تطابق الصور الذهنية مع الخارج تحقيق حول الواقعية المعرفية وقيمتها

تطابق الصور الذهنية مع الخارج تحقيق حول الواقعية المعرفية وقيمتها

تأليف :

عباس عارفي

تعريب :

الشيخ محمد جمعة العاملي

 

فهرس المحتويات :

القسم الأول: تحليل عناصر المعرفة

الفصل الأوّل: معرفة الذهن

الفصل الثاني: معرفة الصور الذهنيّة

الفصل الثالث: نفس الأمر ومناط الصدق

الفصل الرابع: التطابق وهوية الصدق

القسم الثاني: المعرفة والمطابقة

الفصل الخامس: منشأ المعرفة وضرورة التبرير

الفصل السادس: الصور الذهنيّة والمطابقة

الفصل السابع: القضايا وتحدي الصدق

الفصل الثامن: معالم الشكّ واليقين

الفصل التاسع: المنازل السبعة للشكوكيّة

الفصل العاشر : العبور عن مراتب الشكوكيّة السبع

 

 

كلمة المركز

من بين سائر مباحث الفلسفة أخذت نظريّة المعرفة حيّزًا كبيرًا من اهتمام الباحثين؛ وذلك لتعلّق موضوعها بتخصّصاتٍ عديدةٍ، وتناولها لجميع اتجاهات المعرفة الإنسانيّة بوصفها فلسفةً للعلوم. ومن جهة فهي تشكّل المرتكز الذي حدا بالفلسفة لأنْ تتنوّع إلى مدارس ومذاهب واتّجاهاتٍ ونزعاتٍ ومناهج تبعًا لـمصادر استقائها التي يُعوّل عليها فـي تـحديد نوعها.

إنّ تشكّل نظريّة المعرفة الفلسفيّة بوصفها نظريّةً مستقلّةً ظهر منذ ثلاثة قرونٍ على يد الفلاسفة الغربيّين، أمّا في الفكر الإسلاميّ فقد طُرِحَت كثيرٌ من مسائلها ومصادرها ومناهجها متفرّقةً في مباحث الفلسفة، والمنطق، وأصول الفقه منذ زمن تأسيس تلك العلوم، واستمرّت تتطوّر معها إلى يومنا الحاضر، ومنذ ذلك الـحين وهي ذات شأنٍ فـي فرز الأصيل عن الدخيل من مناهج الـمعرفة وأبحاثها الـمعاصرة.

تهدف نظريّة المعرفة إلى الكشف عن حقيقة المعرفة الإنسانيّة وطبيعتها، وحدودها، ومصادرها، ومناهجها، وقيمتها، وموانعها، وصدقها وخطئها، والشروط الموضوعيّة لتشكّلها، ووسائل إنتاجها، وسبل نموّها بوصفها مدخلًا ضروريًّا تُؤسَّس عليه كثيرٌ من المعارف الرامية لإنتاج اليقين. وتُعنى نظريّة المعرفة أيضًا بنقد العلوم وتقويمها، وتحديد الأُسس التي ترتكز عليها، لتُؤمِّن الوصول إلى المعرفة السليمة.

ولا تقف نظريّة المعرفة في علاقتها بالعلوم على إطارها الموضوعيّ فحسب؛ وإنّمـا تـمارس دورًا منهجيًّا تنطلق منه لمعالجة العلاقة بين الذات والموضوع، وضبط طبيعتها؛ لتحصين سلامة الآليات والأدوات الـمعرفيّة بينهمـا وتوليد نتائج معرفيّةٍ أمينة.

وما زالت مهمّة نظريّة المعرفة هي البحث حول المعارف الصحيحة التي يمكن اعتمادها وطرح الحقائق في ضوئها، ومحاكمة الحقائق والقضايا الأخرى التي تنتج صورةً خاطئةً عن الواقع؛ فهي إذًا تحمل مهمّة إنتاج اليقين أو بيان طريقه؛ فتؤسّس للوصول إلى اليقين الكاشف عن الواقع -لأنّه الحقيقة نفسها- بنحوٍ يتجاوز الجزم العلميّ والفلسفيّ إلى الجزم بمطابقة الواقع والكشف عنه، وهو ما يُفصح عنه قسمـا الـمعرفة الحضوريّة والحصوليّة بأنّ وظيفتهما الكشف عن مطابقة الواقع وتحصيل اليقين.

ويمثّل تأسيس (سلسلة دراسات إبستمولوجيّة) من قبل (المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة) استجابةً واعيةً لمتطلباّتٍ معرفيّةٍ حاضرةٍ فـي واقع الفكر المعاصر، يسعى بوساطتها المركز إلى اتّخاذ موقفٍ معرفيّ حاسمٍ في المسائل الأساسيّة لنظريّة الـمعرفة، من شأنها الإسهام فـي إيضاح ومعالجة قضاياها المركزيّة، ومآلاتها الفكريّة.

في هذا الكتاب

 يسعى المؤلّف لاكتشاف الطريق الموصل لتطابق الصور الذهنيّة مع الخارج لتكوين يقينٍ منطقيّ غير قابلٍ للشك. ولأنّ الصورة الذهنيّة هي اكتسابٌ معرفيٌّ في الذهن؛ لذلك تتخصّص مجالات الدراسة في العلم الحصولي تصورًّا وتصديقًا دون الحضوري.

 إنّ تطابق الصورة الذهنية مع الخارج من أصعب موضوعات التفكير البشريّ إدراكًا؛ لأنّ المعرفة هنا تبحث في ذاتها، فهو بحثٌ ذاتيٌّ للمعرفة للوصول إلى الواقع عن طريق الإدراكات المتنوّعة للعلم الحصوليّ .

 جاء القسم الأوّل من الكتاب بعنوان (تحليل عناصر المعرفة)، فهو قسمٌ تصوريٌّ بيّن فيه المؤلّفُ المفاهيم الأساسية من خلال أربعة فصولٍ عقدها لبيان هوية الذهن واختصاصه بالعلم الحصولي، موضّحًا معنى الصور الذهنيّة، وأنّ مفهوم الخارج يُعادل مفهوم نفس الأمر تمامًا، ونفس الأمر هو بمعنى ذات الشيء، ومن ثم مطابقة الصور الذهنيّة للخارج.

 وسعى في القسم الثاني الذي جاء بعنوان (المعرفة والمطابقة)، لإثبات المطابقة وقيمة المعرفة، باحثًا في أصل المعرفة وعناصرها وأنواع التبرير، وآخذًا بالصور الذهنيّة لإثبات مطابقتها مع الخارج، وطرق الوصول إلى الصدق كالبداهة والبرهان ، منتهيًا إلى (القضايا وتحدي الصدق)، وهو البُعد البرهاني لصدق القضايا، وهو غاية الرسالة في إيجاد سُبلٍ تُوصِل إلى صدق القضايا.

 وتناول في القسم الثالث المعنون (المعرفة والشكوكيّة) مفهوم الشكوكيّة بوصفه مصطلحًا وهويّةً فلسفية، والمكانة التي حظي بها في الفلسفة الحديثة . كما درس المعرفة والشكوكيّة على نحوٍ متقابل، وعمل على تظهير عنصر الثبات أو عدم قابلية المعرفة للتشكيك، بوصف الثبات من العناصر المقوّمة لليقين بالمعنى الأخص. ويستمر المؤلّف في هذا القسم بعرضه للمدارس والتيّارات الفلسفيّة الشكوكيّة القديمة والمعاصرة، ولا سيّما منها تلك التي أقامت نظامها المعرفي على قواعد الشكّ كمقدمات لتحصيل المعارف اليقينيّة .

 نأمل أنْ يـحقّق هذا الكتاب إضافةً علميّةً تنضمّ إلى ما كتب فـي هذا الـمجال، وبذلك يشارك الـمركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية فـي رفد الفكر بمـا يتطلّب من مواكباتٍ عصريّةٍ مهمّة فـي المعرفة والمنهج.

والـحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلّى اللهُ على رسولهِ الأمين محمّدٍ وعلى أهلِ بـيتـهِ الطـيبـينَ الطاهرين.

 

مقدمة الكتاب

الحمد لله الذي زيّن العقول بصوادق الإيقان ونوّر القلوب بحقائق الإيمان، والصلاة على من أرسله بسواطع البرهان ثُمَّ الصلاة والسلام على أهل بيته الكرام الذين هم طلائع القرآن وشوارق العرفان.

إنَّ المعرفة هي الفهم السليم لحقائق الوجود، الأمر الذي كان وما يزال واحدًا من أقدم أُمنيات البشر؛ لأنّ الإنسان لا يستطيع تحصيل الفتح في علياء قمم العظمة الإنسانيّة إلّا عبر طيّ هذا الطريق حصرًا ليُحقّق هويّته، تلك الهويّة التي لا تكشف حقيقتها إلّا عبر المعرفة، تلك المعرفة القصيّة عن الجهل المركّب والملازمة للصدق منطقًا ولا تقبل الشكّ عقلًا، وهذه الرسالة تمثّل مسعىً من مساعي الكشف عن طريق تحصيل مثل هذه المعرفة.

موضوع البحث:

 تسعى هذه الرسالة لإثبات تطابق الصور الذهنيّة مع الخارج، ويمكن تصوير هذا الموضوع من خلال السؤال الآتي: هل تتطابق الصور الذهنيّة مع الخارج؟. والآن، إذا تأمّلنا في العناصر التي طُرحت ضمن عنوان هذه الرسالة سوف نستنتج أنّ دائرة البحث في هذه الرسالة تشمل العلم الحصوليّ فقط دون العلم الحضوريّ؛ وذلك لأنّ الصور الذهنيّة عبارةٌ عن المعرفة التي تحصل في جهاز الذهن، والذهن هو موطن العلم الحصوليّ، أو هو شأنٌ من شؤون النفس الذي يتعامل مع العلم الحصوليّ، أضف إلى ذلك أنّ التطابق وعدمه إنّما يُطرح في العلم الحصوليّ دون العلم الحضوريّ، ولكن سوف نُشير إشارةً إلى العلم الحضوريّ أيضًا.

شرح العنوان:

 يدور البحث في هذه الرسالة حول تطابق الصور الذهنيّة مع الخارج، ويدفعنا هذا العنوان إلى التأمّل في الأسئلة التالية: ما هو الذهن؟، وما معنى الصور الذهنيّة؟، وما معنى الخارج؟ و كيف تكون عمليّة التطابق؟ بعد ذلك يُطرح السؤال الأساسي التالي: كيف السبيل إلى معرفة ما إذا تطابقت الصور الذهنيّة مع الخارج؟، هذه هي الأسئلة المطروحة حول عنوان الرسالة، والسؤال الأخير هو السؤال الذي تسعى هذه الرسالة بأسرها إلى الإجابة عنه، كما تسعى للدفاع عن تلك الإجابة مقابل تشكيك المشكّكين، أمّا الأسئلة الأربعة الأولى فسنجيب عنها في القسم الأوّل ضمن أربعة فصول. ولكن نريد الإشارة فقط إلى أنّ المراد من الذهن هو آلة العلم الحصوليّ، وأنّ المراد من الصور الذهنيّة هو مطلق العلم الحصوليّ الشامل للتصوّر والقضيّة والتصديق، وأنّ المقصود من كلمة الخارج الواردة في عنوان الرسالة هو نفس الأمر الذي يَسَعُ وعاء الواقع الشامل للواقع الوجوديّ والواقع العدميّ، والتطابق تابع للحكاية كما سنشرح لاحقًا بشكلٍ مفصّلٍ.

السؤال الأساسي أو قطب الرحى:

 إنّ المحور الأصلي الذي تدور رحى التحقيق حوله في هذه الرسالة هو تطابق الصور الذهنيّة مع الخارج وهو عنوان الرسالة نفسه.

الأسئلة الفرعيّة أو مدار الرحى:

 للإجابة عن السؤال الأساسي الذي هو محلّ بحثنا في هذه الرسالة، علينا الإجابة بدايةً عن أسئلةٍ أكثر تفرّعًا، وهي الأسئلة التالية: ما هو الذهن؟، وما هي الصور الذهنيّة؟، وهل التصديق فعلٌ من أفعال النفس، أم صورةٌ ذهنيّة، أم كلاهما؟، هل هناك فرقٌ بين العنوان الذهنيّ والصورة الذهنيّة؟، وهل للأعدام والقضايا العدميّة صورٌ ذهنيّة؟، وما هي حدود نطاق الصور الذهنيّة؟، وهل تختصّ الصور الذهنيّة بالمفاهيم الماهويّة؟، وما هو المراد من التطابق؟، وهل تفسير التطابق بالوحدة الماهويّة أمرٌ صحيحٌ؟، وهل يصحّ تفسير التطابق بناءً على أساس الوحدة البنيويّة للذهن والعين (نظريّة فيتغنشتاين)؟، وهل التطابق تابعٌ للحكاية؟، وما هو المراد من الخارج؟، وهل الخارج هو نفس الأمر؟، وألا يوجد للتصوّرات نفس أمرٍ؟ ولماذا؟، وهل هناك مجالٌ للصدق والكذب في التصوّرات؟ وما هو الدليل؟، وهل لا يزال هناك من سبيلٍ للوصول إلى المعرفة مع كلّ هذا التشكيك الصادر عن المشكّكين؟، وفي الختام كيف يمكن الوصول إلى القضايا والتصديقات الضروريّة الصدق غير القابلة للتشكيك؟

الأهميّة والضرورة:

 لمعرفة أهميّة مسألة المعرفة وضرورتها يكفي أن نعلم أنّ قِوام الحركة المنطقيّة للحياة البشريّة تقع في إطار فهم الواقع المنزَّه عن الجهل المركّب، وبحث المعرفة ـ أي: موضوع هذه الرسالة ـ هو محاولةٌ لاكتشاف السبيل الذي أوصلنا إلى التطابق والصدق للتخلّص من الجهل المركّب بشكلٍ منطقيٍّ، فإذا عددنا همَّ الصدق بعنوانه أمرًا يضرب بجذوره في فطرة طلب الحقيقة الموجودة في النفس البشريّة، فسوف تكون مسألة المعرفة في الواقع تجلّيًا لمثل هذه الفطرة؛ وذلك مثلما كتبَ ابنُ سينا: «ومَن بلغ إلى أن يُصدِّق بأيّ شيءٍ اتفقَ بلا سببٍ، فقد انخلعتْ عنهُ الغريزةُ البشريّةُ»[1].

 وبناءً عليه، فمن يُصدِّق بأيّ شيءٍ كان، فهو خالي الوفاض من الفطرة الإنسانيّة ومنسلخٌ عن الآدميّة؛ لأنّ الفطرة الإنسانيّة تطلب الكمال، والعلم يعني: الفهم السليم للواقع وهو كمالٌ أيضًا، ومن كان لا يسعى إلى الفهم المنطقيّ للواقع فقد ابتعد عن الكمال ونأى عن الإنسانيّة، ومن هذا المنطلق يمكن لنا الوقوف على الفرق بين درجات العلوم من حيث أهميّتها وضرورتها.

 ويمكن النظر إلى المسألة من ناحيةٍ أخرى، وهي ناحية الأضرار الواقعة على الروح، فكما أنّ جسم الإنسان يقع أحيانًا تحت ثقل الأمراض، كذلك الروح والنفس قد تقع أحيانًا في معرض بعض الأمراض التي هي أشدّ بمراتب من الأمراض التي تُصيب البدن ويصعب علاجها أكثر، ومن جملة أمراض الروح: الجهل وعدم المعرفة كالسفاهة والجنون، ولذا قيل: «لا شكّ في أن اللاعقلانيّة مرضٌ يُصيب الروح، واللاعقلانيّة على نحوين: جنون وجهل. فالإنسان الذي يتعرّض لأيّ أمرٍ طارئ يُعرّضه للإصابة بأيّ منهما ينبغي تسميته مريضًا»[2].

 سنشير فيما يلي إلى عدّة نماذج من الآراء المطروحة في هذا الخصوص من باب التأكيد على أهميّة مسألة المعرفة وضرورتها:

كتبَ ابنُ سينا: «فلاح النّاس بطهارة الروح، وطهارة الروح تحصل بإغلاق الوجودات بداخله والابتعاد عن أقذار الطبيعة، والطريق إلى كليهما هو المعرفة، وكلّ معرفةٍ ليست موزونة بميزان [المنطق] فهي ليست يقينيّة، وفي الحقيقة ليست معرفة»[3].

ونقرأ في كتاب سير حكمت در اروپا [مسار الحكمة في أوروبا] ما يلي: «كان هذا الموضوع [أي: تشخيص الحقّ والباطل] واحدًا من المواضيع الفلسفيّة المهمّة على الدوام، بل يُمكن القول: هو الموضوع الأساسي للفلسفة»[4].

وكتب مينارد[5] ما يلي: «فقط ينبغي عدم الاكتفاء بالقول: إنّ البحث يتعلّق بحقيقة المسألة، بل يمكن القول أيضًا: هذا هو الموضوع الأساسي للفلسفة؛ لأنّ البحث في الحكمة هو نفسه بمنزلة البحث عن الحقيقة»[6].

وكذلك نقرأ حول أهميّة مسألة المعرفة وضرورتها: «يعتقد العديد من الفلاسفة أن الدور الأساسي للفلسفة... هو أنّه كيف يمكن الوصول إلى (الصدق)، وكيف يمكن تناول (تبرير المعرفة)، وكيف يمكن التفريق بين التصديقات الصادقة المبرَّرة، وبين التصديقات الكاذبة غير المبرَّرة»[7].

وفي الختام، يكفي في بيان أهميّة مسألة المعرفة وضرورتها أنّها تمثّل عمق البحث أو أنّها تلعب دور البطولة في قصّة الفلسفة: «تكاد تكون قصّة الفلسفة مع الحقيقة هي تمام قصّة الفلسفة»[8].

الصعوبات والتحديات:

 لا تقتصر مسألة المعرفة وتطابقها مع الخارج على كونها من أهمّ موضوعات التفكير البشريّ وحسب، بل هي من أصعب تلك المسائل أيضًا؛ لأنّ المعرفة تنظر هنا إلى ذاتها، وتتناول ذاتها بالبحث، وهذا البحث الذاتي للمعرفة هو في الواقع دراسةٌ وتحليلٌ واقعيٌّ حول الوصول إلى الواقع عن طريق الإدراكات المتنوّعة للعلم الحصوليّ التصوّريّ والقضوي والتصديقي، ولكنّ التحليل المنطقيّ لعمليّة الوصول إلى الواقع أصبح مع مرور الزمان مهمّةً صعبةً ويُواجه المصاعب بالتدريج، بحيث يمكن القول: إنّ ظهور المدارس المتنوّعة في تبرير المعرفة ـ التي سنتناولها في الفصل الخامس ـ هو في الواقع تجلٍّ وحكايةٌ لصعوبة بحث المعرفة، ولكن هذا كلّه لا يُعدّ مُبرِّرًا لليأس من حلّ هذه المسألة، بل هو منبّهٌ على ضرورة إعمال الدقّة بأقصى مراتبها.

السير التاريخي للبحث:

 إذا جعلنا الهدف الموضوعي للفلسفة هو دراسة الحقيقة، وجعلنا جلّ اهتمام الفلاسفة هو «معرفة الواقع»؛ فإذًا يمكن عدُّ مسألة قيمة المعرفة ــ أي: تطابق الصور الذهنيّة مع الخارج ــ هي محور عمل الفلسفة.

 لقد طُرحت هذه المسألة أحيانًا كمسألةٍ مستقلّةٍ، كما بُحثت أحيانًا أخرى ضمن أبحاث أخرى، فقد طرح أفلاطون في رسائله مسألة المعرفة على لسان سقراط، وتناول هذه المسألة صراحةً ضمن رسالة ثئيتتس، كما انشغل فلاسفةٌ آخرون على مدى التاريخ بتناول هذه المسألة بطرقٍ مختلفةٍ، وقد حصل الفلاسفة المسلمون على نصيبهم من البحث والتحقيق في مسألة المعرفة أيضًا، وتتّضح مساعيهم بشكلٍ جليّ في كلٍّ من: بحث الوجود الذهنيّ وبحث العلم، وبالخصوص في صناعة البرهان ومبادئه.

 وفي الوقت عينه، أصبح بحث المعرفة فرعًا حديث النشأة انضّم إلى قافلة العلم في القرن العشرين بوصفه تخصّصًا علميًّا مستقلًّا تحت اسم نظريّة المعرفة، ولكن حداثة هذا التخصّص العلميّ لا يعني أنّه يفتقر إلى الأساس؛ لأنّ الفلسفة کانت تتضمّن سابقًا جزءًا من نظريّة المعرفة الذي يمكن تسميته «قسم ما بعد فلسفة الفلسفة، كما تولّى المنطق قسمًا من الدور الذي تقوم به نظريّة المعرفة، ولكن في عصرنا الحاضر يتمّ البحث حول هذه السلسلة من الأبحاث في علم نظريّة المعرفة، وبكلّ الأحوال مسألة المعرفة قديمةٌ قِدَم تاريخ المعرفة فلا يسعُنا البحث بشكلٍ مفصّلٍ عن سيرها التاريخ في هذا المجال.

الرسالة الحاضرة:

 أشرنا إلى أنّ مسألة المعرفة والتطابق مع الخارج من أكثر الموضوعات تجذّرًا، والتي لطالما داعبت خيوط الفكر البشريّ، فجعلت الحكماء والفلاسفة ينخرطون بنحوٍ ما في هذا البحث، وما تزال حتّى الآن معركةُ الآراء قائمةً في ساحة نظريّة المعرفة المعاصرة.

 والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: مع هذه المحاولات كلّها التي بُذلت في سبيل حلّ معضلة المعرفة، هل ما زال هناك مجالٌ للبحث حول هذه المسألة أم لا؟ ولكن مع القليل من التأمّل في أطراف الموضوع وجوانبه نستنتج أنّه لا يقتصر الأمر على وجود المجال لمزيدٍ من التحقيق في هذه المسألة وحسب، بل أنّ التحقيق فيها يُعدّ أمرًا ضروريًّا؛ لأنّنا إذا ألقينا الآن نظرةً سريعةً على نظريّة المعرفة الغربيّة المعاصرة، سنجد أنّها تنازع بين الحياة والموت[9]، وذلك ناشئ من الصعاب التي مرّت عليها وأثرت في أفكار البشر بنحوٍ ما، وهنا يُطرح السؤال الأصلي مجدّدًا: هل يمكن واقعًا إثبات تطابق الصور الذهنيّة مع الخارج؟ وأين يكون ذلك؟ وكيف؟

 تُمثّل هذه الرسالة إجابةً عن السؤال أعلاه، مع الأخذ بعين الاعتبار الأزمات التي مرّت عليها والموجودة حاليًا أيضًا في الشكوكيّة المعاصرة.

البناء المنطقيّ لهذه الرسالة:

 نعلم أنّ أيّ مسألةٍ أو أيّ رسالةٍ علميّةٍ لا تكون ذات بناء منطقي إلّا إذا تمّ إعدادها بطريقةٍ يتمّ البحث عن كلّ موضوع فيها بنحوٍ يبتني على البحث في الموضوعات السابقة بشكلٍ منطقيٍّ، ونحن بدورنا سعينا كذلك إلى إجراء هذا النوع من النظم في هذه الرسالة إلى حدٍّ ما، ومن هذا المنطلق، بدايةً سنرتّب القسم الأوّل من الرسالة بناءً على عنوان الرسالة في أربعة فصولٍ نتعرّض فيها بالترتيب لما يلي: الذهن، والصّور الذهنيّة، والخارج، والتطابق.

 وسنتطرّق بعد ذلك إلى القسم الثاني الذي يدور حول المعرفة والتطابق، ويحوي ثلاثةَ فصولٍ حول طبيعة المعرفة وضرورة التبرير، والصور الذهنيّة والتطابق، والقضايا وتحدّي الصّدق.

 ثم ندخل إلى القسم الثالث الذي يدور حول المعرفة والشكوكيّة، ويشمل هذا القسم ثلاثةَ فصولٍ تحت العناوين التالية: معالم الشكّ واليقين، ومنازل الشكوكيّة السبع، والعبور عن منازل الشكوكيّة السبع. وسنختبر في القسم الثالث المعرفة عبر معيار اختبار الشكوكيّة؛ وذلك لأنّ المعرفة بالمعنى الأخصّ[10]، أو اليقين بالمعنى الأخصّ هو تصديقٌ جازمٌ مطابقٌ للواقع منطقيًّا ولا يقبل التشكيك؛ لذا ينبغي اختبار هذا الادّعاء في منازل الشكوكيّة السبع، وهذا ما سنقوم به؛ ومن ثَمَّ، سيُختم بحث الشكوكيّة بطرح نموذج الابتناء، أي: ابتناء النظريّات على البديهيّات.

 ويشتمل البناء المنطقيّ لهذه الرسالة على مقدّمةٍ وخاتمةٍ أيضًا، فقد وضّحنا بعض النقاط في المقدّمة، وسنقدّم خلاصةَ البحث في الخاتمة، ومن ثمَّ سوف نختتم الرسالة.

 يبدأ سيرُ بحثنا من توضيح المقدّمات والعناصر التصوّريّة والتصديقيّة لموضوع الرسالة وبيانها ليصل بنا البحث إلى محوره، أي: قيمة المعرفة والتطابق، بعد ذلك سيتمّ طرح منازل الشكوكيّة السبع، ثمّ سنسعى إلى العبور من تلك المنازل السبعة، وسوف يكون اتّجاه مسيرنا في سلسلة الأبحاث هذه على هذا النحو: ينطلق سير البحث من أزقّة الشكوكيّة حيث نفترض أنّنا التقينا بأحد الشكّاكين في كلّ عنصرٍ من عناصر البحث، وهو يُشكّك في ذلك العنصر، مثلًا إذا قلنا: صورٌ ذهنيّة يَسألُ: ماذا معنى ذلك؟، وإذا قلنا: تطابق يَسأل: ما معناها؟، وإذا قلنا: صدق القضايا يَسأل: أليس للصدق ما بإزائه؟!، وإذا قلنا: في نهاية المطاف القضيّة إمّا صادقة وإمّا كاذبة فيَسأل: إنّ مفارقة[11] الكاذب تتربّص بكم!، وإذا قلنا: لدينا قضايا بديهيّة ونظريّة، يَسأل: ما معنى البداهة؟، وإذا قلنا: القضايا الوجدانيّة ضروريّة الصدق، يسأل: من أين علمتَ أنّ القضايا الوجدانيّة لم تحصل لك في ضوء تفسيرٍ خاصٍّ مقرونٍ بتفاعل الذهن والعين؟!، وإذا قلنا: القضايا الأوليّة والقضايا التحليليّة ـ بوصفها من القضايا الأوليّة ـ هي قضايا يقينيّةُ الصدق، فيَسأل: كيف لك أن تعلم أنّك لست في عالم الرؤيا الآن؟! و...، وفي المقابل، سنعمل على التدقيق في البحث مع السعي إلى نظم أيّ شيءٍ غير منتظم، وقد يكون هذا سببًا من الأسباب التي تجعلنا نُفصّل في كلّ عنصرٍ عنصرٍ من البحث.

 سوف نعمل في هذه السلسلة من الأبحاث على إثبات التطابق في التصوّرات والتصديقات، وسنبين القضايا البديهيّة والضروريّة الصدق والثابتة منطقيًّا وغير القابلة للتشكيك والتي تعدّ مبادئ المعرفة التي يمكن استعمالها في القياس، والتي يمكن الوصول من خلالها أيضًا إلى قضايا أخرى ضروريّة الصدق تكون بدورها يقينيّةً غير قابلةٍ للتشكيك ومصانةً عن التشكيك فيها منطقيًّا، وكما أشرنا سابقًا سوف نعمل على النمذجة، وسنقدّم نموذجًا مبنيًّا على أساس ابتناء النظريّات على البديهيّات.

 

-------------------------------------

[1]. ابن سينا، النجاة، 91-92

[2]. أفلاطون، دوره آثار افلاطون، 3: 1790.

[3]. ابن سينا، دانش نامه علائي، رساله منطق، 10.

[4]. فروغى، سير حكمت در اروپا،  556.

[5]3. Meynard

[6]. مينار، شناسايى وهستى، 71.

[7]. Pojman, Theory of Knowledge: Classical and Contemporary

,1.

[8]. زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، 1: 377.

[9]. See: Rotry, Philosophy and the Mirror of Nature, & Baynes, After Philosophy, & Dancy and  Sosa, A Companion To Epistemology, 88-91.

[10]. سترد أبحاث تفصيلية حول كيفية الوصول إلى المعرفة أو اليقين بالمعنى الأخص في القسم الثاني والفصل العاشر.

[11]. عادة ما يستخدم المشكّكون مفارقة الكاذب (liar Paradox) لإنكار المعرفة وتبرير إمكان استحالة اجتماع النقيضين، وإحدى علل تجنب نظرية التطابق، وسوف نتعرض إلى هذه المسألة في الفصل الرابع.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف