البحث في...
عنوان المقطع
الملقی
محتوى المقطع
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عنوان المقطع : علم الكلام القديم و الجديد - المحاضرة (6)

الملقی : الشيخ علي ديلان

تاريخ إضافة المقطع : August / 4 / 2022

عدد زيارات المقطع : 186

حجم الملف الصوتي : 14.114 MB

عدد مرات تحميل المقطع : 220

تحميل المقطع الصوتي

محتوى المقطع :
بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين اللهم صلّ على محمد وآل محمد.

البحث في هذه الحلقة يعنى ببيان الفارق بين علم الكلام القديم وعلم الكلام الجديد، باعتبار أن علم الكلام الجديد أو ما يسمى بالمعاصر يهتم بالدين من نواحٍ متعددة - كما سوف نشير إليه إن شاء الله تعالى - ولكن ابتداءً نقول أنه طرحت في العصور الأخيرة علوم مستجدة داخل المنظومة الدينية ومنها هذا العلم المسمّى بعلم الكلام الجديد أو المعاصر، ويتناول هذا العلم أهم الإشكاليات الحديثة الموجهة إلى الأديان عموماً، وإلى الدين الإسلامي على وجه الخصوص، ويمكن تصنيف كل إشكالية معاصرة أو قديمة - ولكنها حققت بطريقة جديدة تتناسب مع أطروحات هذا الزمان- تحت هذا العلم المسمى بعلم الكلام المعاصر. فالإشكاليات الحديثة الموجهة إلى الدين أو الإشكاليات القديمة التي صيغت بصياغات حديثة، هي التي نسمّيها بمسائل هذا العلم الجديد سواء ما كان منها متعلّق بتحليل الأديان أو ما كان منها يعنى ببيان مناشئها، وهو بحث مهم في الحقيقة، والذي يتم تداوله كثيراً أو ما كان منها متعلق بفكرة الإله أو بصفات الإله، وما هو الانطباع أو التصور الذي يمكن أن يكون معبّراً عن هذه الفكرة - فكرة الألوهية أو فكرة صفات الإله - وكذلك في ما يرتبط بطقوس الأديان وشعائرها أو بالأحكام الجزائية الدينية إزاء فعل بعض المخالفات، كأن تكون هذه المخالفة المعينة يتوجه إليها هذا الحكم الجزائي، فالسارق مثلاً تقطع يده والزاني يجلد أو يرجم وما إلى ذلك، هذه المسائل التي تتعلق بالدين ومناشئها وتتعلق بفكرة الإله وصفاته وتتعلق بالطقوس والشعائر والأحكام الجزائية وكذلك منها ما يتعلق بتأريخية النص الديني، وهل أن النص الديني تأريخي ويحده الزمان والمكان أو أن النص الديني يعبر في الحقيقة عن أفكار وهذه الأفكار تتسم بصفة الخلود والشمول وهو نص وحياني ثابت من الناحية الزمانية وإمكانية؟ فهذه الأبحاث جميعها يمكن أن يبحث عنها علم الكلام المعاصر.

وقبل بيان الفارق الجوهري بين علم الكلام القديم والجديد لا بأس أن نتعرف إجمالاً على بعض الآليات التي من خلالها تتطور العلوم، أو بعبارة أخرى: الإجابة على سؤال هو كيف أن العلوم تتطور؟   

الجواب: إنّ العلوم تتطوّر بتطوّر بعض الأمور، فهناك أمور إذا ما حصلت فيه نجد أن هذا العلم يحصل فيه تطوّر، وذلك من قبيل، تطور المناهج سواء كان من الناحية الكيفية أو من الناحية الكمية فمن قبيل التطور من الناحية الكيفية هو أن يكون المنهج المعتمد عليه في علم من العلوم مجرد طريقة ساذجة في التتبّع والاستقراء كما هو الحال في الاستقراء القديم، حيث يتتبّعون بعض الظواهر ويجدونها تتكرر تكرراً عددياً معيّناً من دون أن تكون هناك شرائط وأسس لهذا الاستقراء، ولكن يحصل فيما بعد وخلال النضج الفكري تطوّرات كيفية ونوعية للمنهج الاستقرائي كما حدث فعلاً في الأزمنة المتأخرة وأصبح المنهج الاستقرائي يعتمد على أسس وشرائط منطقية وكذلك حسابات رياضية خاصة، فهذا النوع من التطوّر هو تطوّر كيفي على مستوى المنهج الواحد، أو يكون هناك تطوّر في المنهج ولكن على المستوى الكمي، فبدل أن يعتمد الباحث في علم معيّن على منهج معيّن يعتمد على أكثر من منهج في تحقيق المسائل والعلوم مثلاً بدلاً أن نحصر البحث في المنهج العقلي يمكن توظيف منهج آخر كالمنهج الاستقرائي.

وقد تناولت فكرة وجود الله سبحانه وتعالى مناهج متعددة رغم أن كثيراً من الباحثين والاتجاهات حصرت تحقيق هذه المسألة في منهج واحد كلٌ يراه بحسب النظر الذي يعتمده فمثلاً أن الفلاسفة التقليديين يعتمدون على المنهج العقلي النظري، أو مثلاً (عمانؤيل كانت) يعتمد على المنهج العقلي العملي الأخلاقي أو من قبيل بعض متكلمي الإسلام وكذلك (ديكارت) يعتمدون على الفطرة، وهكذا العلماء الإلهيون الطبيعيون يعتمدون على المنهج العلمي الاستقرائي، كما أنه منهج يعتمده الشهيد الصدر (رحمة الله عليه).

على كل تقدير ما نريد أن نشير إليه في المقام أن هذا العلم يُرهن تطوّره بتطوّر جملة من الأمور، ومن هذه الأمور هو التطوّر في المنهج سواء كان تطوّر كيفية نوعية على مستوى المنهج الواحد، أو سواء كان التطور كمياً بحيث تتعدّد المناهج في سبيل إثبات فكرة من الأفكار. نعم يبقى هناك جملة من التساؤلات هل يمكن إثبات قضية واحدة عبر مناهج متعددة مختلفة أو لا؟ هذا بحث في الحقيقة يطرح في تفاصيل أبحاث علم الكلام وعلم نظرية المعرفة من أنه إذا كانت قضية رياضية (واحد زائد واحد يساوي إثنين) مثلاً فهذه القضية هل يمكن أن تثبت عبر منهج غير عقلي أو لا؟ أو مثلاً إذا أردت أن أثبت أن المسجد الفلاني في المكان الفلاني فهنا أثبته عن طريق المصدر الحسي فهل يمكن أن أعتمد على مصدر آخر لإثبات هذه القضية أو لا؟

نعم، لا إشكال بأن بعض القضايا إنّما تعتمد في إثباتها على منهج واحد، إما أن يكون منهجاً عقلياً أو منهجاً استقرائياً تجريبياً، ولكن بعض المسائل هل هي تقبل الإثبات من قبل مناهج متعددة من زوايا مختلفة أو لا؟ هذا فيه بحث لسنا بصدده في المقام، هذا كلّه فيما يرتبط بالعامل الأول الذي يساعد على تطوّر العلوم وهو (تطوّر المنهج).

العامل الثاني: وهو سعة وكثرة المسائل، حيث يبدأ العلم عادة بمسائل محدودة ومن ثم تتكاثر تبعاً لحاجة البحث، أو حاجة الباحث، أو الحاجة الباعثة على إفراز مسائل جديدة، بل أن تطور العام الحضاري له دور في توافر مسائل كثيرة كما يحدث هذا في علم الفقه مثلاً، وما صاحبه من غزارة المسائل حسب الحاجة الفعلية التي يعيشها الإنسان المسلم، وحسب الحاجات التي أفرزتها التطورات الحضارية فمثلا ظهرت معاملات تجارية جديدة لم تكن هذه المعاملات موجودة في زمن سابق، وتغيرت احكام بعض موضوعات حيث كان يثبت لها بعض الأحكام، أما في هذا الزمان فيثبت لها أحكام أخرى كما في مثال الدم الذي لم يكن له منفعة في زمان سابق وكان القانون الديني يقول بحرمة بيع الدم وشراءه، ولكن الآن في هذا الزمان وحيث ان الدم مما يمكن أن ينتفع به وذلك بنقله من شخص إلى آخر فجاز بيعه، فهنا تغيرت نظرة الفقيه لهذه المسألة أو المسائل المضاهية المقاربة تبعاً لتغير بعض حيثيات موضوعاتها وإمكان الاستفادة منها، كذلك التطور الحضاري العلمي ساعد في اكتشاف الواقع كما هو الحال في مسألة الهلال وذلك من حيث إمكان الرؤية في العلم الطبيعي، اذ من الممكن أن يحدس ويقول أن الهلال يمكن أن يُرى وإن كانت الرؤية التي تثبت شرعاً عن طريق العين المجردة ولكن نحت عبر الآلات الحديثة يمكن ان  نحدد مكان الهلال ويمكن حساب مقدار ما يظهر منه، وبالتالي أنه يمكن او لا يمكن أن يُرى بحسب طبيعة العين البشرية ، فمن هذه الناحية، يمكن أن نستفيد منها.  كذلك في مثال تحديد الجنين وأنه ينتمي لفلان من الناس أو لفلان آخر عن طريق تحليل الدم (dna) أو مثلاً أن هناك موضوعات جديدة ترتبط بمثل الاستنساخ البشري أو تغير الجنسي من ذكر إلى أنثى أو بالعكس أو أن الخنثى تتحول إلى أحد الطبيعتين المعروفتين الذكر أو الانثى وما إلى ذلك من الموضوعات فنرى بأن التغيرات الحضارية والحاجة الفعلية كل ذلك له دور في تطور العلوم وتعدد المسائل وتغير الموضوعات، وأنّ بعض العلوم إذا ما تكثرت مسائلها بشكل ملحوظ سوف تبدأ براعم وجود علوم أخرى تتفرع من العلم الأم، كما يلاحظ ذلك بوضوح في علم الطب مثلاً فإن علم الطب كان علماً واحداً أما الآن فهو علوم كثيرة ومتعددة بسبب كثرة مسائله إلى حد كبير، كذلك علم الهندسة وعلم الاجتماع، وعلم النفس وغيرها من العلوم الحديثة، ولكن هذا التطور عادة ما يلازم الاحتفاظ بوحدة الغاية والهدف فمثلاً علم الطب البشري إنّما هو علم يهتم بصحة الإنسان مثلاً أو ما شابه فكل العلوم المتفرعة عنه هي ترتبط بهذه الغاية الكبيرة فمثلاً علم النحو يهتم بصون اللسان عن الخطأ في الكلام، فإذا كانت هناك تفرعات داخل علم النحو لابد ان تندرج تحت هذه الغاية العظمى، فكل علم أم وتحته علوم متفرعة، يجمعها غاية واحدة.

إنّ تطور العلوم هي من السنن الواضحة فيها، فإنه قانون في العلوم له أسبابه وطرائقه وعوامله المساعدة وغير ذلك مما يعد كفيلاً في التطور داخل العلم الواحد، حيث يحصل التطور - كما أشرنا آنفاً - إما في سعة مناهجه أو في تطور نفس مناهجه المعتمدة أو في تنقيحها برفض منهج واختيار منهج آخر أو يكون في سعة مسائله أو تهذيبها أو من خلال التركيز على بعض موضوعاته، ولكن كل ذلك يتم كما قلنا مع الاحتفاظ بالغاية التي دفعت الباحثين إلى إيجاد العلم، فمثلاً أن علم النحو له غاية واحدة وهي صون اللسان عن الخطأ في الكلام من ناحية أواخر الكلمة، مع أن النحو كان فيما مضى وفي أول ولادته عبارة عن بضع مسائل ليس إلا، ولكنه تطور شيئاً فشيئاً حتى أصبحت مسائله التي عليها الآن.

كما أن المنهج المعتمد عند أهل اللغة في بدايات تأريخ هذا العلم قد يكون هو المنهج السماعي، ومن ثم اتجهت بعض المدارس النحوية إلى المنهج القياسي فتكَون المنهج القواعدي، من قبيل كل فاعل مرفوع، وكل مفعول منصوب إذن غاية هذا العلم بقيت واحدة ولم تتغير رغم كثرت المسائل وفقاً للسنن الجارية في العلوم.

إن علم الكلام له غاية واحدة هي الدفاع عن العقيدة الدينية وذلك بإيراد الحجج ودفع الشبهات، وبيان المفاهيم الدينية فهي تورد الحجج وتثبت المطالب العقائدية من قبيل مثلاً فكرة الإله وفكرة النبوة العامة وفكرة النبوة الخاصة المتمثلة بالنبي (صلى الله عليه وآله)، والإمامة العامة والإمامة الخاصة المتمثلة بأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) وأهل البيت (سلام الله عليهم) وهكذا، وفيما يرتبط بعدل الله، وبالمعاد، وفيما يرتبط ببعض التفاصيل.

 فعلم الكلام له غاية وهي الدفاع عن العقيدة الدينية إما عن طريق إيراد الحجج التي تثبت المعطيات العقائدية الدينية، أو دفع الشبهة الموجهة إلى الدين أو بيان المفاهيم الدينية المرتبطة بالعقائد فمثلا في باب التوحيد نسأل، ما هو التوحيد؟ باعتبار أن من المسائل التي وقع فيها الخلاف داخل المنظومة الإسلامية، هو إعطاء معنى محدد للتوحيد، حتى أن بعض الفرق المنحرفة قد كفرت جميع المسلمين وصنفتهم على أنهم كلهم مشركون، ولذا لا بدَّ من توضيح المفاهيم الدينية.

وكذا ما هو معنى العدل عندما نقول بأن الله عادل؟ وهل أن الله سبحانه وتعالى يعمل عدله مثلاً في محاسبة البشر وفق قوانين العقل العملي أو يفعل ما يشاء بحيث يمكن أن يلقي الصالحين في نار جهنم؟ فما معنى العدل عندما نقول بأن الله عادل؟ ما هو معنى الشفاعة؟ ما هو معنى زيارة القبور التوسل الاستغاثة الاستعانة بأهل البيت (عليهم السلام)؟ وإلى آخره من المفاهيم الدينية المرتبطة بالمجال العقائدي.

كذلك أنه قلنا من مهام علم العقيدة وعلم الكلام أن يهتم بشرح المفاهيم الدينية، ومن الطبيعي حسب سنن العلم أن يبدأ هذا العلم بالمسألة في بداية أمره والمسألتين ثم يتطوّر حسب الحاجات والإشكاليات الموجهة إلى الدين في زمانها، وكلما كثرت الشبهات كلما كان علم الكلام فاعلاً في الجواب ومضيفاً إلى ساحته مسائل وأفكار أخرى، وهذه الأفكار الأخرى أيضاً تستتبع أفكار فرعية جديدة بعد المراجعة والمناقشة من خلال الجدل والحوار والتحليلات والتحقيقات حتى كان علم الكلام علماِ برأسه بمسمى علم الكلام أو علم العقيدة.

تأريخ علم الكلام

في الحقيقة اختلف الباحثون في تحديد تأريخ هذا العلم وفي تشخيص أول من تكلم به وفي ماهية المسألة الأولى التي وقع البحث فيها عقائدياً، وهناك أقوال وآراء، منها:

1- إنّ الله سبحانه وتعالى هو المؤسّس لهذا العلم وذلك استمداداً من قصة الحوار التي جرت بين الله تعالى وإبليس، وأن الله أراد أن يقرّر التوحيد في التقنيين، فإنّ الله إذا قنّن شيئاً وحكم به فلا بدَّ للعبد أن يلتزم به، ولا يصحّ للعبد أن يتملّص منه.

2- إنّ الأنبياء في حديث تأسيس العقيدة والهداية مع أقوامهم قد أسّسوا للأفكار العقائدية فيكونون هم من أسّس هذا العلم، وأنّ المسألة الكلامية الأولى هي مثلاً إثبات وجود الله سبحانه وتعالى أو نفي الشرك أو إثبات نبواتهم على الخلاف.

3- إنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) هو أول من أسّس علم الكلام وذلك مع كفار قريش وحواره مع هؤلاء وإثبات العقيدة الدينية وما شاكل.

4- إنّ الزهراء (عليها السلام) هي أول من أسس علم الكلام، لا أقل أنه في داخل الدين الإسلامي، وذلك في دفاعها عن الإمامة، وتكون مسألة الإمامة هي أول مسألة في علم الكلام.

5- إنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو أول من أسّس علم الكلام، وذلك من خلال توضيح وتقرير العقائد الدينية الصحيحة كما نلاحظ ذلك بوضوح في نهج البلاغة وفي حواره مع الطوائف المعاندة مثل الخوارج وغيرهم.

6- هناك من نسب نشوء علم الكلام إلى المعتزلة بعد أن أثيرت مسألة خلق القرآن الكريم، وهل أنّ كلام الله سبحانه وتعالى قديم أو حادث؟ وهذا هو تقريباً الرأي المشهور بين المدارس الكلامية، حتى قيل: إنّ هذه المسألة - كلام الله قديم أو حادث - أول مسألة طرحت في علم الكلام، بل ذهب بعضهم إلى أن تسمية علم الكلام بهذا الاسم نسبة إلى أنّ كلام الله قديم أو حادث.

وهناك احتمالات أخرى في أنه لماذا سمّي علم الكلام بهذا الاسم، وعلى كل تقدير، فإنّه يُعلم مما تقدّم اختلاف العلماء وأقوالهم في تحديد أول مسألة ظهرت في علم الكلام، فإذا كان المؤسس الأول مثلاً لعلم الكلام هو الله سبحانه وتعالى فيكون هذا العلم إلهياً، فتكون أول مسألة قد بحثت إنّما ظهرت في حوار الله مع إبليس، وإن كان المؤسس الأنبياء فتكون أول مسألة مثلاً كذا، وإذا كان المؤسس هي الزهراء (عليها السلام) فتكون أول مسألة كذا وهكذا.

مسائل علم الكلام

إنّ علم الكلام القديم كان يبحث عن مسائل وفق بعض المناهج يمكن استعراضها إجمالاً كما يلي:

المحطة الأولى: مسألة ضرورة البحث والنظر، وهذه أهم المحطات الأساسية التي يبحثها علم الكلام القديم، وأنه يجب على الإنسان أن يبحث وينظر لكي يتوصّل إلى عقيدة صحيحة، فمثلاً أنه إذا كان هناك شخص لم يلتزم بأي دين، ولم يعتقد بإله أو شخص متمسّك بدين الآباء والأجداد، فهنا في علم الكلام يقال له: يجب عليك أن تبحث وتنظر لتتعرّف على الدين الصحيح، ولا يصحّ لك أن تلتزم بعقيدة الآباء والأجداد، ومسألة ضرورة البحث والنظر إنّما يفرضها العقل العملي وذلك من خلال ما يسمّى بدفع الضرر المحتمل لأنّك إنْ لم تبحث ولم تنظر أنه أي العقائد هو الحق؟ فسوف تحتمل أن الذي أنت عليه ربما هو الباطل، وبالتالي سوف تحاسب وتعاقب فينالك الضرر، وربما أنت الذي عليه هو الحق فلا يصيبك شيء. فإذن أنت تحتمل أن تقع في الضرر، والعقل العملي يقول دفع الضرر المحتمل واجب. أو أن العقل العملي يفرض عليك البحث والنظر من خلال النعمة التي تحيطك، وهذا يوجب على الانسان أن يبحث عن المنعم الذي أنعم عليه بنعمة الإيجاد والحياة، وذلك حتى يشكره لأن شكر المنعم واجب عقلاً، هذه قواعد مذكورة في علم الكلام قابلة للتحليل والتفصيل والتحقيق.

المحطة الثانية: وهي محطة وجود الله سبحانه وتعالى وصفاته، والبحث عن وجود الله وصفاته يكون عبر (العقل النظري الأورسطي) العقل النظري الفلسفي.

المحطة الثالثة: وهي محطة العدل الإلهي، ويكون المنهج الذي يحقق ماهيّة وحقيقة العدل الإلهي هو المنهج العقلي العملي الذي يدرك ما ينبغي أن يفعل، فهل أن الله سبحانه وتعالى في أفعاله يلتزم بمدركات العقل العملي أي بما ينبغي أن يفعل؟ الصدق مما ينبغي أن يُفعل، فهل أن الله سبحانه وتعالى حتى- لو كان إلهاً - يفعل ما ينبغي، يعني يؤدي ما ينبغي أن يُفعل أو لا؟ فهذه المسألة ترتبط بالعدل الإلهي، والعدل الإلهي يرتبط بالعقل العملي.

المحطة الرابعة: وهي محطه النبوات، والبحث فيها يكون حول النبوة العامة بغض النظر عن نبوة نبي الله (صلى الله عليه وآله) أو نبوة عيسى أو موسى أو غيرهم من الأنبياء (عليهم السلام) بل النبوة بشكل عام، فهل يجب على الله سبحانه وتعالى أن يُوجد النبوات ويرسل أنبياء أو لا؟

والبحث في هذا أيضاً يرتبط بمنهج العقل العملي، يعني هل ينبغي على الله سبحانه وتعالى أن يرسل الأنبياء أو لا؟ وقد يوظف أحياناً العقل النظري.

المحطة الخامسة: في نبوّة نبينا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي إثباتها، حيث تثبت وفق المنهج العقلي النظري والعملي والديني، فالمنهج العقلي النظري يتمثّل بالإعجاز القرآني، والمنهج الديني يتمثّل من خلال الإشارة لنبوّته من خلال الأنبياء السابقين.

المحطة السادسة: في الإمامة، والبحث في الإمامة أيضاً يُثبت وفق المنهج العقلي العملي والنظري، بأنه لا بدَّ أن يكون هناك إمام.

المحطة السابعة: هي محطة المعاد، والبحث في المعاد إنما يُثبت وفق المنهج العقلي العملي، لأنه ينبغي أن يكون هناك يوم يتحقق فيه العدل ويؤخذ الحق للمظلوم.

قد بحثت الكثير من المسائل داخل طيات هذه الموضوعات والمحطات وأخذت مساحة كبيرة من التفكير العقائدي الإسلامي، وكثير من هذه المسائل قد انقرض في هذا الزمان ولكن كان لها دور في زمانها من قبيل مسألة شبهة الآكل والمأكول، أو شبهة أنّ الكلام الإلهي قديم أو حادث، أو مثلاً مسألة تحريف القرآن، فالبعض يتهم السنّة فيه، والسنّة يتهم الشيعة فيه، لكن الرأي الرسمي للمذهبين فيه بأن القرآن الكريم ليس بمحرّف أو أن المعاد هو جسماني أو أنه روحاني أو أنه جسماني وروحاني، وعلى كل تقدير فهذا بشكل إجمالي طبيعة البحث في علم الكلام القديم.

والملاحظ أن الطابع العام في الاعتماد على إثبات مسائل علم الكلام القديم هو الطابع العقلي، أما النظري أو العملي، حيث يوظف المنهج العقلي من أجل إثبات العقيدة، ويكون كالمحامي عنها وهذا بغض النظر عن بعض التوجهات والمدارس الكلامية التي تعتمد خالصاً على المعطيات الدينية في إثبات المسائل الدينية. نعم هناك مدارس كلامية تعتمد في إثبات المعطيات الدينية على الدين نفسه هذا فيما يرتبط بعلم الكلام القديم.

أما علم الكلام المعاصر فهو اسم طرح في وقت تجددت فيه الشبهات واختلف نمط التفكير فيها تبعاً للمتغيرات الحضارية التي طالت الثقافة الإسلامية على وجه العموم كما أشرنا إلى ذلك في بداية هذه الحلقة. ومن أبرز العوامل المؤثرة في استحداث هذا العلم وتسميته باسم علم الكلام الحديث أو المعاصر:

 أولاً: هو النضج الفكري، وهذا أمر طبيعي داخل العلوم لا سيّما العلوم التي لم يحسم فيها النزاع في كثير من مسائلها من خلال الإشكال والجواب والمراجعة، ومعاودة التحقيق حيث تتضح الرؤى أكثر أو ربما تشوش، وهذا ما يدفع الباحث لديمومة تجديد النظر والتحقق أكثر بما يعتقده. إذن هذا النضج الفكري هو عامل كبير في استحداث ما يسمى بعلم الكلام الجديد.

ثانياً: التطوّر العلمي، فإن المسائل العقائدية ليست بمعزل عما يحصل في الاروقة العلمية لاسيما فيما يرتبط بالفيزياء الكونية، وأن القرآن تحدث بما موجود في الفيزياء. فالفيزياء الكونية مثلاً اعتقدت بالانفجار العظيم، وأن الكون كله عمره 13.7مليار سنة، وفي القرآن الكريم هناك بعض الإشارات إلى الانفجار العظيم، أو على الأقل أن الله سبحانه وتعالى في كتابه وفي الضرورة الدينية الإسلامية يقول بأن هذا الكون كله لم يكن موجوداً ومن ثم الله أوجده، وهذا الكلام من الدين ينسجم مع الفيزياء الكونية. النتيجة أنه في هذه الفيزياء أو في باقي المجالات العلمية التي يرتبط الحديث فيها بجوانب قد تطرق إليها الدين، هذا كلّه له دور في استحداث مسائل جديدة داخل المنظومة العقائدية الحديثة المسمّاة بعلم الكلام المعاصر.

 ثالثاً: التغيرات الحضارية والإنسانية، فإنّ لها تأثيراً كبيراً على روح الأيديولوجيات والأفكار الدينية كما في تأثيراتها القانونية والجزائية وقانون الزواج والإرث والحريّات الشخصية وما إلى ذلك، فهذه التغيّرات في الحقيقة أعطت روحاً جديدة في التفكير، مثلاً بعض الأحكام الجزائية التي تحكم بها الأديان قد لا يتلقّى قبولاً طبيعياً من خلال المتلقّي المتأثّر بالحضارة الحديثة.

أيضاً هناك عوامل أخرى كان لها تأثيرها البالغ على نشوء ما يسمى بعلم الكلام الحديث أو المعاصر، فمثلاً من ضمن التغييرات الحضارية والإنسانية تغيّرات على مستوى الدراسات اللغوية حيث برزت بعض النظريّات في تأريخية النصوص مما يتراءى أنّها تمثّل إشكاليّات على النصّ الديني أو مستوى فلسفة القوانين من أنه لا يوجد عندنا قانون يمكن أن يعمل في كل زمان وفي كل مكان، بل أنّ عموم القوانين لا بدَّ أن تختلف تبعاً لاختلاف المجتمعات والنفسيّات والمزاجات والآداب والأعراف والتقاليد، والتغيّرات مثلاً على مستوى الاجتماع وتغيّرات على مستوى الفلسفة وغيرها كلها لها دور في إعادة النظر، وفي استحداث موضوعات جديدة داخل المنظومة العقائدية المسمّاة بعلم الكلام المعاصر، ونتيجة هذه المؤثّرات ظهرت تغيّرات على مستوى المناهج المعتمدة أو على مستوى الموضوعات نذكر بعضاً منها على سبيل المثال:

أولاً: على مستوى المناهج: فبدلاً أن يعتمد على منهج واحد فقد يعتمد على المنهج العقلي بالإضافة إلى المنهج الفطري والاستقرائي أو المنهج الوجداني.

ثانياً: وعلى مستوى الموضوعات والمسائل: فهناك مسائل كثيرة طرحت في علم الكلام المسمى بالجديد تتمحور حول الدين، وذلك من ناحية:

• تعريف الدين ما هو الدين؟ وهو البحث الذي بحثناه في أوائل هذه محاضرات.

• وعلى مستوى مناشئ الدين: إنّ هناك نظريات متعدّدة من قبيل أنّ الدين منشؤه الأساطير، وبعض النظريات تقول الخرافات، وبعض يقول منشؤه هو الخوف. وبعض النظريات تقول بأن الدين منشؤه هو الجهل كما هو رأي (أوغست كنت). هذه نظريات طرحت في الحقيقة لبيان مناشئ الدين، وهناك نظريات أخرى تقول بأن الدين منشؤه الفطرة، فإن جزء من فطرة الإنسان النزوع نحو الغيب والاعتقاد بما وراء الطبيعة.

• على مستوى ضابط الدين، ما هو؟ يعني كيف نميز ما هو ديني وما هو ليس بديني، وهذا البحث أيضاً مهم حتى يعرف انتماء هذا الشخص لهذا الدين أو خروجه عن هذه الدائرة وبه تتحدد هوية الإنسان العقائدية من أنها هوية إسلامية أو ليست بإسلامية، مسيحية أو ليست بمسيحية وهكذا.

• على مستوى الثوابت الدينية والمتغيّرات، وهو بحث مهم أيضاً، فهناك ثوابت لا يمكن التعدي عنها، وتعتبر كأنه أشبه بدستور لا يمكن الخدش به، ولا يمكن استحداث ثغرة فيه، بل هذا من أصل الدين، فبمجرد أن تتنكر لبعض بنوده، فأنت تخرج من الدين، كالاعتقاد بوجود الله تعالى في داخل المنظوم العقدية الدينية الإسلامية أو بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله) أو ما شابه فهذه البنود الثابتة لا يمكن أن تتغير، وهناك متغيرات قابلة لأن تتبدّل وتتخلف، يعني هناك مساحة وفضاء يمكن للإنسان أن يعتقد بآراء تخالف مثلاً رأي المشهور أو يحصل هناك اختلاف بين العلماء وبين الباحثين فيها ولا يؤثر هذا على انتمائه لهذا الدين. فما هو الثابت من الدين وما هو المتغير؟

• على مستوى العلاقة بين الدين والعقل، وهذه المسألة ايضا من المسائل المهمة ولا زالت مطروحة، ما هي كذلك العلاقة بين الدين والعلم؟ وما هي العلاقة بين الدين والحضارة؟ وما هي العلاقة بين الدين والتدين؟ وما الفرق بين الدين وفهم الدين؟ فإن هناك ديناً وهناك فهماً للدين.  من هنا نتجت بعض الاتجاهات التي لا أريد الخوض في بيانها وشرحها والنظر فيها.

ثالثاً: هناك مسائل أيضاً طرحت في علم الكلام الجديد، يعني غير المناهج وغير المسائل المتمحورة حول الدين، وهي فيما يرتبط بموضوعات شتّى من قبيل:

• البحث عن المرأة من حيث المساواة، ومن حيث نظر الإسلام إلى المرأة ومساواتها بالرجل من حيث الإرث، ومن حيث حقوقها، ومن حيث حريتها، ومن بعض الجوانب التي ترتبط بالجانب الشخصي فيها كالحجاب وما شابه، هذه أبحاث طرحت في علم الكلام الجديد.

• كذلك من الأبحاث المهمة التي طرحت في علم الكلام الجديد هي الأحكام الجزائية باعتبار أن القانون الإسلامي له أحكام جزائية قد تكون شديدة، فما هو الجواب حول شبهة شدة الأحكام الجزائية في داخل المنظومة الإسلامية؟

• كذلك، من جملة المسائل هو التبليغ الديني في البلدان الأخرى خصوصاً إذا كانت البلدان الاخرى لا تقبل التبليغ، فهل أن مخالفة تلك القوانين جائز أو لا؟ هذا يسبب إشكالية ما بين الشخص الذي يهاجر إلى بلد وبين عدم احترامه لقوانين ذلك البلد.

النتيجة

إنّ هناك بعض العوامل والموضوعات والمناهج، وجملة من المسائل كلها استحدثت وأوجدت التغيرات الملحوظة في داخل ما يسمى بعلم الكلام الجديد، إلا أنها في الحقيقة لا تعني أن هناك علمين، يعني علم كلام قديم وعلم كلام جديد، نعم باعتبار أنه ما دام الهدف والغاية مشتركة وهي الدفاع عن العقيدة الدينية أو إثبات العقيدة الدينية، فكلها تنتمي إلى علم الكلام، ولكن لا بأس باستحداث تسمية لمعرفة علم الكلام الجديد من جهة توضيح ان هناك عناية ببعض الموضوعات دون موضوعات اخرى من قبيل شبهة الآكل والمأكول.

الخلاصة

أولاً: لا نرى هناك فارقاً حقيقياً علمياً بين علم الكلام الجديد والقديم، بل انهما يشتركان في غاية واحدة والاشتراك في الغاية هو المدار في وحدة العلم.

ثانياً: لا بأس بأن يسمى هذا علم كلام جديد وذاك علم كلام قديم يعني باعتبار حداثة الإشكاليات والمسائل المطروحة وقدمها.
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف