أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الوحي والنبوة في القرآن

الوحي والنبوة في القرآن

تأليف :

المرجع الديني الشيخ عبد الله الجوادي الآملي

ترجمة :

السيد هاشم الميلاني

 

مقدمة المركز

لم تنفك البشرية منذ بزوغها الی الوجود علی الكرة الأرضية من نبي مرسل يأخذ بأيديها، وينير لها الدرب، ويعلّمها مصالحها ومفاسدها الحقيقية، لتنال الخير والرضی والفوز والسعادة في كلا الدارين.

وإذا أردنا أن نحيط علمًا تامًا وكاملًا بمسألة النبوة، لابد وأن نفهمها ضمن المنظومة الكونية العامة التي تعتمد علی الرؤية الإلهیة، حيث تجعل الله هو المبدأ و المنتهی، فحينئذٍ تأخذ النبوة موقعها كحلقة من حلقات سلسلة الوجود الكبيرة، لتكون الواسطة بين الله تعالی الخالق والمدبر، وبين المخلوق الناقص والمحدود بحدود المادة في دنيا تُعدّ أدنی وأنزل مراتب الوجود.

فإذا أردنا أن ننظر الی النبوة بغير هذه النظرة، وبالاعتماد علی سائر المدارس والتيارات الوضعية، لفقدت النبوة معناها، ولظهرت شبهات البراهمة وغير البراهمة من الذين يقتاتون علی مائدة المنظومة الكونية المادية المنقطعة عن الغيب.

لقد تطرّق مؤلف هذا الكتاب ـ المرجع الديني سماحة الشيخ عبدالله الجوادي الآملي ـ إلی‌ إثبات اصل النبوة وما يتفرّع عليها من مسائل، معتمدًا علی المنظومة الكونية الإلهية، ومستعينًا بنصوص القرآن والروايات الشريفة، وما يدلّ عليه العقل الصريح.

ونحن في المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية المهتمّ برسم الاستراتيجيات الدينية والمعرفية، إذ نقدّم ترجمة هذا الکتاب إلی اللغة العربية، لايفوتنا أن نتقدّم بالشكر والتقدير لمؤسسة الإسراء حيث سمحت بترجمة هذا الكتاب، وكذلك سائر المساهمين في إنجاز هذا العمل و طباعته.

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام علی رسوله الأمين، وآله الطهر الميامين.

 

المقدِّمة

ضرورة النبوّة

إثبات ضرورة النبوّة يتمّ عن طريقين: طريق الدليل العقليّ وطريق الدليل النقليّ. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى ثلاث نقاط ضروريّة:

1. للنبوّة عنصران محوريّان: الأوّل القانون؛ وهو الوحي، والثاني من يجيء به؛ وهو النبيّ. لذا، فإنّ قسمًا من الدليل العقليّ يختصّ بضرورة الوحي، والقسم الآخر ينظر إلى ضرورة النبيّ، بيد أنّ إثبات أحدهما يستلزم ثبوت الآخر.

2. تتكفّل الحكمة وعلم الكلام البحث العقليّ حول الوحي والنبوّة، وما نورده هنا في تفسيرنا الموضوعيّ يكون من باب المقدّمة للتطرّق إلى حلّ بعض الآيات المتكفّلة لبيان النبوّة والرسالة.

3. يُبحث عن مسألة الوحي والنبوّة، وبيان مسألة الدين ومنشئه، بمناظر وفنون مختلفة: كعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما، غير أنّنا لا نتطرّق إليها في هذا التقرير.

أمّا هنا، نتطرّق إلى بيان الدليل العقليّ:

الدليل العقليّ

إنّ مبادئ الدليل العقليّ على ضرورة النبوّة، تكون:

أوّلًا: الحاجة الضروريّة إلى القانون، وعجز البشر عن التقنين.

ثانيًا: الحاجة إلى تكامل الروح.

ثالثًا: ضرورة وجود الهادي.

وهنا لا بدّ من شرح الدليل ومبادئه:

الحاجة إلى القانون وعجز البشر عن التقنين

يتمّ تبيين هذا البرهان عن طريق عدّة نقاط تكون بمثابة المبادئ:

1. إنّ خلقة الإنسان تكون على أساس الحكمة، وعلى يد الله الحكيم القدير.

2. يتكوّن الإنسان من عنصريْ المادّة والروح. وهذا التركيب يسبّب حيازة الإنسان لخصائص الجسم المادّيّ، وخصائص الروح المجرّدة، ويتبعها حدوث حوائج عقليّة وحسّيّة له، غير أنّ الغاية من خلقته لا بدّ وأن تكون أمرًا معقولًا وخالدًا.

3. يكون الإنسان بالقياس إلى مادّته وطبيعته، موجودًا طاغيًا عنيفًا محتكرًا ومسخّرًا وربّما يسطو على حقوق الآخرين، وهذه خصائص بُعده الطبيعيّ. لذا لو لم يتمّ تعديل هذه القوى الطبيعيّة في الإنسان، سيكون موجودًا خطرًا وشرّيرًا، وإذا أراد أن يفكّر في حقوق الإنسان ويدوّنها، سيدوّنها لا محالة لصالح فريق وضرر فريق آخر، ويستعبد حينئذٍ بهذا القانون الوضعيّ مجموعة ويستغلّ أخرى لمصالحه، ويسبّب استضعافهم يومًا بعد يوم، ويسوقهم إلى الهلاك والفناء بأدوات مختلفة.

هكذا إنسان، يرى مِلاك سعادة الإنسان في تفوّق الظالمين واستعلائهم، ومنطقه هو: {قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}[1]، إنّه يدخل الضعفاء تحت نير سلطته الغاشمة، ولكن بما أنّ استغلال الآخرين ليست دائميّة، لم يبرح الأمر حتّى ينتهي إلى النزاع بين المتخاصمين. فالمقولة المشهورة «الإنسان مدنيّ بالطبع» لم تكن صحيحة من دون تحليل لها؛ لأنّ طبع الإنسان المادّيّ والطبيعيّ، لم يحتوِ على هكذا مدنيّة؛ لأنّه يريد حيازة جميع الأشياء لنفسه بالطبع (لا بالفطرة).

1. من جهة أخرى، لا يوجد بدّ للإنسان من الحياة الاجتماعيّة؛ لأنّه لا يتمكّن من التغلّب على مصاعب الحياة بمفرده؛ للوصول إلى حوائجه الناشئة من طبيعته. وبناء على هذا، يكون بحاجة إلى الحياة الجمعيّة والتعاون، ومن هنا تظهر جذور الظلم والتعدّي، واستغلال الآخرين، والتوسّع والطمع وهنا يحتاج الإنسان إلى القانون، قانون عامّ وجامع وكامل وموصل للسعادة.

2. ومن جهة ثانية، فإنّ عقل الإنسان وإن كان له دور مهمّ في طيّ طريق الكمال والسعادة، غير أنّه لا يتمكّن من كشف جميع المجهولات وحلّ المنازعات والخلافات بمفرده؛ لأنّ كثيرًا من مسائل المبدأ أو المعاد، وعددًا آخر من القيم، لا تدخل في حيّز معلومات عقل الإنسان. ثمّ كما إنّ العقل النظريّ يُصاب بالخطأ والمغالطات في مقام الفكر والمعرفة، كذلك العقل العمليّ يصبح أسير الشهوات والغضب في مقام العزم والإرادة، كما نراه لم يتمكّن من اختيار طريق صحيح في كثير من المسائل الاقتصاديّة والأخلاقيّة والأسريّة وغيرها. والشاهد على ذلك: ظهور مكاتب متناقضة مختلفة في حياة البشر.

3. ومن جهة ثالثة، لم يمتلك الإنسان مؤهّلات وضع القانون العامّ والشامل؛ لأنّه لم يحط علمًا بجميع خصائص المناطق الجغرافيّة في مختلف أدوار التاريخ ولجميع الجوامع الإنسانيّة ليضع لها قانونًا مناسبًا. والشاهد على هذا العجز: اختلاف القوانين في كلّ عصر ومصر، مضافًا إلى تغييرها وتبديلها وترميمها المستمرّ في الأجيال المختلفة.

مع لحاظ هذه الجوانب المختلفة والمبادئ المذكورة، يذعن العقل بلزوم مجيء القانون الكامل والجامع ممّا هو وراء الطبيعة، وبظهور سلطة تنظّم نتائج العقل، وتدفع أخطاءه، وتقوم بتطبيق القانون الإلهيّ الجامع والتامّ، وتحوّل الخلاف والاختلاف إلى الوفاق والاتّحاد، وتنظّم حوائج الإنسان المعرفيّة والعقليّة، وتكتشف المواهب وتعرّف الإنسان على مصالحه ومضارّه. سلطة مليئة بالعلم، وعارفة بالزوايا وخفايا نظام الخلقة المظلمة والنيّرة، الصغيرة والكبيرة، الجزئيّة والكلّيّة.

إنّ المظهر الجليّ يتمثّل في وجود الأنبياء العظام، وسيأتي بيانه؛ لذا فإنّ النبيّ يكون أوّل مخلوق لله تعالى، حيث يسعد المجتمع في ظلّ نبوّته، كما أنّ آخر شخص يعيش على الأرض، لا بدّ وأن يكون تحت ظلّ الوحي والدين الإلهيّ؛ لأنّ حاجة الإنسان إلى الوحي والدليل ضروريّة.

وليعلم أنّ بعض الأمور التي يحتاجها المجتمع الإنسانيّ، لا تتأتّى من دون النبوّة، وسيأتي بيان ذلك في فوائد النبوّة وأهدافها.

حاجة الإنسان إلى التكامل والسعادة مع عجزه عن الاستقلال بهما.

أشرنا إلى أنّ للإنسان روحًا مجرّدة، وقد ثبت في محلّه أنّ روح الإنسان دائميّة لا يتطرّق إليها الهلاك والفناء، كما أنّ حقيقة الإنسان تتكوّن من الروح وأنّ الجسم طفيليّ على الروح المجرّدة، وعليه فإنّ الإنسان موجود متفوّق؛ لامتلاكه الروح والنفس الناطقة، فهو ليس أرضيًّا وزمانيًّا بحتًا، كما أنّه ليس متعلّقًا بالسماء والملائكة، وهو أيضًا موجود متحرّك ونامٍ غير مستقرّ وطالب للكمال، يتمكّن من احتواء جميع العلوم الطبيعيّة، الاجتماعيّة، البيئيّة، الفلكيّة والبحريّة.

ولكن مع هذا، فالإنسان لا يستغني عمّا تبلّغه النبوّات، ولا يمكنه الوصول إلى الكمال المطلوب، لذا يحتاج إلى قوانين الأنبياء التي تنمّي الروح وتوصله إلى السعادة والكمال.

إنّ الأنبياء سبب لازدهار روح الإنسان من خلال القوانين الإلهيّة، لذا يحتاج كلّ إنسان إلى الوحي الإلهيّ سواء أكان أوّل مخلوق أم آخره، وسواء أكان منفردًا منعزلًا أم اجتماعيًّا؛ لأنّه يحتاج إلى الهداية الغيبيّة في علاقته مع نفسه أو مع خالقه، وكذلك في كيفيّة تنظيم علاقاته مع نظام الكون وإن كان منعزلًا ومنفردًا.

ضرورة الهادي

قلنا إنّ العنصر المحوريّ للنبوّة يتكوّن من شيئين، أوّلًا: القانون؛ وهو الوحي الإلهيّ، وثانيًا: من يأتي بالقانون؛ وهو النبيّ والدليل. وقد تمّ بيان ضرورة الوحي طبقًا لما مرّ، أمّا ضرورة وجود النبيّ والدليل؛ فإنّ القانون الغيبيّ، أي الوحي الإلهيّ، لا ينبت من الأرض ولا يمطر من السماء، ولا يخطر على مسارب عقل الإنسان، ولم تدرج في صفحات الكتب التي دوّنها الإنسان ولا في أيّ مكان آخر، بل يتجلّى حصرًا من قبل الله تعالى، من دون واسطة تارة، وبواسطة الملائكة تارة أخرى.

إنّ مهبط هذا النداء الغيبيّ، ومَجلى هذا الكلام الملكوتيّ، هو قلب الإنسان المعصوم الطاهر، المصون من السهو والنسيان في جميع شؤون تلقّي الوحي وحفظه وتبليغه، والمنزّه عن أيّ نوع من العصيان والطغيان. فهكذا قانون سماويّ، يحتاج إلى تبيين وتعليل وإجراء وحماية.

إنّ المجتمع البشريّ لا يصل إلى سعادته المنشودة من دون أسوة، ومن دون مرجع لحلّ الخلاف وفصل الخطاب، ومن هذا المنطلق يتمّ تبيين ضرورة وجود مرسل إلهيّ يتولّى جميع تلك الشؤون المذكورة.

وفي مقام بيان بعض تلك الأصول، يمكن أن يقال: إنّ الإنسان يبدأ سيره التكامليّ ونيل سعادته من منطقة القوّة إلى أن ينتهي إلى الفعل: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[2]. وعليه، لا بدّ في أن تكون نقطة البدء ونهاية الختم بيد الدليل والهادي؛ لأنّ الإنسان لا يتيسّر له الوصول إلى الغاية من دون الطريق والهادي؛ لوجود وديان ومزالق ومفاوز مضلّلة، وكذلك وجود قطّاع طريق الفكر، ووجود السراب وأعاصير مخوفة، وحيتان مصّاصة الدماء في وسط الطريق.

وعليه، يلزم بين نقطة البدء والوصول إلى الهدف، من وجود طريق اسمه الدين، ودليل اسمه النبيّ، فالدين يضع الشريعة أمام الإنسان {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}[3] ويمكن إطلاق القانون الدينيّ على الطريق، واسم النبيّ على الدليل والهادي.

ومضافًا إلى ما قلنا [نشير إلى]:

1. إنّ الدين الذي يُعدّ صراط التكامل المستقيم، المتضمّن لسعادة الفرد والمجتمع، وإن كان يكشف بعضه بمساعدة العقل البرهانيّ، غير أنّ قسمًا مهمًّا منه ينكشف عن طريق الوحي.

2. المجتمع الإنسانيّ فضلًا عن حاجته إلى الهادي فيما يخصّ الوحي السماويّ، بحاجة إلى أسوة وقدوة في المستقلّات العقليّة أيضًا.

3. إنّ قائد الإنسان في كلا القسمين، هو الإنسان الكامل المعصوم الحائز على اليقين الثابت في جانب العقل النظريّ، والعزم النافذ في العقل العمليّ. كما يكون كالبنيان المرصوص في طريق الوحي الإلهيّ، مضافًا إلى كونه محبوبًا ومطلوبًا ومقصودًا لدى قافلة الإنسان المتكامل، ويقال له النبيّ،وفي ظل عزته يذل الالحاد.

وبعبارة أخرى، إنّ الله الذي هو ربّ العالمين، غمر العالم والكون تحت تدبيره، لم يكن الإنسان المتفكّر العاقل بمنأى عن هذا الأمر؛ لأنّ تدبير الإنسان وتعليمه وتربيته لا بدّ وأن يتناسق مع خلقته الجسميّة والمعرفيّة، ومن الواضح أنّ هذا العمل العظيم، لا يتأتّى من خلال معلومات الإنسان الضئيلة، بل إنّ المتصدّي لهذا العلم لا بدّ وأن يمتاز بالعلم اللدنيّ والإلهيّ الغزير، مستعينًا بالتأييد الربّانيّ ومعونته: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}[4]، وهذا الشخص هو النبيّ المختار من قبل الله تعالى، لتعليم الإنسان وتربيته. وبعبارة أخرى:

1. إنّ عقل الإنسان يشاهد سهو نفسه وغيره ونسيانه العلميّ وعصيانه العمليّ، ويدرك من خلال التجارب المستمرّة أنّ البشر العادي لم يكن مصونًا من النسيان المعرفيّ والنيّة السيّئة.

2. لم يكن بمقدور هكذا إنسان، تدوين قانون مصون من الخطأ ومعصوم من الزلل ومحفوظ من النقص، نعم يرى غير الموحدّين من المتفكّرين طوباويّة تحقّق الإنسان المعصوم، غير أنّ عند الموحّد العالم، يعدّ وجود هكذا إنسان منزّه، من القطعيّات؛ لأنّه يعتقد بالله الهادي والحكيم والعادل، الذي قدرته أزليّة ولا يتطرّق إليه الضعف والعجز والوهن، ولا يوجد أيّ مانع داخليّ، كالبخل، أو خارجيّ، أي المقهوريّة لعوامل خارجيّة، يمنع الله تعالى من خلق الإنسان المعصوم في مقام العلم والمنزّه في مقام العمل، تطبيقًا لهدايته وحكمته وعدالته. ويسمّى هذا الإنسان الكامل بالنبيّ.

سؤال وجواب

السؤال الأوّل: لماذا تمّ انتخاب جميع الأنبياء من الرجال؟

الجواب: النبوّة إمّا أن تكون إنبائيّة أو تكون تشريعيّة. والقرآن الكريم جعل مسألة النبوّة التشريعيّة، والتي هي الرسالة، بعهدة الرجال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[5]؛ لأنّها عمل إجرائيّ يستلزم الحشر مع الناس، وقيادة الحروب والصلح، واستقطاب الأموال وتوزيعها، وتنظيم عمل المجتمع. وعليه، بما أنّ الرسالة التي بمعنى قيادة المجتمع، وبيان الحلال والحرام والواجب والمستحبّ والمكروه والمباح ونحوها، نبوّة خاصّة تتكفّل وظيفة الإجراء، وضعت بعهدة الرجال، أمّا النبوّة الإنبائيّة فهي بمعنى اطّلاع شخص عن طريق الوحي بما يجري في الكون وما سيؤول إليه، يرى مستقبله ويخبر عن مستقبل الآخرين، فهكذا نبوّة ترجع إلى مقام الولاية لا النبوّة التشريعيّة والرسالة الإجرائيّة. فهكذا نبوّة وإن كانت سندًا لكلّ رسالة ونبوّة تشريعيّة، غير أنّها لا تختص بالرجال، بل تتمكّن النساء أيضًا من الوصول إلى هذه الرتبة، كالصدّيقة الزهراء(عليها السلام) ومريم(عليها السلام).

إنّ عدم وصول النساء إلى النبوّة لا يقلّل من مرتبتهنّ؛ لأنّ المرأة تصل إلى مقام الولاية التي هي سند النبوّة، وربّما تكون أفضل من كثير من الأنبياء، كما وصلت فاطمة الزهراء(عليها السلام) إلى هذه الرتبة.

إنّ الله تعالى، قد جعل مرتبة الزهراء(عليها السلام)، طبقًا لبعض الروايات، أفضل من جميع الأنبياء، كما روى جابر عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: قلت: لم سمّيت فاطمة الزهراء زهراء؟ فقال: لأنّ الله، عزّ وجلّ، خلقها من نور عظمته، فلمّا أشرقت أضاءت السماوات والأرض بنورها، وغشيت أبصار الملائكة وخرّت الملائكة لله ساجدين وقالوا: إلهنا وسيّدنا ما هذه النور؟ فأوحى الله إليهم هذا نور من نوري، أسكنته في سمائي، خلقته من عظمتي، أُخرجه من صلب نبيّ من أنبيائي، أفضّله على جميع الأنبياء، وأُخرج من ذلك النور أئمّة يقومون بأمري، يهدون إلى حقّي، وأجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحيي[6].

فالولاية التي هي رتبة ملكوتيّة ومعنويّة، وتعدّ باطن النبوّة والرسالة، تشترك بين الرجل والمرأة، فمن يصل إلى هذه الرتبة يقترب من الله غير أنّه ربّما لم يُكلّف بالإجراء [الرسالة] وقد يُناط به مقام الإجراء. لذا، يتمّ تكليف الرجال لتقبّل الأخبار الغيبيّة وإبلاغها إلى النّاس، والكفاح ذودًا عنها، فيَقتلون المحاربين وربّما يُقتلون أو يُأسرون ويعذّبون وهكذا.

وبناء على هذا، فكلّ رسول ونبيّ «وليّ»، ولكن ليس كلّ «وليّ» رسول مشرّع.

السؤال الثاني: هل يمكن العيش من دون وجود نبيّ؟

الجواب: إنّ من لوازم النبوّة العامّة، عدم خلوّ الناس من دون هادٍ غيبيّ، ومن المستحيل أن يترك الله أمّة من دون معلّم وهادٍ (أي نبيّ)؛ لأنّ الله هو المدبّر والمربّي للإنسان.

إنّ الإنسان قد طوى مراحل في الماضي وله مراحل مستقبليّة لا بدّ وأن يسلكها شاء أم أبى. إنّه بشكل مستقلّ لا يعلم من أين أتى، وإلى أين سيذهب، ولو لم يكن الوحي والنبوّة فإنّه يجهل مبدأه ومنطلقه كما يجهل معاده ومستقبله. كما أنّه رغم تطوّر العلم يجهل كثيرا من أسرار جسمه، ويوجد في الكون آلاف الأسرار المغلقة من دون أن يلقى حلًّا لها عند مواجهتها.

إنّه بحاجة إلى قانون يوصله إلى السعادة، وبحاجة إلى معلّم إلهيّ يؤمّن مصالح الفرد والمجتمع والدنيا والآخرة وسائر حوائجه. واسم هذا المعلّم المقنّن والمبلّغ الهادي هو النبيّ. ولذا لا تخلو أيّ أمّة من نبيّ: {إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}[7]. {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}[8] فالله تعالى، لم يترك الخليقة، سواء الموحّدة أو الملحدة، من النبوّة العامّة، والنبوّة لم تنفكّ عن الخليقة. كما أنّه لا يمكن خلق الحيوان المائيّ من دون خلق الماء، أو خلق الإنسان من دون خلق الهواء، فكذلك لا يمكن خلق المجتمع البشريّ من دون إرسال وحي أو نداء غيبيّ.

وعليه، فانفكاك الخليقة عن النبوّة غير ممكنة، سواء أكان نفس النبيّ موجودًا في المجتمع أم من ينوب عنه وخليفته، أو كتابه وتعاليمه التي تُعدّ عصارة الرسالة. إذن، لا يمكن افتراض سلوك البشر الثقافيّ من دون النبوّة؛ نظرًا لربوبيّة الله وحكمته، وهذا مؤيّد من قبل العقل الصحيح والوحي الصريح.

السؤال الثالث: هل ظهر نبيّ في غرب الكرة الأرضيّة؟

الجواب: لا يوجد دليل على عدم إرسال نبيّ لهم، فإنّ قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}[9] يشمل جميع الأمم، أي لا توجد أمّة سواء في المشرق أو المغرب، في الشمال أو الجنوب، من دون وجود منذر فيها، ومن المعلوم أنّ المنذر مبشّر أيضًا «بشير ونذير».

مضافًا إلى هذا، يوجد بعض الأنبياء ورد عددهم في الكتب الروائيّة وتمّت الإشارة إلى أسماء بعضهم في القرآن: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}[10].

قال الإمام الباقر(عليه السلام):

«كان بين آدم ونوح من الأنبياء مستخفين ولذلك خفي ذكرهم في القرآن، فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياءI »[11].

وعليه، فمن الممكن بَعْثُ الأنبياء إلى الأقوام المختلفة، كما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) بِبَعْثِ نبيّ أسود لم يرد ذكره في القرآن[12].

ويوجد خلاف في عدد الأنبياء، فقد ورد في بعض الروايات ان عددهم مائة وأربعة وعشرون ألفًا، وفي بعضها الآخر ثمانية آلاف بُعث أربعة آلاف منهم في بني إسرائيل وأربعة آلاف منهم لآخرين[13].

وبناء على هذا، بُعث الأنبياء في جميع بلاد المشرق والمغرب وفي جميع الأمم، وقد خفي ذكرهم وأسماؤهم وأخبارهم، ولم يطّلع عليهم العرب ومعاصرو نبيّ الإسلام[، وربّما اندرست آثارهم ولم يتمكّن الناس من الاعتبار بأخبارهم حينذاك، على خلاف آثار الأنبياء المجاورين للحجاز كإبراهيم وموسى وعيسى ونوح ولوط ويونس وشعيب(عليهم السلام) وغيرهم.

لذا، فإنّ أكثر من كان يحاجج النبيّ أو يحاجج أئمّة الدين، كان من مناطق الشرق الأوسط وآسيا والروم الشرقيّة، ولم يطّلع أحد على من يوجد وراء المحيط الأطلسيّ، والشرق البعيد أو الروم الغربيّة والمنتصف الجنوبيّ للكرة الأرضيّة.

ولم يسأل عنهم فضلًا عن السؤال المتعلّق بأنبيائهم، ولعلّ السرّ في عدم التعرّض لأسماء أنبياء الغرب البعيد أو الشرق البعيد وعدم ذكر أخبارهم، يعود إلى عدم إمكانيّة التحقّق في أحوالهم، وعدم إمكان الاتّعاظ من هبوط أممهم وسقوطهم.

الدلائل النقليّة

ليعلم قبل الخوض في الدلائل النقليّة، أنّ الله الحكيم وضع معينين للمعرفة وتحت اختيار الإنسان لإيصاله نحو السعادة: الوحي والعقل، وكلّ واحد منهما يكمّل الآخر. فالعقل مصباح مضيء يوضع تحت اختيار السالكين في الليالي المظلمة، اما الطريق فهو الوحي الإلهيّ. والإنسان لا يمكنه سلوك الطريق والاستمرار فيه من دون المصباح (أي وسيلة المعرفة والتبيين).

وعليه، فمن أراد السعادة الأبديّة بالاقتصار على العلم والمعرفة، يحرم نفسه من معطيات الوحي الإلهيّ ولم يصل إلى أيّ مكان. ومن جهة أُخرى، فإنّ الاعتماد على الوحي من دون العقل، يوقع الإنسان في الجمود والتشبيه والقشريّة كما يوقعه في الخطأ.

وبناء على هذا، قال معلّم مدرسة المعرفة في مكتب أهل البيت موسى بن جعفرF:

«إنّ لله على النّاس حجّتين: حجّة ظاهرة وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة منهم(عليهم السلام)، وأمّا الباطنة فالعقول»[14].

مضافًا إلى هذا، ففي جميع القرآن وضع التعقّل والتفكّر إلى جنب الوحي.

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى نقاط ثلاثة:

1. المقصود من الوحي الإلهيّ ما ينزله الله، سبحانه، على النبيّ من دون واسطة أو بواسطة الملك أو حجاب آخر، ويثبت مضمونه للناس إمّا عن طريق اليقين أو الاطمئنان العقلائيّ. يحصل اليقين عن طريق الخبر المتواتر، أو الخبر الواحد المحفوف بالقرائن القطعيّة، ويحصل الاطمئنان العقلائيّ عن طريق الخبر الواحد الثقة.

2. المقصود من العقل الاستدلاليّ، هو البرهان المفيد للقطع، أو التجربة الموجبة للاطمئنان النوعيّ.

3. لا يعتمد على الدليل النقليّ غير المعتبر وإن أفاد الظنّ؛ لأنّه ليس كلّ ظنّ حجّة، كما لا يعتمد على دليل عقليّ غير حائز لنصاب الحجّيّة، وإن أوجب الظنّ كالتمثيل المنطقيّ المعبّر عنه بالقياس الأصوليّ والفقهيّ؛ لعدم إمكان الاعتماد على أيّ نوع من الظنّ.

طرق معرفة النبوّة

إنّ طرق معرفة النبيّ وثبوت صحّة دعواه، هي: الشهود العرفانيّ، الدليل العقليّ، ظهور المعجزة مع شرائطها اللازمة، الدليل النقليّ والشواهد والقرائن المقامة على صحّة النبوّة ... وسنتطرّق إلى بيان هذه الطرق، والإشارة إلى مقدار اعتبارها.

1. الشهود العرفانيّ

للشهود العرفانيّ مراتب، ومرتبته العالية محدودة جدًّا لا تتيسّر إلّا للأوحديّ من الناس؛ لأنّه يتطلّب من يرى ويسمع ما يراه النبيّ ويسمعه، أي أمر النبوّة، بحيث يشهد وتنكشف له الأمور على نحو العلم الحضوريّ، وحينئذٍ لا يحتاج إلى معطيات العقل، كما حصل لأمير المؤمنين(عليه السلام) حيث قال له رسول الله[: «إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلّا أنّك لست بنبيّ ولكنّك وزير وإنّك على خير»[15].

والمرحلة الوسطى للشهود العرفانيّ هي أن يشهد أصل نبوّة النبيّ، وحينئذٍ لا يحصل أيّ تردّد للشاهد. والمرحلة النازلة للشهود هي أنّ العارف المتشرّع يصل عن طريق شهود المعارف الإلهيّة المتكرّرة إلى نوع ضعيف من شهود الأنبياء، وحينئذٍ يحصل له الاطمئنان بصحّة دعوى النبوّة، وإن احتاج في تتميمه إلى البيان العقليّ.

والحاصل أنّ طريق الشهود العرفانيّ مغلق أمام أكثر الناس لذا لا يصلون إلى هذا المقام ولن يصلوا. كما أنّ ميزان تشخيص الكشف الصحيح عن غير الصحيح لغير المعصوم ينحصر في العقل البرهانيّ، وأيضًا فإنّ معيار صحّة الدليل النقليّ هو العقل القطعيّ، وبناء على هذا فإنّ أفضل طريق لمعرفة النبوّة هو العقل.

وليعلم أنّ طريق الشهود لو حصل للإنسان الكامل والمعصوم، فإنّه لا يحتاج إلى معيار العقل، كما حصل لأمير المؤمنين(عليه السلام) بالنسبة إلى نبوّة رسول الله[؛ لأنّ ساحة عصمة الإنسان الكامل منزّهة من الشكّ ومبرّأة من العيب، لذا لا يحتاج إلى ميزان العقل.

2.الدليل العقليّ

يحكم العقل بمعونة البرهان والأصول والمعارف الكلّيّة، بصحّة محتوى دعوة الأنبياء(عليهم السلام) وصدقها، فإذا كانت محتوى الدعوة، وكلام النبيّ وتقاريره عن الغيب والقيم العليا، متوافقة مع القواعد العقليّة ومقبولة لديه، فيصدّقها العقل، وإلّا يقوم بتكذيبها.

إنّ التمييز بين النبيّ الصادق والنبيّ الكاذب، إنّما يمر عبر البراهين العقليّة، اذ قد كثر المتنبّئون الكاذبون وكانت لهم مدّعيات، غير أنّ مدّعياتهم الكاذبة لم تصل إلى أيّ مكان، فكان بعضها سحرًا وبعضها خدعة، ثمّ آل أمرهم إلى الهلاك ووقعوا في شراك ما نسجوا.

لقد أشارت الروايات إلى دور العقل في تشخيص الإنسان الصادق من الكاذب، يسأل ابنُ السكيت الإمامَ الرضا(عليه السلام)، ويقول: «فما الحجّة على الخلق اليوم؟ فقال: العقل، يعرف به الصادق على الله فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذّبه»[16]. وعليه، فالبرهان العقليّ هو الذي يميّز بين الصادق والكاذب.

والدليل على نجاعة هكذا معرفة عقلائيّة، حوار الأنبياء مع الناس، أنّهم أقاموا البراهين لإثبات صدق دعواهم، كما أنّ الناس بما فيهم الملحدون والمنكرون، كانوا يطالبون بالبرهان، وبعد إقامة البرهان القاطع يؤمن فريق منهم ويتمسّكون به، وينكره فريق آخر عنادًا ولدادًا ولجاجًا، وعلى سبيل المثال: كان نبيّ الله نوح(عليه السلام) يقول في ضمن استدلالاته العقليّة مع الناس: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا}[17].

ولو فحصنا جميع القرآن والنصوص الدينيّة، لرأينا أنّ محور دعوة جميع الأنبياء تتمحور حول العقل والتعقّل، والعبارات القرآنيّة الآتية: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} و {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} و {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وغيرها، شاهدة على هذا الأمر.

والشاهد الآخر، محاولة الملحدين وأعداء الأنبياء لاتّهامهم بالجنون والسفة وقلّة العقل، فإنّ الملحد اللدود والمنكر العنود كان يقول بأنّ الأنبياء لا عقل لهم ولا يتعقّلون، ولكن في الجهة الأخرى فإنّ الذين آمنوا، يدركون بعقولهم النبيّ الصادق من الكاذب المتنبّي.

إنّ وحشي بن حرب الحبشيّ كان في جيش الكافرين يومًا واحدًا وقتل حمزة عمّ النبيّ[، ولكن بعد ما أسلم وقف أمام مسيلمة الكذّاب وقتله بحربته وكان يقول: «قتلت بحربتي هذه خير الناس وشرّ الناس». لذا قال النبيّ[: «حمزة وقاتله في الجنّة»[18]. فوحشي استعان بالعقل ليشخّص أفضل الناس وشرّ الناس، وقد قتل شرّ الناس (مسيلمة الكذّاب) جبرانًا لقتله خير الناس (حمزة).

وليعلم أنّ العقل يفرّق بين الخبر الصادق عن الكاذب في المحاور الكلّيّة فقط؛ إذ إنّه غير قادر على الخوض في الجزئيّات؛ لأنّ الأمور الجزئيّة من قبيل خصائص العبادات، الأخلاق، الاقتصاد، خارجة عن مدار التقييم الكلّيّ، والتجربة الحسّيّة الخارجيّة، ولم ينلها البرهان العقليّ، وعليه فحكميّة البرهان العقليّ تنحصر في مدار المفاهيم الكلّيّة.

كما أنّ العقل ساكت بخصوص المُخبر والنبيّ وادّعائه النبوّة، وبعبارة أُخرى لا توجد ملازمة بين صحّة الدعوى وصدق الخبر، الراجعة إلى الأصول العقليّة، وبين صحّة الدعوى وصدق المخبر، الراجعة إلى أصل النبوّة أو إلى الأحكام التعبّديّة.

بيان ذلك: عند التمييز بين الخبر الصادق عن الكاذب، ينشغل العقل بموضوع القضيّة ومحمولها ويفحصهما، ولم يبحث عن ناقل الخبر. ولذا قالوا: «انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال»[19].

إنّ البحث في الخبر من وظائف العقل. فالقائل [أو المتكلّم]، مع قطع النظر عن شخصه وعن نيّته، ربّما يقصد من كلامه الحقّ: الباطل أو الحقّ. وعليه، ففي الحكمة النظريّة لا يكون كلام المتكلّم كاشفًا عن عصمة عقله ونظره، فربّما ينقل كلام الآخرين من دون أن يفهمه، كما قال رسول الله[: «رُبّ حامل فقه إلى من أفقه منه»[20].

ثمّ إنّ تشخيص القائل، وهل أنّ دعواه صحيحة أم لا؟ فإنّها من المسائل المهمّة ولا بدّ من التطرّق إليها، فهل يوجد برهان عقليّ محض لتشخيص مدّعي النبوّة أم لا؟ وما هو دور المعجزة هنا؟ وما هو دور الكشف والشهود العرفانيّ والأدلّة النقليّة؟

في معرفة النبوّة، نحن بحاجة إلى عنصرين رئيسين: المعجزة، وتحليلها العقليّ.

بيان ذلك: إنّ الناس يختلفون في مواجهة هذه الأسئلة، فالبعض منهم يرى معجزة الأنبياء ويتعقّل فيها، والبعض الآخر يرى المعجزة بعينه وحسّه الخارجيّ غير أنّه لا يتعقّل ولا يتدبّر فيها بالنحو المطلوب، ويؤول أمره في النهاية الى حافّة الارتداد، وسقوطه فيه حتميّ، كما هو الحال في أتباع موسى(عليه السلام) حيث رأوا معاجزه البيّنة، ورأوا يده البيضاء، وهلاك فرعون وغرقه في البحر، لكنّهم لم يتعقّلوا ولم يكونوا من النبلاء، فخرجوا من الدين بنداء عجل السامريّ.

لقد قال قوم بني إسرائيل لموسى(عليه السلام): {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}[21] وبعد ما رأوا أنّ الله أنجى بني إسرائيل من فرعون وفلق لهم البحر وأنجاهم، وأغرق فرعون وجنوده، فعندما رأوا قومًا يعبدون الأصنام قالوا لموسى: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}[22].

وهذا دليل على عدم تأثير إعجاز موسى في بني إسرائيل الحسّيّين، إنّهم لم يفكّروا إطلاقًا في مهمّة نبيّ الله موسى(عليه السلام) ولم يصلوا إلى محتوى دعوته مع كونهم رأوا معاجزه، وعليه فلأجل معرفة النبوّة نحن بحاجة إلى عنصرين رئيسين: الأولى رؤية المعجزة، والأخرى التحليل العقليّ. نعم، وإن أمكن وضع الشهود العرفانيّ بدل التعقّل، ولكن قلنا إنّ طريق الشهود العرفانيّ صعب جدًّا ولا يتيسّر لكلّ الناس.

أمّا العنصر الآخر المكمّل لمعرفة النبوّة، هو التحدّي المقرون بالمعجزة، بمعنى أنّ النبيّ عند إتيانه بالمعجزة يتحدّى، بأن يقول: هذه معجزتي فإن تتمكّنون فأتوا بمثلها. او أن يقول على سبيل المثال: بأنّ اليد البيضاء، أو خروج الإبل من الجبل، أو القرآن، أو غيره، معجزتي، فأنتم أيضًا إن تتمكنوا فأتوا بمثلها.

فهنا، يرى العقل الملازمة بين صحّة الخبر وبين النبيّ القائل بالخبر (النبوّة)، ويثبت حينئذٍ صدق المُخبر (النبيّ) أيضًا. أي أنّه يصدّق دعوته كما يصدّق مدّعاه، صدق الخبر مع صدق المخبر.

والخلاصة: إنّ معرفة الأنبياء لم تكن ممكنة فحسب بل واجبة أوّلًا، وثانيًا: إنّ طرق معرفة النبيّ هي: الكشف الصحيح، والبرهان العقليّ، والدليل النقليّ المعتبر، وثالثًا فإنّ للنبيّ وظيفتين: الدعوة إلى محتوى النبوّة، أي الدعوة إلى المبدأ والمعاد والمعارف والأحكام وغيرها، ودعوى الرسالة وإثباتها بالمعجزة المقرونة بالتحدّي، وهنا تكون الملازمة بين ادّعاء الرسالة والدعوة إلى محتوى النبوّة.

وليعلم أنّ من له قدرة فائقة، ويدعو الناس إلى المبارزة ولم يتمكّن أيّ شخص من مجاراته، فحينئذٍ لا سبيل إلّا إلى قبول دعواه، ولو لم تكن علقة منطقيّة بين هكذا إعجاز وبين صحّة دعوى الرسالة، لأوجب ذلك ضلال الناس وهو لا يتوافق مع حكمة الله، وسيأتي بيانه. وبناء على هذا، فالحاجة هي معرفة المعجزة، وبما أنّنا فصّلنا القول بخصوص المعجزة في التفسير الموضوعيّ، نوجز ما يتعلّق بها هنا.

الخطوط العامّة للمعجزة

توجد عدّة نقاط رئيسة بخصوص المعجزة لا بدّ من الإشارة إليها:

1. المعجزة هي العمل الخارق والخارج عن المعتاد، وتقترن بادّعاء النبوّة والتحدّي.

2. المعجزة خارقة للعادة وليست بخارجة عن قانون العلّيّة.

3. لم تكن المعجزة قابلة للتعليم والتعلّم الذهنيّ، وتختصّ بالنفوس الطاهرة والزكيّة على خلاف العلوم الغريبة.

4. تعدّ المعجزة من الأمور غير المعهودة ولم تكن غير معقولة.

5. الفرق الأساسيّ بين المعجزة والكرامة أنّ المعجزة تقترن بادّعاء النبوّة والتحدّي، على خلاف الكرامة، وإن كان إطلاق المعجزة لإثبات الإمامة جائز.

6. توجد ملازمة عقليّة بين المعجزة وادّعاء النبوّة، بيان ذلك: إنّ جميع الموجودات تُعدّ آيات الله تعالى، والمعجزة التي تخالف العادات المعهودة، ولها مراتب، من آيات الله أيضًا ولا تظهر إلّا من قبل الأنبياء.

فمن جاء بالمعجزة فهو نبيّ، وعليه فالعقل يحكم بوجود خصوصيّة في هذا الشخص لا توجد في غيره وإلّا لصدرت منهم أيضًا، ولو صدرت منهم لذكرت في كتب التاريخ وتمّ تدوينها أو لأخبر الله بها.

تكمن خصوصيّة الأنبياء في تلقّي الوحي، و[تقبّل] النبوغ والسرّ الكامن في هذا الأمر، وبه يمتاز الأنبياء بقدرة فائقة تصدر منهم خوارق العادات.

ولو كانت المعجزة من نوع التعليم والتعلّم الذهنيّ، وتمكّن الآخرون من الإتيان بها، لتنافى هذا مع حكمة الله، بمعنى أن يتطاول غير الأنبياء على ساحة النبوّة وتدنيس ذلك الحريم المقدّس، ومن جهة ثانية، بما أنّ طاعتهم واجبة لسبّب هذا ضلال الناس وضلال أنفسهم، ومن الواضح أنّ هذا يخالف حكمة الله؛ لأنّ حكمته تقتضي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، واقترابهم إلى طريق السعادة بدل الضلال، لذا توجد ملازمة عقليّة بين ادّعاء النبوّة والمعجزة.

والدليل الواضح الآخر ما قاله الإمام الرضا(عليه السلام) في بيان سرّ معاجز الأنبياء وأنّ كلّ واحد منهم جاء بمعجزة خاصّة. روى ابن السكيت أنّه قال للإمام الرضا(عليه السلام): لماذا بعث الله عزّ وجلّ، موسى بن عمران(عليه السلام) بالعصاء ويده البيضاء وآلة السحر، وبعث عيسى(عليه السلام) بالطبّ، وبعث محمّدًا[ بالكلام والخطب؟

فأجابه الإمام الرضا(عليه السلام): إنّ الله تبارك وتعالى، لمّا بعث موسى(عليه السلام) كان الأغلب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله عزّ وجلّ، بما لم يكن في وسع القوم مثله، وبما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجّة عليهم، وأنّ الله تبارك وتعالى، بعث عيسى(عليه السلام) في وقت ظهرت فيه الزمانات، واحتاج الناس إلى الطبّ، فأتاهم من عند الله عزّ وجلّ، بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرأ لهم الأكمه والأبرص بإذن الله عزّ وجلّ، وأثبت به الحجّة عليهم، وأنّ الله تبارك وتعالى، بعث محمّدًا[ في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام، وأظنّه قال والشعر، فأتاهم من كتاب الله عزّ وجلّ، ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجّة عليهم.

ثم سأل ابن السكيت:

«تالله ما رأيت مثلك اليوم قط، فما الحجّة على الخلق اليوم؟ فقال(عليه السلام): العقل يعرف به الصادق على الله فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذّبه. فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب»[23].

وكلام ابن السكيت وإن لم يكن حجّة، ولكن بما أنّه وقع بمحضر الإمام المعصوم(عليه السلام) وإقراره فانه يكون حجّة، كما أنّ الحصر الموجود فيه يمكن الاستناد عليه في علم الكلام، والاعتماد عليه في الحكمة.

3.الدليل النقليّ

إنّ الدليل العقليّ المقترن بالمعجزة يُعدّ أهمّ دليل لإثبات النبوّة، ويأتي بعده الدليل النقليّ، وهنا سنشير إلى بعض الروايات المتعلّقة بالنبوّة:

1. قال الإمام الصادق(عليه السلام): لمّا انقضت نبوّة آدم وقطع أجله، أوحى الله تعالى، إليه أن يا آدم قد انقضت نبوّتك وقد انقطع أجلك، فانظر إلى ما عندك من العلم والإيمان وميراث النبوّة وأثرة العلم والاسم الأعظم، فاجعله في العقب من ذرّيّتك عند هبة الله، فإنّي لم أدع الأرض بغير عالم تعرف به طاعتي وديني، ويكون نجاة لمن أطاعني[24].

2. قال الإمام الصادق(عليه السلام): إنّ جبرئيل نزل على محمّد يخبره عن ربّه فقال: إنّ الله يقول: يا محمّد، أنّي لم أترك الأرض إلّا وفيها عالم يعرف طاعتي وهدايتي، ويكون نجاة فيما بين قبض النبيّ إلى خروج النبيّ الآخر[25].

يستفاد من هاتين الروايتين وجود الحجّة الإلهيّة في جميع الأعصار والأمصار، وذلك يكون من عدّة أوجه: 1) أن يكون النبيّ السابق صاحبًا للشريعة والنبيّ اللاحق حافظًا لها، إلى أن يأتي نبيّ آخر صاحب للشريعة. 2) الوصيّ والإمام المعصوم(عليه السلام) يكون حافظًا للشريعة بعد النبيّ. 3) يتوسّط نائب خاصّ عالم كامل بخصوص الشريعة، وعادل موثوق به عمليًّا لدى الأمّة.

3. قال الإمام الباقر(عليه السلام): والله ما ترك الله أرضًا منذ قبض آدم(عليه السلام) إلّا وفيها إمام يهتدى به إلى الله، وهو حجّته على عباده، ولا تبقى الأرض بغير إمام حجّة لله على عباده[26].

إنّ مصطلح الإمام في القرآن والحديث، يختلف عنه في علم الكلام. والمقصود من الإمام في هكذا روايات هو حجّة الله، سواء كان نبيًّا أو وصيًّا له.

والقرآن يرى القادة الإلهيّين، أعمّ من الأنبياء وأوصيائهم الصادقين، أئمّة حجج الله على خلقه، يهدون الناس إلى أمر الله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا}[27].

ويقول الإمام الباقر(عليه السلام) في رواية أخرى: «إنّ الله لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يعرف من الباطل»[28].

4. روى هشام بن الحكم عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبتّ الأنبياء والرسل؟ قال: إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقًا صانعًا متعاليًا عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيمًا متعاليًا لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه، فيباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه، ثبت أنّ له سفراء في خلقه يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبّرون عنه جلّ وعزّ، وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤيّدين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب في شيء من أحوالهم مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة، ثمّ ثبت في كلّ دهر وزمان ممّا أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين لكي لا تخلو أرض الله من حجّة يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته[29].

5. قال الإمام الرضا(عليه السلام): ...لأنّه لمّا لم يكن في خلقهم وقواهم ما يكملوا لمصالحهم، وكان الصانع متعاليًا عن أن يرى، وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهرًا، لم يكن بدّ من رسول بينه وبينهم، معصوم يؤدّي إليهم أمره وأدبه، ويقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم ودفع مضارّهم، إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه من منافعهم ومضارّهم، فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته، لم يكن لهم في مجيء الرسول منفعة ولا سدّ حاجة، ولكان يكون إتيانه عبثًا لغير منفعة ولا صلاح، وليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كلّ شيء[30].

وليعلم أنّ هذه الروايات أدلّة نقليّة، غير أنّ فيها أوّلًا: استدلالات عقليّة متينة ومحكمة، وأنّ محتواها العقليّ سبب في رجوع الدليل النقليّ إلى البرهان العقليّ.

وثانيًا: أنّ الاستدلال بالدليل النقليّ فيما لو لم يكن لإثبات أصل الوحي والنبوّة، بل لاستمراره في كلّ عصر ومصر، يكون مصونًا من محذور الدور. ثالثًا ربّما يكون سند بعض هذه الروايات مخدوشًا، ولكن استحكام المتن من جهة، وكثرة الروايات وتظافرها وتظاهرها من جهة ثانية، واستناد رجال الحديث والكلام بها من جهة ثالثة، يكون سببًا للتبيّن في حدّ ذاته.

4.اجتماع القرائن والشواهد

إنّ جمع الشواهد والقرائن تعدّ من الأدلّة التأييديّة، لذا لا يُعتدّ بها بمفردها، بل لا بدّ من اصطحابها بالبراهين العقليّة أو النقليّة.

إنّ جمع الشواهد والقرائن والاستفادة من مجموعها لهدف خاصّ، يعدّ من فطريّات العقلاء والعلماء، لا ينكر منفعتها أيّ عاقل، كما:

1. إنّ القاضي ربّما يحكم ببراءة شخص أو إدانته من خلال الشواهد والقرائن.

2. إنّ الأطبّاء يستعينون بالأعراض والقرائن لتشخيص المرض.

3. إنّ المنجّمين وصلوا إلى نتائج عظيمة من خلال هذه الطرق، مثلًا تمّ اكتشاف نبتون: السيّارة الثامنة في المنظومة الشمسيّة من خلال هذه الطرق، أي رؤية حركات عجيبة وغير منتظمة لـ «أورانوس» حول الشمس، دعت العلماء لاحتمال وجود سيّارة أخرى في الجهة الثانية من أورانوس؛ لأنّ حركتها كانت تختلّ من قبل سيّارة أخرى مجهولة، وعليه بدأ كلّ من المنجّمين: جان كاوج آدامز البريطانيّ وأوربن لووريه الفرنسيّ وغال الألمانيّ بالبحث في تلك الجهة من الفضاء التي أشارت إليها الشواهد والقرائن، إلى أن تمّ اكتشاف نبتون في الجهة نفسها التي أشارت إليها الشواهد والمحاسبات.

4. هذه الطريقة تنفع بخصوص مدّعي النبوّة أيضًا، بمعنى إمكانيّة تشخيص صدقهم أو كذبهم من خلال خصائصهم الخُلُقيّة، ووضع محيطهم وأتباعهم وأصحابهم وآبائهم وأجدادهم، وكذلك أدوات تقدّم عملهم، وكيفيّة تعاملهم مع الناس ومع الأعداء، وفي رعاية القانون والزهد أو الاحتكار للأموال واللهث وراء الدنيا، والغرور والكبر ومحتوى الدعوة والثبات في طريق الدعوة وغيرها.

والنموذج لذلك، تعامل قيصر الروم مع رسالة النبيّ[ التي أرسلها له بيد دحية الكلبيّ، فبعدما فتح قيصر الرسالة رأى فيها مكتوبًا:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمّد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، وسلام على من اتبع الهدى. أمّا بعد، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسيّين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا الله، ولا نشرك به شيئًا، ولا يتّخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون»[31].

ثمّ أمر قيصر بعض الأساقفة لترجمة الرسالة، فقال الأسقف: هذا النبيّ الذي كنّا ننتظره وبشّرنا به عيسى بن مريم. ثمّ قال قيصر: التمسوا لي من قومه ها هنا أحدًا أسأله عنه، وكان أبو سفيان وجماعة من قريش دخلوا الشام تجّارًا فأحضرهم، وقال: ليدن منّي أقربكم نسبًا به، فأتاه أبو سفيان فقال: أنا سائل عن هذا الرجل الذي يقول إنّه نبيّ، ثمّ قال لأصحابه: إن كذب فكذّبوه... فقال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: ذو نسب، قال: هل قال هذا القول منكم أحد؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس اتّبعوه أو ضعفاؤهم؟ قلت: ضعفاؤهم، قال: فهل يزيدون أو ينقصون؟ قلت: يزيدون، قال: يرتدّ أحد منهم سخطًا لدينه؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: كيف حربكم وحربه؟ قلت: ذو سجال مرّة له ومرّة عليه، قال: هذا آية النبوّة، قال: فما يأمركم؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئًا، وينهانا عمّا كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصوم والعفاف والصدق وأداء الأمانة والوفاء بالعهد. قال: هذه صفة نبيّ وقد كنت أعلم أنّه يخرج ولم أظنّ أنّه منكم...

فيعلم من هذا الحوار أنّ قيصر روم كان رجلًا حكيمًا يمتاز بالعقلانيّة، لذا قال في نهاية المطاف لدحية الكلبيّ: اذهب إلى صاحبك فاقرأ(عليه السلام) وأخبره أنّي أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّدًا رسول الله[32].

ثمّ إنّ تصريح النبيّ السابق وتنصيصه على اللاحق، يُعدّ من الطرق الخاصّة لمعرفة النبوّة، ومن ضمن الأدلّة النقليّة المعتبرة، أي أنّه خبر واحد يفيد القطع كالتواتر؛ لأنّه بعد ثبوت النبوّة لشخص ثبت صدقه، مضافًا إلى اليقين بعصمته من السهو والنسيان، لا يبقى مجال للشكّ، بمعنى أنّ المخبر الذي نقطع بصدقه، ونزاهته من السهو والنسيان كبراءته من العصيان، فإنّ خبره يوجب العلم القطعيّ بلا شكّ.

-----------------------------------

[1]. طه: 64.

[2]. البقرة: 156.

[3]. الإنسان: 3.

[4]. البقرة: 87.

[5]. الأنبياء: 7.

[6]. المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص12 ح5.

[7]. فاطر: 24.

[8]. البيّنة: 1.

[9]. فاطر: 24.

[10]. غافر: 78.

[11]. بحرانی، تفسیر برهان، ج4، ص 104.

[12]. الحويزي، تفسیر نور الثقلين، ج4، ص 537.

[13]. المصدر السابق.

[14]. الكليني، أصول کافی، ج1، ص 16، وتوجد هنا روايات كثيرة سنشير إليها في مبحث: فلسفة البعثة في الروايات.

[15]. نهج البلاغة، الخطبة 192.

[16]. الصدوق، علل الشرائع، الباب 99 ح6، و الکلیني، الكافي، كتاب العقل والجهل، ح20.

[17]. نوح: 13-20.

[18]. طريحى، مجمع البحرين، ج2، ص477/ وحشي.

[19]. رى شهري، ميزان الحكمة، ج6، ص485.

[20]. المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص164.

[21]. البقرة: 55.

[22]. الأعراف: 138.

[23]. الصدوق، علل الشرائع، الباب 99 ح6. الکلیني، أصول الكافي، كتاب العقل والجهل ، ح20.

[24]. طبری، دلائل الإمامة، ص 232.

[25].المصدر السابق، ص 232.

[26]. الکلیني، الكافي، ج 1، ص 178 باب إنّ الأرض لا تخلو من حجّة.

[27]. السجدة: 24.

[28]. الکلیني، الكافي، ج 1، ص 178 باب إنّ الأرض لا تخلو من حجّة.

[29].المصدر السابق، ج1، ص 168، باب الاضطرار إلى الحجّة ، ح1.

[30]. المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص 59.

[31]. المجلسي، بحار الأنوار، ج20، ص 386.

[32]. المصدر السابق، ص 378.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف