أثر المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير في الدراسات القرآنية المعاصرة عند الحداثيين دراسة نقدية

أثر المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير في الدراسات القرآنية المعاصرة عند الحداثيين دراسة نقدية

تأليف

رقيّة حيدر طاهر القاضي

 

فهرس المحتويات :

الفصل الأول: المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة ودراستها العربيّة والقرآنيّة

المبحث الأول: المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة والدراسات العربيّة والإسلاميّة

المطلب الأول:  الاستشراق الفرنسي، النشأة، التطوّر، الخصائص

المطلب الثاني: محاور الدراسات الإسلاميّة في المدرسة الاستشراقية الفرنسية

المبحث الثاني: المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة ودراساتها القرآنيّة

المطلب الأول:  (دراسات المستشرقين الفرنسيين للقرآن الكريم: أوجه الاهتمام، الاتجاه، الدوافع، المناهج، العقبات، خصائص تلك الدراسات)

المطلب الثاني: دراسات المستشرقين الفرنسيّين لتأريخ القرآن الكريم وعلومه

الفصل الثاني: المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير ودراساته العربيّة والقرآنيّة

المبحث الأول:  المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير ودراساته العربيّة والإسلاميّة

المطلب الأول:  : المستشرق ريجيس بلاشير «النشأة، السيرة، دراساته، مؤلفاته،  وأقوال العلماء العرب والغرب فيه»

المطلب الثاني: «ريجيس بلاشير ودراساته العربيّة والإسلاميّة»        

المبحث الثاني: المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير ودراساته القرآنيّة

المطلب الأول:  «دراسات بلاشير للقرآن الكريم: الاتجاهات، الأساليب، العقبات، المناهج، الخصائص، المآخذ»

المطلب الثاني: دراسات المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير لتأريخ القرآن وعلومه

الفصل الثالث: الدراسات القرآنيّة للحداثيين وأثر آراء المستشرق الفرنسي  ريجيس بلاشير فيها

المبحث الأول: الحداثة ــ مفهومها والتعريف بأهم المشاريع الحداثية وأصحابها

المطلب الأول: : الحداثة العربيّة: المفهوم، النشأة، التطور، الخصائص

المطلب الثاني: أهم الحداثيين العرب ومشاريعهم الفكرية ودراستهم للتراث والنص القرآني

المبحث الثاني: أثر المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير في آراء الحداثيين ودراساتهم القرآنيّة

المطلب الأول: الدراسات القرآنيّة للحداثين وأثر آراء المستشرق الفرنسي  ريجيس بلاشير فيها -عرض ومقابلة-

المطلب الثاني: نقد ومناقشة آراء الحداثيين العرب المتأثرين بالمستشرق الفرنسي  ريجيس بلاشير في دراساتهم القرآنيّة

 

مقدمة المركز

تُعتبر المؤلَّفات الَّتي كتبها المستشرق الفرنسي «ريجي بلاشير» واحدة من أكثر الكتابات مرجعيَّة في عالم الاستشراق، حيث اكتسبت مؤلَّفات هذا الرَّجل عن القرآن الكريم، والتَّفسير والنبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) قيمتها وسط دوائر المستشرقين الغربييِّن، وممَّا زاد أيضًا من أهمِّيَّة كتابات «بلاشير» هو دخوله للمجامع العلميَّة العربيّة الَّتي نشر فيها عشرات الأبحاث، والدِّراسات الَّتي تناولت العرب والمسلمين. وقد أثار «بلاشير» في ترجمته للقرآن الكثير من الأفكار السَّلبيَّة، والشُّبهات السَّيِّئة الَّتي عمل جاهدًا على أن تطال كلَّ ما يتعلَّق بنزول القرآن، وبداية تدوينه، وعلومه، وتفسيره، ومن بين ما سعى «بلاشير» إلى إثباته بوسائل مختلفة عنوانها التَّحريف، والتَّدليس هو إشاعة الاعتقاد بأنَّ القرآن الكريم كتابٌ من عند «محمّد» ومن تأليفه، بل ذهب «بلاشير» إلى أبعد من ذلك بقوله أنَّ النَّبيَّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأخذ قرآنه من أشخاص معيَّنين، سواء أكانوا يهودًا، أو نصارى، أو غير ذلك، وله في هذا الشَّأن جملة من الافتراءات منها على سبيل المثال لا الحصر قوله: «كانوا وقتئذ في الأوساط الكنسيَّة، يتصوَّرون دعوة محمّد عملٌ منشق يدَّعي بأنَّه ملهمٌ من الله، بينما كان في الواقع قد تلقَّى تعاليمه من راهبٍ خارجٍ عن العقيدة القويمة»[1] .

وهذا ما يبرز أهمِّيَّة القراءة المنهجيَّة النَّقديَّة للمستشرق الفرنسي بلاشير في كتاباته حول القرآن والإسلام، إذ كغيره من كبار المستشرقين، لم يتمكَّن من تقديم قراءة موضوعيَّة منصفة للدِّين الإسلامي.

لمّا كان «بلاشير» ينظُرُ إلى القرآن الكريم باعتباره كِتابًا من عندِ «محمّد» ومن تأليفه، فإنَّه لا يتوقَّف عن الإشارة بين الحين والآخر إلى مصادر مختلفة لأخذ النَّصِّ القرآني عنها، والتَّأسيس عليها لإنكار المصدر الإلهي للوحي، ففي الصَّفحة 45 من كتابه «القرآن نزوله تدوينه ترجمته وتأثيره» يحاول «بلاشير» بشكل مباشر الإشارة إلى حال الاضطراب النَّفسي الَّتي كان يعيشها النَّبيِّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: «كان محمّد مضطربًا متردِّدًا في قواه، قريبًا إلى اليأس أمام ضخامة رسالته»[2] ، وقد سعى «بلاشير» من خلال هذه الجملة إلى إنكار المصدر الإلهي للوحي، وإرجاعه إلى حال من الاضطراب النَّفسي العاطفي الَّتي يزعم أنَّ النَّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعيشها، ومدى تأثير ذلك في ما سيقوله محمّد بعد ذلك على أنَّه وحيٌ من عند الله، فما يبتغيه «بلاشير» من وراء هذه الفكرة السَّلبية هو القول بأنَّ خيال محمّد الواسع، وإحساسه العميق بالمسؤوليَّة، وعقله الكبير، وذكاءه الوقَّاد وذوقه السَّليم، وغير ذلك ممَّا كان له من تأثير تجلَّى في ذهنه، حتَّى بات يُحدِثُ في عقله الباطن الرُّؤى، والأحوال الرُّوحيَّة، فيتصوَّر أنَّ ما يعتقده إلهيًّا نازلًا عليه من السَّماء من دون واسطة، أو عن طريق رجل يتمثَّل له يلقِّنه ذلك، أو يسمعه يقول له شيئًا في المنام بأنَّه وحيٌ. فالقرآن كما يحاولُ «بلاشير» ترسيخه هنا في ذهن القارئ هو شيء من هذا الَّذي كان محمّد يراه ويتخيَّله، وأنَّ كل ذلك نابع من نفسه، ومن عقله الباطن، وصورةٌ لأخيلته الَّتي انطبعت في نفسه بما يحيط بها من شائعات في بيئته، فامتلأ بها عقله، ففاضت بذلك نفسه ثمَّ صاغها بأسلوبه المؤثِّر، وخياله الخصيب، نتيجة لخلواته الخاصَّة بالغار، وتأمُّلاته العميقة فيه.

إلَّا أنَّ الحقيقة غير ذلك طبعًا، إذ إنَّ الأدلَّة النَّقليَّة، والعقليَّة الَّتي تؤكِّد بطلان هذه الفرية كثيرةٌ جدًا، ومنها قوله سبحانه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3-4)، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة: 44-47)، وكذلك قوله عَزَّتْ آلاَؤُهُ: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ (النساء: 163).

وكذلك وصفه(صلى الله عليه وآله وسلم) لكيفيَّةِ إتيان الوحي إليه عندما سأله الحارث بن هشام عن ذلك، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «أحيانًا يَأْتيني مِثلَ صَلصلةِ الجَرسِ، وهوَ أَشَدُّ عليَّ، فيَفصِمُ عنِّي وقد وَعَيتُ عنهُ ما قالَ، وأحيانًا يتمثلُ ليَ الملَكُ رجُلًا، فيكلِّمُني، فأَعي ما يقولُ»[3].

أمَّا الأدلَّة العقليَّة فكثيرة كذلك، ومنها أنَّ «بلاشير» بنى هذه الشُّبهة على مقدِّمةٍ مبناها أنَّ فكرة الوحي تكوَّنت نتيجة تشبُّع العقل الباطن بما في البيئة الَّتي نشأ فيها النَّبيُّ من ثقافات، وعقائد، وغير ذلك ممَّا جعل نفسه الصَّافية تفيض بما فيها من ذخائر، وقد فصَّلت القول في كلِّ ما زعمه «بلاشير» بوصفها ركائزَ للوحي النَّفسي من ثقافة يهوديَّةٍ، ونصرانيَّة، ووثنيَّةٍ، وغير ذلك من المصادر الَّتي زعمها للقرآن الكريم.

ولا شكَّ أنَّ الواقف على ذلك كلِّه يجدُ أنَّ الوحي كان ينزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في أوقاتٍ عدَّة، وبأشكال مختلفة، فقد كان يأتيه في ظروفٍ اعتياديَّة، وأحيانًا أخرى ينقطع عنه في ظروفٍ عصيبةٍ حتَّى وإن كان بأشدِّ الحاجةِ إليه ليمتحِن الله رسوخ إيمان عبيده، وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ الوحي كان خارجًا عن ذاته، وليس له فيه أدنى تدخُّل. كما أنَّ النَّاظر لهذا الدِّين، وحقيقته يجده فريدًا متميِّزًا صافيًا بكلِّ ما جاء من عقائد وشرائع عمَّا كان موجود في الوسط الَّذي كان يعيش فيه النَّبيُّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد جاء هذا الدِّين عامًّا شاملًا لكلِّ نواحي الحياة، سهلًا في عبادته، دقيقًا في معاملاته، رادعًا في حدوده، فذًّا في نُظُمه الاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة، وغيرها، عظيمًا في أخلاقه، وآدابه، إلى غير ذلك من المزايا، والفضائل. أفكُلُّ هذه العقائد، والنُّظُم، والتَّشريعات كانت مذكورة مدَّخرةً في نفس النَّبيِّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو ابن البيئة المختلفة العقائد، والفقيرة الموارد، المختلفة الأنظمة، والمضطربة الأخلاق والآداب؟

فهذا الإسلام بعظمته، والقرآن بربَّانيَّته يُبطِلُ كُلَّ مزاعم «بلاشير» الطَّاعنة في المصدر الإلهي للوحي، كما أنَّ العلم الحديث يكشف كلَّ يومٍ لنا أسرار آياتهٍ في الأنفس، والآفاق ما يؤكِّد أنَّه من تنزيل إلهيٍّ، وليس فيه أدنى شيء لعقلٍ بشري، لأنَّه أعجز من أن يؤلِّف شيئًا مثل آياته.

ولا يكادُ يُنهي «بلاشير» حديثه عن الاضطرابات النَّفسيّة الَّتي يدَّعي أنَّ النَّبيَّ كان يعيشها، وأثرها في (ظاهرة الوحي)، حتَّى يُتبِعها بحديثه عن مصادر أخرى للوحي؛ يهوديَّة كانت، أو نصرانيَّة، أو وثنيَّة. ويسوِّق لأفكار لا غرض له من ورائها إلّا التَّشكيك في إلهيَّة القرآن الكريم، فعند حديثه عن اليهوديّة بصفتها مصدرًا للوحي يحاول أن يستدلَّ على ذلك من خلال تشابه القرآن والكتب اليهوديّة في بعض القصص، كقصَّة ابنَي آدم(عليه السلام)، وقتل أحدهما للآخر، وقصَّة إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وإنقاذه من نار النَّمرود، وقصَّة سليمان(عليه السلام) مع ملكة سبأ، وقصَّة هاروت وماروت، وقصَّة موسى(عليه السلام) وبعض مواقفه، وغيرها من قصص. أو عند حديثه عن النصرانيّة بوصفها إحدى مصادر الوحي حين يقول: «كانوا وقتئذ في الأوساط الكنسيَّة، يتصوَّرون دعوة محمّد عملَ منشقٍّ يدَّعي بأنَّه ملهمٌ من الله، بينما كان في الواقع قد تلقَّى تعاليمه من راهبٍ خارجٍ عن العقيدة القويمة»[4] ، وهي شبهات سيأتي الردُّ عليها ومناقشتها في هذا الكتاب.

نتقدّم بالشكر للأخت رقية حيدر طاهر القاضي والثناء على جهودها البحثية في كتابة هذه الدراسة القرآنيّة، وهي جزء من متطلّبات نيل درجة الماجستير في قسم علوم القرآن الكريم والحديث الشريف في جامعة الكوفة.

 

مقدمة المؤلف

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمّد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الكرام الطاهرين وبعد..

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ (الإسراء: ٩).

ممّا لا يخفى على أي باحث في مجال الدراسات القرآنيّة المعاصرة سواء على الصعيدين الاستشراقي أم الحداثي، أن للاستشراق دورًا فاعلًا في توليد الشبهات ومساهِمًا في طرح الإشكالات التي انطلق منها الحداثيون في دراساتهم ونقدهم للنص القرآني الكريم بدعوى عصرنته ونقده وجعله نصًّا صالحًا لكل ظروف الزمان والمكان.

وجاء تناولنا لموضوع الدراسة تحت عنوان: (أثر المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير في الدراسات القرآنيّة عند الحداثيين -دراسة نقدية-)؛ انطلاقًا مما يشهده العالم العربي الإسلامي اليوم من دراسات وجهود حداثية لتقديم دراسات قرآنيّة بما يتلاءم مع المناهج الاستشراقيّة التي استند عليها الحداثيون في دراساتهم واستمدّوا منها جلّ أفكارهم وأبحاثهم وآرائهم، ولم يشرْ أغلبهم إلى تلك الدراسات من قريب أو بعيد، بل نسب بعضهم هذه الآراء إلى نفسه كما فعل الجابري في مناولته لترتيب القصص القرآني بحسب تأريخ نزولها، وانطلاقًا مما تشهده هذه الدراسات من الأهمية لاعتماد طبقة كبيرة من النخبة المثقفة على ما قدمه هؤلاء الحداثيون؛ إذ أخذوا يتلقّفون تلك الآراء والأفكار التي قدّموها في المجال القرآني وأخذوا بها أخذ المسلمات.

وقد هدفت هذه الدراسة إلى تتبّع الأثر الاستشراقي للمستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير في الدراسات القرآنيّة عند الحداثيين ودراسة تلك الآراء ومن ثم نقدها وردها، وفي هذا الإطار اخترنا في البحث نماذجًا من الحداثيين ممن وجدنا، عند تتبّع أغلب كتاباتهم، أثرًا كبيرًا للمستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير في آرائهم ومؤلفاتهم القرآنيّة، بالرغم من أن هذه الصفحات لم تكن كافية لطرح كل تلك الآراء والأفكار التي وجد البحث فيها أثرًا استشراقيًّا واضحًا في ملامحها ومعالمها.

وإن السبب والتوجّه الرئيس لاختيار هذا الموضوع بالبحث والتحليل والنقد يرتبط بضرورة التصدّي العلمي والبحثي الأكاديمي لما يواجهه القرآن الكريم من هجوم ومطاعن من طرف بعض المستشرقين ومن تبعهم وتأثّر بهم من الحداثيين لتشويه صورته ومضامينه والتشكيك في أصالته والحط من قيمته، فكان ذلك دافعًا لاختيار هذا الموضوع والبحث فيه من كل جوانبه، لا سيّما تتبع موقف المنظومة الفكرية الفرنسية بشكل عام، واخترنا على نحو الخصوص دراسة آراء المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير.

 ورغبةً من الباحثة في سُبر أغوار الاستشراق والحداثة، فإنّه لطالما كانت رغبتنا في الوصول إلى غاية المُبتغى في التعرف على كل ما طرحه أصحاب الفكر الاستشراقي ومن بعده الفكر الحداثي في دراساتهم التي قدموها حول القرآن الكريم، والتعرّف على كل ما يحمله الآخر الغربي من منطلقات وأهداف ودوافع جذبته وأوصلته نحو نقطة البدء للخوض في غمار البحث القرآني، فالآخر الغربي وإن كان قد انغرست فيه الثقافة العربيّة أو ترعرع في وسط عربي ومسلم "ولأغراض متنوّعة"، ربما تكون دراسة أو تدريس مثل المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير (موضوع الدراسة)، أو لأجل علاج "مثل المستشرق والطبيب الفرنسي موريس بوكاي، أو لأجل أهداف تنصيرية أو تبشيرية كما يُعبر عنها، فأيًا كانت تلك الدوافع والتوجّهات والغايات، يبقى المستشرق أعجميًا عن اللغة العربيّة وأعجميًا عن القرآن الكريم، ومهما بلغ من معرفة واطلاع، فهو عاجزٍ عن تمثّل اللغة وفهم مدارِكها وفقه مداليلها، سيّما أن لغة القرآن الكريم كان قد عجز أمام تحدّيها ومجاراتها جهابذة الفصاحة والبلاغة من العرب، فأنى لمستشرقٍ أو مستعربٍ أن يفقه ويصل إلى مضامين معاني القرآني الكريم ومداليلها؟، لذلك مهما بلغ المستشرق من السعة والمعرفة والعلم والاطلاع، فإنه لا ينبغي التسليم والركون إلى كل ما جاء به وقدّمه سيّما ما يتعلّق بالقرآن الكريم، وبذلك جاء عنوان موضوعنا هذا ليخدم الدراسات القرآنيّة لما وجد البحث من الأثر الكبير لآراء بلاشير في الدراسات القرآنيّة عند الحداثيين.

وتتجلّى أهمية البحث في «أثر المستشرق بلاشير في الدراسات القرآنيّة عند الحداثيين»؛ إذ إن تأثّر الحداثيين بمناهج المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير وآرائه يلزم منه وقوعهم في الأخطاء التي وقع بها هذا المستشرق، وقد عالج البحث في هذه الدراسة -قدر تمكّننا وما وسعنا من الوقت- قضيّةً في غاية الدقة والحساسية؛ حيثُ عَبَرَ بين دفتي الاستشراق والحداثة بمعالجات ومقاربات بحثية، وتحليلية ونقدية؛ للوصول إلى مبتغاه وهدفه البحثي.

اقتضى البحث تقسيم العمل إلى تمهيد وثلاثة فصول مترابطة تؤدّي بعضها إلى بعض تدريجيًّا، وكل فصل يحتوي على مبحثين ومطلبين، كما جعل البحث لكل فصلٍ توطئة لتوضيح أساسيات ومحاور الفصل، ومن ثم خاتمة في نهاية كل فصل تضمّنت تلخيصًا لكلّ ما توصّل إليه البحث من ذلك الفصل والنتائج التي اشتملت عليها الدراسة في كل فصل، ثم تلت هذه الفصول الثلاثة خاتمة بأهم ما توصّل واشتمل عليه البحث، ثم أردفت الخاتمة بأهم النتائج التي توصّل إليها البحث، ومن ثم بمجموعة من التوصيات التي انبثقت من البحث، وأخيرًا إدراج قائمة مصادر البحث ومراجعه.

فجاء الفصل الأوّل تحت عنوان: «المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة ودراساتها العربيّة والقرآنيّة».

 وأولى خطوات البحث التعريفُ بالمدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة وأهم الدراسات التي قدّمتها في مجال الدراسات العربيّة والقرآنيّة، وجاء المبحث الأول منه بعنوان: «المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة والدراسات العربيّة والإسلاميّة»، والذي احتوى بدوره على مطلبين:

المطلب الأوّل: تناول البحث فيه: الاستشراق الفرنسي، النشأة، التطور، الدوافع، الأهداف، طبيعة الدراسة، الخصائص.

أما المطلب الثاني: والذي تناول البحث فيه: محاور الدراسة التي تناولتها المدرسة الاستشراقية الفرنسية في الدراسات الإسلاميّة «الدراسات القرآنيّة، السيرة النبويّة، اللغة العربيّة، الفلسفة الإسلاميّة»، وتكفّل المبحث الأول من هذا الفصل تكوين صورة إجمالية على نحو -الإيجاز مع الإيضاح- عن مفهوم الاستشراق الفرنسي ودوافعه والتعرّف على نشأة وأهداف المدرسة الاستشراقية الفرنسية ومراحل تطورها، ثم بيان دراسة المستشرقين الفرنسين للدراسات العربيّة والإسلاميّة.

 وتكفّل المبحث الثاني في: «المدرسة الاستشراقية الفرنسية ودراساتها القرآنيّة»، والذي احتوى مطلبين: المطلب الأول منه جاء بعنوان: «دراسات المستشرقين الفرنسيين للقرآن الكريم: الاتجاه، الدوافع، المناهج، العقبات، خصائص تلك الدراسات».

أمّا المطلب الثاني فتكفل توضيح: دراسات المستشرقين الفرنسيين لتأريخ القرآن الكريم وعلومه «الوحي ومصدرية القرآن الكريم، المكي والمدني، جمع القرآن الكريم وتدوينه، ترتيب السور والآيات القرآنيّة».

أمّا الفصل الثاني من البحث فكان بعنوان: «المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير ودراساته العربيّة والقرآنيّة» وقسمناه إلى مبحثين: جاء المبحث الأوّل منه بعنوان: «المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير ودراساته العربيّة والإسلاميّة» والذي احتوى مطلبين: المطلب الأول منه كان بعنوان: «المستشرق ريجيس بلاشير، السيرة، النشأة، دراساته، مؤلّفاته، أقوال العلماء العرب والغرب فيه»، أمّا المطلب الثاني فتكفل في توضيح: «دراسات المستشرق ريجيس بلاشير العربيّة والإسلاميّة».

أمّا المبحث الثاني فتكفل في دراسة: «المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير ودراساته القرآنيّة»، والذي احتوى مطلبين: المطلب الأوّل منه جاء بعنوان: «دراسات بلاشير للقرآن الكريم: الاتجاهات، الأساليب، المناهج التي اتبعها، الخصائص، العقبات، المآخذ».

أمّا المطلب الثاني فتكفل في إيضاح: «دراسات المستشرق ريجيس بلاشير في القضايا القرآنيّة: ترجمته للقرآن الكريم ومعانيه، دراساته لتأريخ القرآن الكريم وعلومه».

وكان الفصل الثالث هو ختام البحث والذي جاء بعنوان: «الدراسات القرآنيّة الحداثية وأثر آراء المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير فيها -عرض ونقد-».

في المبحث الأوّل من هذا الفصل والذي جاء بعنوان: «الحداثة ومفهومها والتعريف بأهم المشاريع الحداثية وأصحابها» كان التركيز فيه على بيان أهم المشاريع الحداثية الذين وجد البحث لديهم تأثرًا كبيرًا بآراء المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير في دراساتهم ومؤلفاتهم القرآنيّة.

كما تكفّل المبحث الثاني منه والذي جاء بعنوان: «أثر المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير في الدراسات القرآنيّة لدى الحداثيين – دراسة ونقد» بعرض تلك الآراء ومقابلتها ومطابقتها ومقارنتها مع آراء بلاشير في المطلب الأول من هذا المبحث، وكذلك التعرف على نظرياتهم وآلياتهم التحليلية وأدواتها، ثم بيان تحليلي لنماذج تطبيقية لدراساتهم القرآنيّة وأثر آراء بلاشير فيها.

أما المطلب الثاني من المبحث فقد تم فيه تقديم دراسة نقدية للآراء والأفكار التي طرحها الحداثيون والتي وجد البحث فيها أثرًا استشراقيًا للمستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير فيها، فيما يتعلق (بتأريخ القرآن الكريم وعلومه)، حيث قام البحث بنقد تلك الآراء وردها بالاعتماد على المصادر الإسلاميّة الموثوقة.

وفي الخاتمة فقد توصلت الدراسة إلى أنه كان لآراء المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير في دراسات الحداثيين القرآنيّة حضور كبير وواضح، سواء أصرّح هؤلاء الحداثيون بالاعتماد على النتائج التي توصّل إليها بلاشير نفسها أم لم يصرّحوا بذلك، نسأله تعالى بأن نكون قد وُفّقنا إلى تقديم دراسة علمية نقدية قيّمة ينتفع بها كل من طرق باب العلم والمعرفة، وأن تكون دراستنا هذه هي خطوتنا الأولى لما نقدمه لقادِم الأيام بعونه وتوفيقه تعالى.

آملين من الله العليّ القدير أن نكون قد وُفقنا في هذا البحث وتمكّنّا من إعطائهِ حقه ولو بالشيء اليسير، راجين منه تعالى أن يتقبّل هذا الجهد المبذُول بقبولِهِ الَحسِن، وأن يجعله عِلْمًا يُنتفع به، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.                   

في الختام أتقدّم بوافر الشكر والعرفان والتقدير إلى كل من قدّم لي يد العون والدعم بنصح وتوجيه وتشجيع وكلمة طيبة من قريب أو بعيد من الأهل والأقارب والأصدقاء، زملاء الدراسة والعمل والدرب الطويل. ولا سيّما لأستاذي المشرف الأستاذ الدكتور ستار الأعرجي المحترم، الذي احتضن البحث مرشدًا وموجهًا.

وأتوجه بالشكر لوالديّ الكريمين.. بِرًا وإحسانًا ووفاءً لهما، وإلى إخوتي الكرام الأفاضل (الأستاذ مصطفى والأستاذ منتظر)، وإلى الأساتذة أعضاء لجنة المناقشة الموقّرة، وأساتذتي في كلية الفقه الموقرة.

 

--------------------------

[1]- بلاشير، ريجي، القرآن نزوله وتدوينه وترجمته وتأثيره، ص12.

[2]- بلاشير، ريجي، القرآن نزوله تدوينه ترجمته وتأثيره،  ص45.

[3]- البخاري، محمّد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ج1، ص4.

[4]- بلاشير، ريجي، القرآن نزوله وتدوينه وترجمته وتأثيره، ص12.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف