موريس بوكاي و القرآن الكريم (نحو قراءة توفيقية بين النص والمعطى العلمي دراسة تحليلية نقدية)

موريس بوكاي و القرآن الكريم (نحو قراءة توفيقية بين النص والمعطى العلمي دراسة تحليلية نقدية)

تأليف :

د. محمود كيشانة

مقدمة المركز 

الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد...

تتنوّع مشارب المستشرقين وخلفيّاتهم في دراسة التّراث العربيّ بشكل عام، والتّراث الإسلاميّ بشكل خاص، وما يتعلّق بالقرآن الكريم بشكل أخص، بين من يستند إلى خلفيّات أيديولوجيّة وفلسفيّة في البحث ومحاكمة فكر الآخر ومعتقداته وفق ما يحمله من فكرٍ وثقافة، وهذا غاية التطرّف واللّاعلميّة في دنيا البحث العلمي. وبين من يُقارب فكر الآخر الدينيّ والعام بموضوعيّةٍ خالصةٍ بغضّ النّظر عن قدسيّة فكر الآخر أو عدم قدسيّته. في حين تتعامل شريحةٌ ثالثةٌ مع فكر الآخر -لا سيما الديني منه- مراعيةً مكانة هذا الفكر ومنزلته عند أهله وأصحابه، وبعض هذه الفئة الأخيرة من المستشرقين اعتنق الدين الإسلاميّ نتيجة منهجيّته وطريقته الموضوعيّة والشفافة في البحث العلمي البعيد عن الخلفيّات والأحكام المسبقة...

ويظهر أنّ المستشرق الفرنسيّ موريس بوكاي (Maurice Bucaille) من هذه الفئة الثالثة، وإن كنّا لا نتوافق معه في الكثير مما توصّل إليه. ولهذا تمّت مناقشة العديد من أفكاره في هذا الكتاب...، إذ يصرّح بوكاي في حديثه عن منهجيّة عمله في دراسة القرآن الكريم: "لقد قمت أولاً بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أي فكر مسبق وبموضوعيّة تامّة، باحثًا عن درجة اتّفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث. وكنت أعرف -قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات- أنّ القرآن يذكر أنواعًا كثيرةً من الظواهر الطبيعيّة، ولكن معرفتي كانت وجيزة. وبفضل الدّراسة الواعية للنصّ العربيّ استطعتُ أن أحقّق قائمة، أدركت بعد الانتهاء منها أنّ القرآن لا يحتوي على أيَّة مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث"[1].

وفي سياق حديثه عن نفي إشكاليّة المستشرقين الكبرى المتعلّقة بإنسانيّة مصدر القرآن، يقول موريس بوكاي أيضًا: "إنَّ أوّل ما يُثير الدهشة في روح من يواجه نصوص القرآن لأوّل مرة، هو ثراء الموضوعات العلميّة المعالجة...، لا نكتشف في القرآن أيَّ خطأ، ولو كان قائل القرآن إنسانًا، فكيف يستطيع في القرن السابع أن يكتب حقائق لا تنتمي إلى عصره؟!"[2].

وتكمن أهمّيّة هذا الكتاب الذي يُعالج جانبًا من أطروحة موريس بوكاي حول العديد من القضايا الخاصّة بالقرآن الكريم، في كونه يُعالج إحدى القراءات الاستشراقيّة الجادّة، التي تتعامل مع القرآن الكريم بمنهجيّة مغايرة لعدد كبير من المستشرقين في موقفهم من القرآن، تلك المنهجيّة التي انبنت على موضوع القرآن ومدى توافقه مع العلم الحديث، وقد قدّم بوكاي العديد من الشواهد حول هذا الموضوع.

الحمد لله ربّ العالمين

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة

-------------------------

[1]- موريس بوكاي: القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، ص150.

[2]- موريس بوكاي: دراسة الكتب المقدسة على ضوء المعارف الحديثة، ص145.

 

مقدمة المؤلف 

لا شكّ في أنّ المستشرق الفرنسيّ موريس بوكاي واحد من أولئك المستشرقين الذين اتّبعوا منهجيّة علميّة صارمة قادت إلى الانتهاء إلى مجموعة من الاستنتاجات والحقائق المتعلّقة بالقرآن الكريم في علاقتها بالعلم الحديث مقارنةً بالتوراة والإنجيل، تلك الاستناجات والحقائق التي وقف الدارسون والباحثون أمامها طويلًا. ويهمّنا هنا في هذا الكتاب الوقوف على القراءة العلميّة التي قدّمها المستشرق والطبيب موريس بوكاي حول القرآن الكريم، وما الذي يمكن أن تضيفه هذه القراءة للدراسات القرآنيّة والاستشراقيّة.

أهمّيّة الموضوع

لا يخفى على المتأمّل فيما كتبه المستشرق موريس بوكاي في كتاب التوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث ما يشعّ به منهجه من نقد منهجيّ تاريخيٍّ للقضايا التي يعالجها بالدراسة، وهو من المناهج المهمّة تزيد من أهمّيّة هذه الدراسة.

كما أنّ طبيعة القضايا التي تعالجها هذه القراءة العلميّة للقرآن عند موريس بوكاي تؤكّد على أهمّيّة هذا الموضوع، فقد تناول قضيّة أصالة القرآن من حيث نزوله وتدوينه وشروط كتابة الوحي وجمع القرآن. كما تناول قضيّة نشأة الكون، وقضيّة الفلك والقرآن، وقضيّة الأرض وما يحيط بها من ظواهر، وقضيّة عالم النبات والحيوان، وأصل الإنسان.

وتبدو قضيّة الإعجاز العلميّ والتاريخيّ التي كشف عنها موريس بوكاي من القضايا التي تدعو إلى هذا الموضوع، وتعدّ في الوقت نفسه هدفًا من أهداف هذه الدراسة. فقد طرح للنقاش العلميّ العديد من مظاهر الكون في الآيات القرآنيّة، التي تكشف عن إعجاز قرآنيّ سبق به بوكاي العديد من الدارسين في هذا المجال.

 الدراسات السابقة

الدراسات حول موريس بوكاي معدودة، في حين أنّ فكر الرجل يحتاج إلى العديد من الدراسات، خاصّة في جهوده المقارنة بين الروايات التوراتيّة والروايات القرآنيّة وجهوده العلميّة والتاريخيّة، ومن ثمّ فإنّنا نقف هنا عند ثلاث دراسات علميّة حول موريس بوكاي، وهي:

- كتاب موريس بوكاي للأستاذ الدكتور محمّد عبد الله الشرقاوي، طبعة المركز الثقافيّ للكتاب، الطبعة الأولى، 2021م. تناول فيه بعضًا من حياته وإنجازاته، ونقده لعداوات الغرب مع الشرق، والتجهيل المتعمّد للإسلام، والمنجز العلميّ لبوكاي وكتابه الظاهرة، وتفسيره للخصومة بين العلم والدين في الغرب، كما تناول الأسس المنهجيّة في دراسته للقرآن ونماذج من تأمّلاته، إضافة إلى مناقشة محاضرة بوكاي في أكاديميّة الطب الفرنسيّة، فضلًا عن قضايا: بوكاي والفراعنة، ونقده لنظريّة التطوّر، وبوكاي بين دارسيه ومنتقديه، عارضًا لنصوص من أقواله.

- بحث المنهج البوكابي في إثبات ربّانيّة القرآن في ضوء العلم.. دراسة في الفكر العلميّ لموريس بوكاي للدكتور إلياس دكّار، والبحث كان منصبًّا على الوقوف على منهج بوكاي في دراسة القرآن الكريم، وهو المنهج التاريخيّ المقارن الذي انتهى من خلاله إلى الحقائق التاريخيّة في القرآن الكريم. 

- وبحث عادل عباس النصراوي، محتوى النصّ القرآنيّ في فهم المستشرقين، مجلّة دراسات استشراقيّة، السنة الثالثة، شتاء 2016م. والذي تطرّق فيه إلى العديد من أفكار بوكاي العلميّة حول القرآن في طور مقارنتها بالروايات التوراتيّة.

وتناولت هذه الدراسات الثلاث فكر الرجل، فمنها ما تناوله بصورة كلّيّة كالدراسة الأولى التي اهتمّت بدراسة فكر الرجل في كلّيّته، ومما اهتمّت به بالطبع قضيّة موقفه من القرآن ومنهجه في دراسته، لكن دون التوسّع فيها، لكن الدراسة تعطينا إشارات مضيئة في فهم الرجل وموقفه من القرآن ومنهجيّته وتأثيره، وهي دراسة تتميّز بالجديّة والعمق والصرامة العلميّة، ولا تميل إلى التفصيلات، فضلًا عن أنّها تعدّ إضافة ضروريّة للمكتبة العربيّة بعامّة والمكتبة الاستشراقيّة خاصّة. في حين كانت الدراسة الثانية منصبّة على جانب من الموضوع الذي نحن بصدده، لكنّها كانت دراسة غير موسّعة؛ فقد كانت بحثًا تناول قضيّة المنهج عند بوكاي في موقفه من القرآن الكريم، بيد أنّها دراسة لا تخلو من الجدّيّة والعمق. أمّا الدراسة الثالثة فقد وقفت عند قضيّة الطوفان، مستشهدة بآراء بوكاي في القضيّة وأثره في بيان تأكيده على المصدريّة الإلهيّة للمحتوى القرآنيّ.

وباستثناء هذه الدراسات فإنّنا لا نجد دراسة موسّعة انصبّت على القراءة العلميّة للقرآن الكريم عند موريس بوكاي بكلّ تفصيلاتها، وهذا ما تحاول دراستنا هنا أن تقوم به؛ إذ إنّها تحاول تناول القضايا بكلّ أبعادها ومن جوانبها كافّة، محاولين الوقوف على موقف الرجل ومنهجه، وكيف كانت آراؤه علميّة تستند إلى العلم وتتمسّك بأهدابه في بيان المصدريّة الإلهيّة لمحتواه عند مقارنته التاريخيّة بين الروايات القرآنيّة والروايات التوراتيّة، وهنا تكمن أهمّيّة الموضوع.

إشكاليّة الدراسة

للدراسة عدّة إشكاليّات تحاول الإجابة عنها في سبيل بيان منهج موريس بوكاي في قراءة نصّ القرآن الكريم، ويمكن بيان هذه الإشكاليّات على النحو التالي:

أوّلًا: مَن موريس بوكاي؟ وماذا تقدّم لنا نشأته وحياته؟ وما جهوده العلميّة؟ وهل تقدّم لنا ما يستحق دراسته في هذا الكتاب؟

ثانيًا: ما طبيعة القراءة التي قدّمها حول النصّ القرآنيّ وما مقصودها؟ وهل هناك قراءات غير علميّة في دراسة الاستشراق للقرآن الكريم؟ وما روافد هذه القراءة؟ وماذا قدّم لنا موريس بوكاي من خلالها؟

ثالثًا: ما المنهجيّة العلميّة التي اتبعها هذا المستشرق في دراسته للقرآن الكريم والكشف عن مضمونه ومحتواه وتأكيد مصدريته الإلهيّة؟ هل كان للمنهج التاريخيّ والمنهج المقارن بروز واضح في هذه الدراسة؟

رابعًا: ما جهود موريس بوكاي في تأكيد أصالة القرآن من حيث نزوله وتدوينه وشروط كتابة الوحي وجمع القرآن. وكيف أثبت علميًا قضايا: نشأة الكون، الفلك والقرآن، الأرض وما يحيط بها من ظواهر، علم النبات والحيوان التي وردت في القرآن الكريم؟

خامسًا: هل تعدّ دراسة موريس بوكاي، خاصّة في كتابه التوراة والإنجيل والقرآن والعلم، من باب الإعجاز العلميّ؟ وهل سبق بها دراسي هذا الباب وباحثيه؟

سادسًا: ما موقع قضيّة أصل الإنسان في مشروع بوكاي حول قراءته للقرآن؟ وهل يسير موقف بوكاي فيها في الاتجاه العام نفسه الذي تقوم عليها هذه القراءة؟

سابعًا: ما الحقائق العلميّة والتاريخيّة التي انتهت إليها القراءة العلميّة للقرآن عند بوكاي؟ وما تأثيراتها الإيجابيّة؟

منهج الدراسة

نحاول في هذه الدراسة الجمع بين عدّة مناهج، بغية الوصول إلى موقف بوكاي وقراءته للقرآن، كالمنهج التحليليّ الذي يقوم على تحليل هذه القراءة والوقوف عند تفصيلاتها واستخلاص النتائج منها، والمنهج المقارن الذي يكشف عن الاختلاف في قراءة بوكاي للقرآن عن غيره من المستشرقين، والمنهج النقديّ وفق أساس دينيّ وعقليّ.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف