المنهج الفلسفي

المنهج الفلسفي

تأليف :

السيد يد الله يزدان ‌پناه

الإعداد والمتابعة :

روح الله فروغي

 

فهرس المحتويات :

الفصل الاول: المنهج المشائي

المبحث الأول : أركان المعرفة اليقينية

المبحث الثاني: معيار البداهة التصورية في المفاهيم البديهية

المبحث الثالث: أنواع فعاليات العقل النظري

المبحث الرابع: البرهان المستعمل في الفلسفة

الفصل الثاني: المنهج الإشراقي

المبحث الأول: توضيحات حول فلسفة الإشراق

المبحث الثاني: مصادر فلسفة الإشراق

المبحث الثالث: إطلالة على دور السهروردي في تطوير الفلسفة الإسلامية

الفصل الثالث: المنهج الصدرائي

المبحث الاول: المنهج الفلسفي في الحكمة المتعالية

المبحث الثاني: استيعاب المفاهيم الإسلامية في الحكمة المتعالية

المبحث الثالث: هضم تعاليم العرفان النظري في الحكمة المتعالية

 

مقدمة المركز

الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين، وبعد...

المنهج لغةً: النهج والمنهج والمنهاج، وجمعه مناهج، الطريق الواضح ، ونهج لي الأمر: أوضحه . واستخدم في القرآن الكريم بهذا المعنى، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (المائدة: 48). والنهج يعني الطريق الواضح، وأنهج الطريق أي استبان وصار نهجًا واضحًا بيّنًا، ونهجت الطريق إذا أبنته وأوضحته... .

وهو الطريق المؤدّي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامّة، تُهيمن على سير العقل وتحدّد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة .

فالمنهج هو مجموعة القواعد والأساليب والأدوات العامّة التي تشكّل خارطة الطريق الواجب على الباحث الالتزام بها، والسير عليها في دراسته للموضوع ومعالجته للمشكلة البحثيّة، من أجل التوصّل إلى النتائج والأجوبة المطلوبة، وإيجاد الحلول المناسبة لها.

ومن الواضح لدى الباحث وجود نوع من الترابط بين تطوّر الحركة المعرفيّة والإنتاج المعرفي في جميع العلوم وبين دقّة مناهجها، وعلميّتها وتطوّرها، إذ لن تُكتب الحياة لعلمٍ لا يستند إلى منهج ينسجم مع خصوصيات وطبيعة هذا العلم. ولهذا يرجع الفضل في الكثير من التطوّرات الحاصلة في شتى العلوم لدور المناهج في البحث وتطوير هذه الأخيرة مع زيادة مجال معرفة الإنسان.

وهذا ما يُبرّر الاهتمام العلمي والبحثي الواسع والمستمر بقضيّة المناهج، فإنّ المناهج كأسلوب علميّ حظيت بالكثير من الدراسات والاهتمامات الأكاديميّة لدرجة أنّ بعض الجامعات جعلت من العلم المناهج اختصاصًا مستقلًّا؛ لأنّ العلم عمليّة منهجيّة.

وقد شهد العالم الإسلامي عدة مناهج مختلفة تعالج الواقع من وجهات نظر متفاوتة، ومن تلك المناهج المنهج الفلسفي بمدارسه الثلاثة المشائية والإشراقية والصدرائية، وهذه المدارس الفلسفية رغم اشتراكها في أساسيات المنهج الفلسفي في الاعتماد على البرهان، غير أنها تختلف وتتفاوت في كيفية معالجة الواقع وإضافة مواضيع أخرى في مادة القياس، وهذا ما تم بيانه بشكل مستوفى في هذا الكتاب.

ونحن إذ نقدم هذا الكتاب إلى المكتبة العربية، نتقدم بالشكر والتقدير للمؤلف العلامة السيد يد الله يزدان پناه حيث سمح لنا بجمع هذه المباحث من مختلف كتبه، وإخراجها تحت هذا العنوان، كما نشكره على كتابة مقدمة قيمة للكتاب رغم كثرة انشغالاته العلمية، ولا يفوتنا تقديم الشكر أيضًا لمعهد المعارف الحكمية حيث سمح لنا بالاستفادة من ترجمة المنهج الصدرائي المنشور من قبلهم، وأخيرًا كل الشكر والتقدير للسيد محسن الموسوي مدير فرع المركز في قم، والشيخ روح الله فروغي مدير وحدة الفلسفة والكلام لمتابعة شؤون الكتاب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الميامين.

 

 

المقدمة

إن العلم البرهاني في الأساس هو علم منبثق عن مجموعة من المسائل المنتظمة حول موضوع واحد، حيث تتبلور هذه المجموعة المنتظمة من خلال أسلوب خاص. إن العلم البرهاني ليس مجرّد مجموعة من القضايا المتفرّقة؛ بل هو مجموعة مترابطة ببعضها، وإن سرّ هذا الارتباط يكمن في برهانية هذه القضايا ودورانها حول موضوع واحد. وبطبيعة الحال فإن هذه المجموعة المترابطة ببعضها، حيث تبدأ من موضوع خاص، وقد ظهرت بعض المسائل حول موضوع خاص، وتمّ حلها وفصلها بشكل برهاني، تتبلور على شكل حلقات مترابطة، يتمّ التعبير عنها بعنوان الأعراض الذاتية لموضوع ذلك العلم. إن الأعراض الذاتية للعلم تتمخض عن صلب موضوع واحد يتحدّث العلم حوله. وعلى هذا الأساس فإنه من خلال ذكر العلم البرهاني، تتوفّر الأرضية لبيان مسألة الأسلوب أيضًا. عندما يطلق على علم أنه برهاني، فهذا يعني أنه يحمل هاجس الوصول إلى الواقع كما هو، ويجب عليه ـ بطبيعة الحال ـ أن يسلك طريقًا يؤدي إلى العلم بالواقع كما هو (أي: على نحو اليقين الذاتي).

إن هذا المعنى يستبطن في قرارة ذاته مسألة «أسلوب العلم»؛ إذ ما أن يقال: إن العلم برهاني، حتى يكون قد تحقق من طريق التفكير والنظر في موضوع واحد بحيث يؤدّي إلى اليقين، لنعثر على طريق هو في نهاية المطاف عبارة عن يقين ذاتي، وذات هذا الشيء يقول لنا: لا بدّ من سلوك طريق يؤدّي بنا إلى اليقين، وإن الطرق التي تنتهي إلى اليقين قد ورد ذكرها في الأبحاث المنطقية. وإن الطريق الذي يجب أن يُسلك إما هو الطريق التجريبي أو الطريق العقلي. إن الطرق التي تؤدي إلى اليقين، قد تمّ بيانها في علم البرهان؛ أي يتمّ بيانها في قسم البرهان من المنطق، والذي يراد منه الوصول إلى الواقع عادة؛ بمعنى أنه من أجل الوصول إلى الواقعية في الخارج، والتي تمثل الواقع كما هو على نحو اليقين مئة في المئة، يجب علينا سلوك أسلوب خاص، وقد تمّ توضيح هذا الأسلوب في علم البرهان بطبيعة الحال. فمثلًا في البديهيات الست التي يقال إنه يتمّ تدقيقها في علم المنطق نفسه، إذا كان العلم جدليًا لا تكون هناك حاجة إلى القيام بهذه التدقيقات، ولكن حيث أن العلم برهاني ويروم الوصول إلى الواقع كما هو، ويريد أن يكتشف الواقع كما هو، ففي مثل هذه الموارد تكون هناك حاجة ـ بطبيعة الحال ـ إلى توظيف أسلوب خاص. إن هذه الأساليب قد تمّ إحصاؤها في البديهيات الست بشكل عام، حيث يمكن الإشارة بشكل رئيس إلى الأسلوب العقلي، والأسلوب الشهودي، والأسلوب التجريبي، ولكن في الوقت نفسه لو قام شخص بإحصاء تلك البديهيات الست، فسوف يجد تلك الأساليب فيها.

وعلى كل حال، فإنه ما أن يرد الحديث عن العلم البرهاني، يكون هناك في العلم البرهاني طائفة من المسائل المنتظمة والمرتبطة ببعضها حول موضوع واحد؛ إذن من خلال القول بأن هذا العلم برهاني يجب أن يكون فيه أسلوب خاص. إن أبحاث أسلوب العلم في مباحث العلوم البرهانية تعدّ عادة بوصفها من الفلسفة بالمعنى العام، والفلسفة بالمعنى العام، تشمل الطبيعيات والرياضيات والفلسفة الأولى والحكمة العملية. وفي هذه الفلسفة بالمعنى العام نحتاج إلى أسلوب خاص. وبطبيعة الحال فإن كل واحد من هذه العلوم؛ من الحكمة العملية، والفلسفة الأولى، والطبيعيات والرياضيات وأيّ علم برهاني آخر، يحتاج إلى أسلوب خاص، وإن الفلسفة الأولى لا تعدّ استثناءً من هذه القاعدة. وبعبارة أخرى: إن أسلوب العلم البرهاني يتمخض من صلب ذات هاجس العلم البرهاني، ولا بدّ من سلوك طريق برهاني ليؤدّي إلى اليقين في هذا الشأن.

بالنظر إلى هذه النقطة يجب بالنسبة إلى كل علم ـ وبحسب ذلك الموضوع الخاص والمسائل المطروحة حول ذلك الموضوع ـ أن نرى ما هو الأسلوب الذي يجب أن نعتمده من بين الأساليب البرهانية، لكي نصل إلى النتيجة؟ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أننا في الطبيعيات في أبحاث مثل الفيزياء والكيمياء ممّا يطلق عليه اليوم عنوان العلوم التجريبية، نحتاج إلى أسلوب يؤدّي إلى ظهور مسائل على نحو برهاني حول موضوعاتها الخاصة. إن طريقنا في هذا النوع من المسائل هو الطريق التجريبي. وإننا نستطيع العمل من طريق التجربة على إيجاد مسائل حول موضوع واحد؛ حيث ترتبط العلوم التجريبية أو العلوم البرهانية بالطبيعيات.

وأما عندما نصل إلى الفلسفة، فإن الفلسفة يجب أن تشتمل على أسلوبها الخاص، وإن هذا الأسلوب الخاص الذي يتمّ بيانه في علم الفلسفة الأولى، يجب أن يتناسب مع موضوع الفلسفة الذي هو عبارة عن «الوجود من حيث هو وجود»، ويجب أن يتناسب مع هذا الموضوع والمسائل المتمخضة حول هذا الموضوع. عندما يكون موضوع الفلسفة هو «الموجود بما هو موجود» أو بحث الوجود بشكل مطلق، فهذا يعني أنه لا يتقيّد بالمفاهيم الطبيعية أو الرياضية أو العلمية، وبعبارة أخرى: الوجود من حيث هو وجود أو الموجود من حيث هو موجود؛ أي من دون تنزّل من ساحة الموجودية إلى التعيّن الخاص، مع وجود مثل هذه الرؤية ومثل هذا الموضوع والمسائل، فإن سنخ المسائل التي تظهر سوف تكون من سنح خاص، ومثل هذا الشيء يكون خارجًا عن حدود التجربة ويكون أسمى من فضاء التجربة.

إن الطريق البرهاني الذي يجب أن نصل إليه إنما هو الطريق العقلي؛ ومن هنا فإنهم يطلقون على الفلسفة عنوان «الأنطولوجيا العقلية»؛ وإن المسائل التي ترتبط بهذا الموجود بما هو موجود، هي ما تحاکي المعقولات الفلسفية الثانية ، وإن هذا يسمو على التجربة والدائرة التجربية التي نمتلكها في حدود المادة؛ وعليه فإن نوع الرؤية التي يجب أن تكون هي الحاكمة هنا، هي الرؤية العقلية؛ ولذلك يجب علينا القول إن الفلسفة الأولى تستفيد من الأسلوب العقلي، وإن هذا الأسلوب العقلي يدور حول محور موضوع الفلسفة الذي هو الوجود، ومن هنا يتمّ التعبير عنه بـ «الأنطولوجيا العقلية». ولكن كيف يمكن الحصول على هذه الأنطولوجيا العقلية؟ إننا إنما نحصل عليها حيث نستطيع الوصول إلى ذلك على نحو اليقين الذاتي بحيث يوصلنا إلى الواقع كما هو، وسوف نبحث في هذا الشأن في باب المباحث الفلسفية.

وبعبارة أخرى: يجب علينا في العلم البرهاني أن نتحدّث عن الأسلوب، والأسلوب الذي يتمّ طرحه يتمّ الحصول عليه من صلب العلم البرهاني، وفي العادة يكون لكل علم أسلوبه الخاص. لقد تعرّضنا إلى هذين النموذجين اللذين مثلنا بهما، من قبيل العلوم التجريبية وعلم الفلسفة الأولى أو الميتافيزيقا؛ حيث يكون له أسلوبه الخاص. وهذا يمثل مقدمة للبحث حيث يجب أن يكون لدينا في كل علم برهاني أسلوب خاص.

إن من بين الأسئلة في هذا الشأن هو: أين يجب أن نضع بحث الأسلوب؟ بمعنى أننا عندما نريد أن نبحث المنهج الفلسفي في باب أبحاث أسلوب الفلسفة، يجب أن نطرح هذا السؤال القائل: ما هو العلم الذي يتكفّل بهذا البحث؟ لقد كان في الأزمنة السابقة يتمّ الخوض في هذه الأمور في بحث البرهان وعلم البرهان، ويتمّ الاهتمام بها في كتاب البرهان من المنطق، وكانت تتمّ مناقشتها آنذاك، وأما اليوم فيتمّ التعرّض إلى هذه المسائل في مباحث فلسفة الفلسفة؛ وذلك لأن أبحاث فلسفة كل علم تمهّد الأرضية للدخول العلمي الصحيح في كل علم، وإن فلسفة كل علم تنظر إلى العلم على نحو الدرجة الثانية، وفي باب هذا العلم تعمل على طرح مسألة أو عدد من المسائل بشكل دقيق بحيث تتمكن من بسط يدها. وفيما يتعلق بالسؤال القائل: ما الذي يجب أن تقوم به عند الدخول في العلم؟ يجب التعرّض في كل فلسفة علم إلى بحثين؛ أحدهما عبارة عن مجموعة من الأبحاث الأسلوبية، والبحث الآخر عبارة عن مجموعة من الأبحاث المضمونية. في الأبحاث الفلسفية يتمّ عادة الاهتمام في فلسفة العلم بالأبحاث الأسلوبية كثيرًا، ولكن الحقيقة هي أن الأبحاث المضمونية يتمّ بيانها إلى جانبها أيضًا.

وعليه فإننا في علم الفلسفة يمكن أن نذكر بحثين بعنوان فلسفة الفلسفة، وهما: الأبحاث المضمونية، والأبحاث الأسلوبية. إن الأبحاث الأسلوبية التي تمّ بيانها في هذا الكتاب، يتمّ التعرّض لها في ذيل أبحاث فلسفة الفلسفة، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أن الفلسفات حيث تنوّعت (وبطبيعة الحال لا بدّ من البحث في موضع آخر حول ما إذا كان يمكن تسمية هذه الأمور فلسفة أم لا، من قبيل فلسفة كانط والفلسفات الأخرى التي ظهرت في الغرب بوصفها فلسفة)، ومن هنا فإن المسائل التي يتمّ ذكرها في هذا الكتاب، عبارة عن «فلسفة الفلسفة الإسلامية»؛ وعليه فإن الذي يتمّ ذكره هنا بوصفه من الأبحاث الأسلوبية، هو أسلوب الفلسفة الإسلامية ومن أبحاث أسلوب فلسفة الفلسفة الإسلامية.

في أبحاث أسلوب فلسفة الفلسفة الإسلامية حيث نواجه في مراحلنا ثلاث فلسفات أو ثلاث مدارس للفلسفة الإسلامية في الحدّ الأدنى؛ وهي: الفلسفة المشائية، والفلسفة الإشراقية، وفلسفة صدر المتألهين أو الحكمة المتعالية؛ حيث نروم تنظيم الأبحاث على هذا الأساس، ونتعرّض إلى الأبحاث الأسلوبية لهذه الفلسفات الثلاثة بدرجة أكبر.

إن من بين الأبحاث الجديرة بالملاحظة، هو أنه أساسًا في المرحلة الإسلامية حيث تمّ ذكر بحث الفلسفة والميتافيزيقا والفلسفة الأولى، واجهنا من الناحية العملية تراثين وأسلوبين ومنهجين في الوصول، أحدهما هو الأسلوب البحثي، والآخر هو الأسلوب الإشراقي. إن الأسلوب البحثي يعني المتمخض من طريق العقل النظري والاستدلال والعلم الحصولي؛ دون أن يكون هناك ارتهان للشهود أبدًا. إن الأسلوب البحثي يخلو في الواقع من الشهود القلبي والوصول إلى الحقائق الماورائية والاستفادة منه في فلسفته، إن هذا الأسلوب إنما هو أسلوب بحثي، وإن كل ما يبحث عنه الفيلسوف في الأسلوب البحثي يتمّ الحصول عليه من طريق الاستدلال، ولا يستفاد في هذا السياق من الشهود، ولا سيّما منه الشهود القلبي.

وأما الأسلوب الثاني الذي يُسمى بالأسلوب الإشراقي، فهو الأسلوب الذي يستفيد فيه الفيلسوف من شهوداته أيضًا، ويعمل على إعطائها شكلًا فلسفيًا ويستفيد منها في فلسفته. إن الأسلوب الإشراقي عبارة عن الاستفادة من الأسلوب الشهودي من أجل الوصول إلى الحقائق الماورائية، من قبيل: الله، والمعاد، والعقول، والملائكة وما إلى ذلك؛ وذلك لأن واحدًا من طرق الوصول إلى هذه الحقائق هو طريق العقل، حيث يصل من خلال الأدلة والبراهين، والطريق الآخر هو طريق الشهود القلبي العرفاني، والطريق الذي يسلكه العارف هو رؤية الحقائق من طريق قلبه. ويمكن لنا أن نعتبر هذا الأسلوب الشهودي مفيدًا للفلسفة أيضًا، ولكن أسلوب الفلسفة ـ بطبيعة الحال ـ يجب أن يكون قابلًا للانتقال إلى الآخرين. ويوجد هنا بحيث يتمّ طرحه بجدية أكبر، وهو: ما هي كيفية هذا الانتقال؟ وقد تعرّضنا في بحث أسلوب ومنهج الفلسفة إلى هذه النقطة وهي كيف يصبح هذا الطريق فلسفيًا، ويتمّ استعماله في الفلسفة؟ وسيأتي بحث ذلك في هذا الكتاب.

في الأسلوب الإشراقي يصل الفيلسوف إلى حقائق من الناحية الشهودية، ويستفيد منها في فلسفته. وفي المرحلة الإسلامیة كنا نواجه هذين الأسلوبين؛ ولكن كما سيأتي في هذا الكتاب، فإنه منذ البداية حيث تم طرح الفلسفة المشائية، في الوقت الذي كان الوجه الغالب على الفلسفة المشائية هو الأسلوب البحثي والاستدلالي والنظري حيث يرتبط بالفكر والذهن، فإلى جوار هذا الوجه الغالب هناك جذور استشراقية حتى في ذات الفلسفة المشائية، كما يمكن مشاهدة هذه الجذور عند ابن سينا أيضًا. وقد أوضحناها بالتفصيل في هذا الكتاب حيث تعرّضنا في الأبحاث الخاصة بصدر المتألهين في الفصل والأسلوب الفلسفي للحكمة المتعالية، وقد أوضحنا في ذلك المنهج كيف توجد جذور إشراقية حتى في الفلسفة المشائية أيضًا. وعليه فإن الذي تمّ طرحه بوصفه أسلوبًا بحثيًا في تراث الفلسفة الإسلامية هو الفلسفة المشائية، وإلى جوارها الفلسفة الإشراقية، وبعدها فلسفة صدر المتألهين التي استفادت من الأسلوب الإشراقي أيضًا. من الجدير ذكره أن شيخ الإشراق قد عمل على تظهير الأسلوب الإشراقي الذي كان موجودًا في الأبحاث المشائية؛ بمعنى أن الوجه الغالب لفلسفة الإشراق هو الأسلوب الإشراقي، وأن شيخ الإشراق قد تمكن من الإتيان بهذا الأسلوب الإشراقي في ضوء ما كان يمتلكه من الشهودات وأن يطرح الميتافيزيق النوري والذي يمثّل في حدّ ذاته بابًا واسعًا، وقد سعى بطبيعة الحال إلى إثبات ذلك بطريقة عقلية وبحثية؛ بمعنى أنه في الواقع قد استعان بالإشراق وبشهوده القلبي، ولكنه في الوقت نفسه لديه أسلوب بحثي أيضًا. ولذلك فإننا في تراث الفلسفة الإسلامية إذا أردنا أن نعتبر فلسفة الإشراق بوصفها أسلوبًا إشراقيًا، تعيّن علينا القول بأن الأسلوب الإشراقي أسلوب بحثي؛ بمعنى أنه لا يخلو من البحث، ولكن في الوقت نفسه فإن الأسلوب والوجه الغالب عليها هو الأسلوب الإشراقي.

وبعد ذلك نصل إلى صدر المتألهين؛ حيث استفاد بدوره من شهوداته، وبالإضافة إلى شهوداته القلبية كان له أساليب بحثية أيضًا. إن أسلوب صدر المتألهين أسلوب إشراقي بحثي، وبطبيعة الحال فإننا فيما يتعلق بصدر المتألهين بما له من الوزن والثقل الخاص نواجه أبحاثه بما في ذلك الأبحاث الإشراقية / البحثية، حيث تمّ توضيح ذلك في هذا الكتاب أيضًا.

وعلى هذا الأساس فإننا في التراث الفلسفي نواجه أسلوبين، وكلا هذين الأسلوبين يمتلك القدرة على الاهتمام بموضوع الفلسفة، وإظهار بعض المسائل حول محورها، بل وحيث أن الأسلوب القلبي هو الأسلوب الأقوى في الوصول إلى الحقائق الماورائية المعقدة، إذ تهتم الفلسفة الإسلامية عادة بتلك الحقائق الماورائية المعقدة وتقوم بأبحاث في بابها، فإنه كان في الأسلوب الإشراقي هو الأقوى من الناحية العملية، وقد تمكنت من حلّ المسائل بشكل أفضل. ولكن هذا لا يعني بطبيعة الحال أنه لا يجب حلها وفصلها بشكل بحثي، ولا تتمّ البرهنة عليها وتحويلها إلى شكل عقلي. لقد استعمل شيخ الإشراق عبارات تقول إن في مقدورنا أن نجعل شهود الحكماء مقدمة، بيد أن صدر المتألهين لم يفعل ذلك وإنما يقول إذا توصلنا إلى بعض الحقائق بالكشف والأسلوب الشهودي، كان هذا في حدّ ذاته حكمة حقة، ولكنه بالإضافة إلى ذلك ذكر الحكمة من حيث الطريق أيضًا. بمعنى أن العارف يصل إلى الواقع والفيلسوف بدوره يصل إلى الواقع، وبالإضافة إلى أننا نصل إلى الواقع ولدينا حكمة حقّة، يجب أن تكون هناك معرفة من حيث الطريق، ويجب سلوك الأسلوب العقلي أيضًا. ولذلك يسعى صدر المتألهين إلى طرح حتى الشهودات التي يمتلكها هو أو يمتلكها العرفاء بشكل عقلي نظري استدلالي أيضًا. إن شيخ الإشراق قد سلك هذا الطريق نوعًا ما، إلا أن صدر المتألهين یعالج الأمور بمتانة خاصة؛ ولذلك فإنه على الرغم من أن أسس فلسفة صدر المتألهين عبارة عن الأسلوب الشهودي، بل ويستفيد حتى من العرفان أيضًا، يوجد إلى جانب ذلك أسلوب بحثي قوي ومتين، ولم يفقد الالتزام بالأسلوب البحثي في أيّ موضع؛ بمعنى أنه قد سلك قواعد وقوانين العقل النظري وطريق الاستدلال أيضًا.

لقد عمدنا في هذا الكتاب على تقديم توضيح مقتضب حول الأسلوب البحثي والأسلوب الإشراقي. كما أن بعض المطالب هي من الآثار المترجمة إلى اللغة الفارسية وقد تمّ ذكرها هنا، نجد أن النقطة المهمّة هي أن هذه الفلسفات الإسلامية؛ أي الفلسفة المشائية والفلسفة الإشراقية وفلسفة الحكمة المتعالية، على الرغم من أنها بأجمعها قد عملت على استعمال أسلوب خاص بنحو من الأنحاء؛ من ذلك على سبيل المثال في الفلسفة المشائية كانت الغلبة للأسلوب البحثي، وفي الفلسفة الإشراقية كانت الغلبة للأسلوب الإشراقي، وفي فلسفة صدر المتألهين كانت الغلبة للأسلوب الإشراقي البحثي، إلا أن هناك روحًا واحدة وهدفًا واحدًا ونموذجًا واحدًا يحكم الجميع، وإن هذه الروح هي روح الفلسفة الإسلامية؛ فعلى الرغم من تعدد الأساليب، إلا أن برنامجها واحد يتمثل في اكتشاف الواقع. تقول هذه الفلسفات إن في مقدورنا الوصول إلى الواقع كما هو، ويمكننا أن نكتشف الواقع، ولم ينكر أيّ واحد من هذه الفلسفات منطق كشف الواقع؛ ولذلك حتى أولئك الذين سلكوا الأسلوب الشهودي قد حافظوا على منطق الكشف الواقعي القائل بوجوب التحلي بالانضباط الفلسفي والانضباط الفلسفي البحثي أيضًا. وحتى شيخ الإشراق قد اهتم بالشهود لكي يكتشف بعض الحقائق، وعندما اكتشف الحقيقة عاد ليمارس الأسلوب البحثي عليها؛ بمعنى أنه على الرغم من المنطق الواحد للاكتشاف ـ سواء الشهودي أو الاستدلالي العقلي النظري ـ هناك مع ذلك روح بحثية واحدة تحكم الجميع. إن الروح البحثية تعني وجوب أن تؤدّي تلك الضوابط العقلية والعقل النظري ـ على سبيل المثال ـ إلى الأوليات، وأنه يجب أن نبدأ من الأوليات ونمضي قدمًا، ومن هنا يجب أخذ تلك الروح الواحدة بنظر الاعتبار على الرغم من تعدد الأساليب.

إن البحث الآخر الذي جاء في هذا الكتاب، عبارة عن نقطة يتمّ التعبير عنها بالأسلوب العام والأسلوب الخاص. إن الفيلسوف المسلم فيما يتعلق بالموضوعات والحقائق الفلسفية كان يواجه هذه الحقيقة، إذ كان يرى أن بالإمكان إثبات ذلك من خلال الطريق الفلسفي والعقلي ، كما أن هناك طريقًا آخر للوصول إلى هذا النوع من الحقائق، ألا وهو طريق الشهود أيضًا. ومن ناحية أخرى فإن ذات هذا الفيلسوف قد أثبت بطريقة فلسفية وجوب اعتبار الوحي بوصفه حقيقة أسمى؛ ولذلك فإن الفيلسوف يصل بنفسه في أبحاث الفلسفة الإسلامية إلى اعتبار طريق العقل مفتوحًا وكذلك الأمر بالنسبة إلى طريق الوحي أيضًا. وبعبارة أخرى: لو سألتم الفيلسوف نفسه، فإنه سوف يجيب بأن طريق الوحي للوصول إلى الحقائق مفتوح، كما أن طريق القلب للوصول إلى الحقائق الفلسفية العميقة مفتوح، وإن طريق العقل بدوره مفتوح أيضًا. فهو يرى أن جميع هذه الطرق الثلاثة طرقًا للوصول؛ بمعنى أن الطريق الذي سلكه العرفاء في الوصول إلى الأنطولوجيا الشهودية، والطريق الذي سلكته فلسفته في الوصول إلى الأنطولوجيا العقلية، والطريق الذي سلكته الشريعة والذي يبيّن الحقائق والوصول إلى الأنطولوجيا الوحيانية، تعدّ كلها ـ من وجهة نظره ـ طرقًا توصل إلى الواقع. إن الفيلسوف من خلال إيمانه بأن الوحي يشتمل على أنطولوجيا وحيانية، وإن هذه الأنطولوجيا الوحيانية أنطولوجيا مقدسة، فإنه يعبّر عنها بالأنطولوجيا الأسمى، ويجد الأنطولوجيا القلبية في بعض الأحيان هي الأفضل للوصول إلى الواقع، بل ويعتبرها أحيانًا مساوية للعقل أيضًا. إن الفيلسوف يرى كلا هذين الطريقين مفتوحًا؛ إذن يمكنه الاهتمام بهما والاستفادة منهما؛ ولكن في الوقت نفسه يجب الاستفادة منهما في الفلسفة، وحيث يجب عليه الاستفادة منهما في الفلسفة، فإنه يجب عليه أن يسلك طريقه العقلي، وهو ذلك الطريق العام المتوفّر للجميع. ولكن من ناحية أخرى حيث قد قبل بأبحاث تينك الأنطولوجيتين، فإن بمقدوره أن يستفيد منها أيضًا. إن ذات هذا الأمر يُطلق يد الفيلسوف في الرجوع إلى المصدرين الآخرين والاستفادة منهما، وفي الوقت نفسه يجب أن يمتلك أسلوبه الخاص أيضًا. إن هذا الأمر أدّى بنا إلى إيجاد أدبيات باسم الأسلوب العام والأسلوب الخاص. إن الفيلسوف من حيث أسلوبه الخاص يجب إما أن يكون إشراقيًا أو بحثيًا؛ بمعنى أنه يستفيد من شهوداته وليس من شهودات الآخرين، وهنا نقول إن الأسلوب الخاص يخصّ فلسفته حيث يرتقي عقله ليبحث الحقائق بشكل أعمق. وهذا هو أسلوبه الخاص.

ولكن لديه في الوقت نفسه أسلوب عام، حيث يمكنه الاستفادة من العرفان أو من النصوص الدينية أيضًا، وحيث يستفيد منها سوف يكون مستفيدًا من الأسلوب العام، وليس من الأسلوب الخاص. إن الأسلوب العام يعني أنه يتعرّض إلى بحث الحقائق وبيان الواقع كما هو، ولكن كيف يستفيد منها؟ فإنه إن أراد أن ينقلها إلى الفلسفة سوف يسلك بطبيعة الحال طريقه الخاص؛ بمعنى أن يبدأ من المقدمات وينطلق من الأوليات حتى يصل إلى حل المسألة شيئًا فشيئًا، ويخلق تحاورًا بين الفلسفة والوحي، وبين الفلسفة والعرفان ليصل إلى النتيجة، وفي الوقت نفسه يسلوك أسلوبه الفلسفي الخاص أيضًا؛ لتصبح هذه فلسفته. ولكنه من ناحية أخرى يستفيد منها، فيكون بذلك مستفيدًا من الأسلوب العام. لقد تمّ توضيح بحث الأسلوب العام والأسلوب الخاص في هذا الكتاب، الأمر الذي مكّن الفلسفة الإسلامية من استفادة الكثير من الحقائق الفلسفية من الدين، وهضمها في أبحاثه، ويستدل عليها فلسفيًا ويقدّم لها شروحًا فلسفية. كما تمكن من إدراج الأفكار العرفانية في مشروعه، على غرار ما صنعه صدر المتألهين حيث عمل شيئًا فشيئًا على هضم الأفكار الموجودة في العرفان النظري منذ القرن السابع إلى القرن التاسع للهجرة في فلسفته بالتدريج. يجب الاهتمام بالأسلوب العام أيضًا، ولذلك فإن الفيلسوف المسلم بالإضافة إلى الأسلوب الخاص يستفيد في الفلسفة الإسلامية من الأسلوب العام أيضًا؛ وإن الأسلوب العام يعني أنه قد تمكن من الحصول على فوائد منها. وإن نوع الفوائد تارة يكون على النحو الإيجابي وتارة أخرى على النحو السلبي؛ فهي بحيث يحصل منها على ذات البرهان تارة، وعلى نحو التصوير تارة أخرى، على ما تمّ بيانه وتوضيحه في هذا الكتاب.

وأما بعد بيان هذه المقدمات والأبحاث المرتبطة بالأسلوب العام والأسلوب الخاص والأسلوب البحثي والإشراقي، لا بدّ من الالتفات إلى عدّة نقاط، ففي هذا الكتاب في بداية الفصل الأول حول المنهج المشائي، نجد بعض الأبحاث، من قبيل بحث عناصر المعرفة اليقينية مثل بحث البداهة التصورية، والعرَض الذاتي. إن أنواع الأنشطة العقلية ونوع البرهان يساعد على فهم الفضاء البحثي المشائي، بمعنى أنها تغطي تلك الدقة التي يجب توفرها من زاوية الأسلوب البحثي، ولا بد من الالتفات إلى أن بعض هذه الأبحاث قد تمّت ترقيتها، فليس جميع هذه المطالب مشائية بالضرورة. لقد ذكرنا عناصر المعرفة اليقينية، وأوضحنا كيف تمّ التدقيق في رؤية ابن سينا في بحث البرهان وتعريف اليقين، ولكن في الوقت نفسه حصلنا على مجموعة من النقاط، حيث ربما أمكن القول بأنها تساعد على تطوير البحث.

وفي بحث البداهة التصوّرية عملنا على إيضاح الرؤية المشائية وتدقيقاتها، وأن التصوّرات يجب أن تنتهي إلى تصوّر بديهي، وما هو تصوّر المنهج المشائي عن البداهة، وبحثنا في المباني الدقيقة لها. وإن بحث العرَض الذاتي يتناول الحلقات المترابطة لمسائل العلم بموضوع العلم. لقد تعرّض المنهج المشائي في باب موضوع العلم وفي باب مسائل العلم إلى بحث البرهان؛ أي في كتاب المنطق في قسم الصناعات الخمسة في صناعة البرهان، ونحن هنا بدورنا قد التفتنا إلى ذلك، حيث نحصل على نقاط من صلبها تساعد على تصوير الرؤية المشائية. والبحث التالي عبارة عن أنواع نشاط العقل النظري، والتدقيقات حول العقول الثابتة؛ حيث يعمل المنهج المشائي عادة على إيضاح العقل الأولي، والكثير من الأنشطة العقلية المتوفرة لدى المشائي، من قبيل نشاط العقل الأولي والعقل الضروري والعقل الاستدلالي، وعملنا على توضيحها. ولكن إلى جانب ذلك لا توجد في المنهج المشائي بعض الأبحاث التي ذكرناها؛ بيد أنها ذكرت هنا تكميلًا للبحث، وذلك من قبيل الشهود العقلي والفهم الشهودي؛ حيث أرى أن الكثير من الفلاسفة قد استفادوا منها ولكنهم في الوقت نفسه لم يقدّموا شرحًا لها، بل لم يكن هناك حتى مثل هذا التصوير عنها أصلًا؛ ولذلك فإن هذا شيء يُضاف إلى ما يقوله المشائي. كما عملنا على بسط الأسلوب العقلي الذي تتمّ الاستفادة منه في الفلسفة أيضًا، حيث ستجدون ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

والبحث الآخر هو بحث نوع البرهان المستفاد، وهو البرهان اللمّي والبرهان الإني؛ حيث تمّ التدقيق حولهما في أبحاث المنهج المشائي، وقال بعضهم إن البرهان الإنّي هو وحده المجدي في الفلسفة، وأما البرهان اللمّي فلا يُجدي شيئًا، وقد تمّ بيان بعض الإيضاحات في هذا الشأن.

ومن الجدير ذكره أن الفضاء البحثي لجميع الفلاسفة محفوظ؛ بمعنى أن هذا الأمر وهذه الأبحاث وهذه الطائفة من الأبحاث حاضرة في فلسفة الإشراق وفي فلسفة الحكمة المتعالية أيضًا، غاية ما هنالك أن فلسفة الإشراق قد تصرّفت في بعض الأبحاث المنطقية، وهي تصرّفات لم تكن واقعية، وقد تعرّضنا لها في كتاب حكمة الإشراق، وهناك بعض النقاط والإبداعات في المنطق حيث أنها مفيدة أيضًا، وقد ذكرناها في كتاب حكمة الإشراق أيضًا.

وبعد ذلك نصل إلى الفصل الثاني؛ وهو المنهج الإشراقي حيث الرؤية فيه قد اشتملت على رؤية فلسفة الإشراق نوعًا ما. وقد عمدنا أولًا إلى إيضاح جوهر فلسفة الإشراق حيث يكون أسلوبها إشراقيًا وكذلك علم النفس فيها إشراقي وميتافيزيقيها نوري، ثم عملنا على إيضاح الأسلوب الإشراقي. إن الحكمة البحثية والحكمة الذوقية وكيفية جذور ذلك في مفهوم خميرة الحكمة التي قال بها شيخ الإشراق، ومفهوم الحكمة الحقة التي يقول بها المنهج الإشراقي، تنطوي للإنصاف على قوّة بحيث تدفعنا إلى اعتبار نشاط العارفين بوصفه حكمة أيضًا. وأرى أن ما قاله شيخ الإشراق في هذا الشأن وما بحثه من الحكمة الحقّة، أدى إلى ظهور بداية لفكر العرفان النظري، حيث نجده جديرًا بالبحث على نحو جاد. ثم انتقلنا بعد ذلك إلى بحث مباني فلسفة الإشراق.

وفي الختام كانت لنا إشارة إلى مصادر فلسفة الإشراق، حيث كنا بصدد بيان كيفية استفادة فلسفة الإشراق من المتقدمين، وما هو مقدار ما تناسب منها مع شهود شيخ الإشراق، وقد ذكرنا ذلك الأسلوب الإشراقي في فضاء فلسفة الإشراق بتلك الأنظار والتدقيقات التي بذلها شيخ الإشراق من أجل الوصول إلى رؤية الأسلوب الإشراقي، في هذا الفصل الثاني.

وفي الفصل الثالث الخاص بمنهج صدر المتألهين، ذكرنا أسلوب فلسفة الحكمة المتعالية بوصفه المطلب الأول. وقد تحدّثنا هناك بالتفصيل حول نسبة الأسلوب الإشراقي في المنهج المشائي بوصفه جذرًا، ثم في فلسفة الإشراق، وبعد ذلك لدى صدر المتألهين، ثم ما حدث من الإصلاحات والتدقيقات بعد ذلك في فلسفة صدر المتألهين؛ حيث يتمّ إنتاج مفهوم فلسفة المنهج الإشراقي بالتفصيل. وقد تحدّثنا عن مبانيها، وشرحنا الأسلوب الفلسفي للحكمة المتعالية؛ إذ عمدنا إلى توضيح الأسلوب الإشراقي على نحو أكثر تفصيلًا من الجميع. وبعد ذينك البحثين اللاحقين، لدينا هضم التعاليم الإسلامية في الحكمة المتعالية، وهضم مفاهيم العرفان النظري في الحكمة المتعالية؛ حيث نتعرّض إلى مبحث الأسلوب العام الموجود في نشاط الفلاسفة. إن المنهج الخاص هو الأسلوب الإشراقي؛ على سبيل المثال بالنسبة إلى صدر المتألهين أو شيخ الإشراق، ولكن بالإضافة إلى ذلك عملنا على مناقشة الأسلوب العام، والأسلوب العام عبارة عن كيفية تسلل الأفكار الإسلامية والأفكار العرفانية في المرحلة الإسلامية إلى الفلسفة الإسلامية، وكيف أعطى الفيلسوف لنفسه الحق بأن يأتي بها، وما الذي فعله، وفي الحقيقة ما هو نوع الرؤية التي كانت له بحيث جاء بهذه المفاهيم؛ وقد عمدنا إلى مناقشتها في هذه الأبحاث.

لقد تمّ هذا البحث بحمد الله، وعلينا في الختام أن نتقدّم بجزيل الشكر إلى المرکز الدراسات الإستراتیجیة التابعة للعتبة العباسیة المقدسة على ما بذله من مشقة في اختيار هذه الأبحاث من مختلف المصادر التي وردت الإشارة إليها في هامش جميع الفصول، بل وتكفل بنفسه عناء ترجمة بعضها إلى اللغة العربية، واستفادة بعضها من الترجمات العربية. أشكر جميع هؤلاء الأفاضل بشكل خاص، نتمنى أن تشكل هذه الدراسات دورة من الأفكار الإسلامية الخالصة تشعّ نورًا من العتبة العباسية لتضيء عالم التشيّع والعالم الإسلامي بل والعالم بأسره؛ على أمل رؤية ذلك اليوم إن شاء الله. وفي الختام أشكر جميع السادة والأحبة على ما بذلوه من جهود، وعلى أولئك الذين تقبلوا عناء الترجمة، والذين مهّدوا السبل لتذليل الصعاب التي كانت ماثلة أمام هذا المشروع، أشكرهم جميعًا ... والسلام عليكم ورحمة الله.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف