مناهج العلوم الاسلامية - العلوم الاسلامية وثلاثية العقل والنص والواقع - (الجزء الثاني)

مناهج العلوم الاسلامية - العلوم الاسلامية وثلاثية العقل والنص والواقع - (الجزء الثاني)

تأليف :

مجموعة باحثين

 

فهرس المحتويات

أولًا- الفصل الأوّل: العقل والعلوم الإسلاميّة

مشكلات العقل في العلوم الاسلامية

العقل في القرآن

العقل في الروايات

مساحة اعتبار العقل

ثانيًا- الفصل الثاني: النص والعلوم الإسلاميّة

مفهوم النص الديني ومركزيته في العلوم الاسلامية

أسباب الاختلاف في فهم النص الديني في منظومة العلوم الاسلامية

نظرية القراءات المتعددة للنص بين المؤيدين والمعارضين

موقع النص القرآني في استنباط مسائل العلوم الاسلامية

مكانة الرواية في استنباط مسائل العلوم الاسلامية

ثالثًا- الفصل الثالث: العلوم الإسلاميّة بين الواقع والواقعيّة

العلوم الاسلامية وتكاملية العقل والنص و الواقع

الوضعية المنطقية و واقعيتها الموهومة

 

 

مقدّمة المركز

 

الحمدلله رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الطاهرين(عليهم السلام)، وبعد...

لقد زوّد الله تعالى الإنسانَ الذي يخرج من بطن أمّه جاهلاً غير مزوّد بأيّ لون من ألوان المعرفة، ولا توجد لديه أية فكرة، مهما كانت واضحة وعامّة في الذهنية البشرية لحظة وجوده على وجه الأرض،  باستعداد فطري خاصّ وأدوات معرفيّة محدّدة يتمكّن بواسطة استخدامها من تحصيل العلم بنحو تدريجي تراكمي، ورئيس تلك الأدوات المعرفية هو العقل، أي قوّة التفكير وإدراك الكلّيات والتحليل والتركيب والاستنتاج الذهني...، وبهذه القوة يتميّز الإنسان عن سائر الكائنات المشاركة له في وحدة الحياة، حيث إنّ الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على إنتاج المعرفة، والنظريات العلمية، والاستدلال عليها، وصياغتها لفظياً وتدوينها في الكتب، ونقلها بالتعليم من جيل إلى جيل والمراكمة عليها.

ويمتاز المنهج العقلي بوجود مجموعة من المعارف البشرية الأوّلية غير المُستدَلة والتي تحصل في النفس بالاضطرار من دون اعتمادها على معلومات أسبق منها، يطلق عليها اسم البديهيات العقلية، مثل: قانون التناقض، وقانون السببية العام، وقانون التضادّ، وقانون الأمثال...، وتشكّل هذه القوانين العقلية البديهية البناء المعرفي التحتي الذي ينطلق منه الإنسان لإنتاج المعارف الأخرى، وهي صنف معارف تنتهي إليها كلّ المعارف الأخرى، التي يطلق عليها اسم المعارف النظرية والكسبية، والتي تحتاج من أجل الوصول إليها لإجراء عملية عقلية ينتقل فيها الذهن البشري من المعلومات الحاضرة فيه والمخزونة في أوعيته الحافظة إلى معرفة المجهول، ويطلق على هذه العملية اسم التفكير العقلي.

ومن الواضح أنّ المنهج الاستدلالي العقلي أهمّ المناهج العامّة للتفكير البشري، وهو أسلوب تفكير يستند إلى قوانين المنطق العقلي كأداة لبناء المعرفة وتوليد العلم، وقد استخدم الفلاسفة اليونانيون والمسلمون هذا المنهج في جميع ميادين المعارف المتضمّنة في خارطة الفلسفة بالمعنى الأعمّ...، وفي الحقيقة، إن هذا المنهج لا يقتصر استخدامه على ميدان معرفي خاص، بل له دائرة واسعة من التوظيف في حقول معرفية وعلمية مختلفة.

وأما قضية موقع النص في بناء منظومة العلوم الإسلاميّة، فإنّ المسألة ترتبط بالمنهج النقلي، أو المنهج الوحياني، وهو أسلوب بحثي يعتمد على النصوص الدينية في دراسة موضوع البحث وفهم خصائصه وأحواله أو معالجة المشكلة البحثية وإيجاد الحلّ المناسب لها. فهو المنهج الذي يعتمد على القرآن والسنّة في إثبات مسائل العلم المستخدم فيه، سواء في أصل ثبوت الموضوع أو إثبات محمولاته له.

وللمنهج القرآني مرتكزات في إنتاج المعرفة الدينيّة حيث يعتمد الباحث على آيات القرآن الكريم ومدلولاته في مقدّمات الاستدلال المُستخدَم داخل ميدان معرفي معيّن لدراسة الموضوع والكشف عن أحواله وخصائصه، وإثبات قضايا العلم. ومن المقدّمات الأساسية في الاعتماد على القرآن كمصدر استدلالي لتشكيل المعرفة هو الإيمان بخلود القرآن واستمرارية صلاحتيه ككتاب مقدّس في عمود الزمان، بمعنى الاعتقاد بأن القرآن ليس كتاباً خاصاً بمخاطبة الفئات التي عاصرت البيئة الثقافية التي نزل فيها بنحو يمنحه الزمان تاريخه، بحيث لا يصلح الاستناد عليه في الواقع المعاصر الذي تغيّر وتبدّل عمّا كان عليه في مختلف نواحي الحياة. وفي هذا السياق، نلاحظ أنّ الروايات قد شدّدت على عدم تاريخيّة القرآن، وأكّدت على أنّه كتاب حيّ لا يموت، فعن الإمام محمد الباقرj، قال: «إنّ القرآن حيٌّ لا يموت، والآية حيّة لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا فمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين»[1].

وعنهj: «... لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية إذاً ما بقي من القرآن شيء، إنّ القرآن يجري أوله إلى آخره وآخره إلى أوله ما قامت السماوات والأرض، فلكلّ قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شرّ»[2].

وإن القواعد العقلية البديهية القطعية بمنزلة القرائن المتّصلة أو المنفصلة لفهم النصّ القرآني فإنّ العقل حجّة باطنة لله تعالى على الإنسان، ولديه القدرة بشكل مستقلّ على تحصيل العلم اليقيني والقطع بالكثير من القضايا، وهذه القضايا المدركة بالعقل على قسمين: نظرية وبديهية.

وقد صرّح العديد من المفسرين المعاصرين، كالسيد الخوئي، والسيد الطباطبائي، باعتمادهم على القضايا العقلية البديهية والفطرية في تفسير القرآن، وصرّح بعض العلماء بأنّ القواعد العقلية بمنزلة القرينة المنفصلة –أو المتّصلة- لفهم المتن القرآني في ضوئها[3]، بل هذا شأن الدليل اللبّي القطعي كقرينة خارجية في فهم النصوص كما ثبت في أبحاث أصول الفقه.

يقول السيد الخوئي في بيان منهجه التفسيري: «... وسيجد القارئ أنّي لا أحيد في تفسيري هذا عن ظواهر الكتاب ومحكماته وما ثبت بالتواتر أو بالطرق الصحيحة من الآثار الواردة عن أهل بيت العصمة من ذرية الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما استقلّ به العقل الفطري الصحيح الذي جعله الله حجّة باطنة كما جعل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) حجّة ظاهرة»[4]. 

وإن المنهج الاستدلالي الروائي هو القسم الثاني من أقسام المنهج النقلي، وهو عبارة عن اعتماد الباحث على الأحاديث والروايات الصادرة عن النبي وأئمّة أهل البيت(عليهم السلام)  في إثبات أصل موضوعات قضايا المعارف الدينية، أو إثبات خصائص الموضوع وأحواله وصفاته.

ولا ريب في أنّ الوحي السماوي كمشكِّل أساس للنصّ الديني معصوم عند نزوله من الله تعالى مباشرة، أو بواسطة جبريل، على قلب النبي المبعوث من قبله تعالى، لتنزّه الحضرات والمراتب التي يتنزّل فيها الوحي من خزائن علم الله تعالى عن أيّ لون من ألوان الخطأ والاشتباه والنسيان والغفلة والتحريف... خصوصاً أنّها ليست من سنخ العلوم الحصولية. ويقوم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بتبليغ الوحي الإلهي إلى الناس كما أنزل إليه من الله تعالى وجبرئيل بدون زيادة أو نقصان، لأنّه معصوم في مقام التبليغ باتّفاق جميع علماء المسلمين، وكذلك حال الإمام المعصوم عند الشيعة الإمامية، في جميع أخباره وأحاديثه.

وإن الروايات المتواترة، بل القرآن الكريم أيضاً، رغم كونه قطعي السند والصدور، إلا أنّ أغلب دلالته من حيث المتن ظنّية، بمعنى أنّ الباحث في المتن الروائي أو القرآني لتفسيره واستخراج المعاني منه، يصل إلى الكشف الظنّي عن المراد الجدّي لله والمعصوم في كلامه. ويشهد على ذلك، تعدّد الآراء التفسيرية واختلاف الاجتهادات في فهم مدلولات الآيات والروايات حتى بين علماء المدرسة العقائدية والفقهية والتفسيرية الواحدة. وقد عالج علماء أصول الفقه هذه القضية في أبحاثهم بنحو وافٍ، مقرّرين أنّ الظهور حجّة، استناداً إلى سيرة أصحاب النبي والأئمّة(عليهم السلام)، ...ولو لم يكن هذا السلوك مرضيّاً لنهى عنه المعصوم وبيّن موقفه الرافض له[5].

ومن الأمور التي ينبغي أن يلاحظها الباحث لمحاكمة المتن ونقده، هو أن لا يكون معارضاً لما ثبت من القواعد العقلية الفطريّة اليقينية، فمثلاً قد ثبت بالأدلّة العقلية القطعية أنّ الله تعالى مجرّد، تام، وليس جسماً، ولا جسمانياً، فإذا كان هناك رواية فيها تشبيه وتجسيم صريح لله تعالى كوصفه بالضحك أو البكاء أو القيام أو القعود، فإنّ هذا المتن يسقط عن الاعتبار، فإنّ الدليل اللفظي القطعي لا يمكن أن يعارضه دليل برهاني أو استقرائي قطعي، لأنّ دليلاً من هذا القبيل إذا عارض نصّاً صريحاً من المعصومj أدّى ذلك إلى تكذيب المعصومj وتخطئته، وهو مستحيل...(و) إذا عارض الدليل اللفظي غير الصريح دليلاً عقليا قطعياً برهانيًّا أو استقرائياً قدّم العقلي على اللفظي... ونحن هنا على ضوء الدليل العقلي القطعي نعلم بأنّ الدليل اللفظي لم يرد المعصومj منه معناه الظاهر الذي يتعارض مع دليل العقل، فلا مجال للأخذ بالظهور»[6].

يعالج هذا الكتاب مكانة العقل ودوره في فهم النص واستنباط المعرفة الدينيّة، وموقع النص في بناء منظومة العلوم الإسلاميّة، ومدخليّة الواقع في فهم النص واستنطاقه، وهي القضايا الرئيسة التي شكّلت محور البحث والتحليل والنقد والمقارنة في هذا الكتاب (الجزء الثاني من سلسلة مناهج العلوم الإسلامية).

ويبقى الشكر موصولاً لكل من ساهم في إنجاز هذ الكتاب من المدير العلمي للمشروع ومساعده، والباحثين والفنيين.

والحمد لله رب العالمين

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

 

مقدمة الكتاب

الحمد لله الذي هدانا إلى سبيله القويم وأرشدنا إلى صراطه المستقيم وأنعم علينا بالاعتصام بحبله المتين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

في مقدّمة الكتاب السابق (الجزء الأول من هذه السلسلة) شرحنا مفصّلًا أهداف هذا المشروع لدراسة وتدوين مناهج العلوم الإسلاميّة، وأوضحنا هناك أنّ القسم الأوّل من المشروع  بأجزائه الثلاثة مخصّص للمقدّمات النظريّة التي تمهّد للأجزاء اللّاحقة المخصّصة لدراسة مناهج مختلف العلوم الإسلاميّة علمًا علمًا.

وذكرنا أنّ هذه المقدّمات التأسيسيّة تأتي في ثلاثة أجزاء: الجزء الأوّل الذي أشرنا إليه آنفًا والذي تمحور حول أسس المعرفة الدينيّة وقضايا العلوم الإسلاميّة، وهذا الجزء الثاني الذي خصّصناه لموضوع: العلوم الإسلاميّة وثلاثيّة العقل والنص والواقع. ويأتي لاحقًا إن شاء الله الجزء الثالث الذي يُعنى بالمناهج العامة الأساسيّة والفرعيّة.

وفي هذه المقدّمة، نُبيّن أهميّة موضوع هذا الكتاب بين أيدينا، والقضيّة المحوريّة التي تصدّى لها، ونشرح تبويبه وتقسيمه، ونعرض أسئلته الكبرى ونتائج معالجاته واستخلاصاته.

فحينما نتأمّل مسار تشكّل العلوم الإسلاميّة عبر تاريخها الطويل، نلاحظ تفاعلًا بين ثلاثة عناصر أساسيّة:

أ- النص الديني: ونقصد به القرآن الكريم وسنّة المعصومين(عليهم السلام) التي مثّلت حضن كلّ العلوم ومحورها التي تدور مداره، ففهم هذا النصّ وتدبّره هو الخطوة الأولى لبناء المعارف الإسلاميّة وبناء منظومة هذه العلوم.

ب- الإنسان: بما أوتي من عقل وفكر وطاقات فطريّة واستعدادات وقابليات. فالإنسان هو المقصود بالخطاب الديني، وإليه يتوجّه النصّ الديني، والعقل إحدى مميّزات الإنسان عن سائر المخلوقات الأدنى منه والأرقى، ولذا كان العقل مناط التكليف (إياك آمر وإياك أنهى) وشرط من شروطه، بل هو أساس الدين وأصله ومبدأ معرفة الله والاعتقاد بالنص نفسه.

ج- الواقع: ونريد به العناصر الزمانيّة والمكانيّة بكلّ خصائصها ومقتضياتها، التي تشكّل بيئة تنزّل النصّ الديني في عصوره الأولى، وكذلك بيئات استمرار تنزّله عبر الأجيال والأمم والمجتمعات في أفق الزمن المفتوح.

في فضاء سيّال عبر الزمن (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، فالنصوص الدينيّة سيبقى تنجيمها المعنويّ مستمرًّا بعدما اكتمل تنجيمها التنزيلي: ختم النبوّة وانقضاء عصر الإمامة.

ولمّا كان النصّ ليس مجرّد خطاب لأولئك الذين عاشوا زمن الرسالة والنزول، بل هو يتخطّى حدود الزمان والمكان، ويتجاوز حُجب التاريخ وبيئة النزول، والسرّ في هذه القدرة على التخطّي، والتجاوز ألوهيّة المصدر وتعالي الوحي من جهة؛ ومرونة النصّ وبُنيته القائمة على عنصري الثابت والمتغيّر، ومراعاة الحاجات والمتطلّبات الثابتة بمضامين ثابتة والحاجات المتحوّلة بمضامين متحوّلة ومتحرّكة؛ من جهة ثانية، ولأجل ذلك كانت عمليّة تفسير النص وتأويله مستمرّة ومتواصلة ما دام الإنسان، وما دامت الحياة. 

ولما كان الواقع متبدّلًا ومتغيّرًا، يفرض في كلّ منعرج على الإنسان حاجات مستجدّة وأسئلة مستحدثة، كان هناك حاجة لهذا التفاعل بين منطوق النص، والعقل الإنساني، ومتحوّلات الواقع.

وعن هذا التفاعل وعلاقة العلوم الإسلاميّة عمومًا بهذه الثلاثيّة، تُطرح جملة من الأسئلة الكبرى التي تتمحور حولها فصول الكتاب ومباحثه، وأهمّ هذه الأسئلة:

- ما مكانة العقل ودوره في فهم النص واستنباط المعرفة الدينيّة؟

- ما موقع النص في بناء منظومة العلوم الإسلاميّة؟

- هل للواقع مدخليّة في فهم النص واستنطاقه وكيف ذلك؟

- كيف دافعت العلوم الإسلاميّة عن واقعيّتها وفنّدت الواقعيّات الموهومة للمدارس الأخرى كالمادية والوضعيّة؟

والكتاب بفصوله الثلاثة جاء في سياق معالجة هذه الإشكاليات والإجابة عن هذه الأسئلة: فالفصل الأول تناول إشكاليّة العقل والعلوم الإسلاميّة، والفصل الثاني عالج سؤال النصّ ومركزيّته في بناء العلوم الإسلاميّة، والفصل الثالث تصدّى لإشكاليّة الواقع والواقعيّة.

أولًا- الفصل الأوّل: العقل والعلوم الإسلاميّة

يتضمّن هذا الفصل خمسة مباحث، سعى فيها المؤلّفون أن يجيبوا عن الأسئلة المتعلّقة بالركن الأوّل من الثلاثيّة، وهو العقل: فسَعَوْا لمقاربة القضيّة، وتنقيح معنى العقل في اللغة والاصطلاح. وبناء نظرية العقل مِنَ النصوص القرآنية والنصوص الروائيّة وأخيرًا: تحديد مساحة اعتبار العقل في فهم الدين.

 فقد تناول المبحث الأول: «مشكلات العقل في العلوم الإسلاميّة»، كتبه البروفسور اللبناني الدكتور حسن رضا، وهو مقاربة للقضيّة وعرض منهجيّ لإشكالية العقل في تجلّياتها وأسبابها وحلولها.

وهو ابتداءً يُقارب مفهوم العقل انطلاقًا من المدلول اللغويّ الموحي بالمهمّة المنوطة به، وهي منع الإنسان من الوقوع في الشرور والرذيلة والخطيئة، ويُؤكّد على شموليّة معنى العقل لقوى كثيرة في النفس وعدم اختزاله في القوّة الناطقة، وهذا ما يتجلّى أيضًا في منظور القرآن الكريم.

وركّز الباحث في مقاربته على ضرورة تحقيق التوازن بين العقل والوحي، فأغلب المشكلات التي واجهت العلوم الإسلاميّة في مسارها التاريخي هي بِسبَبِ ما أسماه المؤلف «غلبة أحد البديلين على الآخر»، وتنازل غير سويّ لأحدهما عن موقعه.

وحلّل الكاتب تجلّيات هذه المشكلة في فرعين أساسيين من العلوم الإسلاميّة: علم الكلام، وعلم أصول الفقه. واقترح الدكتور حسن رضا بعض الخطوات لتفعيل هذه التكامليّة بين العقل والوحي، وتعميق حضور العقل والوحي في هذه العلوم في ضوء ما يفرضه الواقع من مستجدات معرفيّة وفلسفيّة دون تنازل عن أصالة هذه العلوم.

وقد عالج المبحث الثاني: «العقل في القرآن»، وكتبه الدكتور مهدي أحمدي، الأستاذ المساعد في قسم الإلهيات الإسلاميّة بجامعة شيراز.

وفي هذا المبحث، حاول المؤلّف أن يقدّم رؤيةً قرآنيّةً للعقل، مهّد لها بالـتأكيد أنّ العقل كان ولا يزال المائز الأساس بين الإنسان وباقي الموجودات؛ وقد نزل القرآن الكريم مستثيرًا في الإنسان عقله، وطالبًا سلوكه السليم، ومانعًا انحرافه عن التفكير القويم؛ حتى لا تطغى الغريزة عليه وعلى تعقّله، ويرسّخ قدميه على طريق التّدبّر والتفكّر للوصول إلى الحقائق التي أودعها الله في خلقه.  

وقوام هذه الرؤية القرآنيّة العناصر الآتية:

ـ لفظ العقل ومشتقّاته واستخداماته في القرآن الكريم

ـ مرادفات العقل في القرآن

ـ معاني التعقّل في القرآن كما استنتجها المفسّرون من الآيات

ـ مجالات التعقّل وموانعه.

وقد خلُص البحث إلى مجموعة استنتاجات نوردها فيما يلي:

- في القرآن الكريم، وَرَدَ فعل عقل في تسعةٍ وأربعين موضعًا، ولم يَرِدْ بشكلِ مصدر مطلقًا، وكلّ أفعال العقل تدلُّ على عمليّة الإدراك والتفكير والفهم لدى الإنسان، وقد جاء العقل في القرآن الكريم بصيغ مختلفة منها: يعقلون، تعقلون، يعقلها، نعقل، عقلوه. كما جاء من خلال مجموعة من المرادفات، منها: لُب، النهى، القلب، الحجر، الفكر...

ومن اللّافت في الاستخدام القرآني لمشتقات لفظ العقل أنّه لا يستخدمها إلاّ بالصيغة الفعلية، ولم يرد بالصيغة الاسميّة، ولا بصيغة المصدر، ولا باسمي الفاعل والمفعول. وإنّ وروده بصيغة الفعل أقوى من حيث الاستعمال وأداء المعنى من وروده بالصيغة الاسميّة.

- أكّد المفسّرون في مهام العقل على إفادة المعرفة واليقين، وطريق تشخيص الحقّ والمصالح والمنفعة والربح والخسارة، ومعرفة الحسن والقبح. غير أنّهم قلّما تحدّثوا عن أسلوب التفكّر والتعقّل، وهذه -بلا مراء- أهمّ قضيّة في مضمار مفهوم العقل في القرآن الكريم، إذ إنّ معرفة طريق التفكّر هي التي تميّز بين العقل والفكر من ناحية، والوهم والخيال وسائر أنواع الإدراكات غير اليقينيّة من ناحية أخرى.

- واعتبر الباحث أنّ الاتّجاهات التفسيريّة تنزع لاعتبار العقل عين المعرفة أو كونه أداةً للمعرفة، وأنّ أهم مجالات التفكير والتعقّل التي حثّ عليها القرآن هي علم الوجود والأخلاق والأحكام.

وفصّل موضوعات عديدة ضمن هذه المجالات الثلاثة، ونبّه لمسألة تميّزت بها المعالجة القرآنيّة لسؤال العقل والتعقّل وتُهملها عادة الفلسفة والفكر الإنساني، ألا وهي موانع التفكير، فأشار لعدّة عناوين، كالفسق، والانحراف القلبي، وعبادة الأوثان، واتباع الشيطان، والتقليد الأعمى..... 

وعالج المبحث الثالث: قضية «العقل في الروايات» وهي مقالة للدكتور رضا برنجكار، الأستاذ المساعد في جامعة طهران.

بعد أن عالجنا نظريّة العقل في القرآن الكريم في المبحث السابق، جاء دور الروايات، وهذا البحث لاستكشاف النظريّة الحديثيّة أو الروائيّة لِلعقل مفهومًا، وموقعًا، وأبعادًا، وأدوارًا، وصِلاته بالأخلاق والدين والعلم. 

ومهّد الدكتور برنجكار للمعالجة بالإشارة إلى أهميّة الإرادة العقلانيّة، فهي التي تُبرز قيمة الإنسان في البين وتضعه في منزلة أسمى من الملائكة، ما لم يستتبع إرادته الشهوانيّة التي تقوده إلى الرذيلة والضياع وتجعله أسوأ من البهائم.

في محاولته لتحديد مفهوم العقل في الروايات، وبعد تتبّع واستقراء صرّح أنّ العقل في الروايات يقع في قبال أمور من قبيل: الشهوة، وهوى النفس، والآمال الطويلة والعريضة، والكبر والغرور، والغضب والطمع والعُجب... ونبّه إلى أنّ الجهل ليس له معنى واحد في كلمات المعصومين(عليهم السلام)؛ فهو تارة يعني عدم العلم، فيكون في قبال العلم وبالتالي فهو عدميّ، وتارة يكون الجهل بمعنى الشهوة ويتمّ بيانه بوصفه أمرًا وجوديًّا، والجهل بهذا المعنى يقع في قبال العقل، وإنّ هذين الأمرين -العقل والجهل- قوّتان متضادّتان، حيث يشهد الإنسان على الدوام حالة التنازع والصراع بينهما.

أمّا على مستوى المهام والأدوار، فاستكشف الباحث من تتبّعه للروايات أنّ أبعاد العقل ثلاثة:

البُعد النظريّ، والبُعد العمليّ، والبُعد الأداتيّ. أي إنّنا يمكننا أن نتحدّث انطلاقًا من الأحاديث عن العقل النظري، وهو الذي يسعى لاستكشاف الحقائق النظريّة ومعرفة الأمور الواقعيّة، والعقل العملي هو القوّة المعرفيّة التي تدرك ما ينبغي فعله، أو هو القوة التي تعمل على تحريك الإنسان نحو القيام بأعماله. والعقل الآلي، وهو عقل المعاش وتدبير شؤون الحياة، فهو قوّة يستعين بها الإنسان لتنظيم معاشه وحياته.

ومن جهة ثانية، ينقسم العقل في الروايات إلى بُعدين؛ وهما: البُعد الفطريّ (غير الاكتسابيّ)، والبُعد الاكتسابيّ. وإنّ الإنسان من خلال قيامه ببعض الأمور والأفعال، يعمل على زيادة عقله أو خفضه.

ويستنتج الدكتور برنجكار في ضوء تحليله العلاقة التكامليّة بين العقل من جهة، وبين الأخلاق والدين والعلم من جهة أخرى، والتأثير المتبادل بين العقل وبين كلّ واحد من هذه الثلاثيّة.

وتناول المبحث الرابع: «مساحة اعتبار العقل»، وهو بقلم الباحث محمد حسين زاده، الأستاذ المساعد في مؤسّسة الإمام الخميني (رحمه الله) التعليميّة للأبحاث والتحقيق.

وفي هذا المبحث، عالج الباحث سؤالين أساسيين: ما هو مدى اعتبار العقل في الدين؟ وفي أيّ مجال من مجالات الدين يمكن الاعتماد على العقل للوصول إلى المعرفة؟

ورأى الباحث أنّ المصادر التي يمكن في ضوئها الحصول على المعرفة الدينيّة بشأن الدين وأجزائه المتنوّعة، محدودة، وتشمل الموارد الآتية:

- العقل أو الأدلّة العقليّة.

- النقل أو الأدلّة النقليّة.

- الحواس.

- الشهود.

في ضوء الرأي الشائع، يكون للحواس دائرةٌ خاصّة في الدين، ولا تشمل جميع القيم والأحكام والمعارف الدينيّة. وأمّا العقل أو الأدلّة العقليّة، فإنّها تلعب أهمّ الأدوار في حقل العقائد الأصوليّة في الدين. وبطبيعة الحال، فإنّ الأدلّة النقليّة والرّوايات الحاكية عن الوحي والإلهام، يمكن لها أن تساعد العقل، وتعمل على تعميق معرفته في ذلك الحقل. وعلاوة على ذلك، يمكن للعقل أن يدرك كلّيّات الأخلاق والحقوق وغيرها من القيَم، ويتعرّف على وجوبها وحسنها وقبحها ومناسبتها أو عدم مناسبتها؛ وبذلك فإنّه في هذا الحقل يدرك مسألة حسن العدل وقبح الظلم على نحو الاستقلال، بل يمكن له أن يعتبر هذه الأمور من الأصول البديهيّة للعقل في حقل القيَم.

إنّ مساحة العقل في حقل الأحكام العمليّة للدين محدودة جدًّا، وهو في تلك الموارد يعمل -بمساعدة من الحواس أو من دونها- على إدراك رجحان أو لزوم أمر ما، أو ضرورته أو عدم ضرورته؛ على الرغم من وجود الأدلّة النقليّة حتّى في هذه الموارد أيضًا، وهي تؤيّد ما يتوصّل إليه العقل. وعلى هذا الأساس، فإنّ العقل في حقل معرفة القيَم والأحكام الأخلاقيّة والحقوقيّة والفقهيّة في الأمور غير التوقيفيّة يستطيع أن يتوصّل إليها من خلال كشف ملاكات الأحكام، ويحكم بضرورتها أو عدم ضرورتها، ورجحان أو لزوم بعض الأفعال. وبعبارة أدق: أن يتعرّف على ضرورتها أو رجحانها. وفيما يتعلّق بالأمور التوقيفيّة التي لا يمكن التعرّف عليها إلّا من طريق الشارع، لا يمكن للعقل أن يتعرّف على ملاكاتها وعلل أحكامها على نحو الاستقلال. وإنّ كلّ ما يمكن للعقل أن يعرفه في هذا الحقل لا يعدو أن يكون حِكمة من حِكَم الأحكام لا غير. ومن هنا، يجب الإحجام عن توظيف العقل في معرفة الأحكام التوقيفيّة وإدراك مناطاتها وغير ذلك من الأقسام التوقيفيّة من الدين.

وفي مقابل هذه الرؤية التي يقبل بها عموم المفكّرين المسلمين يوجد رأيان آخران:

- العقل بصفته ميزانًا للدين: بمعنى أنّ المسائل التي يؤيّدها العقل ويمكنه أن يقيم الدليل على صحتها، تمثّل أجزاء الدين، أما الأمور الأخرى التي تنسب للدين فإذا قام العقل برفضها فإنّها لا تكون من الدين.

- العقل بوصفه أداة للدين: بمعنى أنّ دور العقل في الدين يقتصر على إثبات وجود الله ونبوّة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) وإمامة الأئمة (عليهم السلام) وعصمتهم وحجيّة أقوالهم وأفعالهم، وعندما ينتهي العقل من هذه المهمّة لا يبقى له دور آخر، فهو قد أوصلك إلى منابع المعرفة؛ الوحي والنصوص.

وناقش الباحث النظريتين الأخيرتين، ورجّح نظريّة المشهور التي عزّزها ببيانٍ تفصيليٍّ لموضوعات العقيدة وتفريعاتها ودور كلّ نوع من أنواع الأدلة في إثبات موضوعاتها محدّدًا دور العقل في كلّ مورد من هذه الموارد.

ثانيًا- الفصل الثاني: النص والعلوم الإسلاميّة

بعد مقاربة سؤال العقل والعلوم الإسلاميّة في الفصل السابق، يأتي هذا الفصل الثاني عن مكانة النص الديني، وأدواره في منظومة العلوم الإسلاميّة، فنطرح إشكاليّة مفهوم النص ومكانته في مجال العلوم الدينيّة في المبحث الأول، وأسباب اختلاف العلماء في فهم النص الديني في المبحث الثاني، ونظريّة تعدّد القراءات بين القبول والرفض في المبحث الثالث. أمّا موضوع مكانة النص القرآني، وموضوع مكانة النص الروائي في استنباط العلوم الإسلاميّة، فقد جاءا تِباعًا في المبحثين الرابع والخامس.

 المبحث الأول: «النص ومركزيّته في العلوم الإسلاميّة»، وكتبه السيد هشام إبراهيم أبو هاشم، أستاذ الحوزة العلمية في لبنان.

وفيه أكّد الباحث أنّ النصّ الدينيّ له مكانة مميّزة في الفضاء الفكريّ والاجتماعيّ الإسلاميّ إذا ما قيس بأيّ منظومة نصّيّة أخرى. فالنصّ الدينيّ الإسلاميّ يحوي مركز جذب قويّ وأساسيّ متّسم بالحفظ والعصمة، وهو القرآن الكريم، كتاب الله الخالد الذي أُنزل هدًى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان بين الحق والباطل. وإلى جانب القرآن، هناك سنّة المعصومين أي أقوال وأفعال وتقريرات المعصومين، النبي وآله الطاهرين، والتي وصلتنا في مجاميع روائيّة. وهذه الروايات كانت بمثابة الشارح والموسّع للأسس والكلّيّات والخطوط العريضة التي جاء بها القرآن. ومع كون هذه المجاميع الروائيّة بجلّها ليست قطعيّة الصدور، إلّا أنّ هذا لم يمنع المسلمين من الاستفادة منها وتعظيمها بعدما أعملوا فيها أدوات الاستفادة من مداليلها، ومناهج التحقّق من أسانيدها ورُوّاتها ومصادرها.

وقد عالج السيد هشام أبو هاشم المسألة وفق مسار منهجيٍّ مترابطِ الحلقات في أربعة مطالب:

المطلب الأول: «النصّ الدينيّ: المفهوم والتكوين والمنزلة»، حدّد فيه مفهوم النصّ في اللغة والاصطلاح، وفي اصطلاح الدراسات الأدبيّة والعلوم الدينية.

المطلب الثاني: «أنواع النصّ الدينيّ ووظائفه وتأثيراته»، تعرّض فيه لعلاقة النص القرآني والنص الروائي وخصائص كلّ منهما، كما تعرّض لعلاقة النص والغيب، والنص والعقل، ودور النص في تحقيق الهداية بمعناها الواسع، ودوره في التشريع وفي معالجة مشكلات المجتمع.

المطلب الثالث: «محورية النصّ في العلوم الإسلاميّة»، وفيه فصّل الكاتب موقع النص الديني في بناء المعرفة الدينيّة في الأبعاد الآتية: العقدي، والأخلاقي، والفقهي القانوني، التاريخي والسنني. 

المطلب الرابع: «أُسس فهم النصّ الدينيّ»، وفي هذا المبحث حلّق السيد هاشم في مدارات معرفيّة مهمّة عن تعالي مصدر النصّ ومحدوديّة الفهم وبشريّته، وعن الاجتهاد في استنطاق النص وعلاقته بالواقع، وعن إشكاليّة الثابت والمتغيّر، مستعرضًا بعد ذلك بعض القواعد المنقَّحة في العلوم الإسلاميّة، خاصّة في علم الأصول لفهم النصّ، وتوّج هذا المبحث بأسباب اختلاف العلماء في فهم النصوص.

المبحث الثاني: «أسباب اختلاف فهم النصّ»، أعدّه الأستاذ جاسم محمد عبد علي، مساعد مدرس جامعي من العراق.

أكّد المؤلف في البحوث التمهيديّة على عدة قضايا:

أ- أنّ الاختلاف سنّةٌ من السنن الكونيّة التي جعلها الله تعالى لكي تستمر الحياة في هذا الكون من خلال التبادل الفكريّ ونقل الخبرات بين الأفراد والمجتمعات لتطوير الغير، والسعي نحو التكامل في جميع الميادين المعرفيّة والعمليّة، وبهذا نصل إلى أنّ الاختلاف الإيجابيّ الضروريّ يختلف عن الخلاف السلبيّ الذي يدفع إلى الكراهية والعداء والضغينة وينتهي إلى خراب البلاد والعباد. وقد حثّ القرآن على قبول الغير مهما كان مختلفًا، وذلك من خلال الدفع بالتي هي أحسن، وإن كان يرى الغير عدوًّا فهو كالوليّ الحميم؛ لأنّ العدوّ يركّز النظر على نواقص الإنسان عادةً.

ب- أهميّة سعة الأفق المعرفيّ لقبول الاختلاف من خلال دعوة القرآن الكريم والأحاديث المطهّرة إلى التعامل وفق مبدأ (يستمعون القول فيتّبعون أحسنه) مع كلّ رأي..

ج- أهمّيّة البحث في أسباب الاختلاف؛ وذلك لأنّ معرفة الأسباب تساعد بشكل كبير في معرفة الحلول، والخروج من المعركة الفكريّة بانتصار لكلّ الأطراف من خلال الحوار الهادف ومعرفة نقاط القوّة والضّعف عند المؤتلف والمختلف.

أما على مستوى الأسباب، فقد أشار الأستاذ جاسم محمد إلى تنوّعها وتعدّدها، وأنّ منها ما هو عارض يزول بمجرّد التقابل بين النصوص وإرجاعها إلى ما تؤول إليه من خلال الجمع العرفيّ، وبعضها أصليّ مستحكم لا يمكن حلّه إلّا من خلال التنازل عن بعض أطرافه، وبعضها تدفعنا إلى التخيير والعمل بأيّها من باب التسليم، وبعضها ينبغي أن نتوقّف ونعترف بالعجز الفكريّ للإنسان عن الإحاطة الكلّيّة بمصالح الأحكام.

ولذلك يدعو الباحث إلى أهميّة إحكام فهم النصوص، الذي له مبادئ وأصول ينبغي الوقوف عندها، ومن بينها الإلمام بمنابع الاختلاف وطرق حلّها؛ لأنّها تؤثّر عليه سلبًا أو إيجابًا في المقدّمات وفي النتائج.

وضمّن الباحث الخاتمة جملة من التوصيات المعرفيّة والمنهجيّة والأخلاقيّة في التعاطي مع النص ومع آراء الآخرين؛ لحسن الاستفادة من التنوّع والاختلاف لمعرفة ميزان يُبيّن الحقّ من الباطل؛ لأنّ الموقف العمليّ من الاختلاف لا يستلزم قبول الكلّ وتمويه الحقّ دائمًا، وإنّما قد يكون حلًّا لمعضلة تهدّد الوجود الإنسانيّ أو تؤدّي إلى التفرّق والتشرذم للكيان الإسلاميّ.

المبحث الثالث: «تعدّد القراءات»، كتبه الدكتور ساجد صباح العسكري، الأستاذ بجامعة الإمام الصادقj فرع  ذي قار –العراق.

في معالجته لهذا المفهوم، ناقش الباحث المفهوم الحداثوي لتعدّد القراءات، وتبنى مفهومًا مقبولًا لهذا المصطلح وفق القراءة التأصيليّة، وهو تعدّد الفهم والتفسير للنص الواحد، وفق مراتب طوليّة غير متعارضة، كأن يكون للمفهوم الواحد أكثر من مصداقٍ قابل للانطباق على ذلك المفهوم، وحلّل المقتضيات الكثيرة لهذه الكثرة.

ودفع الباحث وهم البعض في رفض كلّ القراءات المعاصرة مميّزًا بين القراءة المعاصرة التأصيليّة التي تخضع للشروط والضوابط المنسجمة مع روح الإسلام وثوابته، والقراءة المعاصرة المنفلتة، وهي غير الخاضعة لهذه الضوابط وغير الملتزمة بضرورات الدين وثوابته. وفي هذا السياق، تأتي قراءة الحداثويين القائمة على إسقاطات الفلسفات على النصّ القرآنيّ، وبذلك تكون القراءة التأصيليّة وسطًا بين طرفي النقيض، بين القراءة التقليديّة التي يقودها التيّار السلفيّ الذي لا يقبل بأيّ تجديدٍ في أدوات الفهم، وبين القراءة الحداثيّة التي يقودها التيّار الحداثيّ المنفلت والذي ينسف كلّ قديمٍ.

وعن موقف علماء الإسلام ومفكّريه من تعدّد القراءات، ذكر الأستاذ ساجد صباح العسكري أنهم انقسموا إلى فريقين: فبعضهم أيّدها وعدّها من ضروريّات التجديد في التفسير بوصفها أحد أشكال الاجتهاد التفسيريّ، بينما رفض بعضهم التعدّد بالمعنى الحداثيّ ولم يرفضوا التعدّد بالمعنى الأصوليّ، وكان لهم موقف في التعامل مع المصطلح لما يكتنزه من إيحاءات تدعو للتحرّر من القيود المنهجيّة، ولكن لا يُشكّل هذا الرفض رفضًا لفكرة التعدّد، وإنّما هو اختلاف في المفهوم ولا مشاحّة في الاصطلاح.

المبحث الرابع: «موقع النص القرآني في استنباط مسائل العلوم الإسلاميّة»، كتبه الشيخ إياد الغدير، الباحث والأستاذ في جامعة المصطفى العالميّة بسوريا.

يتصدّر اسم القرآن الكريم المصادر العلميّة للاجتهاد والفقه، ومن ثمّ لباقي العلوم، غير أنّ مسارات الاجتهاد في تاريخ العلوم الإسلامية جعلت مسألة الاستنباط تتمركز حول آيات الأحكام بالخصوص في مجال الفقه والأصول.

وهذا البحث جاء لتسليط الضوء على موقعيّة القرآن في عموم العلوم الإسلاميّة، وذلك في مطلبين أساسيين:

- المطلب الأول: حيث أسّس الشيخ إياد الغدير الأسس النظريّة الضروريّة للبحث، من سلامة القرآن من التحريف، وحجيّة ظواهر القرآن، وإشكاليّة التفسير ومشروعيّته، وهي كلّها موضوعات تمهّد لمعرفة منطق فهم القرآن الكريم.

- المطلب الثاني، وفيه عالج الباحث مناهج الاستنباط في العقيدة والفقه والأخلاق، مشيرًا إلى بعض الخصائص والضوابط التي يجب أن يتوخّاها، ما مِنْ شأنه أن يخوض في عمليّة الاستنباط. وفي كلّ من منهجي الاستنباط في العقيدة والفقه، أسّس لأصول وقواعد في هذا السياق، وأورد نماذج تطبيقيّة لاستنباط المسائل من القرآن الكريم استنادًا للتراث الروائي لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

وأما بالنسبة لعلم الأخلاق والمنهج الاستنباطي من القرآن، فقد فصّل الباحث بين اتّجاهين: اتجاه بناء النظريّة الأخلاقيّة القرآنيّة، واختار دستور الأخلاق في القرآن للشيخ عبد الله دراز نموذجًا. وتعرّض في الاتجاه الثاني إلى دراسة تفصيليّة للمضامين الأخلاقيّة في القرآن، واختار أطروحة الشيخ اليزدي نموذجًا، خاصّة في تقسيمه للمضامين الأخلاقية القرآنيّة على أساس المتعلّق إلى الأخلاق الإلهيّة، والأخلاق الفرديّة، والأخلاق الاجتماعيّة. 

ولم يَفُت الباحث الإشارة إلى الحاجة لتفعيل علوم الاستنباط وعدّتها المعرفيّة؛ ليتجاوز الاجتهاد الفقهي مثلًا نطاق آيات الأحكام المحدّد ببضعة مئات الآيات ونيف، كما هو المشهور، مع ما في ذلك من مخاطر ومزالق الأخذ بالمناهج المعاصرة والدخيلة.

 المبحث الخامس: «موقع الرواية في استنباط مسائل العلوم الإسلاميّة»، بقلم الأستاذ قاسم شعيب، المتخصّص في الكلام والفلسفة من تونس.

في المبحث السابق، عالجنا موقعيّة النص القرآني في استنباط مسائل العلوم الإسلاميّة واستخراجها، من عقيدة، وفقه، وأخلاق بالخصوص، وتبيّن لنا أهميّة النصّ القرآنيّ في هذا الباب وحاجة الموضوع لمزيد من التأسيس والتنقيح، سواء على مستوى المقدّمات النظريّة أو على مستوى مناهج وآليات الاستنباط وقواعدها.

وفي هذا المبحث، نُعالج القضيّة بالنسبة للروايات، فالحديث هو النص الرديف للنص القرآني، وبنية العلوم الإسلامية كما تقوم على استنباط مسائلها من القرآن الكريم كذلك تستند إلى استخراج مضامينها ومسائلها من الروايات.

وفي مقاربته للموضوع، قدّم الأستاذ قاسم شعيب أطروحة تقوم على ستة محاور: الأوّل يتعلّق بمرجعيّة السنّة النبويّة في الممارسة الاستنباطيّة، والثاني يرتبط بأهميّة الرواية في تفسير القرآن، والثالث يهتمّ بمكانة الرواية في بناء أصول الدين، والرابع يركّز على موقع الرواية في الاستنباط الفقهيّ، والخامس يتناول المسألة الأخلاقيّة وعلاقتها بالرواية، والمحور السادس يتعرّض إلى الآفات التي تعاني منها الرواية وسبل معالجة ذلك.

وقد عالج الباحث في كل محور من هذه المحاور الستة قضايا عديدة، ساعيًا لتوصيف الواقع ورصد الاتّجاهات السائدة في الساحة، عارضًا بعض الحلول والأفكار.

وأشار الباحث إلى اختلاف مصدريّة الحديث بين السنة والشيعة، فرغم اتّفاق المسلمين حول مرجعيّة السنّة النبويّة بعد القرآن الكريم، إلّا أنّهم اختلفوا في المصدر الذي يجب أخذها منه، فاختار أهلُ السنة، وبعضُ الفرق الأخرى المشابهة لها، الصحابةَ والتابعين ليكونوا ذلك المصدر، بينما اختار الشيعةُ الإماميّة أهلَ البيت(عليهم السلام) مصدرًا لها، مستندين في ذلك إلى كمٍّ هائلٍ من النّصوص القرآنيّة والروايات الموثوقة لدى الفريقين.

واستنتج الباحث أنّ الاختلاف في مصدر الحديث، هو الذي سبّب الاختلافات في تفسير القرآن، والمعتقدات، والأحكام الفقهيّة، والمسائل الأخلاقيّة والقيميّة.

كما نبّه إلى أنّه ومع بداية الغيبة الصغرى، بدأت تظهر اختلافات داخل الإماميّة أنفسهم، في مناهج التفسير، وأصول الاجتهاد، وحتّى بعض مفردات العقيدة، وهي اختلافات تجد أساسها في معايير قبول الرواية ودرايتها، وفهم مدلولاتها ومقاصدها، وكثرة الحوادث والمستجدّات التي تحتاج أحكامًا أو مواقف فكريّة، ورغم أنّ الاختلاف شيءٌ متوقّع ويصعب تجاوزه بسبب تفاوت العقول والقابليّات، إلّا أنّ النقاش العلميّ والحوار العقلانيّ الهادئ حول مختلف القضايا يبقى ضروريًّا.

وبهذا المبحث ينتهي الفصل الثاني ويليه الفصل الثالث في مبحثين اثنين.

ثالثًا- الفصل الثالث: العلوم الإسلاميّة بين الواقع والواقعيّة

الواقع كل ما هو قائم وكائن وله حيثيّة وجوديّة، وكما يقول السيد الطباطبائي: «فلا يسعنا أنْ نرتاب في أنّ هناك وجودًا، ولا أن ننكر الواقع مطلقًا، إلّا أنْ نكابر الحقّ فننكره، أو نبدي الشكّ فيه، وإنْ يكن شيئًا من ذلك، فإنَّما هو اللفظ فحسب، فلا يزال الواحد منّا، وكذلك كلّ موجود يعيش بالعلم والشعور يرى نفسه موجودًا واقعيًّا ذا آثار واقعيّة، ولا يمسّ شيئًا آخر غيره، إلاَّ بما أنّ له نصيبًا من الواقع»[7].

والواقعيّة تستخدم في أكثر من معنى، فحينما نصف مدرسة أو مذهبًا أو منهجًا بالواقعيّة، فقد نقصد أنّه يؤمن بالواقع المنفصل عن المدرك، وإمكانيّة بلوغ الواقع ودركه وهذا مقابل المثاليّة، وأخرى نقصد أنّه يراعي الواقع ويأخذ بأسبابه ومقتضاياته. وفي هذا السياق، نصف المدرسة الإسلاميّة بأنّها واقعيّة، أي إنّها تستجيب للمتطلّبات التكوينيّة الفطريّة للإنسان والمجتمع والوجود والحياة. وتنسجم معها انسجامًا كاملًا.

وقد تضمّن هذا الفصل مبحثين مهمين: الأوّل لتحليل مكانة الواقع في العلوم الإسلاميّة وكيف ننسج علاقةً يتكامل فيها النصّ مع العقل والواقع لبناء منظومة العلوم ومسائلها، وبالتالي بلوغ حلولها ونتاجها لبناء الفرد والمجتمع والحياة وهداية الخلق إلى مدارج الكمال والارتقاء.

والمبحث الثاني للبرهنة على واقعيّة العلوم الإسلاميّة، وإبطال الواقعيّة الموهومة لإحدى أكبر المدارس الفلسفيّة الغربيّة، وهي المدرسة الوضعيّة التي أوغلت في الماديّة والنزعة الحسيّة لتنكر ما وراء الحس والتجربة وتتنطّع لترفض الميتافيزيقا.

المبحث الأول: «النص والعقل والواقع»، وقد كتبه الدكتور حاتم جياشي الأستاذ بجامعة آل البيت بقم إيران.

أشاد الباحث مقاربته على تنقيح حقيقة كلّ ركن من أركان ثلاثيّة (العقل والنص والواقع ) وتحديد وظائفه:

فأكّد أنّ العقل قوّة درّاكة ومشخِّصة، وهي ضابطة الفهم والإدراك التي ينفصل ويفترق بها الإنسان عن غيره من باقي المخلوقات، ونبّه أنّ هذا الدور لا يعني إطلاق العنان له في كلّ المساحات، وإنّما حكومته ودائرة حجّيّته منحصرةٌ في دائرة الموضوعات الكلّيّة الحقيقيّة، وأمّا ما سوى ذلك من الموضوعات، فهي خارجة عن حكومته، كالأحكام الشرعيّة والقوانين الوضعيّة؛ لأنّ هذه الأمور هي اعتباريّة والأمور الاعتباريّة بيد المعتبر، وكذلك الموضوعات الشخصيّة المتغيّرة التي لا سبيل للبرهان عليها بالفعل لا بالذات ولا بالعرض، إلّا بعرض طبائعها الكلّيّة. نعم، يمكن للعقل القطع بثبوتها لموضوعاتها الشخصيّة بالفعل عن طريق المشاهدة الحسّيّة.

أمّا الركن الثاني، وهو الوحي، فهو يمثل القناة المعرفيّة الإلهيّة، وطريقته تختلف عن طرق الاتصال الحسّيّ أو المدركات العقليّة، فالمعرفة المختصّة بهذه القناة تتعالى على المعرفة الحسّيّة والعقليّة والمذاهب الروحيّة الذاتيّة للإنسان حتى لو بلغت القمّة في مرتبة الولاية، فدور العقل ينتهي عند التسليم بميدان الغيب وعالمه دون الدخول في كنهه أو حقيقته؛ لأنّه لا يقع تحت سلطانه. نعم، أساس الوحي يُعرف بمقدّمات راجعة إلى الحسّ والمشاهدة في عالم الشهادة، فأقرّها العقل ووثق بها، وأيضًا فإنَّ التفكير العقليّ هو المؤدّي إلى حقيقة الإيمان بالغيب، وهو الذي أوصل الإنسان إلى المعرفة العلميّة، وبذلك ينكشف الفرق بين قناة الوحي المعرفيّة هذه وبين ما ذهبت إليه المدرسة الأخباريّة في الوحي؛ لأنَّها تتكلّم عن آثار الوحي لا الوحي حقيقة.

وأمّا الركن الثالث، وهو الواقع، فهو في نظر الأستاد حاتم الجيّاشي يمثّل الأساس والركيزة الأولى لبروز نظريّة المعرفة، لكونها تثبت أصل العلم ومبدأه، والواقعيّة تعني الوجود لما هو خارج عن الذات، وهذا ما نحسّه ونشعر به من خلال الفعل والانفعال معه، والذين ذهبوا إلى إنكار هذا الواقع واهمون ومكابرون، يسقط إنكارهم بمجرّد مواجهة واقعة عمليّة؛ لأنَّ كلّ إنسان يتعامل مع الأشياء وفق هذا الواقع أو الواقعيّة، وإنْ ادّعى خلاف ذلك على المستوى النظريّ، فإنَّا نجد الإنسان يفرح في حالات ويحزن في حالات أخرى، ويهرب من الخطر في أخرى، فهذه الأمور شواهد حيّة على هذه الواقعيّة ووجودها حقيقيّ لا وهميّ، وبهذا لا مكان للسفسطة وإنكار الحقائق بكلّ صورها؛ لذا بُنيت الفلسفة الإسلاميّة بكلّ مشاربها على مسألة الوجود والواقع. إذن يمثّل هذا الأُس حجر الأساس في المعرفة وقيمتها؛ لذا يمكن لكلّ مفكرٍ التحقّق من صحّة أو خطأ كلّ قضيّة بانطباقها وعدم مطابقتها للواقع الخارجيّ.

وفصّل الباحث حدود واقعيّة العلوم الإسلاميّة وضوابطها في نقاط مهمّة:

أ-  لا ينبغي الشكّ بموضوع المعرفة والإدراك أو العلم المتمثّل بالواقع، وفي نوعيّة تصوّراتنا عن الوجود والواقع التي من شأنها أنْ تنعكس بصورة حاسمة على مجمل رؤيتنا حول الله تعالى والكون والإنسان والمصير؛ لذا من جهل بمعرفة الوجود أو الواقع يسري جهله في أمّهات المطالب ومعظمها. وبالذهول عنها فاتت عنه خفيّات المعارف وخباياها.

ب- تنقيح مفهوم منطقة الفراغ، وأنّ المقصود من دائرة الفراغ هو أمران: الأوّل، مساحة تنظيم المجتمع (منطقة الفراغ الولائيّة أو الحكوميّة). والثاني، مساحة الفراغ في أصل التشريع، التي لا نصّ فيها كما في المسائل المستحدثة، كزراعة الأعضاء، والاستنساخ البشريّ، وهنا يوجد مبادئ وقواعد كلّيّة وأصول عامّة جعلتها الشريعة في متناول الفقيه أو الحاكم الشرعيّ ليفتي، وبذلك ترتفع الإشكالات من نقص الشريعة وعدم شموليّتها، ولا نسقط في معاثر التفسير بالرأي وآفات التصويب.

ج- إنَّ العلوم والمناهج الإسلاميّة تعمل على كشف وإصابة الواقع، وكذلك تعمل على معرفة حقائق الأشياء. وأدواتها في ذلك: العقل، والوحي، والنصّ. وكلّ هذه المنابع متكاملة فيما بينها من حيث المساحة والمآل، وفي عين ذلك، لا تتأثّر مكانة الوحي ومصدريّته في كشف الواقع ومعرفة الحقائق، وإنْ تعدّدت مراحله، كما في قضيّة الوحي ونزول النصّ الإلهيّ وبين إعماله وفهمه؛ لأنّ للواقع وحقيقة الأمر تأثيرًا في فهم مسار النصّ وحركته في التاريخ.

د- إنَّ العلاقة بين العقل والوحي والواقع تحكمها الأهداف والغايات، ويمثّلها محور ثابت، وهو ركيزة الوحي، بينما المرونة والمتغيّرات فتمثّلها الوسائل والأساليب المتغيّرة تبعًا للزمان والمكان (الواقع)، وهي ركيزة متغيّرات العقل ومنطقة عمله.

المبحث الثاني: «الوضعية المنطقيّة والواقعيّة الموهومة»، كتبه الأستاذ عبد الباسط جعفر فارس، الباحث المتخصّص في العلوم الإسلامية والأستاذ في حوزة الإمام عليj بيروت لبنان.

لقد أراد الباحث في هذا الفصل أن يُبطل دعاوى إحدى أهم المدارس الفلسفيّة الغربيّة: الوضعيّة المنطقيّة وواقعيتها الموهومة، وأراد أن يؤكّد واقعيّة المدرسة الإسلاميّة وأنّ علوم هذه المدرسة بما تأسّست عليه من تكامليّة في المنهج بين التجربة والعقل، وبما استندت إليه من رؤية كونيّة تقرّ بالغيب وَتسلّم بعالم الشهادة، وتؤمن بالطبيعة وما وراء الطبيعة.

لقد اختار الأستاذ عبد الباسط فارس هذه المدرسة لأنّها تمثّل ذروة التطرّف الحسّي والماديّ في الفكر الغربي الذي وصلت به ماديته وتجريبيّته لإنكار كلّ معطى غير حسّي.

وقد رسم الوضعيون المنطقيون صورةً مهتزةً للعلم منذ أقحموه حاكمًا في ميدان التفكير الفلسفي، متوهّمين أنّ ردّ الفلسفة إلى الابستمولوجيا سيحرّرها من أسئلة الميتافيزيقا المحرجة، ويحقّق حلمها بمشروع فلسفيّ جماعيّ موحّد، كما توهّم «کارناب»، لا مكان فيه لصراع الأفكار حيث سيمتثل الجميع للأساس «الصلب» للمعرفة العلميّة والمتمثل في القوالب المنطقيّة لمفاهيم العلم الموحّد.

لكن تبيّن أنّ ما حدث في مجال فلسفة العلم -أثناء وبعد ظهور الوضعية المنطقية- قد كشف أنّ المعرفة العلميّة لا تسمح بقول فلسفيّ متماسك يفصل في قضايا العلم ومناهجه، فضلًا على مسائل الميتافيزيقا.

كما اتّضح أنّ العلم -المفترض أنه نموذج المعرفة الراسخة في اليقين- هو أيضًا ميدان واسع لتعدّد الآراء واختلاف الأنظار، ومن ذلك تبيّن وَهم الافتراضات المسبقة التي أسّس عليها أتباع الوضعيّة مذهبهم الصوري للعلم قبل أن يبدأوا بتحليل جمله ومفاهيمه.

 صار واضحًا كذلك أنّ المنهج التجريبي لم يكن ذلك المنهج الضامن للوصول إلى معرفة يقينيّة، كما توهّم الوضعيون، إذ إنّ تسويغ الاستقراء الذي هو في صلب تطبيق هذا المنهج، بقي مشكلة قائمة في أذهانهم.

لقد تتبّع الباحث عثرات هذه المدرسة وإخفاقاتها عبر تاريخها وعبر مختلف رموزها من كرناب إلى كارل بوبر والنقلة من مبدأ التحقّق إلى معيار قابليّة التكذيب.

وتعرّض البحث إلى الوضعيّة المنطقيّة في ضوء المعرفة الدينيّة والرؤية الحضاريّة الإسلاميّة، التي تميّزت بالوسطيّة في المنهج والغايات، على خلاف العلم داخل أسوار الحضارة الغربية الذي كرّس ولا يزال صدام الإنسان مع الطبيعة، وجنون السيطرة عليها وتوظيفها في عمليّة نهب دائم لمقدّراتها، واتخاذ المنفعة المادية غاية قصوى للحياة دون رادع أخلاقيّ، حتى لو اقتضت هذه المنفعة خراب الطبيعة وتبديد ثرواتها. مع أنّ منطق المنفعة والمضرّة يرجّح كفّة الميتافزيقا، لكونها أنفع للإنسان من مجازفة الوضعيّة المنطقيّة وإنكارها لأسئلة الميتافيزيقا عن مصير وجوده بدعوى أنّها لا تخضع للتجربة.

تجاوزت المعرفة الإسلاميّة نظرة الوضعيّة المنطقيّة، وعملت في صميم العقل من أجل إعادة بناء الإنسان بالطريقة التي تمكّنه من التعامل مع الطبيعة وما وراءها، وبالمنهج المناسب لكلّ معرفة للإجابة عن أسئلته المتعلّقة بحياته ومصيره وطموحه نحو ما هو أبعد من الحسّ والظاهر.

وأشاد الباحث بدراسة السيد محمد باقر الصدر لمعاثر الوضعيّة المنطقيّة اعتمادًا على مذهبه الذاتي في المعرفة ومنهجه الاستقرائي، وبيّن أنّه لا مجال للمنطق الوضعي إلّا أن يسلّم بمعرفة مستقلّة عن الخبرة والتجربة، وبذلك تهدم الوضعيّة المنطقيّة قاعدتها الرئيسة التي بنت عليها مذهبها، وإن لم يسلم المنطق الوضعي بإمكان التحقّق من القضيّة بغير الخبرة الحسيّة فسيكون منكرًا لمعظم قضايا العلوم الطبيعيّة التي تم الإقرار بصدقها من غير أن تصل إليها أدوات الحس والتجربة.

وبذلك صيرّت المعرفة الإسلاميّة نتائج التجارب العلمية قطوعًا متراكمةً ببركة ضميمة حكم العقل إليها؛ حيث يمكن للإنسان في ظلّ جدليّة العقل والتجربة أن يكشف سنن الكون الكليّة الصادقة في كلّ زمان ومكان، فكانت في منأى من نتائج الوضعيّة المنطقيّة المخيّبة للآمال في مجال العلم؛ بفضل حثّ وإرشاد أئمّة المسلمين إلى اتّخاذ التجربة والعقل وسيلتين في ميدان المعارف العلميّة.

هكذا وردت الفصول الثلاثة لهذا الكتاب بما حوته من مباحث؛ لتقدّم رؤية مميّزة لثلاثيّة النص والعقل والواقع.

وهذه المباحث وإن تفاوتت في الأسلوب، والبيان، واللغة، وعمق المعالجة، ولكنها نجحت إلى حدّ كبير في تقديم نسقٍ منسجمٍ من الأفكار والطروحات، في حلقات متسلسلةٍ يشدّ بعضها أزر بعض، ويعضد بعضها البعض الآخر، ولم يخدش في انسجام هذا النسق تنوّع الآراء في بعض القضايا، أو تعدّد المقاربات لبعض المصطلحات أو المفاهيم أو تفرّق المواقف في تقويم الآراء والمذاهب والمدارس؛ فخطة الكتاب ومنحاه التأليفي شكّل حاضنةً تتّسع للجميع، ونجحت بحمد لله سبحانه في التنسيق بين كلّ تلك الجهود والآراء.

فكان المجموع أقرب إلى رؤيةٍ فكريّةٍ متكاملةٍ في بابها، تظافرت على نحت معالمها كلّ هذه الأقلام المباركة الرائدة التي نجدّد لأصحابها من أكاديميين فضلاء، ومشايخ أجلّاء، وباحثين أعزاء، كل الثناء والدعاء بدوام الإبداع والعطاء.

 

-------------------------

[1] العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، ج 2، ص 203.

[2] الكوفي، فرات بن إبراهيم، تفسير فرات الكوفي، ص 17.

يراجع: الكليني، الكافي، ج 1، ص 192؛ والقمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي، ج 1، ص 21.

[3] يراجع: اللنكراني، فاضل، مدخل التفسير، ص 189-190.

[4] الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، ص 13.

[5] يراجع: الهاشمي، بحوث في علم الأصول، ج 4، ص 284.

[6] الصدر، السيد محمد باقر، المعالم الجديدة للأصول، ص 175.

[7] الطباطبائيّ، محمّد حسين، نهاية الحكمة، ط2، إيران، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، 1427هـ، ص4.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف