تاريخ علم الفقه عصر النص (القرن الاول الهجري) الجزء الاول

تاريخ علم الفقه عصر النص (القرن الاول الهجري) الجزء الاول

تأليف :

مجموعة باحثين

 

فهرس المحتويات :

الفصل الأوّل:  مقدِّمات منهجيّة في تاريخ علم الفقه

مدخلٌ عامٌّ إلى علم الفقه

الشيخ إسماعيل حريري

مُصنَّفات تاريخ علم الفقه عند الإماميّة؛ قراءة تحليليّة في الأدوار والمناهج

الشيخ د. محمّد باقر كجك

نظرة عامّة في تاريخ الفقه الإسلاميّ؛ دراسة ببليوغرافيّة - نقديّة

الشيخ د. محمود علي سرائب

الفصل الثاني: الدور التشريعيّ والتأسيسيّ للنبيّ محمّد بن عبد الله(صلى الله عليه وآله وسلم)

الولاية التشريعيّة للنبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)

الشيخ محمّد مقبل

اجتهاد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) – دراسة تحليليّة نقديّة

الشيخ محمّد بعلبكي

التأسيس النبويّ للمرجعيّة الدينيّة والفقهيّة للأئمّة الاثني عشر(عليه السلام)

سامر توفيق عجمي

اجتهاد الصحابة بين مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) والمدرسة السنّيّة؛ دراسة مقارنة

الشيخ د. عدنان فرحان آل قاسم

الفصل الثالث:  الدور الفقهيّ لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) في القرن الأوّل الهجري

الدور الفقهيّ للإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)

 الشيخ د. محمّد نمر

الدور الفقهيّ للإمام الحسن بن عليّ المجتبى(عليه السلام)

الشيخ علي محمود شحادي

الدور الفقهيّ للإمام الحسين بن علي(عليه السلام)

الشيخ علي محمّد كركي

الدور الفقهيّ للإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام)

الشيخ علي نذر

 

مقدمة المركز

علم الفقه أحد أهم العلوم الدينيّة التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، وقد عُدَّ من أفضل العلوم بعد معرفة الله تعالى، قال العلامة الحلّي مبيّنًا أهميته وأهدافه وآثاره في المجتمع: «وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد، وبه يتمّ كمال نوع الإنسان، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة، وبها يستحقّ الثواب، فهو أفضل من غيره»[1].

وقال الفاضل المقداد السيوري مبيّنًا شرافة علم الفقه وفضله: «إنّ علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفًا وفضلًا ، ولا يجهل احتياج الكلِّ إليه، وكفى بذلك نبلًا»[2].

وقد مرّ علم الفقه عند الإمامية بأدوار متعدّدة، لكلِّ دور منها خصائصه ومميّزاته الخاصة به، وظهر في كلِّ عصر فقهاء ومحقّقون، كان لأغلبهم بصمات واضحة ونوعيّة في تطوّر الفقه الشيعي. وذلك بالاعتماد على منهج الاجتهاد  القائم على دراسة وفهم النصوص التشريعيّة القرآنيّة والروائيّة، تمهيداً لاستنباط الأحكام الفقهية.

ومن الواضح أنّ الفقه الإسلامي لم يظهر دفعةً واحدة بل تدرّج تبعاً لنزول القرآن الكريم حيث كان النبيُّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يبلّغ المسلمين بالأحكام التي يتلقاها من الله تعالى عن طريق الوحي بصورة تدريجيّة وعلى مراحل زمنيّة متواليّة، وكان الأصحاب يتلقّون تلك التشريعات منه بلا واسطة، ومن مميِّزات فقه هذه المرحلة كونه من الفقه المنصوص الموحى به من الله.

ثم إنّ ما يميّز الفترة الممتدة ما بين وفاة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) والغيبة الصغرى سنة 329 هـ. ق، وهي فترة علم الفقه في عهد الأئمة المعصومين(عليهم السلام) أنّها كانت مكمّلة للمرحلة النبوية، ليس من جهة استمرار التشريع، بل من جهة البيان والتفصيل وكتابة النصّ، ودحض الوضع والتضليل والتشكيك عن الدين. ولهذا حرص أئمة أهل البيت(عليهم السلام) على تثبيت مرجعية الشريعة الإسلاميّة المتمثّلة بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا ربطوا كلَّ ما يصدر عنهم(عليهم السلام) من روايات وأخبار  بمرجعيّة النص المتمثّلة برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ورد عن أبي عبدالله(عليهم السلام) قوله: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ»[3].

وقال(عليه السلام): «لو أنّا حَدَّثنا برأينا ضَلَلْنا، كما ضَلَّ من كان قبلنا، ولكِنَّا حَدَّثنا بِبَيِّنَةٍ من رَبِّنا بَيَّنها لنبِيِّه، فَبَيَّنَها لَنا»[4].

وقد امتاز هذا العصر بتدوين أمهات المصادر الحديثيّة الشيعيّة، كما برز علماء كبار من أصحاب الأئمة(عليهم السلام) امتازوا بتخصّصاتهم العلميّة المتنوّعة، ونالوا ثقة الأئمة(عليهم السلام)، ولهذا استفاد الناس من علومهم المأخوذة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

ومع بداية عصر الغيبة الكبرى برز إلى العلن تحدّيات جديدة في المجتمع الشيعيّ الإماميّ، منها ما هو ذات طابع كلاميّ يرتبط بالإمامة، ومنها ما هو ذات طابع يرتبط بالشريعة وتصدّي الفقهاء لتلبية احتياجات المكلّفين من الأحكام الشرعية في كلِّ ما يرتبط بحياتهم الفرديّة والعامة، وهو ما حرّك عجلة البحث الفقهي عند كبار العلماء. وتنوّعت الاتجاهات بين من اعتبر أن أقصر الطرق وأضمنها إنّما يكون بالفقه المأثور، ومنهم من سعى إلى أوسع من ذلك، فحاول فتح أبواب الاجتهاد مبكّراً والدخول في عملية استنباط الأحكام الشرعيّة، ولكن لم تكتب الحياة لهذا الاتجاه في هذه المرحلة ليس لضعف العلماء بل لعدم تحمّل البيئة الداخليّة للاجتهاد بما يحمله من ترسّبات سلبيّة ولونًا مقيتًا وطابعًا من الكراهيّة والاشمئزاز في الذهنيّة الفقهية الإماميّة كما عبَّر الشهيد الصدر(رحمه الله).

وقد نشأت بعد ذلك -وبالاستفادة والاعتماد على التجربتين السّابقتين- مدرسةٌ جديدةٌ برئاسة الشيخ المفيد تأسيسًا، ومن بعده الشيخ الطوسي بناءً وتطويرًا، حيث سلك أعلامها منهجًا وسطًا وبتعبير أدق منهجًا جامعًا يعتمد على الحديث والفقه المأثور دون تغييب العقل وعلم أصول الفقه وعملية الاستنباط، وقد تتلمذ جيل من أكابر الفقهاء في هذه المدرسة، والملاحظ أنّ هذا العصر شهد نقلةً نوعيةً في تطوّر علم الفقه قياسًا بالأدوار السّابقة، حيث شهد هذا الدّور ظاهرة الفقه المُستنبَط وتميُّز نصِّ الفتوى عن النصِّ الحديثيّ، بحيث أخذ الفقهاء يعبِّرون عن الفتاوى بطريقتهم الخاصة، خلافًا للفقه المنصوص الذي كان الفقيه يُعبِّر فيه عن الفتوى بنفس ألفاظ الرواية.

وبهذا بلغت حركة الاجتهاد الشيعيّ تكاملها وشموليّتها، حيث تمكَّن الشيخ الطوسي من تفريع جميع مسائل الفقه وفقًا لمبانيه الأصوليّة والفقهيّة والرجاليّة والحديثيّة والتفسيريّة...، ليفتح الباب واسعاً بعد ذلك عند أعلام الحلّة ومحقّقيها الكبار في تطوير عملية الاجتهاد ككل، وبالتالي تطوّر علم الفقه بكلّ مبانيه وقواعده وتطبيقاته وتخصّصاته...

ختاماً، لم نقصد من هذه المقاربة الكتابة التاريخيّة المكثّفة لبعض جوانب الفقه عند الإمامية بقدر ما نريد التركيز على ضرورة دراسة تاريخ هذا العلم بكلّ مراحله وتجلّياته وحضوره العلميّ بأعلامه وتصنيفاته ومدارسه وما لهذا الحضور والفعاليّة من تأثير في المجتمع وعلى جميع المكلَّفين، ومِنْ حفظٍ لتراث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)، وهي الغاية من مشروعنا هذا.

ولا يسعنا إلّا تقديم خالص الشّكر والامتنان لكلِّ من ساهم في ولادة هذا المشروع، من مدير الملف إلى الباحثين والمحرِّرين والفنّيين، سائلين العلي القدير أن يمنَّ عليهم جميعًا بشفاعة محمد وآله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن يكون ذُخرًا علميًّا نافعًا للعلماء والباحثين والطّلاب.

والحمد لله ربِّ العالمين

 المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجة

 

مقدمة الكتاب

لا يخفى ما لعلم الفِقه بمفهومه الاصطلاحي ـ العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة: الكتاب وسنة النبي والمعصومين(عليهم السلام) ـ من موقع متميِّز في منظومة المعارف الدينيّة، بلحاظ كونه مُنظِّمًا لحياة الإنسان في أبعادها المُختلفة في ضوء التكاليف الإلهيّة، مما يقوّي علاقة الإنسان بربّه عزّ وجلّ ويساهم في تحقيق الهدف الوجودي الذي خُلِق لأجله.

ويؤكِّد ذلك الآيات والأحاديث الواصلة في الحثّ على التفقّه والترغيب في النّظر في الحلال والحرام وتعلّم الأحكام الشرعيّة والسؤال عنها وأخذ معالم الدّين من الثقاة...

ولا شكّ في أنّ علم الفقه كسائر العلوم، له موضوعه، غايته، مسائله، مناهجه، أدّلته، مبانيه، مبادؤه التصوّرية والتصديقيّة، اتجاهاته، ومدارسه المختلفة... وقد تأخَّر نشوء هذا العلم بمعناه الاصطلاحي في البيئة الإسلامية لعوامل عدّة، من جملتها: أنّ العرب في بدايات عهد الدّعوة النبويّة لم تكن تعرف العلم بالمعنى الاصطلاحي، إذ دخل إلى البيئة الثقافيّة الإسلاميّة متأخّراً، في منتصف القرن الثاني الهجريّ تقريبًا.

ومنها: أنّه في العهد الأوّل لم تكن ثمة حاجة كبيرة لعلم الفقه بمعناه الاصطلاحي، لأنّ الناس كانوا يأخذون أحكامهم الشرعيّة من المصدر مباشرة ـ أي النبي وأئمة أهل البيت(عليهم السلام) ـ.

كما أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يُبلِّغ القضايا الفقهية دفعة واحدة، بل في ضوء قاعدة تدريجيّة تبليغ الأحكام، لأنّ الحكمة العقلائية تقتضي سلوك المنهج التدريجيّ في تعليم البشر وتربية نفوسهم لإحداث التحوّل المطلوب في الأفراد والمجتمع، ولذا نلاحظ أنّه ثمة قضايا فقهيّة لم يبّلغها النبيّ الناس بالمباشرة، وإنّما بالواسطة حيث حُفِظت في صدور ورثة علمه وحكمته من أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، وبُلِّغت في ظرفها الخاص الصالح لإظهارها للنّاس في ضوء حاجاتهم.

فعلم الفقه بمعناه الاصطلاحي وإن لم يكن حاضرًا في بدايات عهد الدّعوة، إلّا أنّه ـ كما ذكرنا ـ كانت كفايات الناس من المسائل الفقهيّة التي تتطلّبها حياتهم متوفِّرة بين أيديهم إمّا بمبادرة النبيّ إلى تعليمهم إياها، وإمّا بإجابته عن أسئلتهم، فلم يكونوا بحاجة إلى الاجتهاد والاستدلال وإعمال الرأي.

وهذا يعني أنّ تأخّر تبلور علم الفقه بمعناه الاصطلاحي هو أمرٌ طبيعيّ بلحاظ أنّ قضايا أيّ علمٍ لا تنشأ دفعةً واحدةً، بل تبدأ نواةً صغيرة ثم تأخذ بالتفتّـح والنمو شيئًا فشيئًا، حتى تصل إلى مرحلة النضج.

لكن، ولعوامل عدّة أيضًا ـ كاختلاف الأحكام الشرعيّة بين أيدي الناس بسبب وجود العام والخاص والمطلق والمقيّد والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه[5]...، والوضع والكذب على رسول الله حتى قال: «كثرت عليّ الكذابة»، وسوء فهم آيات الأحكام والأحاديث الفقهية، واتّساع مساحة انتشار المسلمين، وكثرة القضايا الفقهية، وتسارع تطوّر المستجدات والحوادث الواقعة...- وجد المسلمون أنفسهم بحاجة إلى معايير يميّزون في ضوئها ما هو من الأحاديث الفقهيّة أو الأحكام الشرعيّة ممّا ليس كذلك، وإلى موازين لفهم النصوص النبويّة والجمع بينها، وإلى تدوين الأحاديث النبويّة لحفظها وسهولة تداولها والرجوع إليها عند الحاجة والمقارنة بينها...

وقد سلك النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) خطوات عدّة لتلبية حاجة المجتمع الإسلامي إلى هذه الموازين والمعايير، منها:

تعليم الناس مجموعة من القواعد الفقهيّة العامة التي يتمكّنون في ضوئها من التعامل مع الوقائع المستجدة المُشابهة، مثل: حديث لا ضرر ولا ضرار[6]، وحديث الرفع[7]، وقاعدة على اليد، وقاعدة الجب، وحديث من سبق إلى مباح، وحديث من أحيا أرضًا... إلخ.

تعليم الناس مجموعة من القواعد التي يقتدرون معها على تمييز الصادر من الأحاديث النبويّة من غيره، كموافقة الكتاب في قوله: «ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه»[8]، والتمسّك بسنته القطعيّة عند الاختلاف[9].

حثُّه على تدوين أحاديثه وسنّته. فقد رُوِيَ أنّ رجلًا من الأنصار كان يجلس إلى النَّبيّ، فيسمع منه الحديث، فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى النَّبيّ، فقال له: «استعن بيمينك، وأومأ بيده للخطِّ»[10].

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قلت: يا رسول اللّه أكتب كلّ ما أسمع منك؟ قال: «نعم».

قلت: في الرضا والسخط؟

قال: نعم، فإنّه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلّا حقًّا»[11].

وأهمّها: الأمر بالتّمسك بالعترة الطاهرة، وتعيين المرجع الدينيّ العام والخليفة الذي يقوم مقامه في أدواره ووظائفه التي منها كلّ ما يتعلّق بالفقه تبليغًا وتعليمًا وتقعيدًا وتطبيقًا... فكان عليٌّ والأئمة من أولاده الطاهرين(عليهم السلام) هم المرجعيّة الدينيّة العامة والفقهيّة بعد النبي بنصٍّ منه، وورثوا علمه وحكمته وفهمه، وكان عندهم ما ورثوه عنه في صدورهم وفي كتب وصحف مدوّنة.

وقد بلّغوا(عليهم السلام) الناسَ الأحاديث النبوية والأحكام الشرعيّة، وعلّموا أصحابهم أصول الاستنباط ودرّبوهم على أساليب فهم الكتاب وسنة المعصومين[12]، وأسّسوا لهم القواعد العامة والخاصة التي تساعدهم على النّظر في الحلال والحرام ومعرفته، وحثّوهم على كتابة العلم وتدوين الحديث وروايته وتذاكره وتعلّمه وتعليمه... كما سيتبيّن بشكل تفصيلي في خلال صفحات الكتاب.

وقد عُرِف الكثير من أصحاب الأئمة(عليهم السلام) بالفقه والفُتْيا، فعن الإمام الباقر(عليه السلام)، قال لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة وافتِ الناس، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك»[13].

وكانوا(عليهم السلام) يُرجِعون الناس إلى الفقهاء وأصحاب الفُتْيا من أصحابهم، مثل زرارة بن أعين[14]، ومحمّد بن مسلم الثقفيّ[15]، ويونس بن عبد الرحمن[16]... إلخ.

وبحقّ بريد بن معاوية العجليّ، وأبا بصير ليث بن البختريّ المراديّ، ومحمّد بن مسلم، وزرارة، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أربعة نجباء، أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست»[17].

انطلاقًا مما تقدّم، يتبيّن أنّ النبي وأئمة أهل البيت(عليهم السلام) وإن لم يدوّنوا علم الفقه بمعناه الاصطلاحي، ولكنّهم جهّزوا البيئة الحاضنة لكلّ ما من شأنه أن يؤسّس لعلم الفقه بمعناه الاصطلاحي.

ولذا، من الطبيعي أن ينطلق البحث عن تاريخ علم الفقه من المرحلة النبويّة، وتعقيبها على الترتيب الزمانيّ بأئمة أهل البيت(عليهم السلام).

نعم، لا بدّ من التنبّه إلى أنّ النبيّ وأئمة أهل البيت(عليهم السلام) ليسوا فقهاء أو علماء فقه بمعنى كونهم مجتهدين يستنبطون الأحكام الشرعيّة من مداركها الأساسيّة، بل هم مدارك الأحكام نفسها، ولذا يكون البحث عن تاريخ علم الفقه في سيرتهم ومواقفهم وكلماتهم هو في الحقيقة بحث في تاريخ التشريع، كي لا نقع في فخ الخلط بين المصطلحات، فالنبيّ أو الإمام هو إمّا مشرِّعٌ وإمّا مُبلِّغ للتشريع كما هو في لوح الواقع، فعلمهما بالأحكام الشرعيّة علم واقعي مصيب دائمًا، وليس كعلم المجتهد أو الفقيه الذي هو علم ظاهريّ يخطأ ويصيب.

وبهذا يتميّز الفقه الإمامي عن غيره، بأنّه فقه نبوي معصوم امتدّ حضوره إلى ما يقارب ثلاثة قرون، ولنصطلح على هذه القرون: «عصر النصّ»، ففي حين أنّ عصر النصّ امتدّ عند الإمامية ثلاثة قرون بما هو مضمون الحقانيّة، فعند المدارس الفقهيّة الأخرى انقطع الفقه النبوي المضمون الحقانيّة بوفاة النبي، فاحتاجوا إلى الرأي والقياس والاستحسان...، فأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) لم يكونوا مجتهدين على حدّ اجتهادات العلماء المعاصرين لهم كأبي حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل وغيرهم، بل كانوا مُحدّثين معصومين، لا يعتمدون آليات الاجتهاد البشريّ، بل كل ما عندهم من فقه وأحكام هو من عند رسول الله، فحديثهم حديث رسول الله وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ[18]، فلا مجال للخطأ أو الاشتباه أو الغفلة أو النسيان فيه، لمكان عصمتهم وعلمهم الواقعي، ولذا كانوا(عليهم السلام) يؤكّدون على أنّه لا يوجد علم صحيح إلا شيئًا خرج من عندهم أهل البيت(عليهم السلام)[19].

ومن شديد أسفٍ، رغم الجهد الكبير الذي بذله أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وأصحابهم في تبليغ الفقه النبويّ وحفظ استمراره في حياة الأمة -إلى درجة أنّ الإمام الصادق(عليه السلام) -كما تقدّم- قال في بعض أصحابه: «لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست»- نلاحظ أمورًا ثلاثة:

الأوّل: تأخّر اهتمام الباحثين في مدرسة أهل البيت بكتابة تاريخ علم الفقه عند الإمامية، وحتى اليوم لا توجد إلا محاولات قليلة -تمّت الإشارة إليها في هذا الكتاب- بالنّظر إلى سعة تراث أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وقوة حضورهم في الحياة الفقهيّة.

يقول الشيخ محمد مهدي الآصفي -في مقدمته على كتابي: «الروضة البهيّة في شرح اللُّمعة الدمشقيّة»، و«رياض المسائل في بيان أحكام الشّرع بالدلائل»-: «ممّا يُؤسَف له أنّ (الفقه الشيعيّ) لم يُؤرَّخ من قِبل الباحثين إلى حدّ اليوم بصورة منهجيّة كاملة، ومَنْ تَحدَّث عن تاريخ تكامل هذا الفقه وتطوُّرِ الكتابة الفقهيّة، لم يتجاوز ترجمة الفقهاء وتصنيف طبقات المُحدِّثين، ولم يظهر لحدّ الآن [١٤١١هـ = ١٩٩٠م] تصنيفٌ لعصور هذا الفقه ومراكزه العلميّة ومدارسه الفقهيّة على امتداد خطّ التاريخ الإسلاميّ... ولم يبحث أحدٌ من الدّارسين كيف تطوَّر هذا الفقه من مستوى المجموعات الحديثيّة والأصول الأربعمائة إلى مستوى «الحدائق الناضرة» و«جواهر الكلام»[20].

والثاني: أنّ المُستشرقين الّذين اشتغلوا على التراث الإسلاميّ عمومًا والأبحاث الفقهيّة خصوصًا أغفلوا -أو قصّروا في- الحديث عن تاريخ علم الفقه عند الإماميّة.

والثالث: أنّ من أرّخ للفقه الإسلامي من أهل السّنة إمّا لم يسلّطوا الضوء على حضور الفقه الإمامي في التراث الفقهي للأمّة الإسلامية وإمّا اقتصروا في معالجة ذلك على إشارات ضعيفة جدًّا.

يقول الشيخ محمد جواد مغنية في مقدمته على كتاب «تاريخ الفقه الجعفري» للسيد الحسني: «ثمّ إنّ العهد بتاريخ الفقه الإسلامي حديث جدًّا ، فلقد أهمله السَّلف إلى أوائل هذا القرن، حيث وضع الشيخ محمد الخضري فيه كتابًا مختصرًا، وقد استوحى فكرة تأليفه من الغربيين، فإنّهم أوّلُ من تنبّه إلى تاريخ الأديان والعلوم والفنون، ثم حَذَا حذو الخضري الشيخ السّبكي بالاشتراك مع بعض شيوخ الأزهر[21]، ثمّ الدكتور محمد يوسف موسى، ولا رابع فيما أعلم»[22].

ولكن هؤلاء المؤلِّفين، لم يكتبوا للتاريخ الذي هو للجميع، وإنّما كتبوا لهم ولطائفتهم، كتبوا في فقه السّنة لا في الفقه الإسلامي، ولم يتعرضوا لفقه الشّيعة، حتى كأنّ الشّيعة لا وجود لهم أو لا فقه لهم، أو أنّهم ليسوا بمسلمين، هذا مع العلم بأنّ مذهبهم من أقدم المذاهب في الفقه بشهادة التاريخ، وقد سبقوا الجميع إلى تدوينه...».

ويقول الشيخ جعفر السبحاني: «كلّ من كتب في تاريخ الفقه الإسلامي وتعرَّض لمنابع الفقه والأحكام، غفل عن ذكر أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وحجّية أقوالهم، فضلاً عن حجّية اتّفاقهم، وذلك بعين الله بخسٌ لحقوقهم...»[23].

وعلى كلّ حال، ما زالت المكتبة العربيّة والإسلاميّة تفتقر إلى كتاب يدرس «تاريخ علم الفقه عند الإماميّة» بشكل موسّع ومفصّل، ويرصد بدايات نشوء هذا العلم ومراحل تطوّره، وأدوار أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) فيه، وتدوينه، ورواة الأحاديث الفقهية، والفقهاء، واتجاهاته ومناهجه، ومعالم مدارسه المختلفة، والظروف الحضاريّة والمعرفيّة والسياسيّة والاجتماعيّة المحيطة بالظّاهرة الفقهية، والعوامل المُساهمة في نهوض علم الفقه أو ركوده ... إلخ.

في هذا السياق، يأتي عمل المركز الإسلاميّ للدراسات الإستراتيجيّة على مشروع تدوين تاريخ علم الفقه عند الإمامية، مُنطلِقًا في مرحلته الأولى بدراسة «عصر النصّ»، بدءًا من الدّور التشريعيّ للنبيّ محمّدٍ، ناقدًا ما نُسب إليه من اجتهاد بالرّأي، مُسلّطًا الضوء على التأسيس النبويّ للمرجعيّة الفقهية لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، متوقّفًا عند نقد مقولة اجتهاد الصحابة، مُعرِّجًا على الدّور الفقهي لكلِّ إمامٍ من أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، بدءًا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصولًا إلى القائم الحجة(عليه السلام)، دارسًا أدوارهم الفقهية، وكتبهم ومدوّناتهم، وأهم القواعد والمسائل الفقهيّة الواردة في رواياتهم، ومناظراتهم الفقهيّة، والرواة عنهم، ودور العوامل الاجتماعية والسياسيّة والثقافيّة المُؤثِّرة في تاريخ الفقه.

كما أنّه يسلّط الضوء بالتحليل والنقاش على الأبحاث والكتب والدراسات والمقالات الشيعيّة التي كُتِبت حول تاريخ الفقه عند الإماميّة، وكذلك بعض الكتب والأبحاث التي دُوِّنت في المناخ العلمي السنّي أو عند المستشرقين عن تاريخ الفقه الإسلامي.

وتشكّل حصيلة الأبحاث المُتقدّمة محاور هذا الكتاب في مرحلته الأولى في جزأيه، وهو ناتج جهود مجموعة من الباحثين الأفاضل.

ثم في المراحل التالية، ينطلق المشروع لدراسة تاريخ علم الفقه بعد انتهاء الغيبة الصّغرى عند فقهاء الإماميّة، بدءًا من القرن الرابع الهجريّ وصولًا إلى الفقهاء المعاصرين، فيبحث عن الملامح العامة لكلّ قرنٍ من القرون، مُعالِجًا الحياة الفكريّة والعوامل المُؤثِّرة في طبيعة علم الفقه، وأبرز الاتجاهات الفقهيّة، مُضافاً إلى بحث بيبلوغرافيّ مختصر يتناول أبرز فقهاء الإماميّة في كلّ قرن، متوقّفًا عند دراسة أبرز الشّخصيات الفقهية في كلّ قرنٍ، ضمن العناوين التالية: نبذة مختصرة عن حياته، رحلاته وأسفاره العلميّة، أبرز أساتذته ومشايخه، إجازاته، أبرز تلامذته، مصنفاته ورسائله وكتبه، مناظراته الفقهيّة، أبرز آراؤه الفقهية، ومنهجه واتجاهه الفقهي.

ومن النماذج على ذلك:

القرن الرّابع: ابن أبي عقيل، الكليني، الصدوقين، وابن الجنيد...

القرن الخامس: المفيد، أبو الصلاح الحلبي، ابن البراج، المرتضى، الرضي، سالار الديلمي، والطوسي...

القرن السادس: الطبرسي، قطب الدين الرواندي، ابن حمزة الطوسي، ابن زهرة الحلبي، وابن إدريس الحلّي...

القرن السابع: معين الدين المصري، ابن نما الحلي، المحقق الحلي، ابن طاووس، الفاضل الآبي...

القرن الثامن: العلامة الحلي، فخر المحقّقين، الشهيد الأوّل...

القرن التاسع: ابن فهد الحلي، المقداد السيوري، وابن أبي جمهور الأحسائي...

القرن العاشر: الصيمري، المحقّق الكركي، الشهيد الثاني، والمحقق الأردبيلي...

القرن الحادي عشر: السيد محمد صاحب المدارك، الشيخ حسن صاحب المعالم، الشيخ البهائي، الأمين الأسترآبادي، المجلسي الأول، سلطان العلماء، الفاضل التوني، والسبزواري صاحب الذخيرة...

القرن الثاني عشر: الحر العاملي، العلامة المجلسي، نعمة الله الجزائري، هاشم البحراني، يوسف البحراني، الفاضل الهندي، والخوانساري...

القرن الثالث عشر: الوحيد البهبهاني، السيد محمد مهدي بحر العلوم، السيد جواد صاحب مفتاح الكرامة، السيد الطباطبائي صاحب الرياض، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، الشيخ أحمد النراقي، الشيخ الجواهري، والشيخ الأنصاري...

القرن الرابع عشر: المجدد الشيرازي، الميرزا الرشتي، الشيخ الهمداني صاحب المصباح، السيد اليزدي صاحب العروة، المحقق الخراساني صاحب الكفاية، الميرزا النائيني، المحقق العراقي، المحقق الأصفهاني، أبو الحسن الأصفهاني، الشيخ عبد الكريم الحائري، والسيد البروجردي... وهكذا.

وسيعالج المشروع أبرز الحوزات والمدارس الفقهيّة في تاريخ الإماميّة، مثل: مدرسة المدينة، مدرسة الكوفة، مدرسة بغداد، مدرسة النجف، مدرسة كربلاء، مدرسة سامراء، مدرسة قم، مدرسة الري، مدرسة الحلة، مدرسة حلب، مدرسة جبل عامل، مدرسة أصفهان، مدرسة البحرين... إلخ.

ذلك كلّه، وفاءً بقسط من تاريخ التراث الفقهي العظيم عند الإماميّة، وكمساهمة في ملء الفراغ الموجود في المكتبة العربيّة والإسلاميّة حول هذا الموضوع.

وهنا تجدر الإشارة، إلى أنّ غاية هذا المشروع تعريفيّة أكثر منها تخصّصية بالمعنى الاجتهادي، لأنّ الفئة المُستهدفة منه هي المهتمّين بتاريخ العلوم عند الإماميّة عمومًا وتاريخ الفقه خصوصًا، وطلبة الدراسات العليا، كي يطّلعوا على تاريخ هذا العلم ويأنس ذهنهم بما يذخر به تاريخ الإماميّة من عطاء فقهي، ويتمكّنوا من الإجابة عن بعض شبهات المستشرقين والمستغربين الّذين عالجوا قضايا تاريخ الفقه الإسلامي من منظار إقصائي لتراث الإماميّة والتقليل من شأن الفقه الإماميّ.

وأخيرًا، نرفع أسمى آيات الشّكر لكلّ من ساهم في نجاح هذه المرحلة من المشروع، نخصّ بالذّكر منهم الباحثين الأفاضل على ما بذلوه من جهود علميّة وبحثيّة، والسيد هاشم الميلاني المشرف العام على المركز الإسلاميّ للدراسات الإستراتيجية، ومدير مركز بيروت الشيخ حسن الهادي، وأعضاء اللّجنة العلميّة في المركز، على مشاركتهم في جلسات العصف الفكريّ والتخطيط للمشروع، ومتابعة التقويم العلمي للأبحاث، والملاحظات التي قدّموها في هذا السياق، والتي أثمرت وآتت أكلها في ولادة المشروع وتطوّره وخروجه بالصورة التي هو عليها، ونتوجّه بالشكر الجزيل للمخرج الفنيّ السيد علي مير حسين، وللشيخ غسان الأسعد على جهده في التصحيح اللغويّ، سائلين المولى عزّ وجلّ أن يجعل ثواب هذا العمل في ميزان حسناتهم جميعًا يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونٌ إلّا من أتى الله بقلب سليم.

سامر توفيق عجمي

مدير ملف تاريخ علم الفقه

المركز الإسلاميّ للدراسات الإستراتيجيّة

 

-----------------------------------------

[1]- العلامة الحلي، تحرير الأحكام، ص40.

[2]- المقداد السيوري، التنقيح الرائع لمختصر الشرائع، ص3.

[3]- الكليني، أصول الكافي، ج 1 ، ص 53 ـ 58.

[4]- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة ، ج1، ص 129.

[5]- الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج١، ص٢٩٠، ح٣٩.

[6]- انظر: الكليني، الكافي، ج٥، ص٢٩٤.

[7]- الصدوق، التوحيد، ص٣٥٣.

[8]- الكليني، الكافي، ج١، ص٦٩.

[9]- انظر: البرقي، المحاسن، ج١، ص٢٧.

[10]- الترمذي، سنن الترمذي، ج ٥، ص ٣٤، ح٢٦٥٨.

[11]- ابن حنبل، مسند أحمد، ج٢، ص٢٠٧.

[12]- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج١، ص٢٩١، ح١.

[13]- النجاشي، رجال النجاشي، ص ٨.

[14]- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج١٨، ص١٠٤، ح١٩.

[15]- المصدر نفسه، ح٢٣.

[16]- المصدر نفسه، ح٣٣.

[17]- الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال، ج١، ص٣٩٨ رقم: ٢٨٦ ترجمة ليث المرادي.

[18]- الكليني، الكافي، ج١، ص٥٣.

[19]- المصدر نفسه، ص٣٩٩.

[20]- هذا، وقد سبق تاريخ نصّ الشيخ الآصفي (١٤١١هـ.ق) أنّ دوّنّ الأستاذ د. محمود الشهابي الخراساني، كتابه «أدوار فقه - فقه الشيعة من القرن الثامن»، وهو كتاب ضخم، ص١٩٥٠، صدر باللغة الفارسية سنة ١٣٢٩هـ.ش- ١٩٥٠م. وقام بعده السيد هاشم معروف الحسني (ت١٤٠٣هـ.ق) بتحفيز من الشيخ محمد جواد مغنيّة، بكتابة: «تاريخ الفقه الجعفري» و « المبادئ العامة للفقه الجعفري»، في سياق إرادة التعريف بتاريخ الفقه الشيعي الإمامي.

[21]- محمد عبد اللطيف السبكي في كتابه: « تاريخ التشريع الإسلامي»، بالاشتراك مع محمد علي السايس ومحمد يوسف البربري.

[22]- هذا إلى التاريخ الذي كتب فيه الشيخ مغنية المُقدِّمة المذكورة.

[23]- السبحاني، أصول الفقه المقارن فيما لا نص فيه، ص٢٩١.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف