك، فإن الأزمات المعنوية والأخلاقية التي تعاني منها المجتمعات الحديثة، مثل العدمية، النزعة الاستهلاكية، المادية، الفردية المفرطة، وفقدان التماسك الاجتماعي، دفعت حتى صناع السياسات والمفكرين ذوي التوجهات العلمانية إلى الرجوع إلى المصادر الدينية من أجل إعادة إنتاج المعنى والقيم في ثقافة المجتمعات. كما يمكن إضافة التحديات والآفات الاجتماعية، مثل التفاوتات الاجتماعية، التغيرات المناخية، والقضايا البيئية، إلى هذه القائمة الطويلة من الضرورات.
لا شك أن فهم العلاقة بين الدين والثقافة لا يكتسب أهمية من الناحية النظرية والأكاديمية فقط، بل له أهمية كبيرة من حيث التطبيقات الاجتماعية ووضع السياسات الثقافية أيضًا.
من ناحية أخرى، فإن الشبكة المفاهيمية للثقافة في السياق الجديد لها نطاق وحمولة معنوية مختلفة عن التصورات التقليدية لها. المفهوم الحديث للثقافة مرتبط أيضًا بمجالات مثل التكنولوجيا، الاقتصاد، أسلوب الحياة، ووسائل الإعلام الرقمية.
تشير هذه التطورات إلى أن الحصول على فهم عميق وموثوق للعلاقة بين الدين والثقافة يتطلب تجنب التبسيط المفرط والتعميمات غير المدروسة، ويجب على النظريين استخدام شبكة أكثر تعقيدًا من التفاعلات بين الدين والثقافة مع نهج متعدد التخصصات والاستفادة من معارف مثل علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، الفلسفة، اللاهوت، علم النفس، الدراسات الثقافية، الاتصالات، التاريخ وغيرها.
***
سلسلة الدراسات الدينية المعاصرة التي تم نشر 14 عددًا منها حتى الآن في هذا المركز، صممت ووضعت بهدف التعامل مع أهم التحديات والقضايا المتعلقة بالدين والتدين في العالم المعاصر. بعض المواضيع التي تمت مناقشتها في أعداد هذه السلسلة تشمل: الدين والمعنوية، الدين والتنمية، الدين والأخلاق، الدين والعلم، الدين والحضارة، الدين والأزمات الاجتماعية.
هذا العدد هو واحد من أعداد هذه السلسلة ويشتمل على مجموعة من المقالات المتخصصة في مختلف المجالات الإنسانية والإسلامية التي تم تنظيمها حول المحور الرئيسي لموضوع «الدين والثقافة».
نتقدم بخالص الشكر والتقدير للمؤلفين الأفاضل الذين شاركوا أعمالهم في هذه المجموعة. كما نشكر جهود جميع الزملاء الأفاضل في المركز، وخصوصًا رئيس المركز المحترم، سماحة حجة الإسلام والمسلمين الدكتور السيّد هاشم الميلاني الذي كان له دعم وإرشادات فعالة دائمًا، وكذلك الأمين العلمي المحترم لهذا الملف، الدكتور محمد حسين كياني والأستاذ السيّد محمّد رضا الطباطبائي المسؤول الكريم عن وحدة النشر بسبب دقته العلمية والفنية ومتابعاته الفعّالة التنفيذية.
نأمل أن تكون هذه المجموعة مفيدة ومرشدة للمهتمين والباحثين في هذا المجال وكذلك لصانعي السياسات والمسؤولين الثقافيين والدينيين في الجوانب النظرية والعملية، وأن تساهم بمقدار ضئيل في تحسين الثقافة المجتمعية نحو الصلاح والتأدب بأخلاق الهية، بمنّه وكرمه، إنه سميع مجيب.
المقدمة
إن الثقافة تشمل طيفًا واسعًا من المعاني والمفاهيم، من قبيل: العلم والتربية والآداب والتقاليد، وتحتوي على مساحة مفهومية تشمل الآراء والقيَم الجماعية والسلوكيات والمعايير الاجتماعية. إن هذه المساحة بحيث تشمل مجموعة من العلوم والفنون والقوانين والعادات العرفية، واللغات والمحاورات المحلية أيضًا. ومن هنا فإن كل شعب يمتلك ثقافته الخاصة به، حيث يحتوي بعضها على مشتركات ونقاط افتراق بالمقارنة مع ثقافات سائر الأمم الأخرى أيضًا. إن العناصر الثقافية لكل شعب تنتقل عن طريق التعليم إلى الأجيال اللاحقة، وفي العلاقات المتنوّعة بين الشعوب تتعرّض المشتركات والاختلافات الثقافية للتغييرات أيضًا. ومع ذلك كله فإن ثقافة كل شعب هي بمنزلة الهوية لتعرف علي المعتقدات والقيَم والتقاليد.
إن الثقافة ترتبط بمختلف أبعاد الحياة الفردية والاجتماعية. وفي هذا الشأن تعدّ نسبة الدين إلى الثقافة من بين المسائل المهمّة التي تضع أمامنا موضوعات كثيرة للبحث والتحقيق. وبغض النظر عن البحث حول المفاهيم والنظريات والاتجاهات والتيارات المرتبطة بمجموع الثقافة، يمكن القيام بتحقيق تفصيلي حول المسائل الخاصّة بالارتباط بين الإسلام والثقافة، وهي موضوعات من قبيل: العناصر والتجليات الثقافية للإسلام، وبناء الثقافة الإسلامية، والارتقاء الثقافي، والتنمية الثقافية، والهوية الثقافية، والثقافة المثالي، ومنشأ القيمة والمعايير الثقافية، وموازين ومعايير القيَم الثقافية، والإسلام والتصفية الثقافية، ونسبة الإسلام إلى الثقافات الفرعية، وعلل زوال واستمرار الثقافة الإسلامية، ودور الفاعلين في مضمار الثقافة ابتداء من علماء الدين وصولًا إلى المشاهير، ومعرفة آفات الثقافات الإسلامية، ونقد الثقافة العلمانية، والغزو الثقافي، والتبادل الثقافي، والعولمة الثقافية، والنسبية والتعددية الثقافية، القومية الثقافية، والقراءات الثقافية للدين، وخفض الدين إلى مستوى الأمر الثقافي، وهيمنة الرؤية الثقافية، والكثير من المسائل الأخرى.
إن التأمّل حول الدين والثقافة ضروري من عدّة جهات، وربما كان الأهم من كل شيء هو أن هذا النوع من التأمّلات يعدّ بمنزلة المقدمات النظرية للتلفيق بين الدين والعناصر الثقافية، وتوجّه الثقافة الاجتماعية القائمة على القيَم الدينية، وبالتالي الارتقاء الكيفي وتحسين المستوى الثقافي للمسلمين. وعلى كل الحال فإنه بغض النظر عن أن التعرّف التاريخي على الثقافة الإسلامية القديمة يؤدّي إلى المساعدة على إدراك خصائص المجتمعات الإسلامية بشكل أفضل، أو أن التحليل الانتقادي للثقافة الغربية يؤدّي إلى إدراك أفضل للمجتمعات الأخرى ولا سيّما فهم الغزو الثقافي وآفاتنا الثقافية؛ فإن هذا النوع من المعارف في الوقت نفسه يُعدّ أساسًا لإدراك وفهم الطاقات الكامنة واتخاذ القرارات الاجتماعية من أجل تحسين الشروط والظروف الثقافية؛ وذلك لأن التفكير من أجل الارتقاء، والتصفية والتحسين الكيفي بثقافة المجتمعات الإسلامية، من بين المسائل التي قلما نجد مسلمًا لا يبدي اهتمامًا بها، أو أن يعدّها مسألة قليلة الأهمية.
إن هذه المقالة تعدّ بمنزلة المدخل النظري حول التفكير بشأن النسبة بين الدين والثقافة؛ وما هي الثقافة، وما الذي تعنيه المساحة الثقافية؟ وما هي الأسس الأنطولوجية للثقافة؟ وما هي نسبة الدين إلى الثقافة والمستويات الثقافية في القرآن الكريم؟ وفي الأساس ما هو دور الثقافة في التدين وشبكة المعرفة الدينية؟ ما هي خصائص المنهجية لدراسة الثقافة؟ وكيف يمكن للثقافة أن تكون ثقافة طليعية أو ثقافة تبعية؟ وما الذي نعنيه بالأمن الثقافي؟ وما إلى ذلك من التساؤلات الأخرى. وبعبارة أخرى: إن هذا الأثر يشتمل على مجموعة من المقالات على النحو أدناه:
1. النسبة بين الدين والثقافة من وجهة نظر علم الاجتماع: إن هذه المقالة من خلال الإشارة إلى هذا الأمر المهم، وهو أن الأديان الإلهية تحتوي على ظرفية عالية من أجل إنتاج وعرض ثقافة متعالية، وبالنظر إلى الظرفيات والشروط التي تلعب دورًا قاطعًا وحاسمًا في هداية وتوجيه الثقافات العُرفية وعناصرها المختلفة؛ فإنها تعمل على تحليل هذه المسألة التي تقول: ما هي أهم مواقف علماء الاجتماع الديني في طريقة التعامل بين الدين والثقافة. وبعبارة أخرى: إن السؤال الأصلي بشأن النسب المتحققة والمحتملة بين الدين والثقافة بوصفهما نظامين مفهومين جامعين في مقام التحقق والعينية الاجتماعية من زاوية علم الاجتماع. وبذلك فإن الكاتب يتعرّض إلى شرح هذه النتيجة وهي أن كل واحد من علماء الاجتماع الديني ـ بالنظر إلى الموقف الذي يتخذه في باب الماهية والأسباب والموقع الاجتماعي الذي يحتله، ومهمة الدين، وتقييم هذه الأدوار ـ يعمل على بسط آرائه في هذا الشأن.
2. ماهية الثقافة وتحققها العيني: يسعى الكاتب في هذه المقالة ـ من خلال اتخاذ الاتجاه الفلسفي ـ إلى دراسة وبحث الثقافة. وبطبيعة الحال فإن هذا الاتجاه يختلف عن الأسلوب الاستقرائي؛ وذلك إذ يتمّ في الأسلوب الاستقرائي تعريف الثقافة بالآداب والتقاليد والعقائد والقوانين وبعض المصاديق الأخرى للثقافة. وفي الواقع فإن الكاتب ـ يسعى من خلال استخراج تحليل فلسفي من صلب هذا النوع من الاستقراء ـ إلى الحصول على تعريف فلسفي للثقافة. وبذلك يتمّ العمل في بداية الأمر على شرح وبحث ماهية المفهوم الاسمي للثقافة على أساس المرتكزات العامة، ومن ثمّ يتمّ العمل على إثبات الوجود الخارجي للثقافة. وبعد ذلك يتمّ الانتقال إلى البحث عن الماهية الحقيقية للثقافة، وفي ضوء تعريف حقيقة الثقافة، يتم العمل على بحث وتحليل عينية الثقافة وعينيات الثقافة. وفي الختام تتمّ الإشارة إلى دراسة إجمالية للتعاريف الصادرة عن علماء الاجتماع أيضًا، لكي يتمّ التمكن من إيضاح نسبة تحليل علماء الاجتماع إلى تعريفه المختار.
3. النظرية والثقافة؛ المنهجیة الأساسیة في تكوين النظريات العلمية: إن هذه المقالة تعمل ـ من خلال دراسة وبحث النسبة بين النظرية والثقافة ـ على رصد تداعيات انتقال النظريات من أحضان ثقافة ما إلى ثقافة أخرى ضمن ثلاثة مواضع. الموضع الأول: يعمل على بحث ودراسة الأبعاد المنطقية والمعرفية للنظريات العلمية، وأنواع المباني التي تقوم كل نظرية على أساسها، والمسار الذي ترسمه المباني للنظرية، والأسلوب الذي تم استعمال النظرية فيه، والحقول التي تنشط فيها النظرية. الموضع الثاني: يتم فيه تحليل كيفية دخول النظرية إلى حقل الثقافة، وفي هذا الشأن تعدّ الأرضيات الوجودية المعرفية والأرضيات الوجودية غير المعرفية للنظرية، وكذلك التعاطي الذي يكون للنظرية مع بيئتها الثقافية، من أهم المسائل. وفي الختام تتمّ الإشارة إلى موقع النظريات العلمية في التعاملات الجوهرية للثقافة. إن النظريات الداخلية والخارجية وكيفية انتقال النظرية من ثقافة إلى ثقافة أخرى، تعدّ من بين مسائل هذا الفصل.
4. الثقافة التبعية والثقافة الطليعية: إن كاتب هذه المقالة ـ من خلال دراسة وبحث أنواع من النماذج الثقافية ـ يركز على نوعين من الثقافة الطليعية والثقافة التبعية. ثم يعمل بالتفصيل على توضيح أن عنوان الثقافة التبعية يُطلق على ذلك القسم من نوع كيفية وأسلوب الحياة المادية وغير المادية، حيث لا يكون تابعًا لأيّ أصل أو قانون تمّ إثباته في السابق؛ بل يستمدّ صحته ومقبوليته من ميول ورغبات الناس. بهذا المعنى من السلوك لا تكون ميول ورغبات الناس ـ أيًا كانت دوافعها وأسبابها ـ ولا يكون هناك أي نظرة إلى تطابقها مع الحقائق والوقائع المستقلة عن الأهواء والرغبات الطبيعية. وعلى هذه الشاكلة يُعد كل نوع من عوامل فساد الدين والأخلاق والحياة المعقولة للأشخاص قابلًا لكي يُعدّ بوصفه من المطالب الإنسانية وباسم الثقافة. وفي المقابل فإن الثقافة الطليعية تكون بعيدة وبمنأى من هذه الأوصاف، وتعدّ من عوامل الكمال والسعادة الإنسانية.
5. مساحة الثقافة: تتعرّض هذه المقالة إلى بحث ودراسة العناصر والتقسيمات والأمور المتعددة والتابعة للثقافة، وتسعى إلى إيضاح أبعاد ودائرة الثقافة. إن هذا البحث بالإضافة إلى بيانه لماهية ومساحة الثقافة، يعدّ في الوقت نفسه مقدمة بشأن طريقة ونمط الوجود، والذي يُعدّ من الأسئلة الأساسية والجوهرية. وفي الواقع فإن شرح سعة ومساحة الثقافة هو الذي تهدف إليه هذه المقالة. ويُشير الكاتب في الأثناء إلى احتمال أن لا تكون جميع التبويبات والتقسيمات التي تمّ إحصاؤها غير موجودة في جميع المجتمعات، وإنما يُنظر إليها على نحو نوعي فقط؛ بمعنى أن أغلب الثقافات تشتمل على تقسيمات معدودة، وإن كانت بعض الثقافات بسبب افتقارها إلى البسط قد تحرم من بعض المساحات؛ حيث أن هذه الاختلافات بدورها تكون مختلفة بما يتناسب مع اختلاف المجتمعات. وبعبارة أخرى: كلما كان المجتمع يحظى ببسط أكبر، يكون فهم المعاني عن الأمور مختلفًا، ونتيجة لذلك يكون إمكان إلحاقها بدائرة الثقافة محتملًا بشكل أكبر. ثم إن إحصاء مساحة الثقافة قد تمّ بشكل استقرائي، ويوجد فيه إمكان زيادة السعة والمساحة أيضًا.
6. المفاهيم والأبعاد الثقافية في القرآن الكريم: تتعرّض هذه المقالة إلى بحث ودراسة طائفة من المفاهيم القرآنية التي تشتمل على دلالات ثقافية، ومن هنا فإن الكاتب يُطلق على هذه الطائفة عنوان المفاهيم الثقافية؛ وهي موارد من قبيل: الزواج، والاستشارة، والأسرة، والتنافس وما إلى ذلك. وفي الواقع فإن الكاتب يُشير في بداية الأمر إلى ثلاثة تعريفات عن المفاهيم الثقافية، وهي أولًا: المفاهيم التي يكون لها استعمال ويُكتب لها التحقق في الحياة الاجتماعية. وثانيًا: المفاهيم التي تترتب على تحققها تداعيات اجتماعية. وثالثًا: المفاهيم التي تمتلك خططًا ومشاريع ثقافية خاصة. ثم يواصل البحث بعد ذلك في بعض المسائل المهمّة بوصفها أهدافًا وغايات له، من قبيل: البحث عن المفاهيم الثقافية للقرآن الكريم، وتقسيم المستويات والطبقات المختلفة للدين، والبحث عن القضايا الأنثروبولوجية في الدين، والبحث عن النماذج الدينية، والقضايا التخطيطية، وفي نهاية المطاف البحث حول بعض أساليب اكتشاف النماذج الدينية.
7. الأسس الأنطولوجية للثقافة: إن من بين الموضوعات المهمّة في فلسفة الثقافة وكذلك في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية، عبارة عن السؤال عن المنشأ والعلل الإيجادية والإعدادية، وبكلمة واحدة: يقع السؤال عن المباني والأسس الأنطولوجية للثقافة. يتمّ السعي في هذه المقالة إلى الإجابة عن هذا السؤال في حدود الإمكان من خلال التأمّل في مختلف الآراء والأفكار. ومن هنا فإن السؤال الرئيس في هذه المقالة حول ماهية المصادر والمناشئ والأرضيات المعرفية وغير المعرفية للثقافة بوصفها أمرًا كليًا. كما تشير النتائج الحاصلة من هذه القراءة إلى أن الثقافة أو المنظومة الثقافية تقع في المجموع تحت تأثير مجموعة متشابكة ومعقدة من القابليات والظرفيات الفطرية، وتتألف من العلاقات الإنسانية المتعدّدة، والعوامل البيئية ـ الأعم من الطبيعية والاجتماعية ـ والعوامل الغيبية ولا سيّما الدينية والتعاليم الوحيانية، والتجارب التاريخية المتراكمة، وتستمر من طريق مسار التقبّل الاجتماعي عبر الأجيال.
8. دور الثقافة في التدين وشبكة المعرفة الدينية: إن التديّن وشبكة المعرفة الدينية تشمل من ناحية العقائد والعمل بمنظومة وشبكة من المعتقدات والأخلاق والأعمال العبادية؛ حيث تقوم بينها علاقة علية تشكيكية، ومن ناحية أخرى فإن التديّن الثقافي نمط من التديّن الذي يكتسب فيه الدين صبغة الثقافة المنشودة، ويتمّ تعريف أدائها في ضوء خصائص تلك الثقافة. وبطبيعة الحال فإن القبول بالتأثيرات الثقافية على أطراف التدين وشبكة المعرفة الدينية لا يعني تغيير ماهية التديّن؛ إذ أن اصطباغ التدين بالثقافة المنشودة ـ خلافًا لتصوّر أنصار عرفية التديّن في المجتمع ـ وإن كان قابلًا للاهتمام جدًا في هامش شبكة التديّن، إلا أننا كلما توجّهنا واقتربنا من النواة المركزية لهذه الشبكة، ينخفض مستوى التأثيرات الثقافية، وفي الواقع تتمّ إزالة الغبار عن التدين وإظهار المعدن الصافي الداخلي له بشكل أكبر. وبذلك يتمّ في هذه المقالة بيان أن تأثر النواة المركزية للأديان الإلهية بهذا النوع من التأثيرات الثقافية ضئيل جدًا وليس قابلًا للإدارة من قبل التديّن.
9. النسبة بين العلم والثقافة: يمكن تصوّر ثلاثة أنواع من العلاقة والتعامل بين العلم والثقافة على أساس ثلاثة أنواع من تعريف العلم. النوع الأول: إن العلاقة بين العلم والثقافة على أساس التعريف الوضعي للعلم خارجية، ولن يكون لأيّ واحد منهما إحاطة علمية بالآخر. النوع الثاني: في ضوء التعريف ما بعد الحداثوي للعلم، يتم تعريف البنية الداخلية للعلم من قبل الثقافة، وبذلك تكون للعلم هوية ثقافية. وبالتالي فإن النوع الثالث والأخير هو أن العلم ـ في ضوء التطابق بين التعاريف العقلانية والوحيانية ـ يحيط بالثقافة، ويحظى بإمكانية التقييم الانتقادي للثقافة على نحو شامل. وعلى هذا الأساس فإن هذه المقالة تعمل ـ بناء على التعاريف المذكورة ـ على شرح وتفصيل العلاقة بين العلم والثقافة. بمعنى أنها تعمل أولًا على بيان تعاريف العلم والثقافة، ثم تقوم بعد ذلك ببيان النسبة المذكورة وتحليلها على أساس التعاريف المذكورة.
10. دلالات نظریة الفطرة فی النظریة الثقافیة: إن الفطرة هي الجانب الذي يميّز الإنسان من سائر الكائنات الأخرى، وإن دخوله إلى مختلف مبادئ العلوم تترتب عليه الكثير من التبعات المعرفية. وهكذا فإن النظرية الثقافية تُعدّ من بين العلوم التي تنطوي على معطيات علمية مهمّة؛ وهي موارد من قبيل: قيام بقاء الثقافات على أساس العناصر الفطرية، واستفادة جميع الثقافات من الفطرة الإلهية، واعتبار جانب من الاختلافات الثقافية للمجتمع، وتحليل الأزمات الثقافية على أساس الفطرة، والنظرة إلى إمكانية التعالي لجميع الثقافات، والقول بفطرية العلاقات، وإمكان التحاور بين الثقافات بلغة الفطرة، والتفاهم الذاتي للثقافات مع الثقافة الدينية، والدخول إلى السياسات الثقافية القائمة على نظرية الفطرة وما إلى ذلك. إن هذه الموارد بأجمعها تعدّ من موضوعات هذه المقالة، حيث يتمّ بحثها ونقدها بوصفها أدلة نظرية للفطرة في النظرية الثقافية.
11. الأمن الثقافي: إذا كانت الثقافة تطلق على مجموعة من القيم المؤسسة في المجتمع؛ حيث يتمّ تمييزها بذلك من سائر المجتمعات الأخرى؛ فلا غرو أن يُطلق الأمن الثقافي على الظرفية الثقافية للمجتمع، من أجل الحفاظ على خصائصه الخاصّة في مواجهة تغيير الشروط المادية والتهديدات المعنوية. وبذلك فقد ذهب بعض المفكرين إلى الاعتقاد بأن الأمن الثقافي يُعدّ من الأركان والأسس الأصيلة لبسط الأمن. بيد أن المفكرين الناظرين إلى مختلف الحقول المعرفية يرصدون بعض المفاهيم والعناصر واللوازم المختلفة بالنسبة إلى الأمن الثقافي. إن هذه المقالة تسعى إلى التعرّض لبحث الأمن الثقافي من زاوية علم الفقه. وبذلك فإن الأمن الثقافي في الرؤية الفقهية يشمل هذا المعنى، وهو أن التعهّد بالتكاليف الشرعية سوف يؤدّي إلى الوقاية من الأضرار والآفات، ومن التعرّض للتهديدات التي هي من قبيل استحالة الدين والقيَم الدينية، وانتشار المفاسد الأخلاقية والاجتماعية، والغزو الثقافي، والهيمنة الثقافية للكافرين والأجانب وما إلى ذلك. إن هذا التوجّه يؤدّي إلى تحقق الحالة الثقافية المطلوبة في الإسلام، بمعنى أنها تؤدّي إلى الحفاظ على الدين الإسلامي الحنيف.
وهكذا نقدّم هذا الأثر ـ الذي يمثل مقدمة للمزيد من التأمّل حول الدين والثقافة ـ إلى القارئ الكريم، على أمل أن يحصل الأساتذة والباحثون والمحققون والطلاب الراغبون في هذا الحقل على ضالتهم من خلال قراءة هذه الدراسة ويجدوا فيه فائدة ومغنمًا. وفي الختام لا بد من التقدّم بواجب الشكر إلى جميع الإخوة الذين أسهموا في اكتمال هذه الدراسة، ولا سيّما منهم حملة الأقلام الذين شاركوا في كتابة هذا الأثر. كما نتقدم بجزيل الشكر لسماحة حجة الإسلام والمسلمين الدكتور السيّد هاشم الميلاني الرئيس المحترم للمركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية على دعمه الكبير من أجل إنجاز هذا المشروع وتقديم الآراء والأفكار القيّمة والنافعة. كما نتقدم بالشكر البليغ لسماحة حجة الإسلام والمسلمين الدكتور السيّد محسن الموسوي على تحمّله أعباء الإشراف النافع والتوجيه العلمي. ونتقدم كذلك بالشكر الجزيل إلى معالي الدكتور أحمد قطبي والسيّد محمد رضا الطباطبائي على بعض المقترحات والقيام بالمراحل التنفيذية.