تأليف :
مجموعة باحثين
تقديم وتحرير :
سامر توفيق عجمي
المقدمة
ليس ثمّة علم أسّسه العقل الحديث أو المعاصر إلّا ونعثر له -بالتتبّع التاريخي الاستردادي- على جذور تمتدُّ عميقًا في التراث البشري إلى الفلسفات القديمة، وإن لم تكن الأفكارُ المدروسة فيها مندرجةً اصطلاحًا تحت العنوان الخاصّ لهذا العلم أو ذاك في صورته الأخيرة التي هو عليها اليوم، فلا يمكن لأي علم أن يعيش قطيعة تامّة مع التراث، لأنّ الحاضر امتداد طبيعيّ للماضي، إذ لا معنى للإبداع لا من مادّة قبليّة في الفكر البشري، بحيث ينطلق باحث ما من صفر معلومات في الحقل المعرفي (أ) أو الميدان العلمي (ب)، بل يتعامل مع معطيات أوّليّة انبثقت قبله، ثمّ يضيف إليها جديدًا ويراكم عليها، وتستمرّ المعرفة بالنموّ التدريجي إلى أن يتضخّم علم ما فيتشعّب ويتخصّص.
لا يستطيع المفكّرون الغربيّون الادّعاء بأنّ الحضارة الغربيّة المعاصرة هي الحضارة المؤسِّسة للعلوم التي تشتغل عليها اليوم والقابضة عليها، فلها حقّ براءة الاختراع والاحتكار المعرفي، لأن العلوم كافّة لا تخرج عن هذه السنّة الإنسانيّة في إنتاج المعرفة بالتراكم، والأنثروبولوجيا -علم دراسة الإنسان- من الميادين البحثيّة التي تمتد جذورها إلى الحضارات السابقة (اليونانيّة، الصينيّة، والإسلاميّة...)، هذا لا يعني أنّ الغرب الحديث لم يُقدِّم جديدًا، بل ما نريد التركيز عليه، أنّ بدايات دراسة الإنسان وفهمه متوفّرة في كتابات القدماء، فإذا كانت الإثنوغرافيا عبارة عن الدراسة الوصفيّة لطريقة حياة مجتمع ما، في مرحلة تاريخية معيّنة، فإنّها كممارسة، كانت رائجة عند الفلاسفة والمؤرّخين والجغرافيّين والرحالة... فيما يصطلح عليه اليوم "الإثنوغرافيا العفويّة"، أو "الأنثروبولوجيا العفويّة"، حيث وصفوا ما تتمتّع به بعض المجتمعات من أنماط حياة، وطريقة عيش، في الطعام، الشراب، اللباس، الزواج، تصاميم المنازل، طقوس الأموات، الشعائر الدينيّة، الصناعات، وأساليب الصيد... هذا ما نلاحظه عند المؤرّخ اليوناني هيرودوتس (عاش في القرن الخامس قبل الميلاد حوالي 484ق.م-425ق.م)، وعند المؤرخين والرحالة المسلمين: المسعودي (896-957م)، والبيروني (973-1048م)، وابن بطوطة (1304-1377م)، وابن خلدون (1332-1406م)... وغيرهم.
نعم، تتميّز الحضارة الغربية الحديثة بأنّها راكمت على التجارب والخبرات والمعارف البشرية في هذا الحقل المعرفي، واستطاعت أن تنتقل به من دائرة "العفوية" إلى "التقنين العلمي"، وإن كان الحقّ، أنّه ليس تقنينًا علميًّا محضًا وليد الممارسة الفنيّة الأداتيّة، بل تمتزج به الفلسفات ويختلط بالتحيّزات الأيديولوجيّة. فالأنثروبولوجيا الغربيّة ليست علمًا أداتيًّا محايدًا، بل هي أيديولوجيّة سلطة، وهذا ما نلاحظه في توظيف الأنثروبولوجيا في خدمة الأجندة الاستعماريّة.
وتحتلّ الأبحاث الأنثروبولوجيّة التي تتّخذ المجتمعات الإسلاميّة والعربيّة موضوعًا للدراسة كما يصوّرها الباحث الغربي مكانًا مهمًّا في مؤسّساتنا التعليميّة والبحثيّة، وساهمت في تكوين صورة خاصة عن "الآخر" أي "نحن"، فأصبح كثير منّا ينظر إلى ذاته في مرآة الغرب، وما رسمه "الآخر" عن "نحن"، وتقبّل الصورة المزيّفة على أنّها حقيقة علميّة، فـ"الآخر/ نحن" مجتمعات: متخلّفة، بدائيّة، عنيفة، فوضويّة، مستعبدة... تحتاج في الخروج ممّا هي عليه إلى "الآخر/ المستعمِر" المتحضّر، الديموقراطي، المتنوّر... الذي يشكّل وليًّا عليها لقصورها وعدم رشدها!!!
اليوم، المفكّرون العرب والمسلمون، معنيّون بأمرين: أوّلًا: تحويل "الآخر" من ذات دارسة إلى موضوع للدراسة = الاستغراب، لكشف نقاط ضعفه، وتبيين عثراته وتهافتاته... وثانيًا: إعادة قراءة الذات "نحن" في ضوء أنثروبولوجيا خاصّة، تنسجم مع منظومتنا الفكريّة ومفاهيمنا القيميّة...، فنكون ذوات فاعلة ودارسة بدل كوننا "آخر" منفعلاً ومدروساً، ونقرأ واقعنا الاجتماعي، ونفهم مشكلاته، ونضع الحلول المناسبة لها، في ضوء أهداف فلسفتنا الاجتماعية، التي تنبثق من أنثروبولوجيا قرآنيّةتقوم على تكريم الإنسان وتفضيله (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم َوَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَات ِوَفَضَّلْنَاهُم ْعَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الإسراء: 70، وتُقدِّم الإنسانَ على أنّه خليفة الله تعالى في الأرض (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة: 30، والذي استعمره فيها (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) هود: 61، وسخّر له ما في السماوات والأرض (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكم وسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ في البَحْرِ بِأمْرِهِ وسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهارَ﴾وسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والقَمَرَ دائِبَيْنِ وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾وآتاكم مِن كُلِّ ما سَألْتُمُوهُ وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إنَّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ) إبراهيم: 32-34، (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النحل: 14، ليتصرّف فيها وينتفع بها في ضوء الاستخلاف، فيحقق غاية الخلق (وَمَاخَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات: 56، أي التلبّس بالعبودية التي تكون بها ضمانة كماله وسعادته في الدنيا والآخرة.
انطلاقاً من هذه الخلفية، يُصدر "المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيّة" كتاب "الأنثروبولوجيا قراءة تحليليّة ـ نقديّة في سياقاتها التاريخيّة، مناهجها، نظريّاتها، ومبانيها"، ليُسلّط الضوء على ارتباط الأنثروبولوجيا في سياقاتها التاريخية بالاستعمار، ويُحلّل برؤية نقديّة نماذج من النظريّات والمباني الأنثروبولوجيّة عند مفكّرين غربيّين، ويقدّم قراءة دينيّة إسلاميّة لبعض القضايا الأنثروبولوجيّة، لعلّه يساهم في سدّ ثغرة موجودة في المكتبة العربيّة والإسلاميّة في هذا المجال.
وأخيرًا، لا يسعنا إلّا أن نتقدّم بالشكر الجزيل وعرفان الجميل لكلّ الباحثين المشاركين في هذا الكتاب، ولكلّ من ساهم في إنجازه من الأخوة في المركز، خصوصًا: مدير المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيّة سماحة السيِّد هاشم الميلاني، ومدير مركز بيروت فضيلة الشيخ حسن الهادي، و د. محمود حيدر، و د. محمّد مرتضى لتعاونهما العلمي.
سامر توفيق عجمي