فهرس المحتويات

مقدِّمة المركز  | 7

مدخل  | 11

الفصل الاول : المدرسة الاستشراقية الألمانية

المدرسة الاستشراقيّة الألمانيّة في الدّراسات القرآنيّة والنّقد الداخلي للاستشراق من خلال النظريّات الغربيّة في جمع القرآن الكريم

د. الشيخ محمد حسن زماني ـ د. الشيخ حيدر الساعدي  |  37

قراءةٌ نقديَّةٌ تاريخيَّةٌ حول دراسة الاستشراق الألمانيِّ

د. فاطمة عبُّود  | 61

الاستشراق الألماني ودوره في الدّراسات الشرقيّة، تاريخ الاستشراق الألماني وملامح من أسسه المنهجيّة

م.م. محمد سعدون المطوري  | 81

الفصل الثاني : نقد أطروحة نولدكه في الوحي 

قراءةٌ نقديَّةٌ في مفهوم الوحي النَّبويِّ بوصفه مرضًا نفسيًّا عند تيودور نولدكه

حمدان العكله  | 147

الوحي عند المستشرق تيودور نولدكه قراءةٌ نقديّةٌ لآرائه في كتابه «تاريخ القرآن»

محمود علي سرائب | 167

نَقدٌ لِوُجهَةِ نَظَرِ تيودور نُولدکه حَولَ «ما لا يَتَضَمّنَه القُرآنُ مِمّا أوحي إلی مُحَمّد» (نصوص الوحي التي لم تذكر في القرآن وتحدثت عنها الروايات)

د. أصغر طهماسبي بلداجي  | 197

الفصل الثالث : نقد آراء نولدكه في مصادر تعليم النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)

مصادر تعليم محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)  بحسب تعبير نولدكه

أ.د عمار محمد النهار  | 221

محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) نبيًّا؛ مصادر تعليمه

نسرين شاكر الحكيم  | 407

سلسلة القرآن في الدراسات الغربية 13 بحوث وقراءات نقدية في كتاب تاريخ القرآن تيودور نولدكه الجزء الاول مجموعة باحثين العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

العتبة العباسية المقدسة 

المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية 

سلسلة القرآن في الدراسات الغربية 13 

بحوث وقراءات نقدية في كتاب

تاريخ القرآن 

تيودور نولدكه 

 

الجزء الاول 

 

بحوث وقراءات نقدية في كتاب تاريخ القرآن تيودور نولدكه . الجزء الاول / مجموعة باحثين :- الطبعة الاولى . - النجف ، العراق . - العتبة العباسية المقدسة ، المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية ، 1443 هـ . = 2022 .

مجلد ، 24 سم . - (سلسلة القرآن في الدراسات الغربية : 13)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية .

ردمك : 9789922680019

1. نولدكه ، ثيودور ، 1930-1836 --تاريخ القرآن . 2. الاستشراق والمستشرقون . 3. القرآن -- تاريخ . أ. العنوان .

 LCC:BP130.N63 B84 2022 VOL. 01

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة 

فهرسة اثناء النشر 

سلسلة القرآن في الدراسات القرآنية 

بحوث وقراءات نقدية في كتاب

تاريخ القرآن 

تيودور نولدكه 

الجزء الاول 

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)

صدق الله العلي العظيم 

سورة التوبة ، الآية 32

 

 

 

فهرس الكتاب 

مقدِّمة المركز7

مدخل11

الفصل الاول : المدرسة الاستشراقية الالمانية 

المدرسة الاستشراقيّة الألمانيّة في الدّراسات القرآنيّة والنّقد الداخلي للاستشراق من خلال النظريّات الغربيّة في جمع القرآن الكريم

د. الشيخ محمد حسن زماني ـ د. الشيخ حيدر الساعدي37

قراءةٌ نقديَّةٌ تاريخيَّةٌ حول دراسة الاستشراق الألمانيِّ

د. فاطمة عبُّود61

الاستشراق الألماني ودوره في الدّراسات الشرقيّة، تاريخ الاستشراق الألماني وملامح من أسسه المنهجيّة

م.م. محمد سعدون المطوري81

(5)

فهرس الكتاب 

الفصل الثاني : نقد أطروحة نولدكه في الوحي

قراءةٌ نقديَّةٌ في مفهوم الوحي النَّبويِّ بوصفه مرضًا نفسيًّا عند تيودور نولدكه

حمدان العكله147

الوحي عند المستشرق تيودور نولدكه قراءةٌ نقديّةٌ لآرائه في كتابه «تاريخ القرآن»

محمود علي سرائب167

نَقدٌ لِوُجهَةِ نَظَرِ تيودور نُولدکه حَولَ «ما لا يَتَضَمّنَه القُرآنُ مِمّا أوحي إلی مُحَمّد» (نصوص الوحي التي لم تذكر في القرآن وتحدثت عنها الروايات)

د. أصغر طهماسبي بلداجي197

الفصل الثالث : نقد آراء نولدكه في مصادر تعليم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله

مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله  بحسب تعبير نولدكه

أ.د عمار محمد النهار 221

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيًّا؛ مصادر تعليمه

نسرين شاكر الحكيم 407

(6)

مقدمة المركز

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى آل بيته الطاهرين عليهم‌السلام ...

يتّضح للمتتبّع في تاريخ ونتاجات الاستشراق الألمانيّ واهتماماته في التّراث العربيّ والإسلاميّ بشكلٍ عامٍ، وما يرتبط بالقرآن الكريم بشكلٍ خاص، أنّ أعمال المستشرقين الألمان في المجال القرآنيّ لم تقتصر على الأعمال والدّراسات الفرديّة، بل تعدّتها إلى المشاريع البحثيّة الجماعيّة، وتأسيس مؤسّساتٍ رسميّةٍ وعامّة متخصّصة بدراسة القرآن الكريم؛ نصّاً، تاريخاً، وجمعاً، وتفسيراً، وعلوماً...

وقد اختلفت نظرة علماء المسلمين ومفكّريهم بين مادحٍ للخدمات العلميّة التي قدّمها المستشرقون الألمان للتراث العربي والإسلامي، فوَصفوها بالعلميّة والموضوعيّة، وأنّهم لم ينطلقوا في أعمالهم -كبقيّة المدارس الاستشراقيّة- من أهداف ذات صلةٍ بالاستعمار والتّبشير والهيمنة العلميّة والمعرفيّة والحضاريّة، وبين ناظرٍ نظرة تفحّصيّة تجزيئيّة إلى أعمال المستشرقين الألمان كأفراد ومؤسسات، حيث ميّز هؤلاء بينهم من خلال نتاجاتهم وآرائهم المنصفة للإسلام والقرآن أو غير العلميّة والموضوعيّة التي انغرقت في الشبهات والإشكاليات.

وليس المورد هنا للنقاش في ترجيح أحد هذين الرأيين تأييداً أو رفضاً. لكن لنا أن ننظر إلى المباني والمناهج التي انتهجوها، والنتائج التي توصّل إليها المستشرقون الألمان -ولم ترفضها المدرسة الألمانيّة، بل تحوّلت إلى مرجعيّةٍ عند المستشرقين الألمان وغيرهم- ونبني رأينا وفقها، وذلك من

(7)

خلال أبرز آراء المستشرقين الألمان حول القرآن الكريم، والتي يتّضح فيها عدم الموضوعيّة والإنصاف، وخلوّها من الشّفافيّة البحثيّة والعلميّة، ومن هذه المباني والنتائج التي تبنّاها المستشرقون الألمان:

-    بشريّة القرآن وأنّه من صنع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

-    تأثير الديانتين اليهوديّة والنصرانيّة على القرآن والإسلام.

-    التّشكيك في فصاحة القرآن ولغته التي نزل بها.

-    أنّ الحروف المقطّعة في أوائل السّور هي اختصار لأسماء القرّاء من الصّحابة الذين جمعوا القرآن وحفظوه.

-    وجود كلماتٍ أجنبيّة في القرآن.

-    القرآن نزل بلغةٍ شعبيّةٍ (غير فصيحة) أو بلغة أهل جنوب الجزيرة.

-    وجود الشعر والسجع في القرآن.

-    تأثّر أسلوب القرآن بأساليب الكهانة والكهان في جزيرة العرب.

-    تقسيم السور حسب مراحل النّزول إلى أقسام متعدّدة.

-    تناول بعض القضايا العلميّة الكبرى بشيءٍ من السّطحيّة والاعتماد على مصادر محدودة. من قبل بعض المستشرقين الألمان، وفي هذا قال الدكتور شتيفات فيلد: "وحيثما كان من الأفضل محاولة الوصول إلى فهم أكثر عمقًا كانوا كثيرًا ما ينتقدون على نحوٍ سطحي". وقال نولدكه (Noldekae) عن المستشرق الألماني فايل: "... إنّه لم يعرف المصادر العربيّة إلّا في إطار محدود جدًّا".

ويكفينا في هذا المجال ما كتبه المستشرق الألماني نولدكه (Noldekae) في رسالته للدكتوراه بعنوان: (أصل وتركيب سور القرآن)؛ ثمّ أعاد كتابتها بعنوان (تاريخ القرآن) أو (تاريخ النص القرآني). ومَنْ طالع هذا الكتاب لاحظ اضطراب مؤلّفه وتناقضه في أحكامه على القرآن الكريم. وممّا أثاره في هذا الكتاب:

-  أنّه يفتح الباب أمام القول بتحريف القرآن ونقصانه كما في فصل (الوحي

(8)

الذي نزل على محمّد ولم يحفظ في القرآن). ومما نُقل عنه: (إنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك فقرات من القرآن قد ضاعت). أو يقول: (القرآن غير كامل الأجزاء).

-    أنه يصف أسلوب القرآن الكريم باعتباره أسلوبًا قصصيًّا ينقصه التسلسل في طريقة الأخبار والسير ويرى في قصصه انقطاعًا، وانتقد في القرآن الكريم تكرير بعض الألفاظ أو العبارات تكريرًا لا مسوغ له. وقد صرّح بأكثر من هذا في مقاله: (عيوب الأسلوب القرآني). وأنّه استعار من الكهان ومن غيرهم استعمال الجمل القصيرة المسجوعة في الخطاب.

-    لا يقيِّم نولدکه وأتباعه من العلماء القرآن ککتاب منزَل، بل کنصٍّ، وضعه النبيّ محمّد نتيجة إلهام، متفاعلًا مع الأحداث والتطوّرات الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي واجهها خلال سنين.

-    يتبنّى نولدكه التّقسيم المعهود للقرآن إلى مكّيّ ومدنيّ، لكنّه يوزّع السور المكّيّة على فترات ثلاث، معتمدًا على صفاتٍ أسلوبيّةٍ ومضمونيّةٍ، تجمع بين سور المجموعة الواحدة.

-    رأيه المضطرب في الحروف المقطّعة وأسرارها؛ إذ رأى أنّها رموزٌ وإشاراتٌ حرفيّةٌ إلى أصحاب نسخ القرآن، ثمّ رجع عن قوله وقبِل أنّ لها معانٍ خاصّة هي أبعد من أن تكون معانٍ صوفيّة أو باطنيّة، وأنّها تعدّ جزءًا من الوحي.

-    كان يزعم أنّ سبب الوحي النّازل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والدعوة التي قام بها ما كان ينتابه من داء الصرع.

-    أنّ القصص القرآنيّ حافلٌ بالمؤثّرات اليهوديّة والمسيحيّة التي انتقلت إلى العرب عن طريق اليهود المقيمين في المدن الكبرى وكذلك عن طريق العرب المتنصرين.

-    وممّا يجدر أن يسجّل هنا أنّ نولدكه كان متردّدًا في نشر الكتاب وترجمته لعدم قناعته بكلّ ما فيه؛ ففي خطابه إلى النّاشر بعد تصحيح الكتاب: "وكثير من المسائل التي كنت أعتقد قليلًا أو كثيرًا بصحّتها تبيّنت لي فيما بعد أنّها غير مؤكّدة".

بناءً على ما تقدّم، وضمن مشروعه العلميّ الكبير في مواجهة ونقد ما أثاره

(9)

الفكر الغربيّ حول القرآن الكريم من إشكالياتٍ ومغالطاتٍ وشبهاتٍ، يقدّم المركز الإسلاميّ للدّراسات الاستراتيجيّة هذا الكتاب، وهو مشروع كتاب جماعيّ في: نقد أفكار وأطروحة المستشرق الألماني تيودور نولدكه في كتابه (تاريخ القرآن).

لقد اعتمدنا في اختيار عناوين الموضوعات البحثيّة في هذا المشروع، على ضوء منهجيّة نولدكه نفسه في كتاب (تاريخ القرآن)؛ وذلك بهدف إنجاز دراساتٍ بحثيّةٍ نقديّةٍ تغطّي الموضوعات والأفكار المفصليّة التي جاءت في هذا الكتاب.

هذا بالإضافة إلى أن كتاب "تاريخ القرآن" لنولدكه من أوسع ما صدر من كتب حول القرآن في القرن العشرين باللّغة الألمانيّة، وقد تعامل نولدکه وطلاّبه مع القرآن کنصٍّ وضعه النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نتيجة إلهام، متفاعلًا مع الأحداث والتطوّرات الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي واجهها خلال سنين. حيث يتبنّى نولدكه في الجزء الأوّل التّقسيم المعهود للقرآن إلى مكّيّ ومدنيّ، لكنّه يوزّع السور المكّيّة على فترات ثلاث، بعد أن قدّم  فهمه وتفسيره للوحي ولمصدر علم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعالج في الجزء الثاني من الكتاب مسألة جمع القرآن الكريم، معتمِدًا على الروايات المتوارثة، مقارنًا بعضها بالبعض الآخر، ومستخلصًا منها النتائج...، بينما يعالج في الجزء الأخير تاريخ نصّ القرآن، مناقشًا أهم خصائص الرسم في مصحف عثمان، ومقارنًا إيّاه بصيغ وقراءات غير عثمانيّة.

يتضمّن الجزء (الأول) من كتاب بحوث وقراءات نقديّة في كتاب (تاريخ القرآن) لتيودور نولدكه ثلاثة فصول؛ تناول الفصل الأوّل إطلالةً على الاستشراق الألمانيّ ودور المدرسة الاستشراقيّة الألمانيّة في الدّراسات القرآنيّة، مع تعريف بكتاب تاريخ القرآن. وتناول الفصل الثاني قراءةً نقديّةً لأطروحة نولدكه حول الوحي، بينما تعرّضنا في الفصل الثالث لمصادر تعليم النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب استعمال نولدكه في كتابه.

علماً بأنّ مناقشة بقيّة الموارد ونقدها ستكون في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

ختاماً لا بد من تقديم الشكر والثناء والتقدير لكل من ساهم في إنجاز هذا العمل، سائلين الله تعالى أن يجعله ذخراً لآخرتنا ويوفق الباحثين الأعزاء للاستفادة منه.

والحمد لله رب العالمين
المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة
(10)

تاريخ القرآن

للمستشرق الألماني تيودور نولدكه[1]

-تعريف وتوصيف-
د. جميل قاسم[2]

ما معنى أن يُعاد نشر وترجمة كتاب (تاريخ القرآن) للمستشرق الألماني تيودور نولدكه (1836- 1930) الذي أصدره المؤلف عام 1860 (بحثًا) عالج فيه -مستعملًا منهج النّقد التّاريخي- مسألة نشوء نصّ القرآن الكريم وجمعه وروايته؟ وناقش -في هذا الإطار- مسألة التّسلسل التّاريخي للسّور، واقترح ترتيبًا لها يختلف عن ترتيبها بحسب زمن نزولها، كما هو معهود في الإسلام. هذا على الرغم من (القطيعات) التي مرّ فيها هذا السّفر الضّخم، إذ كان بحث نولدكه موضوعًا لأجيال من الباحثين، منهم تلميذه فريدرِش شفالي (F. Schwally) الذي قام بإعادة صياغة الجزء الأوّل من الكتاب عام 1909، وذلك بطلب من نولدكه الذي منعه تقدّم السّن من القيام بهذه المهمّة، فاكتفى الطّالب بكتابة مقدّمة لهذا الجزء، لكن وفاة شفالي عام 1919 حالت دون أن يعاين صدور الجزء الثاني الذي يتناول جَمْعَ القرآن، وكان قد أعدّه للطبع، فأضاف أوغست فيشر بعض التّصحيحات

 

 

(11)

عليه وأصدره بعد وفاته. وأضاف غوتشتر سر (G. Bergsraber) الجزء الثالث وهو بعنوان (تاريخ نص القرآن)، لكن المنيّة وافته فأكمله تلميذه أوتر بريتسل
(O. Pretzl) في مطلع العام 1937.

ثلاثة أجيال من علماء الدّراسات القرآنيّة الألمان تعاقبوا خلال سبعة عقود لإنجاز هذا العمل، الذي لم يُترجم إلى العربية إلّا في عصر العولمة الثّقافيّة -وما أدراك ما العولمة؟- بواسطة (دار الجمل) وبالتعاون مع مؤسّسة كونراد-أدناور في العام 2008!

فماذا ستكون المقدّمة والنّتيجة من هكذا إعادة قراءة وكتابة لتاريخ القرآن والإسلام؟ يستعرض المترجم د. جورج تامر في مقدّمته للكتاب لمحةً تاريخيّةً موجزةً عن أهمّ معالم ما سبقه من اهتمام (علمي) بالقرآن الكريم في أوروبا، ابتداءً من النّصف الأوّل من القرن الثاني عشر، إذ قام الإنكليزي روبرت الكتوني
(R. Ketensis) سنة (1142-1143) بطلب من بطرس المبجّل (P. Venerabilis) رئيس دير كلوني بأوّل ترجمة لاتينيّة كاملة للقرآن الكريم، رغم نواقصها وعدم دقّتها في كثير من المواضع.

بعد ذلك توالت حتى القرن الثّامن عشر ترجماتٌ عديدةٌ للقرآن الكريم إلى اللغات الإنكليزيّة والإيطاليّة والألمانيّة والهولنديّة والفرنسيّة وغيرها من اللغات الأوروبيّة.

وكان لأغلب هذه الدّراسات -بحسب المترجم- طابعٌ اعتذاريٌّ وهجوميٌّ على السّواء - مثلٌ على ذلك كتاب ألّفه الرّاهب الدومنيكاني ريكولدو دامونت كروتشه (R. da monte croce) الذي قضى في أواخر القرن الثالث عشر شطرًا من حياته مبشّرًا، وقد قارن القرآن بالكتاب المقدّس معتبرًا اختلافات القرآن عن الإنجيل عيوبًا، ومشيرًا إلى تناقضاته وعدم تسلسله من الوجهة التاريخيّة، وقد نقله مارتين لوثر عن اللاتينيّة إلى اللغة الألمانيّة، كان هذا في زمن هدّدت فيه الجيوش العثمانيّة وسط أوروبا ووصلت إلى مشارف فيينا. وكان الإسلام حينها مطبوعًا في الغرب

(12)

بالطابع العثماني-التركي حتى إنّ القرآن الكريم نفسه دُعي بالكتاب المقدّس التركي (Die turkische Bibel) وهو العنوان الذي تحمله الترجمة الألمانيّة التي قام بها دافيد فريدرش مغرلين (D. F. Megerlin) (هل كان يهوديًّا؟).

وابتداءً من القرن السادس عشر عرفت أوروبا الدّراسات الاستشراقيّة بمعناها الواسع مع بدايات الاستشراق، وإذا كانت البدايات تقوم على الاستطلاع والتّعرّف والمغامرة، فإنّه، لاحقًا، مع بدء الاستعمار، اقترن الاهتمام بالاستشراق بأهميّته السياسيّة، بالنسبة إلى بسط الدول المستعمرة سيطرتها على الشرق واستغلال ثرواته، ولم يعد الاستشراق -الذي كان له بعض، بل الكثير من الإنجازات العلميّة كتحقيقات بكر (Becker) لمخطوطات ابن رشد، وبروكلمان وموسوعته (تاريخ الأدب العربي) إلخ...- حُرًا من الدّوافع السياسيّة والاقتصاديّة المتحكّمة فيه.

وقد تأثّرت الدّراسات الاستشراقيّة والإسلاميّة في أوروبا -في عصر صعود النظريّة التطوريّة الداروينيّة والوضعيّة الكونتيّة- بسيادة المنهج الفيلولوجي (الدّراسات الفقه - لغويّة المقارنة) والمنهج التاريخوي ـ النّقدي. وهذه المنهجيّة استعملت في دراسات الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، بروح علميّة بحتة، لا تتقيّد بقدسيّة النّصّ -أيّ نص- وبالرّوح نفسه انكبّ بعض علماء اللغات السّامية على دراسة القرآن، محاولين استكشاف الوقائع التاريخيّة المرتبطة به وكيفيّة حدوثها وعلاقتها بنشوئه ومصيره، وبناءً على هذه النّزعة العلمويّة لم يقيّم نولدكه وتلامذته من العلماء القرآن على أنّه كتابٌ منزلٌ، بل نصٌّ (وضعه) النّبي في أفضل الأحوال -إلهامًا- يستند في إدراك ماهيّته ومغزاه إلى الطب وعلم النفس في ذلك الحين..

أوّلًا: آراء نولدكه في كتابه تاريخ القرآن

يتبنّى نولدكه في الجزء الأوّل من الكتاب التّقسيم المعهود للقرآن إلى مكيّ ومدنيّ، لكنّه يوزّع السّور المكّيّة على فتراتٍ ثلاث، معتمدًا صفات أسلوبيّة ومضمونيّة، فيصف سور الفترة المكيّة الأولى بأنّها تتميّز بقصرها، وبلغتها الشّعريّة التّسبيحيّة، وورود الكثير من الأقسام (جمع قَسَم) فيها التي تهدف إلى تثبيت مضمون الرسالة

(13)

وإقناع المشركين بها. أمّا سور الفترة المكيّة الثّانية فيغلب عليها طابع الوعد والإنذار والقصص. أمّا سور الفترة الثالثة فلا تختلف من حيث الأسلوب، لكنّها تتميز بشدّة لهجة الوعيد والتّهديد الموجّه للكافرين.

أمّا بعد الهجرة -في المدينة- فتتّصف السّور بإعلانها الشّرائع والتنظيمات الضّروريّة لوضع أسس المجتمع الجديد (الشريعة).

وإذا كان المنهج التاريخيّ الضّروريّ لمعرفة أسباب وظروف النّصّ الدّينيّ الزّمانيّة ـ المكانيّة مسألةً لا مندوحة عنها، فإنّ المنهج الفيلولوجي-التاريخوي حصر الظواهر كلّها -بما فيها الظاهرة الدينيّة الميتافيزيقيّة الطابع- بما هو حصري وملموس ومباشر ووضعي دون تمييز ما بين ظاهرة اجتماعيّة، اقتصاديّة، سياسيّة، وأخرى ميتافيزيقيّة وجماليّة وميثولوجيّة رمزيّة.

وقد وجدنا مثالات لهذا المنهج الوضعي في كتابات هيغل (حياة يسوع)، وأرنست رينان (تاريخ المسيحيّة)، وجوزيف شتراوس (جوهر المسيحيّة)، وقد تعاطت هذه الكتابات مع المسيحيّة كظاهرةٍ (تاريخيّة) مجرّدة من البُعد القدسيّ والرّمزي، وتناولت شخصيّة (يسوع المسيح) كأيّ شخصيّة تاريخيّة (عادية) تخضع لمعطيات العلوم الوضعيّة والإنسانيّة.

وقد تناول نولدكه، بدوره، شخصيّة الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، بناءً على معطيات هذا المنهج الفيلولوجي ـ التاريخي النّقدي، فركّز على الأبعاد التّاريخيّة (اللغويّة-المقارنة) والاجتماعيّة، والسياسيّة، في مقارنة ما بين الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة. وتناول ظاهرة النّبوّة، رواية تاريخيّة قد لا تتّفق مع معطيات النبوّة والرسالة والإيمان، من خلال إقامة صلة سببيّة بين الحدث والنّص، بغية الوصول إلى الحقيقة المجرّدة والمتجرّدة..

في مقدّمته للطبعة الثانية لكتابه، يتحدّث نولدكه عن ناشر كتابه الذي سأله إذا شاء أن يسمّي من العلماء من يُعيد النّظر في الكتاب الذي أنجزه قبل نصف قرن، فاقترح بعد تفكير يسير تلميذه القديم وصديقه فريدريك شفالي «بجعل الكتاب

(14)

الذي أنجزته بسرعة مراعيًا المستلزمات الحاضرة (بقدر الإمكان) لأن آثار الوقاحة الصبيانيّة -كما نقول- لن يمكن محوها بالكلية». (المقدمة) ..

وقد قام الباحث شفالي في مقدّمته الثانية بتعديلاتٍ جذريّة أو بإضافة مقاطع كبيرة.

ولعلّ هذا ما فعله بكل تأكيد غ. برغشتر ومن بعده أ. بريتسل من الجزء الثالث من الكتاب. فماذا كانت النتيجة؟

في الفصل الأوّل، وهو بعنوان (في نبوءة محمّد والوحي) يقارب نولدكه معنى النّبوّة وصفاتها، فيرى أنّ النّبوّة في أسمى معانيها فنٌّ إلهيُّ، لكنّه يرى أنّ النّبوّة لم تتطوّر إلّا في (الشّعب الإسرائيلي). كيف؟ يقول نولدكه إنّ جوهر النّبيّ يقوم على تشبّع روحه من فكرة دينيّة ما، تسيطر عليه فيتراءى له أنّه مدفوعٌ بقوّةٍ إلهيّةٍ ليبلّغ من حوله من الناس تلك الفكرة على أنّها حقيقةٌ آتية من الله. وحالما يبدأ الأنبياء بتنظيم أنفسهم تتحوّل النّبوّة إلى (مهنة). وما يميّز معنى النّبي بحسب نولدكه ما يرد في سفر عاموس 14:7 «لست أنا نبيًا ولا أنا ابن نبي بل أنا راعٍ وجاني جميّز. فأخذني الرب من وراء الضأن وقال لي الرب: اذهب تنبأ لشعب إسرائيل» (ص3 الهامش2).

هل نظر نولدكه إلى شخصيّة النبي محمّد بالطريقة ذاتها؟ يعالج نولدكه ظاهرة النبوّة باعتبارها (ظاهرة وضعية)؛ لفهمها فهمًا (صحيحًا)، بحسب رأيه.

يتعرّف نولدكه -بهذا المعنى- بنبوّة محمد، أي بمقياس ما يأتي به النّبيّ بأفكار، وإن كانت مستمدّة من نبوّات ورسالات أُخر، ويرى أنّ المصدر الصّحيح لمعرفة روح محمّد هو (القرآن)، هل القرآن كتاب وحي (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْـهَوَى  إنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوْحَى) أم هو كتاب فكريّ تأمّليّ؟ يرى نولدكه -جوابًا- أنّ محمّدًا حمل طويلًا في وحدته ما تسلّمه من الغرباء، وجعله يتفاعل وتفكيره، ثم أعاد صياغته بحسب فكره، حتى أجبره أخيرًا الصّوت الدّاخلي الحازم على أن يبرّر لبني قومه رغم الخطر والسّخرية اللذين تعرض لهما، ليدعوهم إلى الإيمان، الأمر الذي يجلعنا نتعرّف في هذا على حماس الأنبياء (ص4).

(15)

يرى نولدكه، باختصار، أنّ المصدر الرئيس للوحي الذي (نُزّل) على النبي حرفيًا، بحسب إيمان المسلمين وبحسب اعتقاد القرون الوسطى هو بدون شكّ ما تحمله الكتابات اليهوديّة. وتعاليم محمّد برأيه ـ في جلّها «تنطوي في أقدم السّور على ما يُشير بلا لبس إلى مصدرها. لهذا لا لزوم للتحليل -حسب الكاتب- لنكتشف أنّ أكثر قصص الأنبياء في القرآن، لا بل الكثير من التّعاليم والفروض، هي ذات أصل يهودي» (ص7).

لقد تواجد اليهود ـ بحسب نولدكه ـ في أماكن عدّة من شبه الجزيرة العربيّة، وكانوا يقيمون في مناطق يثرب التي كانت على صلةٍ وثيقةٍ بموطن (محمّد)، وكانوا يتردّدون أيضًا في مكّة. وكان ثمّة تأثير يهوديّ على النّبيّ كذلك كانت المسيحيّة على انتشار واسع في شبه الجزيرة العربية بين القبائل المتواجدة على الحدود الفارسيّة-البيزنطيّة «(كلب) وطيء وتنوخ وتغلب وبكر» وفي الداخل في تميم، وفي اليمن التي كانت منذ زمن طويل تحت سيطرة الحبشة المسيحيّة. وينبغي لنا، إذًا، أن نأخذ بعين الاعتبار التأثير المسيحي على النبي إلى جانب التأثير اليهودي.

ويرى نولدكه أنّ أهمّ مصدر استقى منه محمّد معارفه لم يكن الكتاب المقدّس، بل الكتابات العقائديّة والليتورجيّة، وفي قصص (العهد القديم) (الهاجادا). أمّا القصص المستقاة من (العهد الجديد)، في الإسلام، فهي أسطوريّة الطّابع، وتشبه في بعض معالمها ما يُسرد في الأناجيل المنحولة.

أمّا سورة الصف 61: 6 التي يعِدُ فيها عيسى بأنّ الله سيرسل من بعده رسولًا اسمه أحمد فلا أثر لها في (العهد الجديد) المقصود هو الآية: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) وهي الآية التي تتطابق مع ما جاء في إنجيل برنابا بهذا الصدد على لسان المسيح (سيأتي من بعدي رسول اسمه أحمد).

وما يؤكّد تأثّر الإسلام بالصّيغة المسيحيّة -بنظر نولدكه- أنّ الكفّار أطلقوا على

(16)

أتباع النبي محمّد لقب (الصابئة) مما يعني أنّهم اعتبروهم على علاقةٍ وثيقةٍ ببعض الفرق المسيحيّة (مثل المندائيين والكسائيين والمعمدانيين).

كذلك أنّ المسلمين يعتبرون أنفسهم خلفاء الأحناف، وهؤلاء كانوا أناسًا رفضوا الوثنيّة وفتّشوا عمّا يرضيهم في التّعاليم المسيحيّة واليهوديّة.

إنّ الكلمتين دين (فارسية) وملة (آرامية) هما من أصلٍ أجنبيٍّ فيما تتّصف كلمة (إسلام) (سورة آل عمران 3: 19) بأنّها عربيّة أصيلة، وقد وضعها محمّد لدينه - كما يقول المؤلّف، الذي قدّر له أن يهزّ العالم كلّه، وقد انصهر في وجدان محمّد من مواد مختلفة. وما أضافه هو إلى ذلك يقلّ أهميّة -بحسب نولدكه- عمّا أخذه عن الآخرين (ص19). وأعلن النبي محمّد أنّه يتلقّى الوحي من (الرّوح)، (روح القدس) (عبري) بأشكالٍ عدّة مختلفة. وسمي روح القدس جبريل (جبرائيل)، ويعد كلّ أمر إلهيّ وجّه إليه وحيًا حتى لو لم تعد كلماته قرآنًا، غير أنّ مقارنة نولدكه بين هذا وما ذكره السيوطي في كتاب (الإتقان) بأنّ ما تلقّاه مسيلمة وطليحة يدّعى أيضًا وحيًا، ينم عن استعراضٍ حقيقيٍّ، ليس غايته العلم، لا الدّيني ولا التّاريخيّ -باسم النّقد التّاريخي- لا سيّما مع النّتيجة التي يتوصّل إليها بأنّ محمّدًا كان يعاني نوعًا من الصّرع، وأنّ هذا الوضع الجسدي والنّفسي المضطرب هو الذي يفسّر الأحلام والرّؤى التي رفعته إلى مصاف الرؤيا والنبوءة. و(دليل) نولدكه على ذلك أنّ محمّدًا كثيرًا ما قضى اللّيل متهجّدًا، وأنّه كثيرًا ما صام، حيث تشتدّ في الصيام -برأيه- القدرة على مشاهدة الرّؤى، ويربط ما بين هذا التّفسير وقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (ويفصم عني وقد وعيت ما قال) أو (فأعي ما قال). وهذه الحالة السيكولوجيّة تتطابق مع ما جاء في سورة المزمل 73: 1: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إلّا قَلِيلا نِصْفَهُ أو انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أو زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا) . وتليها سورة المدثر: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ  وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ).

ولعلّ أشهر ما يذكر في هذا الصّدد الإسراء والمعراج الذي كان مجرّد حلم، برأي نولدكه، وههنا لا يكلّف نولدكه نفسه عبء (تفسير الأحلام) هل الحلم ههنا

(17)

سيكولوجي عادي، أم حلم ميتافيزيقيّ أكسترا ـ عادي (extra ordinaire)؟

أبعد من هذا يستشهد بقول فايل (weil) وهو كاتب ينسب كلّ الهرطقات - بما فيها المذكورة أعلاه - إلى النّبي محمّد الذي يظنّ بأنّ محمّدًا تلقّى الوحي من إنسان كان يسخر منه، لكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد شبّه جبريل بشخص دحية، وكان جميل الطّلعة، وهي شكلٌ من أشكال التجلّيات العديدة التي يظهر فيها الملك؟

1. الوحي في مثل صليل الجرس.

2. بواسطة ما ينفثه روح القدس في روعه.

3. جبريل في صورته الحقيقية.

4. جبريل في صورة الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه، إلخ.

ويحاول نولدكه أن يفسّر قصار السّور باعتقاد (البعض) أنّ محمّدًا تلقّى كلّ آيات القرآن أثناء نوبات الصرّع التي كانت تعتريه، والتي لم تدم طويلًا (ص28).

ويفسّر الكاتب وحدة التّنزيل (السورة) بالأصل العبري (سدرا)، أو مقطع القراءة (؟) كما يربط كلمة قرآن بالكلمة اليهوديّة (مقرا) ويلتبس الأمر على نولدكه من الوجهة الفيلولوجيّة الفقهيّة حول أصل معنى القرآن الذي لا يجده مطابقًا لمعنى القراءة، وإنما الاقتران والتلاوة (قرأ) بمعنى تلا أو بمعنى (نادى)، أو أدّى التّحيّة (قرأ فلانًا السلام)، ولما لم يجد في العبريّة ما يُشفي الغليل وجد في كلمة (قريانا) السّريانيّة الاحتمال الجذري، وذلك بأن تكون كلمة سريانيّة وضعت على وزن (فعلان) بالعربيّة. كلّ هذا كي يثبت بأنّ محمدًا لم يأتِ بجديد. ولماذا لا تكون كلمة قرآن مشتقّة من كلمة فرقان: ههنا أيضًا يجد المستشرق نولدكه أن ذلك غير ممكن؛ لأن كلمة فرقان اسمٌ مجرّدٌ، تفيد معنى الوحي الذي تلقّاه أنبياء آخرون..

ماذا عن أسلوب القرآن؟ يختلف أسلوب القرآن -بحسب نولدكه- تبعًا لأوقات التّأليف المختلفة؛ إذ تشي المقاطع الأولى باضطرابٍ شديدٍ أو بجلال هادئ، وفي أقسام أُخر نجد اللّغة عاديّةً، فضفاضةً، أقرب ما تكون إلى النثر. وتتميّز أسلوبيّة

(18)

القرآن بتكلّم الله مباشرةً، ويرى أنّ القرآن خطابيٌّ -سجعي- أكثر منه شعريّ، يعتمد التّنميق الخطابيّ. ويورد بيتًا من الشّعر منظومًا على بحر الرجز:

أنا النبي لا كــذب          أنا ابن عبد المطلب

وذلك لتأكيد أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتلفّظ إلّا نادرًا بأبيات نظّمها آخرون، ولم يقرض الشعر، إلّا لمامًا. وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله محمّد يستعمل كلّ حريّة أسلوبيّة يسمح له بها السجع، لا بل يُضيف، ويُغيّر، فهو لا يلفظ الفتحتين اللّتين يجب التلفّظ بهما في نهاية آية (وزورا) ويخفي الكسرتين أو الكسرة، والياء في الأفعال التي تنتهي بياء أو واو ويمدّ الفتحة في نصب الأسماء والأفعال جاعلًا منها ألفًا كما في القافية الشعريّة إلخ، ومن الواضح من هذا الاستعراض أنّ نولدكه يعدّ كلام القرآن كلامًا بشريًا -لا كلامًا إلهيًا- ويعدّ اللعب بالكلمات الذي لم يكثر منه الشعراء العرب القدامى سمة من سمات القرآن، ويورد على ذلك أمثلة: (راغبًا راهبًا) (لامية الشنفرى) (إن يغبطوا يهبطوا) (الخنساء) (بين عسر ويسر)، أخزي الحياة وخزي الممات (البحتري) إلخ.

ويرى نولدكه أنّ الرواية القائلة إنّ محمّدًا حدّد لكلّ آية، فورًا بعد نزولها، مكانها المحدّد لا تتمتّع بسندٍ تاريخيٍّ  حتى لو كان قد قام أحيانًا ببعض الإضافات إلى سور معيّنة، وأبعد من ذلك لم يتحرّج محمّد ـ حسب المستشرق الألماني ـ من تكرار الآيات وتعديل مواضعها في المقاطع القرآنيّة أو نسخها بحسب الظّروف، أو زمن تأليفها أو مضمونها. لكنّنا (لا يجوز أن نلومه على ذلك ـ كما يزعم فايل (Weil)، فهل كان للنبي فعلًا أن يتوقّع، أنّ الخلاف سينشب بعد وقتٍ قصيرٍ من وفاته حول حرفيّة ما نزّل عليه، وهو الرّجل غير المتعلّم (كذا) الذي لم يعرف تعظيم الحرف بتاتًا (ص44)، وفي هذا الموقف تناقض إدعائيّ واضح في موقف نولدكه، فهو يتحدّث عن التّنزيل، ومن ثم ينعت الرّسول بالأميّة: ألم يؤت الرّسول جوامع الكلم، ومن هو العالم الحقيقي، ههنا، نولدكه أم النبي العربي؟

في استعراضه لأصل أجزاء القرآن، ومحاولة استكشاف الزمن الذي نشأت فيه

(19)

هذه الأجزاء، يرى نولدكه أنّ الهدف الكبير الوحيد الذي يتّبعه محمد في السّور المكيّة، هو دعوة النّاس إلى الإيمان بالإله الواحد الحقّ وما لا ينفصل عن ذلك الإيمان بالقيامة والحساب في يوم الدين، لكنّه لا يسعى إلى إقناع عقل سامعيه بواسطة البرهان المنطقي، بل بالعرف الخطابي المؤثّر على الشّعور والمخيّلة. هل المنطق سمة من سمات الدين أم الفلسفة؟

ويرى في الإسلام نوعًا من النّظام الدّيني، بل محاولة من نوعٍ اشتراكيٍّ، لمقاومة أوضاع أرضيّة سيّئة قاهرة (ص66) وهل هذا حسنة أم بدعة ومثلبة؟

يرى نولدكه في بحثه الفيلولوجيّ أنّ سور الفترة الأولى تتميّز بقوّة الحماس الذي حرّك النّبيّ في السنوات الأُول، وجعله يرى الملائكة الذين أرسلهم الله إليه، فكان لا بدّ لها من أن تعبّر عن نفسها في القرآن. فالله الذي يملأه يتكلّم بنفسه، فيتراجع الإنسان تمامًا، كما لدى أنبياء إسرائيل العظام في (العهد القديم) (...) أما الكلام فعظيم، جليل، مفعم بالصور الصارخة، والنبرة الخطابية تحتفظ بلونها الشّعري الكامل، والآيات القصيرة تعكس الحركة الشّغوفة بتعاليمٍ بسيطةٍ، هادئةٍ، لكنّها زاخرة بالقوّة. والكلام بأسره محرّك إيقاعيًا وذو جرس عفويّ جميل. ومشاعر النّبيّ تنطق عن نفسها أحيانًا بواسطة غموض المعنى، ومن العلامات الفارقة والمميّزة لهذه الفترة كلمات القسم التي ترد فيها كثيرًا 30 مرّة مقابل مرّة واحدة في السّور المدنيّة في سورة التغابن: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[1] من الأمثلة على ذلك سورة النازعات (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا   فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَـمَرْدُودُونَ فِي الْـحَافِرَةِ) [2].

أمّا السّور المدنيّة، فقد تميّزت -حسب نولدكه- بطابع الدّعوة المنتصرة والنّبيّ الذي كان في مكّة في وضع لا يحسد عليه، لا يتبعه إلّا قليل من النّاس، فأصبح قائدًا

(20)

عالميًا لكيان كبير. وهو يفسّر انضواء المدينة في الدّعوة بالصّراع والمعارك الطّاحنة بين الأوس والخزرج، واعتياد سكان يثرب سريعًا على سيطرة شخص غريب عليهم. ويستنتج نولدكه بأنّ الرجال الذين أتوا من المدينة إلى مكّة ليفاوضوا محمدًا إنّما فعلوا ذلك منساقين بالدّافع السّياسيّ فقط من أجل السّلام في مدينتهم. وهو التّفسير المصغّر لانتصار الدّعوة الإسلاميّة في ظلّ الصّراع البيزنطي ـ الفارسي في المرحلة السّابقة على الإسلام.

وتحتوي الآيات المدنيّة في الغالب على تشريعاتٍ قصيرةٍ ومخاطبات وأوامر، والتّعابير والمصطلحات الجديدة تستعمل حين تقتضي المادة ذلك فقط. وهذا ما يظهر على أوضح وجه في الشّرائع، ويتجنّب في صياغتها كلّ تزيين خطابيّ. وتعدّ سورة البقرة 2 أقدم السّور المدنيّة. فالجزء الأكبر منها نشأ في العام الثاني بعد الهجرة قبل واقعة بدر. وهي تبدأ بكلمات مشابهة للآيات المكية (ذَلِكَ الْكِتَابُ) ولكنّها تنتهي بآيات تشريعيّة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أو ضَعِيفًا أو لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أو كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى إلّا تَرْتَابُوا إلّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ إلّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[1].

هو ذا ملخّص كتاب نولدكه فماذا عن أتباعه وتلاميذه الذي استكملوا هذا الكتاب؟

(21)

ثانيًا: آراء تلامذة نولدكه

يقول أوتو بريتسل في مقدّمة الجزء الثالث من الكتاب إنّه بعد وفاة فريدرش شفالي العام 1919 الذي عمل على إنجاز المجلّدين الأوّلين من هذا الكتاب أخذ غوتهلف برغشتر سر على عاتقه إنجاز المجلد الثالث، وقبل وفاته على حين غرة في العام 1926. وبعد أن قضى آخر سنوات عمره في إعداد دراساتٍ تمهيديّةٍ لم يتمكّن من مشاهدة نتائجها، أنيطت به مهمّة إكمال العمل ودفع جزءاً منه إلى الطبع العام 1929. وقد تناولت أبحاثه القراءات الشاذة، المتعدّدة للقرآن، ومن بينها (القراءات السبع) المتعارف عليها.

ويتحدّث الباحث حول نسخ أربع رسميّة للقرآن كتبت بأمر الخليفة عثمان، وهي لا تلعب تقريبًا أيّ دور في علم القرآن، ما عدا النّسخة الرسميّة، المدنيّة، التي تسمّى (مصحف عثمان) وهي النّسخة المتداولة عند المسلمين قاطبة. ويرى بريتسل أنّ هذه النّسخة وظروف نشأتها تتّسم بعدم الوضوح، ويعمد إلى الكشف عن أخبارها المتناقضة، وطريقة إعدادها وإخراجها إلى النور.

يرى الباحث أنّ الاختلافات الحقيقيّة في نصّ القرآن في المدن الأربع التي تنطلق منها الرواية حول صياغات القرآن تبيّن أنّ كلّ نصّ محليٍّ للقرآن تمسّك به أهله بإخلاص كبير (...) وقد اعتمد تناقل النصّ كتابة، في كلّ ما يتعلّق بالهجاء، على الرواية الشّفهيّة، فقرّاء القرآن في كلّ مدينة اتّبعوا نصّهم الرّسمي، وحتى عندما لم يتّبعوه في مرّة من المرّات، فإنّ الوعي بالاختلاف ظلّ حيًا. وهذا يوضّح لماذا لم تظهر الروايات حول هذه الكتابات أيّة تأرجحات تقريبًا وأنّها أمينة كليًا. وربما كان أوّل من ثبتها تحريرًا هو الكسائي (توفي عام 189هـ). وكان ثمّة اختلاف بين المدينة والعراق في القراءة القرآنيّة، وكان ثمة نسخة للقرآن تُعدّ مرجعًا للقارئين الدّمشقيين ويمثلهم أبو الدرداء. وثمّة قراءات خمس للكوفة مقابل البصرة، دون أن يؤتى على ذكر مكّة، وكان ثمّة خلاف محلّ جدلٍ في قراءة القرآن وتدوينه، وكانت الكلمات تتفاوت ما بين نسخة وأخرى قبل جمع القرآن في مصحف واحد موحّد هو (مصحف عثمان).

مثال على ذلك:

(22)

سورة المائدة 5: 54 - 59 (يرتدد) المدينة، مخطوطة دمشق، و(يرتد) عند البقية.

سورة الأنعام 6: 63 (أنجينا) الكوفة، (أنجيتنا) عند البقية.

سورة الأعراف 7: (تتذكرون) مخطوطة دمشق (تذكرون) عند البقية. وهكذا دواليك!

وكانت المخطوطات الكوفيّة تذهب أبعد من ذلك في مجال استبدال الألف الممدودة بالألف المقصورة، وهو ما نجده في (حتا) بدل (حتى) و(أغنا) بدل (أغنى) و(مضا) بدل (مضى) إلخ... والحال هذه أثّرت هذه الاختلافات قبل جمع القرآن -وحتى بعد جمعه- على تهجئة اللغة القرآنيّة بحسب المناطق المختلفة، و(المصاحف) المتعدّدة (مصحف ابن مسعود في البصرة (مصحف أُبي) في دمشق إلخ، وقد رأينا أنّ النّصّ العثماني (نسبة إلى الخليفة عثمان) لم يكن موحدًا تمامًا، وبحكم أنّ غالبيّة النّسخ متكافئة، فقد كان النّصّ يحتوي على صياغاتٍ وعلى تأرجحاتٍ في الهجاء تكاثرت عند النّسخ من هذا النّصّ. ورغم ذلك شكّل النّصّ العثمانيّ، في نهاية المطاف، وحدةً مترابطةً نسبيًّا بالمقارنة مع الصياغات المنقولة بحروفٍ ساكنةٍ أو مع القراءات التي تشترط وجود نص سواكن مخالف.

كان الاختلاف في صفة الرّواية بين أهل الكوفة وأهل الشام يعود إلى اختلاف الظّروف الخارجيّة للتأثير الذي مارسه كلا النّصّين. فكما يشير إليه التأرجح حول سنة وفاته لم يلعب أُبي بعد وفاة الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله  أي دور مرموق. وسواء بسبب موته المبكر، أو لأسباب أُخر، فقد أزيح عن المسرح السياسي وانتشر نصّه القرآنيّ على الصّعيد الشّخصيّ فقط. أما ابن مسعود فكان واليًا على الكوفة، وكان يملك بالتالي إمكانيةً، استطاع استغلالها بنجاح لإيجاد اعترافٍ رسميٍّ بقرآنه. ويبدو أنّ مصير نسختي القرآن، أي نسخة ابن مسعود ونسخة أُبي كان متغايرًا. فقد اختفت نسخة أُبي باكرًا، وربما لم تنسخ أبدًا. أو انّ عثمان -كما يُنسب إلى ابن أُبي واسمه محمّد- قد صادر مصحف أُبي (حرفيًا: قبضه، أي قبض عليه وصادره)... أما نُسخ نص ابن مسعود فأُخبر عنها مدّة طويلة. ويروي الزمخشري أنّ المخطوط كان

(23)

مدفونًا في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد احترق سنة 398ه، وكان فيه، على ما يزعم قرآن ابن مسعود، وقد اعتمد عليه الشيعة في بغداد (هل هو لعب على الوتر الطائفي قديم-جديد ههنا أيضًا؟).

ما سرّ الحملة الشّعواء (العشواء) التي يشنّها كتاب نولدكه وأتباعه على (مصحف عثمان)؟ هل هي الغيرة على التّسامح والتّعدّديّة في مقابل الحفاظ على الحرف والكلمة اللوغرقراطية - الإلهيّة كما يراد لنا أن نقتنع؟

وهل المنهج التّاريخي وغايته التّسامح والتعدديّة والاختلاف عملًا بالحديث المأثور (اختلاف أمتي رحمة) أم إنّ غايته شرذمة الوعي الإسلامي؛ ليكون لدى المسلمين ليس فقط قراءات سبع للقرآن وإنما سبعة مصاحف وأكثر. وهل الوحدة تخالف التعدّد؟ وهل الائتلاف ما بين (المؤلَّفة قلوبهم) من المسلمين وأهل الكتاب يستبعد الاختلاف بالمعنى الذي يحبذه الإسلام دينًا ودعوة ورسالة؟

يرى نولدكه وأتباعه أنّه (قد يكون عثمان حاول القضاء على نسخ نصوص القرآن المخالفة، لكن الإزالة الكاملة لكل هذه النسخ لم تتحقّق آنذاك، ولم يصبح ذلك ممكنًا إلّا عندما تم الالتزام في التلاوة بالنص العثماني. هذا الاعتراف النّظريّ بالنّصّ العثماني صار ذا تأثير عمليّ، حين تخلى المرء عن الحرية اللامبالية في التّعامل مع النّص، التي كانت سائدة في القديم (كذا) (ص544-545). ما الهدف والغاية من تلك الحرية اللامبالية؟ هل المعرفة الأفضل والفضلى أم اللا إبالية حقًا؟!

في زمن البعثة وحياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله، كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه يبت في الأمر، وحسب المراجع الإسلاميّة العديدة، ومن بينها مسند ابن حنبل، رفض النّبيّ التّشكيل الذي قاله عبد الله بن عمر لكلمة (ضَعْف) ـ وهي تعني الوهن ـ وطلب أن يقال (ضُعف) أي بمعنى الكم المضاعف.

هل المقصود بأنّ الهدف من الحديث النّبويّ بأنّ القرآن جاء على سبعة أحرف، رفض البت في صياغات النّصّ التي يناقض بعضها البعض، وأنّ الاتجاهين المتناقضين (نجاح وانتصار النّصّ العثماني التوحيديّ والاعتراف بألوهيّة صيغ النّصّ القديمة، غير

(24)

العثمانيّة) قد نجحا، بالتّوازي والمساواة؟ وقبل الإجابة على هذا السّؤال لرؤية ما هي الصّيغ التّعدّديّة التي يدافع عنها نولدكه وأتباعه: دفاع بعض القرّاء على كلمة (حيي) بدلًا من (حيّ) الواردة في سورة الأنفال 8: 42-44، ويحبّذون قراءة البعض لجملة (آتاني الله) مع حرف النص (آتين)، (آتانِ) سورة النمل 27: 36 وفي سورة الكهف يحبّذون كلمة (إيتوني) على صيغة المتكلّم 200 (آتوني) (سورة الكهف 18: 96، 95)، فأيّهما أقرب إلى العقل اللغوي حيي أم حي، وآتاني أم (إيتوني) ومن هو المتمسّك بالحرف جماعة المسلمين أم جماعة المستشرقين؟

وهؤلاء يقدّمون الكلمة غير الواضحة (ليلف.. إلفهم) على (لإيلاف.. إيلافهم) (صفحة 552)، سورة قريش 106: 1ـ2 فأيّهما أقرب إلى البديهة والعقل والبداهة؟

ما الغاية التي يبحث عنها المستشرقون الألمان؟ لقد وجبت المحافظة على صفة القرآن ككلام الله الموحى به شفويًا، والذي تناقلت الأفواه معرفته حتى لو كان أغلب نصّ القرآن كُتب في حياة النّبيّ وربما بتكليف منه (ص557)، إذًا، المقصود هو إبطال صفة الوحي وتأكيد (خلق القرآن)، ويا ليت ذلك بالمعنى الاعتزالي في الأقل (المعاني قديمة والحروف مخلوقة ومحدثة)، وإنما بمعنى الاختلاق ورفض نبوّة النّبي ورسالته! ولو كانت غاية هؤلاء الأكاديميين تجديد المعنى بما يتماشى مع مبدأ تعدديّة المعنى، وتطوّر الأحكام بتطوّر الأزمان، لما اعترضوا على التقعيد والتّوحيد، وإنّما لكانوا طالبي إدخال مبدأ الظّاهر والباطن على منهجهم الفيلولوجي العتيد، بدلًا من الانحياز إلى القراءات المتشظّية والمتعدّدة، ولكان هذا أجدى وأقوم وأفضل.

كان المقرئ والنّحوي المشهور التّابع لمدرسة الكوفة اللغويّة والنّحويّة أبو بكر (محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن) ابن مقسم العطار يسمح بكلّ قراءة مطابقة للمعنى وصحيحة لغويًا، تتّفق مع النص المشكَّل، حتى ولو لم يقرأها أحد من القدامى، فاستدعاه السلطان ليقف أمام جميع الفقهاء والقراء الذين أجمعوا على استنكار دعوته وهدّدوه بالعقاب.

يقدم البحاثة المستشرق مثلًا على صحة موقف النحوي أبي بكر العطار قراءته في الآية 80 في سورة يوسف 12 (نجباء) بدل (نجيًا) والآية تقول: (فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا

(25)

مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ الله وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أو يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْـحَاكِمِينَ) (يوسف: 80) والتفسير المتعارف عليه في مصحف عثمان هو بمعنى أنّه (فلما يئسوا يأسًا شديدًا من يوسف وإجابته إياهم، انفردوا متناجين سرًا فيما بينهم) أو أنّ الجملة تحتمل معنى (لما يئسوا من نجاته) -بكلّ بساطة- أما ابن العطار فاختار كلمة (نجباء) بدلًا من (نجيًا) ما دعا خصومه إلى وصف القراءة بأنّها لا معنى لها، وتخالف التّشكيل المعروف، وأنّها (تصحيف). ويرى المستشرقون الألمان بأنّ قراءة ابن مقسم العطار هذه لم تندرج في خانة (البدعة) وإنما الارتجال (الاكتشاف الحر للإمكانات التي تتيح قراءة الحروف الساكنة) ومن الواضح أنّ موقف هؤلاء الأكاديميين ليس أكاديميًا تمامًا؛ لأنّ الأكاديميّة في اللغة لا تقرّ الارتجال، فالعلوم اللغوية ليست علومًا جماليّةً وفنيّةً تحتمل الارتجال والأسلبة، والتّشكيل الجمالي، وإنما هو علم غايته الدّقّة في المعنى والمبنى، لا سيما عندما نكون بإزاء نصٍّ مقدّسٍ يفتح باب الارتجال فيه حروبًا أين منها حروب البسوس و(داحس والغبراء) وحروب طروادة؟

وقد اشترط ابن مقسم العطار -هو نفسه- شرطين لقبول قراءة القرآن، هما: صحّة اللغة، وموافقة القراءة لمصحف عثمان. وهذا دليلٌ على أنّ موقفه يندرج في الحقيقة في باب الاجتهاد (إذا اجتهد الفقيه وأخطأ فله أجر، وإن اجتهد وأصاب فله أجران)، ولم تكن غايته الخروج عن القرآن؟!

ويقرّ العلماء الألمان بأنّ قبول المبادئ التي نادى بها ابن مقسم في حالة الإيجاب -لا النفي- تعني استبعاد المطالب الأُخر تجاه القراءات التي يمكن قبولها، خاصّة تلك التي نادى بها ابن مجاهد، ونجح في إقرارها، من وجوب أن تكون القراءة منقولة بإسناد الذين رووها عن النبي. وبعد إضافة التقليد المتوارث أصبح المذهب الكلاسيكي يضم ثلاثة معايير يشترط توافرها في القراءات، وهذه المعايير الثلاثة هي (أن ينقل عن الثقاة عن النبي، ويكون وجهه في العربيّة سائغًا، ويكون موافقًا لخط

(26)

المصحف. ويرى أصحابنا الألمان أنّه كلّما اشتد الارتباط بالتّقاليد تعيّن التّنازل عن الحقّ بالنّقد، وهم يرون في موقف ابن الجزري (توفي 833 ه) المحافظ على المعايير الثلاثة موقفًا علميًا يتمتّع صاحبه بضميرٍ حيّ. والسّؤال على موقف هؤلاء العلماء من النّصّ القرآنيّ موقفًا يوازي موقف ابن الجزري من حيث التّناسب ما بين النّقد والتّقليد! لا يعني ههنا (التقليد) دعوة إلى التقليديّة في مقابل الإبداع، ولكن المقام هو مقام ديني -وليس فلسفيًّا- والدين ينطوي على بنيةٍ متزامنةٍ في علاقة المقدّس بالدهري، والدين والدنيا، والزمان بالمكان.

ويقابل قاعدة المعايير الثلاثة الضروريّة لقبول إحدى القراءات قاعدة (الغالبيّة) أو (اجتماع العامّة على القراءة) وهذه القاعدة لا تعجب أصحاب كتاب (تاريخ القرآن) أيضًا باعتبار أنّ علم القراءات حتى القرن الرابع كان لا يعني بكلمة العامّة - وأيضًا الجماعة، والكافة، والجمهور، والناس مجموع القرّاء الكلي، بل الأغلبيّة، وهكذا فإنّ كلمات (الإجماع) و(الاجتماع) و(الاتّفاق) لا تعني أكثر من صوت الأغلبيّة، ويعد الإجماع حالةً قصوى ليست لها أهميّة. وقد تكون له، باعتباره (صوت الأغلبيّة)، أهميّة لتوحيد النص القرآني، عن طريق استخدامه لتغييب قراءات الأقليّات الصغيرة تغييبًا كاملًا (ص569 كذا).. والحال هذه ما هو مناط الاتّفاق والاختلاف، إذًا، إن لم يكن الأغلبيّة، وهل الإجماع المطلق ممكن، وهل القراءات الحرة، غير المقيدة أمكن وأكثر إمكانًا؟!

يوافق نولدكه وأتباعه على الاشتراك في مصطلح (رأي) و(استصلاح) و(استحباب) واستحسان، و(قياس)، و(اجتهاد)، لكنّهم يناوئون عمليّة التّوحيد في قراءة القرآن، دفاعًا عن اللهجات الشاذة، بالمعنى اللغوي، الاشتقاقي، والجهوي. ولا تعني الشواذات في الحقيقة شواذات عاميّة، فأهل الحجاز - كما يورد سيبويه يقولون (مررت بهو قبل) بدلًا من (مررت به قبلًا)، (ولديهو مال) بدلًا من (لديه مال) ومثل هذا التشكيل يرد كثيرًا في أجزاء القرآن الكوفية، ولكن هذا لا يعني الانحياز إلى العامة باعتبار (البدوي) أو (العامي) هو (معلم الإنسانية)! يستشهد (د. أوتو بريتسل) عن أقوال مروية عن نافع (ت169) أنه قال: (قرأت على سبعين من

(27)

التابعين، فما اجتمع عليه اثنان أخذته، وما شذ فيه واحد تركته، حتى ألّفت هذه القراءة. ولكن عندما سُئل نافع عن طريقة نطق (ذئب) و(بئر) كما ينطقها في لهجته (ذيب، بير) إنحاز إلى صالح النطق المنتشر، أي مع الهمزة وقال: (إن كانت العرب تهمزها فأهمزها). هل يفضل بريتسل الفصحى الشائعة أم اللهجة العامية الشاذة؟ الجواب، على ما يظهر، أنّه يحبذ -كغيره من المستشرقين- العامية؛ لِمَا لها من خواص التجزئة اللغويّة، وهي الشّكل العلمي للتجزئة السياسيّة في الشرق الأوسط، والعالم الثالث!

ماذا عن نقد الروايات؟

يرى بريتسل أنّ تدريس القرآن والقراءات للحكم على صدق روايات القرّاء أمست بين عام 100 وعام 300 ه تحتاج إلى نقدٍ عميقٍ، حتى أظهرت قراءة الحسن البصري، إمام المعتزلة -توفي 110ه- التي تعدّ أقدم القراءات التي وصلتنا، وفي الوقت ذاته، إحدى أضعفها، تعزّز الاحتمال بأنّنا أمام شكلٍ للنصّ كان يستعمله هو، أو في الأقل، كان يستعمله أنصاره المباشرون. والحقيقة أنّ هذه المسألة لا علاقة لها بإشكاليّة القراءة التقليديّة والقراءة الخارجة على التقليد بقدر ما لها علاقة بالمعتزلة، والحسن البصري، صاحب نظرية المنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة، أصحاب مذهب الاختيار، الذين لم يجتهدوا فقط في مجال (الرأي)، أو (القياس) أو (المصلحة) الفقهيّة، وإنّما في مجال أصول الدين وعلم الكلام الإسلامي، وكانوا بالتالي مذهبًا وسطيًا وإصلاحيًا بامتياز.

وفي مقابل التّجديد السّلفي الذي أحدثه ابن مجاهد (توفي 424ه) في قطيعته الكبيرة مع القراءة التّقليديّة مهد لقوننة القراءات في أنّه استبدل القراءات المفردة بدراسة القراءات المترابطة، ولم يكن دافع ابن مجاهد سلفيًا، وإنّما ضمان يوافق التّقليد، لا للقراءات فقط، وإنّما للقرآن، وأصبح (الشاذ) الغالي على قلب الاستشراق ليس ما هو شاذ عن القراءات السّبعة أو العشرة، بل هو كلّ ما هو خارج القراءات المشهورة، وتتوج النظام الجديد بانتقال تعبير (التواتر) من مصطلح نقد التّقليد ومن أصول الفقه إلى علم القراءات، والمقصود بهذا التّعريف والتّعبير الرواية التي تعود إلى مصادر متعدّدة ومختلفة.

(28)

ومن الذين حافظوا على حريّة أكبر أولئك الذين لا ينتسبون إلى جماعة المقرئين، وخاصّة مفسّر القرآن البغوي (ت 510/ 516ه)، ومثله الزمخشري (ت 538ه). ما هو نظام القراءات السّبع الذي ذكرناه مرارًا وتكرارًا؟

ثمّة كتبٌ متعدّدةٌ تتناول القراءات هذه، التي ازدهرت في القرن الخامس الهجري، منها أبي طالب القيسي (ت 437ه) صاحب كتاب (التبصرة)، وهو عبارة عن كتابٍ مختصرٍ للمبتدئين وللحفظ غيبًا حول الروايات الأربع عشرة المشهورة، بل الأربعين رواية، ودعم إسناداتها بتفصيلٍ واسعٍ وبيانات مختصّة بالتّراجم، ومن هذه الكتب كتاب (الكشف) لأبي عمرو عثمان الداني (توفي 444ه). ويستخدم ابن الجزري في كتابه (الطبقات) كشاف مختصرات لوضع ما يرد فيه من أسماء القرّاء.

والقرّاء السبعة هم في الحقيقة روّاة عددهم أربعة عشرة تجمعهم سبعة أنماط من أنماط الرواية والقراءة واضحة المعالم، تركز على أصول للقراءة، والنطق، والاستعاذة، والتسمية، والقراءات المختلفة للفاتحة تشمل:

1- الإدغام الكبير للحروف المذكر الساكنة المفصولة بحرف مد.

2- هاء الكناية؛ اللاحقة للغائب المفرد المذكر.

3- المد.

4- قواعد الهمز.

5- ما يسمى الإدغام الصغير (للحروف الساكنة المتماسة).

6- الإمالة (بما في ذلك ميزة الكسائي بنطق نهاية التأنيث (ـة).

7- نطق حرف الراء واللام.

8- الوقف هنا أيضًا (رَوْم وإشمام).

9- السكوت القصير (سكوت، سكت).

10- نطق لاحقة المتكلم المفرد كـ (ـيْ) أو (ـيَ).

11- معالجة الياء المكتوبة بتعريف ناقص.

(29)

مخطوطات القرآن

تستند أبحاث كتاب (تاريخ القرآن) على تراثٍ استشراقيٍّ، وأدوات بحثٍ، ومواد مستعملة متوفّرة في البلدان الغربيّة والشّرقيّة.

إنّ استناد المستشرقين -نولدكه وأتباعه- وتركيزهم على ما يسمّى بالقراءات الشاذة، ليس مسألةً نظريّةً، وإنّما تعتمد على الاطّلاع ومعاينة مخطوطات غير عثمانيّة متعدّدة متوافرة في المتاحف والمكتبات الغربيّة المختصّة.

ويعتمد علم القراءات على المخطوطات القديمة للقرآن الكريم، وإن كانت تقتصر على بداية القرن الرابع الهجري.

وقد أقرّت الأكاديميّة البافاريّة في ألمانيا للعلوم في مونيخ عاصمة ولاية بافاريا خطّةً لجمع أكبر قدرٍ ممكنٍ من مصورات مخطوطات القرآن القديمة التي وصلتنا، ومهّدت بذلك لأوّل مرّة لبحث مادّة هذه المصادر المهمّة.

والمجموعة الأكثر ثراءً، مع ذلك، والتي ترتكز عليها أبحاث القرآن المخطوطة متوافرة في مدينة إسطنبول، في تركيا، وقد أضيفت إليها كافّة المصاحف الكوفيّة الموجودة في مكتبات المدينة العريقة. وتوجد مجموعة أخرى في متحف الأوقاف، كانت تضم في الأصل 16 نسخة، يضاف إليها بعض موجودات مكتبات المدينة. وتضم المكتبة الوطنيّة في باريس مجموعةً قيّمةً من أجزاء القرآن الكريم القديمة التي تتميّز بتعدّد أنواع خطوطها. كما توجد مجموعة من المخطوطات القديمة جدًا في المكتبة المصريّة في القاهرة وفي جامع الأزهر. وثمة نسخ قيّمة من القرآن موجودة في المغرب. وتضم مكتبات غربيّة مختلفة مجموعات كبيرة وصغيرة (غالبًا أجزاء) من المصاحف.

(30)

الخاتمة

يدفع تمسّك الباحث نولدكه وتلاميذه بالكلمة موضوعًا للبحث وركيزة له في آن إلى عدم الالتفات إلى معايير أُخر، كتلك التي تلعب عادةً دورًا مهمًا في التعاطي مع الكتب المقدّسة. وهكذا لا يقيّم نولدكه وأتباعه من العلماء القرآن على أنّه كتابٌ منزلٌ، بل نصّ وضعه النّبيّ محمّد نتيجة إلهام، متفاعلًا مع الأحداث والتّطوّرات الدّينيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة التي واجهها خلال سنين بعثته.

والحقّ أنّهم اعترفوا بنبوّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله، واعتبروه نبيًا حقًا، لا شك في صدق الخبرة الدينيّة الخاصّة التي عاشها والتي يعبّر عنها القرآن الكريم أحسن تعبير. وشدّدوا في أكثر من سياق في الكتاب، على أنّ النّبيّ كان مستغرقًا تمامًا في الدّعوة التي آمن بأنّ الله اصطفاه من أجل تبليغها، وأنّه كان مغمورًا بالحماس الشّديد من أجل هداية قومه إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، لكنّهم فسّروا النّبوّة والرسالة تفسيرًا وضعيًا، باعتبارها (ملكة إنسانيّة) وليس إلهيّة.

يتبنّى نولدكه، في الجزء الأوّل، التّقسيم المعهود للقرآن إلى مكّي ومدني. لكنّه يوزّع السّور المكّيّة على فترات ثلاث، معتمدًا على صفات أسلوبيّة ومضمونيّة تجمع بين سور المجموعة الواحدة. فهو يصف سور الفترة المكيّة الأولى بأنّها تتميّز عن سواها بقصرها، وبلغتها الشّعريّة التّسبيحيّة، وورود الكثير من الأقسام (جمع قسم) فيها، تهدف إلى تثبيت مضمون الرسالة وإقناع المشركين بها. ويميّز سور الفترة المكّيّة الثانية تحوّل في الأسلوب؛ إذ يغلب عليه طابع الوعظ والإنذار، وتظهر في هذه الفترة مقاطع طويلة، تسترجع أحداثًا وشخصيات من الكتاب المقدّس، مبرزة إيّاها أمثلة على صدق الله في وعده ووعيده. أمّا سور الفترة الثالثة فلا تختلف كثيرًا، من حيث الأسلوب، عن سور الفترة السّابقة، لكنّها تتميّز بشدّة لهجة الوعيد والتهديد الموجّه ضدّ الكافرين. يبقى التّحوّل الذي حدث في رسالة النّبيّ محمّد بعد الهجرة إلى المدينة المنوّرة من دون تأثير واضح في السّور التي نشأت هناك، فهذه تتّصف بالتزامها المضموني بشؤون جماعة المؤمنين الناشئة، وبإعلانها الشّرائع والتنظيمات لوضع أسس المجتمع الجديد.

(31)

ما يزال التّرتيب الذي وضعه نولدكه للسور القرآنيّة معتمدًا في معظم الأوساط العلميّة المتخصّصة في الغرب، على الرّغم من قيام باحثين آخرين، مثل الإنكليزي بل والفرنسي بلاشير، بمحاولات مماثلة، لا تتّصف بالقدر نفسه من الرصانة والتّحصين.

أمّا الجزء الثاني من الكتاب، فيعالج مسألة جمع القرآن الكريم، معتمدًا على الروايات المتوارثة، مقارنًا بعضها ببعضها الآخر في دقّة، ومستخلصًا منها النتائج. وهو يناقش مسألة الجمع الأوّل الذي قام به زيد بن ثابت وسواه من المصاحف التي سبقت مصحف عثمان. ثم يتناول نشوء مصحف عثمان بدراسة مفصّلة للروايات، عارضًا ترتيبه، ومعالجًا البسملة وفواتح السور. كذلك، يتطرّق إلى ما يقال عن تحريف بعض المواضع، ثم يورد (سورة النورين) المنحولة، مناقشًا مضمونها.

ويعالج الجزء الأخير تاريخ نص القرآن، مناقشًا أهم خصائص الرسم في مصحف عثمان، ومقارنًا إياه بصيغ وقراءات غير عثمانيّة. ثم يتناول بالتفصيل أنظمة القراءة وأشهر القرّاء، ويعرض أمّ المصادر التي تعنى بهذا الموضوع. وينتهي الكتاب بعرض لأهمّ مخطوطات القرآن التي كانت معروفة لدى الباحثين آنذاك.

يتّصف البحث بالجهد الدؤوب، والعميق، بحسب مقتضى المنهج النّقدي التّاريخيّ، لكنّه ينطوي على تجنّياتٍ كثيرة على الإسلام ونبيّه.

ويحمل الكتاب، ولا سيّما في جزئه الثاني، تقاطبًا لا بدّ هنا من الإشارة إليه. فهو يصف، على عادة أهل عصره، الأبحاث العلميّة التي أنتجها البحاثة الأوروبيون بأنها أبحاث (مسيحيّة)، مقابلًا بينها وبين الأبحاث (المحمّديّة) أو (الإسلاميّة). وهو، إذ يذكر في صراحة تفوق الأبحاث الأوروبيّة من ناحية المنهجيّة، لا يفوته في الوقت نفسه أن ينوّه إلى تميّز البحاثة المسلمين العرب على سواهم في مجالات كثيرة لا يستطيع أقرانُهم في الغرب أن يجاورهم فيها.

ما الغرض من الكتاب؟

الغرض من الجهد العلمي الذي يضم هذا الكتاب ونتائجه الحط من قدر القرآن

(32)

الكريم والنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. إنّه، محاولةٌ علميّةٌ لاستكشاف مضامين فيلولوجيّة (لغويّة مقارنة) في الكتاب العزيز، بواسطة ربطها الوثيق بشخص النّبيّ ودعوته. وهذا يقتضي معالجة نص القرآن كما وصلنا، مع طرح التّساؤلات حول الظّروف التّاريخيّة التي أحاطت بنزوله وروايته عبر التاريخ، لكن النتائج المستخلصة (إيديولوجيّة)، وأوروبيّة-مركزيّة معادية ومضادة للإسلام.

والبحث العلمي لا ينطلق إلّا مما يستطيع العقل البشري أن يدركه وأن يقبض عليه بمفاهيم. فما لا يُفهم، يمتنع القبض عليه بالأدوات العقليّة. إنّه، إذًا، موضوع إيمان أو شعور. كذلك مسألة الوحي، الذي يأتي بشرًا (مصطفين) بكلام الله، تتعدّى نطاق قدرة العقل البشري - فهي موضوع إيمان. أما العلم فيتعاطى مع ما يمكن القبض عليه بالفهم؛ لذا يحاول أن يفسّر ظاهرة النّبوّة بطريقةٍ قد لا تتّفق ومعطيات الإيمان. وهذا ما وقع فيه المستشرقون في قراءة وكتابة تاريخ القرآن.

وقد سبق للفلاسفة المسلمين، على سبيل المثال، أن حاولوا فهم ظاهرة النبوّة من خلال أنسنتها، فشرحوا نشوء النبوات بواسطة مفاهيم أرسطوطالية وأفلاطونية محدثة. هكذا يعالج واضعو هذا الكتاب القرآن الكريم من منظورٍ علميٍّ نصًا، يقرأ ويكتب، وقد بلّغه النبي محمّد إلى أتباعه المؤمنين. الكلام الإلهي يتخذ حروف لغة بشرية، وينطق به بألفاظ بشرية: فهو جامع للبعدين الإلهي والبشري معًا. وإذا كان العالم يتعامل والقرآن الكريم وكأنّه كتابٌ بشريٌّ فقط، فهذا يشكّل نوعًا من الخلط ما بين الحكم المتيافيزيقي الديني ومقتضياته والحكم العقلي الوضعي ومقتضياته الذي لا يتعاطى إلّا مع ما يمكن للعقل أن يحيط به. أما كون القرآن كتاب الله الذي نزل حرفيًا على النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو موضوع إيمان.

على الرّغم من تركيزه على أهميّة التّوافق بين النّصّ والحدث التاريخي، لا يخفي نولدكه اقتناعه بأنّ الكثير من الأحداث التي جرت في أثناء رسالة النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعد بالإمكان إعادة تركيبها بدقّة، وبأنّنا لا نستطيع أن نعرف ماذا جرى في ذلك الحين فعلًا. التّمسّك بالتّاريخ هو، في هذه الحال، تمسّكٌ منهجيٌّ، يهدف، من خلال إقامة صلةٍ سببيّةٍ بين الحدث والنص. يمكن وصف هذه المنهجيّة بأنّها محاولةٌ

(33)

مبدئيّة للعودة إلى ما قبل النص، إلى البدء، حين كان القرآن، بعدُ، في وضع المنطوق به، كلامًا حيًا (معاشًا) يُتلى ويُعاد ويُحفظ، قبل أن يُدوَّن ويصبح مصحفًا.

يتمسّك نولدكه بالنّصّ، كونه محسوسًا ملموسًا، ويعامله بصورةٍ منطقيّةٍ وضعيّةٍ؛ لكنّه يبدو، في الوقت نفسه، لا منطقيًّا متحسّسًا لما هو وراء النّصّ، أي لما يسمّيه اليوم مفكرون مسلمون حداثيون، مثل محمّد أركون ونصر حامد أبو زيد، (الخطاب) الذي تولَّد منه القرآن. البحث عن بدايات الوحي محاولة أولى للتفتيش عن عناصر هذا (الخطاب) التفاعلي الذي تم في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وجماعة المسلمين الأولى. وإعادة وضع النّصوص في سياقها التاريخي الحي سعيًا إلى استجلاء الخطاب الذي جاء بها؛ وهو خطابٌ مزدوجٌ: فالوحي خطاب (عمودي) يجمع بين الموحي والموحى إليه؛ وهو، في الوقت نفسه، خطاب (أفقي) أيضًا، عندما يصير الوحي حقيقةً في التّاريخ، في تفاعل مع البيئة التي تمّ فيها. وهو خطابٌ تزامنيٌّ-تطوّريٌّ، وهو الأمر الذي أهملته هذه الدّراسة.

يبقى أن نذكر، أخيرًا، أنّه خلال إحدى دورات معرض الكتاب العربي الدولي في بيروت منذ سنوات، وبعد أن وُزّعت نسخ من (تاريخ القرآن) في المعرض مجانًا، أصدرت المديريّة العامّة للأمن العام اللبناني، بناءً على طلب تلقّته من دار الفتوى في بيروت، قرارًا يمنع تداول الكتاب، وسحبه من المكتبات، باعتباره، كما جاء في طلب المرجعيّة الدّينيّة (يثير النّعرات الطائفيّة).

كما أنّ أحد المواقع الإلكترونيّة أورد خبرًا عن أنّ الأستاذ عمر لطفي العالم من طرابلس الغرب قد ترجم الكتاب إلى العربيّة، ويتوقّع كاتب الخبر أن تكون ترجمة (العالم) أفضل من الترجمة المتداولة، وأدق، لعلم العالم الممتاز باللغة الألمانية، ولتمرّسه بالترجمة عنها، إضافةً لمعرفته الممتازة بالعلوم الشرعية.

غير أنّ النتيجة - بالنسبة للمؤلف والمؤلفين- واحدة، وهي القراءة غير الموضوعيّة للقرآن والإسلام.

 

(34)

 

 

 

 

 

 

الفصل الاول

المدرسة الاستشراقيّة الألمانيّة

 

(35)

 

 

 

مقدمة الفصل

يسعى هذا الفصل إلى تسليط الضوء على الاستشراق الألمانيّ ومدرسته بكلّ ما لها من مكانة  وقيمة علمية عند المستشرقين وغيرهم، خاصّة فيما يتعلّق بالدّراسات القرآنيّة؛ إذ تعرّض عبر مقالاته الأربع إلى تعريف كتاب «تاريخ القرآن» وتوصيفه، وقدّم إطلالةً حول الاستشراق الألمانيّ ودوره في الدّراسات الشرقيّة عامة والدراسات القرآنيّة خاصّة، مع تقديم قراءة نقديّة تاريخيّة للاستشراق الألماني. وجاءت هذه المطالب كمدخلٍ لتقديم قراءات نقديّة موضوعيّة لما أصدره المستشرق الألماني تيودور نولدكه من إشكاليّات حول القرآن الكريم، خاصّة وأنّه اعتمد على منهج النقد التاريخي، ما يجعل الدّراسة التحليليّة النقديّة ضروريّة في هذا المجال؛ لردّ الشّبهات الموجّهة للقرآن الكريم والانتصار له بما يتناسب مع العقل والنقل.

 

(36)

المدرسة الاستشراقيّة الألمانيّة في الدّراسات القرآنيّة والنّقد الداخلي للاستشراق

من خلال النظريّات الغربيّة في جمع القرآن الكريم

 

د. الشيخ محمد حسن زماني[1]
 د. الشيخ حيدر الساعدي[2]

ملخّص

من المميّزات المهمّة في المدرسة الاستشراقيّة الألمانيّة هي ميزة النّقد الدّاخليّ للنظريّات التي قدّمها المستشرقون في مجال الدّراسات القرآنيّة، وعلى الرّغم من أهميّة هذا الجانب لم نرَ من ركّز عليه في الدّراسات الاستشراقيّة. ويمكن للمتابع للدراسات الألمانيّة حول القرآن الكريم -وبخاصّة المعاصرة- أن يلمس أشكالًا مختلفةً من النّقد الدّاخلي للاستشراق، ومن ضمن الأبحاث التي ركّزت عليها الدّراسات القرآنيّة في ألمانيا وظهرت فيها ميزة النّقد الدّاخلي هو موضوع جمع القرآن، إذ يُعتبر البحث في هذا الموضوع ممّا امتاز بطرقه الاستشراق الألماني، وقدّم وجهات نظر متعدّدة فيه، على مستوى إنتاج النظريّات من جانب ونقد النظريّات الأخرى من جانب آخر.

وبعد التّمحيص فيما أوردته المدرسة الألمانيّة في جمع القرآن يتبيّن عدم اطّلاع الباحثين الغربيّين على التراث الشيعي بشكل عام وما قدّمه الشيعة في التراث القرآني بشكلٍ خاصّ. الأمر الذي يشكّل نقطة فراغ في أعمال المستشرقين العلميّة.

(37)

المقدّمة

يحاول هذا المقال عرض النظريّات المعتمدة في الدّراسات الغربيّة فيما يتعلّق بتاريخ جمع القرآن الكريم، وتسليط الضوء على ما قدمّته المدرسة الألمانيّة من نقد وطريقة تعاملها معها. ونهدف من ذلك بيان ميزة النّقد الداخلي للاستشراق في المدرسة الاستشراقيّة الألمانيّة في الدّراسات القرآنيّة. وهذا جانب مهمّ تفتقر إليه الجهود التي قدّمتها المكتبة العربيّة والإسلاميّة، على أنَّه عاملٌ مهمّ في نقد الدراسات الاستشراقيّة حول القرآن الكريم وبخاصّة المعاصرة منها. وبذلك يكون منطلق نقدنا لما قدّمه الاستشراق بشكلٍ عام ليس إسلاميًّا أو شرقيًّا فقط، بل مطعّم برؤى نقديّة استشراقيّة أيضًا، فهناك من المستشرقين من ينطلق من منطلقات غير منطلقاتنا الفكريّة لكنَّه يصل إلى نتائج في البحث العلمي أو النقد تقترب من نتائجنا ونقدنا أو تطابقها في بعض الأحيان، وهذا يعطي قوّة علميّة ومنهجيّة لأبحاثنا ويطوّر من مناهج البحث والنقد في دراساتنا للاستشراق، بالإضافة إلى الاطّلاع على ما توصّلت إليه الأبحاث الغربيّة حول تاريخ جمع القرآن الكريم.

أوّلًا: النقد الداخلي للاستشراق

يمكننا أن نلاحظ جانبين في تعامل المستشرقين مع آراء ونظريّات أيّ مستشرق في مجال الدّراسات القرآنيّة:

 الجانب الأوّل: هو جانب القبول وتلقي ما يطرحه بنظرة إيجابيّة، وكثيرًا ما يتطوّر ذلك إلى البناء عليه إذا كانت فيه جنبةٌ جديدة وابتعادٌ عن أدبيّات ومناهج ونتائج الباحثين المسلمين.

وربما لا نكون مخطئين إذا قلنا إنَّ هذا الجانب ما زال سائدًا في الدراسات الاستشراقيّة عمومًا والقرآنيّة بشكل خاصّ. فنلاحظ -مثلًا- سيطرة النظرة السلبيّة تجاه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لفترة طويلة على البحث الاستشراقي، وهذا النوع من التعامل مع القرآن الكريم ونظرة الازدراء له هما اللذان سادا في هذا المجال من

(38)

الدراسات. ومن الأمثلة المعاصرة سيطرة الاتجاه التشكيكي تجاه التراث الإسلامي، إذ برزت تيّارات مختلفة تنتهج منهج الشكّ في تعاملها مع الروايات والتراث الإسلامي، وسيطرت تلك التيّارات في مدارس استشراقيّة مختلفة على طريقة البحث الاستشراقي في الدراسات القرآنيّة.

الجانب الثاني: جانب النّقد والنّظرة الشكّيّة تجاه ما يطرحه مستشرقون آخرون، بمعنى الوقوف عند رأي أيّ مستشرق، ودراسته دراسة علميّة وفحص أداته وتقييمها مهما ذاع صيته وسيطرته على الأجواء العلميّة. وهذا النّوع من تعامل المستشرقين مع التّراث الاستشراقي هو ما نقصده بالنّقد الداخلي للاستشراق. وهذا يعني أنّ الباحث الغربيّ في الدّراسات القرآنيّة ينقد باحثًا آخر من صنفه.

ويلاحظ المتتبّع لدراسات المستشرقين الألمان في الدّراسات القرآنيّة ممارستهم للنقد الداخلي بشكل لافت، حتّى يمكننا عدّ ذلك سمة بارزة في المدرسة الألمانيّة في الدّراسات القرآنيّة. ويمكن أن نرجع ذلك إلى أسباب عدّة:

- محوريّة الجانب العلمي في الدراسات الاستشراقيّة الألمانيّة وتطور الدراسات الاستشراقيّة فيها. وهذا لا يعني بالطبع عدم وجود دراسة مغرضة هدفها تشويه سمعة الإسلام.

- السّعي لترسيخ محوريّة البحث الألماني، وجعله محورًا في الدّراسات الاستشراقيّة كما هو النفس الألماني في المجالات العلميّة الأخرى.

- تماس الدّراسات الألمانيّة بالدّراسات الإسلاميّة واهتمامها بها، إذ ما زال الاهتمام الألماني بالدراسات الشرقيّة واضحًا للعيان، فقد تمّ تأسيس كليّات ومعاهد تهتمّ بالدراسات الإسلاميّة في الجامعات الألمانيّة، ولها تخصّصها ومجالاتها كما هو الحال في المجالات العلميّة الأخرى.

ثانيًا: جمع القرآن الكريم

شكّل البحث في تاريخ تدوين النصّ القرآني المقدّس نقطة ثقل اهتمام واضحة

(39)

في أبحاث المستشرقين القرآنيّة، وإذا كان ثقل الدراسات الغربيّة حول القرآن الكريم أخذ يتجّه نحو دراسة المحتوى، فإنَّ تاريخ جمع كتاب الله العزيز أساس تلك الدّراسات ومنطلقها. وإذا راجعنا رؤية الباحثين الإسلاميّين في هذا الجانب نجدها تنحصر في رأيين، يؤمن الرأي الأوّل بأنّ النبي الأعظم ترك النصّ القرآني ككتاب على ما هو عليه اليوم من نصّ بين الدفّتين، ويرى الرأي الثاني أنَّ عمليّة جمع القرآن الكريم ككتاب بين الدفّتين تعود إلى ما بعد وفاة النبي الأكرم.

وحينما نراجع نظريّات الباحثين الغربيّين في هذا المجال نجد هناك أكثر من نظريّتين في هذا المجال، تتّحد بعضها مع ما هو مطروح في السّاحة الإسلاميّة من نتائج، وإن اختلفت في بعض التفاصيل، وبعضها بعيد عنها من حيث المقدّمات والنتائج.

نستعرض فيما يلي تلك النظريات، ونركّز على نقد المدرسة الألمانيّة لها فيما إذا توفّر ذلك؛ لنرى كيف مارس الباحثون الألمان في الدراسات القرآنيّة النقد الداخلي لأقرانهم من مستشرقين ألمان وغيرهم.

1- جمع القرآن في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

ذهب جمع من علماء الإسلام إلى أنَّ القرآن الكريم تمّ جمعه في زمن النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله، وأنَّ القرآن الموجود بين أيدينا الآن هو عينه الذي كان في زمن النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقد ذهب إلى هذا الرأي السيّد المرتضى[1] والسيّد الخوئي[2]، والسيّد الحكيم[3] وآخرون[4]. واستدلّ السيّد الخوئي على رأيه بأمور عدّة[5]: تناقض الأخبار

(40)

الدالّة على أنَّ جمعه كان بعد زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما بينها، وتعارضها مع القرآن الكريم والعقل، وجود روايات تدلّ على أنَّ جمعه كان في زمن النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله، وأنَّها مخالفة لما أجمع عليه المسلمون قاطبة من أنَّ القرآن لا طريق لإثباته إلا التواتر[1].

ويقوم استدلال السيّد الحكيم على أساس ما أسماه بـ «طبيعة الأشياء»، إذ يقول: إنَّ (طبيعة الأشياء) تدلّ بشكل واضح على أنَّ القرآن قد تمّ تدوينه في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله[2]. ونقصد بطبيعة الأشياء: مجموع الظروف والخصائص الموضوعيّة والذاتيّة المسلّمة واليقينيّة التي عاشها النبي والمسلمون والقرآن أو اختصوا بها، ممّا يجعلنا نقتنع بضرورة قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بجمع القرآن في عهده. ويحدّد تلك الظروف بخمس نقاط هي: «أهميّة القرآن الكريم، والخطر في تعرضه للتحريف بدون التدوين وإدراك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهذا الخطر، ووجود إمكانات التدوين، وحرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على القرآن والإخلاص له».

أما الروايات الدالّة على جمع القرآن بعد وفاة النبي الأكرم، فيرى أنَّها ساقطة عن الحجيّة لتعارضها فيما بينها[3]. ثم فسّر وجود روايات كهذه بأمرين:

الأوّل: أنَّ هذه الروايات جاءت بصدد الحديث عن جمع القرآن بشكل (مصحف) منتظم الأوراق والصفحات، الأمر الذي تمّ في عهد الصحابة، وليست بصدد الحديث

(41)

عن عمليّة أصل تدوين وجمع القرآن بمعنى كتابته عن بعض الأوراق المتفرّقة أو صدور الرجال كما تشير إليه بعض هذه الأحاديث.

الثاني: أنَّ هذه الروايات إنَّما هي قصص وضعت في عهود متأخّرة عن عهد الصحابة لإشباع رغبة عامّة[1] لدى المسلمين في معرفة كيفيّة جمع القرآن[2].

إنَّ الرأي أعلاه يبدو لنا هو الرأي الأقوى بين الآراء التي طُرحت في هذا المجال، بإضافة أنَّ النّصوص التي ذكرت في جمع القرآن بعد زمن النبي يمكن أن نحملها على تغييراتٍ شكليّةٍ وليست بمعنى جمعه في مصحف، تتمثّل في الحثّ على الالتزام بالمصحف الرسمي وجمع الناس حوله.

ويرى المستشرق الإنجليزي جون برتون[3] أنَّ القرآن الفعلي كان قد جمع في زمن النبي الأكرم، وأنَّ الروايات الحاكية عن جمع القرآن بعد زمن النبي الأعظم روايات موضوعة من قبل بعض فقهاء المسلمين، إذ أنَّهم أرادوا التمسّك لآرائهم الفقهيّة بالقرآن الكريم فدخلوا من مدخل النسخ وتعدّد المصاحف لينتهوا إلى إلغاء دور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في جمع القرآن[4]. وفي الإطار ذاته يرى غريغور شولر[5] أنَّ القرآن ككتاب شفهي كان قد تمّ في زمن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، لكنَّه لم يتحوّل إلى كتاب إلا بعد وفاة النبي[6].

2- جمع القرآن في زمن الخلفاء الثلاثة

تؤمن النظريّة المشهورة بين المسلمين بأنَّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله رحل ولم يجمع القرآن

(42)

الكريم في كتاب، كما هو عليه اليوم، بل كان القرآن حين رحيل نبي الهدى عبارة عن نصوص متفرّقة على القراطيس المتعارفة آنذاك وفي صدور المسلمين، وبعد وفاة النبي الأكرمs تمّ الجمع الأوّل للقرآن الكريم على يد أبي بكر، فجُمع القرآن كلّه في كتاب واحد. وبعد عشرين سنة تقريبًا وحّد عثمان بن عفان المصاحف، وأُرسل المصحف الرسمي إلى الأمصار، وتم إتلاف كل المصاحف الأخرى.

لاقت هذه الرواية القبول عند نُلدكه، ونجده يستعرض تفاصيل الجمع الأوّل والجمع الثاني، ويقدّم احتمالًا بأن يكون الجمع الأوّل من عمر[1]. هذا ما نجده في النسخة التي كتبها نُلدكه وهي النسخة غير المعدّلة لكتاب تاريخ القرآن المتداول.

من جهته يرى شولر الرأي نفسه، ويرى أنَّ مراحل تدوين القرآن مرّت بثلاث مراحل:

الأولى: كتابة الآيات من دون نظام ولا قاعدة معيّنة على أدوات الكتابة السائدة آنذاك، وكان ذلك في حياة النبي.

الثانية: إعداد مجموعات منظّمة ذات صفحات متساوية القياسات، وتمّ الاحتفاظ بتلك المجموعات على أنَّها نسخ خاصة بالأشخاص، ووفقًا للروايات الإسلاميّة أنَّ القرآن تمّ تدوينه كمصحف في زمن أبي بكر باقتراح من عمر[2]، لكن هذه النسخة بقيت نسخة كنسخ مصحف عمر وابن مسعود وأبي، وكان ذلك بعد وفاة النبي بقليل.

الثالثة: إعداد نسخة رسميّة موحّدة بأمر عثمان (تقريبًا سنة 29) وإعداد مصحف يحتوي على نصّ صامت خالٍ من الحركات والنقط وإرساله إلى المدن الكبيرة[3].

ويرى -كما هو الحال في الروايات الإسلاميّة وعند مشهور العلماء الغربيّين- أنّ القرآن حين وفاة النبي لم يكن مدوّناً بشكل كتاب بين الدفّتين[4]. وما كانت هناك حاجة لأن يكون هناك مصحف مدوّن؛ لأنَّه كتابٌ عباديٌّ، وكانت تقرأ منه بعض الآيات في

(43)

العبادات والأدعية. بل إنَّ كتابة القرآن ككتاب ما كانت ممكنة؛ لأنَّ الوحي كان ما زال في حالة نزول، وكانت الأحكام الشّرعيّة تنسخ في بعض الأحيان، وما كان يكتب آنذاك عبارة عن مذكّرات تساعد الحافظة، وهذا المقدار كان كافيًا. وحينما يعبّر القرآن عن نفسه بأنَّه كتاب، فمعنى ذلك أنَّه كتابٌ عباديٌّ وليس معناه كتاب بالمعنى المتعارف[1].

هارالدموتسكي في مقال مهمّ جدًّا في الدراسات الاستشراقيّة القرآنيّة ناقش آراء الباحثين الغربيّين في روايات جمع القرآن وفق المناهج المعاصرة وتوصّل إلى أنَّ لروايات الجمع الأوّل والثاني جذورًا أقدم ممّا افترضه البحث الغربي[2]، غير أنَّ الروايات المتعلّقة بتدوين المصحف الرسمي على عهد عثمان في المصادر المتقدّمة أقلّ من الروايات الحاكية عن جمع أبي بكر، وأنَّ روايات الجمعين ينتهيان إلى حلقة مشتركة متمثّلة بالزهري، ويمكن أن يكون الزهري ناقلًا لما انتقل عن طريق الأجيال السابقة من خلال رواة أُخر، مثل خارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسالم بن عبد الله بن عمر، لكنَّه من جهة أخرى يؤكّد أنَّه ليس معنى ذلك أنَّ الزهري نقل ذلك عن الرواة المتقدّمين بشكل حرفي، ولا يمكن إثبات أنَّ تلك الأخبار تعود إلى شهود عيان تلك الوقائع بالدقّة، ولا أنَّ ما تحكيه تلك الروايات هو عين الواقع[3].

نويفرت أيضًا تميل إلى النظريّة المشهورة بين أهل السنّة من المسلمين، لكنَّها ترى أنَّ تلك الروايات غير خالية من التوجّهات الخاصّة[4]. وتناقش رأي شوالي كما يأتي بعد قليل[5].

لكنَّ شوالي عندما عمل على كتاب تاريخ القرآن غيّر من الأمر، وذهب إلى أنَّ الروايات التي تدل على جمع القرآن في زمن أبي بكر روايات موضوعة في فترة متأخّرة، الهدف منها إضفاء صفة اعتبار على جمع عثمان الذي جُوبه بالرفض من قبل بعض الفرق الإسلاميّة.

(44)

ويتلخّص رد شوالي لروايات جمع أبي بكر في جهات عدّة:

الجهة الأولى: وهي ربط مسألة جمع القرآن بالشهداء الذين وقعوا في معركة اليمامة (معركة عقرباء)، لخلوّ قائمة قتلى المسلمين من حفظة القرآن، وفي الأساس فإنَّ عدد من تنسب لهم معرفة كهذه في صفوف هؤلاء قليل جدًّا؛ لأنَّ أغلبهم كان حديث عهد بالإسلام. وعلى هذا الأساس ليس من الصحيح ما جاء في تلك الروايات من سقوط عددٍ كبيرٍ من حفظة القرآن في تلك المعركة. على أنَّ وفاة هؤلاء لا يبرّر الخوف على ضياع الوحي؛ لأنَّ النبي اهتمّ في حياته بتثبيت النصّ، بالإضافة إلى وجود أدلّة تشير إلى وجود نسخ متداولة عند بعض المسلمين تختلف من حيث الحجم[1].

الجهة الثانية: كيف يمكن أن تنتقل تلك المجموعة القرآنيّة من عمر إلى ابنته حفصة؛ لأنَّ الوثيقة الرسميّة ذات الصفة العامّة لا تورّث في العادة إلى أي من الأقرباء، ولم تتحوّل إلى نسخة عامّة، ولم تحقق نجاحًا في الوسط الإسلامي مثلما حقّقته نسخة أُبي وعبد الله بن مسعود، وذلك إن دلّ على شيء فإنَّما يدلّ على أن تلك النسخة كانت ملكًا خاصًّا[2].

الجهة الثالثة: إنَّ مدة حكم أبي بكر التي دامت سنتين وشهرين قصيرة بالنسبة لعمل كبير متمثّل بجمع النصوص المتناثرة كما تصفه الروايات، بخاصّة إذا نظرنا إلى أنَّ العمل بدأ بعد معركة اليمامة[3].

ويرجع سبب ذلك التغيير الذي أجراه شوالي -كما يرى موتسكي[4]- إلى شكوك الباحثين الغربيّين في الروايات التي يرجع زمنها إلى عصر النبي الأعظم وصدر الإسلام، تلك الشكوك يعود سببها إلى دراسة جولدزيهر، إذ يرى أنَّ الروايات التي يدعى انتسابها

(45)

إلى الفترة الزمنية المرتبطة بعصر النبي والتأريخ المبكّر للإسلام تعود في الحقيقة إلى النقاشات التي دارت في وقت لاحق في العصر الأموي والعباسي.

3- جمع القرآن في زمن عبد الملك بن مروان[1]

ذهب إلى هذا الرأي المستشرق الفرنسي باول كازانوا[2] وتبعه على ذلك المستشرق البريطاني العراقي الأصل ألفونس مينگنا[3] بإضافات جزئيّة، إذ ذهبا إلى أنَّ روايات الجمع الرسمي للقرآن في زمن عثمان غير معتبرة من الناحية التاريخيّة، ولم يتمّ جمع القرآن ونشره بشكل رسمي قبل خلافة عبد الملك بن مروان، وفي خلافة الأخير تمّ جمع القرآن على يد الحجّاج بن يوسف الثقفي[4].

ويتلخّص رأي مينگنا أنَّ أقدم مصدر لروايات جمع القرآن هو كتاب طبقات ابن سعد، وهذه الروايات  وُلدت في فترة متأخرة عن وفاة النبي بحوالي مئتي سنة، ولا يوجد دليل شفاهي موثّق يمكننا الاعتماد عليه قبل ذلك. ولم ينقل ابن سعد ما يشير إلى جمع عثمان ولا أبي بكر، بل وردت روايات تشير إلى جمع القرآن في زمن النبي وأخرى في زمن عمر، وما يوجد من روايات حول جمع عثمان ورد في منقولات البخاري، وهو متأخر عن ابن سعد بحوالي ربع قرن. يضاف إلى ذلك أنَّ تلك الروايات بحدّ من الاضطراب والتناقض ما لا يمكن للباحث أن يستخرج المعتبر منها. ونتيجة لذلك يبحث مينگنا عن طريق إثبات من خارج النقل الإسلامي، فيبحث في المصادر السريانيّة المسيحيّة؛ بسبب تقدّمها على

(46)

المصادر الإسلاميّة. ويصل إلى نتيجة مؤدّاها عدم وجود إشارات في روايات تلك المصادر عند حديثها عن المسلمين تدلّ على وجود كتاب مقدّس للمسلمين في القرن الأوّل الهجري (القرن السابع الميلادي). وأقدم تلك الإشارات تعود إلى نهاية الربع الأوّل من القرن الثامن الميلادي، وعليه لا يوجد نصّ رسميّ للقرآن قبل القرن السابع الميلادي[1].

ويقول نيكولاي سيناي[2]: أوّل من أثار الجدل حول إمكانيّة الاعتماد على صحّة هذه الرواية التاريخيّة هما باول كازانوا وألفونس مينگنا. وكتبا عام 1911، 1915-1916 بأنَّ جمع القرآن جاء بمبادرة من عبد الملك بن مروان، وأمير العراق آنذاك الحجّاج بن يوسف الثقفي[3]. وفي المقابل ذهب شوالي في تنقيحه لكتاب نُلدكه إلى اعتبار الرواية التاريخيّة التي ترجع جمع القرآن الكريم إلى زمن عثمان بن عفان، وبقيت هذه النظرة هي الحاكمة على الساحة العلميّة حتّى عام 1977 إذ تمّ التشكيك بهذه الرؤية من قبل الأمريكيّة الدانماركيّة الأصل باتريشا كرون[4] والبريطاني مايكل كوك[5]. إذ ذهبا إلى أنَّ القرآن جمع في فترة متأخرة تعود إلى القرن الثامن[6].

4- القرآن لم يجمع قبل نهاية القرن الثاني الهجري

بعد انتشار نزعة الشكّ تجاه الروايات الإسلاميّة والتي تأسّست على يد جولدتسيهر وشاخت، ونضجت على يد باتريشا كرون ومايك كوك، بدأت نظريّات وتحليلات متعددة تبدو في أفق الدراسات القرآنيّة في الغرب، ومن أشهر تلك الآراء وأكثرها تطرّفًا ما ذهب إليه جون وانزبرو[7] من أنَّ القرآن لم يكن مجموعًا قبل نهاية القرن الثاني الهجري، ويرى

(47)

أنَّ القرآن بشكله الفعلي نتيجة روايات مختلفة، والحذف والتكرار فيه بحد لا يمكن أن نقول بأنَّ هذا الكتاب تمّ تأليفه بصورة منظّمة ودقيقة من قبل مؤلّف أو جماعة منظّمة، بل إنَّه حاصل تطوّر روايات مستقلّة عن بعضها عبر مدّة طويلة[1].

وقد وصف الباحث الألماني نيكولاي سيناي كلام وانزبرو بأنَّه مغالطة يسهل ردّها، والتاريخ الذي فرضه وانزبرو واهٍ يتعذّر الدفاع عنه[2].

ثالثًا: تمحيص المدرسة الألمانية للآراء في جمع القرآن

بعد هذه الجولة في الآراء والمناقشات في هذا الموضوع، تبيّن لنا أنَّ المدرسة الألمانيّة ركّزت على الرأي المشهور بين المسلمين، واتّفقت معه أو اقتربت منه في الغالب، لكن ربيبها جولدتسيهر -حيث درس وتعلّم في ألمانيا- وابنها شاخت بنيا أُسسًا لعبت دورًا محوريًّا في تكوّن آراء وتصوّرات مغايرة فيما يرتبط بمسألة جمع القرآن والروايات المتعلّقة به. وبما أنَّ ترجيح رأي على آخر يتطلّب أوّلًا إبطال الرأي المخالف وتقوية الرأي المختار، قدّم المستشرقون الألمان انتقادات عدّة لآراء مستشرقين آخرين على مستوى المناهج والآليّات، الأمر الذي يهمّنا التركيز عليه في هذا المقال.

نبدأ من نقد المدرسة الألمانيّة لنفسها، وهي نقطة مركزيّة في باب التطوّرات التي حدثت على المدرسة الألمانيّة، إذ إنَّها لعبت دورًا مهمًّا في ممارسة النقد الداخلي للاستشراق، فقد جوبهت رؤية شوالي بانتقادات عدّة من قبل باحثين ألمان بارزين في الدّراسات القرآنيّة.

غريغور شولر وجّه لهذه الرؤية انتقادًا بقوله: بعد شوالي ادّعى الباحثون الغربيّون بأنَّ الأخبار المرتبطة بالجمع الأوّل فيها مبالغة وميول إلى تأكيد الجانب الإعجازي للقرآن. والحال أنَّ مجموعة من الروايات تؤكّد هذا الجانب وتدلّ بوضوح على وجود بعض الصفحات،

(48)

والتي تدلّ على الكتابة المستمرّة للسورة الطوليّة، وهذه الأخبار لم يطّلع عليها شوالي[1].

ويضيف شولر: لا يوجد مبرّر لعدم الاعتماد على تلك الروايات، بل من الطبيعي أن نذهب إلى كون الظاهرة الخارقة للعادة، وهي القرآن الذي هو أوّل كتاب فعليّ عربيّ مرتبط بالنبي، وتمّ جمعه في حياة النبي، بخاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار وجود أشخاص كانوا يكتبون الوحي آنذاك[2].

 وفي مجال الحديث عن تاريخ تلك النّصوص وتأثير نزعة جولدتسيهر الشكيّة بشكل عام، يمكننا القول بأنَّها نُقدت من باحثين ألمان عدّة، ويهمّنا هنا المرور بعجالة على رأي غريغور شولر في مسألة تاريخ كتابة المدوّنات والتراث الروائي، فيرى أنَّ تلك النّصوص لا تعود إلى القرن الثاني، ولا يمكننا اعتبار هذا التاريخ تاريخ ولادتها، بل لها أساس شفاهيّ وكتابيّ. فتلك النّصوص وصلت إلى هذه الفترة الزمنيّة من خلال النقل الشفهي والكتابي لها، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار طرق التعليم والدراسة في العصور الإسلاميّة الأولى. وهنا جمع شولر بين أنصار القائلين بالأساس الكتابي للنصوص، والقائلين بالنقل الشفهي لها، حيث ذهب إلى عدم الفصل بين الأمرين، وأنَّ التقليد آنذاك كان قائمًا عليهما[3].

وفي هذا المجال تناول موتسكي تحليل ونقد الآراء التي طُرحت في مسألة جمع القرآن، ويرى: أنَّ نظرية نُلدكه -الموافقة للبحث الإسلامي- ورأي شوالي استمرّا في السيطرة على الساحة الغربيّة حتى جاء شاخت فتغيّر الأمر[4]. إذ ذهب إلى أنَّ الروايات ذات الطابع الفقهي المنسوبة إلى النبي والصحابة هي في واقعها موضوعة، ووضعت في القرن الثاني فما بعد، مقارنة باستنتاجات المسلمين الفقهيّة. وبعد نشر هذا الكتاب أصبحت نزعة الشكّ في الروايات الإسلاميّة هي السائدة في الساحة الغربيّة.

(49)

من جهته صرّح برتون بأنَّ الباحثين الغربيّين أعادوا اعتبار الرواية الإسلاميّة في التاريخ من خلال اعتمادهم على كتاب تاريخ القرآن لنولدكه[1].

ويرى موتسكي أنّ تحليل شوالي رغم أنَّه قائم على تحليل الروايات ومحاولة فرزها لكنَّه تعامل بانتقائيّة، فمثلًا يرى شوالي أنَّ روايات الجمع الأوّل متناقضة فيما بينها، فذهب إلى رفضها وقبول أنَّ مصحف حفصة -الذي شكّل الأساس لمصحف عثمان- ثابت من ناحية تاريخيّة رغم تناقض رواياته، فلماذا يتمّ رفض روايات جمع أبي بكر ويتمّ قبول روايات جمع عثمان، رغم أنَّ الروايات في كلّ واحد من الجمعين متضاربة من وجهة نظر شوالي؟[2].

وينتقد برتون أيضًا، ويرى أنَّه لم يذكر فيما إذا كان هناك مصادر تدلّ على مدّعاه لإثبات مسألة تكامل الروايات في القرن الثالث، ورجّح الاعتماد على مصادر متأخّرة مثل الإتقان في علوم القرآن[3].

كما أنَّه وجّه نقدًا لمينگنا أيضًا، إذ رأى أنَّه يعتمد على الدليل القائم على السكوت، فمثلاً يقول بما أنَّ المصادر المسيحيّة المتقدّمة لم تشر إلى قرآن المسلمين فإذًا لم يوجد آنذاك شيء اسمه قرآن. كما أنَّه يعتمد على رواية عبد المسيح الكندي التي ورد فيها أنَّ القرآن جمع في زمن عبد الملك بن مروان، إذ تشير الروايات إلى أنَّ المصحف الفعلي جمع بأمر الحجّاج وأنَّه حذف جزءاً أساسيًّا منه، ثمّ أمر بإرسال ست نسخ منه إلى الولايات. في حين يحتمل أن تكون هذه الرواية اختصارًا محرّفًا للرواية الإسلاميّة، كما أنَّ تحليله التاريخي للروايات غير صحيح[4].

من حيث تاريخ وجود الرواية في المصادر القديمة، يشير إلى أنَّها ليس كما هو مشهور

(50)

في العالم الغربي من أنَّها متأخّرة، وأقدم مصدر لها هو البخاري المتوفّى 241، بل شهرة هذه الرواية تعود إلى ما قبل القرن الثاني الهجري[1].

وبهذا التحليل أسقط نظريّة وانزبرو وبرتون؛ لأنهما يذهبان إلى أنَّ تلك الروايات لا يمكن أن تعود إلى ما قبل القرن الثاني الهجري. إلا أن يقال إنّ تلك الرّوايات وضعت على أيدي التلامذة المتأخّرين ونسبوها إلى شخصيّات معروفة، وهذا ما أجاب به وانزبرو بالفعل[2].

يصل موتسكي بعد التحليل السندي والنصّي لروايات جمع القرآن إلى نتيجة مؤدّاها أنَّ رواية الجمعين والتي تلقّاها علماء الإسلام بالقبول تعود إلى الزهري، ويمكن أن نحدّد تاريخها بالربع الأوّل من القرن الثاني الهجري، وعلى ذلك تكون وفاة الزهري النهاية الزمانيّة لهذه الرواية[3].

لكن هل هذا هو الكلام الفصل؟ يعود موتسكي من جديد ليقول إنَّه وفقًا لتحليل شاخت فإنَّ الحلقة المشتركة في الروايات[4] هو الزهري، وعليه يعتبر هو من جاء بها، لكن موتسكي يرى أنَّه من الممكن أن يكون هو من أوائل المدوّنين للأحاديث بشكل منظّم ومرتّب، ولا يمكن رفض روايات لمجرّد وجود الحلقة المشتركة ما لم تقم قرائن على وجود أغراضٍ خاصّة تدعو للوضع[5].

ثم يُقيّم بعض القرائن فيقول: لا يوجد دليل يدلّ على أنّه لم يسمع الروايات من تابعين أقل شهرة، مثل عبيد بن سباق، وعبيد بدوره لم يسمع من أنس بن مالك. ويؤيد ذلك أيضًا أنَّ روايات الزهري الأخرى في باب جمع القرآن فيها إضافات وبعض

(51)

الاختلافات أيضًا، وجاء في سندها بأنَّه روى تلك الروايات وأخذها عن رواة آخرين، مثل: خارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعلى هذا الأساس فالرواية انتقلت إليه من جيل سابق، وإذا اعتبرنا وفاة أنس الأساس التاريخي فإنَّ هذه الروايات لا بدّ أن يعود تاريخها إلى العقود الأخيرة من القرن الأوّل الهجري[1].

وهذه الرؤية تقترب من رأي شولر الذي يرى بأنَّ الرابط المشترك أو الحلقة المشتركة في السند لا تعني بالضرورة نشأة وضع الحديث أو الرواية منها[2].

غير أنَّ الباحث الهولندي غوتير يوينبل[3] يرى أنَّ الأصل التاريخي للروايتين محل خلاف من وجهة نظر الباحثين المحايدين[4].

رابعًا: كلمة أخيرة في روايات جمع القرآن

يرى غوتير يوينبل أنَّ روايات جمع القرآن رغم تلقّيها من قبل الباحثين المسلمين بإيجابيّة، إلا أنَّهم بشكل عامّ لم يخضعوها لبحث دقيق، يقول في هذا المجال: تمّ الاعتماد على روايات جمع القرآن في عهد أبي بكر وعثمان بلا نقد جاد، وأُخذت أخذ المسلّمات[5].

لكنَّ الحقَّ أنَّ هذه الكلمة فيها مسامحة؛ لأنَّ جملة من علماء الإسلام وقفوا عند هذه الروايات وقفة متأمّل، فالسيّد الخوئي -مثلًا- وتلميذه الشهيد الصدر وقفا موقف الناقد لها، وانتهيا إلى عدم ثبوتها من الناحية العلميّة كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك في بداية البحث[6]. وهذا يعني عدم اطّلاع الباحثين الغربيّين على التراث الشيعي بشكل عامّ، وما قدّمه الشيعة في التراث القرآني بشكل خاصّ. الأمر الذي يشكّل نقطة فراغ في أعمال المستشرقين العلميّة.

(52)

والنقطة التي انتهى إليها البحث الألماني والغربي عموماً هي مسألة انتهاء هذه الروايات إلى فرد واحد وهو الزهري، لذا لا بدّ من التأمّل في هذه الروايات، ويمكن أن نختصر تلك التأمّلات فيما يلي:

- إنَّ حدثًا مهمًّا كجمع القرآن لا يعقل أن يرويه راوٍ واحد في طبقة معيّنة، بل لا بدّ من أن يكون مشهورًا أو على الأقل عدم انحصاره في شخص واحد.

- لا يمكن أن ينعدم احتمال الغرض الخاصّ في هذه الروايات، فمحمّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري معروف بعلاقته وقربه من الأمويين وارتباطه بهم[1]، وعليه يمكن أن يدّعي أنَّه وضع ما قيل في جمع القرآن ليثبت بذلك منقبة للخلفاء الثلاثة، وبخاصّة أنَّ الجهاز الحاكم آنذاك كانت سياسته قائمة على حشد الفضائل في ذلك الاتّجاه. وممّا يؤكّد هذا التشكيك أنَّ السلسلة تصل إلى الزهري وهو الراوي الوحيد للحادثة. وأما ما ذكره موتسكي من قرائن فلا يمكن الاستناد إليها؛ لأنَّه لم يحل مشكلة الزهري.

- لو فرضنا أنَّه لم يكن السند ولا المتن موضوعين، فلا يمكن إثبات قضيّة تاريخيّة بهذا الحجم من خلال طريق كهذا، وبخاصّة إذا عرفنا أنَّ الزهري روى روايات أخرى بتفرّد، ولم ترو عن طريق غيره[2].

- وبذلك نصل إلى رأي السيّد الخوئي والسيّد الشهيد الصدر من أنَّ جمع القرآن الكريم تمّ في زمن النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهذا لا يعني التشكيك أو رفض التراث الروائي في هذا المجال، بل التعامل مع الروايات والنصوص القرآنيّة تعاملًا علميًّا كما هو المعمول به في أبواب علميّة أُخرى، وترجيح الروايات والنّصوص التاريخيّة الدالّة على إكمال جمع القرآن الكريم قبل رحيل منقذ البشرية عليه وآله آلاف التحية والثناء. يصرّح السيّد الخوئي بقوله: وإنَّ المتصفّح لأحوال الصحابة، وأحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يحصل له العلم اليقين بأنَّ القرآن كان مجموعًا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنَّ عدد الجامعين له لا يستهان به[3].

(53)

خامسًا: جمعُ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام :

أ. واقع الجمع: وكذلك غاب بشكلٍ كاملٍ عن دراسات المستشرقين ذكر الروايات التي تتحدّث عن جمع الإمام علي عليه‌السلام  للقرآن، إذ كان عليه‌السلام أوَّل مَن تصدّى لجمْع القرآن بعد رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة وبوصيّةٍ منه، حيث جلس في بيته مشتغلًا بجمْع القرآن وترتيبه وفق نزوله، مع إضافة شروحات وتفاسير لمواضع مبهمة من الآيات، وبيان أسباب النزول ومواقع النزول والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ...، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام:  قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام : يا عليّ، القرآن خلف فِراشي في الصحُف والحرير والقراطيس، فخُذوه واجمَعوه ولا تضيِّعوه، كما ضيّعت اليهود التوراة، فانطلق علي عليه‌السلام ، فجمعه في ثوب أصفر، ثمّ ختم عليه في بيته، وقال: لا أرتدي حتى أجمعه، فإنّه كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء؛ حتّى جمعه. قال: وقال رسول الله: لو أنّ الناس قرأوا القرآن كما أنزل الله ما اختلف اثنان[1].

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : «ما من أحد من الناس يقول إنَّه جَمع القرآن كلَّه كما أنزلَ الله إلاّ كذّاب، وما جمَعه وما حَفظه كما أنزل الله إلاّ عليّ بن أبي طالب[2]».

وروى محمَّد بن سيرين عن عكرمة، قال: لمّا كان بدْء خلافة أبي بكر، قعَد عليّ بن أبي طالب في بيته يجمع القرآن، قال: قلت لعكرمة: هل كان تأليف غيره كما أُنزل الأوَّل فالأوَّل؟ قال: لو اجتمعت الإنس والجنُّ على أن يؤلِّفوه هذا التأليف ما استطاعوا. قال ابن سيرين: تطلَّبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة، فلم أقدر عليه[3].

وقال ابن جزي: كان القرآن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مفرَّقًا في الصّحُف وفي صدور الرجال، فلمّا توفّي جَمَعه عليّ بن أبي طالب على ترتيب نزوله، ولو وجِد مصحفه لكان فيه عِلم كبير، ولكنَّه لم يوجد[4].

ب. خصائص الجمع: يمتاز المصحف الذي جمعه الإمام علي عليه‌السلام عن سائر

(54)

المصاحف التي جمعها الصحابة بمميّزات عدّة، أبرزها:

- ترتيب سوره على أساس ترتيب نزول القرآن.

- إثبات النصّ القرآني من دون نقص أو زيادة.

- إثبات قراءته وفق قراءة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

- اشتماله على شروحات وتوضيحات جانبيّة على هامش النصّ القرآني، تعرّض فيها لبيان مناسَبات النزول، ومكان النزول، ومصاديق مَنْ نزلت فيهم، وفي مَنْ تجري، وعلى مَنْ تنطبق، وبيان المحكم والمتشابه من الآيات، وناسخها ومنسوخها، وظاهرها وباطنها، وتنزيلها وتأويلها...

عن الأصبغ بن نباتة، قال: قَدِم أمير المؤمنين عليه‌السلام الكوفة، صلَّى بهم أربعين صباحًا يقرأ بهم (سبّح اسم ربِّك الأعلى) [1]، فقال المنافقون: لا والله ما يُحسن ابن أبي طالب أن يقرأ القرآن، ولو أحسن أن يقرأ القرآن لقرأ بنا غير هذه السورة! قال: فبلَغ ذلك عليًّا عليه‌السلام فقال: «ويلٌ لهم، إنّي لأعرِفُ ناسِخه من منسوخه، ومحكَمه من متشابهه، وفصْله من فِصاله، وحروفه من معانيه، والله ما من حرفٍ نزل على محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أنّي أعرف في مَنْ أُنزل، وفي أيِّ يوم وفي أيِّ موضع، ويلٌ لهم أما يقرأون: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)[2]؟ والله عندي، ورثتهما من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وقد أنهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من إبراهيم وموسى عليهما‌السلام . ويلٌ لهم، والله أنا الذي أنزلَ الله فيَّ: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [3]، فإنَّما كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيُخبرنا بالوحي، فأعيَه أنا ومَن يعيَه، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفًا[4]؟».

وعن سليم بن قيس الهلالي: سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول: «ما نزلت آية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أقرأَنيها وأمْلاها عليَّ، فأكتبها بخطّي، وعلَّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومُحكَمها ومتشابهها، ودعا الله لي أن يعلِّمني فهْمها وحِفظها، فما

(55)

نسيت آية من كتاب الله، ولا عِلمًا أملاه عليّ فكتبته منذ دعا لي ما دعا، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علم أملاه عليّ فكتبته منذ دعا لي بما دعا، وما ترك شيئًا علّمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهى كان أو لا يكون من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته، فلم أنس منه حرفًا واحدًا، ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكمة ونورًا لم أنس شيئًا، ولم يفتني شيء لم أكتبه»[1].

ج. مصير الجمع:

روى سُليم بن قيس الهلالي عن سلمان الفارسي رضي‌الله‌عنه ، قال: لمّا رأى أمير المؤمنين عليه‌السلام غَدْر الناس به لزِم بيته، وأقبل على القرآن يؤلِّفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتّى جمَعَه، وكان في الصحُف، والشظاظ[2]، والأسيار[3]، والرقاع وبعثَ القوم إليه ليبايع، فاعتذر باشتغاله بجمْع القرآن، فسكتوا عنه أيّامًا حتّى جمعه في ثوب واحد وختَمه، ثمَّ خرج إلى الناس -وروى بعضهم أنّه أتى به يحمله على جمل[4]- وهم مجتمعون حول في المسجد، وخاطبهم قائلًا: «إنّي لم أزل منذ قُبِضَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مشغولًا بغُسله وتجهيزه، ثمَّ بالقرآن حتّى جمَعته كلَّه في هذا الثوب الواحد، ولم يُنزِل الله على نبيِّه آية من القرآن إلاّ وقد جمعتها، وليس منه آية إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلَّمني تأويلها؛ لئلاّ تقولوا غدًا: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) !» فقام إليه رجُل من كِبار القوم، فقال: يا عليّ، اردُده فلا حاجة لنا فيه، ما أغنانا بما معَنا من القرآن عمّا تدعونا إليه، فدخل عليّ عليه‌السلام بيته[5].

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : «أخرجه علي عليه‌السلام [أي القرآن] إلى الناس حين فرغ منه وكتبه، فقال لهم: هذا كتاب الله عزّ وجلّ كما أنزله [الله] على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وقد جمعته من اللوحين، فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه، فقال: أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبدًا، إنّما كان علي أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه[6]».

(56)

خاتمة

أبدت المدرسة الألمانيّة في الدّراسات القرآنيّة جهدًا واضحًا في نقد الاستشراق من الداخل، وتُعتبر هذه النقطة -النقد الداخلي للاستشراق- نافذةً للدراسات الجادّة للنظريّات والآراء التي سادت في الدراسات الاستشراقيّة. ويمكن تطوير حركة النّقد العلمي هذه إلى مناهج وأسس علميّة من خلال تقويم عملية النقد وإرجاعها إلى حوار مشترك. فلا توجد ضرورة في دراسة آراء الباحثين الغربيّين تفرض نقد آرائهم من منطلقاتنا ومناهجنا التي اعتدنا عليها في البحث الداخلي الإسلامي، بل يمكن الانطلاق من أسسٍ علميّةٍ تؤدّي إلى نتائج رصينةٍ، ولكن تنتهج أُسسًا ومناهج أخرى. وهذا ما تحتاجه الساحة العلميّة في الحركة الفكريّة المعاصرة.

تؤمن المدرسة الاستشراقيّة الألمانيّة بأنَّ القرآن تمّ جمعه بعد زمن النبي، وتعتمد في ذلك النظريّة المشهورة بين المسلمين بأنَّ القرآن جمع في زمن الخلفاء الثلاثة، وناقشت الآراء التي ترى بأنَّ القرآن الكريم تمّ جمعه في فترةٍ متأخّرةٍ عن ذلك. هي صاحبة قدم السّبق في مجال تأريخ القرآن، إذ اهتمّ كلّ من فايل ونُلدكه وشوالي وموتسكي ونويفرت بهذا الجانب.

تتلخّص أهمّ نقطة ضعف في البحث الألماني في مجال تاريخ القرآن بإهمال الاهتمام الشيعي في دراسة روايات جمع القرآن، وعدم الوقوف عند مسألة جمع القرآن في زمن النبي بشكل جديّ.

دلّت مجموعة من الأدلّة على أنَّ القرآن قد جمع في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

تؤكّد مجموعة من الروايات من مصادر متعدّدة على أنَّ الإمام علي عليه‌السلام لم يخرج من بيته بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى جمع القرآن الكريم.

 

(57)

لائحة المصادر والمراجع

أوّلًا: المصادر والمراجع العربيّة

1- ابن جزي، محمد بن أحمد: التسهيل لعلوم التنزيل، تحقيق: عبد الله الخالدي، لاط، بيروت، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، لات.

2- الزركشي، بدر الدين: البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، لام، دار إحياء الكتب العربيّة؛ عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، 1376هـ.ق/ 1957م.

3- العيّاشي، محمد بن مسعود: تفسير العيّاشي، تحقيق وتصحيح وتعليق: هاشم الرسولي المحلاتي، لاط، طهران، المكتبة العلميّة الإسلاميّة، لات.

4- الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، ط4، طهران، دار الكتب الإسلاميّة؛ مطبعة حيدري، 1365هـ.ش.

5- الهلالي، سليم بن قيس: كتاب سليم بن قيس، تحقيق: محمد باقر الأنصاري الزنجاني، ط1، إيران، نشر دليل ما؛ مطبعة نگارش، 1422هـ.ق/ 1380هـ.ش.

6- اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب: تاريخ اليعقوبي، لاط، بيروت، دار صادر، لات.

7- معرفة، محمد هادي: التمهيد في علوم القرآن، ط3، قم المقدّسة، مؤسّسة التمهيد؛ مطبعة ستاره، 1432هـ.ق/ 2011م.

8- الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.

9- الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، أنوار الهدى، قم المقدّسة.

10- الحكيم، محمد باقر، علوم القرآن، مجمع الفكر الإسلامي، قم المقدّسة، 1417.

11- العاملي، جعفر مرتضى، حقائق هامّة حول القرآن الكريم، دار الصفوة، لبنان، 1992.

12- مجلّة علوم الحديث، العدد 5، السنة الثالثة، 1420.

(58)

ثانيًا: المراجع الفارسيّة

1- مجله تاريخ وتمدن إسلامي، دوره 8، شماره 1 (پیاپی 15 بهار وتابستان 1391).

2- گریگور شولر، شفاهي ومكتوب در نخستين سدهاي إسلامي، ترجمه نصرت نيل ساز.

ثالثًا: المراجع الإنجليزيّة والألمانيّة

1- Burton, John, The Collection of The Quran, COMbridge University Press, 1979.

2- Encyclopaediaof the Qurān General Editor Jane Dammen McAuliffe, Georgetown University, Washington DC. Leiden 2001.

3- Harald Motzki, The collection of the Quran a Reconsideration of western Views in Light of Recent Methodological Developments, in: Der Islam 78 (2001).

4- Nicolai Sinai,when did the consonantal skeleton of the Quran reach closure, in: Bulletin of the School of Oriental and African Studies 2014 / Vol. 06.

5- Grundriß der arabischen Philologie. Literaturwissenschaft. Hg. Helmut Gätje. Wiesbaden: Reichert, 1987.

6- J. wansbrough, Quranic Studies, Foreword, Translations, and Expanded Notes by ANDREW RlPPIN, Prometheus, Prometheus Books, 2004.

7- Neuwirth, Angelika: Der Koran als Text der Spätantike. Ein europäischer Zugang. Berlin: Verlag der Weltreligionen, 2010.

(59)

8- Nöldek, Theodor, Geschichte des Qorâns. Göttingen,Verlag der Dieterichschen Buchhandlung, 1860.

9- Weil,Gotthold, Festschrift Eduard Sachau; zum siebzigsten Geburtstage gewidmet von Freunden und Schülern, Berlin 1915.

10- The Muslim World, 1917, Vol. 7.

(60)

قراءةٌ نقديَّةٌ تاريخيَّةٌ حول دراسة الاستشراق الألمانيِّ

د. فاطمة عبُّود[1]

ملخَّص البحث

ظهرت في الغرب حركاتٌ فكريةٌ وفلسفيَّةٌ توجَّهت نحو حضارات الشَّرق وعلومه، وكان الهدف من ورائها دراسة تلك الحضارات والبحث فيما طرحته من علومٍ، وخاصَّة دراسة الأديان والتعرُّف على العلوم الدينيَّة والإسلاميَّة، ومهما حاولت حركات الاستشراق أن تظهر بمظهرٍ إيجابيٍّ فاعلٍ، فإنَّ النَّاظر المتمعِّن فيما قدَّمه المستشرقون من نتاجٍ عبر سنواتٍ طويلةٍ يؤكِّد حقيقةً واحدةً، وهي الرَّغبة الجامحة في السَّيطرة على هذا الشَّرق بكلِّ ما فيه، وبأيِّ وسيلةٍ كانت، بل ومحاولة بثِّ الشَّك وزرع الرَّيبة في نفوس المسلمين من خلال إثارة قضايا إشكاليَّة تمسُّ الدِّين والعقيدة الإسلاميَّة.

ويعدُّ الاستشراق الألمانيَّ امتدادًا لغيره من مدارس الاستشراق التي سعت للتعرُّف على حضارات المشرق ومقارنتها بالحضارة الغربيَّة؛ إذ أسهمت بشكلٍ واضحٍ بالانفتاح المعرفيِّ الذي حدث بين الشَّرق والغرب، وقد حظيت هذه الحركة في بداياتها بدعم السُّلطة السِّياسيَّة المتمثِّلة بالكنيسة التي وفَّرت الدَّعم الماديَّ والمعنويَّ للمستشرقين في ألمانيا، فقامت بافتتاح فروعٍ في جامعاتها ومعاهدها لدراسة اللُّغة العربيَّة، التي تعدُّ البوابة الرئيسة التي ينفذ منها المستشرقون لدراسة القرآن وعلومه وغيرها من المعارف، التي وجدوا أنَّها قادرةٌ على المساهمة في نهضة الغرب وحمايته من تسلُّل الدِّين الإسلاميِّ إلى عقول أبنائه وأفئدتهم.

(61)

ولم تكن العلوم الدِّينيّة واللغويَّة هي الغاية الوحيدة التي وضعها المستشرقون الألمان نصب أعينهم، فمع تقدُّم الوقت سعى المستشرقون إلى توسيع نشاطاتهم، فقاموا بجمع المخطوطات وتحقيقها وفهرستها، واهتمُّوا بدراسة جغرافيا الشَّرق وتاريخه وواقعه السِّياسيِّ والاجتماعيِّ لاستكمال السَّيطرة المعرفيَّة على المنطقة بأكملها.

توطئة حول مفهوم الاستشراق الألمانيِّ

شكَّلت الحروب الصليبيَّة انعكاسًا فكريًّا أثَّر في الذهنيَّة العامَّة للمجتمع الألمانيِّ، فقد لفتت تلك الحروب أنظار الألمان إلى أهميَّة الشَّرق، وفتحت البوابة التي نبَّهت على أهميَّة العالم الإسلاميِّ، وعلى ضرورة دراسته، إذ كانت صلة الوصل بين الشَّرق والغرب، أو بين الإسلام  والمسيحيَّة.

ولم يكن الاستشراق الألمانيُّ السَّبّاق في هذا المجال؛ إذ كانت فرنسا وإنكلترا السبَّاقتين في سبر أغوار هذا العالم، والاهتمام به، وقد ترجموا هذا الاهتمام من خلال السَّيطرة على هذا العالم والهيمنة عليه، وممَّا زاد في اهتمام ألمانيا بالشَّرق علاقتها الوثيقة، ذات الطَّابع الاستراتيجيِّ، مع الدَّولة العثمانيَّة، والتي كانت تعدُّ الإمبراطورية الإسلاميَّة في ذلك الوقت.

ترجمت ألمانيا اهتمامها بالعالم الإسلاميِّ عبر افتتاح أقسامٍ في جامعاتها لدراسة الدِّين الإسلاميِّ، ومذاهبه وتيّاراته المختلفة، كما عملت على دراسة اللُّغة العربيَّة والتعمُّق فيها، إضافةً إلى ما أنشأته من مراكز للأبحاث أظهرت من خلالها اهتمامها بالشَّرق الإسلاميِّ، ولم تكن تلك الدِّراسات الاستشراقيَّة تتحلَّى بالموضوعيَّة البحتة، إنَّما كانت تخفي غاياتٍ أيديولوجيَّةً تستهدف الإسلام والمسلمين، وتسعى إلى إحداث خللٍ في الموروث الدينيِّ، وإلى التشكيك في صحَّة العقائد ودقَّتها. فالاستشراق في عمقه «أسلوبٌ غربيٌّ للهيمنة على الشَّرق وإعادة صياغته وتشكيله فكريًّا وسياسيًّا وممارسة السُّلطة عليه»[1]، سواءٌ بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.

(62)

أطلَّ الغرب على العالم الإسلاميِّ، بما أُتيح له من فرصٍ، وتعرَّف على حضارته ودينه (الإسلاميِّ)، فكان لا بدَّ من التَّوجه نحو الشَّرق لدراسته بكامل ظروفه السِّياسيّة وتحوُّلاته الاجتماعيّة ودراسة البنية السِّيكولوجيَّة للمسلمين، بهدف فهم الدِّين الإسلاميِّ بشكله الصَّحيح ليتمكّنوا من التَّهجم على هذا الدِّين، وإقناع أتباعه بالتَّخلي عنه، ولا يكون ذلك إلَّا بالفهم الصَّحيح للدِّين وللغة العربيَّة التي انتشر بها هذا الدِّين، والتي كانت لغة العلم والحضارة آنذاك.

وقد استطاع المستشرقون الألمان بما قدَّموه من نتاجٍ ضخمٍ وغنيٍّ أن يتركوا أثراً لا بدَّ من تسليط الضَّوء عليه لمعرفة الاستراتيجيّة التي انتهجتها الذهنيَّة الألمانيَّة عبر مستشرقيها والتي تجلَّت بما خلَّفوه من آثار تظهر بمظهر الدَّاعم للثقافة الإسلاميَّة، وتخفي في باطنها العداء للإسلام والمسلمين، كلُّ ذلك يمهَّد للانتقال لدراسة الاستشراق الألمانيِّ من حيث دوافعه وتسليط الضَّوء على أهمِّ روَّاده وما خلَّفوه من آثار، ومناقشة النتاج الاستشراقيِّ الألمانيِّ بالنَّقد الموضوعيِّ الممنهج.

أوَّلًا: دوافع الاستشراق الألمانيِّ وخصائصه

لا شكَّ أنَّ ثمَّة دوافع كثيرةٌ تحرَّك الاستشراق وتوجِّهه لتتحوَّل تلك التَّوجهات لنشاطاتٍ معظمها يستهدف الدِّين الإسلاميَّ والمسلمين، وقد تنوَّعت تلك الدَّوافع إلَّا أنَّها في النَّهاية جميعها تصبُّ في بوتقةٍ واحدةٍ، وسنتعرَّض في هذه الدِّراسة لأهمِّ تلك الدَّوافع، ومعرفة الغايات التي يستهدفها الاستشراق الألمانيُّ من ورائها.

الدافع الديني: يمثِّل الدَّافع الدِّينيُّ المحرِّك الأساسيَّ للاستشراق بشكلٍ عامٍّ، والاستشراق الألمانيّ بشكلٍ خاصٍّ، فالآثار النّفسيَّة التي تركتها الحروب الصَّليبيَّة في نفسيَّة الشُّعوب الأوروبيَّة التي كانت ترسل مقاتليها إلى الشَّرق الإسلاميِّ قاد إلى قيام حركة إصلاحٍ دينيٍّ في الديانة المسيحيَّة ما لبثت أن اتَّسعت لتصل إلى الدِّين الإسلاميِّ ولغة القرآن العربيَّة، وقد شجَّعت الكنائس التي كانت تمثِّل السُّلطة الدِّينيَّة والسياسيَّة في أوروبا آنذاك إلى توسيع حركة الاستشراق مستغلّةً هيمنتها على الحياة السياسيَّة والدينيَّة وتوجيهها للحياة الفكريَّة الثقافيَّة، فقد استغلَّت الكنيسة هذه السُّلطة لدعم الأبحاث والدِّراسات

(63)

الاستشراقيَّة، بهدف تشويه الإسلام، وطمس معالمه الدينيَّة الحقيقيَّة، إذ كان هدفهم أن «يطعنوا في الإسلام، ويشوِّهوا محاسنه، ويحرِّفوا حقائقه، ليثبتوا لجماهيرهم التي تخضع لزعامتهم أنَّ الإسلام دينٌ لا يستحقُّ الانتشار، وأنَّ المسلمين قومٌ همجٌ لصوصٌ وسافكو دماء، يحثُّهم دينهم على الملذَّات الجسديَّة ويبعدهم عن كلِّ سموٍّ روحيٍّ وخلقيٍّ»[1]، فقد كانوا يخشون من انتشار الدِّين الإسلاميِّ في أوروبا واعتناق المسيحيين الأوربيين له، لا سيَّما أنَّهم باتوا على تماسٍ مع المسلمين في الشَّرق العربيِّ (الحروب الصليبيَّة) من جهةٍ، والحضارة الإسلاميَّة في الأندلس من جهةٍ أخرى، الأمر الذي دفع البابا شخصيًّا إلى تمويل مدارس الاستشراق التي تسعى إلى تشويه صورة الإسلام.

الدافع العقائدي: كما أنَّ للاستشراق دوافع أخرى سعت من خلالها لتنفيذ مخطّطاتها التي لم تكن عفو الخاطر، ونذكر من هذه الدَّوافع الدَّافع العقائديَّ، فمن المعلوم أنَّ الحالة السَّائدة بين أوروبا الكنسيَّة (المسيحيَّة) وبين الشَّرق العربيِّ (الإسلاميِّ) هي حالة صراعٍ عقائديٍّ مستمرٍّ له أسسه التاريخيَّة منذ عهد الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، ممَّا دفع إلى تشجيع الحركات الاستشراقيَّة؛ وذلك لأنَّ الأيديولوجيات الفكريَّة تنبثق في أصلها من العقائد، والفكر لا يُمكن أن يُجابه أو يُحارب إلَّا بالفكر، والاستشراق فكرٌ أيديولوجيٌّ يحتوي على منهجيَّةٍ علميَّةٍ -إلى حدٍّ ما- ولذلك فإنَّه أصبح أداةً يستخدمها الاستشراق الألمانيُّ لمحاربة الفكر الدينيِّ الإسلاميِّ. إنَّ توجه الاستشراق الألمانيِّ لمحاربة الدِّين الإسلاميِّ من خلال الصِّراع الفكريِّ العقائديِّ، كان أسلوبًا مغايرًا لأسلوب المواجهة العسكريَّة المباشرة، لذلك كان تأثير هذا الاستشراق أشدُّ عمقاً وفاعليَّة، إذ إنَّ محاولة خلخلة البنية العميقة للدِّين أكثر قدرةً على بثِّ الشكِّ في العقيدة، وهذا دليلٌ على خطورة ما يواجهه الإسلام من حربٍ خفيةٍ ذات منطلقاتٍ فكريَّةٍ أيديولوجيَّةٍ.

عمل الاستشراق بمدارسه المنتشرة في ألمانيا لنقل ماهيَّة التُّراث والحضارة الإسلاميَّة إلى الغرب، فهو بهذا المعنى «قوَّةٌ معرفيَّةٌ ذات بعدٍ استراتيجيٍّ تزوِّد الثقافة الغربيَّة والمؤسَّسات السِّياسيَّة برصيدٍ معرفيٍّ عن الآخر الشَّرقيِّ، ممَّا يسهِّل احتواءه، ويحدِّد سبل

(64)

التَّعامل معه حاضرًا ومستقبلًا، سلبًا وإيجابًا»[1]، أي إنَّه يهدف إلى التَّفوق على المسلمين بعد احتوائهم والسَّيطرة عليهم، علميًّا لا عسكريًّا، فيكون الاستشراق بمدارسه المختلفة والمدرسة الألمانيَّة على وجه الخصوص محاولةً لدراسة التُّراث الإسلاميِّ والرُّقي بالعالم الأوروبيِّ (المسيحيِّ) ليتفوَّق على الإسلام وتراثه وحضارته.

السيطرة على الشرق: كما أنَّ للأسباب التَّاريخيَّة الاستعماريَّة علاقةً قويَّةً بدوافع الاستشراق الألماني، فالتَّاريخ الأوروبيُّ (المسيحيُّ) مليء بمحاولات السَّيطرة على الشَّرق (الإسلاميِّ) فمن الحروب البيزنطيَّة إلى الحروب الصَّليبيَّة إلى الهجمات الاستعماريَّة الأوروبيَّة في العصر الحديث، كلُّ تلك المحاولات تُظهر بشكلٍ جليٍّ الأطماع الغربيَّة-الألمانيَّة في البلاد العربيَّة الإسلاميَّة، وقد حرَّضت المدرسة الاستشراقيَّة الألمانيَّة لدراسة بلاد الشَّرق بغية إضعاف مقاومتها الرُّوحيَّة والمعنويَّة، وإيصال شعوب الشَّرق إلى التَّشكيك بتراثهم وثقافتهم بهدف السَّيطرة عليهم، والانتقام من الحضارة الإسلاميَّة، وتراثها الفكريِّ، وعلومها، وفلسفتها التي قد أخذ منها الغرب ذاته، دون أن يعترف بذلك، بل ذهب للقول إنَّ هذه العلوم نقلتها الحضارة الإسلاميَّة عن اليونانيين أو عن الحضارة اليونانيَّة لئلّا يذكروا فضلًا للمسلمين.

الدافع الاقتصادي: ويبقى الدَّافع الذي يعدُّ دافعًا جوهريًّا للاستشراق، ويرتبط بشكلٍ وثيقٍ مع كافَّة الدَّوافع الأخرى هو الدَّافع الاقتصاديُّ، وهو دافعٌ مضمرٌ تارةً وجليٌّ تارةٌ أخرى، فالعالم الإسلاميُّ يملك ثرواتٍ طبيعيَّةً هائلةً بحكم موقعه الجغرافيِّ وطبيعته المناخيَّة التي جعلت منه محطَّ أطماع عبر التَّاريخ، لذلك فكان الاستعمار قديمًا وحديثًا يهدف إلى ترويج بضائعه، وجعل الشَّرق سوقاً استهلاكيًّا لها، مقابل سرقة خيراته، والاستيلاء على المواد الأوليَّة التي تحتاجها الصِّناعة الأوروبيَّة، فإضعاف الشَّرق اقتصاديًّا سيقود إلى تسهيل السَّيطرة عليه والتَّحكم به أيديولوجيًّا، ممَّا يجعل الفكر الاستشراقيَّ فكراً مقبولاً في العالم الإسلاميِّ وبين المسلمين.

(65)

إنَّ معرفة الدَّوافع التي حَدَت بالاستشراق الألمانيِّ لبذل جهوده وتكريسها لدراسة الشَّرق، حضارةً ودينًا ولغةً، جعلتنا نستشفُّ بعض الخصائص التي ميَّزت هذا الاستشراق عن غيره من المدارس الاستشراقيَّة الغربيَّة، لقد حاولت ألمانيا قديمًا الوصول إلى الشَّرق، ولم تترك في سبيل ذلك وسيلةً إلا ولجأت إليها، فشاركت بالحروب الصَّليبية، لعلَّها تروي ظمأها الاستعماريَّ المتأصِّل فيها، ولكنَّها لم تحقِّق ما تصبو إليه من غايات، لذلك لجأت إلى العلاقة الاستراتيجيَّة التي تربطها بالدَّولة العثمانيَّة رغبةً منها في تحقيق أطماعها في الشَّرق الغنيِّ من حيث الحضارة والموقع والثروات التي يمتلكها، فكانت تُظهر الودَّ في علاقاتها تلك، ولكنَّها في الوقت ذاته تخفي أهدافها الحقيقيَّة المتمثِّلة برغبتها التَّنصيريَّة، وهذا ما يفسِّر إنشاء عددٍ من المعاهد الاستشراقيَّة التي تظهر بشكلها العلميِّ وتعمل بشكلٍ خفيٍّ على نشر رسالتها التبشيريَّة في الشَّرق، وذلك عندما سنحت لها الفرصة في الوصول إليه. لقد امتاز الاستشراق الألمانيُّ عن غيره من مدارس الاستشراق بتعدُّد مجالاته واتِّساعها، فقد تناول في أبحاثه العلوم الإنسانيَّة والتطبيقيَّة، ووصل إلى البحث في أسس عقائده، وأعدَّ الدِّراسات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي تؤكِّد عدم صفاء نواياه تجاه الشَّرق وخاصَّة الدِّين الإسلاميِّ والمسلمين.

ثانيًا: أهمُّ المستشرقين الألمان ونقد إنجازاتهم

يقف خلف الاستشراق الألمانيِّ الذي تميَّز باندفاعه نحو الشَّرق، ودراسة العالم الإسلاميِّ، بدءاً من اللُّغة، ومرورًا بعلوم الدِّين والقرآن، ووصولًا إلى دراسة الحضارات المشرقيَّة والعلوم الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، مجموعةٌ كبيرةٌ من المستشرقين الذين برزت أسماؤهم مصاحبةً لما بذلوه من جهودٍ كانت لها غاياتٌ مختلفةٌ، كلٌّ حسب توجُّهه وانتمائه، ونذكر أبرزهم على سبيل المثال لا الحصر، لنقف على ما قدَّموه من نتاجٍ فكريٍّ طال الشَّرق بعلومه الإسلاميَّة وبنيته الاجتماعيَّة، ونتحرَّى غايات هذا النتاج الذي استغرق قرونًا عدَّة استمرَّت حتَّى عصرنا الحاضر.

ولعلَّ الرَّاهب الألمانيَّ دومينكوس جرمانوس (Germanus) (1505م-1567م) قد

(66)

أبدع في تعلُّم اللُّغات الشَّرقيَّة، ولا سيَّما العبريَّة والعربيَّة، «فقد تكبَّد عناء السَّفر إلى فلسطين لتعلُّم اللغة العربية ومن ثمَّ قام بتدريسها لطلاب الكليَّة التبشريَّة في روما، وقام بتأليف كتاب في نحو اللُّغة العربية باللهجة العاميَّة، ومن ثمَّ توسّع فيه بعد سنوات ليصبح معجمًا عربيًّا - لاتينيًّا - إيطاليًّا، وقد وُصف هذا المعجم بكونه رديئًا علميًّا، وعلى الرَّغم من ذلك بقي مستخدَمًا من قبل المبشِّرين حتَّى منتصف القرن التَّاسع عشر. وبعد ذلك أصدر كتابًا بعنوان (نقائض الإيمان) دافع فيه عن المسيحيَّة، ودعا إلى اعتناقها، وقد فوضه فيليب الرَّابع ملك إسبانيا ليكون مبعوثًا إلى الأوسكوريال في مدريد، وليدرِّس اللُّغة العربيَّة لرجال الدِّين والرُّهبان، ولتأليف كتبٍ تبشيريَّةٍ تهاجم الإسلام والمسلمين»[1]، إنَّ الطَّابع العامَّ للاستشراق في بداياته «كان يحمل روحًا عدائيَّةً للإسلام، فكان يدرس الإسلام، لغةً، وعقيدةً، وشريعةً، وقرآنًا، وسنَّةً، وحضارةً، وتاريخًا، للهجوم عليه، كما كانت المؤسَّسات الاستشراقيَّة تعمل لحساب الكنيسة وليس لحساب العلم والبحث عن الحقيقة المجرَّدة عن الهوى، الخالصة من الغرض»[2]، وبذلك نجد أنَّ جرمانوس كان متعصِّبًا للدِّين المسيحيِّ، وعلى الرَّغم من الانفتاح الثقافيِّ الذي حقَّقه، وسعيه الحثيث لامتلاك ناصية العلوم الشَّرقيَّة، إلَّا أنَّه لم يخرج من ثياب الرَّهبنة والتَّطرف الدينيِّ الذي يحمل بُعدًا عدائيًّا للإسلام والمسلمين.

أمَّا المستشرق اليهوديُّ أبراهام غايغر (Geiger) (1810م-1874م) فقد تعلَّم العلوم الدِّينيَّة اليهوديَّة، لذلك فإنَّه كان يجيد اللُّغة العبريَّة بشكلٍ كبيرٍ، واكتسب نتيجة ذلك ثقافةً دينيَّةً واسعةً جعلت منه حبرًا يهوديًّا، ثمَّ انتقل لتعلُّم اللُّغة العربيَّة التي مكَّنته من الاطِّلاع على الدِّين الإسلاميِّ وعلى القرآن الكريم، وكان رائد الإصلاح في الدِّيانة اليهوديَّة التي عدَّها ديانةً متطوِّرةً، لذلك فإنَّه قام بتأليف كتابه الشَّهير (ماذا أخذ محمَّد من اليهوديَّة؟) سنة 1833م وقد حاول فيه أن يبيَّن أنَّ القرآن الكريم عبارةٌ عن مقتبساتٍ من الدِّيانة اليهوديَّة التي هي المصدر الأوَّل له، وقام بالمقارنة بين بعض

(67)

الآيات القرآنيَّة وبين بعض النصوص اليهوديَّة، وراح يرمي تهمه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنَّه حاول الاستفادة من وجود اليهود ومركز قوَّتهم، فيقول غايغر: «لا يزال من الواضح أنَّ القوَّة التي أحرزها اليهود في شبه الجزيرة العربيَّة، من جهةٍ، كانت مهمَّة بما يكفيه لأن ينتمي أن يجعل منهم أتباعًا له، ومن جهةٍ أخرى، فقد كان اليهود، على الرَّغم من أنَّهم كانوا جهلةً، فقد كانوا متقدِّمين على غيرهم من الهيئات الدِّينية الأخرى في تلك المعرفة التي أعلن محمد أنَّه تلقَّاها عبر الوحي الإلهيِّ، كما أحبَّ في الواقع أن يؤكِّد كلَّ علومه. علاوةً على ذلك، فقد سبَّب اليهود له الكثير من المتاعب بتعليقاتهم البارعة والمثيرة للحيرة، حيث إنّ الرَّغبة في استعطافهم لا بدَّ أنَّها نشأت بالتَّأكيد في داخله»[1].

لقد حاول غايغر أن يثبت أنَّ القرآن امتدادٌ للديانة اليهوديَّة، فراح يبحث فيه عن أيّة آيةٍ قرآنيَّةٍ تثبت صحَّة قوله، وبهذا فإنَّه وصل إلى نتيجةٍ استمدَّت جذورها من ميله وتعصُّبه لدينه اليهوديَّ، ثمَّ راح يبحث عن البراهين المناسبة لها والتي تتفق مع هواه وتفكيره، ولم يأخذ بعين الاعتبار أنَّ القرآن الكريم جاء مكمِّلًا للشَّرائع السَّماويَّة السَّابقة التي اعتراها التحريف والتبديل من قِبَل أتباعها الذين شوَّهوا دينهم لغاياتٍ إنسانيَّةٍ بحتةٍ، ثمَّ إنَّ ما ادَّعاه من محاولة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لاستعطاف اليهود لم يكن بدافع الخوف من حججهم وبراهينهم، بل إنَّ أخلاق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مستمدَّةً من رسالة الإسلام التي تدعو إلى التسامح والسَّلام مع البشريَّة جمعاء، وبذلك لا تكون الرسالة الإسلاميَّة تطوُّرًا وامتدادًا لأيِّ رسالةٍ سماويَّة أخرى كما حاول غايغر أن يدَّعي حين سلك في كتابه منهجًا تاريخيًّا يدَّعي فيه الإسلام ظهر نتيجة حاجةٍ تاريخيَّةٍ مؤقتةٍ، بل هي رسالة تستكمل ما جاء قبلها من ديانات وتختتمها بوصفها آخر الرسائل السَّماويَّة للبشرية جمعاء، يقول الله عزَّ وجلَّ في محكم آياته (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [2].

ويعدُّ المستشرق الألمانيّ تيودور نولدكه (Noldeke) (1836م-1930م) أحد أبرز المستشرقين الألمان الذين استطاعوا من خلال دراسة اللغات الشَّرقيَّة التوغُّل في عمق

(68)

التُّراث الإسلاميِّ، فدرس القرآن وعلومه، كما درس اللُّغة العربيَّة وفقهها، فكان بالنَّسبة للمستشرقين الذين جاؤوا من بعده «مصدرًا مهمًّا في دراسة القرآن دون النَّظر إلى غيره من المصادر الإسلاميَّة الحديثة والقديمة»[1]، وهذا بحدِّ ذاته ينفي عنهم الموضوعيَّة في البحث العلميِّ، إذ يجب على الدَّارس أن يستقي معلوماته من مظانِّها، وألَّا يسلِّم لآراء الآخرين من دون التثبُّت منها ومن صحَّتها، لا سيَّما وأنَّ نولدكه كان «معروفًا بعدائه للإسلام»[2] والمسلمين، وهذا يؤكِّد النزعة العنصريَّة والعدائيَّة التي يحملها أغلب المستشرقين، فينتج عنهم معارف مشوَّهةٌ، سرعان ما تنتشر في بلدانهم، فتعكس صورةً سلبيَّةً عن الدِّين الإسلاميِّ، وبالتَّالي فإنَّ ذلك يخلق حالةً من العداء الفجِّ تجاه الإسلام والمسلمين.

ألَّف نولدكه كتاب (تاريخ القرآن) عام 1858م، وضمَّ هذا الكتاب بين دفَّتيه الكثير من الادّعاءات الزائفة التي تطعن في صحّة القرآن الكريم، فقد ادَّعى نولدكه أنَّ القرآن بصيغته الحاليَّة لا يضمُّ جميع ما نُزِّل على النَّبي محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبذلك الاتِّهام سوَّغ لمن جاء بعده من مستشرقين وغير مستشرقين ليتجرَّؤوا على الخوض في المسلَّمات، هذا بالإضافة إلى تشكيك نولدكه بالوحي نفسه حيث يقول في كتابه: «إنَّ محمَّدًا أعلن عن سورٍ، أعدَّها بتفكير واعٍ وبواسطة استخدام قصصٍ من مصادر غريبةٍ ومثبتةٍ، وكأنَّها وحيٌ حقيقيٌ من الله»[3]، فقد كان يشكِّك في صحّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله النفسيَّة، ويتَّهمه بالأمراض النفسيَّة التي لا يصحُّ أن تجتمع مع كونه نبيًّا مرسلًا، وعلى الرَّغم ممَّا اكتسبه هذا الكتاب من شهرةٍ، إلَّا أنَّه كان محاولةً من صاحبه للطَّعن في الإسلام والتشكيك فيه.

ثالثًا: آثار المستشرقين الألمان في الدِّراسات القرآنيَّة

كان ديدن الغرب الأوروبيِّ معرفة الأسباب التي نهضت بالأمَّة الإسلاميَّة في عصر كان الغرب يغرق في غياهب الجهل والتَّخلُّف، فكان القرآن الكريم هو البوابة التي يستطيع من خلالها المستشرقون معرفة الحضارة الإسلاميَّة ومصدر قوَّة المسلمين، فانصبَّ اهتمام

(69)

المستشرقين عامَّةً والألمان خاصَّةً على هذا الكتاب، وأخذوا يبحثون فيه عن عوامل القوَّة النَّفسية والرَّوح المعنويَّة العالية التي قادت دولة الإسلام لبناء حضارتهم لقرونٍ طويلةٍ؛ إذ «لم تكن التَّصورات الغربيَّة الأولى عـن علاقـة الـِّدين الاسلاميِّ بالدَّولـة تعـود في أساسها إلى الإرهاصات التي قدَّمها الفلاسفة ودعمها المستشرقون عن الشَّرق، كما يمكن أن يتصوَّر البعض، بل إنَّ هذه الكتابات لم تكن إلا خلايا ولّدتها نظرة الكنيسة المسيحيَّة إلى الإسلام، خاصَّةً وأنَّ الغرب كان قد أثقله التَّسلُّط الكنسيُّ على شؤون الدَّولة السياسيَّة؛ وكان رجال الدِّين المسيحيِّ عنوانـًا للسُّلطة السياسيَّة الكبرى في أوربا قبل عصر النَّهضة وأغرقت أوروبا في عصر وُسِمَ يومًا بعصر الظَّلام، فجاءت ادعاءات الكنيسة المعادية للإسلام والمسلمين»[1]، لذلك فإنَّ الكنيسة قامت بدعم حركة الاستشراق بكلِّ ما أوتيت من مقدرةٍ، فأنشأت المطابع وشجَّعت التَّرجمة، وكانت غايتها من وراء ذلك تشكيل ثغرات داخل الدِّين الإسلاميّ لتتحكَّم بالمسلمين، ولتضع حدًّا لمشكلةٍ كانت تخشى أن تتفاقم وهي انتشار الدِّين الإسلاميِّ في أوروبا وألمانيا.

وممَّا يسجَّل للمستشرقين الألمان أنَّهم ساهموا في طباعة القرآن، فكانت أولى طبعاته في ألمانيا؛ وذلك لسببٍ تقنيٍّ ظاهرٍ، وهو التَّقدم التكنولوجيُّ، وتوفُّر القدرة على الطِّباعة، ولكنَّ السَّبب الحقيقيَّ هو دراسة الإسلام، ومعرفة القرآن معرفة تسمح للكنيسة بالرَّد عليه ودراسته بالشَّكل الذي لا يسمح بانتشاره. ولعلَّ أشهر طبعات القرآن الكريم طبعة هامبورغ في ألمانيا هذه الطَّبعة كانت الأولى في أوروبا وخارج بلاد المسلمين، وقد كان البابا الكسندر قد حرَّم طباعة القرآن لا سيّما بعد توتُّر علاقته مع ملك بريطانيا هنري الثاني، وتهديد الأخير له باعتناق الإسلام، فخشي البابا إذا ما تمَّت طباعة القرآن أن ينتشر الدِّين الإسلاميُّ في أوروبا، وحينها لا يمكن مجابهة هذا الأمر بسهولةٍ، لذلك كانت هذه الطبع بعد رحيل البابا الكسندر سنة 1694م، وقد قدَّم هذه الطَّبعة الرَّاهب والمستشرق الألمانيُّ أبراهام هنكلمان (Henkelman)، صدرت هذه الطَّبعة باللُّغة العربيَّة من دون شروحاتٍ لها «وزعم هنكلمان في مقدِّمتها أنَّ من الضَّروري التَّعرف على القرآن بدقَّةٍ في سبيل مكافحته وتمهيد السَّبيل لانتشار المسيحيَّة في الشَّرق، وهذا ليس غريبًا في تلك

(70)

المرحلة الأولى من الاستشراق، فهنكلمان راهبٌ ومدعومٌ من قِبَل الكنيسة، وكلُّ ما يؤدِّيه في هذا المجال محسوبٌ ومخطَّطٌ له من قبل المؤسّسات الكنسيَّة في ذلك الوقت»[1].

ولم تكن هذه الطَّبعة مقدَّمةً لعامَّة الشَّعب؛ إذ لم تكن الغاية من طباعتها انتشار النُّسخة بين عامَّة النَّاس، بل كانت مخصَّصةً لطلَّاب اللُّغة العربيَّة في ألمانيا، وقد ادَّعى هنكلمان أنَّه لم يقم بالتَّعليق على تلك النسخة بسبب ما في القرآن من تعارضٍ في نصوصه. أمَّا الطَّبعة الثَّانية فكانت في هولندا على يد المستشرق الألمانيِّ لودفيك ماراتشي (Marracci) عام 1698م، وقد زودها بشروحاتٍ بسيطةٍ لغويًّا لتفسير آيات القرآن الكريم، كما ألحقها بترجمةٍ لاتينيةٍ [2].

ولم تكن طباعة القرآن هي المهمَّة الوحيدة التي قام بها المستشرقون الألمان فقط، إنمَّا قاموا بجهودٍ كبيرةٍ لترجمته، وقد واجهتهم صعوباتٌ في نقله؛ ذلك لأنَّ القرآن معجزةٌ لغويةٌ عربيةٌ خاصَّةٌ بالعرب، وقد تحدَّى الله بها فصاحة العرب وبلاغتهم، وأثبت عجزهم عن الإتيان بمثله (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [3]، ولذلك فإنَّ ترجمته بشكلٍ حرفيٍّ أمرٌ مستحيلٌ، وذلك لصعوبة النَّقل من لغةٍ إلى أخرى مع المحافظة على المعنى الأصليِّ، لما يحتويه القرآن على بلاغة لا يمكن لغير العربية الإيفاء بالتَّعبير عنها، لذلك تمَّ الاتجاه لدى المستشرقين إلى التَّرجمة التفسيريَّة حيث تكون التَّرجمة بالمعنى، ولا تتطلَّب الوقوف عند كلِّ مفردةٍ بحدِّ ذاتها، وفي كلا الحالتين لا يمكن لأيِّ لغةٍ ـ لا سيَّما الألمانيَّة ـ أن تستوعب معاني القرآن وبلاغته، ممَّا يجعل الالتباس وارداً في فهم بعض الآيات التي تحتمل أكثر من تفسيرٍ.

ومن أهمَّ التَّرجمات التي تُرجمت للألمانية ترجمة المستشرق الألمانيِّ سالمون اشفجر (Schwiegger) سنة 1616م، وقد زار اشفجر بلدانًا إسلاميَّة وعربيَّة عدَّة، وأقام فيها فترةً من الزَّمن، وقد انتقد بمقدَّمته الإسلام، وهاجمه بشكلٍ فجٍّ يفتقد للموضوعيَّة،

(71)

ولأبسط أسس العلميَّة، لا سيَّما أنَّ ترجمته قد أخذها عن التَّرجمة الإيطاليَّة المأخوذة أصلًا عن التَّرجمة اللاتينيّة[1].

أمَّا ترجمة ديفيد فردرش ميجرلين (Megerlin) سنة 1772م، فتعدُّ أوَّل ترجمةٍ قام بها مستشرقٌ ألمانيٌّ من اللُّغة العربيَّة مباشرةً، وميجرلين كاهنٌ بروتستانتي اشتهر بدعوة اليهود لاعتناق المسيحيَّة، ترجم القرآن بوصفه كتابًا مقدَّسًا للقوميَّة التركيَّة، داعيًا بذلك إلى نقد القرآن بدلًا من حرقه، فقد فضَّل ميجرلين معرفة الأتراك المسلمين -وهم أعداء ميجرلين- عبر القرآن ومحاربتهم به، وهو يقول بضرورة طرد المسلمين من أوروبا، والحفاظ على الدِّين المسيحيِّ لئلا يندفع أحدٌ من المسيحيين إلى اعتناق الإسلام، إنَّ معرفة القرآن ومعرفة ما فيه من أخطاء -حسب زعمه- مفيدةٌ لتقوية الديانة المسيحيَّة وللتخلُّص من المسلمين ودينهم[2]، لقد كان ميجرلين أوَّل من نبَّه الألمانيَّ غوته إلى دراسة الشرق الإسلامي والتعرف عليه عبر الاطلاع على دينه «وقد أبدى غوته إعجابـه الشَّـديد بـالقرآن الكـريـم طـوال حياتـه، وعـلى وجـه التَّحديد في العقدين الأخيرين منها، إذ اتَّجه اتجاهًا واضحًا نحوه، يقول في ذلك الكاتب عبـد الـرحمن صـدقي: وقـد ظـلَّ غوتـه طويلًا يمعن في دراسة القرآن إمعان الباحثين، وهو يقول: إنَّ القارئ الأجنبيَّ قـد يملَّـه لأوَّل قراءتـه، ولكنَّـه يعود فينجذب إليه، وفي النِّهاية يروعه ويلزمه الإكبار والتعظيم»[3].

أمَّا من التَّرجمات الحديثة فنجد أنَّ ترجمة باريت (Paret) عام 1966م، هي الترجمة التي حازت على شهرةٍ واسعةٍ، وقد قام باريت بالاعتماد على شروحات القرآن الكريم وتفاسيره وتبحَّر بها، وكان حريصًا على أداء المعنى المراد من الآية القرآنيّة كما وردت، وقد ترجم القرآن في مجلدٍ، وأتبعه بمجلدٍ آخر يحتوي على تعليقاته وآرائه الخاصَّة، وقد أدرك باريت ما يحتويه القرآن من بلاغةٍ وإيجازٍ، فأشار إلى ضرورة الإلمام باللُّغة العربية لفهم معاني القرآن، ولئلا يقع القارئ بسوء فهمٍ لتلك المعاني، لذلك فإنَّ باريت يضحِّي بالجانب الجماليِّ إذا لزم الأمر لصالح المعنى.

(72)

ومن الكتب المهمَّة التي تناولت القرآن دراسةً وتمحيصًا كتاب تيودور نولدكه (تاريخ القرآن) الذي صدر سنة 1865م، هذا الكتاب يكاد يشمل جميع جوانب القرآن، ففي القسم الأوَّل يتحدَّث نولدكه عن الوحي ومصادره، إذ يدعي أنَّ الوحي ما هو إلا عبارة عن حالةٍ نفسيةٍ انفعاليةٍ تنتاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبذلك ينكر الوحي، ويرى أنَّ مصدر القرآن جاء من البيئة التي عاش فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولا سيَّما من اليهود، ثم تحدَّث في القسم الثاني عن جمع القرآن وحفظه، وعلاقة القرآن بالكتب المقدَّسة، وفي القسم الثالث تحدَّث عن رسم القرآن والقراءات المختلفة للقرآن.

وهناك دراساتٌ كثيرةٌ تناولت لغة القرآن من جوانبه المختلفة، منها ما درس ما ورد في القرآن من كلماتٍ غير عربيةٍ، وبحث في أصولها مثل كتاب المستشرق الألمانيِّ فرانكيل (Fraenkel) (الكلمات الأجنبيَّة في القرآن)، ومنها ما درس الأساليب البلاغيَّة فيه، ومنها من اقتصر على دراسة البيئة التي نزل بها القرآن مثل كتاب (القرآن وبيئته الدينيَّة والثقافيَّة) للمستشرق الألمانيِّ تلمان ناجل (Nagel).

رابعًا: آثار المستشرقين الألمان في العلوم الإسلاميَّة

لقد أولى المستشرقون الألمان العلوم الإسلاميِّة أهميةً كبيرةً لما لها من عميق صلةٍ وارتباطٍ بالقرآن الكريم، الذي هو أساس العلوم الإسلاميَّة، ومصدرٌ للتشريع، وسببٌ رئيسٌ لنهضة الحضارة الإسلاميَّة -كما أسلفنا- فقد انتهج الغرب نهجًا يسمح له بإخضاع الشَّرق لهيمنة الغرب وسيادته والتَّحكم به، وسوف نتناول جانبًا من العلوم الإسلاميَّة التي انصبَّت جهود المستشرقين الألمان عليها، ولعلَّ أهمَّها سيرة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تمَّ تناولها تصنيفًا وتحقيقًا، ومن ثمَّ سنتكلَّم على علوم اللغة العربيَّة التي تعدُّ المدخل الرئيس لكافَّة العلوم الدينيَّة والدُّنيويَّة التي امتلكها العرب المسلمون يومًا وكانت دولتهم بسببها مركز إشعاعٍ حضاري ترفده دول العالم بأسرها.

نذكر من هذه الجهود ما قدَّمه غوستاف فايل (Weil) 1844م في كتابه (النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله: حياته ومذهبه) وقد تطرَّق فيه إلى شخصيَّة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فينفي عنه اسمه،

(73)

وبذلك فإنَّ كل الآيات القرآنيَّة التي يرد فيها اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد وضعت بعد وفاته، وأنّ أبا بكر هو الذي وضعها، كما ينفي عن القرآن الآية الأولى من سورة الإسراء (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [1] ويدَّعي أنَّها وضعت بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله، «ويرجّح أنَّها ضُمَّت إلى القرآن في عهد أبي بكر، مستدلًّا بأنَّه لا يمكن أن يكـون مـحـمـَّد قد ادَّعى لنفسه (الاختطاف العجائبي) إلى بيت المقدس، وهو لا يفتأ يشدِّد على أنَّه واعظٌ ومنذرٌ وحسب وليس (مجترح عجائب)»[2]، إذ لم يكن فايل وغيره ممَّن أنكروا حادثة الإسراء قادرين على تفسير تلك المعجزة تفسيرًا عقليًّا؛ وذلك لأنَّها من الخوارق التي لا تخضع لمنطق العقل البشريِّ، لذلك فإنَّهم أنكروا حدوثها أصلًا وعدُّوها من الأساطير، ولم يخرج فايل عن سياق باقي المستشرقين الذين نعتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله  بالشَّاعر، وأنَّ ما جاء به من القرآن لم يكن وحياً يوحى به، إنَّما من ابتكار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بسبب تأثره ببيئته ذات اللُّغة الفصيحة.

أمَّا كارل بروكلمان (Brockelmann) في كتابه الموسوم بـ (تاريخ الشُّعوب الإسلامية) سنة 1939م، فقد اهتمَّ بالتَّاريخ الإسلاميِّ، وإعادة قراءته وفقًا وما يتناسب مع وجهة نظره الاستشراقيَّة، وفي هذا الكتاب أفرد بروكلمان جزءًا مهمًّا للحديث عن السِّيرة النبويَّة تحت عنوان (محمَّد الرَّسول) حيث ضمَّنه افتراءات تطعن بشخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أنَّه أحد تلامذة المستشرق الألماني تيودور نولدكه المشهور بعدائه للإسلام والمسلمين، ومن تلك الافتراءات قوله بتأثُّر النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باليهود واتصاله بهم قبل الدعوة وبعدها، فيقول: «وتذهب الرِّوايات إلى أنَّه اتَّصل في رحلاته ببعض اليهود والنَّصارى، أمَّا في مكَّة نفسها فلعلَّه اتَّصل بجماعاتٍ من النَّصارى كانت معرفتهم بالتَّوراة والإنجيل هزيلةً إلى حدٍّ بعيدٍ»[3]، ثم يزعم أنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله سعى إلى استقطاب اليهود وجذبهم إلى دينه الجديد من خلال محاولته تقريب شعائر الإسلام من

(74)

شعائر الدِّين اليهوديِّ، كما اتَّهمه بأنَّه اعترف بالآلهة الثلاث (اللَّات العزَّة ومناة) فقال: «ولكنَّه على ما يظهر اعترف في السَّنوات الأولى من بعثته بآلهة الكعبة الثَّلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونها بنات الله. ولقد أشار إليهنَّ في إحدى الآيات الموحاة إليه بقوله: (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتضى)»[1]، ثمَّ ادَّعى أنَّ الوحي كان حاجةً نفسيَّةً شعر بها الرَّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نتيجة طول تأمُّله في الغار، فظنَّ أنَّه أوحي إليه شأنه شأن سائر الأنبياء، وبذلك ينكر بروكلمان الوحي الإلهي ويتَّهم النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنَّه قد اختلق الوحي لأسباب نفسيّةٍ خاصَّة به، كما قارن بين الشِّعر والسَّجع وبين ما جاء به النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد ربط ما بين قوافي السَّجع النثريَّة وبين ما في القرآن من فواصل وترتيل، ووجد أنَّهما شيءٌ واحدٌ، وفي هذا اختلاقٌ عجيبٌ ما برح منذ نزول الوحي، ويصف بروكلمان حادثة الإسراء والمعراج بأنَّها أساطير شعريَّةٌ، وغايته من وراء تلك الادّعاءات الباطلة زرع الشَّك والرَّيبة في نفوس المسلمين من عقيدة الإسلام ونبيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أمَّا في مجال اللُّغة العربيَّة ودراستها، فنذكر دراسة المستشرق الألمانيِّ يوهان فك الموسومة بـ (العربية، دراسات في اللُّغة واللَّهجات والأساليب)؛ إذ وجد فك أنَّ أهميَّة اللغة العربيَّة جاءت منذ نزول الوحي على نبي الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله، يقول فك: «لم يحدث حدثٌ في تاريخ اللُّغة العربيَّة أبعد أثراً في تقرير مصيرها من ظهور الإسلام، ففي ذلك العهد -قبل أكثر من 1300 عام- عندما رتَّل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله القرآن على بني وطنه بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، تأكَّدت رابطة وثيقة بين لغته والدِّين الجديد، كانت ذات دلالةٍ عظيمة النتائج في مستقبل هذه اللغة»[2]، فلم تعد أهميَّة اللُّغة مرتبطةً بحيّزها المكانيِّ، بل اتَّسعت لتشمل العالم بأسره. يتناول فك بالتفصيل تطوُّر أساليب اللُّغة العربيَّة ولهجاتها والعوامل التي أثَّرت في هذا التَّطور بدءًا من العصر الإسلاميِّ إلى العصر الحديث، وقد رجع إلى العديد من المصادر الغنيَّة بالشَّواهد التي تدعِّم بحثه وتثريه.

كما نشط المستشرقون الألمان في مجال تحقيق المخطوطات ونشرها؛ إذ تملك المكتبة

(75)

العربيَّة الإسلاميَّة كمًّا لا يستهان به من المخطوطات التي تشمل العلوم الإسلاميَّة وغيرها، ومن أشهر المستشرقين الألمان الذين كانت لهم اليد الطولى في تحقيق المخطوطات براجشتراسر (Bergsträßer) وتلميذه بريتزل (pretzl)، وقد حقّقا كتاب (معاني القرآن) للفرَّاء، وكتاب (الإيضاح في الوقف والابتداء) لابن الأنباري، وكتاب (تعليل القراءات السبع) للإمام الشيرازي، وغيرها الكثير، كما حقَّق المستشرق الألماني شبرنجر (Sprenger) كتاب (الإتقان في علوم القرآن) للسُّيوطي. إنَّ تلك الحركة دفعت الكثير من المستشرقين لسرقة نفائس المخطوطات أو الاستيلاء عليها أثناء الحروب، لتصبح متاحف الغرب مليئةً بكتبٍ تعبِّر عن حضارتنا وتراثنا المستلب، والذي لا يزال محطَّ أطماع الغرب في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.

(76)

الخاتمة

لفتت الحروب الصَّليبيَّة التي شارك بها الألمان نظر الكنيسة إلى إعادة تمكين دعائم ديانتها المسيحيَّة، والقيام بإصلاحات من شأنها دعم الديانة المسيحيَّة، لا سيَّما وأنَّ أبناء ألمانيا الذين شاركوا في تلك الحروب استطاعوا الاطلاع على حضارة الشَّرق، ووجدوا فيها دولةً قويَّةً متماسكةً، ممَّا أرعب السُّلطة الكنسيّة فراحت تبحث عن السَّبب الذي أسَّس للحضارة العربيَّة ودعَّم ركائزها، فتوصَّلت إلى أنَّ الدِّين الإسلاميَّ هو الأساس المتين الذي قامت عليه الدَّولة الإسلاميّة منذ بُعث النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله رسولًا، فأدركت أنَّ هذا الدِّين يجب أن يحارب وتدكُّ حصونه المنيعة؛ ذلك لأنَّه يشكِّل خطرًا على أبناء جلدتهم المسحيّين، إذ كانت الكنيسة تخشى على أبنائها من دخول الدين الإسلاميِّ، فكان القضاء الممنهج على هذا الدِّين هو الطَّريق الوحيد للقضاء على هذه الحضارة بأسرها.

لقد أدركت الكنيسة حقيقةً مهمَّةً، وهي أنَّ الفكر لا يمكن أن يجابه إلَّا بمثيله، فقامت بتشجيع حركة الاستشراق وقامت بتمويلها، وإرسال الدَّارسين ليتعمَّقوا بدراسة القرآن الكريم والعلوم الإسلاميَّة المتعلَّقة به، ودراسة اللغة العربيَّة، ليعود المستشرقون بعد ذلك إلى بلدانهم فيدرِّسوا العربيَّة لأبنائهم في فروع الجامعات والمعاهد التي تمَّ افتتاحها لهذا الغرض، فقد أيقنت ألمانيا أنَّها لن تستطيع أن تحقِّق من خلال القوَّة العسكريَّة أياً من تلك الغايات التي حقَّقت فعلاً نتائج أكثر عمقاً وفعَّاليَّةً.

وقد كان المستشرقون يأخذون عن بعضهم البعض دون تمحيصٍ وتدقيقٍ في ما قدَّمه الأوائل من دراساتٍ وبحوثٍ، وهم بذلك يسلِّمون بالحقائق المقدَّمة، ويجزمون بصحَّتها دون التثبُّت منها، وهذا بعيدٌ كلَّ البعد عن البحث العلميِّ وأخلاقه الذي يجب أن يتحلَّى به الباحث، وفي ذلك دليلٌ بيّنٌ على ما ينفذونه من خطَّةٍ أيديولوجيَّةٍ تمَّ رسمها للتمكُّن من الدِّين وتشويه العقيدة الإسلامية.

وقد توصَّل المستشرقون الألمان خلال سنواتٍ طويلةٍ من البحث والدِّراسة

(77)

والتنقيب في التُّراث الدينيِّ واللغويِّ إلى نتائج مذهلةٍ وفق ما خطَّطوا له، إذ استطاعوا من خلال الازداوجيَّة في التَّعامل مع الفكر الإسلاميِّ أن يؤثِّروا ويشكِّكوا في أصل العقيدة الإسلاميَّة، فدسُّوا سمومهم في الدَّسم -كما تقول العرب- وذلك لأنَّ أكثر هؤلاء المستشرقين يضمرون العداء والبغض للدِّين الإسلاميِّ وللمسلمين، ممَّا دفعهم إلى الطَّعن في كتاب الله الذي حماه الله من كل زورٍ وتزويرٍ، فأوَّلوا آياته تأويلاً يتَّفق مع هواهم ومذاهبهم، وشكَّكوا في آياته المتشابهة، وهاجموا النبيَّ الكريم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله واتَّهموه بالكذب والتَّلفيق، ونسبوا إليه من القصص والأحاديث ما يستطيعون من خلاله تشويه شخصه أمام العالم الإسلاميِّ والغربيِّ، وهذا ما نلمس نتائجه حتَّى يومنا هذا، إذ إنَّ العالم الغربيّ يمتلك عن الشَّرق ودينه الإسلاميِّ معارف متناقضةً ومنقوصةً، تُظهر الدين على غير ما هو عليه في حقيقته، وذلك هو جلُّ ما سعى إليه المستشرقون الألمان وغيرهم على مرِّ العصور.

 

(78)

لائحة المصادر والمراجع

1- القرآن الكريم.

2- أبراهام غايغر، اليهودية والإسلام، ترجمة: نبيل فياض، دار الرافدين، ط1، بغداد، 2018م.

3- أمجد يونس الجنابي، آثار الاستشراق الألماني في الدراسات القرآنية، مركز تفسير للدراسات القرآنية، ط2، الرياض، 2015م.

4- تيودور نولدكه، تاريخ القرآن، ترجمة: جورج تامر، مؤسسة كونراد- أدناور، ط1، برلين، 2004م.

5- زاهدة محمد الشيخ طه المزوري، صورة الشرق بين الفلسفة الغربية والاستشراق، دار المنهل، عمان، 2016م.

6- عادل عباس النصراوي، إشكالية فهم النص القرآني عند المستشرقين، دار الرافدين، ط1، بيروت، 2016م.

7- عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط4، بيروت، 2003م.

8- فارس عزيز المدرس، التطور التاريخي والوظيفي للاستشراق، دار الخليج للنشر والتوزيع، ط1، الأردن-عمان، 2021م.

9- كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس، منير بعلبكي، دار العلم للملايين، ط5، بيروت، 1968م.

10- محمد البهي، المبشرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام، مطبعة الأزهر، القاهرة، بلا تا.

11- محمد عبد الله شرقاوي، الاستشراق وتشكيل نظرة الغرب للإسلام، دار البشير للثقافة والعلوم، القاهرة، 2015م.

(79)

12- محمد فلاح الزعبي، الاستشراق والإسلام: دراسة في أدب غوته، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، ط1، عمان، 2009م.

13- مصطفى السباعي، الاستشراق والمستشرقون ، ما لهم وما عليهم، دار الوراق للنشر والتوزيع، سورية، 1999م.

14- يوهان فك، العربية، دراسة في اللغة واللهجات والأساليب، ترجمة: عبد الحليم النجار، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2014م.

(80)

الاستشراق الألماني ودوره في الدّراسات الشرقيّة

تاريخ الاستشراق الألماني وملامح من أسسه المنهجيّة

م.م. محمد سعدون المطوري[1]

المقدمة

تنبع الجدوى من الاهتمام بالاستشراق الألماني لتركه آثارًا علميّةً يحتاجها الباحث العربيّ والمسلم والغربيّ على حدّ سواء في مجال الدّراسات الشّرقيّة والإسلاميّة. لذلك كُتب عن الاستشراق الألمانيّ مجموعةٌ من البحوث والدّراسات في العالمين الإسلاميّ والغربيّ، وقد شهد الطرفان بقدرة الاستشراق الألماني الموضوعيّة والعلميّة، ففي المؤتمر العالمي للدراسات الشّرق أوسطيّة الذي عُقد في مدينة مايتر في 8/ 12/ 2002 وضمّ 18 بلدًا أوروبيًّا، قدّم ادوارد سعيد ثناءاً استثنائيًا للتراث التّفسيريّ للبحث الفيلولوجيّ الألماني، كما أوضح أثره القويّ في أعماله، وعدّه مصدرًا هامًّا لكلّ من الفهم والنّقد في عالم العولمة، وقد أثنى صلاح الدين المنجد على سيرة المستشرقين الألمان بعد أن عاشرهم لمدّة ثلاثين عامًا معتبرًا إياهم الأكثر نزاهةً في التّوجّه العلميّ وجديّة في فهم التّراث والتّاريخ الإسلامي. كما أشادت أوساط علميّة في أوروبا وأمريكا بالمنهجيّة العلميّة للمستشرقين الألمان، وإلى بقاء آثار منهجيّتهم في بعض الجامعات الغربيّة، وهناك إشاراتٌ من شخصيّاتٍ بارزةٍ في الولايات المتّحدة... إلى عدم استقلال العِلم الأمريكي عن العلم الألماني، ومن بين ما قيل في ذلك: يجب على المرء أن يدرس اللّغات الشرقيّة في ألمانيا، وعلى وجه التّحديد على يد تيودور نولدكه.

ينفرد الاستشراق الألماني بميزاتٍ قد لا تتوافر لدى الاستشراق في البلدان الغربيّة،

(81)

فالمستشرقون الألمان على الأغلب لم تسيطر عليهم مآرب سياسيّة، ولم تستمر معهم أهداف التّبشير طوال مسيرتهم في دراسة الشّرق، ولم يتّصفوا بروحٍ عدائيّةٍ ضدّ الإسلام والحضارة الإسلاميّة العربيّة، بل اتّصفوا بحماسهم وحبّهم للّغة العربيّة[1]، وتعلّق قسمٌ منهم بالأدب العربي والتراث الوسيط كقصص ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة.

وعدّ بعض المتابعين ركون الاستشراق الألمانيّ إلى إرث مناهج التحليل اللغوي الفيلولوجي  (Philologie)، وعقلانيّة التّفسير والتّأويل إلى جعل خطابه أقلّ تطرّفًا مقارنةً بخطابات استشراقيّةٍ أوروبيّةٍ أخرى وخصوصًا فيما يتعلّق بقضايا التراث والفكر العربي الإسلامي، وانعكس ذلك على علاقة الغرب بالإسلام، والتي يطرحها ويتداول شأنها بعض علماء المشرقيات الألمان والمتخصّصين بقضايا العرب والإسلام طرحًا مختلفًا متجاوزين نسبيًّا الرؤية المركزيّة في الاستشراق المتطرف (المُسيّس)[2].

أوّلًا: الاستشراق الألماني (نظرة تاريخيّة)

تعود الجذور الأولى لاتّصال ألمانيا بالشّرق وبالعرب والمسلمين إلى أيام الحملة الصليبية[3] الثانية (542-544هـ/ 1147-1149م)، فقد كان الألمان حينها من المشاركين في الحج[4] إلى الأراضي المقدّسة، حيث قدّموا وصفًا لتلك البلاد ونقلوا شيئًا من حضارتها بعد عودتهم إلى الديار، كما شاركوا الرهبان في الترجمة عن العربيّة في الأندلس[5].

(82)

وفي القرنين الرابع عشر والخامس عشر للميلاد انعقدت النيّة على إنشاء كراسي لدراسة اللغات الشرقيّة في ألمانيا، كانت تلك النيّة متزامنةً مع إنشاء الجامعات الألمانيّة التي تأخّر تأسيسها في ألمانيا عن بقيّة بلدان أوروبا[1]. إلّا أنّ القرن السادس عشر الميلادي يعدّ مرحلةً في تاريخ الاستشراق الألماني؛ إذ يمكن فيها تشخيص سماتٍ واضحةٍ للاستشراق في ألمانيا؛ لأنّ الدّراسات الشّرقيّة في وقتها لاقت اهتمامًا واضحًا خلال هذا القرن من خلال المساعي العلميّة التي قامت بها شخصيّات ألمانيّة كان لها دورٌ تأسيسيٌّ لتلك الدّراسات، وعُرفت تلك الشخصيّات باسم: أساتذة اللغات الشّرقيّة. ابتداءً، عمل هؤلاء الأساتذة بتعليم اللغة العبريّة لدارسي اللّاهوت مع إعطاء محاضراتٍ في تفسير التوراة، إضافة إلى تعليم العربيّة والسريانيّة وغيرها من اللغات السّامية[2].

كان الاستشراق الألمانيّ في البداية كغيره انطلق ضمن إطار الرّغبة في تحقيق مصالح سياسيّة واقتصاديّة إضافة إلى دوافع الرّدّ على الإسلام وتنشيط المذاهب المسيحيّة في العالم الشّرقيّ تحت مظلة التبشير[3]، وتمثّلت خطواته الأولى في هذا القرن بجمع المخطوطات الشّرقيّة، وتخصيص كراسي لتدريس اللغات السّامية في جامعات ألمانيا، إلّا أنّ قيام الإصلاح الديني (Reformation)[4] على يد مارتين لوثر (928هـ/ 1521م) كان له أثرٌ في تغيير تلك التوجهات، التي تحدّدت بتركها العالم الديني والثّقافيّ للكاثوليكيّة، وإزالتها لظواهر الطابع الثقافي المتّصل بالتوراة وبقراءته وبترجمته وبتفسيره في تشريعها الديني الخاص[5]. ممّا يعني تحرّر المنظومة العلميّة في ألمانيا نوعًا ما من توجيهات الكنيسة والحكام في وقت مبكر.

(83)

كان تحرّك المستشرقين الألمان العملي لدراسة الشّرق في هذا القرن متّكئًا على مخطوطات مكتبة بوستل[1] في مدينة (فالس)، والتي أصبحت أساسًا مهمًّا بنيت عليه دراسة اللغات الشّرقيّة في ألمانيا[2]، ولمع في هذا الوقت عددٌ من المستشرقين منهم: يعقوب كريستمان (962-1022هـ/ 1554-1613م) الذي أفاد من تلك المكتبة في تأليف كتاب لتعليم حروف اللغة العربية، وأعدّ مطبعة بحروف من الخشب لطباعة هذا الكتاب، وعمل على إنشاء كرسي للعربيّة في جامعة هايدلبرغ، واستطاع أن يُدرك مقدار الصّلة الوثيقة بين العربية كلغةٍ وبين العلوم الأخرى كالطب والنجوم، لذا ترجم كتاب الفلك للفرغاني (ت: 347هـ/ 861م) لا عن العربيّة مباشرة، بل عن النّصّ العبري ولا إلى الألمانيّة بل إلى اللّاتينيّة»[3]. وعمانوئيل ترميليوس[4] الذي حاول دراسة الشّرق من خلال وضعه لكتاب عن قواعد اللغتين الكلدانيّة والسريانيّة (987هـ/ 1579م)، وترجمته للإنجيل من السّريانيّة عن مخطوطة (لبوستل) إلى اللاتينيّة في السنة نفسها[5]، وانصرف منذ سنة (969هـ/ 1561م) إلى إعداد ترجمةٍ حرفيّةٍ للعهد القديم (التوراة) إلى اللاتينيّة وبمؤازرة من تلميذه وزوج ابنته فاي يوليوس (Fai yulus)[6]، ولقد صادف إقدام يوليوس الذي نال نصيبًا من علوم العربيّة على ترجمة الكتاب المقدس، الذي وجد المجلّد منه بين رسائل بولس وتاريخ الرسل التي تركها (بوستل) بين مستنداته تطابقًا

(84)

مع توجّهات الأوساط المعنيّة بكلمة الربّ ضمن المنحى الإصلاحي اللوثري[1]، ووضع كريستمان فهرسًا للمخطوطات الشّرقيّة لبوستل، فوجدت العبريّة والكلدانيّة والعربيّة والسريانيّة طريقها إلى الجامعات الألمانيّة[2].

في القرن السابع عشر برزت شخصيّات استشراقيّة في ألمانيا، كالراهب الألماني جرمانوس[3] (P.D. Germanus) (997-1081هـ/ 1588-1670م) الذي وضع معجمًا عربيًّا - لاتينيًّا - إيطاليًّا بعنوان: (fabrica lginguae arabicae, roma)، ومع أنّ هذا المعجم كان رديئًا وضئيل القيمة إلّا أنّه بقي مستعملًا في أوساط المبشرين حتى منتصف القرن التاسع عشر للميلاد، كما ترجم جرمانوس القرآن الكريم إلى اللاتينيّة، واشترك في الترجمة العربيّة للكتاب المقدّس، نشرتها هيئة الدّعوة والتبشير التابعة للفاتيكان (1082هـ/ 1671م)[4]، وعمل اللّاهوتي الإصلاحي جوهان هوتنغر (1030-1078هـ/ 1620- 1667م) فهرسًا للمخطوطات الشرقيّة، ونشره سنة (1069هـ/ 1658م) في هايدلبرغ، بعد أن قام برحلةٍ إلى هولندا لكي يتمرّن على العربيّة عند فاي يوليوس، كما قام بمحاولة وضع حياة السيد المسيح بالعربيّة، مع ترجمة لاتينيّة تجمع مقاطع من القرآن الكريم ومقاطع من التوراة، وكتابه، (المكتبة الرّباعيّة الأجزاء) قد حوى مجموعة من منتخبات المخطوطات والكتّاب العرب. ولكن كلّ عمله لم يصل إلى التحرّر من ثقل التأويل الديني، ويقول جوهان عن كتابه: «إنّه يساهم بتفسير اسم الله في العهد القديم»[5].

وفي القرن نفسه، دُشّنت أوّل طبعة للقرآن الكريم بحروف عربيّة، وما تزال توجد منها

(85)

نسخ في الوقت الحاضر، كان القائم على تلك الترجمة أبراهام هنكلمان[1] (Abraham Hinckelman)، في مدينة هامبورج بألمانيا، وتمّ طباعتها في مطبعة Schultzio).Schillelriana) سنة (1106هـ/ 1694م) وتقع في 560 صفحة[2]، «وفي برلين نُشرت مختارات من القرآن الكريم بالعربيّة والفارسيّة والتركيّة واللاتينيّة سنة (1114هـ/ 1702م) قام بنشرها أندريا أكلولوثوس[3] (Anderia Acouthos)، اللاهوتي وأستاذ اللغات الشرقية في براتسلافا وتقع في 57 صفحة من قطع الورق وعنوانها باللاتينيّة:

Alcoranca, sive specimen Alcorani quadriling uis Arabici, persici, Turcici. Latini[4].

بحلول القرن الثامن عشر الميلادي تعلم قسم من المستشرقين الألمان اللغات الشرقيّة في هولندا، ولما رجعوا إلى ألمانيا علّموها في جامعاتها، وأخرجوها من نطاق التوراة الذي ضرب حولها ردحًا من الزمن إلى ميدان الثّقافة العامّة، وعندما اتّصلت ألمانيا بالشّرق اتصال سياسة وتجارة أنشأت مدرسة للغات الشرقيّة في برلين سنة (1305هـ/ 1887م) على غرار المدرسة الفرنسيّة والنمساويّة[5].

وممن برز من المستشرقين في هذا القرن جوهان ميخائيليس[6] (gohann

(86)

michaaelis) وهو لاهوتي وذا نزعةٍ عقليّةٍ في فهم الدين والنّظر إلى الكتاب المقدّس، من خلال أبحاثه الواسعة، في ألفاظ اللغة العبريّة، ونقده لأسفار العهد القديم، ومعرفته بالفلولوجيا[1] (Philologie) السريانيّة والعربيّة، وقد اعتمد أساس المنهج النّقدي التّاريخيّ في معالجة الكتاب المقدس[2]. ويعد ريسكه[3] (Johann Jakob Reiske) أنموذجًا بارزًا -في هذا القرن- حيث قام بجولةٍ في هولندا، لمراجعة المخطوطات العربيّة في جامعة ليدن (1151هـ/ 1738م)، وكان ذا رغبةٍ بدراسة الشّعر العربي، فأثبت أنّ اللّغة العربيّة مستقلّة في التّاريخ خلافًا لما يراها بعض المستشرقين بأنّها مجرّد لغةٍ إضافيّةٍ من أجل دراسة العبريّة، وأنّها تحمل قيمًا أخرى غير القيم اللغوية[4]، كما نقل في سنة (1152/ 1739م) أشعار جرير، واهتمّ بشكلٍ خاصٍّ بقصائد العرب الشّهيرة في عصر ما قبل الإسلام، وبالمعلّقات التي عكف على دراستها مع شروح يحيى بن علي التبريزي، ومحمد بن إبراهيم المعروف بابن النحاس، ووقع اختياره أخيرًا على أطولها وهي معلقة (طرفة ابن العبد)[5].

أمّا في القرن التاسع عشر، فإنّ الاستشراق الألمانيّ قد حفل بالتّنوّع والتّقدّم في دراساته الشرقيّة، فمن دراسة اللّغات إلى جمع وتحقيق النّصوص ثم دراسة جغرافيا البلدان الشرقيّة، والاهتمام بتاريخها وواقعها السياسي والاجتماعي ودور الأديان فيها، إلى الاهتمام بالقديم والتركيز على التراث العربي، فضلًا عن استحداث المزيد من كراسي اللغات الشرقية في الجامعات الألمانيّة.

(87)

يرى هارتموت بوبتسين[1] أنّ كرسي اللغات المشرقيّة في كلية الآداب مستحدثٌ، وقد صدرت وثيقة في جامعة بايرويت (Bayreuth) (1155هـ/ 1742م) تؤكّد على أنّ أستاذ الكرسي يجب أن يكون أستاذ لاهوت، وبهذا كانت النّزاعات المستقبليّة حول شغل المراكز مبرمجةً سابقًا، غير أنّها انفجرت في وقتٍ معيّنٍ عندما بدأ الاستشراق يُفهم على أنّه نظامٌ مستقلٌّ بذاته[2]، ففي هذه الفترة بدأ الاستشراق يتبلور ويأخذ أبعادًا مهمّةً في الجامعات الألمانيّة، على أثر معطياته العلميّة، وتعدّد الموضوعات التي يدرسها، حيث كانت محاولات الخروج من ضغوط رجال اللّاهوت على أشدّها في ذلك الوقت، بعد أن أخذت الاختصاصات العلميّة الأكاديميّة حيّزًا كبيرًا في جامعات ألمانيا على حساب الدّراسات اللّاهوتيّة، وكان لقسم من المستشرقين محاولاتٌ لإظهار قدراتٍ علميّةٍ أكثر شموليّةً كما هو الحال مع المستشرق فيدهايم[3] الذي أبدى اهتمامات شملت إلى جانب الاستشراق اللغة الإنكليزيّة أيضًا، وفي مقال ... دعا إلى البدء بتعليم العربيّة السّهلة، بدلًا من العبريّة الصّعبة، ويُعدّ أوّل من ألقى محاضرات حول القرآن في أرلانجن، وإلى جانب الدّراسات العبريّة عالج فيدهايم في المقالات العديدة التي نشرها موضوعات في الفلسفة والعقيدة المسيحيّة وعلم الطبيعة»[4].

كما أدّت المكتبات الألمانيّة دورًا كبيرًا في تطوير الدّراسات الشّرقيّة، وكانت هذه المكتبات على قسمين: الأوّل أُلحق بالبلديات، وتبلغ سبعة الآف مكتبة، أما القسم الآخر فكان تابعًا للكنائس وبلغت إحدى عشر ألف مكتبة، وعُدّت مكتبة برلين الوطنيّة،

(88)

ومكتبات جامعات: جوتنجين، وهايدلبرغ، ومانيس، من أغنى المكتبات بالمخطوطات الشّرقيّة ولا سيّما العربية. وقد قرّر مجلس العلوم الألماني توسيعها وإنشاء مثيلاتها للمعاهد، والتنسيق فيما بينها للحيلولة دون تكرارها، كما أُقيم متحف للفن الإسلامي في برلين (1322هـ/ 1904م) احتوى على مصحف نادر من القرن السابع الهجري (السادس عشر الميلادي) مكتوب بالخط الفارسي[1]. وربما كان لتوافر الإمكانيّات المذكورة سابقًا، مضافًا إليها قيام الوحدة الألمانيّة عام (1287هـ/ 1870م) هي عوامل مساعدة في تقدّم المستوى العلمي للدراسات الشّرقيّة في ألمانيا خلال القرن التاسع عشر للميلاد، الذي شهد بروز نخبة من المستشرقين الكبار من أمثال: فريدريش روكرت وأوكست ديلمان وجاكوب بارت وفلايشر وهنريخ أوالد وغيرهم.

فكان فريدريش روكرت[2] (Ruckert, Fr)، الذي عُيّن أستاذًا أصيلًا لكرسي اللغات الشّرقيّة في أرلانجن، باشر بإعطاء محاضرات مبرمجة في السريانيّة سنة (1242هـ/ 1826م)، ودرس إضافة إلى ذلك اللغة الفارسيّة واللغة التركيّة في الجامعة نفسها، وقد كان اهتمامه متركّزًا على ملحمة الشاهنامه للشاعر الفردوسي[3]، وفيما يتعلّق بالفارسيّة خاصّة، ولم يكن روكرت مترجمًا فحسب، بل كان شاعرًا مقلدًا أيضًا، وضع كتابًا في قواعد الشعر والبلاغة عند الفرس، ومن أعماله: القيام بوصف المخطوطات الشّرقيّة الموجودة في مكتبة أرلانجن وصفًا دقيقًا[4]، وقد جمع روكرت بين فنون الشعر وعلوم اللغة، وعمل سنوات عدّة مُكبًّا على نسخ ما جاءه من الكتب والمخطوطات الشّرقيّة والاقتباس عنها،

(89)

وأضاف على المتون ملاحظاته الشخصيّة، وصحّح أخطائها كما ترجم ما استحسنه من كلّ المتون التي قرأها وصاغ بقلمه أشعارًا على نمط أسلوب الشاعر المتصوّف جلال الدين الرومي[1].[2]

أما أوكست ديلمان[3] (A. Dillmann) فيعدُّ مؤسّسًا لفقه اللغة الحبشيّة الجديد، وتعدّ أعماله عن الأحباش مصدرًا لا ينضب؛ إذ عمل على تعميق معرفته بذلك البلد البعيد عن طريق الاستقصاء للمعلومات لدى المندوبين الأوروبيين في الشرق، وبعد أن أنهى فترة تلمذته في جوتنجن ارتحل إلى كلّ من باريس وأكسفورد ولندن وكوبنهاكن لدراسة المخطوطات الأثيوبيّة، وعمل فهرسًا لوصف هذه المخطوطات، وبهذه الخبرة استطاع من تحقيق أجزاء ترجمة العهد القديم باللغة الأثيوبية[4].

وتخصّص جاكوب بارت[5] (JACOB BART ) بتدريس اللغة العبريّة وتفسير الكتاب المقدّس والفلسفة اليهوديّة في العهد الرباني، وله مؤلّفات في اللغات السامية، أبرزها: تكوين الأسماء في اللغات السامية (1312هـ/ 1894م)، وتكوين الضمائر في اللغات السامية (1337هـ/ 1918م)، ودراسات سامية من أجل معجمٍ سامٍ (1320هـ/ 1902م)، وله في ميدان الدّراسات العربيّة: كتاب الفصيح، وديوان القطامي[6] وعرف

(90)

عنه تطرّفه في تصحيح النصوص العربية، على حين كان يتجنب أي تصحيح في نصوص الكتاب المقدس[1].

وأجرى فليشر[2] (Fleischer, H.L) في باريس أبحاثًا عديدةً في (المكتبة الملكية) الغنيّة بالمخطوطات الشرقيّة، بعد أن عاشر -بداية- الطلّاب المصريين الشباب الذين أوفدهم محمد علي إلى باريس للتزود بالثقافة الأوروبيّة، كما اجتهد في عمله كأستاذ للغات الشّرقيّة، وقد حدّد فليشر مجاله العلمي، رغبة منه في التّخصّص، وجعل من السّنوات الأولى في تدريسه لبعض الكتب حول التوراة، واكتفى فيما بعد بتدريس اللغات العربيّة والفارسيّة والتركيّة، ويحتلّ فليشر المكانة الأولى بين المستعربين الأوروبيين[3].

كما اهتم هنريخ أوالد[4] (hainres ewalld) -وهو لاهوتي بتكوينه- بفقه اللغة، وكانت أعماله الأولى مكرّسةً لترجمة العهد القديم، في صراع مدرسة غوتنغن مع مدرسة توبنغن، حول اللّاهوت البروتستنتي والرؤيا، وكان يطمح إلى إعادة اللغات السامية إلى القواعد العقلانيّة، وأظهر تمكنًا من اللغة الفارسية، والأرمنية، والتركية، كما يوحي كتابه (Grammatica Critica Linguae Arabicae) ومن طلابه تيودور

(91)

نولدكه[1] (Theodoor. Noldeke) ، وفلهوزن[2] (Julus Wwllhausen)، اللذان أبديا اعترافهما به[3].

وعلى الصّعيد الجامعي عين فلهالم جايجر[4] (Willhelm Geiger) أستاذ كرسي للدراسات الهندو-جرمانية (1309هـ/ 1891م)، في جامعة أرلانجن، بعد القرار المبدئي بالفصل بين الكرسيين (الدراسات السامية والدراسات الهندو-جرمانية). استمر الأمر بعدها ثلاث سنوات، لغاية تأسيس كرسي للدراسات السامية، وتسليمها إلى الأستاذ المساعد للعربية والآشورية دكتور لودفينغ آبل (Ludwing Able) في برلين، والذي درّس بارلانجن ما بين (1312-1318هـ/ 1894-1900م)[5]، كانت تلك التعيينات تجري في أجواء من الجدل بين كلية الآداب وكلية اللاهوت، في مسألة اختيار أستاذ الدراسات الشرقيّة، حيث ترى الأخيرة أنّ أستاذ الدراسات الشرقية لا بدّ من معرفته باللغات السامية الكلاسيكية (العربيّة والسريانيّة والعبريّة)، وكان لإلمام (آبل) بهذه اللغات، إضافة إلى معرفته بأبحاث الخط المسماري القديم، قد حسم له منصب أستاذ الدّراسات الشّرقيّة في أرلانجن[6]، ولم يبقَ (آبل) بهذا المنصب طويلًا، فبعد رحيله «المبكر اقترحت

(92)

كلية الآداب ...كارل بروكلمان[1] (Carl Brockelmann) الذي له الأفضليّة الأولى على غيره ... وقبل أن يصبح معروفًا أن بروكلمان لن يأتي إلى أرلانجن، نشب نزاع عنيف مع كلية اللاهوت التي شعرت أنه قد تم تجاوزها أثناء ملء المركز سنة 1894»[2]، ولم ينتهِ النّزاع بين كلية اللّاهوت وكلية الآداب، بل هدأت الأُمور بعد أن تصدّى يوسف هل[3] (Joseph Hell ) لأستاذية كرسي اللغات السامية، الذي تمتع بنجاح في حقل التعليم، وسمعة جيّدة في أوساط الجامعة، سرعان ما اكتسبها بعد تعيينه، إذ لم تعد المواجهات الحادة بين هذه الكليات ذات أهميّة[4].

وقد نشطت أعمال الفهارس بشكلٍ واضحٍ في القرن التاسع عشر، بسبب كثرة المكتبات وتنوّع عناوينها، ففي مكتبة جوتنجن وضع بيرتش (Pertsch, W. 1248) (1317هـ/ 1832-1899م) -الذي يعدّ من علماء المخطوطات وكبار مفهرسيها- فهرس لمخطوطاتها سنة (1295هـ/ 1878م)، وصنف فيها 2891 مخطوطًا، وفي مكتبة مدينة برسلاو وضع بروكلمان فهرس لمخطوطاتها من العربيّة والعبريّة والفارسيّة والتركيّة سنة (1318هـ/ 1900م)، ومكتبة جامعة بون وضع فهرس مخطوطاتها جيلدمايستر[5] سنة

(93)

(1281هـ/1864)[1]، ووضع فلهلم ألفرد[2] فهارس مكتبة الدولة ببرلين في عشرة أجزاء[3]، وفي محاولة استهدفت تسجيل كلّ الكتب الصّادرة، أو التي لا تزال تحت الطبع، العربية والفارسية والتركية، قام تيودور زنكر[4] بوضع معجم (للشخصيّات العربيّة والتركيّة) في مجلدين عام (1293هـ/ 1876م)[5].

كما «تأسّست في عام (1302هـ/ 1884م) الجمعيّة الألمانيّة للدراسات الشّرقية، واسمها الرسمي (Die Deutsche Morgenlandische Gesellschaft)، وقد سبقتها في الواقع جمعيات مشابهة خاصّة في انكلترا وفرنسا. وأصبحت مجلّة الجمعيّة الألمانيّة للدراسات الشرقيّة تمثّل حجر أساس... في مجال الدّراسات الشّرقيّة الألمانيّة، بل إنّ العلماء الأجانب قد أسهموا في إمدادها بدراسات علميّة قيّمة ومتعدّدة»[6]، وإلى جانب هذه المجلّة ظهرت بعدها بحوالي ثلاثين عامًا مجلّة الجمعيّة الألمانيّة-الفلسطينيّة، وتأسّست نهاية القرن التاسع عشر أيضًا جمعيّة الشّرق الأدنى، وتوسّعت فيما بعد لتصبح جمعيّة دراسات الشّرق الأدنى ومصر، وتصدر في نشراتها العلميّة أعمالًا هامّة عديدة حول الآثار القديمة، والتاريخ، والآداب، والدراسات اللغوية لشعوب الشرق الأدنى[7].

وكان لظهور نولدكة وبروكلمان في نهاية التّاسع عشر الميلادي دور في نقل مستوى الدّراسات الشّرقيّة إلى مرحلةٍ مهمّةٍ، بما تركاه من أعمالٍ بقيت معتمدة إلى هذا اليوم،

(94)

وقد استمرّ نشاطهما إلى أواسط القرن العشرين الميلادي، لذا كان تأثيرهما على الدّراسات الشّرقيّة كبيرًا، فأعمال نولدكه التي استمرّ بها من بعده تلامذته، قد تركت أثرًا في مسيرة الدّراسات الشّرقيّة، وتركت صبغتها على مدرسة الاستشراق الألمانيّة. وكانت أهم هذه الأعمال: (أصل وتركيب سور القرآن الكريم)، وهي رسالته التي نال عليها جائزة مجمع الكتابات والآداب في باريس (1275هـ/ 1858م)، وترجمها إلى الألمانية ونشرها بعنوان: (تاريخ النص القرآني)، وله أعمال أخرى منها: في سبيل فهم الشعر الجاهلي (1281هـ/ 1864م)، وقواعد إحدى اللهجات الآرامية (1292هـ/ 1875م)[1]، وقد عالج في كتابه اللغات السامية -في دائرة المعارف البريطانية أوّلًا، طبعة 9، ظهرت باللغة الإنكليزية، وباللغة الألمانية سنة (1305هـ/ 1887م)- مسألة السامية القديمة مع المرادف المعروض، ورفع صوته في شيخوخته محذرًا من التأمّلات الجوفاء والاشتقاق التعسفي[2].

أمّا بروكلمان، فقد امتاز بكثرة أعماله التي وصفها بعضهم بالموضوعيّة، والعمق، والشمول، والجدة، وتعدّ أطروحته الدكتوراه العلاقة بين كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير وبين كتاب أخبار الرسل والملوك للطبري (ت310هـ/ 922م) مرجعًا للمصنّفين في التاريخ العربي الإسلامي والأدب العربي، إذ قلّ منهم من لم يستند إليه أو يتوكأ عليه[3]. وهو الآخر نال مكانةً بارزةً في الدّراسات الاستشراقيّة، فمعظم الباحثين في تاريخ الشّرق الإسلامي، لا يمكنهم الاستغناء عن كتاب بروكلمان (تاريخ الأدب العربي) بأجزائه الستّة، الذي يعدُّ المرجع في كل ما يتعلّق بالمخطوطات العربيّة وأماكن وجودها[4]، فقد «عرض في كتابه تراجم العلماء والأدباء، في العصور الإسلامية، وذيّل كلّ ترجمة بمصادرها، ووصف الكتب وميزاتها، وتاريخ طبعها، ومكانها في الشرق والغرب، وأحصى المخطوطات في مكتبات أوروبا وفي غيرها...، وكان من أعضاء المجمع العلمي العربي في دمشق، ومجامع علميّة أخرى كثيرة، وقد حرّر مواد كثيرة في دائرة المعارف الإسلاميّة،

(95)

ودراسته وبحوثه في التاريخ واللغة والأدب، واللغات السامية، غزيرة ووفيرة»[1].

وفي القرن العشرين الميلادي، كان للدراسات الاستشراقيّة الألمانيّة نصيبٌ من التّخصّص والمعاصرة بالنّظر إلى طبيعة الموضوعات التي تناولتها قياسًا بالقرون الماضية، وعلى يد إعلام هذا القرن من المستشرقين، الذين عملوا على دراسة الموضوعات المرتبطة بالعصر الحاضر، ففي هذا الصدد يشير المستشرق الألماني أودو شتاينباخ في دراسة عن (مؤسّسات البحث والمعلومات عن الشرق المرتبط بالعصر الحاضر في ألمانيا الاتحادية وبرلين الغربيّة) إلى بداية جديدة في علم الشرق المرتبط بالحاضر بعد عام (1365هـ/ 1945م) خاصّة في الجامعة الحرة في برلين الغربية[2].

من أعلام المستشرقين في هذا القرن هلموت ريتر[3] (Ritter, Hellmut)، الذي يُعَدّ من كبار المستعربين الألمان، فهو لا يقل عن نولدكه وبروكلمان شأنًا؛ إذ امتاز بتعدّد نشاطاته وسعة علمه وتطرّقه إلى موضوعاتٍ استشراقيةٍ عديدةٍ، منها: الفتوة، وترجمة كتاب كيمياء السعادة، وإصداره مع بيكر مجلة الإسلام سنة (1339هـ/ 1920م)[4]، وغيرها، و«لو تأمّلنا الآثار العلميّة التي خلّفها ريتر، لتبينّا اتّساع رقعتها وضخامة مكانتها، خاصّة وإنها تعالج قدرًا هائلًا من موضوعات الحضارات الإسلاميّة، كما أنّها تربط مختلف ميادين الاستشراق بعضها بالبعض الآخر، فريتر هو الذي حقّق أثناء إقامته في تركيا نصوص تمثيليات القراقوز وترجمها إلى الألمانيّة بمهارة فائقة، حتى انّه استطاع في هذه الترجمات أن يوجِد مضاهيات ألمانيّة شعبيّة لكلّ لعب لفظي وارد في الأصول الشرقية»[5].

(96)

وفي مطلع هذا القرن عمل جوليوس روسكا[1] (Julius Ferdivavd Ruska ) على تصحيح بعض التّواريخ في المؤلّفات القديمة، مستخدمًا الأدلّة العلميّة. ففي رسالته الدكتوراه (1329هـ/ 1911م) أثبت أنّ الكتاب المنسوب إلى أرسطوطاليس[2] Arsitotale) 284-322ق.م)، إنّما تمّ تأليفه على يد أحد المشتغلين بالدّراسات الطبّيّة في الوسط السرياني الفارسي في منطقة الرها، وفي العام التالي (1331هـ/ 1912م) نشر النّصّ العربيّ لهذا الكتاب، ثم كتب دراستين في مجلّة (Der Islam) (ج4، ص14-66-236-262) بعنوان: (دراسات عن القزويني)[3] بين فيهما أنّ هناك أربعة تحريرات عربيّة مختلفة لكتاب عجائب المخلوقات، أفضلها مخطوط قديم موجود في ميونخ[4].

وفي وقتٍ معاصرٍ لروسكا استطاع اينو لتمان[5] (Enno Lttmann) قراءة النّقوش، النبطية، والتدمرية، والثمودية، والصفوية من خلال حلّ رموزها، ووضع لكلّ لغة مؤلفًا باسمها، وبرع في ميدان الدّراسات الحبشيّة، فاهتمّ بالحبشيّة القديمة المعروفة باسم: جعز، كما عني بالحبشيّة الحديثة بفروعها المختلفة: الامهرية، والجامو، والهررية، والتجرينية، والتجرية، وصنف قاموسا (تجري-ألماني-إنكليزي)، واهتم بالأدب الشعبي

(97)

عند العرب، من حكايات وأمثال ومواويل، وأناشيد دينية[1]، وكان ليتمان واحدًا من عديد من المستشرقين الذين قاموا برحلات في الشرق لأغراض استكشافيّة، فقد كان المشرف على البعثة الألمانيّة إلى أكسوم[2] عام (1324هـ/ 1906م)، واكتشف في رحلته مخطوطات لم تكن معروفة، وبهذا أمكن التأكيد بأنّ الملك الحبشي الذي قاد حروبًا كبرى وتقدّم حتى وصل إلى النيل، قد تبنى المسيحيّة حوالي منتصف القرن الرابع، وصدر عمل ليتمان عن اكسوم عام (1332هـ/ 1913م)[3]، وعندما كان يحاضر في تركيا، عمل على حلّ النّقوش (الليدية) التي وجدت في (ساردس)[4]، واهتم بمعالجة مسائل الوزن الشّعري والأدب الأثيوبي، وأوضاع أثيوبيا الحديثة على اختلاف أنواعها وكان اتجاهه الاختصاصي في ضمن حقل الاستشراق الواسع نتيجة موهبة لغويّة فرديّة هُذبت منذ الصّغر وتأثير متواصل عميق الأثر من أساتذته المستشرقين وعلى رأسهم نولدكه[5].

وبعد سهولة الاتّصالات بين ألمانيا والشرق، ووجود مصالح مشتركة بين الطرفين، حيث أصبح الطرفان في جيئة وذهاب على حدّ قول فيشر[6] (Fiescher)، أنتجت جهود عدد من المستشرقين الذين تولّوا مناصب في الشرق، إقامة مؤسّسات استشراقيّة ببلدانهم،

(98)

كما في بيروت والقاهرة واسطنبول، وعلى إثر ذلك جاءت نهضة الاستشراق العلمي، ومن أصحاب هذه الجهود كارل هاينريش بيكر[1]، فإليه يرجع الفضل في تثبيت الوضع العلمي للاستشراق الألماني خلال القرن العشرين[2].

ويشير المنجد إلى أنّ الرحلات التي قام بها الأوروبيون في بلاد الشرق، كان لها أثرٌ بارزٌ في تاريخ الاستشراق، ودورٌ لا يُستهان به في إيقاظ الرغبة في مشاهدة تلك البلاد ودراسة ما يتعلق بتاريخها وحضاراتها، مع تأكيده على نصيب الألمان من تلك الرحلات، وعرضه لنماذج من المستشرقين الألمان ممن قاموا برحلات إلى الشرق بما فيها البلاد العربية، ومن أشهرهم: كارستن نيبور[3]، وأولريش زيتسن[4]، ويوهان لدفيج بوكهارت[5]، فقد كان لهؤلاء مساهمة في تحسين وضع الاستشراق في أوروبا وجعله موضوعًا دراسيًّا خاضعًا للبحث العلمي بدلًا من التعصب والخرافة[6].

ويرى بعضهم أنّ الاستشراق في ألمانيا بقي محافظًا على مستوى لائقٍ من الموضوعيّة، ويدلّ على ذلك ما أبداه مستشرقون ألمان كبار من أمثال فرتز شبات وجوزيف فإن

(99)

اس[1] ويوهانسن من الارتياح إلى إهمال هتلر والنظام النازي لهم، وعدم استعمالهم في حروبه[2]، وهو ما يؤكّد حياديّة المستشرقين الألمان في اختيار الموضوعات التي يدرسونها.

وعلى الرغم من العوامل المادية الكثيرة في الوقت الحاضر التي تثبط همم الأكاديميين الألمان، للتخصّص في ميدان الاستشراق، إضافة إلى عدم وجود مناصب في الجامعات لجميع المستشرقين الجدد، على الرّغم من ذلك فإنّ الاستشراق الألماني اليوم ماضٍ في سيره، فمعظم الجامعات الألمانيّة تحتوي على قسم لتدريس اللغة العربيّة والإسلاميّات، وأحوال العالم العربي المعاصر، كما اختصت كل جامعة بنوع من الدراسة حسب الأستاذ المشرف على القسم[3]. ومن أهم التخصّصات التي يعنى بها الاستشراق الألماني اليوم: «التاريخ، والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، وعلم الدين، والدراسات الشرق أوسطية، وهذا عمل جيل الكهول، الذين بدأوا ينتجون في الثمانينات. وما تزال بالجامعات الألمانية عشرون كرسيًّا تقريبًا تُعنى بالدراسات الإسلاميّة والعربية، وفي الكرسي أستاذٌ رئيسيٌّ أو أستاذان، وأساتذة مساعدين أو مشاركين عدة... وما تزال المجلّات العلميّة السّالفة تعمل باستثناء مجلة الشرق التي أصدرها هلموت ريتر، ويصدر ...عن الإسلام القديم والحديث حوالي ثلاثين كتابًا في العام، وأكثر من مئة مقالة»[4].

وقد قام صندوق البحث الألماني وصندوق فولكسفاغن (Volks wagen stiftung) في تمويل مشاريع البحث في الدّراسات الشّرقية والإسلاميّة، وعلى نحوٍ منظّمٍ جمع صندوق البحث الألماني الدّراسات السّامية والإيرانيّة الجديدة والتركيّة والإسلاميّة معًا في ضمن موضوع منطقة الثقافات القديمة والشرقية، وقد كان للجيل الشاب من باحثي الدّراسات الإسلاميّة دورٌ في تطوير منظورات مقارنة

(100)

أوسع، قد أغنت في فهم التّصوّف وحركات الإصلاح الإسلامي في الوقت الراهن[1].

ثانيًا: ملامح من الأسس الأكاديميّة والمنهجيّة لدى المستشرقين الألمان

يرى بعض الباحثين أنّ فقدان المستشرقين الألمان لإمكانيّة السفر لعمل إداريّ في الشرق، وميولهم إزاء البحث العلمي والابتعاد عن السياسات الاستعمارية -خلافًا لما هو الحال بالنسبة لكثير من المستشرقين في البلدان الغربيّة كفرنسا وبريطانيا وغيرهما[2]- ساعد في تحرّرهم من دائرة المصالح السياسيّة فحافظوا على أكبر قدرٍ ممكنٍ من الموضوعيّة العلميّة[3]. لذا فإنّ عدم مشاركة الألمان للفرنسيين والبريطانيين في الاحتلال العسكري للشرق، جعلهم يتّجهون إلى احتلاله فكريًّا[4].

وتوجد بعض الشّواهد التاريخيّة التي تدلّ على ضعف التنسيق بين المستشرقين الألمان وحكوماتهم، منها: ما قام به سباي[5] في وضعه لفكرة تهدف إلى عمليّة تبشيريّة من خلال إنشاء مطبعةٍ عربيّةٍ لطبع الكتاب المقدّس باللغة العربيّة، وإرسال تلك النّسخ إلى الشرق، ليصدّق النّاس هناك بنور الإنجيل الصادق، وعندما أراد دعمًا ماديًّا لم تلقَ محاولته آذانًا صاغيةً من الأمراء الألمان[6]، ومعاناة رايسكه في شرائه الكتب العربية في أوروبا بسبب فقره المدقع[7]، والمشاكل التي عانى منها بروكلمان مع الناشرين عند طباعة كتبه[8]، وتوجه معظم المستشرقين الألمان إلى مزاولة أعمال بسيطة لتغطية نفقاتهم، وخصوصًا الذين غادروا إلى بلدان أخرى طلبا للعلم[9]، فربما كانت هذه الظروف قد

(101)

ساعدت المستشرقين في التّخلص من نمط الدّراسات الموجّه، ومن ثم إحراز تقدّم ملحوظ على صعيد المنهجيّات العلميّة، وإدخال التاريخ الإسلامي في منهج الدراسات التاريخيّة العامّة السّائد في أوروبا، ومحاولة النّظر إلى هذا التاريخ بروحٍ من الاعتدال والموضوعيّة.

كما أنّ ابتعاد المستشرقين الألمان عن الدّراسات الموجّهة جعلهم على صلةٍ بالواقع العلمي ومناهج البحث في أوروبا، وعمّق معرفتهم بالنظريات العلميّة التي ظهرت في أوروبا. حيث ترى معظم الدّراسات أنّ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين قد شهدا ظهور كثيرٍ من النظريات النقديّة في الفلسفة والتاريخ، ففي عصر التنوير عرفت أوروبا ما يسمّى (بالفلسفة التجريبيّة)[1]، و(الفلسفة العقليّة)[2] المتحرّرة من الدين والميتافيزيقيا، مع سيطرة للنزعة الإنسانيّة كردّ فعلٍ إزاء أساليب الكنيسة في العصور الوسطى في قتلها لروح الاجتهاد، واعتقادها بعجز العقل البشري[3] وضعف الإرادة الإنسانيّة[4]. هذه النظريات لعبت دورًا مهمًا على صعيد تحرير المناهج التاريخيّة في أوروبا من فعل العامل الديني المتعصّب الذي شهد التاريخ بأثره الفاعل أيام الحروب الصليبيّة.

ويُحتمل أنّ تأثيرات تلك المواقف من قبل روّاد الحركة العلميّة في أوروبا إزاء سياسة

(102)

الكنيسة قد تسرّبت إلى ذهنيّة المستشرقين[1]، فالاستشراق في أوروبا كان جزءًا من تيّارات العلوم التي ولدتها نظريّة المعرفة «الوضعية» التي سادت في القرن التاسع عشر، كما أنّه خضع لتأثيراتها المنهجيّة جنبًا إلى جنب مع مناهج الدّراسات التاريخيّة والفيلولوجيّة التي حاولت تمثل المنهج الفيزيائي والبيولوجي. والمتابع يعلم أن فكرة التطورية والتقدّم المطّرد وفقًا لنسقٍ مركزيّ عالميّ (أوروبي) كانت الفكرة - المرجع أو المثال في ذلك الإنتاج المعرفي الغربي الضخم الذي كان الاستشراق جزءاً منه، وفي ذلك يرى بعضهم أنّ المناهج العلميّة لدراسة التاريخ لم يبتدعها المستشرقون، وإنما كانت شائعةً في الغرب، وقد طبقها هؤلاء المستشرقون على العلوم والآداب والفنون الإسلاميّة تطبيقًا صحيحًا[2]. وإذا كان المستشرقون في البلدان الأوروبيّة بشكلٍ عام عملوا تحت الإرادة السياسيّة والدينيّة لبلدانهم، فإنّ المستشرقين الألمان كانوا على صلةٍ بمناهج أوروبا وتطوّرها أكثر من صلتهم بالسياسة الاستعمارية لبلدهم، لذا كان الفرق واضحًا في طبيعة بحوثهم ودراساتهم حول الشرق والإسلام.

والاسشراق بشكل عام مرّ بمراحل من التطوّر كما هو الحال بالنسبة لواقع مناهج البحث التاريخيّة في أوروبا، يقول رودي بارت: «لم يتبع تطور الاستشراق -من مرحلة التحوّل النهائي إلى علم قائم على النّقد التاريخي- طريقًا مباشرًا مستقيمًا، ولم يتم الاشتغال بالشرق وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالدين الذي نشره التحرّر من طريقة البحث اللاهوتيّة المبنيّة على الدفع والمشاحنة إلّا في العصر الحديث وتدريجيًا»[3].

إنّ أهم الأُسس التي اتّبعها المستشرقون الألمان في دراسة التاريخ الإسلامي، هي: المنهج الفيلولوجي والمذهب التاريخاني، وهي مناهج معروفة عند المدارس الأوروبية لدراسة التاريخ والعلوم الإنسانيّة.

(103)

1- المنهج الفيلولوجي (Philologie)

يعرف المنهج الفيلولوجي بـ (بفقه اللغة)[1]. وتبدو أهمّيته في أوروبا كبيرة بالنسبة للدراسات والبحوث التاريخيّة، ففي القرن التاسع عشر الميلادي كان هذا المنهج مرتكزًا إلى حدّ كبيرٍ على الدراسات التاريخيّة للغات الأوروبيّة، والتي تم فيها معظم التّقدّم والتطوير في المنهج والنظريّة، وكانت هذه المدّة محفوظةً تقريبًا للعلم الألماني، حيث قَدِم كثيرون من أقطار أخرى إلى ألمانيا لدراسة هذا العلم فيها؛ لأنّهم وجدوا أنّ الألمان قد تعاملوا بمنهجيّةٍ دقيقةٍ مع علم اللّغة، فقد كان شليجل[2] يؤكّد على دراسة التركيبات الداخليّة للغات لإلقاء الضوء على علاقاتها الوراثيّة، ويبدو أنّه وضع القواعد المقارنة لعلم اللغات المقارن[3]. وقد ركز شليجل على نظريّة التطوّر والارتقاء، إذ إنّ اللغات الإنسانيّة قد نشأت في عزلة وانفراد، ثم تطوّرت وأصبحت إلصاقيّة، ثم ارتقت إلى التحليليّة، وعلى هذا الأساس قسّم اللغات الإنسانيّة إلى ثلاث فصائل: اللغات العازلة وهي غير متصرّفة ولا تُلصق بأصولها حروف زائدة، وليس بين أجزائها ترابط وصلات كاللغة الصينيّة، والثانية اللغات الإلصاقيّة وتمتاز بالسوابق واللواحق التي ترتبط بالأصل وتغير المعنى ومنها: اليابانية والتركية، أمّا الثالثة فهي اللغات التحليليّة التي تتغيّر أبنيتها بتغير المعاني ومنها: السامية-العربية[4].

وقد اهتم علماء أوروبا بدراسة الصّلات والوشائج بين اللغات القديمة، وما بينها وبين

(104)

اللغات الحديثة، وساد بينهم منذ القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) اتجاهًا معروفًا يؤمن بأنّ لغات العالم القديم تندرج تحت ثلاث مجموعات رئيسيّة، كل منها مستقلّ عن الآخر تمام الاستقلال، وتلك اللغات هي: مجموعة اللغات السامية (Semmitic)، والمجموعة الثانية الحامية (Hamitic)، والمجموعة الثالثة الهندو-أوروبية (Indo-European)، وكان العلّامة الألمانيّ ماكس موللر[1] من أنصار هذا المذهب[2].

كما أنّ مسألة اختلاف اللغات قد أثارت لدى علماء الغرب الاستعانة بفروعٍ علميّة أخرى، لتمييز الأقوام المختلفين في اللغة. فاستعانوا بعلم الأنثروبولوجيا أي علم الأجناس، أو الجغرافيا البشرية، فظهرت بحوث عن الجماجم قديمها وحديثها وقياس العظام والأنوف وطبيعة الشعر ونسبة تجلط الدم إلى آخره، في محاولة تبويب أجناس البشر على أساسٍ علميٍّ إلى جانب الأساس اللغوي، ما أدّى إلى تقسم البشر إلى ثلاثة أجناس هي: الجنس الآري، والجنس السامي، والجنس الحامي، وعلى أكتاف هذا المذهب شمخت القوميّة الأوروبية، لا سيّما في ألمانيا مهد أكثر هذه النظريات، التي تؤمن بتفوّق عرق على آخر[3].

وبتداخل الفيلولوجيا مع علم الأجناس (الأنثروبولوجيا) الذي يستند إلى اختلاف الأجناس البشرية. استلزم على الفيلولوجيا دراسة علم الصوتيات (الفونطيقا)، الذي يمكن من خلاله تمييز السلالات البشريّة، لاختصاص كلّ سلالة بنطقٍ خاصٍ بها، وأنّ اختلاف اللهجات داخل الشّعب الواحد ما هو إلّا مؤشّر على تراكب السلالات المختلفة فيه عبر تاريخه، الذي ينتج في الغالب بسبب الهجرات والتزاوج والغزوات، وأدّت تلك التداخلات في وظائف هذه العلوم الثلاثة إلى الاستعانة بعلم الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة التي تمتد فتشمل الأديان المقارنة والأساطير المقارنة والفولكلور والنظم والعادات

(105)

والتقاليد المقارنة[1]. وبالنتيجة فإنّ الفيلولوجيا أصبح لها ارتباطات بمختلف العلوم التي تهتم بالتاريخ الإنساني، وتتحدّد سماتها العامّة في الاعتماد على الدّراسات الشّاملة، وأساليب المقارنة للإحاطة بالظواهر التاريخيّة، من خلال الإلمام بالظروف المحيطة بالنّصوص التاريخيّة وقت كتابتها، وبيئة كاتبيها.

وفي مدرسة الاستشراق الألمانيّة برز جيل من الفلولوجيين، لا يمكن المرور على أعمالهم مرورًا عابرًا؛ لأنّها ذات أبعادٍ واسعة التأثير على الدراسات الشرقيّة، فقد كان فلايشر (Fleisher) «أعاد تأسيس الدراسات العربية في ألمانيّة...واجتمع [حوله] جماعات عديدة من الألمان والأجانب ليكتسبوا منه الدّقّة الفيلولوجيّة والنّقد الفيلولوجي للغة العربية»[2].

ومنذ أوائل القرن التّاسع عشر الميلادي، طُبّق المنهج الفيلولوجي على النّصوص الإسلاميّة من قبل المستشرقين الألمان، في تحقيق مصادر السيرة والمغازي وعلوم القرآن، ودراسة تاريخ المصحف ووضع ترجمات له، والخوض في القراءات القرآنيّة وأسباب النّزول[3]، وبهذا المنهج وضع غوستاف فايل كتابًا بالألمانيّة بعنوان (مقدمة تاريخيّة نقديّة للقرآن الكريم)، وفق مقاييس أحداث تاريخيّة معروفة، ومحتوى الوحي من حيث أغراضه، وأسلوب النص، وسار على منهجه نولدكه ومن جاء بعده في مجال الدّراسات القرآنية[4].

وكان أوغست فيشر الذي اتخذ من فلايشر قدوةً عمليةً له، قد نظر بموضوعيّةٍ وتحليلٍ إلى فقه اللغة العربيّة، كأساس لا غنى عنه للتعامل العلمي مع كلّ النّصوص العربيّة، وأنّ حدسه القوي للاحتمالات النحويّة في مصطلحات اللغة، وتمكنه من الثروة

(106)

اللفظية، والاستعمال اللغوي للعربية بدءًا بأقدمها وانتهاءً بلهجاتها الحاضرة، ومعرفته الوطيدة بالنحويين العرب، أهلته لأن يبعث الحياة مجدّدًا في كلّ ما يختفي خلف الحروف الميتة من النص العربي، وفي دراسته لترجمات القرآن اكتشف العجز اللغوي في الصياغات الشائعة، والضبابيّة التي تخيّم على الإيحاءات القرآنيّة من جهة اللفظ والأسلوب، والقراءات[1].

وقد كان رايسكة على بيّنةٍ من خصوصيّة قواعد اللّغة العربيّة واستقلاليتها، لذلك رفع من منزلة فقه اللغة العربيّة إلى مصاف علم مستقل، فقد تحرّرت منهجيّته لتدرك ما لم يدركه أصحاب اللغة المقدّسة (رجال اللاهوت) التي كانت سائدةً في ذلك الوقت، وكان رايسكه يهدف من دراسة فقه اللغة العربية لتكون منطلقًا لبحوثه التاريخيّة. وبالنّظر لإدراكه لأهميّة الإسلام بالنسبة للتاريخ الأوروبي، فلم يقرأ نصوصه العربية كعلم لغة يكتفي منها فقط بفهم القصد الذي يرمي إليه المؤلف، بل كمؤرخ يصنّف التاريخ الإسلامي في إطار التاريخ البشري العام، ويتّخذ منها (النصوص) موقف المفسّر لنوايا الشخصيّات ودوافعهم[2].

وبالنظر إلى ملاحظات فلايشر في تعليقاته على كتاب (النحو العربي) للمستشرق الفرنسي دي ساسي[3]، يظهر أنّه استعان بالمنهج المقارن في تأصيل بعض الظواهر اللغويّة بإرجاعها إلى أصولها اليونانيّة والآراميّة أو العبريّة، كما هو الحال في: جبروت وملكوت وحيّة وأصلها حُوية وهي في الآرامية حَوْيا[4]، أما نولدكه فهو حسب وصف رضوان السيد: فيلولوجيّ تاريخانيّ جاف، كان يعرف عددًا كبيرًا من اللغات السامية والهندو-أوروبيّة، وبحوثه ذات منحى لغويٍّ في أكثرها، وقد اعتمد لغة المصادر وأخبارها، وتعدّ

(107)

أعماله في تاريخ القرآن الكريم بأجزائه الثلاث عملًا خالصًا له، عدا أخذه برأي غوستاف فايل في تقسيم السور المكية، وقد بقي عمله حوالي قرن عمدةً للدارسين من دون أن يجرؤ أحد على ترجمته عن الألمانيّة إلى لغة أخرى لدقّته وعُسره ونزوعه الفيلولوجي[1]. وفي أعمال بروكلمان وجدت الفيلولوجيا كمنهجٍ تاريخيٍّ، يقول فولفد يتريش فيشر: «من المعلوم أنّ المنهج اللغوي هو منهج تاريخيّ، ولذلك ألّف بروكلمان، في تاريخ الأدب العربي، وهو مؤلّف أيضًا أساس النّحو المقارن للغات السامية، وأخذنا ربما منه هذا المنهج. ولذلك على كلّ طالب يدرس اللغات السامية أن يدرس إحدى اللغات السامية الأخرى إلى جانب اللغة العربيّة على الأقل، فنحن نرى في الآراميّة كثيرًا من كلمات وأصوات نجدها في اللهجات العربية أيضًا»[2]. مما يعني أنّ المنهج الفيلولوجي يستعين في البحوث التاريخيّة لمعرفة التأثيرات المتبادلة بين لغة وأخرى، كما أنّ الباحث التاريخيّ يستعين بالمنهج الفيلولوجي لنقد النّصوص التاريخيّة.

وفيما بعد لم تعد الفيلولوجيا مجرّد قواميس ومعاجم، بل أصبحت جزءًا أساسيًّا من المنهج السائد باعتبارها عمدة التّاريخانيّة منذ أواخر القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي)، وقد نبّهنا جوزف فان اس في دراسة بعنوان: (من فلهوزن إلى بيكر، ظهور اتجاه التاريخ الثقافي في الدراسات الإسلاميّة) إلى الإنجاز الحقيقيّ لفلهاوزن وبيكر وهارتمان[3] وشاخت وكاله[4] وغيرهم في الربع الأوّل من القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي)، في أنّهم انتقلوا بالتّخصّص بالتّدريج من التاريخانيّة إلى سوسيولجيا

(108)

الإسلام[1]، كما أنّ أعلام الدّراسات السامية والاستشراقيّة (العربيّة والفارسيّة) إنّما استندوا في نشراتهم للمصادر العربيّة والفارسيّة إلى ما بلغه علم نقد النّصوص لدى التاريخانيين الذين كانوا يكتبون التواريخ الشاملة استنادًا إلى نشراتٍ نقديّةٍ جديدةٍ لأعمال المؤرخين والفلاسفة اليونان والرومان[2].

2- التّاريخانيّة[3] (HISTORICISME)

التاريخانيّة مذهبٌ يهتمّ بدراسة التّاريخ، عرفته أوروبا عمومًا، إلّا أنّه راج في ألمانيا في بداية القرن العشرين الميلادي[4]، فقد انصرفت ألمانيا أكثر من أيّ بلدٍ أوروبيٍّ في وقتها إلى الاهتمام بالتاريخ، وضمّت مدرستها أكثر مؤرخي أوروبا، ما جعلها مختبرًا واسعًا للأعمال التاريخيّة[5]، ويذهب بعضهم إلى أنّ «أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، اجتاح الجامعة الألمانيّة صراعٌ حادٌ أطلق عليه صراع المناهج دار حول السؤال الآتي: هل يجب على العلوم الاجتماعيّة (مثل علم التاريخ) أن تقلّد في منهجها علوم الطبيعة؟ أم عليها أن تستنبط منهجًا خاصًا بالإنسان يتماشى وطبيعته الإنسانيّة الخاصّة جدًا؟ وما هي خصوصيّة المؤرّخ: هل تكمن في المادة التي يمارسها؟ أم في المنهج الذي يستخدمه؟»[6].

(109)

ربما كان لظهور المدارس والمذاهب المختصّة بدراسة التاريخ في أوروبا سببًا في اندفاع المذهب التاريخاني لـدخول المنافسـة، كظهـور مـدرسـة الحوليات الفرنسية (Les Annales)، التي ابتدأت أعمالها من خـلال مجلّــة الحــوليات الفـرنسيّة[1]
([2]Les Annale). والمذهب الوضعي[3] الذي وجد فيه التاريخانيون العجز عن الإحاطة بظروف نشأة الحوادث التاريخيّة. واعتماده على الوثائق المكتوبة، واختفاء بصمة المؤرخ بما في ذلك بصمته اللغوية، وحرصه على البقاء في أجواء الأرشيفيات، وسقوطه في القوميّة الشوفينيّة رغم ادّعائه الموضوعيّة[4]، فربما كان لوجود مثل تلك المدارس والمذاهب في أوروبا دورٌ في نشاط التاريخانيين لدخول المنافسة، ومحاولة تصحيح بعض مسارات معالجة الظواهر التاريخيّة ومناهجها.

أمّا عن طبيعة هذا المذهب، فإنّ بعضهم يرى أنّه يقود إلى الإحاطة بالواقعة التاريخيّة وظروف تكوّنها أكثر من المشاركين فيها، فالارتباطات المنطقيّة بين الأحداث تنتقل مباشرة من لا وعي المشاركين إلى وعي المؤرّخ المعاصر. أمّا الارتباطات كما رآها المشاركون وعملوا على ضوئها، فليست بواقعيّة، بنظر تاريخ اليوم[5]؛ لأنّ الرجال يصنعون التاريخ، ولكنّهم لا يعلمون أنّهم يصنعونه[6].

(110)

يهدف أنصار المذهب التاريخانيّ إلى التّحرّر من كلّ القيود (الدينيّة، أو القوميّة، أو العنصريّة، أو العاطفيّة) التي تعيق المؤرّخ من إصدار الحكم الصّحيح حول الواقعة التاريخيّة، فالتاريخانيّة وفق ذلك هي رؤيةٌ ماديّةٌ جامدةٌ لا تؤمن إلّا بالحس. لذا فهي تصطدم -مثل كثير من النظريات الماديّة الغربيّة المهتمّة بالتاريخ- بالحقائق الدينيّة وخصوصًا الوحي.

وقد نجد معارضةً من داخل الاستشراق الألماني لطبيعة تعامل المذهب التاريخانيّ مع الظاهرة التاريخيّة، فالمستشرق الألماني فرتز شبات يرى أنّ هذا المذهب كلاسيكيّ، وبسبب صموده وثباته جعل المراجعين الجدد من الأوروبيين والأمريكيين يحملون عليه[1]. وهي إشارة إلى وصول المذهب التاريخاني إلى حالةٍ من الجمود، ربما بسبب تعامله مع كثير من الظواهر التّاريخيّة بماديّة مفرطة، وإقصائه للاعتبارات الروحيّة والمعنويّة من حساباته، يقول الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي هنري كوربان: «إنّ الدّراسة التاريخيّة تُغرق الحدث الدّيني في حيّز التّاريخ والأخبار الاعتياديّة، فتفرض عليه زمانًا غير زمانه ومحيطًا غير محيطه، [و] لا يمكن أن نحشر ضمن التّاريخ الاعتياديّ خوارق مثل الحلول والرؤيا.. التي تحرّرنا وتنقذنا في الواقع من قبضة الزمان ومن سجن التاريخ»[2]، وقريب من هذا الرأي يرى بعضهم «أنّه لا بدّ من البحث حول الأبعاد الروحيّة قبل البحث عن القضايا والمسائل التاريخيّة»[3].

في أوروبا عارض أنصار المذهب التاريخانيّ المناهج الانتقائيّة، وأحدثوا ثورةً ضدّ آراء فلاسفة مشهورين كتبوا في التاريخ بسبب انتقائيتهم. كمعارضتهم لفولتير[4] الذي أصدر حكمًا مسبقًا كفيلسوفٍ مصلحٍ بهدم نظام وإبداله بنظام آخر؛ لأنّهم وجدوا أنّ من يقول بلا عقلانيّة أو بلا أخلاقيّة هذا النّظام أو ذاك، يقول بالضرورة إنّ التاريخ مُتقطع

(111)

ومُمَزق، إذ يؤمن أنّه يستطيع محوه بجرة قلم وبأغلبيّة صوت، ومضمون عبارة رانكه[1] الشهيرة: «كل حقبة من التاريخ هي في جوار الله، قيمتها في ذاتها وليس في ما ترتّب عنها»[2]، فيه تحذير من تحميل الحادثة التاريخيّة بأكثر مما تتحمّله.

ومن المحتمل أن تقيّد المذهب التاريخاني المفرط بالجانب المنهجي، أدّى به إلى رفض العديد من الكتابات التاريخيّة. فهي بنظره سطحيّة تركّز على المفاهيم، وواقعة في إطار فلسفات توظفها لإغراض الدّعاية لوقائع الماضي، لذا عدّ التاريخانيون هذه الكتابات منافية للفكر التاريخي المتقيّد بإدراك خصوصيّة كلّ حقبة، يقول رانكه وهو أحد أقطاب المذهب التاريخاني: «إنّ عملي يرمي فقط إلى وصف حوادث الماضي كما حدثت فعلًا»[3]، كما يرى بعضهم أن أفكار النّاس متأثّرة بالظرف التاريخي الذي يجدون أنفسهم فيه، لذلك لا يمكن تحليل التاريخ من الخارج، بل يقتضي إدراك معناه من الداخل، وبذلك يصبح التاريخ والكشف عن معنى التاريخ عمليتين شديدتي الاقتران[4].

وفي منتصف القرن العشرين الميلادي، تعرّضت التّاريخانيّة لنقدٍ حادٍ من قبل كارل بوبر[5]؛ بسبب محاولات التاريخانيّين تطبيق مناهج العلوم الطبيعيّة على علم الاجتماع، على وفق رؤية أنصار (المذهب الطبيعي) التاريخي، بهدف معرفة مستقبل المجتمعات البشريّة ورصد الثّورات الاجتماعيّة قبل حدوثها. وبحسب بوبر، فإنّ التنبّؤ في الحوادث

(112)

الاجتماعية لا يمكن أن تجتمع أدواته لدى علم الاجتماع مثلما يحصل مع العلوم الطبيعيّة الأخرى، كعلم الحياة، وعلم النفس (Psychology)، ويؤكّد بوبر أنّ العلوم الاجتماعيّة إزاء تفاعلٍ شاملٍ معقّدٍ، ومن المحتمل أن يكون لوعينا بوجود الاتجاهات التي قد تسبّب في المستقبل حادثًا معيّنًا، وإدراكنا أنّ التنبّؤ قد يؤثّر هو نفسه في الحوادث المتنبّأ بها، فقد يكون من شأن هذه الآثار أن تخلّ بموضوعيّة التّنبّؤات وغيرها من نتائج البحث في العلوم الاجتماعيّة[1]، وبوبر لا ينكر إمكانيّة تحديد الاتجاهات والميول الاجتماعيّة، إلّا أنّه ليس بالإمكان وضع قوانين لها كما في العلوم الطبيعيّة، فلا وجود لقوانين التّعاقب ولا وجود لقوانين التّطوّر، ومع ذلك اعتبر أصحاب المذهب التاريخاني أنّ قوانين التّعاقب تعين سلسلة الحوادث التاريخيّة من حيث حدوثها في الواقع في محاولةٍ تستعين على اكتشاف قانون التقدّم بدراسة الوقائع التاريخيّة العامّة وتحليلها وإذا ما اكتشفنا هذا القانون أصبح باستطاعتنا التنبّؤ بالحوادث المستقبليّة[2]، لذا عُدّت (الحتمية)[3] التاريخيّة -التي ادّعت التاريخانيّة إمكانيّة التّوصّل إليها- هي الأشد رفضًا من بين تطبيقاتها؛ «لأنّ سلوك الإنسان لا يُفسّر ولا يمكن ردّه إلى مبادئ عامّة أو قوانين تحكمه، وكل حدث في التاريخ فريد من نوعه، والمؤرخ قادر على فهم كثير من نوايا إنسان آخر في الماضي، رغم أنّه يقرأ تلك النوايا من خلال الحاضر الذي يعيشه، وليس هناك تاريخ يمكن أن نقول إنّه كاملٌ ونهائيٌّ لأنّ في كل عصر يطرح المؤرخون أسئلةً جديدةً على نفس الماضي»[4].

وإذا ما أردنا أن نلمس أثر المذهب التاريخاني على مناهج المستشرقين الألمان في

(113)

دراستهم للتاريخ الإسلامي، فإنّنا نجد هذا الأثر في تركيزهم الدّقيق على التّاريخ الشرقي والإسلامي بكلّ جزئياته، إذ لم يهملوا أدقّ التّفاصيل وإن بدت غير مهمّة حتى لدى المسلمين أنفسهم، من خلال نظرتهم إلى تلك التفاصيل والجزئيّات كونها متداخلة مع الظاهرة التاريخيّة، وهي نتاج لزمنها الخاص بها، وإهمالها يؤدّي إلى نقصٍ وعجزٍ يخلّ بنتائج البحث التاريخي. ففي حقل القصص الخرافيّة الشّرقيّة ألّف نولدكه عددًا كبيرًا من المقالات والرسائل الكبيرة والصغيرة، وأسهم كذلك في إلقاء الضوء على تاريخ قصص ألف ليلة وليلة، أو بعض حكايات هذه المجموعة، كما خاض البحث في مجموعة قصص كليلة ودمنة، مقتفّيًا طريق انتقالها من الهند عبر إيران والشرق الأدنى إلى الغرب[1]، لم تتنبه كثير من الدّراسات إلى تلك الجزئيات وأشباهها في التاريخ الإسلامي، بل مرّت عليها مرور الكرام عدا ما سُخّف منها واُستهين به، إلّا أنّ التّاريخانيّة تفرض على الباحث الملتزم بها الإحاطة بدقائق الأمور، والاطمئنان إلى أنّ النتائج لم تأتِ مصادفة إذا ما كان البحث في إطار المنهج المتبع.

وتعتمد النّزعة التاريخانيّة على أساس اعتبار الحقيقة المطلقة كحركةٍ وصيرورةٍ، فهي ترى أنّ على المؤرّخ عندما يصف حدثًا ما ويريد أن يعطيه وزنًا وقوةً وتأثيرًا يلزمه حتمًا ألّا يكون مقتنعًا بقيمته أو بتفاهته مسبقًا، وإنّما يفترض أنّ مغزاه سيظهر تدريجيًّا يومًا بعد يوم وعملًا بعد عمل، وحكمًا بعد حكم، وكلّ حكم في التاريخ قابل للاستئناف للسبب نفسه[2].

أي: إنّنا نستطيع أن نطرح مجموعةً من الأسئلة على الوثيقة التاريخيّة أو الدليل التاريخي نفسه أيًا كان نوعه وطبيعته، ونستنتج وفق ذلك حقائق مختلفة عن الحقائق التي استنتجها مؤرخون سابقون قد تكون أسئلتهم لم تعِ حقيقة هذا الدّليل التّاريخي وظروفه المحيطة. إذًا، فالتّاريخانيّة محاولةٌ لا تعرف الملل أو الفتور في البحث عن الحقائق التاريخيّة، وعلى الرّغم من العيوب التي تحملها والرّفض التي لاقته من هنا وهناك إلّا أنّها في الوقت نفسه قدّمت الكثير من الدّعم لمناهج البحث التاريخي وغيرت

(114)

مسارات عديدة في الرؤى والأحكام حول تلك المناهج.

ومع أنّنا كمسلمين نتحفظ على طبيعة أحكام المذهب التاريخاني حول تاريخنا الإسلامي، إلّا أنّنا يمكننا الإستفادة أو توظيف هذا المذهب في خدمة مناهج البحث التاريخي في بعض الموضوعات التاريخيّة البعيدة عن السيرة النبويّة الشّريفة والقرآن الكريم، كدراسة الفرق والمذاهب الإسلاميّة، ودراسة المذاهب الكلاميّة التي طرأت على التاريخ الإسلامي وكلّ ما يمكن أن نعدّه من التّراث الإسلامي المتراكم، وهو ما يمكن معالجته من دون المساس بأصل الدين الإسلامي وعقائده الثابتة.

وقد أبدى المستشرقون الألمان اهتمامًا لافتًا بالدّراسات القرآنيّة والسّيرة النّبويّة وبالفكر والأدب والعلوم والمخطوطات الإسلاميّة، وقد توزّعت جهود المستشرقين الألمان بين تلك الموضوعات، حتى أشبعوها بالبحث والدرس والمتابعة، إذ نجد أنّ بعضهم أفنى سنوات طويلة من عمره مركزًا اهتمامه على موضوع معيّن، وهذه قد تكون ظاهرة بارزة لدى المستشرقين الألمان، فضلًا عن وجود عددٍ منهم ممن كان موسوعيًّا ومتنوّعًا في اهتماماته، حيث شملت مختلف الموضوعات، كالمستشرق الألماني نولدكه وبركلمان وغيرهم. ومن خلال تسليط الضوء على الحقول المعرفيّة التي اشتغل عليها هؤلاء المستشرقون نجد أنّها متوزّعة إلى موضوعات عدّة، وهي: حقل اللغة، والدراسات القرآنية، والسيرة النبوية، ونظم الإدارة والتشريع، ودراسة التاريخ الإسلامي الذي يتضمّن معرفة المجتمعات الإسلاميّة على اختلاف قوميّاتها، ودراسة التأثيرات الاقتصادية والسياسية والفكرية على الإسلام.

أ- حقل اللغة

كانت البدايات الأولى لاهتمام المستشرقين الألمان بحقل اللغة العربية في القرن السابع عشر الميلادي، ففي هذا الوقت كان لجرمانوس عنايةٌ خاصّة باللغة العربيّة، شملت حتى اللهجات الشعبيّة، وقد أنجز في ذلك آثارًا منها: قواعد اللغة العربيّة العامية، وقاموس للغة العربية الفصحى والعامية، ونصوص عربيّة سريانيّة، كما وضع

(115)

قواعد اللغة العربيّة باللاتينيّة، ووضع أقوالًا مأثورة بالعربية سميت الفوائد والقلائد[1]. على حين يعدّ مستشرقو القرن التاسع عشر الميلادي أكثر اهتمامًا بحقل اللغة من سابقيهم، حيث كانت لهم عناية خاصّة باللغة العربيّة؛ لأنّها لغة القرآن الكريم، ولغة المصادر التي دُون بها التاريخ الإسلامي.

إنّ موضوعات اللغة العربيّة التي اشتغل عليها المستشرقون الألمان قد تضمّنت: قواعدها، وفقهها، وتاريخها، ومعاجمها، كما جرَّ معه الأدب بوصفه مصدرًا وأسلوبًا لتلك اللغة[2]. وقد بُذلت جهودٌ كبيرةٌ من قبلهم في سبيل الإحاطة باللغة العربية وإتقانها، ولاقوا صعوباتٍ كثيرةً في سبيل ذلك، حتى سافر بعضهم إلى بلدان أخرى لغرض تعلمها، وكان أشهر هذه البلدان فرنسا وعلى يد رجل واحد سعى إليه... المستشرقون الألمان الأوائل في الربع الأول من القرن التاسع عشر هو سلفستر دي ساسي[3].

لم تكن معرفة ترجمة اللغة العربية إلى الألمانية لدى المستشرقين الألمان نهاية الطموح، فقد أثبتت معالجات فلايشر[4] لشتى المعضلات النحوية، سواء للثروة اللفظية أو استعمال اللغة، أثبتت قدرته على تحليل النّصوص بعقلانيّة، من خلال الإلمام الموضوعي والشامل بالوقائع، والمحافظة على الصيغة الظاهرية للغة، وكانت لفلايشر مقالات في الدوريات السنويّة (حول إعادة تركيب الجمل) لأبي المحاسن، وتصحيحات شاملة للنصوص في تاريخ المقريزي[5]، وفي بعض نشراته تناول قواعد العربيّة لدى

(116)

المستشرق دي ساسي وهي سبر نقدي جذري، وقدّم دراسات حول ملاحق المستشرق دوزي لقواميس اللغة العربية[1]، وكان هانيريش توربيك[2] (H. Thorbecke) تلميذ فلايشر مهتمًا باللهجات العربية، فقد أصدر عملًا بعنوان (قواعد اللهجات العربية الدارجة) في كل من مصر وسورية (1304هـ/ 1886م)، وترك بعد وفاته مدونات كثيرة: منسوخات لمخطوطات وبخاصة مجموعة كبيرة من الجذاذات الورقيّة لمعجم عربي مستقبلي لم تجد من يولّيها العناية[3].

وقد قام بعض المستشرقين الألمان بترجمة قواعد اللغة العربية إلى لغاتٍ مختلفةٍ، كترجمتها من قبل روزن موللر إلى اللاتينيّة (1234هـ/ 1818م)، وإيفالد[4] إلى الألمانية في مجلدين (1247هـ/ 1831م)، وترجمها كاسباري[5] في مجلدين (1265هـ/ 1848م)، ثم أعيد طبعه أربعة مرات بالألمانية، وترجم إلى الفرنسية والإنجليزية، وما زال مهمًّا حتى اليوم، كما وضع اوكست موللر[6] (Muller Augst) دراسة في أصل العربية وتفرع

(117)

لغتي أفريقيا والحبشة عنها، وأصل الحاء والغين في اللغة العربية (1280هـ/ 1863م)، وفي كتابه مدارس العرب النحوية (1279هـ/ 1862م) درس فلوجيل[1] النحاة العرب حتى الجيل العاشر[2].

ويبدو أنّ الاهتمامات باللغة العربية بعد الحرب العالميّة الثانية اتخذت طابعًا آخر، إذ إنّ دراسة اللغة العربيّة الكلاسيكيّة حسب ما يرى فولفد يتريش فيشر
(W.Fischer)[3] لم تمنح المستشرقين القدرة على فهم كلمة شفهيّة، ولم تمكّنهم من قراءة الصحف العربية؛ لأنّ تراث تدريس اللغة العربية في ألمانيا جرى على هذا النحو، لذلك تمّ السعي لتغيير هذا النّمط من التّدريس من خلال تأليف الكتب لتدريس اللغة العربيّة بوصفها لغةً حيّةً معاصرةً[4]، وقد وصف فيشر اللغة العربية بأنّها ذات مزايا وخاصياتٍ جعلتها متفوّقة على اللغات الشّرقيّة الأخرى، كالتركيّة والفارسيّة؛ لبنائها اللغوي ونظامها النحوي، اللذين يعدّان من أوضح اللغات في العالم، ولأهميتها في نقل المعارف والعلوم إلى الحضارات الأخرى، وكان أوّل ما جذب فيشر لدراسة اللغة العربية هو الخطّ العربي بأشكاله الفنيّة المتنوّعة والجميلة على حدّ قوله[5].

في وقت متأخّر، شعر قسمٌ من المستشرقين الألمان أنّ درس اللغة العربية الكلاسيكي

(118)

الذي عرفه قسم من المستشرقين المتقدّمين لا يغني في فهم اللغة العربية كما ينبغي، وأنّ هناك قصورًا في إدراك كثير من المعاني التي تتضمّنها هذه اللغة، لذا كان فولفد فيشر يرغب بالتّخلّص من آثار الدرس اللغوي العربي الذي كان سائدًا عند الجيل الأوّل من المستشرقين الألمان، من أمثال فلايشر، وكاسباري، وجعل الدرس اللغوي يُؤسَّس على وفق النظريّة الغربيّة ذات الأصل اليوناني، وقد ظهرت بوادر هذا التغيير في وقت سوسين (Socin)[1] وبروكلمان، ومع ذلك فإنّ فيشر يعترض على أسلوب بروكلمان لكثرة ما ورد من مصطلحات عربيّة في أعماله، كونه اعتمد الطريقة الغربيّة الوصفيّة في دراسة اللغة العربية[2]، وقد ابتدأ فيشر كتابه (نحو العربية الفصحى) بقواعد الكتابة، فتحدّث في ذلك عن الحروف، والخط، والصوائت القصيرة والطويلة، والتنوين، والتاء المربوطة، والهمزة، والمدّة، والشدة، وهمزة الوصل... ثم تحدّث عن بعض الأساسيّات الصوتيّة، ووصف الأصوات العربيّة، والنبر والتنغيم، وتسهيل الهمزة، والإدغام وبناء المقاطع، وحذف المقاطع، ثم تناول بعدئذ المباحث الصرفية[3].

كما اهتمّ المستشرقون الألمان بالخطّ العربيّ من ناحية أصله وتطوّره إلى شكله الحالي، والذي تشكّلت ملامحه الأساسيّة بحسب فيشر حوالي نهاية القرن الثاني الهجري (السابع الميلادي) من رصيد من الحروف الأبجديّة، مكوّن من ثمانية وعشرين حرفًا، التي تمثّل الحروف الصامتة للغة العربية، وقد دوّنت في كتابٍ يجمع بين الحروف والنظام الصوتي حسب ترتيبها التقليدي[4].

(119)
ب- الدّراسات القرآنيّة

لقي موضوع تاريخ القرآن الكريم في العصر النّبوي وعصر الصحابة، في نواحي: تثبيته، وعدد سوره، وقراءاته، وتاريخ المصحف، اهتمامًا من قبل المستشرقين، ربما لم يلقه موضوع آخر من الموضوعات الإسلاميّة التي اهتمّت بها الدّراسات الاستشراقيّة، ولعلّ هذا الاهتمام يعود إلى اعتبار القرآن الكريم المصدر الرئيس للعقيدة والتشريع الإسلامي. كما تُقرّ معظم الدّراسات الاستشراقيّة بثبات النّصّ القرآنيّ وأصالته.

وتُعدّ دراسات نولدكه في هذا الحقل هي الأوسع بشهادة الأوساط العلميّة، فما قدّمه نولدكه في توجّهه إلى بحث أسلوب القرآن الكريم وذلك من خلال مؤلفه (تاريخ القرآن 1277هـ/ 1860م)[1] قد دلّ على طريق البحث العلمي الصّحيح في الدّراسات القرآنيّة، كما وضع أبحاثه على وفق قواعد متينة ثابتة في هذا الكتاب[2]، وقد تألّف كتابه من أبحاثٍ تاريخيّةٍ-أدبيّة تسعى إلى أن تؤرّخ النّصّ القرآنيّ، أي أن تُعالجه بوصفه وثيقةً من وثائق التاريخ الإنساني، رابطةً إيّاه بموقعه في الحياة، لتتابع بعد ذلك عمليّة جمعه وتعدّد قراءاته[3]. وكان لكتاب نولكه محاورٌ رئيسةٌ تدور حول أصل القرآن الكريم، وجمعه، وتاريخ النّصّ القرآني، وكان كلّ محور من تلك المحاور جزءًا منفردًا يتضمّن مجموعةً من الموضوعات التي تخصّ القرآن الكريم[4]. وقد اقتنع نولدكه «منذ البداية بضرورة ترتيب القرآن ترتيبًا زمنيًا مخالفًا للطريقة الإسلامية. فسلك منهجًا آخر في هذا الترتيب، إلّا أنّه وصل إلى نتيجةٍ علميّةٍ مُفادها استحالة هذا الترتيب طبقًا للمعطيات المبثوثة في الروايات والأسانيد وصولًا إلى نتيجة علمية سائغة. ولكنّه استطاع ترتيب القرآن ترتيبًا متواليًا طبقًا لمراحل متوالية. فيكون هذا الترتيب منصبًّا أحيانًا حول الأسلوب، وأحيانًا حول المواضيع التي عالجها القرآن وخاصّة السياسيّة والدينيّة منها،

(120)

ومن هنا كانت محاولته التي انصبّت على ترتيب القرآن ترتيبًا موضوعيًّا»[1].

ونشر برجستراسر (Bergstrasser)[2]، وبرتسل (Pretzal)[3] مجموعة نادرة من النّصوص القرآنيّة، ورعيا معهد أبحاث القرآن في جامعة ميونخ، ومن النّصوص المهمّة التي نشراها: التيسير في القراءات السبع، والمقنع في رسم مصاحف أهل الأمصار، ومختصر الشواذ للحسين بن أحمد بن خالويه، والمحتسب لابن جني[4]، وطبقات القرّاء لابن الجوزي، ومعاني القرآن للفرَّاء، وكتاب الإيضاح للقاسم بن محمد الأنباري[5]، كما صمم برجستراسر مشروعًا كبيرًا لعمل جهاز نقدي لنص القرآن الكريم، وسعى لدى الأكاديميّة البافارية لإنشاء مركز للقيام بهذا العمل وقدّم مخطّطًا للمشروع (نُشر ضمن محاضر جلسات الأكاديمية البافارية في منشن سنة 1349هـ/ 1930م)، وكان له معرفة واسعة بالكتب العربيّة المؤلفة في قراءات القرآن الكريم، ومن هذه الكتب التي قام بنشرها: القراءات الشاذة في القرآن الكريم لابن خالويه، ولابن الجزري كتاب طبقات القرآء[6]، ويهدف برجستراسر من مشروع الجهاز النّقدي إلى وضع حواشٍ للقرآن الكريم في المصحف الشريف تضم القراءات المختلفة لا على أساس كتب القراءات فحسب، بل

(121)

على أساس أقدم المخطوطات القرآنيّة، وقصد بذلك تقديم عرضٍ وافٍ للقراءات المأثورة اعتمادًا على المراجع العربيّة، وأراد عرض ما يسمى بشواذ القراءات التي قرأ بها بعض القراء والعلماء ولم تعد من القراءات السائدة، وأراد كذلك أن تشتمل الحواشي على دراسات لمخطوطات عربيّة للقرآن وعلى الأخص للمصاحف القديمة المكتوبة بالخط الكوفي[1].

ويأتي اهتمام رودي بارت[2] (Rudi Paret) بحقل الدّراسات القرآنيّة في مرحلةٍ متأخّرةٍ من حياته، وهو يقول عن ذلك: لم أتفرّغ للبحث في القرآن الكريم إلّا بعد أن عكفت طويلًا على دراسة وضع المرأة في العالم العربي الإسلامي، مستخلصًا من القرآن كلّ ما يتعلّق بهذا الموضوع من نصوص، وتوصّلت إلى نتيجةٍ مفادها وجود اختلاف لبعض التفصيلات في النص، وفي ترجمات كثيرة للقرآن إلى اللغات الأوروبية، ودعا إلى وجهة نظرٍ أبعد وهي أنّ الإنسان عند محاولته الشّرح لا بدّ من أن يستجمع كلّ المعلومات الموضوعيّة، والصّيغ اللغويّة الواردة في موضوعاتٍ أخرى من القرآن الكريم، وأن ينظّمها ويراعيها عند التفسير، فوضع لذلك خطّة بعنوان: خطة لترجمة القرآن ترجمةً جديدةً علميّةً فيها بعض الشروح[3]، وفي هذا الصدد يرى بارت بأن المرء يجد نفسه أمام أسئلةٍ كثيرةٍ بمجرّد أن يحاول استيعاب كلّ سورة على أنّها وحدةٌ أدبيّةٌ إذا ما حاول فهم بنائها الدّاخلي. وعلى المرء منذ البداية أن يفرّق بين السّور القصيرة والسّور الطويلة، فالأولى يرجع معظمها إلى فجر النبوّة، وهي بفضل قصرها تعطي انطباعًا على أنّها مترابطةٌ، إلّا أنّها أحيانًا تبدو كأنّها موادٌ متنوّعةٌ، أمّا السّور الطويلة فحتى المفسّرون المسلمون قرّروا

(122)

أنّ السور المكّيّة تشتمل على بعض الآيات المدنيّة والعكس بالعكس، وكثيرًا ما تعطي السّور الطويلة انطباعًا بأنّها جُمعت من فقراتٍ مختلفةٍ ذات طابعٍ مستقلٍّ[1].

ت- السيرة النّبويّة

تبدو دراسة السّيرة النّبويّة الشّريفة من الأولويّات عند المستشرقين الألمان، فقد خصّصوا لها مجموعةً من البحوث والدّراسات، وتناولوها بأساليب تحليليّةٍ ونقديّةٍ تابعةٍ لثقافتهم ورؤيتهم، ولعلّ قسمًا من المستشرقين الذين ألّفوا في حقل الدّراسات القرآنيّة والتّاريخ الإسلامي قد أفردوا أيضًا فصولًا عن السيرة النبويّة الشّريفة.

يرى بعض الدّارسين أنّ طبيعة مؤلّفات المستشرقين عن السيرة النبوية الشريفة ابتعدت عن أساليب كتابات القرون الوسطى -عن حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته- المعروفة بالتلفيق والضّعف والتي تصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه مطران انشقّ عن الكنيسة[2] والتي فنّدت من قبل بعض المستشرقين من أمثال مونتغمري واط، وساذرن، باعتبارها وضعت لتحفيز الجندي الصليبي، إلّا أنّ الدراسات بعد عصر التنوير حتى مرحلة عصر النهضة (Renaissance) لم تحظَ هي الأخرى بالقبول لدى الأكاديميين العرب والإسلاميين، فهي تصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مثلًا: مصلحًا علمانيًا غير مسيحيّ لكنّه أفلح في قيادة أتباعه وتحريرهم[3]. ففي دراسة هيوبرت جريم[4] وهي بعنوان: محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله

(123)

نشرت عام (1310هـ/ 1892م)، يبدو أنّه يركّز فيها على الإنجازات الاجتماعيّة التي قام بها الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالإسلام بنظره ليس رسالةً دينيّةً فحسب، إنّما هو رسالة اجتماعيّة في أصولها وطبيعتها، وكان التّبشير بالدّعوة الإسلاميّة ردَّ فعلٍ واقعيّ للحقد والسّخط الكبيرين على فقدان العدالة في توزيع الثروات التي سادت في علاقة قريش مع الفقراء والمستضعفين، وعليه فإنّ نجاح الإسلام في ثورته جاء على أثر الرّغبة المتأجّجة في نفوس الفقراء[1]، و«أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن في بداية أمره يبشر بدين جديد، ولكنّه تأثّر بما يعانيه مجتمعه من فوارق طبقيّة، فنشر دعوته الإصلاحيّــة ، وفـرض الزكـاة لإعادة تقسيم الثروة بين أفــراد مجتمعه»[2].

وتكاد تكون معظم الدّراسات الاستشراقيّة لا تخرج عن هذا الإطار في تناولها للسيرة النبويّة، وإن كان الحال يبدو أخف كلّما اقتربنا إلى المراحل المتأخّرة في تاريخ تلك الدّراسات، فقد شهدت فترة القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بعض الدّراسات المعتدلة، تضمّنت مستوياتٍ مقبولةً من الإنصاف للتاريخ الإسلامي والسيرة النبويّة الشّريفة.

وربّما يعود التغير الحاصل في دراسات المستشرقين الألمان إزاء السيرة النبويّة إلى توافر مادة غنيّة بالمصادر التاريخيّة التي ألّفها المؤرّخون العرب والمسلمون لدى المستشرقين، مما أوجد نظرةً وتفسيراتٍ جديدةً عن الدّعوة الإسلاميّة والرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله، فالمستشرق الألماني ألويس شبرنجر[3] (Aloys Spreenger) تأثر بمقدمة ابن خلدون (ت 808هـ/ 1405م) تاريخ العبر، وألّف كتابًا بعنوان (حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعاليمه) ونشره في ستينيات القرن التاسع عشر. وفسّر الدّعوة الإسلاميّة تفسيرًا عقليًا بأنّها نتاجُ روح ذلك

(124)

العصر[1]، «واعتبر كثيرون كتاب لويس شبرنجر ...ذا المجلدات الثلاثة عن حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته استنادًا لمصادر لم تستخدم من قبل ردًّا على دراسات غوستاف فايل[2]. ولكنّه في الحقيقة كان استجابةً غاضبةً على سيرة (وليم موير)[3] البريطاني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله»[4].

كما أنّ هناك تقويمًا من لدن المستشرقين أنفسهم لبعض الدّراسات الاستشراقيّة التي تناولت السيرة النبويّة، كما هو الحال عند رودي بارت الذي أبدى اهتمامًا كبيرًا بدراسة غوساتف فايل (Gustav Wwil) عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وحياته وتعاليمه، وعدّها ذات دورٍ مهمٍّ في تطوير المعرفة النّقديّة بمؤسّس الإسلام، وقد استند فايل في كتابة سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مخطوطة لسيرة ابن هشام[5] (ت213هـ/ 828م)، وتاريخ الخميس لحسين بن محمد الديار بكري[6]، وإلى السيرة الحلبية[7].

وتكاد معظم الدّراسات الاستشراقيّة التي اهتمّت بالتّاريخ الإسلامي لا تخلو من ذكر لسيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنولدكه خصّص جزءاً من كتابه (تاريخ القرآن) عن حياة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله، كما توجد دراسات لمستشرقين ألمان عن السّيرة النّبويّة لم تترجم إلى الآن،

(125)

منها: بحث لجوزيف شاخت عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يترجم، وألف المستشرق الألماني غوستاف فايل كتابًا عن حياة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يترجم[1].

وكان لفلهوزن (Julus Wwllhausen ) كتاب مشهور عن سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعنوان: محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة، بترجمة ألمانيا مختصرة (1300هـ/ 1882م)، وكان ليوهان فوك أعمال في هذا المجال: أصالة النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (1355هـ/ 1936م) ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله شخصيّته ودينه (1372هـ/ 1952م)، ولفستنفلد[2] (Heinrich Wuestenfeld) سيرة ابن هشام تعليقات بالألمانية، في ثلاثة أجزاء (1858-1860-1899)[3].

ث- التاريخ الإسلامي

لقد نالت دراسة التاريخ الإسلامي حظًا وافرًا من لدن المستشرقين الألمان، من خلال محاولتهم للإلمام بكلّ تفاصيل هذا التّاريخ، واستقطاب جميع خطوط صورة الشّرق وألوانها وتفاصيلها المتناثرة في العقليّة الغربيّة، وتركيزها في مساحةٍ محدّدةٍ لتكوين صورة شرقيّة تامّة[4]. وقد اتّخذت دراسات هؤلاء المستشرقين في تناولها للتاريخ الإسلامي طابعًا شموليًا خاصّة في مطلع القرن العشرين الميلادي، فنظرة المستشرقين إلى الشعوب الشّرقيّة -من غير العرب- المختلفة الثقافات في إطار العالم الإسلامي تطلّبت معرفة مدى تأثّر تلك الشّعوب بالدين الإسلامي وبالعكس، بوصفها تحمل خصوصيات مختلفة في نظرهم. وهذا الأمر استدعى دراسة العلوم الاجتماعيّة في إطارٍ تاريخيٍّ، ودراسة العوامل المؤثّرة على البيئة الاجتماعيّة[5] للشعوب المتنوّعة التي اعتنقت الإسلام.

(126)

ومن أبرز المستشرقين الألمان الذين اتّجهوا لدراسة التّاريخ الإسلامي: رايسكه، وله في هذا الشأن كتاب بعنوان: (المدخل إلى التاريخ الإسلامي)، الذي استند فيه كثيرًا على (تاريخ البشر) لأبي الفداء، أوضح رايسكه في كتابه هذا أنّ تاريخ الشّرق من حيث غنى المحتوى ليس متأخّرًا عن تاريخ الغرب، كما أنجز مجموعةً من المقالات والدّراسات في هذا الموضوع، ويتّضح من مؤلفاته أنّه استعمل معارفه باللّغة العربيّة للبحث في التاريخ، ولهذا عرف بأنّه أوّل من أعطى التاريخ الإسلامي مكانه اللّائق في ألمانيا[1]. وقد أشار رايسكه في رسالة عن التاريخ الإسلامي نشرها تلميذ له سنة (1180هـ/ 1766م)، إلى وجود خمسة عناصر كان لها دورٌ في تاريخ الإسلام وهي مكوّنة من: العرب، والفُرس، والأتراك، والمغول والتتار، والبربر، وبين موجز السلالات التي أخرجتها كل أمّة، والممالك الإسلاميّة ومدنها المهمّة، وبحث عن البحور والأنهار والجبال، مشيرًا إلى ما يجب أن يلم به من المعلومات لكل من مدرسي الجغرافيا والتاريخ[2]. واعتبر رايسكه أن دراسة التاريخ الإسلامي واجبٌ على كل إنسان لأجل التواتر التاريخي، كما أن دراسة تاريخ اليونان والرومانيين القديمين واجب على كل رجل مثقف، وتدعوه الرغبة أحيانًا إلى التشبيه بين التطور التاريخي في ممالك الإسلام وبين أوروبا لكي يثبت لقرائه انه قد وقع على مسرح الشرق من المشاهد السامية المهذبة مثلما جرى في الغرب[3].

وكان لبروكلمان مؤلّفاتٌ في حقل الدّراسات التّاريخيّة مختصّة بدراسة التّاريخ الثّقافيّ والحضاريّ للعرب والإسلام، من أشهرها كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية)[4]، والذي يقول في مقدّمته: إنّه حاول أن يقدّم «بالإضافة إلى التاريخ السياسي، لمحةً عن

(127)

الحياة الثقافيّة والفكريّة بقدر ما تسمح به هذه الصفحات المحدودة»[1]، وقد جعل بروكلمان من دراسة تاريخ العرب قبل الإسلام، مدخلًا إلى التّاريخ الإسلامي، معتبرًا أنّ تأثير الثّقافة العربيّة استمرّ بعد الإسلام، على طول مسيرته، ويبدو ذلك من خلال تسميته للباب الأول من كتابه: العرب والإمبراطوريّة العربيّة وينتظم تاريخ العرب منذ أقدم العصور حتى سقوط الدولة الأمويّة، كما تطرّق في الباب الثاني إلى الإمبراطورية الإسلاميّة في العصر العباسي، وأسباب انحلالها، ونشوء الدويلات المستقلّة، والإسلام في الأندلس، وشمال أفريقيا، والحروب الصليبيّة ودولة المماليك، ليعرج في الباب الثالث إلى تاريخ الإمبراطوريّة العثمانيّة، حتى مطلع القرن التاسع عشر، وجاء الباب الرابع حول الإسلام في القرن التاسع عشر ويتضمّن الحياة الفكريّة، وأحوال شمال أفريقيا والسودان، وأفغانستان، والباب الخامس تضمّن أوضاع الدولة الإسلاميّة بعد الحرب العالميّة الثانية[2]. وسعى بروكلمان في هذا الكتاب إلى الإلمام بكلّ ما يخصّ تاريخ المنطقة العربيّة، مع دراسة تاريخيّة وجغرافيّة لدور الإسلام وتأثيراته على الأقاليم الشّرقيّة وما يجاورها، معتمدًا مصادر غربيّة حديثة. ومن إنجازاته في مجال الدّراسات التاريخيّة أيضًا: كتاب (تاريخ الأدب العربي)، الذي سجل فيه «جميع الخطوط العربية المعروفة حتى الآن، وعدد كل المخطوطات العربية الموجودة في جميع مكاتب العالم ودوّن عدد طبعاتها وأعطى لمحاتٍ عن حياة مؤلفيها»[3].

وفي دراسته للتاريخ الإسلامي ركّز كارل هنرش بيكر على أثر العوامل الاقتصاديّة والتّفاصيل التّاريخيّة، والعناصر الإغريقيّة والنّصرانيّة في الحضارة الإسلاميّة، وعني بتاريخ مصر الإسلامي، وقدّم دراساتٍ تاريخيةً عن النّصرانيّة والإسلام (توبنجن 1325هـ/ 1907م) ومجموعة بحوث عن الإسلام بالألمانيّة (1335هـ/ 1916م)، والطولونيون في سبيل فهم الشرق، والإسلام في إطار تاريخ الحضارة (المجلة الشرقية الألمانية 1341هـ/

(128)

1922م)[1]. وبينما كان بيكر يركز على التأثيرات الغربيّة على الحضارة الإسلامية، تناول جيورج ياكوب[2] (Georg Jacob) مسألة تأثير الشرق على الغرب، وخاصّة خلال العصر الوسيط، في كتاب بعنوان: (العناصر الثقافيّة الشرقيّة في الغرب)، وعلى هذا الكتاب تستند في كثير أو قليل جميع الأبحاث والمؤلفات التالية التي تعالج موضوع تأثيرات الشرق الحضارية على الغرب[3].

في الحقل نفسه، ألّف فلهوزن كتاب (أحزاب المعارضة السياسيّة الدينيّة في صدر الإسلام)، يتضمّن دراسة عن الفرق الإسلاميّة، التي انشقّت عن الدّولة الأمويّة[4]، وألّف كتاب (الدولة العربية وسقوطها) ويقصد بها: الدولة الأمويّة، وقد اعتمد في كتابه الأوّل على روايات أبي مخنف يحيى بن لوط (ت 157هـ/ 773م)؛ لأنّه من الكوفة، وهي مركز الحزب المعارض للدولة الأموية، وإنّ ابا مخنف كان يتحدّث خصوصًا عن ذلك، بينما اعتمد في كتابه الثاني على الروايات المدنيّة، فهي أهم الرّوايات القديمة، وهي من حيث أصولها أقدم من الروايات الكوفيّة، وأهم حَمَلَة هذه الروايات المدنيّة هم: ابن اسحاق (ت151هـ/ 768م)، والواقدي (ت 207هـ/ 822م)[5]، وتعرّض في كتابه: (المدينة قبل الإسلام) إلى تنظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للجماعة الإسلاميّة في المدينة المنورة، وقد استفاد من تاريخ الطبري (ت 310هـ/ 922م) في دراسته لتاريخ صدر الإسلام[6]، واختار الروايات المباشرة المشتملة على الوثائق التي تظهر كيف توصل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى إحلال السلام في

(129)

البلاد بتوجيه طاقات الشّعب الفتية إلى الخارج بدلًا من التناحر الداخلي، وبين في دراسته لتاريخ الدولة الأمويّة وجود توتّر بينها وبين الدين، في سياسة الحكم التي ولدتها الدولة والثيوقراطيّة التي يعدّها الدين حتميّة، وأشار إلى التّناقضات بين عرب الجزيرة ذوي المراس الصعب وبني جلدتهم في الشام والعراق، إن وجود تلك الأقطاب في مملكة العالم الإسلامي -حسب رأيه- أدّى إلى انهيار العروبة الأصيلة على أيدي العباسيين الخاضعين إلى التأثير الفارسي[1]، وكان هدف فلهوزن في بحثه للتاريخ الإسلامي متركزًا على «خطوط التطوّر الكبيرة والرئيسة، واكتشاف العوامل والقوى الرئيسة للتحول والتّطوّر التاريخيين، وكان يسعى بنجاح إلى إدراك وعرض تضارب القوى الداخلية للحدث التاريخي»[2]، وقد نبّه بيرتولد سبولر إلى ضرورة إعادة النّظر في تفسير فلهوزن لثورة العباسيين بأنّها قامت على أكتاف الفرس؛ لأنّ سبولر يرى أنّ العرب أنفسهم كانوا منقسمين في خراسان ومتذمرين من سياسة الأمويين الماليّة، وأنّهم شاركوا الموالي في خيبة الأمل من سياسات دمشق، وأبدوا تأييدهم لإصلاحات بعض الخلفاء الأمويين، ويُعَدّ وسبولر هذا من روّاد المدرسة الألمانيّة الحديثة، له مؤلف مشهور بعنوان: (إيران في القرون الإسلاميّة الأولى بين الفتح العربي والفتح السلجوقي)[3].

وأعطى اوكست موللر (Muller Augst) جمهور القراء عرضًا عامًا مفهومًا، وأصوليًّا علميًّا عن تاريخ الإسلام السياسي، وذلك في كتابه (الإسلام في أوروبا والبلاد الإسلامية) المؤلف من مجلدين ضخمين، والذي صدر بين سنتي (1303-1305هـ/ 1885- 1887م)، وهو عرض تاريخي متفرق[4].

ويبدو أنّ قسمًا من أحداث التاريخ الإسلامي، وكذلك جغرافية العالم الإسلامي قد نالت حظًّا أوفر في دراسات بعض الرحالة الألمان من ناحية الدقّة والشموليّة، فقد تضمّنت هذه الدّراسات العوامل المؤثّرة في الأوضاع الاقتصاديّة والسياسيّة في المجتمعات

(130)

الإسلاميّة، من خلال عمليّة الوصف من قبل هؤلاء الرحّالة التي كانت كثيرًا ما يختلط معها الوصف الجغرافي الميداني، واعتمادها مصادر المؤرخين والجغرافيين العرب. فالرحالة هاينريش بارت[1] (H.Barth) كان يحاول اكتشاف جذور المجتمعات الإسلاميّة الأولى في مخالطته للمجتمعات الإسلاميّة في أفريقيا في القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي)، فركز اهتمامه على تراث المرابطين في من بقي من خلفهم، واصفًا ممارساتهم وطباعهم وتأثيراتهم على البلاد، وبحث أيضًا التاريخ المتحرك للمالك القديمة في السودان وأثبت جداول إجمالية أدرجت فيها الأحداث التاريخيّة في السودان الغربي من أوّل أخبار المصادر التاريخيّة حتى العصر الحاضر بشكلٍ واضحٍ وشاملٍ، وقد استعان بارت بمؤلفات رحّالي القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) وجعلها مصادر له، إلّا أنّه لا يذكر المؤلفين ولا عناوين الكتب[2]، بوجه عام تمكن هاينريش بارت من تحديد موعد انتشار الإسلام في السودان ومكانه على وجه الدقة، فمنذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) ثبت أنّ الإسلام قد تغلغل في بعض مناطق السودان ولم يتوقّف حتى بعد ألف عام من هذا التاريخ، وكشف عن تاريخ المنطقة الحافل بالحروب العقائديّة، والاضطرابات التي كانت تشتعل بشرارة التعصّب الدّيني، وكان شاهدًا على الثّورات الدينيّة المعاصرة. وحسب ما يقول هاينريش، فإنّ الطرق التي انتشر فيها الإسلام هناك لم تكن بالنار والسيف، بل إنّ الناس رأوا منافع في اعتناق هذا الدين، أهمها: التحرّر من العبوديّة، والحصول على مستوى معيشي رفيع[3]، وأفادت اهتمامات هاينريش بارت خلال رحلته إلى أفريقيا الدراسات الاستشراقية، في نقلها من حدود الشرق إلى قارة جديدة، هي بحاجة إلى مزيد من التقصي والاستكشاف، وبالأخص اهتمامه بالسودان الذي ظلّ فترةً طويلةً على هامش الدراسات والأبحاث الاستشراقية[4]. وكانت المناطق التي استكشفها الرحالة الألماني يوهان بوركهارت Burckhrdt) Guohan) في الحجاز

(131)

من الأسرار، ولم تكن علاقتها بالتجارة بمقدار ارتباطها بتعاليم دين غريب عن الأوروبيين ومراسيمه، مثير لدهشتهم بقوته وثباته. وهكذا فقد غادر بوركهارت الحجاز ومعه أدق التفاصيل التي سجلت عن الكعبة ومراسيم الحج وتجارة الحجاز وسكانها، وكانت دراسته متركزة عن العرب، بدوهم وحضرهم، وتحليل مجتمعهم وطبائعهم وتعاليمهم الدينية[1].

ج- النظم والتشريعات الإسلاميّة

لم يغفل المستشرقون الألمان عن أهميّة النظم والتشريعات الإسلاميّة ودورها وتأثيرها على حياة المسلمين، وكالعادة كان المستشرقون كثيرًا ما يعتمدون دراسات من سبقهم. فمثلًا يشير رضوان السيد إلى إفادة آدم متز[2] من مؤلفات أستاذه كريمر[3] في دراسة النظم الإسلامية، في تأليف كتابه الذي سمّاه نهضة الإسلام -وقد ترجمه إلى العربيّة محمد عبد الهادي أبو ريدة تحت عنوان (الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجري)- إلّا أن متز كان أكثر رجوعًا للمصادر من أستاذه، وأكثر اهتمامًا بالمناحي الأدبيّة والفنيّة فضلًا عن عنايته القوية بفكرة المؤسّسة ومسألتها[4]. كما ألف تيودور فيلهلم جوينبول (1283-1366هـ/ 1866-1946م) -الذي درس القانون وعمل في حقول الحديث والفقه بخاصة- كتابًا بعنوان: (مرجع التشريعات الإسلاميّة)، وقد اعتمد على الأعمال التمهيديّة للمستشرق سنوك هورجرونيه[5] (Hurgronge Snouc) في تقديم عرض نقدي لنظرية المراجع القانونيّة،

(132)

ومن ثم الأجزاء المهمّة عمليًّا للتشريعات الإيجابيّة مثل أهم الشعائر، والميراث، والمعاملات، وقواعد استنباط الأحكام، والحدود (العقوبات)، وأخيراً رأي الإسلام في السياسة[1].

وكانت لدى جوزيف شاخت اهتماماتٌ بالشّريعة الإسلاميّة، وبيان نشأتها وتطوّرها وأثرها وتأثّرها، وممّا له في ذلك: نشره كتاب الحيل والمخارج للخصاف، بمقدمة وحواش (1342هـ/ 1923م)، وكتاب الحيل في الفقه للقزويني، متنًا وترجمةً ألمانيّة، بمقدّمة وتعليقات (1343هـ/ 1924م)، وكتاب الجهد والجزية وأحكام المحاربين من كتاب اختلاف الفقهاء للطبري (1352هـ/1933م)، وكتاب التوحيد للإمام الماتريدي، متنًا وترجمة إنجليزية[2].

وكان لبيرتش أعمال عن النّظم الإسلاميّة، منها: أسس الحكم في الإسلام (1329- 1358هـ/ 1911-1939م)، وتنفيذ الأحكام (1364هـ/ 1944م)، والشرع الإسلامي (1373-1374هـ/ 1953-1954م)، ولبرجستراسر أعمال حول الفقه والتشريعات الإسلاميّة منها: ابتكارات وخلق وتفكير للفقه الإسلامي، وأساليب البحوث الفقهيّة، والفقه الإسلامي، وأحكام الشريعة الإسلاميّة على المذهب الحنفي[3].

ح- دراسة العلوم عند العرب والمسلمين

لقيت العلوم عند العرب والمسلمين اهتمامًا أكاديميًّا من قبل الجامعات الألمانية، واتسع هذا الاهتمام في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقد قامت جامعة توبنغن بتخصيص قسم للبحث في تاريخ العلوم العربيّة والإسلاميّة، وفي سلسلة بعنوان (مرجع الدراسات الشرقيّة) تناول المجلد الأول منها الطب في الإسلام، بينما اهتم المجلد الثاني بالعلوم الطبيعية، والسحر والتنجيم، ويحتوي على فهرست لأكثر

(133)

من تسعمئة بحث عربيّ وفارسيّ عن الحيوان والنبات والكيمياء والزراعة وغيرها، وكان المجلد الثالث قد خصّص للرياضيات[1].

وللمستشرق الألماني روسكا اهتمامٌ بدراسة العلوم عند العرب والمسلمين، وكانت له أعمالٌ كثيرةٌ ومتنوّعةٌ عنها، وقد عبّر عن أهمّيّة تلك العلوم وأثرها على أوروبا بقوله: «ليست الأشعار البدويّة ولا الأدب الذي نشأ بعد ظهور الإسلام هو الذي جعل اسم العرب لامعًا في الغرب. إذا أردنا أن نفكّر بتأثير الحضارة الإسلاميّة في الغرب المسيحي، فيجب علينا أن نفكر في الرياضيات العربية والفلك والكيمياء والطب، تلك الفروع التي تعلّم منها الغرب بجد ونشاط قرونا عديدة قبل اكتشاف العلوم اليونانية، ولا تزال كثير من التعابير العربية المتداولة تنبؤنا عن ازدهار العلوم تحت راية الإسلام»[2].

ومن أهم أعمال روسكا حول العلوم عند العرب والمسلمين: ترجمة كتاب الأحجار من عجائب المخلوقات للقزويني[3]، وأسس جديدة عن تاريخ الجغرافية العربية (مجلة الجغرافية 1918 ص77-81)، عن تاريخ الجبر العربي والحساب (الإسلام 1918 ص116 - 118)، والمعادن في المصادر العربية (مجلة ايسز 1913 ص341 - 350)[4]، إلّا أنّ أكثر العلوم التي اجتذبت روسكا هي الكيمياء، وقد أشار روسكا إلى الصّعوبات التي واجهته في فهم الكيمياء القديمة لخفائها بالرموز، ووجود أسماء عدّة مستترة للاسم الواحد، فالنشادر مثلًا كان يطلق عليه أكثر من اسم منها: العقاب، والطير الخراساني، والملح الطائر، وبصاق الأسد، وغير ذلك، والأمر ينطبق على الزئبق وغيره، وأثناء بحث روسكا بتاريخ النشادر، وجد النص الأصلي لكتاب اللوح الزبرجدي، والذي كان معروفًا في ترجمته اللاتينيّة، وهو من أهم الكتب لدى الكيميائيين القدامى[5].

(134)

وفي مجال الفلسفة، قام المستشرق الألماني فردريك دتريصي[1] (Fridrich Dieterici) الأستاذ بجامعة برلين، بنشر أهم مؤلف للفارابي (ت339هـ/ 950م) وهو كتاب (آراء آهل المدينة الفاضلة)، وذلك عام (1313هـ/ 1895م) في ليدن (مطبعة بريل بهولندا) مستندًا إلى المخطوط رقم 425/3 المحفوظ في المتحف البريطاني، واجتهد في توضيح بعض ما غمض في النص الأصلي، ونشر دتريصي لأول مرة في ليدن سنة (1308هـ/ 1890م) كتاب (الجمع بين رأي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس) لأبي نصر الفارابي[2]، وعمل ماكس هيورتن[3] (Horten (M.. بحكم درايته بالفلسفة اللاهوتيّة، على تقريب قضايا الفلسفة الإسلاميّة وعلماء العقيدة المسلمين من ذهن القارئ الأوروبي، وعالج إلى جانب ذلك في مقالات جامعة قضايا فلسفية متفرقة، وأشار إلى المعنى الذي كان يستعمله السقراطيون السابقون في إشارتهم إلى أقدم فلسفة إسلاميّة، وقدّم عرضًا موجزًا في كتابه (الفلسفة الإسلاميّة في علاقاتها مع الرؤى الفلسفية للمشرق العربي)[4]. واهتم اوكيست موللر بفلسفة ابن رشد (ت 595هـ/ 1198م)، ومما له في ذلك: رسالة التوحيد والفلسفة لابن رشد متنًا وترجمةً ألمانية (1292هـ/ 1875م)، وما وراء الطبيعة لابن رشد (1303هـ/ 1885م)، وله أيضًا الفلسفة اليونانيّة في الترجمات العربيّة (1294هـ/ 1872م)، ونشر ماكس هيورتن نصوص الحكم للفارابي (1324هـ/ 1906م)، وترجم لابن سينا[5] (ت 428هـ) كتاب الشفاء (1325هـ/1907م)،

(135)

وفلسفة الإسلام وعلاقتها بالأفكار الفلسفية في المشرق الإسلامي (1343هـ/ 1924)[1].

ومن المستشرقين الألمان الذين اهتمّوا بدراسة العلوم العربية: فرانز فيبكه (Franz Woepcke) (1242-1281هـ/ 1826-1864م)، الذي تعلّم العربيّة على فلهلم فرايتاخ، وشجعه الأخير نحو الرياضيات، فانصرف فيبكه إلى بحثها وتحقيقها وترجمتها ونشرها، وصمّم على كتابة تاريخ الرياضيات عند العرب، وجعل من هذا المشروع مهمّته العلميّة في الحياة، وأوّل كتاب نشره في هذا المجال هو: الجبر والمقابلة للخوارزمي، وبيّن أنّ علماء الجبر العرب قد توصّلوا إلى البرهنة على معادلات الدرجة الثانية، وأنهم كانوا أوّل من طبّق الجبر على الهندسة وبالعكس، ومن مؤلّفاته أيضًا: جبر عمر الخيام، وبحث في نظريّة أضافها ثابت بن قرة[2] إلى الحساب النظري عند اليونان، وبحث في الترقيمات الجبريّة المستخدمة عند العرب وغيرها في الحقل نفسه[3]، وكان لزاخاو كتاب بعنوان: الشطرنج والحساب عن ذروة الشمس في نظر البيروني (ت 440هـ/ 1048م)، كما اهتمّ زاخاو بأعمال البيروني بمعاونة فيستنفلد (Wuestenfeld)، وترجمت هذه الأعمال إلى الفرنسية والإنجليزية، فوقف الغرب على أكبر علماء العصور الوسطى من المسلمين[4].

أما علم الطب، فإنّ المستشرق الألماني ماكس مايرهوف[5] (Meyerhof Max) كان له اهتمام واضح به، حيث زاول مهنة الطب في مصر، واختص بطب العيون، فوجد في هذا المجال مواد غنيّة من كتب الأطباء العرب في القرون الوسطى، وعالج طب العيون عند حنين ابن اسحق، والطبيب محمد بن قسوم الغافقي، وقد وجد في أعمالهم مادّة غنيّة

(136)

تتناول العقاقير التي كان يستعملها الأطباء العرب في القرون الوسطى لعلاج المرضى، وانتقل إلى دراسة علم العقار عند العرب، وقد تمتّع بأسلوبٍ يستحقّ التّأمّل في التّفتيش عن المراجع والمتون الهامّة، وقد أشار لأوّل مرّة إلى وصف الأدوية المفردة للعالم الشريف الإدريسي[1].

وهناك مجالات أخرى في التاريخ الإسلامي اهتمّ بها المستشرقون الألمان، مثل التّصوّف في الإسلام، والشعر الجاهلي، والشعر في العصر الإسلامي. ففي مجال التصوّف اشتهر هانز هاينريش شيدر، والذي كان الحسن البصري وحافظ شيرازي، كانا منطلقه في دراسة التصوف الإسلامي، والغنوصية (Gnosticism) الإسلامية، مبتدئًا بحركـة الباطنية، وقد تعرّف على هذا الحقل ودخلـه مـن الدراسات التي ألّفهـا لويس ماسنيون (Louis Massignon)، وتور اندري[2] (T. Andrae)، ور.أ.نيكلسون[3] (R. A. Nicholson)، فوضع نصب عينيه مهمّة متابعة تطوّر فكرة شرقيّة قديمة مقتبسة من الحضارة الهيللينيّة حتى تشكّلها التّأملي الكلاسيكي في الغنوصيّة الإسلامية[4]، و«كان اهتمام [هلموت] ريتر بالتصوّف الإسلامي مبكرًا. وتدل دراسته المنشورة في مجلّة الإسلام (Der ISLAM) الألمانيّة عام (1333هـ/ 1924م) عن الحسن البصري على منهجه في بحث هذه الظاهرة الدينيّة الثقافيّة، مثلما تدل عليه مقالته بالغة العمق عن أبي الفداء البسطامي، وهي التي نشرت في ضمن مجموعة الدراسات التي صدرت تحية وتكريمًا للأستاذ تشودي[5]

(137)

(Tsghudi) في عام (1365هـ/ 1945م). وإنّ الاستشراق الأوروبيّ مدين له بالفضل على تقديمه وصفًا للحركات الإيقاعية التي يقوم بها المشتركون في حلقات الذكر من دراويش... استجابة لموسيقى السماع»[1].

وفي مجال الشعر الجاهلي، فإنّ أهم الدّراسات التي تناولته هي: دراسة نولدكه، التي أثارت مسألة الانتحال والشك في الشعر الجاهلي، وهي بعنوان: (في سبيل فهم الشعر الجاهلي)، وقد وقف نولدكه في بحثه هذا عند موضوعات كثيرة، تتناول تكوّن الشعر الجاهلي، وطبيعته، وبدايته، ووصوله إلى العصر العباسي وحفظه، وقد لاحظ نولدكه تكرار المعاني في الشعر الجاهلي، ووجود تشابه في صياغة بعض الأبيات الشعرية، وعدّ ذلك أمرًا طبيعيًا لتشابه البيئات، وإنّ الصّعوبة التي يواجهها المستشرق تعود إلى سبب وصول تلك القصائد بشكل مقطعات وشذرات مضطربة الترتيب ومنتزعة من سياقها[2].

أمّا فردريش روكر، فقد كان شديد الولع بالشّعر العربي والفارسي، فقد قام بترجمة مجموعةٍ من الأعمال الشّعريّة إلى اللغة الألمانيّة، كديوان الحماسة ومقامات الحريري[3] والروميات لجلال الدين الرومي وأشعار سعدي[4] وحافظ شيرازي، مع محاولته المحافظة على العروض الأصلي، وإدخال هذا الأدب الشرقي إلى الأدب الألماني[5].

خ- تحقيق النّصوص القديمة ونشرها

تعدّ جهود المستشرقين الألمان في مجال تحقيق النّصوص القديمة ونشرها، وصيانة

(138)

وحفظ الأصل منها على قدر كبير من الأهميّة، بعد أن كانت تلك النّصوص عرضةً للتلف والضّياع في زحمة ما تمرّ به الأمّة الإسلاميّة من شتّى المحن والكوارث جعلت المسلمين في انشغال وذهول عن تراثهم وحفظه، وقد نالت تلك النّصوص حظّها من الحفظ بعد رحيلها إلى مختبرات الصيانة والدرس التي أعدّها هؤلاء المستشرقون في بلدانهم.

كان للمستشرقين الألمان عنايةٌ متميّزةٌ بالنّصوص الإسلاميّة القديمة، وقد بدأ هذا المشوار معهم على مستوى واسع منذ القرن الثامن عشر، وازداد هذا الاهتمام في القرن التاسع عشر، إذ تمّ نشر مئات من النّصوص القديمة، واختاروا منها نماذج أساسيّة وحيويّة من التراث الإسلامي وقاموا بتحقيقها ونشرها. كانت موضوعات تلك النصوص متنوّعةً، منها عن الشعر الجاهلي القديم في الجاهلية والإسلام، ومنها عن اللغة والأدب، والتاريخ، والجغرافية، والفلسفة، والفرق، والحساب، والفلك.

كان أهم ما يميّز عمل المستشرقين الألمان في هذا المجال هو قيامهم بتحقيق عددٍ كبيرٍ من النّصوص القديمة مع مراعاة الدّقّة في عملهم هذا، فقد قام فستنفلد بتحقيق ما يُقارب المئتين من النّصوص الإسلاميّة ونشرها، وهو ما يعجز عن نشره مجمع علمي، كان أبرز تلك النّصوص هي: معجم البلدان لياقوت الحموي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وطبقات الحفاظ للذهبي، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي، وغيرها[1].

وكان معظم المستشرقين الألمان لهم اهتمام في مجال تحقيق النّصوص القديمة ونشرها كفرايتاغ، وروكرت، وفلوجل، وساخاو، وهلموت ريتر الذي عني بنشر المكتبة الإسلاميّة التابعة لجمعية المستشرقين الألمان في اسطنبول.

وقد أدرك المستشرقون الألمان منذ بداية مسيرتهم في دراسة التراث الإسلامي أنّ هذا التراث يمتلك أعدادًا هائلةً من النّصوص، سواء في مكتبات ألمانيا أو العالم، لذا كان لا بدّ لهم من حصرها في فهارس، وقد وضع كريستمان فهرسًا للمخطوطات العربية في عام

(139)

1613م، وفي مراحل لاحقة قام وليم الفرد، وزيبولد وبروكلمان وهلموت ريتر، بإنجاز فهارس للمخطوطات العربية، وقد تمّ التّطرّق لأعمالهم في هذا المجال ضمن جهودهم التي مرّ ذكرها في موضوعات سابقة.

وقد كتب ريتر -الذي كان مرجعًا نادرًا في المخطوطات العربيّة- مقالاتٍ كثيرةً عن مخطوطات اسطنبول، منها: مخطوطات عربيّة في مكتبات اسطنبول لم تطبع بعد، وقد صدرت في كتاب بعنوان: ما ساهم به المؤرخون العرب (بيروت 1959)، والمخطوطات المكتوبة بخطوط أصحابها في مكتبات تركيّة، صدرت في مجلة (oricns) عام 1953، والمخطوطات العربية في اسطنبول والأناضول، صدرت في المجلة نفسها 1949، ومخطوطات التفسير التي صدرت في ايا صوفيا عام 1945.

(140)

لائحة المصادر والمراجع

1. ا. س. رابوبرت، مبادئ الفلسفة، ترجمة: أحمد أمين، ط1، (دار الكتب العلمية، بيروت، 2005).

2. ابن خلكان، شمس الدين أحمد بن محمد، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، (دار صادر، بيروت، 1994).

3. أبو السعود، عطيات، فلسفة التاريخ عند فيكو، (منشأة المعارف، الإسكندرية، 1997).

4. الأيوبي، هاشم إسماعيل، أبحاث عربية في الكتاب ألتكريمي للمستشرق الألماني فولفد يتريش فيشر، ط1، (د. م، 1994).

5. آلبان. ج. ويدجري، التاريخ وكيف يفسرونه من كونفوشيوس إلى توينبي، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1996)، ج2.

6. البعلبكي، معجم أعلام المورد.

7. التيمومي، الهادي، مفهوم التاريخ وتاريخ المفهوم، ط1، ( دار محمد علي، تونس، 2003).

8. الجبوري، يحيى، المستشرقون والشعر الجاهلي، سلسلة كتب الثقافة المقارنة، (الاستشراق)، العدد 1.

9. الجمل، بسام، أسباب النزول، ط1، (المركز الثقافي العربي، بيروت، 2005).

10. الحاج، ساسي سالم، نقد الخطاب الاستشراقي الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية، ج1، ط1، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2002.

11. الحموي، ياقوت، معجم الأدباء إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، تحقيق: إحسان عباس، ط1، (دار الغرب، بيروت، 1993)، ج1.

12. الخوند، مسعود، الموسوعة التأريخية الجغرافية، (دار رواد النهضة، بيروت، د. ت).

13. الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد، نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء، ط1، (دار الأندلس، جدة، 1998)، ج3، ص1448-1449.

14. الزركلي، خير الدين، الإعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، ط5، (دار العلم للملايين، بيروت، 1980).

15. السيد، رضوان، المستشرقون الألمان.

16. الشاذلي، عبد الله يوسف، الاستشراق مفاهيم صلات جهود، ط1، (د.م، د. ت).

17. الطعمة، عدنان جواد، يوليوس روسكا والعلوم عند العرب، مجلة المورد، المجلد 6، العدد 4، (وزارة الثقافة والفنون، العراق، 1977).

(141)

18. الطناحي، محمد محمود، مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي، ط1، (مكبتة الخانجي، القاهرة، 1984).

19. العروي، العرب والفكر التاريخي، ط5، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2006.

20. العطية، جليل، منهج المستشرقين في كتابة التاريخ، مجلة المعهد، العدد 1، السنة 1، (معهد الدراسات العربية والإسلامية، لندن، 1999).

21. العقيقي، نجيب، المستشرقون موسوعة في تراث العرب مع تراجم المستشرقين ودراساتهم عنه منذ ألف عام حتى اليوم، ط 5، (دار المعارف، القاهرة، 2006).

22. الفيومي، محمد إبراهيم، الاستشراق في ميزان الفكر الإسلامي، سلسلة قضايا إسلامية، العدد 3، (المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1994).

23. المنجد، صلاح الدين، المستشرقون الألمان تراجمهم وما أسهموا به في الدراسات العربية، ط1، (دار الكتاب الجديد، بيروت، 1978)، ج1.

24. المنيع، ناصر محمد بن عثمان، المستشرق الألماني برجستراسر وآثاره في الدراسات القرآنية ومنهجه فيها، مجلة جامعة الملك سعود، العدد 22، (النشر العلمي والمطابع، الرياض، 2010).

25. الموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة فؤاد كامل، (دار القلم، بيروت، د. ت).

26. النملة، علي بن إبراهيم، مصادر المعلومات عن الاستشراق والمستشرقين: استقراء للمواقف، (مكتبة الملك فهد، الرياض 1993).

27. إمام عبد الفتاح إمام، معجم ديانات وأساطير العالم، (مكتبة مدبولي، القاهرة، د ت)، ج3.

28. بدوي، موسوعة المستشرقين، ص544.

29. بدوي، موسوعة المستشرقين، ط3، (دار العلم للملايين، بيروت، 1993).

30. براون، إدوارد جرانفيل، تاريخ الأدب في إيران من الفردوسي إلى سعدي، ترجمة: إبراهيم أمين الشواربي، (مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2004).

31. بوبر، كارل، عقم المذهب التاريخي دراسة في مناهج العلوم الاجتماعية، ترجمة: عبد الحميد صبره، (منشأة المعارف، الإسكندرية، 1959).

32. بوريكو، ر. بودون وف، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ترجمة: سليم حداد، ط2، (ديوان المطبوعات الجامعية، بيروت، 2007).

33. جحا، ميشال، مستعربان ألمانيان بارزان: هلموت ريتر ورودي بارت، مجلة الفكر العربي، العدد 31، السنة الخامسة، 1983.

34. حسين، محسن محمد، الاستشراق برؤية شرقية، ط1، (دار الوراق، بغداد، 2012).

(142)

35. ديغا، غوستاف، تاريخ الاستشراق الأوروبي، مراجعة: علي جابر، مجلة الفكر العربية، العدد 31، السنة الخامسة، (معهد الإنماء العربي، بيروت، 1983).

36. ر . هـ . روبنز، موجز تاريخ علم اللغة في (الغرب)، ترجمة: أحمد عوض، (سلسلة عالم المعرفة 227، الكويت، 1997).

37. رسول، محمد رسول، الغرب والإسلام قراءات في رؤى ما بعد الاستشراق، ط1، (المؤسسة العربية للدراسة والنشر، بيروت، 2001).

38. سوذرن، ريتشارد، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ترجمة: رضوان السيد، ط2، (دار المدار الإسلامي، بيروت، 2006.

39. عبد السلام، أحمد حسن، تاريخ الاستشراق الألماني، مجلة الفكر العربي، العدد: 31، السنة: 5، (معهد الإنماء العربي، بيروت، 1983).

40. عبده قاسم، الخلفية الأيديولجيّة للحروب الصليبيّة، ط2، (ذات السلاسل، د. م، 1988).

41. علوش، سعيد، معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة، ط1، (دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1985)، ص171.

42. عمايرة، إسماعيل أحمد، بحوث في الاستشراق واللغة، ط1، (مؤسسة الرسالة، بيروت، 1996).

43. عواد، عبد الحسين مهدي، فقه اللغة العربية فصول في نشأته ومباحث في تأصيلات معارفه، ط1، (مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت، 2008).

44. عوض، لويس، مقدمة في فقه اللغة العربية، ط1، (رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة ، 2006).

45. غرنوت روتر، الدراسات العربية بجامعة توبنغن، مراجعة حسين حجازي، مجلة الفكر العربي، العدد 32، السنة الخامس، 1983.

46. فرانشيسكو كبرييلي، محمد (ص) والفتوحات الإسلامية، ترجمة: عبد الجبار ناجي، ط1، (منشورات الجمل، بيروت، 2011).

47. فوزي، فاروق عمر، الاستشراق والتاريخ الإسلامي (القرون الإسلاميّة الأولى) دراسة مقارنة بين وجهة النظر الإسلاميّة ووجهة النظر الأوروبيّة، ط1، (الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، 1998).

48. فوفلد يتريش فيشر، الأساس في فقه اللغة العربية، ترجمة: سعيد حسن بحيري، ط1، (مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، 2002).

49. فوك، يوهان، تاريخ حركة الاستشراق الدراسات العربيّة والإسلاميّة في أوروبا حتى بداية القرن العشرين، ترجمة: عمر لطفر العالم، ط2، (دار الكتب الوطنية، بنغازي، 2001)؛ (دار المدار الإسلامي، بيروت، 2001).

(143)

50. كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، ط5، (دار العلم للملايين، بيروت، 1968).

51. كرال، غونترال، تطور علم الاستشراق في ألمانية، مجلة المعرفة، (وزارة الثقافة والإرشاد القومي، سوريا)، العدد السابع والخمسون، السنة الخامسة، 1966.

52. كرباج، يوسف، تأملات في الشرق تقاليد الاستشراق الفرنسي والألماني وحاضره، ط1، (قدمس، بيروت، 2006).

53. كوثراني، وجيه، الذاكرة والتاريخ في القرن العشرين الطويل دراسة في البحث والبحث التاريخي، ط1، (دار الطليعة، بيروت، 2000).

54. مراد، يحيى، معجم أسماء المستشرقين، ط1، (دار كتب عربية، د. م، د. ت).

55. مصطفى عبد الكريم، معجم المصطلحات والألقاب التاريخية، ط1، (الرسالة، بيروت، 1996).

56. مؤنس، حسين، أطلس تاريخ الإسلام، ط1، (الزهراء للاعلام العربي، القاهرة، 1987).

57. مؤنس، حسين، التاريخ والمؤرخون دراسة في علم التاريخ ماهيته وموضوعاته ومذاهبه ومدارسه عند أهل الغرب، (دار المعارف، القاهرة، 1984).

58. ناجي، عبد الجبار، التشيع والاستشراق عرض نقدي مقارن لدراسات المستشرقين عن العقيدة الشيعية وأئمتها، ط1، (دار الجمل، بيروت، 2011).

59. نادر بورنقشبند، المنهج الاستشراقي في دراسات السيرة النبوية الشريفة، ترجمة: محمد حسن زقراط، مجلة الحياة الطبية، العدد 21ـ22، السنة 7، (المؤسسة العالمية للمعاهد الإسلاميّة العالمية، بيروت، 2007).

60. نادر، البير نصري، اهتمام المستشرقين بالفكر العربي الإسلامي القديم، سلسلة كتب الثقافة المقارنة، (الاستشراق)، العدد1، (دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1987).

61. نولدكه، تيودور، تاريخ القرآن، ترجمة: جورج تامر، ط1، (مؤسسة كونراد ادناور، بيروت، 2004).

62. هارتموت بوبتسين، الاستشراق الألماني إلى اين، حوار اجراه ظافر يوسف مع المستشرق الألماني هارتموت بوبتسين، مجلة التراث العربي، العدد 68، السنة السابعة عشر، (اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1997).

63. هويدي، الاستشراق الألماني تأريخه وواقعه وتوجهاته المستقبلية، ط1، (المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 2000).

(144)

 

 

 

 

 

الفصل الثاني 

نقد أطروحة نودلكه في الوحي

 

(145)

 

 

 

مقدمة الفصل 

تتناول البحوث المدرجة في هذا الفصل موضوع الوحي، الذي يعدّ من المواضيع الحسّاسة التي لاقت أرضيّة خصبة عند عامّة المستشرقين، وجعلها تيوردور نولدكه مدخلًا أساسيًّا للطعن في سماويّة القرآن الكريم ووحيانيّته؛ إذ كوّن في موضوع الوحي صورة نمطيّة حول النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما زالت هذه الصورة مستوطنة العقل الفكريّ الغربيّ إلى يومنا هذا، وهي كون النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعاني من مرضٍ نفسيٍّ، وهذا المرض هو ما جعله يتهيّأ أن ما أتى به نازل من السماء. وبناءً عليه، قدّم هذا الفصل في بحوثه الأربعة قراءةً نقديّةً لمفهوم الوحي الذي تبنّاه نولدكه؛ داحضًا لجميع مقولاته المتعلّقة بالوحي وما يرتبط به، خاصّة ما يرى أنّه حذف من القرآن وقد جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله

(146)

قراءةٌ نقديَّةٌ في مفهوم الوحي النَّبويِّ

بوصفه مرضًا نفسيًّا عند تيودور نولدكه

حمدان العكله[1]

ملخص البحث

الوحي حقيقةٌ ثابتةٌ رافقت سيرورة الإنسانيَّة بمراحلها الدينيَّة المتعدّدة، وللوحي أنواعٌ مختلفةٌ يتجلَّى من خلالها في الواقع، ويرتبط بالنبوّة كدلالةٍ على صدورها من عالم السَّموات إلى عالم الأرض والوجود البشريِّ، لذا فقد كان الوحي موضوعًا رئيسًا عند المستشرقين والمهتمّين بدراسة الحضارة الإسلاميَّة، ويُعدُّ تيودور نولدكه (Theodor Noldeke) أحدهم، والذي قدَّم رؤيةً مختلفةً حول الوحي وآليّة نزوله على نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليصل إلى رفض نزول الوحي في أغلب أشكال تجليه في الواقع، ثمَّ ليعتبره ضربًا من ضروب الإلهام العرفانيِّ، وبذلك فقد ساوى بين الوحي المحمديِّ والإلهام أو الخطور النفسيِّ الذي يمتاز به بعض الصالحين والعرفاء، وبالتالي قدَّم رؤيته على أساس المساواة بين النّبيّ وبين المصلحين الاجتماعيين عبر حركية التاريخ، وبذلك شَرَعَ بانتزاع طابع القداسة عن الوحي النبويِّ ونزَّله منزلة الإصلاح، لا سيّما أنّه ادَّعى إصابة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمرض النفسيِّ، ممَّا ينزع طابع القداسة عن الوحي النبويِّ.

المقدمة

لا شكَّ أنَّ الاستشراق الألمانيَّ يعدُّ رائدًا في الاستشراق عامَّةً، كما يعدُّ المستشرق الألمانيّ

(147)

تيودور نولدكه الأبرز من بين المستشرقين عامَّةً، والألمان خاصَّةً؛ إذ عمد مبكّرًا إلى نقل جزءٍ كبيرٍ من التُّراث الإسلاميِّ إلى حيِّز الدِّراسات الاستشراقيَّة، ولا سيَّما في دراسته حول أصل سور القرآن الكريم وتركيبها، وحول ماهيَّة الوحي الذي تلقَّاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

يقدِّم نولدكه تفسيرًا للوحي النبويِّ على أنَّه حالةٌ نفسيَّةٌ مرضيَّةٌ تنتاب الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله، مستندًا إلى الأحاديث النبويَّة التي نقلها رواة الحديث على اختلاف صحَّتها وقوَّتها وضعفها، فهي أحاديثٌ تصف الحالة النَّفسية التي كانت تلازم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أثناء نزول الوحي، مبديًا بذلك رأيه الاستشراقيَّ في مسائل دينيَّةٍ تاريخيَّةٍ ترتبط بالوحي وحالات تجلِّيه عند الأنبياء عليهم‌السلام، مثل رؤيا النبيِّ إبراهيم وتكليم الله لموسى عليهما‌السلام، وغيرها من تجليَّات الوحي وصورها المختلفة؛ إذ أيَّد بعضَ التَّفسيرات ذات المنشأ النفسيِّ، والتي تزعم بأنَّ ما كان يعتري النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أثناء نزول الوحي إنَّما هو حالةٌ نفسيَّة تصل إلى التَّهيج حتَّى الصرع وما يصاحبها من غيابٍ تامٍّ عن الوعي، وهو بذلك يعود أدراجه إلى ما كان يتعرَّض له النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أقاويل لا تستند إلى حجَّةٍ منطقيَّةٍ في زمن النبوَّة، وبذلك فهو لم يستند إلى ما ينتمي إليه من مدرسةٍ نقديَّةٍ تدعو إلى البحث دون التَّسليم بما جاء به الآخرون من اتهاماتٍ باطلةٍ، بمعنى أنَّه سلَّم في بعض الأحيان بما لا ينبغي التَّسليم به مباشرةً، ولا سيَّما أنَّ حالة الصَّرع كانت تتساوى في ذلك الزَّمن مع الجنون حسب ما كان قد توصَّل إليه علم النفس آنذاك، وهذا ما لا يتناسب مع نبيٍّ يحمل رسالةً عالميَّة للبشر، إذ إنَّ ما كان ينتاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتشابه مع ما يحدث في حالات المرض النَّفسيِّ العاديَّة كما يؤكِّده علم النَّفس اليوم.

يحاول البحث أن يجيب عن السُّؤال الإشكاليِّ التَّالي من خلال مناقشة ونقد ما قدّمه المستشرق الألماني تيودور نولدكه:

ما هي حقيقة مزاعم المستشرق الألماني نولدكه حول تفسير الوحي النبويِّ على أنَّه مرضٌ نفسيٌّ؟ وما تأثير تفسيراته النَّفسيَّة في الفكر الإسلاميِّ؟

(148)

أوّلًا: مناقشة الوحي النبويِّ وتداعياته النَّفسيَّة عند النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

يذهب نولدكه إلى البحث في حقيقية الوحي النبويِّ، ومدى مصداقيّته، فيقول في بداية كتابه: «لا يسعنا الإنكار أنَّ كثيرًا من الشُّعوب عرفت ما يشبه النبوّة»[1]، فيربط نولدكه بين الوحي والنبوّة، فالوحي ضرورةٌ منطقيّةٌ للنبوّة؛ إذ إنّ رسالة النبوّة لا بدَّ أن تصل إلى البشريّة جمعاء غير منقوصةٍ، بوصفها رسالةً مقدَّسةً، لذا تطلَّب الأمر تعزيز النبيّ أو المُرسَل بقوّة الوحي؛ إذ «إنَّ الوحي الذي نزل على الأنبياء والمرسلين، هو (الكاتالوج) الذي يحدِّد للإنسان الطريق الذي عليه أن يسلكه ليصل إلى ما ينفعه ويجتنب ما يضره، ويبيِّن له كيف يستثمر طاقاته ومواهبه»[2]، إلا أنَّ الوحي مختلفٌ من وجهة نظر المستشرقين، فلكلٍّ منهم رؤيته الخاصَّة حول معناه وأنواعه، وتجلياته، وسنتطرَّق لذلك بشكل مفصلٍ.

1- حقيقة الوحي المثبتة ونقد منكريه

يُمثِّل الوحي وسيلة الاتصال بين الخالق والأنبياء، بين العالم العلويِّ وبين عالم الموجودات، حيث تكون مهمَّته مرشدًا ودليلًا للأنبياء والرسل، بهدف تبليغ رسالةٍ سماويةٍ يريد من خلالها الخالق إرساءها بين البشر، وبذلك فالوحي قد رافق كلَّ الأديان والرسالات السَّماوية لنشر رسالةٍ تهدف إلى إعلام الشَّرع الإلهيِّ وتتنوّع طرقهُ، وزمانه، ومكانه، في حين أنَّ مصدره واحدٌ، وهو الله تعالى.

وللوحي ضرورةٌ منطقيةٌ وعقليةٌ تفرضها ضرورة الرِّسالة السَّماوية وخصوصيتها، بوصفها رسالةً مقدّسةً لا يجوز التَّغيير فيها، ويتطلَّب من الوحي إيصالها بشكلٍ لا يشوبه أيُّ سوء فهمٍ، وهي الوسيلة المميَّزة للمرسلين عن بقيّة أقرانهم من بني البشر، فكان لا بدَّ أن تحمل هذه الرِّسالة سمة القوَّة والإعجاز، كدليلٍ على صدورها من قوَّةٍ غير بشريةٍ، فإيمان الإنسان بوجود هذه القوَّة الغيبيّة، واستشعاره لعظمتها عبر هذه الرِّسالة تجعله

(149)

يؤمن بوجودها وبرسالتها الصَّادرة عنها عبر الوحي، فتدل الأدلَّة والبراهين العقليّة على وجود قوّةٍ مسيِّرةٍ ومتحكِّمةٍ بالكون، وغالبيّة الفلسفات توصَّلت عبر استدلالها إلى وجود محرِّكٍ أساسيٍ يتحكَّم بهذا الكون، وقد جاءت جميع الرِّسالات السَّماوية لإثبات هذه الحقيقة، فالعقل سمةٌ إنسانيّةٌ ميَّز بها الخالقُ الإنسانَ عن غيره من الموجودات، وأيَّده بالوحي المُرسل ليكون العقل والوحي بوصلةً ترشد الإنسان نحو الحقيقة، حيث يتكفَّل العقل بمعرفة أصل الوجود والخالق والنُّبوة بوصفه أساس التكليف، ثم يضيف الوحي لهذه المعرفة آلية ممارسة الشعائر الدينيّة وطرقها[1]، إي إنَّ العلاقة بين العقل والوحي علاقةٌ تفاعليةٌ تكامليّةٌ.

أمَّا إثبات الوحي دينيًا فهو مثبتٌ عبر عددٍ كبيرٍ من الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة لمن هم يؤمنون بالقرآن الكريم، حيث يقول تعالى:

(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [2]، وكذلك قول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [3]، وغيرها من الآيات التي تشير إلى إرسال الله  الوحي لتبليغ رسالته إلى البشر.

لقد شكَّل الوحي موضوعًا إشكاليًّا منذ بداياته، فقد عانى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغ الناس برسالته المنزَّلة عليه، على الرغم من معرفة الناس لهُ بصدقهِ وأمانته؛ فقد شكَّل موضوع الوحي مفترق طرقٍ؛ لأنَّ مسألة الإيمان به باتت مسألةً مفروضةً، وأن نكران الوحي يعني رفض الرِّسالة السَّماوية، والدين الجديد. وقد ذهب بعض منكري الوحي إلى نقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ورفض تصديقه، واتِّهامه بأنَّه كان يتوهَّم، ولم يكن هناك أيُّ شيءٍ من هذا الوحي الذي كان يتنزَّل عليه، فتصديق الوحي يعني القبول بالدين الجديد وبقدسيّته

(150)

المرتبطة بالوحي، وبالتَّالي سيواجهون تغييرًا في سيرورة التاريخ، وتبدُّلًا في منظومة الحياة التي سوف يصبح الدين هو المسيِّر والموجِّه لها، لذا كان لا بدَّ من رفض هذه الرِّسالة عبر إنكار الوحي وتشويه صورة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله، حيث توالت التُّهم المختلفة والمتنوّعة التي تُنكر هذا الوحي، مثل اتّهام النبيّ  صلى‌الله‌عليه‌وآله بالجنون أو السِّحر أو المرض أو غيرها من التُّهم، وهنا سنكتفي بالحديث عن تهمةٍ واحدةٍ، هي تهمة كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مصابًا بالصَّرع والمرض النفسيِّ المرافق له، وبالتَّالي يصبح الوحي حالةً من حالات المرض النفسيِّ، وحالةً من الوهم التي تصيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أثناء تعرُّضه للصرع، فالوحي بادِّعائهم ذو منشأ نفسيٍّ، وليس مصدره الخارج أو عالم الغيب، وبأنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدرك سوى عالم المادة والطبيعة، أي إنَّ هذا «الوحي الذي أخبر به محمد إنَّما هو إلهامٌ كان يفيض من نفس النبي المُوحَى إليه لا من الخارج؛ ذلك أنَّ منازع نفسه العالية، وسريرته الطَّاهرة، وقوَّة إيمانه بالله وبوجوب عبادته وترك ما سواه من عبادة وتقاليد يكون لها في جملتها من التَّأثير ما يتجلَّى في ذهنه، ويحدث في عقله الباطن الرؤى، والأحوال الروحية، فيتصور ما يعتقد وجوده إرشادًا إلهيًا نازلًا عليه من السَّماء بدون وساطة أو يتمثل له رجلٌ يلقِّنه ذلك، يعتقد أنَّه من عالم الغيب... وأنَّ ما تخيّله إنِّما هو نابعٌ من نفسه ومن عقله الباطن»[1]، فالوحي بذلك يكون جزءًا من التَّصورات التي يسعى لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتي تعكس ما في داخله، وليست حقيقيّة.

لقد امتاز الوحي بنتاجٍ عقديٍّ وفكريٍّ وتشريعيٍّ منزَّلٍ، ومنظومةٍ علميّةٍ رصينةٍ، وبلاغةٍ وقدرة إعجازٍ بما ضمَّت من أسرار الكون بشكلٍ يؤكِّد أنَّه ليس نتاج عقلٍ بشريٍّ وليس قدرةً بشريةً، وبالتَّالي فإنَّ هذا الوحي ليس نتاج عقلٍ باطنٍ، إذ إنَّ «العقل الباطن على ما يقول علماء النفس، إنَّما يفيض بما فيه في غفلةٍ من العقل الظاهر، ولذلك لا يظهر ما فيه إلّا عن طريق الرؤى والأحلام، الأمراض كالحمى مثلًا وفي الظروف غير العادية، والقرآن الكريم نزل على النبي  وهو في اليقظة، وفي اكتمالٍ من عقله وبدنه، ولم ينزل منه شيءٌ في الرؤى والأحلام»[2].

(151)

فالحديث عن الوحي على اعتباره من مخرجات العقل الباطن أو اللاوعي (اللاشعور)، هو حديثٌ ينطلق من تعبير عالم النفس سيغموند فرويد (Sigmund freud)، وكأنَّ الحديث بهذه الصيغة أو هذا التفسير يضفي على الكلام طابع العلميّة أو الموضوعيّة، ولكنَّ حقيقة هذا التفسير -انطلاقًا من نظرية اللاوعي ذاتها- تعني أنَّ هذه العلوم والمعارف قد تمَّ اكتسابها مسبقًا، حتى خرجت في حالة اللاشعور؛ لأنَّ -وحسب تعبير فرويد- منطقة (الهو) التي تحتوي على كلِّ ما يكبته الإنسان وكلِّ ما يحاول إخفاءه في هذه المنطقة اللاواعية يظهر عندما تغفل (الأنا الأعلى) والتي تمثِّل الجدار المانع لخروج ما يوجد في منطقة (الهو)، ففي هذه اللحظة يخرج شيءٌ ممَّا يخفيه، وهذا يحدث في حالات زلَّات اللسان أو أن يكون الإنسان مصابًا بمرضٍ نفسيٍ، أي في حالات يكون فيها بحالة من اللاوعي، وغياب للشعور، وخلال هذه العملية وما يحدث فيها لا يخترع هذا الشخص شيئًا جديدًا من عنده أو لا يقدِّم علومًا ومعارف جديدةً؛ إنَّما هي مكتسبةٌ مسبقًا ولكنَّها قابعةٌ في حالة اللاشعور، وما إن تستغل غياب حالة الشعور حتى تخرج إلى العلن، ما يؤكِّد بطلان فكرة أنَّ الوحي مرضٌ نفسيٌ، وبطلان هذه المزاعم سيدفعنا للحديث عن الوحي وتأثيراته على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

2- تدرُّج الأثر النفسيِّ للوحي عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبطلان مزوّريه

الوحي شيءٌ خارج المألوف عن الطبيعة البشرية وكينونتها، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مخلوقٌ بشريٌّ على الرغم من قدراته التي أيَّده الله بها، وعلوّ شأنه وسموّ أخلاقه، أي إنَّه من الطَّبيعي أن يتأثَّر بهذا الحدث الغريب عليه، وبالتالي انعكست هذه الآثار على نفسيّته وهيئته الخارجيّة كنتيجةٍ طبيعيةٍ لتأثير النفس على الجسد، حيث قال تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) [1]. وهذا دليلٌ قرآنيٌّ على أنَّ للوحي آثارًا على شخصيّة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث اختلفت وتعدّدت هذه الآثار، ونحن هنا سنذكر بعضها، كسماعه دويًّا كدويِّ النحل عند وجهه الكريم، وتغيُّر لون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغشيانه، حاله مثل حال المحموم، إضافةً إلى تفصُّد جبينه عرقًا حتّى في أيام البرد الشديد، وثقل وزنه.

(152)

سأل الحارث بن هشام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدُّه عليَّ، فيفصم عنَّي وقد وعيت عنه ما قال»[1]، والصلصلة صوت الحديد إذا تمّ تحريكه، والمراد به أنَّه صوتٌ ثابتٌ ومدرَكٌ، يسمع بصوت واضح جدًا، أمَّا شدّته على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو دليلٌ على عدم اعتياده عليه، إلا أنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمدَّه الله تعالى بطاقةٍ ليتحمَّل ما يصيبه، فيتغيّر لونه، ويعرق جبينه بشدَّة، لكنَّه يتحمَّل كلَّ ذلك بغية تبليغ الرسالة بأكمل صورةٍ. في هذه الحالة، أي حالة صلصلة الجرس يذهب البعض إلى أنَّها ذاتها دويُّ النحل، لكنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يسمعه بأذنيه كصلصلة الجرس، إلا أنَّ مَنْ حوله يسمعونه كدويِّ النحل.

بالنسبة لتغيُّر وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو نتيجةٌ طبيعيّةٌ لمَا ينتابه من ضيقٍ وتعبٍ، حيث كان يتربَّد وجهه الكريم، ثم يحمرُّ. عن عبادة بن الصامت، قال: «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أُنزل عليه الوحي كُرِب لذلك وتربَّد وجهه»[2]، فالآثار السابقة آثارٌ نفسيّةٌ لها انعكاسها على الجسد، أمّا ما يتمُّ تلفيقه من تمدُّد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على الأرض أو أنَّه كان يعض على شفتيه، أو يغلق عينيه، وغيرها من الأوصاف التي لا تليق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا تمت للواقع بصلةٍ، فهي مجرَّد كلامٍ ليس له أساس من الصِّحة، والهدف منه الطعن بالوحي وبشخصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وبالتالي الطعن بآلية التبليغ والدعوة التي يحملها الوحي.

إنَّ حادثة الوحي حادثةٌ مفاجئةٌ، لا تحدث بشكلٍ أو وقتٍ محدّدٍ، ممَّا يجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرتعدًا لحظة نزوله، فالتغيّرات التي تطرأ عليه لم تكن لتحدث لولا عمليّة النزول، ممَّا يؤكِّد أنّ آثار الوحي والتغيرات المرافقة له على شخصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، هي مؤقتةٌ وطارئةٌ وتزول مع انتهاء الوحي، لذا فالوحي ليس أمرًا داخليًّا كما ذهب المستشرقون -ومنهم نولدكه- بل أمرٌ خارجيٌّ، من عالم الغيب، حيث إنَّهم أرادوا من ذلك الطعن في ظاهرة الوحي والنبوة معًا؛ ذلك لأنَّ الوحي هو «أخصُّ مزايا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والرسالة، فإذا تخلَّلها شكٌّ فلا تغني أيَّة صفةٍ أو ظاهرةٍ أخرى عنها»[3]، فإرجاع الوحي إلى خللٍ

(153)

نفسيٍّ في شخصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يجعل من الوحي أمرًا غير موثوقٍ به لصدوره عن مختلِّ نفسيٍّ -كما يزعمون- وبالتالي الطعن في مصدره وفي صدقهِ، فالوحي جوهر الدين إذا ما تمَّ التشكيك فيه، يعني التشكيك بالدين كاملًا، إذ إنَّ تلك الممارسات «تمسُّ ركنًا مهمًا من الدين سواء أكان ذلك في عقيدته أم فكره أم سلوكه أم جهاده، فلا يسلم المسلم إذا داخلته شبهةٌ بها»[1]، فنقد السلوك هو نقدٌ لشخصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وبالتَّالي هو نقدٌ يهيّئ لرفض الدعوة، حيث تساءل الفيلسوف البريطاني (آرنولد توينبي) في كتابه دراسة التاريخ: أيّ فجوة تحدث لو طُعن في تاريخ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ والوحي أبرز ما جاء في تاريخ الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنَّه الحامل للرسالة السماوية.

إذًا، فالآثار التي كانت تعتري النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في فترة الوحي، هي آثارٌ نفسيّةٌ متدرِّجةٌ حسب نوع الوحي وشدَّته، وهي آثارٌ لها سببها الخارجي (الوحي) وتزول بزواله (ذهابه). وإنّ تهمة الصَّرع أو المرض النفسيِّ غير مقبولةٍ منطقيًّا ولا دينيًّا، فتبليغ الدعوة أو الرسالة السماويّة لا يمكن أن يتمَّ بواسطة مريضٍ نفسيِّ، ولا يمكن أن يقع اختيار الله عز وجل على شخصٍ مصابٍ بمرضٍ نفسيٍّ، أمَّا بطلانها من الناحية المنطقيّة فيمكننا القول بأنَّ مريض الصَّرع لا يتذكَّر ما ينتابه في لحظات الصَّرع، حيث يكون في حالةٍ تامةٍ من فقدان الوعي، في حين أنَّ الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتذكَّر، لا بل ويحفظ بشكلٍ دقيقٍ ما جاء إليه به الوحي، فملكة الشعور والتفكير تتعطل بشكلٍ كاملٍ خلال نوبة الصّرع، «فالصرع يعطِّل الإدراك الإنسانيَّ وينزل بالإنسان إلى مرتبةٍ آليةٍ يفقد أثناءها الشّعور والحسَّ، أمَّا الوحي فسموّ روحيّ اختصّ الله به أنبياءَه ليلقي إليهم بحقائق الكون اليقينيّة العليا كي يبلغوها الناس»[2]، فلا يصحُّ تبليغ رسالةٍ سماويةٍ لما فيها من تعاليم وتشريعاتٍ دقيقةٍ إلا بواسطة إنسانٍ سليمٍ وناضجٍ عقليًّا ونفسيًّا، ولعلَّ هذا السبب الذي يفسِّر تأخُّر نزول الوحي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى سنّ الأربعين.

(154)

ثانيًا: نقد تجلِّيات الوحي النبويِّ وتفسيراتها النفسيَّة عند نولدكه

أمَّا حديث نولدكه عن النبوة الخاصّة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ‏فهو موضوعٌ مختلفٌ، فآثارها النفسيّة على ‏النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لها قصةٌ مختلفةٌ، فإنّ الوحي الذي يراه نولدكه ضرورةً  نبويةً إنَّما كان ‏يعني ‏الوحي والنُّبوة السابقة على رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله، دون أن يقصد النبوّة المحمّديّة، بل كان لديه الكثير من الاعتراضات والرفض لها، وللحديث بشكل أكثر تفصيلًا، سنتحدَّث عن آراء نولدكه وموقفه من الوحي.

‏1- إنكار نولدكه لتجليَّات الوحي، ونقد موقفه

يبدأ نولدكه بتعداد أنواع الوحي بلغةٍ تهكّميّةٍ وشكيَّةٍ، حيث يكرِّر دائمًا كلمة (يُقال) وكأنَّه ليس باحثًا علميًّا يستخدم المنطق والمنهجيّة لتقصِّي حقائقه بأسلوبٍ علميٍّ، حيث يصل إلى نتيجة مفادها أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس سوى شخصٍ مصابٍ بالصَّرع، وترافق صرعه حالةٌ من الاضطرابات النفسيّة الشّديدة، ويذهب إلى تبنِّي الشائعة البيزنطينيّة التي تقول إنَّ الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله مصابٌ بالصَّرع ومريضٌ نفسيٌّ، فهذا التبنِّي لهذه المقولة التاريخية دون أيِّ مرجعيةٍ علميةٍ أو دون دليلٍ على صحتها هو بحدِّ ذاته مأخذٌ على منهجية نولدكه، ودليلٌ على أحكامه المسبقة التي يطلقها قبل أن يقوم بأيِّ عمليةٍ استدلاليةٍ علميةٍ.

يتابع نولدكه حديثه بهذا الأسلوب السردي إلى حدِّ القول بأنَّ حالات الصَّرع التي كانت تنتاب الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله هي ضربٌ من ضروب الجنون، وبأنَّ محمّدًا صلى‌الله‌عليه‌وآله حاول أن يتستَّر على هذا الجنون وعلى حالته من فقدانٍ للوعي ونوبات الغيبوبة بتبرير أنَّ ما يحدث له عبارة عن ميزةٍ إلهيةٍ، وتدلُّ على قربه من الله وخصوصيّته عند ربِّه، حيث يقول: «إنَّ العرب، شأنهم في ذلك شأن كلِّ الشعوب القديمة، كانوا يعتبرون من كانت تعتريه حالاتٌ كهذه مجنونًا، لذا يبدو أنَّ محمدًا، الذي كان يشاركهم في البداية هذا الاعتقاد، رأى لاحقًا في ما كان يغشاه تأثيرًا خاصًا عليه من الإله الحقيقي الواحد»[1]، وبالتالي فكلُّ أنواع الوحي وكلُّ تجلياته ما هي إلا نوبات صرعٍ واضطراباتٍ نفسيّةٍ أراد

(155)

النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله استغلالها ليرفع نفسه فوق البشر، وقد ظهر ذلك جليًّا في حادثة الإسراء والمعراج والتي هي ليست سوى حلمٍ رآه النبي، ويعبِّر عن اضطرابه النفسيِّ وتخيّلاته التي بات ينسج منها قصصًا ورواياتٍ، فالوحي المزعوم -حسب تعبير نولدكه- أغلبه يحدث ليلًا، وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنَّه يدلُّ على صحّة الاضطرابات النّفسيّة والتي تكون في الليل «أكثر قابلية لاستقبال التخيّلات والانطباعات النفسيّة عمَّا هي عليه في وضح النهار. ونحن نعلم بالتأكيد أنَّ محمّدًا كثيرًا ما قضى الليل متهجِّدًا (سورة الإسراء 17: 79/ 81) وأنَّه كثيرًا ما صام. وتشتدُّ بالصيام القدرة على مشاهدة الرؤى ... كما اكتشفت الفيزيولوجيا الحديثة مؤخرًا»[1].

هنا يحاول نولدكه أن يسند كلامه إلى الفيزيولوجيا الحديثة -كما يزعم- في حين أنَّ علم النفس المعاصر يؤكِّد أنَّ المريض النفسيَّ يُصاب بتشتتٍ الانتباه بشكلٍ عامٍّ، «من 30 إلى 50 % من مرضى الصَّرع يؤدِّي إلى تدهورٍ في الأداء الأكاديميِّ والاجتماعيِّ، ولا ترتبط هذه العلاقة بنوع الصَّرع أو سنِّ بداية الصَّرع أو أسبابه. التدخُّل العلاجي في حالات (ADHD) -تشتت الانتباه- عادةً ما يكون بالأدوية... وهي غير مناسبة لمرضى الصَّرع؛ لأنَّه من الممكن أن ينتج عنها زيادةٌ في النوبات الصَّرعية»[2]، بينما لم يذكر أحد أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعاني من مرض نفسيٍّ أو عقليّ نتيجةً لهذا الصَّرع -لو افترضنا جدلًا إصابته- كما أنَّ مصاب الصَّرع -حسب الدراسة السابقة- سيكون غير قادرٍ على التخطيط بشكلٍ جيدٍ أو القيام بالعمليات الذهنية المعقَّدة، وهذا ما لم يذكر أحدٌ بأنَّه قد أصاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من أعراضه، بل على العكس تمامًا كان يتمتَّع بقدراتٍ عقليّةٍ فائقةٍ وتخطيطٍ عال الدِّقة، شهد بذلك له الأعداء قبل المقرَّبين منه، فالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قائدٌ عسكريٌّ ورجل دولةٍ؛ إذ أسَّس أوَّل دولةٍ إسلاميّةٍ، وقام بتنظيمها عبر نظام التعاهد بين المهاجرين والأنصار، فقيام «الدولة على هذه الصورة تعتبر النموذج الأول لقيام الدولة التعاهدية الثيوقراطية في التاريخ حيث يتّفق أطرافها طواعيةً وبدون قهرٍ على

(156)

قيامها على أساس عقدٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ وعسكريٍّ واقتصاديٍّ قبل أن يعرف العالم نظام الدولة التعاهدية»[1]، ففكرة هجرة المسلمين إلى الحبشة، ثمَّ الهجرة إلى المدينة المنورة التي قام بها المسلمون بطلبٍ من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله، ونجاحه بإقامة الدولة الإسلامية ثمّ عودته لفتح مكة، وغيرها من المعارك التي خاضها وانتصر فيها ونشر رسالته السماوية التي كانت قد صدرت عبر الوحي الإلهيِّ له، كلُّها علاماتٌ تدلُّ على زيف ادِّعاء نولدكه باضطراب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومرضه الذي زعمه ووافقه عليه عددٌ من المستشرقين.

يذهب نولدكه إلى اعتبار أنَّ صيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والإكثار من الصيام كان الهدف منه مشاهدة الرؤى، حيث يعزِّز فكرته هذه بالعودة إلى إنجيل متَّى، حيث ورد في إنجيل متَّى في الإصحاح الرابع: «إنَّ الصوم هو سلاح ضدَّ الشيطان، ولكنَّنا نجد هنا أنَّ الصوم أثار الشيطان ضدَّ المسيح فحاربه، فهل نصوم ليحاربنا الشيطان؟ نقول: نعم»[2]، إذ إنَّ نولدكه يرجع للتأكيد بأنَّ حالة الصفاء النفسيِّ تجعل من الرؤية أقرب وأسهل للتحقُّق، وفي ذلك تناقضٌ صريحٌ بين دعوة نولدكه إلى اعتبار الصَّرع والاضطراب النفسيِّ ضربًا من الجنون وبين اعتباره مساعدًا على الخلو النفسيِّ، ما دام الحديث كلّه حول شخصيّةٍ واحدةٍ وهي شخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، فهذا تناقضٌ منهجيٌّ ويحتوي على طغيانٍ لذاتيّة الباحث على نتائجه.

كما أنَّ عودة نولدكه إلى الإنجيل أمرٌ من شأنه التشكيك في مصداقيّته، إذ كيف لباحثٍ تاريخيٍّ أن يستند إلى نصوصٍ من الإنجيل المقدَّس وأن يصدِّقه في حين يذهب إلى رفض آياتٍ من القرآن الكريم بوصفه كتابًا مقدّسًا أيضًا، إذ يتوجَّب على نولدكه أن يرفض وأن يتجرّد من كلِّ إيمان ويبحث بموضوعيّةٍ بعيدًا عن الذاتيّة أو عن أيِّ انتماءٍ دينيٍّ أو أيديولوجيٍّ ليصل إلى نتائجه المنطقيّة.

‏2- المعنى النقديّ لتفسير الوحي بالمرض النفسيِّ والتَّوسع في إنكاره

لم يكن نولدكه يقدِّم طروحاته جزافًا دون البحث عن دليلٍ، بل إنَّه حاول دائمًا

(157)

الرجوع إلى القرآن الكريم أو إلى المراجع الدينيّة والأحاديث التي نُقلت عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله، حيث نجده «يتَّجه أولًا إلى الروايات الصّحيحة الثابتة التي لا تؤيِّد تفسيره، فيشكِّك فيها ليُكسب تفسيره الآتي المرجعيّة الإسلاميّة، فنجده هنا يرفض معظم الروايات التي ورد فيها كيفيّات تلقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الوحي من الله تعالى مشككًا في ثبوتها، بدعوى أنَّها لم ترد في الحديث الذي ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ بل قامت على تفسيراتٍ خاطئةٍ للكتاب والسنة، ولا يستبقي منها إلا كيفيّةً واحدةً هي سماعه صلى‌الله‌عليه‌وآله صلصلة الجرس بدعوى أنَّها الوحيدة التي ثبتت عن النبي»[1]، لذا فقد توجَّب علينا العودة إلى الأدلّة المنطقيّة، والبحث في منهجيّة نولدكه، وتبيان حقيقة آرائه وتباينها.

بيَّن نولدكه أنَّ المعنى الحقيقيَّ للوحي لا يقتصر على نزول القرآن وآياته إنَّما يتعدَّى ذلك إلى معانٍ أشمل، فقد ينزل الوحي ليذكِّره بتشريعٍ أو حلٍّ لموقفٍ معيّنٍ، أو لمساندته لقيام الليل، أو نزول الوحي لإرشاد النبيّ الكريم على تصرّفٍ محدَّدٍ، أو لمساعدته بالاختيار بين خياراتٍ عدَّة معروضةٍ عليه، حيث ثبت أنَّ جبريل «جاءه فقال: (يا محمدُ، كُن عجَّاجًا ثجَّاجًا بالتلبية)؛ كما جاءه آمرًا بالشورى في أسرى بدر قائلًا: (خيِّر أصحابك في الأسارى إن شاءوا في القتل وإن شاءوا في الفداء)»[2]، ثمَّ يذهب نولدكه إلى خلط الحقِّ بالباطل، حيث عد ادِّعاءات مسيلمة وطليحة وحيًا، وبالتالي ساوى بين الحقِّ والباطل، وهي منهجيةٌ اتَّبعها لضرب الحقِّ بالباطل ليظهره كلَّه باطلًا، لا سيّما أنَّه يقوم بنقل دراسته إلى بلدانٍ ليست على تماسٍ مباشرٍ مع بلاد المسلمين، ولا تربطها بها رابطةٌ تاريخيّةٌ ولا لغويةٌ ممَّا يسهِّل عليه عملية خلط الحقائق وتشويهها.

فقد زعم أنَّ أنواع الوحي متداخلةٌ وغير مثبتةٍ جميعها، وعَبْر رفضه للإسراء والمعراج رفض الوحي في السَّماء، مع محاولته تقديم الوحي عن طريق شخصيّة دحية الكلبي لكي يسهل عليه رفض ظهور جبريل، وكذلك القول بأنَّه كان كصلصلة الجرس، وذكر شدّته وتأثيره على حالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من تعبٍ وتصبُّب عرقٍ وغيرها من الحالات التي

(158)

تشير إلى إرهاقه، حيث كانت غاية نولدكه من ذلك تعزيز فكرة إصابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بمرض الصَّرع وما له من مضاعفاتٍ وآثارٍ نفسيةٍ على شخصيته، وبالتَّالي تحويل الوحي من مسألةٍ موضوعيةٍ خارجيةٍ إلى أمرٍ داخليٍّ وذاتيٍّ خاصٍّ بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله متوقِّف على طبيعته وصحَّته، أي منح الوحي طابعًا شخصانيًّا، ونزع القدسيّة عن الدِّين، وزعم أنَّ الدين الإسلاميَّ عبارةٌ عن اجتهادٍ شخصيٍّ أو مشروع إصلاحٍ اجتماعيٍّ مثله مثل أيِّ دعوة إصلاح تأتي في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله  إلّا شخصًا مصلحًا في زمانٍ محدَّدٍ ومكانٍ معيّنٍ، وقد انقضى زمانه في مكانه، ولم يعد صالحًا لزماننا وظروفنا الجديدة المتغيّرة والمختلفة، ويعزِّز هذه الفكرة ما ذهب إليه المستعرب الألماني هوبرت جرين (H. green)، حيث زعم أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «لم يكن في بداية أمره يبشِّر بدينٍ جديدٍ، ولكنَّه اقتنع بضرورة إصلاح مجتمعه في مكة الذي يعاني من الفساد، فوضع خطةً لمساعدة ‏الفقراء عن طريق فرض ضريبةٍ على الأغنياء، ولكنَّه أدرك أنَّهم لن يتقبَّلوا هذا الحلَّ بسهولةٍ، فلجأ إلى حلول تحمّل معنى القدسيّة كفكرة الحساب يوم القيامة كوسيلةٍ للضغط على هؤلاء الأغنياء ‏لقبول خطته الرامية إلى الإصلاح الاجتماعيّ في مجتمعه، ففرض عليهم الزكاة لتطهير أموالهم ‏وأنفسهم، أمَّا المستشرق الإنجليزي مونتجمرى وات (‏M.WATT‏)، فهو ينكر الوحي الإلهيّ وأن ‏مصدر القرآن هو الخيال الخلّاق الذي يتمتّع بها لرسول مثل ما تمتّع به بقيّة البشر الممتازين، فهو ‏يرجع إلى اللاوعي الجماعي طبقًا لرأي يونج (C. Jung) وقد حاول التوفيق بين هذين الرأيين إلّا أنّه يؤكّد ‏عدم تفسير الوحي بإصابة النّبيّ بالهلوسة والصَّرع وغيرهما من الأمراض العصبيّة، ويؤكِّد أنّه كان ‏صادقًا ومخلصًا في دعوته، إلا أنَّه نفى الوحي الإلهي طبقًا للنظرية الإسلاميّة، شأنه في ذلك شأن ‏بقيّة أضرابه من المستشرقين»[1].

تبقى الرسالة والدعوة التي دعا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس إلى اتّباعه فيها دعوة إصلاحٍ اجتماعيٍّ وتعايشٍ دون أن تكون هذه الدعوة ذات مرجعيةٍ إلهيةٍ مقدّسةٍ، وأنَّ مهمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التبليغ وإيصال رسالة الخالق إلى خلقه، فالمحاولة هنا لإيصال رسالة مفادها

(159)

أنَّ الامتداد التاريخيَّ للوحي ليس امتدادًا خاصًّا به، وليس حكرًا على الأنبياء والمرسلين، إنَّما يتشارك به كبار المفكّرين والمصلحين عبر التاريخ، حيث يشمل بوذا وكونفوشيوس والحكماء الأفارقة وفلاسفة اليونان... وكلَّ الأصوات التي تجسِّد التجربة الجماعية لجماعة بشريةٍ، وبالتالي إمكانيّة إخضاعه لمناهج النقد الفيلولوجي التاريخي التي تطبَّق على الكتب التاريخية، إذ يعدُّ الوحي ظاهرةً لغويةً خاصة بالعرب، لا سيما أنَّه جاء بلسانٍ عربيٍّ، أو أنَّ الوحي قد ترجم على لسان الرسول العربي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهنا يتمُّ إدخال الوحي إلى حيِّز الأنسنة على اعتباره خطابًا إنسانيًّا مرتبطًا بزمانٍ ومكانٍ، ويجري على لسان بشر، فكلُّ ما سبق يجعل من الوحي مؤطرًا تاريخيًّا.

3- تعارض الرسالة السَّماوية وشروط النبوّة مع ادّعاء المرض النفسي

أقرَّ نولدكه وعددٌ من المستشرقين بالنبوة، وقالوا بضرورة تلازمها مع الوحي ذلك أنَّ الرسالة السماوية تتطلَّب الدقة والحذر في نقل رسالة الخالق إلى خلقه وتبليغها بعناية، لذا فلا بدَّ أن يكون الرسل والأنبياء أصحَّاء عقلاء وسليمين من أيِّ عيبٍ، وهذا ما حدث فعلًا مع كافَّة الرسل الذين أرسلهم الخالق عبر التاريخ بالرسالات السماويّة، وهذا شيء يؤكّده نولدكه بإقراره صحّة وسلامة الرُسل السابقين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، إلّا أنّ نولدكه يتوقّف عند شخصيّة النّبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليرمي عليه شتَّى أنواع التهم، فيتهمه بعدم سلامة جسده، وباضطرابٍ في عقله، وبمشاكل نفسيّةٍ ناتجةٍ عن إصابته بالصَّرع ـ كما أسلفنا ـ فما الدلالة الحقيقيّة لهذه الرؤية؟

إنَّ كلمة نبيّ مشتقةٌ من كلمة نبأ أي خبر، فالإخبار هي الوظيفة الرئيسة للنبي، أي إخبار أمته (الناس)، بما أوحي إليه، لذا فإنَّ أخصَّ خصائص النبوة يجب أن تكون الصدق؛ لأنَّ نقل الخبر يتطلَّب هذه السمة بشكلٍ أساسيٍّ، ويتطلَّب أن يتّصف صاحب الخبر بهذه الميزة؛ لأنَّ الخبر أمانةٌ، والنبي مكلَّف بإيصالها فيتوجَّب عليه أن يكون أمينًاعليها صادقًا بها.

وقد عُرف النّبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بلقب الصادق الأمين، وذلك قبل نزول الوحي عليه، وقد

(160)

وصفه تعالى بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [1]، ولو كان هناك انفصالٌ بين شخصيّة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومضامين الوحي لما أنزل عليه الله تعالى رسالته، إذ «إنَّ صدق النبي كان سببًا في وثوق أقرب الناس إليه وهي زوجته خديجة أمُّ المؤمنين رضي الله عنها، وكانت دلالة على صدق نبوته عند المقربين منه»[2]، بل إنَّ زواج السيدة خديجة جاء أصلًا  نتيجة لما وجدته عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من صدقٍ وأمانةٍ أثناء فترة عمله بتجارتها وأموالها.

كما يتوجب على النبي أن يكون طاهرًا نزيهًا غير متبعٍ للفواحش، وهي شروطٌ أساسيةٌ للنبي حتى يتمكَّن من تبليغ دعوته ورسالته إلى أمته، وهي سماتٌ رافقت شخصيات الأنبياء والُرسل في التاريخ، كما اتَّسم بها النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد ذكر تعالى بأنَّ الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قدوةً، والقدوة لا تصحُّ ما لم يكن قد امتاز بأسمى الصفات، حيث جاء في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [3]، فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نزيهًا عادلًا حريصًا على نفسه وعلى أمته، مقيمًا للعدل بين الناس دون أيِّ تمييزٍ لأحدٍ على غيره «والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لو أنّ فاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَها»[4].

وغيرها من صفات الحلم والشجاعة والتواضع والكرم والزهد والصبر، وما إلى ذلك من الصفات التي يمتاز بها جميع الأنبياء والرسل، وتبقى السمة التي تميّز أيَّ رسالةٍ سماويةٍ هي سمة الإعجاز، وهي دليلٌ واقعيٌ على أنَّ هذه الرسالة ليست رسالةً بشريّةً أو من فكر البشر، ولو ولم تتميّز رسالة النبوّة بسمة الإعجاز لكان قد كَثُر مَنْ يدَّعون النبوة، فالإعجاز هو بمنزلة الدليل القويِّ والمؤكِّد على أنَّ ما يحمل النبي من رسالة هي ليست إلا رسالةً مقدّسةً من الخالق. ونذكر بعضًا من هذه المعجزات التي كانت خاصّة بالنّبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي على قسمين: الأوَّل منها ظهر في فترة الدعوة، والهدف منها تقوية إيمان المؤمنين والتشجيع على الدين، وإثبات صدق الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله،

(161)

«كانشقاق القمر، ونبعان الماء من بين أصابعه الشريفة، وإشباع الكثيرين بطعام قليل، وتكلم الحيوان والشجر والحجر...»[1]، أمَّا القسم الثاني، فهي المعجزة التي جاء بها النبي الكريم واستمرت على امتداد الزمان هي القرآن ذاته الذي تكفَّل الله بحفظه، حيث جاء في قوله تعالى: (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [2].

إنَّ تقدُّم الإنسان لطلب عملٍ ما يتطلّب شروطًا ومواصفاتٍ كثيرةً، ولعلَّ أبسطها سلامة العقل وعدم الاضطراب النفسيِّ أو أن يتمتّع الإنسان بصحّةٍ نفسيّةٍ، والحاكم الذي سيحكم شعبًا ما فإنَّ شروط الحكم ستكون أكثر دقّة؛ لأنَّ هذا الحاكم سيتحوَّل إلى مرآةٍ للشعب أو ممثلًا لهم بين الشعوب الأخرى، فإن كان يعاني من أيِّ عيبٍ لن يقبله شعبه، فما بالك بأن يختار الله عز وجل إنسانًا ليبلغ رسالة الوحي، بالتأكيد سيكون قد امتاز بشروطٍ هي الأسمى والأرفع بين أقرانه من بني البشر، وهذا فعلًا ما كان قد اتَّصف به الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنَّ الرسالة السماويّة رسالةٌ كاملةٌ لا يجوز أن تكون منتقَصَةً؛ ذلك لأنَّها رسالةٌ إلى البشريّة جمعاء، مهما اختلفت الأمكنة والأزمنة، وبذلك لا يصحُّ أن يبلِّغها إنسانٌ غير سويٍّ أو يعاني من أيِّ مشاكل نفسيةٍ، ولو كان فعلًا النبي الكريم مصابًا بمرضٍ نفسيٍّ -كما يقول نولدكه- لما اكتملت الرسالة وفهمها جميع من يريد اعتناقها، وتكاثر أتباعها في جميع أصقاع الأرض مشارقها ومغاربها، ممَّا يؤكِّد صلاحيّة هذا الرسالة السماوية التي أنزلها الله عبر الوحي لكلِّ زمانٍ ومكانٍ.

(162)

الخاتمة

- طغى طابع الذاتيّة على مناقشات موضوع الوحي عند نولدكه، وتغيب الرّوح العلميّة والموضوعيّة في البحث بشكلٍ يظهر من أولى صفحات الكتاب، كما يقتصر على السرديّة التاريخيّة لسلسلةٍ كبيرةٍ من الأحداث والمواقف، وكأنّه يحاول انتزاع المصداقيّة عبر الإكثار من الأمثلة التاريخيّة.

- ضعفت الرّوح العلميّة والموضعيّة في البحث بالشكل الذي يجعله يصل إلى نتائجه دون الترابط المنطقيِّ والحقيقيِّ بين المقدمات والنتائج، ممَّا جعل البحث لا يمثِّل التحيّز للعلم والحقيقة، حيث اعتمد على أحكامٍ مسبقةٍ، فيقوم بإطلاق الحكم والتدليل على صحَّته، حيث تسبق النتائج عملية التَّوصُّل إليها.

- صحيح أنَّه لا يمكننا أن نطلب من نولدكه تصديق ما جاء في القرآن الكريم بوصفه كتابًا مقدسًا، ولا حتَّى تصديق أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلا أنَّنا نجد بأن نولدكه يعود إلى الإنجيل ليستشهد به، ويصرِّح بصدق ما جاء فيه، فكيف وقع نولدكه بهذا التناقض حيث يؤمن بوجود الأنبياء والرسل والوحي عبر سيرورة التاريخ البشري، وعندما يصل إلى مناقشة الوحي النبوي والرسالة السماوية التي نزلت على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يرفضها وينكرها بشكلٍ مطلقٍ، دون محاولته التأكد من صحتها بشكلٍ علميٍّ، إذ إنه من المفترض أن يبدأ بالتأكُّد من صحّتها على غرار الرسالات السماويّة السابقة التي يصدّقها وليس العكس.

- إنَّ ادّعاء نولدكه بأنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مصابٌ بالصَّرع وتعتريه اختلاجاتٌ لها آثارٌ نفسيّةٌ عليه هو ادعاءٌ لم يستند إلى أيِّ مستندٍ أو مرجعيّةٍ علميّةٍ، إنَّما كان عبارةً عن سلسلةٍ من التهكمات والادعاءات غير المترابطة بدليلٍ يثبت صحّة هذه المزاعم، ممَّا يجعل كلامه يندرج ضمن الكلام المبني على تخيلاتٍ وتصوراتٍ أيديولوجيةٍ مؤطرةٍ بأطر لا تمتُّ للواقع وروحه بشيء من الصحّة أو الدّقّة، حيث يظهر ذلك بعودة نولدكه إلى البحث في التاريخ وما قد قيل على لسان أعداء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله، حيث استشهد -من ضمن استشهاداته- على مرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من الادّعاءات البيزنطينيّة التي بدورها رفضت الدعوة النبويّة والوحي آنذاك، وقالت بأنَّه مصابٌ بالمرض النفسيّ والجنون، ممَّا

(163)

يجعل هذه العودة في عمق التاريخ عودةً غير موفّقةٍ لا سيما أنَّ الزمان الذي يفصل بين نولدكه وتلك الحقبة زمانٌ طويلٌ يُقاس بالقرون، وهي فترةٌ شهدت تطوّرًا كبيرًا في شتّى مجالات العلوم والبحث العلمي، في الوقت الذي يصرُّ فيه نولدكه على العودة إلى تلك الحقبة الزمنيّة ومن دون أيِّ مبرّر علميٍّ أو موضوعيٍّ، بل على العكس تمامًا حيث يعود مكتفيًا بترديد ما قد قيل في تلك القرون دون أي إضافةٍ أو تبريرٍ مقنعٍ.

- قدّم نولدكه مفهومًا خاصًّا بالنبوّة يجعل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عبارةً عن مصلحٍ اجتماعيٍّ جاء في زمانٍ ومكانٍ ليحدث فيه التغيير مثله بذلك مثل بوذا وكونفوشيوس، وغيرهم من المصلحين عبر التاريخ، «فالنبوة عنده ثوب فضفاض يتسع لكلِّ من يتقمصه ويرتديه، حتى لو كان مهرجًا»[1]، وبذلك قد وسَّع مفهوم النبوة خارج الوحي وترك الباب مفتوحًا لكل ما هبَّ ودبَّ.

 

 

 

 

 

 

 

(164)

لائحة المصادر والمراجع

1- ‏القرآن الكريم.

2- محمد ممدوح العربي، دولة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله  في المدينة، منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988م.

3- رضا محمد الدقيقي، الوحي إلى محمد بين الإنكار والتفسير النفسي، إصدارات وزارة الأوقاف والشؤون ‏الإسلامية، قطر، ط1، ‏‏2009م.

4- محمد رشيد زاهد، موقف المستشرقين من الوحي: دراسة تحليليّة، مجلة دراسات الجامعة الإسلاميّة العالميّة في ‏شيتاغونغ، ‏بنغلاديش، المجلد الثالث، ديسمبر، 2006م.

5- يحيى معابدة، الرعاية والإعداد الإلهي للنبي قبل البعثة ودورها في نجاح الدعوة الإسلامية، مجلة العلوم ‏الإسلامية، جامعة أغري إبراهيم ‏شيشان، تركيا، 2017م.

6- إنجيل متَّى.‏

7- صحيح البخاري.

8- صحيح المسلم.

9- تيودور نولدكه، تاريخ القرآن، ترجمة: جورج تامر، مؤسسة كونراد- أدناور، ط1، برلين، 2004م.

10- ‏حسن علي حسن مطر الهاشمي، قراءة نقدية في (تاريخ القرآن) للمستشرق ثيودور نولدكه، سلسلة منشورات ‏المركز الإسلامي ‏للدراسات الاستراتيجية العتبة العباسية المقدسة، دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2014م.

11- محمد محمد أبو شهبة، المدخل لدراسة القرآن الكريم، دار اللواء للنشر، الرياض، ط3، 1987م.

(165)

12- نذير حمدان، الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله  في كتابات المستشرقين، مطبوعات رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، د.ت.

13- ادوارد وبارجانبيريز، الصرع والحالات النفسية المرتبطة به، ترجمة غالية عادل صالح، مراجعة حنان ‏المزاحي، منشورات ‏الرابطة الدولية للطب النفسي للأطفال والمراهقين، جنيف، 2012م.

14- حامد أشرف همداني، مفهوم النبوة وضرورتها للبشرية بمنظور رسائل النور، منشورات مجلة جامعة بنجاب ‏لاهور، د.ت.

 

(166)

الوحي عند المستشرق تيودور نولدكه

قراءةٌ نقديّةٌ لآرائه في كتابه «تاريخ القرآن»

محمود علي سرائب[1]

المقدّمة

عند مراجعة الأبحاث والدّراسات التي كتبها المستشرقون حول ﻣﺼﺪر الوحي النبويّ واﻟﻘﺮآن اﻟﻜﺮﻳﻢ، نجد أنّ موقفهم متّفقٌ في الأغلب على مسألةٍ واحدةٍ، وهي: نفي أيّ علاقة بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والرسالة والسماء أي التعامل مع الوحي النبوي على أنّه ظاهرةٌ داخليّةٌ لا علاقة لها بما وراء الطبيعة، والقرآن ما هو إلّا نتاجٌ بشريٌّ وليس كتابًا سماويًّا.

وقد تفاوتت آراء المستشرقين حول الوحي وتفسيراتهم له، كما تفاوتت نظرتهم إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والرسالة، فمنهم من أنكر ظاهرة الوحي مطلقًا، ومنهم من أبقى على الظّاهرة وعلى نبوّة محمد ولكن بصورةٍ شكليّةٍ يعني قبل فكرة الوحي، ولكن أفرغها من محتواها الحقيقيّ، وجعلها وحيًا من قوّة تخيّل محمّد، وأرجع القرآن إلى دياناتٍ أخرى، وكان من بين هؤلاء المستشرق الألماني تيودور نولدكه. وهو من أبرز وأهم أقطاب الاستشراق الألماني الذي جعل مدينة سترانسبورغ في نهاية حياته مركزًا للاستشراق الأوروبي، وأصبحت حصيلة جهوده في مجال الدّراسة في النّصّ القرآني عمدةً ومنطلقًا للدراسات القرآنيّة في أوروبا، وأصبحت تنبني عليها أخطر النتائج في مجالات الدّراسات الإسلاميّة. ومن هذه الدّراسات التي قام بها هو كتابه «تاريخ القرآن»، والذي استندنا إليه بشكلٍ أساس في هذه المقالة. فــ «نولدكه» يفترض أنّ الوحي عبارةٌ عن أفكارٍ دينيّةٍ تتشبّع بها روح النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، فتسيطر عليه، فيخيّل إليه أنّها قوّةٌ إلهيّةٌ ليبلّغ بها من حوله على أنها آتيةٌ من الله ومن عالم الغيب.

(167)

ومن هنا اهتم محترفو التّشكيك المتمظهر بشكلٍ علميٍّ بالتنظير لظاهرة الوحي عند الأنبياء، وبالأخص عند نبي الإسلام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وركزوا بشكلٍ كبيرٍ في دراستهم لظاهرة الوحي على سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وحاولوا تفسير الظواهر التي كانت تحصل مع النبي بطريقةٍ تبدو -حسب ادّعائهم- أكثر معقوليّةً ومنطقيّةً مما تذهب إليه المعتقدات الدينيّة، وذلك من خلال الإيحاء بارتباط الظاهرة بالنّبيّ نفسه وإلغاء مصدرها الخارجي، فبذلوا جهودًا فكريّةً كبيرةً في بيان أسباب هذا الوحي عند النبيّ من كونه حديث نفسٍ أو رؤى إنسانٍ أصيب بالصّرع أو لقّنه إياه بحيرا الراهب.... إلخ. ويذهب بروكلمان إلى أنّ القرآن ناتجٌ عن أمرين: الأول، الأفكار التي كوّنها النبي. والثاني، ما استقاه من الديانتين اليهوديّة والنّصرانيّة. فيقول في هذا المجال: «لم يكن عالمه الفكريّ من إبداعه الخاص إلا جزءًا صغيرًا حيث انبثق في الدرجة الأولى عن اليهوديّة والنّصرانيّة»[1]. وغير ذلك من الآراء والنظريّات المختلفة في توجيه وتفسير ظاهرة الوحي النبوي.

أوّلًا: الوحي عند نولدكه

1. النبي وقدرة التخيّل

 يقول نولدكه مبيّنًا في نظره حقيقة الوحي: «جوهر النبي يقوم على تشبّع روحه من فكرةٍ دينيّةٍ ما تُسيطر عليه أخيرًا فيتراءى له أنّه مدفوعٌ بقوّةٍ إلهيّةٍ ليبلغ من حوله من الناس تلك الفكرة وأنّها آتية من الله»[2]. فالوحي مجرّد تخيّلٍ يُسيطر على عقل النّبيّ فيظنّه من الله تعالى مبنيّ على فرضيّة القوّة التخييليّة، لكن لا كما تصوّره فلاسفة المسلمين في نظرية الفيض في الإسلام، أي فيض ينزل من الأعلى إلى الأسفل، بل هو صعودٌ من الذات النبويّة إلى الأعلى في محاولة للاتصال بالغيب، ولكن طريق الصّعود ليس العقل (الرياضي)، وإنّما الخيال والقوّة المتخيليّة للنبي. وحسب تعبير محمد إقبال لاهوري عن النبوة «إنها ضربٌ من الوعي الصوفي»[3]، ولعلّ إقبال لاهوري لا يريد

(168)

أن يعبّر عن نظريّة نولدكه أو غيره، ولكن ما يميّز الرسل حسب ابن عربي وغيره من المتصوّفة ليس العلم أو المعرفة، وإنما هي ملكة الخيال، والتي هي وسيلة الاتصال مع الصور التي تفيض عن العقل الكلي.

ويرجع نولدكه تفعيل القوّة التخيليّة عند النبي من خلال رصده للظواهر التي كان يقوم بها قبل الدّعوى وبعدها، فكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله -حسب نولدكه- يعمد إلى تنشيط قدراته التخييليّة عبر ثلاث طرق وأساليب رئيسيّة:

الأولى: كان يختار فتراتٍ معيّنةٍ للعزلة والاعتكاف، حيث كان ينعزل في غار حراء على سبيل المثال، مدة شهر في العام ولسنوات عدّة.

الثانية: كان يختار فترات الليل للاعتكاف الروحي والتعبدي، ولا شك أنّ سكون الليل يساهم في تنشيط قدرة الإنسان على الخيال.

الثالثة: كان يلجأ إلى الصوم ويمتنع عن الأكل والشرب والجنس لفتراتٍ معيّنةٍ. وهي التجربة التي تساعد على تنشيط روح الخيال من باب التعويض عن «الحرمان» المادي والجسدي.

ويقول في هذا المجال: «هذا الوضع الجسدي والنفسي المضطرب إلى درجة المرض يفسر الأحلام والرؤى التي رفعته فوق مستوى العلاقات البشرية المعتادة. ولعل أشهر ما يذكر في هذا الصدد الإسراء أو المعراج، الذي كان مجرد حلم، ... ولا يجوز أن نغفل عن أنّ معظم الوحي حدث ليلًا كما يبدو، حين تكون النّفس أكثر قابليّةً لاستقبال التخيّلات والانطباعات النفسيّة عمّا هي عليه في وضح النهار. ونحن نعلم بالتأكيد أنّ محمّدًا كثيرًا ما قضى الليل متهجّدًا وأنّه كثيرًا ما صام. وتشتدُّ بالصيام القدرة على مشاهدة الرؤى كما اكتشفت الفيزيولوجيا الحديثة مؤخرًا»[1].

في هذا النص يرجح نولدكه أن تكون أكثر حالات الوحي النبويّ هي في حال الحلم والرؤيا كما سيأتي في أشكال الوحي عنده.

(169)

فهذه العوامل التي أشار إليها نولدكه من خلوته وطول تفكيره وتخيله وانطباع الصورة المخيلة في نفسه هي التي أثرت في أعصابه حتى اعترته حالة رأى فيها جبريل في أفق السماء، وهو في الحقيقة ليس في أفق السماء، بل في ذهنه ونفسه، هذا النحو من التصوّر الخيالي لحقيقة الوحي هو انكار لكون الوحي حقيقة إلهية تهبط على النبي بل تصويرها حالة تصدر من خياله.

وحاول البعض أن يؤكّد هذا الخيال الخصب عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، فقال: وأعظم دليل على سعة خياله وقوّته ما جاء في القرآن وفي الأحاديث النبويّة من وصف الجنّة وجهنّم، ولا حاجة إلى إيراده؛ لأنّه معلومٌ ومذكورٌ في الكتب. ولا ريب أنّ الجنّة التي وصفها محمد بأوصافها الباهرة المعلومة إنما هي من بنات خياله الواسع القوي؛ لأنّها بهذا الشكل المبهج العجيب غير مذكورةٍ في التوراة ولا في الإنجيل، فجنّة محمد جديرة بأن تكون المثل الأعلى للسعادة المخيّلة في الحياة»[1].

2- مناقشة نظرية قوة الخيال في الوحي النبوي

لعل الهدف الأساس من كلام نولدكه وغيره من المستشرقين وكثير من الحداثيين هو أنسنة ظاهرة الوحي، أي إثبات الأثر الإنساني في أصل الوحي، وإزالة الصبغة الإلهيّة والمصدريّة الربانيّة عنه، وإزالة صفة الإطلاق، وتجاوز الظروف الزمانيّة والمكانيّة؛ هو تأسيس المشروعيّة للهدف المحوريّ لمشروعهم، الذي يتمثّل في إثبات تاريخيّة الأديان وتأثّرها بالأحوال الحياتيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، فهذه الفكرة هي قطب الرّحى في المشروع الاستشراقي القديم والمعاصر.

أ- إنّ القرآن تضمّن معارفًا وعلومًا يستحيل أن يتحصّل عليها أي شخص بقوّة عقله أو حدّة ذكائه، ويستحيل أن تتكوّن نتيجة حالةٍ نفسيّةٍ يعيشها النّبيّ، فقد اشتمل القرآن على أخبار تفصيليّةٍ عن الأمم والجماعات والأنبياء والأحداث التاريخيّة السّابقة لزمانه بمدّةٍ زمنيّةٍ بعيدةٍ في أغوار التاريخ، ولم يعاصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سلم تلك الأحداث ولم يتعلّمها في حياته.

(170)

ومن تلك المعارف: بعض الأرقام الحسابيّة، وبعض الأعداد الدقيقة، كما جاء في قصّة نوح: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) [1]، وجاء في قصة أصحاب الكهف: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) [2]، وكذلك تضمّن القرآن أسماء تفصيليّة للرجال والأمم والقرى والقبائل، وحقائق علميّة، وتشريعات خالدة، ... وكلّ هذه الأمور لا يمكن الوصول إليها عن طريق قوّة الذكاء ولا سعة المخيّلة، ولا عن طريق التجربة الحياتيّة اليوميّة.

ب- من الأمور الواضحة في القرآن اختفاء شخصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه، ففي أكثر الأوقات لا يذكر شيئًا عن نفسه، ويتجرّد تمامًا من الإشارة إليها، فعلى سبيل المثال ورد اسم النبي موسى  عليه‌السلام في القرآن الكريم 136 مرة في 34 سورة من سور القرآن الكريم، بينما ورد اسم النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله 4 مرات في 4 سور من القرآن. فهل شخص يعاني من اضطراب نفسيٍّ ويطلق لمخيّلته العنان فلا بدّ أن تنعكس شخصيّته وانفعالاته في الآيات القرآنيّة كما تقدم من نولدكه، فلماذا لا نجد عشرات الأحداث المؤلمة كوفاة عمّه أبو طالب رضوان الله عليه، والسيدة خديجة عليها السلام، الذي أطلق عليه عام الحزن، وشهادة عمه الحمزة رضوان الله عليه، و... ومع ذلك كلّه لا نجد في القرآن أيّ صدى لهذه الأحداث الأليمة وهي من أشدّ ما يؤثّر في النّفوس البشريّة.

فلو كان القرآن يخضع لمزاجات وانفعالات وحالات النبيّ النفسيّة أو العقليّة، أو كان لحدّة ذكائه أو لطبيعة حياته اليوميّة أو لقوّة مخيّلته أثر فيما جاء به من الوحي؛ لظهر ذلك جليًّا في القرآن، خاصّة في مثل تلك الأحوال الاستثنائيّة، فعدم وجود مثل تلك الآثار دليل على أنّ مشاعر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونوازعه الباطنيّة ليست مصدرًا للوحي وليس لها أثر فيه، وإنما هو حقيقة نازلة عليه من الله تعالى.

ت- من المقطوع به تاريخيًّا وقد نقل لنا بطرقٍ متواترةٍ لا تقبل الشكّ على الاطلاق

(171)

هو أنّ النّبيّ بالإضافة إلى معجزته القرآنيّة هناك عشرات المعجزات الحسيّة لرسول الله، كانشقاق القمر، وتسبيح الحصى بيده، و... يستحيل أن تصدر عن قوّة التخيّل؛ لأنّه من المعلوم أنّ القوّة الخياليّة عالمها الذهن لا العالم الخارجي.

ث- في معتقداتنا الدينيّة نؤمن -وذلك عبر الأدلة والبراهين- أنّ مصدر الوحي هو الله تعالى حصرًا، فالوحي هو الطريقة التي يوصل الله تعالى رسائله السّماويّة إلى البشر بواسطة أنبيائه عليهم السلام، ومن هؤلاء الأنبياء النّبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله . لقوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [1].

ولذا الوحي هو: الكلمة الإلهيّة التي يلقيها إلى أنبيائه ورسله بواسطة ملك يشاهده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويسمع كلامه، كتبليغ جبرئيل لخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله أو سماع كلام اللّه من غير معاينة، كسماع موسى كلام اللّه، أو بالرؤيا في المنام كما أخبر اللّه عن قول إبراهيم لابنه إسماعيل في سورة الصافات: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [2] أو بأنواع أخرى من الوحي يعلمه اللّه وتدركه رسله صلوات اللّه عليهم[3].

ح- الوحي ظاهرة لا يمكن أن تحدث من باطن النبي وتخيّلاته، والتي لا يمكن أن تُخرج أو توحي حسب تعبيرهم هذا المستوى المعرفي والروحي الهائل الموجود في القرآن الكريم، ويكفي لإثبات صحّة هذا الادعاء مقارنة مضمون القرآن العلميّ والعقديّ والتشريعيّ والتاريخيّ وغير ذلك بالكتاب المقدس[4]. بل الوحي في الرؤية الإسلاميّة

(172)

عبارة عن انسلاخ الذات البشريّة للموحى إليه واتّصاله بالذات الروحانيّة والتي تخضع لتصوّر حوارٍ علويٍّ بين ذاتين: ذات متكلّمة آمرة معطية، وذات مخاطبة مأمورة متلقّية. أمّا ما ذهب إليه «وات» في قوله: إنّ كلمات الوحي كانت لها صلة بمحمد قبل أن يصير واعيًا بها، وإن للرسول شخصيتين: إحداهما واعية شاعرة، والأخرى لا واعية ولا شاعرة. أي إنّ لمحمد ازدواجَ الشعور واللاشعور، فإنّ السرد التّاريخيّ لنزول الوحي، وطريقة تلقي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله له، وإبطائه عليه، ومعاناته في تلقيه ما ينفي هذا الازدواج الموصوف به. بل إنّ العرب أنفسهم قد تملكتهم الحيرة في تفسير هذه الظاهرة، فأحيانًا يصفونه بأضغاث الأحلام، ومرة بقول شاعر مفتر، ومرة أخرى بالجنون والهلوسة والمرض. ولكنّ الثابت تاريخيًّا أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ اللحظة الأولى التي نزل عليه القرآن فيها كان واعيًا تمامًا بما يوحى به إليه. وكان يبلغ رسالة ربّه وتعليماته بصورةٍ دقيقةٍ، وكان يحرص على ألّا يضيع منه حرف مما ينزل عليه. وكان يجهد نفسه في حفظ ما يوحى به إليه حتى أمره اللّه بالتريّث. وكان يأتيه الوحي في كلّ زمانٍ وفي كلّ مكان، وهو في كامل وعيه ويقظته، فكان القرآن ينزل على قلب النّبيّ في الليل الدامس والنهار الأضحيان، وفي البرد القارس أو لظى الهجير، وفي استجمام الحضر أو في أثناء السفر، وفي هدأة السّوق أو وطيس الحرب، وحتى في الإسراء إلى المسجد الأقصى، والعروج إلى السماوات العلا. وفي أثناء ذلك كلّه كان وعي النّبي كاملًا، وكان نقله لما يوحى به إليه صحيحًا كاملًا متقنًا[1].

فالوحي حقيقةٌ خارجيّةٌ مستقلّةٌ عن كيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ‌وسلم النّفسيّ، ولكنّها لا تغّير ذلك الواقع النّفسيّ، بل تزيده جلاءً وفطنةً وذاكرةً، ويمثّل فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم دور المتلقّي الواعي من جهة، ودور المبلّغ الأمين من جهةٍ أخرى، لا يقدّم ولا يؤخّر؛ ولا يغيّر ولا يقترح؛ ولا يفتري ولا يتكاسل. ولقد كان ذلك بحق: «استقبالا من النبي لحقيقةٍ ذاتيّةٍ مستقلّةٍ؛ خارجة عن كيانه وشعوره الداخلي؛ وبعيدة عن كسبه أو سلوكه الفكري أو العملي. أما قول بعض المستشرقين بأنّه لم يكن إلّا نوعًا من الصّرع ينتابه بين الحين

(173)

والآخر، فليس من النظريات العلميّة الموضوعيّة في شيءٍ حتى نضعه تحت مجهر البحث والنّقاش، ونضيّع وقتًا قصيرًا أو طويلًا في الكلام عنه»[1].

ج- الوحي ظاهرةٌ روحيّةٌ، فالقرآن يبيّن أنّ الوحي بأيّ شكلٍ وبأيّ صورةٍ نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، فهو ينزل على قلبه صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ أي إنّ مهبط الوحي هو الشخصيّة الباطنيّة أي الروح للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله، قال تعالى: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) [2]، وقال :(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ  عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) [3]، ولا شكّ أنّ المقصود بالقلب هنا ليس العضو الصنوبريّ الموجود في الإنسان؛ لأنّ القلب هو «لبّ الشيء وحقيقته الأصليّة»[4].

فقوله: «نزل به الروح الأمين على قلبك» دون أن يقول: عليك، هو الإشارة إلى كيفيّة تلقيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم القرآن النازل عليه، وأنّ الذي كان يتلقّاه من الروح هو نفسه من غير مشاركة الحواس الظاهرة التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئيّة.

فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم يرى ويسمع حينما كان يوحى إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر والسمع، كما روي أنّه كان يأخذه شبه إغماء يسمى بُرَحَاء الوحي [شدّة الكرب من ثقل الوحي، وهي سبتة شبه النعاس كانت تعرضه من ثقل الوحي] .

فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم يرى الشخص ويسمع الصوت مثل ما نرى الشخص ونسمع الصوت غير أنّه ما كان يستخدم حاستي بصره وسمعه الماديتين في ذلك كما نستخدمهما»[5].

فالوحي القرآني ببساطة الكلام المنزل على الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الله تعالى بواسطة الملك جبرائيل عليه‌السلام أو بدون واسطة.

(174)

3. النبي وحالة الاضطراب النفسي

أنكر نولدكه نظرية إرجاع الوحي إلى مرض الصرع والهستيريا، نظرًا إلى أنّ بعض أعراض هذه الأمراض لا تنتطبق على الحالات التي كانت تصيب النبي أثناء نزول الوحي عليه، ولكن أرجع حالاته المختلفة التي نقلها أصحاب السير والأحاديث عند حدوث الوحي إلى الاضطراب النفسي الشديد أو التهيج النفسي. وسيأتي أنّ هذا النّفي للصرع يبدو أنّه نفيٌ ظاهريٌّ وغير واقعيٍّ.

قال عن تللك الحالات: «إذ يروى أنّ محمّدًا كثيرًا ما اعترته نوبة شديدة لدى تقبّله الوحي، حتى إنّ الزبد كان يطفو على فمه، وكان يخفض رأسه ويشحب وجهه أو يشتدّ احمراره، وكان يصرخ كالفصيل ويتفصد جبينه عرقًا حتى في أيام الشتاء»[1].

ثم قال: «حيث إنّ فقدان الذاكرة هو أحد عوارض داء الصرع الفعلي، فمن الضروري أن نصف ما كان يغشاه بحالة من الاضطراب النفسي الشديد. ويقال إنّ محمّدًا كان يعاني منها منذ حداثته»[2].

ولكن هذا المرض النّفسيّ والثوران الذي عند النبي -حسب إدعاء نولدكه- انعكس على القرآن الكريم، يقول فيه: «من الطبيعي أن تؤثّر قوّة السكرة النبويّة بشكلٍ فعّالٍ على أسلوب الكاتب. حين ضعف الثوران النّفسيّ الهائل مع مرور الزمن صارت أكثر هدوءًا. كانت في البداية تحركها طاقة شعريّة معيّنة، فأضحت لاحقًا، وبشكلٍ تدريجيٍّ، أقوال معلم ومشرّع لا غير...» [3].

يقول سبينوزا عن آيات الوحي بأنّها نظرًا إلى أنّ مقصودها لم يكن سوى إقناع الأنبياء: «فقد كانت هذه الآيات تتفاوت تبعًا لآراء الأنبياء وقدراتهم، بحيث لا يمكن للآية التي تعطي اليقين لهذا النبي أن تقنع آخر مشبعًا بآراء مختلفة. لذلك، اختلفت الآيات باختلاف الأنبياء وكذلك اختلف الوحي عند كل نبي طبقًا لمزاجه على النحو

(175)

التالي: إذا كان النبي ذا مزاجٍ مرحٍ توحى إليه الحوادث التي تعطي الناس الفرح مثل الانتصارات والسلام، وبالفعل نجد أنّ من لهم هذا المزاج قد اعتادوا أن يتخيّلوا أمورًا كهذه. وعلى العكس من ذلك، إذا كان النبي ذا مزاجٍ حزينٍ توحى إليه الشرور كالحرب والعذاب، وإذا كان النبيّ رحيمًا ألوفًا غضوبًا قاسيًا... كان قادرًا على تلقي هذا الوحي أو ذاك. كذلك فإنّ فوارق الخيال تكون على النحو الآتي: إذا كان النبي مرهفًا فإنّه يدرك فكر الله ويعبّر عنه بأسلوبٍ مرهفٍ أيضًا. وإذا كان مهوشًا أدركه مهوشًا. ومثل هذا يصدق على الوحي الذي يتمثل بالصورة المجازية: فإذا كان النبي من أهل الريف كانت صورة الوحي متضمنةً للأبقار والجاموس، وإذا كان جنديًا تكون صورة قواد وجيش، وأخيرًا إذا كان رجل بلاط، تمثل له عرش ملك وما شابه ذلك»[1].

ويفسّر الاختلاف في الآيات القرآنيّة عند هؤلاء إلى اختلاف القوّة المتخيّليّة عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقدرته على التقاط الإشارات الإلهيّة، فهو عند هؤلاء أشبه بصحنٍ لاقطٍ للذبذبات والإشارات، فيقرأها بقوّته التخيليّة المختلفة قوّةً وضعفًا ويعكسها على الآيات القرآنيّة. فلهذا السبب مدارج البيان تتفاوت تبعًا لتفاوت قوّة المخيّلة بين لحظة وأخرى، فقد انعكس ذلك التفاوت في الأخير على أسلوب القرآن نفسه، والذي يظلّ في كلّ أحواله أسلوبًا بشريًّا.

فالآيات لم تكن دائمًا على نفس المرتبة من القوّة والإتقان، وهذا ما يفسّر ظاهرة وجود آيات محكمات وآيات متشابهات.

ليست دائمًا على نفس المستوى من القيمة والأفضليّة، وهذا ما يفسّر ظاهرة الآيات الناسخة والمنسوخة.

ليست معصومة عن الخطأ، وذلك سواء بسبب الصراع النفسي الذي عانى منه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو جرّاء ظروف إملاء وكتابة المصاحف قبل ظهور قواعد جامعة للغة العربية.

فلو سألنا نولدكه هل هناك وحي؟ وهل محمد نبي؟ لأجاب بالإيجاب، ولكن تفسيره

(176)

للوحي مختلفٌ، فقد قال عن نبوّة النبي: لا بدّ لنا من الاعتراف بأنّ محمّدًا كان بالحقيقة نبيًّا، إذا محّصنا شخصيّته بتجرّدٍ وتمعّنٍ، وفهمنا النبوّة فهمًا صحيحًا»[1]. ولكن أي معنى للنبوة؟ الوحي هو ما قاله في نظريّة التّخيّل، فالوحي النبويّ هو مجرّد تخيّل لا أكثر ولا أقل، وإذا أضفنا ما سيأتي من كلامه حول الاضطراب النفسيّ للنبي، وأرجعنا بعض التشريعات والمعلومات الموجودة في الآيات إلى اليهوديّة والنصرانيّة، كما ادّعى نولدكه وغيره من المستشرقين تكتمل عندنا صورة الوحي النبويّ عند نولدكه.

فقوّة محمد التخيليّة جعتله يظنّ أنّ ما يحصل معه هو الوحي الذي كان ينزل على الأنبياء.

عزّز ذلك الاضطرابات النّفسيّة التي كان يعيشها محمد وذلك لأسبابٍ نفسيّةٍ، واجتماعيّةٍ، و... جعلته في حالة اضطرابٍ نفسيٍّ، وهذه الحالة المرضيّة كانت عنده منذ الصّغر.

وكلّ ما نراه في القرآن الكريم من تشريعاتٍ ومعتقداتٍ وغير ذلك استقاه محمد من الديانات الأخرى.

النتيجة: يعتقد «نولدكه» أنّ الوحي حالةٌ مرضيّةٌ نشأت عن الاضطراب النّفسي الذي كان يعاني منه النّبيّ، وفسّر أيضًا الوحي بأنّه نداء صوتٍ داخليٍّ لمحمد يظنّه أنّه وحيٌ. ونولدكه اعتمد منهجًا في معالجة ظاهرة الوحي بأن لجأ إلى الروايات الإسلاميّة في كيفيّة نزول الوحي على النّبيّ، فشكّك فيها ورفض بعضها، بل الحقيقة رفضها كلّها باستثناء فرضٍ واحد، وهو صلصلة الجرس الذي باعتقاده يعزّز له فرضيّة النّداء الباطني الذي ينشأ من المرض النفسي، وبعد ذلك طرح فكرته حول الوحي، وتوصل أنّ هذه الحالات التي كان يسميها النّبيّ بالوحي ما هي إلّا اضطرابات نفسيّة، أو أصداء وأصوات لروحه الباطنيّة. ولذا سننقل رأيه حول أنواع الوحي وكيفياته، وبعد ذلك نعلّق على كلامه، ثم نرد على تفسيره للوحي بالاضطراب النفسي، وإن كان بعض ما تقدّم في الرد على أنّ الوحي هو من القوّة

(177)

الخياليّة للرسول ينفع في الرد على الاضطراب النفسي، ولكن قبل ذلك لا بد أن نشير إلى نقطتين مهمتين في مجال فهم حالة النبي عندما يتنزّل عليه الوحي:

النقطة الأولى: السكينة  عند نزول الوحي

في الرؤية الإسلاميّة وفي روايات أهل البيت عليهم السلام، هناك سكينة خاصّة، كان يتمتّع بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تبثّ وتشعّ حالة من الاطئمنان تمنع هذا الاضطراب النّفسيّ المزعزم، بل تحوّل الشّخصيّة النبويّة في كلّ حالاتها وبالأخص عند تلقّي الوحي إلى شخصيّةٍ مطمئنّةٍ وهادئةٍ، فقد ورد عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عليه‌السلام كَيْفَ لَمْ يَخَفْ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فِيمَا يَأْتِيهِ مِنْ قِبَلِ اَللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَنْزِغُ بِهِ اَلشَّيْطَانُ قَالَ: فَقَالَ: إِنَّ اَللَّهَ إِذَا اِتَّخَذَ عَبْداً رَسُولاً أَنْزَلَ عَلَيْهِ اَلسَّكِينَةَ وَاَلْوَقَارَ، فَكَانَ [اَلَّذِي] يَأْتِيهِ مِنْ قِبَلِ اَللَّهِ مِثْلُ اَلَّذِي يَرَاهُ بِعَيْنِهِ[1].

فالله تعالى أنزل عليه السكينة والوقار -أي الطمأنينة والاتزان الفكري- فكان الذي يأتيه من قبل اللّه، مثل الذي يراه بعينه: أي يجعله في وضح الحقّ، لا غبار عليه أبدًا، فيرى الواقع ناصعًا جليًّا لا يشكّ ولا يضطرب في رأيه ولا في عقله[2]. وقد أوضح الإمام الصادق عليه‌السلام ذلك في حديث آخر، حينما سئل عليه‌السلام : كيف علمت الرسل أنّها رسل؟ فِي قَوْلِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّ اَللّٰهَ وَمَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[3] فَقَالَ قَالَ أَثْنُوا عَلَيْهِ وَسَلّمُوا لَهُ فَقُلْتُ كَيْفَ عَلِمَتِ اَلرُّسُلُ أَنَّهَا رُسُلٌ قَالَ كُشِفَ عَنْهَا اَلْغِطَاءُ قُلْتُ بِأَيِّ شَيْءٍ عَلِمَ اَلْمُؤْمِنُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ قَالَ بِالتَّسْلِيمِ لِلَّهِ وَاَلرِّضَا بِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ سُرُورٍ وَسَخَطٍ[4].

يقول العلّامة الطبرسي: «إنّ اللّه لا يوحي إلى رسوله إلّا بالبراهين النيرة والآيات البيّنة،

(178)

الدالّة على أنّ ما يوحى إليه إنّما هو من اللّه تعالى فلا يحتاج إلى شيء سواها، ولا يفزع ولا يفزّع ولا يفرق»[1].

يقول القاضي عياض: «لا يصحّ -أي في حكمته تعالى، وهو إشارة إلى قاعدة اللطف- أن يتصوّر له الشيطان في صورة الملك، ويلبس عليه الأمر، لا في أوّل الرسالة ولا بعدها. والاعتماد -أي اطمئنان النبيّ- في ذلك دليل المعجزة. بل لا يشكّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ ما يأتيه من اللّه هو الملك ورسوله الحقيقي إمّا بعلم ضروريّ يخلقه اللّه له، أو ببرهان جليّ يظهره اللّه لديه. لتتمّ كلمة ربّك صدقًا وعدلًا لا مبدّل لكلمات اللّه»[2].

ويقول العلامة الطباطبائي: «والحقّ أنّ وحي النبوّة والرسالة يلازم اليقين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بكونه من الله تعالى على ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام»[3].

النقطة الثانية: الوحي ظاهرة شعورية واعية

الاضطراب حالة لا واعية أصلًا، وقد يقوم المضطرب بأعمالٍ لا يعلم بها عند رجوعه إلى حالته الطبيعيّة، بينما الوحي (ظاهرة شعورية واعية)؛ لأنّ النّبيّ حسب الروايات المختلفة كان في حالة وعيٍ تامٍ لكلّ ما يحدث معه قبل الوحي، وأثناء الوحي، وبعده.

فالوحي الإلهي هو الفعل الذي يكشف به اللَّه للإنسان عن الحقائق التي تجاوز نطاق عقله. وإذا كان الوحي فعلًا متميّزًا، فهو صادر عن فاعل مريد، وهذا الفاعل المريد هو اللَّه تعالى، وليس الإلهام والكشف كذلك، وهذا ما يميّز الوحي عن المكاشفة، والوحي النفسيّ، والإلهام، إذ إنّ مردّ الإلهام يعود عادة إلى الميدان التجريبي لعلم النفس، ونزعة الوحي النفسي في انتداحها تعتمد على التفكير في الاستنباط، والمكاشفة تتأرجح بين الشّكّ واليقين. أما الوحي، فحالةٌ فريدةٌ لا تخضع إلى التجربة أو التفكير، ومتيقّنة لا مجال معها للشك. مضافًا إلى أنّ حالات الكشف والإلهام والإيحاء النفسي حالات لا شعورية ولا إراديّة، والوحي ظاهرةٌ شعوريّةٌ تتسم بالوعي والادراك التّامّين.

(179)

والوحي بالمعنى المشار إليه يختص بالأنبياء، وليس الإلهام أو الكشف كذلك، فهما عامان وشائعان بين الناس. ويتجلّى الفرق بين الإلهام والوحي بتعبير آخر، وبتصوّر مغاير، أنّ مصدر الإلهام باطنيٌّ، وأنّ مصدر الوحي خارجيٌّ، بل الإلهام من الكشف المعنويّ، والوحي من الواقع الشهوديّ؛ لأنّ الوحي إنّما يتحصّل بشهود الملك وسماع كلامه، أما الإلهام فيشرق على الإنسان من غير واسطة ملك، فالإلهام أعمّ من الوحي؛ لأنّ الوحي مشروطٌ بالتبليغ، ولا يشترط ذلك في الإلهام. والإلهام ليس سببًا يحصل به العلم لعامة الخلق، ويصلح للبرهان والإلزام، وإنما هو كشف باطنيّ، أو حدس، يحصل به العلم للإنسان في حقّ نفسه لا على وجه اليقين والقطع، كما هي الحالة في الوحي، بل على أساس الاحتمال الإقناعيّ[1].

ففي كلّ وحيٍ وعيٌ، وفي كلّ نبوّةٍ شعورٌ بمعناها وإدراكٌ لمغزاها، وإنما يُرمى «باللاوعي» من فقد الوعي، ويوصم «باللاشعور» من حرم الشّعور! وطبيعة الحقائق الدينيّة والأخبار الغيبيّة في ظاهرة الوحي تأبى الخضوع لهذه الأساليب «اللاشعوريّة» التي تستشفّ حجاب المجهول بالفراسة الذكيّة الخفيّة والحدس الباطني السريع. وعلى هذا النّمط رسم النبي الكريم فيما صحّ من حديثه طريقة نزول الوحي على قلبه، فقال: «أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانًا يتمثّل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول[2].

ثالثًا: رأي نولدكه في أشكال الوحي التي كان يلتقاها النبي

يسجّل نولدكه في البداية ملاحظةً صحيحةً، وهي أنّ الوحي الذي يتلقّاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينحصر بالوحي القرآني، فالوحي عندنا كمسلمين لا يعني القرآن فقط، بل السنة النبوية أيضًا هي وحي من الله تعالى.

يقول: «نودّ أن نلاحظ أنّ المسلمين لا يصفون بكلمة وحي القرآن وحسب، بل أيضًا إلى كلّ إلهام تلقّاه النبي»[3].

(180)

وقد ذكر نولدكه أنواع الوحي كما ورد في كتاب «الإتقان في علوم القرآن»، وهي:

. الوحي مثل صليل الجرس.

. بواسطة ما ينفثه روح القدس في روع محمّد.

. بواسطة جبريل على هيئة رجل.

. أن يكلّمه الله في اليقظة، أو النوم.

وفي كتاب «المواهب اللدنيّة» ذكرت هذه المراتب على الشكل الآتي:

. الحلم.

. وحي جبريل في روع النبي.

. جبريل في صورة دحية بن خليفة الكلبي.

. في صلاصل، إلخ.

. جبريل في صورته الحقيقيّة التي ظهر فيها مرتين فقط.

. الوحي في السماء كما في ترتيب الصلوات الخمس.

. الله نفسه، ولكن من وراء حجاب.

. الله مباشرة كاشفًا، عن ذاته من دون حجاب.

. وقد أضاف آخرون:

. جبريل في هيئة إنسان آخر (مثل عائشة)، أو في هيئة فحل جمل عقور.

. الله ذاته مظهرًا نفسه لمحمد في الحلم»[1].

وبعد أن عرض «نولدكه» أنواع الوحي التي ذكرت في كتب العلماء، رفض معظم

(181)

أنواع الوحي، فقال: نرى بسهولة أن الكثير من هذه الكيفيّات نشأ عن مرويات وآيات قرآنيّة، أسيئ فهمها، وقد نتج هذا من أنّ المسلمين قد اختلفوا منذ القدم فيما إذا كان محمد شاهد الله وتلقّى منه الوحي مباشرة أو لا[1]. ويعتبر أنّ الرؤية المباشرة لله تعالى سببها تفسير خاطئ لبعض المواضع من سورة التكوير (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [2]، وحاول بعضهم التخفيف من فظاظة هذا الرأي فاستنتجوا من قوله تعالى: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ) [3] أن النبي رأى الله بقلبه[4].

رفض نولدكه أغلب الكيفيات السابقة لأشكال الوحي، واعتبر أنّه «وصلتنا معلومات كثيرة عن الكيفيّة الرابعة [يقصد في صلاصل ألخ وهي ما يسمى بُرَحَاء الوحي شدّة الكرب من ثقل الوحي، وهي سبتة شبه النعاس كانت تعرضه من ثقل الوحي]. ويقول بأن (فايل) يرجع هذه الظواهر إلى مرض الصّرع، ولكن نولدكه كما تقدم يعتبره نوعًا من الاضطراب النفسي وليس صرعًا[5].

1- مناقشة نولدكه في كيفيات الوحي:

إنّ هدف نولدكه غير المعلن لرفضه كيفيّات الوحي واستبعاده للروايات التي نقلت في الكتب الحديثيّة وتشكيكه في فهم بعض الآيات القرآنيّة التي تدل على بعض كيفيّات الوحي، هو استبعاد كلّ مصدرٍ خارجيٍّ وما ورائيٍّ للوحي ومحاولته لحصر الوحي بالمصدر الداخلي أو الحالة المرضيّة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

أ- المهم في هذا البحث ليس إثبات كلّ أنواع وكيفيّات الوحي، بل المهم هو الاستدلال وإثبات بعض الكيفيّات الدّالة على أنّ الوحي أمرٌ خارجيٌّ يتّصل به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمّا المهم في بحث نولدكه هو نفي أيّ كيفيّة تثبت أنّ الوحي أمرٌ خارجيٌّ، وتؤيّد كلّ ما يثبت أنّ الوحي ظاهرةٌ داخليّةٌ.

(182)

ب- إنّ أنواع وكيفيّات الوحي ليست من الأمور التي أحدثت بعد رسول الله، واتّفق عليها العلماء فيما بعد، بل هي من الأمور الثّابتة في القرآن الكريم والروايات المرويّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل البيت عليهم‌السلام ، ولا أقل بعض هذه الكيفيّات متّفق عليها بين المسلمين ولا ينحصر الأمر بما ذكره «نولدكه».

قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [1].

حسب الآية يتحقّق الوحي النبوي على أنحاء ثلاثة:

النحو الأوّل: الإلقاء في قلب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ومن دون واسطةٍ، وفي الرواية سُئِلَ الصَّادِقُ عليه‌السلام عَنِ اَلْغَشْيَةِ اَلَّتِي كَانَتْ تَأْخُذُ اَلنَّبِيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أَكَانَتْ تَكُونُ عِنْدَ هُبُوطِ جَبْرَئِيلَ عليه‌السلام فَقَالَ لاَ إِنَّ جَبْرَئِيلَ كَانَ إِذَا أَتَى اَلنَّبِيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ قَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ قِعْدَةَ اَلْعَبْدِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ عِنْدَ مُخَاطَبَةِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِيَّاهُ بِغَيْرِ تَرْجُمَانٍ وَوَاسِطَةٍ[2].

النحو الثاني: تكليم النّبيين من وراء حجاب، ومنه قوله تعالى: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا) [3]، وقوله تعالى: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [4].

النحو الثالث: إرسال مَلَك ليكون واسطة في إيصال الوحي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ومنه قوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ) [5]، وقوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ‎‏ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) [6].

(183)

ت- كان الأولى من الناحية العلميّة لنولدكه أن يقول إنّ معظم حالات الوحي النبويّ كانت يرافقها بعض الأمور الخاصّة، مثل صلصلة الجرس وما شابه ذلك، والتي هي حسب تفسير روايات أهل البيت عليهم السلام عند الوحي المباشر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأمّا أن ينفي كلّ كيفيات الوحي الأخرى لمجرّد التّشكيك بالروايات أو فهم بعض الآيات من دون ذكر أدلّةٍ واضحةٍ على ذلك النّفي، وأنْ يُثبت فقط ما ينسجم ما فرضيّته المسبقة عن الوحي، فهذا لا يتوافق مع المنهجيّة العلميّة للبحث.

ث- نوافق نولدكه أنّ هناك خلافًا بين المسلمين في قضيّة الرؤية المباشرة لله تعالى بالعين الباصرة، وما نعتقده نحن الإماميّة استحالة الرؤية المدّعاة، ولكن ما لا نوافق عليه في كلامه حول هذا الموضوع هو نفي الوحي المباشر لرسول الله لوجود هذا الخلاف أو الاختلاف في فهم بعض الآيات القرآنيّة بين الرؤية البصريّة والرؤية القلبيّة والفؤاديّة؛ لأنّه لم يدّعِ أحدٌ أنّ رؤية الله المباشرة كانت من طرق نزول الوحي والقرآن على رسول الله، بل فسّرت هذه الحالة بأنّها إلقاء في روع رسول الله وقلبه من دون وجود واسطةٍ ولا ترجمان -كما في رواية الإمام الصادق المتقدّمة- إنما بشكلٍ مباشرٍ وهذا هو المقصود بالوحي المباشر، لا أنّ رؤية الله مباشرة هي من طرق الوحي ونزول القرآن الكريم.

ح- لو سلّمنا جدلًا أنّ الرؤية المباشرة لله تعالى من طرق الوحي، وأنّها مسألةٌ غير ثابتةٍ أو يمكن التّشكيك فيها، كما قال نولدكه، فلماذا عمّم هذه النتيجة على باقي الحالات والكيفيات الأخرى للوحي؛ لأنّه من الواضح أنّه لا ملازمة بين الأمرين، فنفي كيفيّة لا يعني نفي الكيفيات الأخرى.

خ- ما هو المعيار العلميّ والذي على أساسه يثبت أو ينفي نولدكه بعض كيفيات الوحي، فإذا كان قد أثبت وجود هذه الكيفيّات بالقرآن والسنّة، فلا بد أن ينفيها بالطريقة نفسها، أي من خلال القرآن والسنة، ولكن ما رأيناه في كلامه هو خلاف ذلك، وهذا يؤدّي إلى عدم وحدة المعيار في النّفي والإثبات، وإذا كان يريد نفي هذه الكيفيات بالدليل العقلي، فإنّ العقل لا يثبت ولا ينفي كيفيّة خاصّة للوحي.

ج- ادّعى نولدكه بعض الكيفيات للوحي، وهي ليست من طرق الوحي، ومنها:

(184)

تشكّل الوحي بصورة عائشة: تشكّل الوحي على صورة عائشة كما كان يتشكّل على صورة دحية الكلبي، والمصدران اللذان أحال إليهما نولدكه هما: الطبري، وسنن الترمذي. والموجود في المصدرين هو على الشكل الآتي:

في رواية الطبري: عن عبد الرحمن بن محمد أنّ عبد الله بن صفوان وآخر معه أتيا عائشة فقالت عائشة: يا فلان أسمعت حديث حفصة قال لها نعم يا أم المؤمنين قال لها عبد الله بن صفوان وما ذاك قالت خلال في تسع لم تكن في أحد من النساء إلا ما آتي الله مريم بنت عمران والله ما أقول هذا فخرًا على أحد من صواحبي قال لها وما هو قالت نزل الملك بصورتي...»[1].

وفي رواية الترمذي: عن عائشة «أن جبرئيل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة»[2].

وفي مناقشة الرواية يمكن القول: واضح من رواية الطبري والترمذي -بغض النظر عن المناقشة في صحة هذه الروايات سندًا ومتنًا- أنّه لا يوجد فيها أيّ إشارةٍ إلى أنّ جبرائيل تشكّل بصورة عائشة، كما هي الحال في تشكّله بصورة دحية الكلبي.

أيضًا: لم يضع أحد من العلماء الذين نقلوا هذه الروايات في سياق كيفيّة نزول الوحي، بل في باب فضل عائشة كما فعل الترمذي، وفي سياق حديث عائشة عن فضل الله تعالى عليها كما فعل الطبري، ولكن نولدكه أوردها في سياق كيفيات الوحي.

تشكّل الوحي بصورة جمل عقور أو بعير يعض: والرواية التي أشار إليها نولدكه لا علاقة لها بكيفيّات الوحي، وقد رواها ابن هشام في سيرته على الشكل الآتي:

لجأ رجل إلى النبي وهو في مكة ليرد له حقه المالي الذي اغتصبه منه أبو جهل فذهب النبي معه وطلب للرجل حقه من أبي جهل فاستجاب أبو جهل سريعًا فسأله أصحابه عن سر هذه الاستجابة السريعة فقال: «ويحكم! والله ما هو إلا أن ضرب على بابى،

(185)

وسمعت صوته، فملئت رعبًا، ثم خرجت إليه، وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل، ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلني»[1].

وقد رفض نولدكه أيضًا الكيفيّة السادسة، أي الوحي في السماء، وعلّل رفضه بأنّ هذه الكيفيّة مرتبطةٌ بحادثة المعراج، وهو يرفض حادثة المعراج. فقال: «وقد انبثقت الكيفيّة السادسة من رواي المعراج»[2].

2- الردّ على تفسيره للوحي أنّه مرضٌ نفسيٌّ

من الملفت للنظر أنّ نولدكه ادّعى أنّ الوحي كان بسبب حالةٍ مرضيّةٍ عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أسماها اضطراباتٍ نفسيّة، من دون ذكر أيّ دليلٍ مقنعٍ على ذلك، إنّما قام بتحليل الحالات التي كانت تعتري النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند نزول الوحي، ولمّا رأى أنّ تفسير ذلك بالصّرع والهوس أمرٌ غير صحيحٍ باعتبار اختلاف الأعراض بين الحالتين، ادّعى المرض النفسي، أو الاضطراب النفسي، وهذا الادّعاء عادة فضفاض يمكن تلبيسه أيّ لباس، ومنه الصّرع الذي نشكّ أن نولدكه نفاه بشكلٍ حقيقيٍّ، وعند ذلك يمكن القول إنّ الأعراض التي كانت تصيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هي بسبب المرض النّفسيّ والذي لا أعراض محدّدة له، بخلاف الصّرع والهستيريا وما شابه ذلك، ولكي يؤكّد نولدكه صحّة كلامه ادّعى دعوى أخرى، وهي أنّ هذه الاضطرابات النّفسيّة كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مصابًا بها منذ حداثته.

وقبل الإجابة عن الاضطراب النفسي الذي فسّر به نولدكه ظاهرة الوحي النبوي، نسأل هل فعلًا نولدكه يرفض تفسير الوحي بالصّرع؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من الالتفات إلى الأمور الآتية:

الأمر الأوّل: يبدو أنّه لا فرق بين التهيج النّفسيّ وبين حالات الصرع أو الهلوسات.

الأمر الثاني: نولدكه الذي شكّك في تفسير الوحي بالصّرع هو نفسه بعد صفحات عدّة، قال: «ربما دفع إلى هذا الاعتقاد ما يدّعيه بعضهم أنّ محمّدًا تلقّى كل آيات القرآن

(186)

أثناء نوبات الصرع التي كانت تعتريه، والتي لم تدم طويلًا»[1].

الأمر الثالث: قد وصف نولدكه الوحي النّبويّ بمصطلحاتٍ كثيرةٍ تبيّن موقفه الحقيقيّ من وصف النبي بهذا المرض، فهو يستخدم بدلًا من الصرع المصطلحات الآتية:

1- استثارة نفسيّة للنبي.

2- قلق نفسي.

3- هياج نفسي.

4- أقصى درجات حالة الجذب.

5- أبسط حالات إنعدام الفكر المجهدة.

وكما اضطرب في فهمه للوحي، اضطرب في تفسير رؤية النبي لجبريل، فيتردّد بين كونها من قبيل الهلاوس، أو الإيمان بالأشباح، أو الصور الضبابيّة، ثم يعترف أخيرًا أنّها لها نفس القدر من الواقعيّة التي لظهور الملك في الكتاب المقدّس.

لذلك كلّه فإنّنا لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إنّ نولدكه يرجع وحي النبي إلى كلّ هذه الأمراض النفسية: الصرع، التهيج، والاكتئاب، والقلق النفسي، والهلاوس...»[2].

وفي مقام الرّدّ على هذه الشبهة لن نفرّق بين الاضطراب النفسي والصرع؛ لأنّ ما ذكره نولدكه يبدو أنّه أوسع من ظاهرة الصرع ويشمل أمراض كثيرة لعلّه جمعها بعبارة «الاضطراب النفسي الشديد».

والفكرة الرئيسة التي يريد نولدكه أن يوصلها هي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعاني من مرضٍ نفسيٍّ بغضّ النّظر عن تسميات هذا المرض أثّر على قواه العقليّة والروحيّة، ونتج عنه ادّعاء فكرة الوحي، وأنّ السماء تخاطبه، وأنّ الملك يوحي إليه، فكلّ هذه الحالات هي

(187)

نتاج المرض لا أكثر ولا أقل، وظاهرة الوحي هي مجرّد توهّمات لا حقيقة وراءها، بل هي محض سراب.

رابعًا: الشبهة مكررة

إن اتهام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصّرع والهوس والاضطراب النّفسيّ الشّديد وغيره، هو اتّهام له بنوعٍ من الجنون -والعياذ بالله- وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ قريشًا اتّهمت النبي بالجنون والسحر والشعوذة، وهؤلاء كرّروا طريقة أسلافهم من أعداء النبي من مشركي قريش، كما قال تعالى: (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ) [1]. وقال تعالى: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [2]، فرد الله عليهم بقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ  وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ‏ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)[3]. (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ)[4]. (فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ) [5].

1- إجماع المؤرخين على كمال عقله

أجمع المؤرخون على أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة وبعدها كان يتمتّع بكامل قواه العقليّة، والجسديّة.

وقد عاش النّبي عشرات السنين في قومه، فلم يظهر عليه مثل هذه الأمراض من صرع، وهوس، وجنون، مما ذكره نولدكه وغيره من المستشرقين، ولو كانت هناك أمراض بهذه الخطورة عند رسول الله سواء قبل البعثة أم بعدها لدوّنها التّاريخ كما دون الأشياء الأخرى في حياته. وإنّ التّاريخ أمامنا، وهو لم يترك شاردة أو واردة في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا وقد ذكرها، ولا سيما ما يتعلّق بالأحكام الواجبة والمستحبّة

(188)

والكثير من الأمور في حياته الخاصّة والعائليّة وسيرته في السلم والحرب. ويمكن القول إنّ السيرة النبويّة دوّنت كل ما يمكن تدوينه من أقوال وأفعال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد دعى القرآن الناس للتفكر والتدبر والتأمل في سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمعرفة أنّ هذا النبي هو نذير من عند الله تعالى، ولا يوجد فيه أيّ علامات لمرض خطيرٍ، كالجنون، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) [1].

 والمراد بصاحبكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه، والوجه في التعبير به تذكرتهم بصحبته الممتدّة أربعين سنة، من حين ولادته إلى حين بعثته؛ ليتذكروا أنّهم لم يعهدوا منه اختلالًا في فكرٍ أو خفّةٍ في رأي أو أيّ شيءٍ يوهم أنّ به جنونًا[2].

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ كمال العقل وفطنته من أبرز صفات الرّسل الذاتيّة التي منحهم الله تعالى إيّاها، وهي من لوازم الرسالة الإلهيّة، والاصطفاء الرباني، فقد قال تعالى: ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [3]، وواضح من هذه الآية الكريمة التي تبيّن سبيل الدّعوة أنّها تعتمد على رجاحة العقل وفطنته.

فلا بدّ أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أكمل الناس عقلًا وفطنةً، حتى يقيم الحجّة على قومه على خير وجه، بحيث تكون ملزمةً للخصم كلّ الإلزام، فإن آمن، وإلّا جادله فاستعمل معه أسلوب المعارضة والمناقضة الذي يقتضي الحكمة والذكاء[4].

والمتأمّل في سيرة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يجدها خير دليل على ما كان يتمتّع به من كمال في عقله، وقوّة في بدنه، فقد كانوا قبل البعثة يسمّونه الصادق الأمين، وقد كانوا يتحاكمون إليه فيما يختلفون فيه، وهذا دليلٌ على رجحان عقله، وقد ذكر المؤرخون قصّة بناء الكعبة،

(189)

والقصّة حسب ما ينقلها الذهبي : ...فلما بلغ البنيان موضع الركن. يعني الحجر الأسود اختصموا فيمن يضعه، وحرصت كلّ قبيلةٍ على ذلك حتى تحاربوا ومكثوا أربع ليال. ثمّ إنّهم اجتمعوا في المسجد وتناصفوا، فزعموا أنّ أبا أميّة بن المغيرة -وكان أسن قريش- قال: اجعلوا بينكم فيما تختلفون أوّل من يدخل من باب المسجد، ففعلوا، فكان أوّل من دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا به، فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر، فقال: هاتوا لي ثوبًا، فأتوا به، فأخذ الركن بيده فوضعه في الثوب، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم بيده وبني عليه[1].

“هذا ومن تأمّل حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحوش الشاردة في طباعهم المتنافرة المتباعدة، وكيف ساسهم، واحتمل جفاءهم، وصبر على أذاهم، إلى أن انقادوا إليه، فالتفوا حوله، وقاتلوا دونه أهليهم، وآباءهم وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم، وأحباءهم من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب تعلم منها أخبار الماضين - تحقق أنه أعقل العالمين صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم»[2].

وبالإضافة إلى القوّة العقليّة وإلى ذلك العقل العظيم الذي كان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، فإنّه كان يتمتّع بقوّةٍ جسديّةٍ كبيرةٍ، وكان شجاعًا مقدامًا، سليم الجسم والقوة البدنيّة والشجاعة العظيمة، التي قال فيها الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام: «كُنَّا إِذَا اِحْمَرَّ اَلْبَأْسُ اِتَّقَيْنَاهُ بِرَسُولِ اَللَّهِ لَمْ يَكُنْ مِنَّا أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى اَلْعَدُوِّ مِنْهُ»[3].

فهذه المواقف وغيرها تدلّ على مدى قوّة عقله ورجاحته، وهذا ينفي مرضه البدني والعقلي، كما يدّعي بعض المشكّكين.

2- هل تنقاد أمّة لرجل مصروع مضطرب نفسيًّا؟

هل الذين آمنوا برسول الله منذ خمسة عشر قرنًا واتبعوا الدين الذي جاء به،

(190)

من قادة الفكر على امتداد العصور، كلهم ضعفاء العقول؟!!، ولم يميّزوا بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والصحة والمرض، والكمال والنقص؟!

كيف يمكن لمصروع متهوس مريض يصعب عليه قيادة نفسه أن يقود أمة بأكملها، بل ويستطيع أن يخرجها من الظلمات إلى النّور ومن الجهل إلى العلم، ويجعلها في قمّة الحضارة الإنسانيّة؟!!.

هل يمكن لرجل بهذه الصّفات المدعاة والأمراض النفسيّة والعصبيّة والعقليّة، أن يحوّل أمّةً صحراويّة النفوس، صخرية الطباع؟! إلى أمّةٍ رائدةٍ بين الأمم، وصاحبة علم، وحضارة عظيمة، فهل المريض المتهوس الذي لا يصلح لقيادة نفسه، يتسنّى له أن يقوم بهذه القيادة العالميّة الفائقة، ثم ينجح فيها هذا النجاح المعجز المدهش؟!!

هل يمكن لرجل مصابٍ بهذه الأمراض أن يمتلك هذه القدرة الفائقة الباهرة في كل محاججاته على عبدة الأوثان، وأدلته على اليهود والنّصارى، وإلزامهم الحجّة، وإفحامهم، وإلقامهم حجر الخذلان.

هل يمكن لرجلٍ بهذه الصفات المدعاة أن يكون في تمام اليقظة والحذر مع أعدائه، وأن يقدّم خططًا، وأساليب لأمن مكرهم ورد عدوانهم عن الإسلام والمسلمين، فقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله زيد بن ثابت أن يتعلّم كتابة اليهود ولغتهم؛ أخذًا بأسباب التّحفّظ من مكرهم وخديعتهم، ومن هنا قيل: من تعلّم لغة قوم أمِن مكرهم.

أرسل يوم بدر من يكشف له عن عدد العدو، كان يلبس أمور الحرب على أعدائه ويخفيها عنهم؛ كيلا يتفطّنوا لها ويستعّدوا للدفاع أو يزيدوا في الجمع.

هل يستطيع رجل مصروع أن يقود أمّة بإدارةٍ حكيمةٍ، ورأي سديد، وتخطيط ناجع فعال بهذا الشكل؟!!

هل يستطيع رجل متهوس أن يقيم دولةً بالمدينة المنوّرة وأن يدير شؤونها، ويعقد المعاهدات، ويرسل الرسائل إلى ملوك العالم وزعماء القبائل، والأمراء،  و...

(191)

وهناك عشرات الموارد الأخرى التي يمكن مراجعتها في مصادر التاريخ تدلّ على مدى حنكة وذكاء وحكمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله التي تدل ّكلّها على قوّة عقله وضعف عقول الآخرين، أيريد منا هؤلاء أن نعتقد أنّ مجنونًا مصروعًا، استطاع أن يبني دولة وينشئ نظامًا ويقيم دينًا، ويعيش منهجه في أجيال الناس منذ أن قام إلى اليوم دون أن يصاب بنكسةٍ أو خللٍ؟!

3- أعراض الصرع غير أعراض نزول الوحي

ورد في كتاب (الموسوعة العربية الميسرة)[1] أنّ مريض الصرع يمكن أن يرى شبحًا، ويسمع صوتًا أو يشم رائحة، ويعقب ذلك وقوع المريض صارخًا على الأرض، وفاقدًا وعيه، ثم تتملّكه رعدة تشنّجيّة تتصلّب فيها العضلات، وقد يتوقّف فيها التنفس مؤقتًا… ويعقب النوبة خور فى القوى، واستغراق فى النوم يصحو منه المريض خال الذهن من تذكر ما حدث له.

يصاب مريض الصرع بآلامٍ حادةٍ في كافة أعضاء جسمه يحس بها إذا ما انتهت نوبة الصرع، ويظلّ حزينًا كاسف البال بسببها، وكثيرا ما يحاول مرضى الصرع الانتحار من قسوة ما يعانون من آلام في النوبات، فلو كان ما يعتري النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند الوحي صرعًا لأسِف لذلك وحزن لوقوعه ولسعد بانقطاع هذه الحالة عنه، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك.

«لقد توصّل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم إلى اليقين القطعي بصدق الرؤية والسّمع عند حدوث ظاهرة الوحي طيلة ثلاثة وعشرين عامًا، وكان لذلك أمارات خارجيّة تبدو على وجهه وعينه وجبينه، من شجوب أو احتقان أو تصبّب عرق، وقد يرافق ذلك دويّ بجسمه أو أصداء أو أصوات كما تقول الروايات»[2].

ولكن هذه المظاهر لم تمتلك عليه وعيه الكامل، وإحساسه اليقظ؛ لأنها أمارات خارجيّة لا تغيّر من حقيقة شعوره على الإطلاق، فقسمات الوجه، وتعرق الجبين،

(192)

وشحوب المحيا لا تدل في حالةٍ اعتياديّةٍ على تغيّر في الوعي، أو انعدام للذاكرة، أو فقدان للشعور، وما هي إلا طوارئ عارضة لا تمس الجوهر بشيء.

هذا الرأي الذي ذهب إليه «نولدكه» وغيره من المستشرقين يشمل خطأ مزدوجًا حين يتّخذ من هذه الأغراض الخارجيّة مقياسًا يحكم به على الظاهرة القرآنيّة بمجموعها، ولكن من الضروري أن نأخذ في اعتبارنا قبل كلّ شيء الواقع النفسي المصاحب، الذي لا يمكن أن يفسر أيّ تعليلٍ مرضيٍّ ... فإذا نظرنا إلى حالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم وجدنا أن الوجه وحده هو الذي يحتقن؛ بينما يتمتّع الرجل بحالةٍ عادية، وبحريّة عقليّة ملحوظة من الوجهة النّفسيّة، بحيث يستخدم ذاكرته استخدامًا كاملًا خلال الأزمة نفسها، على حين يمحى وعي المتشنج وذاكرته خلال الأزمة، فالحالة -إذن- ليست حالة تشنج[1].

ولقد أجاب بعض الباحثين عن هذه الشبهة، فقال: «وتصوير ما كان يبدو على محمد في ساعات الوحي على هذا النحو خاطئ من الناحية العلميّة أفحش الخطأ، فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مرّ به أثناءها؛ ولا يذكر شيئا مما صنع أو حلّ به خلالها؛ ذلك لأنّ حركة الشعور والتفكير تتعطّل فيه تمام التعطل. وهذه أعراض الصرع، كما يثبتها العلم، ولم يكن ذلك ما يصيب النبي العربي أثناء الوحي، بل كانت تتنبّه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبها لا عهد للناس به، وكان يذكر بدقّة غاية الدقّة ما يتلقّاه وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه. هذا، ثم إنّ نزول الوحي لم يكن يقترن حتما بالغيبوبة الجسميّة مع تنبّه الإدراك الروحي غاية التنبه، بل كان كثيرا ما يحدث والنبيّ في تمام يقظته العادية»[2].

ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ العلم الحديث أثبت أنّ النّشاط الرّوحي والعقليّ للإنسان يختفي تمام الاختفاء أثناء نوبات الصرع، ويذر صاحبه في حالة آلية محضة يتحرّك مثل حركته قبل نوبته، أو يثور إذا اشتدّت به النوبة، فيصيب غيره بالأذى، وهو أثناء ذلك غائب عن صوابه، لا يدرك ما يصدر عنه ولا ما يحلّ به، شأنه شأن النائم الذي لا

(193)

يشعر بحركاته أثناء نومه؛ فإذا انقضى ما به لم يذكر منه شيئًا. وشتّان ما بين هذا وبين نشاط روحيّ قوي قاهر يصل صاحبه بالملأ الأعلى عن شعور تام وإدراك يقينيّ، ليبلغ من بعد ما أوحي إليه. فالصرع يعطّل الإدراك الإنساني وينزل بالإنسان إلى مرتبة آلية يفقد أثناءها الشعور والحس. أمّا الوحي فسموّ روحيّ اختصّ اللّه به أنبياءه ليلقي إليهم بحقائق الكون اليقينيّة العليا كي يبلغوها للناس. وقد يصل العلم إلى إدراك بعض الحقائق ومعرفة سننها وأسرارها بعد أجيال وقرون، وقد يظلّ بعضها لا يتناوله العلم حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها، وهي مع ذلك حقائق يقينيّة تهتدي قلوب المؤمنين الصادقين إلى حقيقتها، على حين تظلّ قلوب عليها أقفالها جاهلة إياها لغافلتها عنها[1].

وقد ردّ على هذه الشّبهة بعض المستشرقين، فقال المستشرق ماكس مايرهوف: «لقد أراد بعضهم أن يرى في محمد رجلًا مصابًا بمرٍض عصبيٍّ، ولكن تاريخ حياته من أوّله إلى آخره ليس فيه شيء يدلّ على هذا. كما أنّ ما جاء به فيما بعد من أمور التشريع والإدارة يناقض هذا القول»[2]. ويقول «بلاتونوف» في (تاريخ العالم): «وغاية ما نقدر أن نجزم به هو تبرئة محمد من الكذب والمرض»[3].

(194)

لائحة المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1.   ابن هشام الحميري: السيرة النبوية،ج1، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، بمصر، 1963م، لا.ط.

2.   أحمد بن حجر آل بوطامى البنعلي: الإسلام والرسول فى نظر منصفى الشرق والغرب، 1398هـ، ط3.

3.   أحمد بن محمد بن خالد البرقي: المحاسن، تحقيق: جلال الدين الحسيني المشتهر بالمحدث، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1370ه، ط1.

4.   أحمد جاد المولى: محمد المثل الكامل، دار المحبة، دمشق، ط1، 1991م.

5.   باروخ سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم: حسن حنفي، دار التنوير، بيروت، 2005، ط1.

6.   الترمذي: سنن الترمذي، ج5، تحقيق وتصحيح: عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر، بيروت، 1983م، ط2.

7.   تيودور نولدكه: تاريخ القرآن، ترجمة: جورج تامر، الناشر: مؤسسة كونرادأدناور، بيروت، 2004م، ط1.

8.   رضا محمد الدقيقي: كتاب تاريخ القرآن للمستشرق الألماني تيودور نولدكه ترجمة وقراءة نقدية: الوحي إلى محمد بين الإنكار والوحي النفسي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، الدوحة، 2009، ط1.

9.   ساسي، سالم الحاج، نقد الخطاب الاستشراقي، (الظاهرة الاستشراقیة وأثرها في الدراسات الإسلامیة)، ج1، دار المدار الإسلامي، بیروت، 2002م، ط1.  

10. صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن، منشورات الرضي، قم، ط5، 1372ه.ش.

11. الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن، ج20، م.س.

12. الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن، ج10، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1995، ط1.

13. عماد السيد الشربيني: رد شبهات حول عصمة النبي، دار الصحيفة، مصر، 2003م، ط1.

14. عمر بن ابراهيم رضوان: آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره، ج1، دار طيبة، الرياض، 1413هـ، ط1.

(195)

15. القاضي عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج2، دار الفكر، بيروت، 1988م، لا.ط.

16. كارل بركلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ج3، نقلها إلى العربيّة: نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، 1968م، ط5.

17. مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، 2000م، ط4.

18. المجلسي: بحار الأنوار.

19. محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، 2006م، ط3.

20. محمد بن بابويه الصدوق: كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1405هـ، لا.ط.

21. محمد بن جرير الطبري: تاريخ الطبري، ج2، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لا.ت، لا.ط.

22. محمد بن مسعود العياشي، تفسير العياشي، ج2، تحقيق وتصحيح وتعليق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي، الناشر: المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، لا.ت، لا.ط.

23. محمد حسين الصغير: المستشرقون والدراسات القرآنية، دار المؤرخ العربي، بيروت، لا.ت، ط1.

24. محمد حسين هيكل: حياة محمد صلى الله عليه وآله، لا.ط، لا.ت.

25. محمد سعيد رمضان البوطي: من روايع القرآن، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1434هـ، ط1.

26. محمد هادي معرفة: التمهيد في علوم القرآن، ج1، الناشر، حوزه علميه قم، مركز، قم، 1410هـ، ط3.

27. مرتضى العسكري: القرآن الكريم وروايات المدرستين، ج1، الناشر: كلية أصول الدين ، قم، 1374ه.ش، ط1.

28. معروف الرصافي، الشخصية المحمدية، منشورات الجمل، ألمانيا، 2002م، ط1.

29. الموسوعة العربية الميسرة، حرف الصاد، مادة صرع، الناشر: المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، 2009م، ط3.

(196)

نَقدٌ لِوُجهَةِ نَظَرِ تيودور نُولدکه حَولَ «ما لا يَتَضَمّنَه القُرآنُ مِمّا أوحي إلی مُحَمّد»

(نصوص الوحي التي لم تذكر في القرآن وتحدثت عنها الروايات)

د. أصغر طهماسبي بلداجي[1]

اَلمُلَخَص

اِستَعرَضَ المُستَشرِقُ الأَلمانِي تيودور نُولدكه العَديدَ مِنَ القَضايا المُتَعلقَةِ بِالقُرآنِ وَالنَّبي الكَريمِ صلى‌الله‌عليه‌وآله فِي كِتابِهِ تاريخ القُرآن. فِي مُعظَمِ الحالاتِ تَعامَلَ نولدكه مَعَ القَضايا القُرآنيّةِ بِتَشَكُّك. عِندَ دِراسَةِ مَوضوعِ الوَحي يَشُكُّ نولدكه فِي مَوضوعِ الوَحیانِیّةِ لِلقُرآنِ ونُزولِ الوَحي عَلَى النَّبي، وَیَذکُرُ شُکوکَاً حَولَ ذَلكَ. وَيُشيرُ فِي قِسمِ «ما لا يَتَضَمَّنه القُرآنُ مِمّا أوحي إلی مُحمّد» إلى الوَثائِقِ الرِّوائيّةِ وَالتّاريخيَةِ فِي أَربَعَةِ أَقسام، وَالَّتي بِمَوجِبِها حذفت بَعض الآياتِ القُرآنيّةِ مِنَ المُصحَفِ الكَريمِ. يَستَنِدُ رَأي نولدكه فِي هذا الصَّدَدِ إِلى أَنَّ بَعضَ آياتِ القُرآنِ قَد حُذِفَت مِنَ المُصحَفِ الأَصلي أَو دَخَلَت فِي الحَديثِ النَبوي. وَانطلاقًا من هذا الادّعاء يَتَهِمُّ الرَسولَ الكَريمَ بِالخَطَأ وَالقَلقِ وبِأَنَّه قَد أَخطَأَ فِي التَعرُّفِ عَلَى الوَحي. ويأتي هذا البحث لفَحَص وُجهَة نَظر نولدكه ونقدها، بالاعتماد على المَنهَجِ الوَصفي التَّحليلي. وقد توزّع على أَربَعَةِ مَحاوِرَ؛ أَوّلًا: مَوضوعُ تَحريفِ القُرآنِ مَرفوض بِحُجَجٍ مَرويّةٍ وَعَقلانيّةٍ، لأنَّ صِیانَةَ القُرآنِ مِن كُلِّ تَحريفٍ مُوثّقةٌ بِالقُرآنِ وَالأَدِّلَةِ القاطِعَةِ. ثانِيًا: بِالإضافَةِ إِلى القُرآنِ أُنزِلَ الوَحي لِلنَّبي وَالَّذي يُشارُ إِليهِ بِالوَحي البياني، وَإِنَّ نولدكه قَد ارتَبَكَ فِي تفسيرِ هذَينِ النَوعَينِ مِنَ الوَحي. ثالِثًا: العَديدُ مِنَ التَّقاريرِ السَّرديةِ وَالتّاريخيَّةِ الَّتي اِستَشَهَد بِها نولدکه هِيَ نَفسُ الأخبارِ في هَذَا الصَّدَدِ وَهِيَ ضَعيفةٌ مِن حَيثِ الوَثائِقِ وَالنُّصوصِ. رابِعًا: إنَّ عِصمَةَ الرَّسولِ الكَريمِ فِي نَقلِ الوَحي وَتَفسيرِهِ مِنَ الحَقائِقِ الَّتي يَتِمُّ تَوثيقُها وَإثباتُها بِالحُجَجِ العَقلانيَّةِ وَالسَّرديةِ.

(197)

المُقدّمة

يعتَبرُ مَوضوعُ الوَحي مِن أَهَمِّ المَواضيعِ الَّتي قَد نُقِلَت عَنها أَقوالٌ مُختَلَفةٌ حَولَ جودَتِهِ وَكيفيّتِهِ. عَلَى الرغمِ مِنَ الجَدَلِ وَالمُناقَشَةِ بَينَ المُفكِّرين الإِسلاميين، فَإنَّهُم جَميعًا مُتَفقونَ عَلَى نُزولِ الوَحي عَلَی الرَّسولِ الكَريمِ ووَحیانِیّةِ القُرآنِ الكَريمِ؛ إذ إنَّ كُلَّ أَلفاظِ القُرآنِ مِن عِند اللهِ، وَلَم يَتَدَخَل الرَّسولُ فیهِ بِأيِّ شَكلٍ مِنَ الأَشكالِ. بِالإِضافَةِ إِلى القُرآنِ الكَريمِ، فَقَد اِرتَبَطَ الرَّسولُ الكَريمُ بِالوَحي وَأنزِلَ عَلَيهِ فِي أَوقاتٍ مُختَلَفةٍ وَهوَ ما يُسَمّى بِالوَحي البَیاني أَو غَيرِ القُرآني. اِنتَقَدَ المُستَشرقُ الأَلماني نولدكه فِي كِتابِ تاريخِ القُرآنِ مَوضوعَ الوَحي مِن أَبعادٍ مُختلَفةٍ. وقد خصّص الجُزءَ الأَوَّلَ مِن كِتابِهِ لِمَوضوعِ الوَحي بِعُنوانِ "أَصلِ القُرآنِ"، وفيه محوران: اَلمحورُ الأَوَّلُ بِعنوانِ: «فِي نبوَةِ مُحمَّدَ وَالوَحي»[1]، والمِحورُ الثَّاني بِعنوانِ: «فِي أصلِ أجزاءِ القُرآنِ المُفردة»[2]، وفي هَذا المِحورِ يُثيرُ قَضيتينِ؛ هُما: بَحثُ «أجزاء قُرآنِنا الحالِي»[3] وبَحثُ «ما لا يَتَضَمَّنُه القُرآنُ مِمّا أوحی إلی مُحَمَّدَ»[4]، والواضِح مِن عُنوانِ المِحورِ الأَخير لِنولدکه فِي مَوضوعِ الوَحي أَنَّ بَعضَ الآياتِ الَّتي نزلت عَلى النَّبي لَم تَرِد فِي القُرآنِ. ويُشيرُ نولدکه إِلى تَقاريرَ عِدَّة، يَسعَى فيها إِلى إثباتِ شَيءٍ ما فِي كُلِّ قِسمٍ منها. بِالطَّبع، هُوَ يُؤمِنُ بِنَوعٍ آخَرَ مِنَ الوَحي ويَذكُرُ عنوان الأَحاديثِ القُدسیّةِ لِلوَحي غَيرِ القُرآني. لَكِن ما يُؤَكِّدُه نولدكه هو أَنَّه بِسَبَبِ خَطَأِ النَّبي وَتَشَكُّكِهِ حذفَ بَعض آياتِ القُرآنِ مِنَ المُصحَفِ وأطلقَ عليها الحَديثُ النَّبوي. ويَكتُبُ عَن هَذا: «لَعَلَّ النَّبي نَفسَه اِعتَراهُ الشَكُّ أحيانًا وهُوَ عَلی هَذِهِ الأرضيّة المُضطربَةِ. ولَم يَكُن اللّاحِقونَ الَّذين تَولّوا مُهمَّةَ جَمع تَركته أَقَلَّ مِنهُ عَرضةً لِلخَطَأ. لهذا السبب تَمَكَنَّت أقوالٌ عاديةٌ أن تَنالَ بِسُهولَةٍ صِفَةَ "الأحاديث القُدسيَّة"، وتَسَرَّبَت كَوَحي مِنَ الدَّرجةِ الأولَی إلی القُرآنِ. كَذلكَ تَمَكَّنَت بِالمُقابِلِ آياتٌ حَقيقيّة مِنَ القُرآنِ -لم تُضمّ لِسَبَبٍ ما إلی المُصحَفِ- أَن تَدخُلَ الحَديث»[5].

(198)

وعليه، تَبحَثُ هذهِ المَقالَةُ فِي وُجهَةِ نَظَرِ نولدكه حَولَ هَذِهِ القَضيّةِ من خلال مَحاوِرَ عدّة، وبَينَما تَنتَقِدُ وُجهَةُ نَظَر فِكرَة تَحريفِ القُرآنِ، فَإنَّها تَفصِلُ بَينَ الوَحي القُرآني وَالوَحي البياني.

أوّلًا: نَظريّةُ نولدكه حَولَ «ما لا يَتَضَمَّنُه القُرآنُ مِمّا أوحي إلی مُحمَّد»

فِي كِتابِ تاريخِ القُرآنِ يَتَحَدَّثُ نولدكه بِالتَّفصيلِ عَنِ الوَحي وکیفیّتِهِ. كُلُّ ما يَسعَى نولدکه لِإِثباتِهِ هُوَ القَلقُ فِي أَصلِ وَحیانیّةِ القُرآنِ ونُزولِ الوَحي على الرَّسولِ الكَريم، لِهذا السَّبب فَقَد تَساءَلَ عَن مَوضوعِ الوَحي فِي مَواقِفَ مُختلفةٍ. أَحدُ المَواضيعِ الَّتي یَتَناوَلُها نولدكه تَحتَ مَوضوعِ الوَحي، هو «ما لا يَتَضَمَّنَهُ القُرآنُ مِمّا أوحي إلی مُحَمَّد». يَكتُبُ نولدکه فِي بِدايَةِ هذهِ المُناقَشَةِ: «إنَّ السُوَرَ وَالآياتِ الَّتي تَعقبنا حَتّى الآنَ أصلُها مَأخوذَة كُلُّها مِنَ مُصحَفِ المسلمين. لَكِن الحَديثُ يَتَضمَّنُ كَثيرًا مِنَ الآياتِ الأُخرَی الّتي نزلَت عَلَی النَّبي»[1].

يَطرَحُ نولدکه وُجهَةَ نَظَرِهِ فِي مَجالاتٍ عِدَّة مُستَشهِدًا بِالأدلّة المستوحاة من المَصادِرِ السَّرديّة والتّاريخيّة، ويمكن إيرادها بحسب طرحه في النقاط التالية:

النقطة الأولى: يهمُّنا مِنها بِالدَّرَجَةِ الأولی، تلكَ الَّتي ما زالَ نَصُّها مَحفوظًا، والَّتي يَصِفُها الحَديثُ صَراحَةً بِأنَّها أجزاءٌ أصيلةٌ مِنَ القُرآنِ[2].

النقطة الثانية: نملِكُ بَعضَ المَعلوماتِ عَن مَقاطِعَ قُرآنيّةٍ ضاعَت مِن دونِ أن يَبقي لَها أيّ أثَرٍ[3].

النقطة الثالِثَة: نَذكُرُ أحاديثَ مُحَمَّد الَّتي تمثّل بِدَورِها وَحيًا إلهيًا، لَكنَّها لا تُعلنُ صَراحَةً أنّها أجزاءٌ مِنَ القُرآنِ[4].

النقطة الرابعة: لا بُدَّ أَن نَذكُرَ العَدَدَ الضَّخمَ مِنَ الرِّواياتِ الَّتي أطلَقَ فيها مُحَمَّدُ

(199)

فِي مُختَلَفِ المُناسباتِ تَحذيراتٍ أَو أَوامِرَ، أَو كَشفَ عَنِ الحاضراتِ أو المُقبَلاتِ بِواسِطَةِ وَحيٍ أتاهُ، ويَكفِي أَن نَسوّقَ مِن هَذِهِ المادَّةِ الضَّخمَةِ بَعضَ النَماذِج..[1].

اِستَنتَجَ نولدكه مُستَشهِدًا بِأَدِّلةٍ من المَصادِرِ السَّرديةِ والتَّاريخيَّة أَنَّ هُناكَ وَحيًا آخَرَ لِلنَّبي غَير القُرآنِ.

وبَعدَ الإشارَةِ إِلَى بَعضِ التَّقاريرِ التَّاريخيَةِ یَكتُبُ نولدكه: «يَتَمَتَّعُ هَذَا النَّوعُ مِنَ الوَحي بِقَدرٍ كَبيرٍ مِنَ الثِّقَةِ، كَما يَبدو. ويَكفي لِذِكرِ هذِهِ الأقوال عَدَم تَوفّر نُصوصٍ مُنَزّلةٍ. حَتّى لو اُعتبرَت تلكَ القِصصِ كلّها خُرافات، فَلا بُدَّ مِن أن نَتَمَسَّكَ بِأنَّ هَذهِ الأحداثَ والأقاويل تَرسُمُ عَلَی العُمومِ صُورَةً صَحيحةً عَنِ أمزِجَةِ محمّد أوضاعه النّفسيّة. ومِن صِفَةِ الأنبياءِ، كما يعلّمنا تاريخُ الأديان، أَن يكونوا علی اتّصال شبه دائِمٍ بِالألوهيّةِ ويَرضَخوا إلَی ما تُوحي بِهِ إِلَيهِم، لَيسَ فَقَط عنِدَ القِيامِ بِأعمالٍ عَظيمَةٍ ومُهمّةٍ، بَل أَيضًا فِي أَصغَرِ أمور الحَياة اليَوميَّة التي لا تُحصى. وبناءً عَلَی ذَلكَ، فإنَّ مُحَمدًا شَعَرَ في نَفسه أنّه خاضِعٌ لِتأثير إيحاءات أُخرَی كَثيرة غَير آياتِ القُرآنِ[2].

بَعد ذِكر هَذِهِ الأقوال، يَستَنتِجُ نولدکه ما يَلي: «لَعَلَّ النَّبيّ نَفسَه اعتَراهُ الشَّك أَحيانًا وهو علی هَذه الأَرضيّةِ المُضطَرِبَةِ. ولم يَكُن اللاحِقون الَّذينَ تَوَلّوا مُهِمَّةَ جَمع تَركته أَقَلَّ مِنهُ عَرضةً لِلخَطأِ. لِهذا السَبَبِ تَمَكَّنَت أقوالٌ عادِيَّةٌ أَن تَنالَ بِسُهولةٍ صِفَةَ «الأحاديثِ القُدسيَّةِ»، وحَتّی أن تَتَسَرَّبَ كَوحيٍ مِنَ الدَّرجَةِ الأولی إلی القُرآنِ. كَذَلِكَ تَمَكَّنَت بِالمُقابلِ آياتٌ حَقيقية مِنَ القُرآنِ، لَم تُضم لِسَبَب ما إلی المُصحَفِ أن تَدخُلَ الحَديثِ»[3].

ثانيًا: فَحصُ وُجهَةِ نَظَرِ نولدكه ونقدها

إنّ ما طرحه نولدكه في هذا الصَّدَدِ لا يصمد أمام النقد، ونعرض فيما يلي أربعة مَحاوِر لنقد وجهة نظره:

(200)
1- صِیانَةُ القُرآنِ مِنَ التَّحريفِ

أَحَدُ ادّعاءاتِ نولدكه فِي هَذَا الرَأي، هُوَ أَنَّ بَعضَ آياتِ القُرآنِ قَد حُذِفَت، وأنَّ القُرآنَ قَد تَمَّ تَحريفُهُ، ويَستَشهِدُ بِأَدِّلَةٍ، غير أنّها غَيرُ مَقبولَةٍ. إنَّ القُرآنَ الكَريمَ خالٍ مِن أَيِّ تَحريفٍ، وقَد تكَفَّلَ اللهُ حِفظَه، وهَذَا الأَمرُ متَّفقٌ عليه عند المُسلمين. وأيّ رِوايَةٍ فِي هَذا الصَدَدِ، هِيَ خَبر آحاد، وخَبَرُ الواحِدِ غَيرُ مَقبولٍ فِي مُواجَهَةِ نَصٍّ مُتَواتِر.

اَلقُرآنُ الحالِي هو القُرآنُ الَّذي أنزل على الرَّسولِ الكَريمِ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولم يَكُن فِيهِ نَقصٌ ولا زيادة. يَكتُبُ الشَّيخُ الصدوق عن صِیانَةِ القُرآنِ مِنَ التَّحریفِ قائلًا: «اِعتِقادُنا أنَّ القُرآنَ الَّذي أَنزَلَهُ اللهُ تَعالى عَلَى نَبيِّهِ مُحَمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ما بَينَ الدَفّتينِ، وهو ما فِي أَيدِي النّاسِ، لَيسَ بِأَكثَرِ مِن ذَلكَ، ومَبلَغُ سورِهِ عِندَ النّاسِ مائة وأَربَع عَشرة سورةً. وعِندَنا أَنَّ الضحى وأَلَم نَشرَح سورَةً واحِدَةً، ولِإيلافِ وأَلَم تَرَ كَيف سَورة واحِدَةً. ومن نسب إِلَينا أَنَّا نَقولُ إنَّه أَكثَرُ مِن ذَلكَ فَهُو كاذبٌ..»[1].

وبِالإِضافَة إِلى ذَلكَ، فإِنَّ الشيخ الصدوق يفسِّرُ الروايات الظاهرة في التحريف، ويبرّرها بأنّها تُشيرُ إلى الوَحي غَيرِ القُرآني، الّذي أُنزِلَ عَلَى النَّبي الكَريمِ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبالتالي، فإنّ القُرآنَ الكَريمَ طاهِرٌ ونَقيّ مِن أَيِّ تَحريفٍ؛ لِأَسبابٍ صَحيحَةٍ ومُوَجّهةٍ، مِثلَ:

أ- أَسبابٌ عَقلیّةٌ: قاعِدَةُ قُبحِ العِقاب بِلا بَیانٍ، وقاعِدَةُ اللّطف، وضَرورة اِتمامِ الحُجَّةِ، والعلاقَةُ غَیر المُنفَصَلَةِ بَينَ الإِعجازِ وعَدَمِ تَحريفِ القُرآنِ تعدّ مِنَ الأَسبابِ العَقلیَّةِ على عَدَمِ تَحريفِ القُرآنِ.

فوُجوبُ إِبلاغِ الوَصايا الإِلهيّةِ وإتمامُ الحُجَّةِ عَلَی النّاسِ مِن البَرامِج المُهمّةِ لِلأنبياءِ، الّتي أَكّدها القُرآنُ الكَريمُ، وعَلَى أَساسِ هَذهِ الحِكمَةِ أَرسَلَ اللهُ الأَنبياء لِلهِدایَةِ وإِبلاغِ الرسالات الإِلهيَّةِ إِلَى النّاسِ. ولِلكُتُبِ السَّماويَةِ أَيضًا مِثلَ هَذا الواجِبِ، أَي إنَّها تكملُ الحُجَّةُ عَلَى النّاسِ بِإِبلاغِ أَوامِرِ اللهِ ونَواهيهِ. ولَکِن إذَا اِعتَبَرَ أَحدٌ أَنَّ التَّحريفَ مُمكِنٌ

(201)

-وإن كانَ مَعناهُ القُصور فِي آياتِ القُرآنِ- وأعطى أَدِّلَةً على ذلكَ، فَقَد شوّه أَصالةَ القرآن وحجیته وشكّك فِي مَكانَتِه القِياديَّةِ. لِذلكَ مَعَ إِمكانِيَةِ التَّحريفِ لَن يَتِمَّ التَشكيكُ فَقَط فِي صِحَةِ القُرآنِ واكتِمالِ حُجَّةِ اللهِ عَلَى النّاسِ، بَل إنَّ استِمرارَ النبُوَةِ وتَحقيق مُهمّةِ الرَّسولِ صلى‌الله‌عليه‌وآله سَيتعثّر أَيضًا، ولِذلک ومِن أَجلِ استِكمالِ الحُجَّةِ عَلَی الشَعبِ، يَجِبُ من اللهِ أَن يُقَدِّمَ ويُرسِلَ نَبيًّا جَديدًا وكِتابًا حَدیثًا وكامِلاً وشامِلاً لِلشَّعبِ مِثلَ الأُممِ السّابِقةِ؛ فِي حينَ أَنَّ مِثلَ هَذَا الأَمرِ مُستَبعِدٌ قَطعًا بَعدَ مُهمّةِ النَّبي الكَريمِ صلى‌الله‌عليه‌وآله . وِفقًا لِهذا، فَمِن وُجهَةِ نَظَر العَقلِ البُرهاني، فَإنَّ إنتِهاءَ مُهمّة نَبيّ الإسلامِ صلى‌الله‌عليه‌وآله  تَرتَبِطُ اِرتِباطًا وَثيقًا بِاِستِحالةِ أَيِّ تَحريفٍ فِي القُرآنِ؛ مِن أَجلِ بقاءِ أَصلِ إتمامِ الحُجَّةِ عَلَی النّاسِ وتَوجيهِهِم[1].

ومِنَ الدَلائِلِ ذَواتِ الشَأنِ الدّاحِضَة لِشُبهَةِ التَّحريفِ، هي مسأَلَةُ «ضَرورَةِ كَونِ القُرآنِ مُتَواتِرًا» فِي مَجموعه وفِي أبعاضه، في سُوَرِهِ وآياتِهِ، حَتّى فِي جُمَلِهِ التَركيبيَّة وفي كَلِماتِهِ وحُروفِهِ، بَل وحَتَّى في قِراءَتِهِ وهِجائِهِ، على ما أسلَفنا فِي بَحثِ القِراءاتِ، حيث قُلنا: إنَّ الصَّحيحَ مِنَ القِراءاتِ هي القِراءَةُ المَشهورَةُ الَّتي عليها جُمهورُ المُسلمينَ، وقَد انطَبَقَت على قِراءَةِ عاصِم بِروايةِ حَفص.

وإِذا كانَ مِنَ الضَروريّ لِثُبوتِ قُرآنيَّةِ كُلِّ حَرفٍ وكَلمةٍ ولَفظٍ أَن يَثبُتَ تَواتُرهُ مُنذُ عَهدِ الرِّسالةِ فَإلى مَطاوِي القُرونِ وفِي جَميعِ الطَبَقاتِ، فَإنَّ هَذَا مِمّا يَرفُضُ احتِمالَ التَّحريفِ نهائيًا؛ لِأَنَّ ما قيلَ بِسُقوطِهِ وأَنَّه كانَ قُرآنًا يُتلى، إِنَّما نُقلَ إِلَينا بِخَبَر الواحِدِ، وهو غَيرُ حُجَّةٍ فِي هذا البابِ، حَتَّى ولو فُرض صِحَّة إسنادِهِ.

إِذًا، فَكُلُّ ما وَرَدَ بِهذَا الشَأنِ -بِما أَنَّهُ خَبرٌ واحِدٌ- مَرفوضٌ ومَردودٌ عَلَى قائِلِه.

وهَكَذا استَدَلَّ آيَة اللّهِ جَمال الدِّين أَبو مَنصورُ الحَسَن بنِ يوسُفَ ابنِ المُطَهّر -العلّامة الحلّي- (ت 726) فِي كِتابِهِ «نِهايَة الوُصولِ إِلى عِلمِ الاُصولِ» إذ قالَ رَحِمَهُ اللهُ: اِتَّفَقوا علَى أَنَّ ما نُقِلَ إِلَينا مُتَواترًا مِنَ القُرآنِ فَهُو حُجّةٌ -واستَدَلَّ بِأنَّه سَنَدُ النبوَّةِ ومُعجزتُها الخالِدَةُ فَما لَم يَبلُغ حَدَّ التَواتِرِ لَم يُمكِن حُصولُ القَطعِ بِالنُبُوّةِ- قالَ: وحينَئذٍ لا يُمكنُ التَوافِقُ عَلَى نَقلِ ما سَمِعوهُ مِنهُ -عَلَى فَرضِ الصِّحَةِ- بِغَيرِ تَواتُرٍ، والراوِي الواحِدُ

(202)

إن ذِكرَهُ عَلَى أَنَّه قُرآنٌ فَهُو خَطَأ، وإِن لَم يَذكُرهُ عَلَى أَنَّه قُرآنٌ كانَ مُتَردّدًا بَينَ أَن يَكونَ خَبَرًا عَنِ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآلِهِ وسَلَم أَو مَذهبا لَه (أَي لِلراوي)، فَلا يَكونُ حُجَّةً. وقَد قامَ إجماعُنا عَلَى وُجوبِ إِلقائِهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله عَلَى عَدَدِ التَواتُرِ، فَإنَّه المُعجزةُ الدّالَّةُ عَلَى صِدقِهِ، فَلَو لَم يَبلُغه إِلى حَدِّ التَّواتُرِ انقَطَعَت مُعجزَتُه فَلا يَبقَى هُناكَ حُجَّةً عَلَى نَبُوّتِهِ[1]. لذلك نقل القُرآنُ بِشَكلِ متَواتِرٍ إِلى المُسلمينَ، وتَمَّ نَقلُهُ عَلَى مَرِّ القُرونِ، فَمِنَ المُستَحيلِ أَن تَكونَ آَيَة أَو آيات قَد حُذِفَت أو أُضيفَت إِليه. ويدلّ هَذا بِوُضوحٍ أَنَّ تَواتُرَ القُرآنِ هُوَ مَبدَأ عَقلانِيّ قَويّ لا يُمكِنُ لِأَيِّ خَبَرٍ واحِدٍ أَن يُضعفَ تَواتره.

ب- أسبابُ قرآنيةُ: تُوجَدُ آياتٌ قرآنيةٌ تَرفُضُ صَراحَةَ فِكرَةِ تَحريفِ القُرآن، ومنها:

- آية الحفظ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [2]

فَإنَّ فِي هَذهِ الآيَةِ دَلالَة عَلَى حِفظِ القَرآنِ مِنَ التَّحريفِ، وأنّ الأَيدِي الجائِرَةَ لَن تَتَمَكَنَ مِنَ التَلاعبِ فِيهِ[3]. وهَذِهِ الآيةُ الكَريمَةُ ضمنَت بقاءَ القرآنِ وسَلامَتَه عَن تَطرّقِ الحَدثانِ عَبرَ الأَجيالِ. وهُوَ ضمانٌ إلهِيٌّ لا يَختَلِفُ ولا يتَخَلّفُ، وَعدًا صادِقًا: (إِنَّ الله لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) [4]، وهذا هُوَ مُقتَضَى قاعِدَةِ اللُّطفِ: «يَجِبُ عَلَى اللهِ تَعالى -وِفقَ حِكمَتِه فِي التَكليفِ- فِعل ما يُوجبُ تَقريب العِبادِ إِلى الطاعَةِ وبُعدِهِم عَنِ المَعصيةِ»، ولا شَكَّ أنَّ القُرآنَ هُوَ عِمادُ الإِسلامِ وسَندِهِ الباقِي مَعَ بقاءِ الإسلامِ، وهو خاتِم الأديانِ السَّماويّةِ الباقِيةِ مَعَ الخُلودِ. الأمرُ الَّذي يَستَدعي بَقاءَ أساسِهِ ودعامَتِه قَويمة مُستَحكمَة لا تَتَزَعزَعُ ولا تَنثَلِمُ مَعَ‌ عَواصِفِ أَحداثِ الزَمانِ. وأجدر بِهِ ألّا يَقَعَ عرضةً لِتَلاعُبِ أَهلِ البدعِ والأَهواءِ، شَأن كلِّ سَنَدٍ وَثيقٍ يَبقَى، لِيَكونَ حُجَّةً ثابِتةً مَعَ مَرِّ الأَجيالِ. وهَذا الضَمانُ الإِلهيّ هُوَ أَحَدُ جَوانبِ إعجازِ هذا الكِتابِ، حَيثُ بَقاؤهُ سَليمًا عَلَى أَيدِي النّاسِ وبَينِ أَظهرهِم، لا فِي السَّماءِ فِي البَيتِ المَعمورِ فِي حَقائِبِ مَخبوءةٍ وَراءَ السُتورِ، فلَيسَ

(203)

هَذا إعجازًا، إنَّما الإعجازُ هُوَ حِفظهُ وحِراسَته فِي مَعرَض عامٍ وعَلى مَلَأ الأَشهادِ[1].

- آية نفي الباطل: (لا يَأْتيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميد) [2].

فَقَد دَلَّت هَذهِ الآيةُ الكَريمةُ عَلَى نَفي الباطِلِ بِجَميعِ أَقسامِهِ عَنِ الكِتابِ، فَإنَّ النَفي إِذا وَرَدَ عَلَى الطَّبيعةِ أَفادَ العُموم[3]. وهَذِهِ الآيَةُ أكثر دَلالةً مِنَ الآيَةِ الأولَى، فَقَد وَعَدَ تَعالَى صِيانَتَهُ مِنَ الضِّياعِ وسَلامَتَهُ مِن حَوادِثِ الأَزمانِ، مَصونًا مَحفوظَاً يَشقُّ طَريقَه إِلى الأَمامِ بِسَلامٍ.

قَولُهُ:‌ «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ»، فالباطل: الفاسدُ الضائِعُ. أَي لا يَعرضُه فَسادٌ أَو نَقضٌ لا فِي حاضِرِه ولا فِي مُستَقبَلِ الأَيّامِ؛ وذَلكَ لِأنَّه تَنزيلٌ مِن لَدُن حَكيمٍ عَليمٍ، وأنَّ حِكمتَهُ تَعالَى لِتَبعثَ عَلَى ضَمانِ حِفظِهِ وحِراسَتِهِ مَعَ أَبديَّةِ الإِسلامِ. و«حَميد»: مَن كانَ مَحمودًا عَلَى فعالِهِ، فَلا يَخلِفُ المِيعادَ. ويَسبِقُ هَذهِ الآيَةَ قَوله تَعالى: (وإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [4]، وهي قرينةٌ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت نفسه الكريمة مضطربةً بسبب إمكان إبطال شريعته على يد أهل الفساد، إمّا في حياته أو بعد وفاته‌ (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‌ أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‌ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً) [5]، وفِي هَذِهِ الآيَة أَيضًا تَلميحٌ إِلَى بَقاءِ هَذا الدِّينِ وضَمانِ سَلامَتِهِ من كَيدِ الأَعداءِ. ومن ثَمَّ أَطبَقَ المُفسِّرونَ عَلَى أَنَّ آيَةَ نَفي الباطِلِ هِيَ مِن أَصرَحِ الآياتِ دَلالةً عَلَى نَفي احتِمال التَّحريفِ مِن الكتابِ، فَلا تَناله يد مغيّر أبدًا[6].

- آیاتُ الرَصَدِ الإِلهي: (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً  إِلاَّ مَنِ ارْتَضى‏

(204)

مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَدا) [1].

وِفقَاً لِهذهِ الآياتِ، فَإنَّ اللهَ يَعلَمُ الغَيبَ ولا يُخبِرُ أَحدًا بِالغَيبِ إلّا مَن يُحِبّه وهو الرَّسولُ. يُرسِلُ اللهُ مُراقِبينَ وحُرّاسَ مَعَ الرَّسولِ؛ لِيَعرِفَ فِي مَوقِعِ العَقلِ الحالِي أَنَّهُم نَقَلوا الرِّسالةَ الإلهيّة إلى النّاسِ كافّة، مِن مَرحَلةِ التَّلقي إِلَى مَرحلةِ الاِبلاغِ إِلی جَميعِ النّاسِ فِي جَميعِ العصورِ كانَت وما زالَت تَحتَ إِشراف ورِعاية إلهيّةٍ، وإِمكانيّة الاِقتِرابِ مِنَ التَّحريفِ فِي القُرآنِ يَتَطَلَّبُ أَن تَكونَ هذهِ الرِّعايةُ قَد تَمَت بِشَكلٍ غَيرِ كامِلٍ أَو خارِجٍ مِنَ العِلمِ الإِلهي، ومِنَ المُستَحيلِ اِفتِراضُ مِثلِ هَذهِ الأَشياءِ عَنِ اللهِ[2].

ت- الأسبابُ الرِّوائيّةُ: وَرَدَت رِواياتٌ عَديدةٌ ومُتَتاليةٌ مِنَ المَعصومينَ عليهم‌السلام  تَدُلُّ بِشَكلٍ مُباشرٍ وغَيرِ مُباشرٍ علی خُلوِّ القرآنِ مِنَ التَّحريفِ ولَم یَحدُث فِیهِ أَيُّ تَغييرٍ مِن جانِبِ البَشَرِ:

- القُرآنُ هُوَ مِعيارُ قبول الرِّواياتِ

ومن الأَسبابِ الَّتي تَرفُضُ شُبهَةَ التَّحريفِ، مَسألَةُ عَرضِ الروايات على كتاب الله تعالى، فما يتّفِق مع الكِتابِ صَحيحٌ وما يخالفه فَهُو باطِلٌ. يَقول الإمام الصّادق عليه‌السلام : قالَ نَبيّ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله: «إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ ومَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَدَعُوه‏»[3].  اَلأَمرُ الَّذي يَتَنافَى تَمامًا مَعَ احتِمالِ التَّحريفِ فِي كِتابِ اللهِ، وذلكَ مِن جِهَتينِ؛ الجِهَةُ الأُولَى: أَنَّ المَعروضَ عَلَيهِ يَجِبُ أَن يَكونَ مَقطوعًا بِهِ؛ لأنَّه المِقياسُ الفارِقُ بَينَ الحَقِّ والباطِلِ ولا مَوضِعَ لِلشَكِّ فِي نَفسِ المِقياسِ. إِذًا، فَلَو عُرضَت رِواياتُ التَّحريفِ عَلَى نَفسِ ما قيلَ بِسُقوطِهِ لِتَكونَ مُوافقةً لَهُ، فَهَذا عَرَض عَلَى المِقياسِ المَشكوك فِيهِ وهو دَورٌ باطِلٌ، وإِن عرضت عَلَى غَيرِهِ فَهِيَ تُخالِفُه، حَيثُ قَولُه تَعالى: (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) ، وقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) .

(205)

اَلجِهَةُ الثّانيةُ: أنَّ العَرضَ لا بُدَّ أَن يَكونَ عَلَى هذا المَوجودِ المُتَواتِرِ لَدى عامَّةِ المُسلِمينَ؛ لما ذَكَرناه - فِي الجِهَةِ الأولَى- مِن أنّ المقياسَ لا بُدّ أَن يكونَ مُتَواترًا مَقطوعًا بِهِ- ورواياتُ التَّحريفِ إذا عُرضَت عَلَى هَذا المَوجودِ بِأَيدينا كانَت مُخالِفةً لَهُ؛ لأَنّها تنفي سَلامة هَذا المَوجودِ وتَدُلُّ عَلى أنَّه لَيسَ ذَلكَ الكِتابُ النازِلُ عَلَى رَسولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وآلِهِ وسلم، وهَذا تكذيبٌ صَريحٌ لِلكتابِ ومُخالفَةٌ عارِمَةٌ مَعَ القُرآنِ. وهَكَذا استَدَلَّ المُحقّقُ الثّاني قاضِي القُضاة نور الدِّين علي بن عبد العالِي الكركي (ت 940) فِي رِسالَةٍ وَضَعَها لِلرَدِّ عَلَى احتِمالِ النَقيصَةِ فِي القُرآنِ، قالَ فيها: الحديثُ إِذا جاءَ عَلَى خِلافِ الدَّليلِ القاطِعِ مِنَ الكِتابِ والسُنَّةِ المُتَواترَةِ والإِجماعِ ولَم يُمكِن تَأويلُه وجب طَرحه. قالَ: وعلى هذهِ الضابطَةِ إِجماعُ عُلَمائِنا.

ثُمَّ قال: ولا يَجوزُ أَن يَكونَ المُرادُ بِالكتابِ المَعروض عَليهِ، غَيرَ هذا المُتواتِرِ الّذي بِأيدينا وأَيدي النّاس، وإلّا لَزِمَ التَكليف بِما لا يُطاقُ. فَقَد ثَبَتَ وُجوبُ عَرضِ الأَخبارِ عَلَى ‌هَذا الكِتابِ، وأَخبارُ النَقيصةِ إِذا عُرضت عَلَيه كانَت مُخالَفةً لَهُ؛ لِدَلالتِها عَلَى أنَّه لَيس هُوَ، وأَيُّ تَكذيبٍ يَكونُ أَشدُّ مِن هذا؟ ومِثلُه السّيد مُحمَّد مَهدي الطَّباطبائي بَحر العلوم (ت 1155) فِي كِتابِهِ «فَوائِدِ الاُصولِ» قالَ -بِشَأنِ حُجّيةِ الكِتاب-: قَد أطبق جماهيرُ العُلَماءِ مُنذُ عَهدِ الرِّسالَةِ إِلَى يَومِنا هَذَا عَلَى الرُّجوعِ إلى الكِتابِ العَزيزِ والتّمسُّكِ بِمُحكَمِ آياتِهِ فِي الاُصولِ والفُروعِ، بَل أَوجَبوا عَرضَ الأَحاديثِ عليه -كما وَرَدَ فِي مُتَواتِرِ النُّصوصِ- «إنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقيقة وعلى كُلِّ صَوابٍ نور، فَما وافَقَ كِتاب اللهِ فَخُذوهُ وما خالَفَ كِتابَ اللهِ فذروه...».

قالَ: والمُعتبرُ في الحجّية ما تواتر أَصلًا وقراءةً. ولا عِبرَةَ بِالشَواذّ، ولَيسَت كَأَخبارِ الآحادِ لِخُروجِها عَن كونِها قُرآنًا؛ لأنَّ مِن شَرطِهِ التَواتُر، بِخلافِ الخَبَرِ..[1].

- قِراءَةُ سُوَرٍ قُرآنيةٍ فِي الصَّلاةِ

قَد أَمَرَ الأَئِمةُ مِن أَهلِ البَيتِ عَليهِمُ السَّلامُ بِقِراءَةِ سُورَةٍ تامَةٍ بَعدَ الفاتِحَةِ فِي الركعَتَينِ الأَوّليَينِ مِنَ الفَريضَةِ، وحَكَموا بِجَوازِ تَقسيمِ سُورَة تامَةٍ أَو أَكثَرَ فِي صَلاةِ الآياتِ،

(206)

عَلَى تَفصيلٍ مَذكور فِي مَوضعِهِ. ومن البَيِّنِ أَنَّ هذهِ الأَحكامَ إِنَّما ثَبتَت فِي أَصلِ الشَّريعَةِ بِتَشريعِ الصَّلاةِ ولَيسَ لِلتَقيّةِ فِيها أَثرٌ، وعلى ذَلكَ فَاللازِمُ عَلَى القائِلينَ بِالتَّحريفِ أَلّا يَأتوا بِما يحتَملُ فِيهِ التَّحريفُ مِنَ السُّوَرِ؛ لِأنَّ الاِشتِغالَ اليَقينِي يَقتَضي الفراغ اليَقينيّ. وقَد يَدّعي القائِلُ بِالتَّحريفِ أنَّه غَيرُ مُتَمكِّن من إِحرازِ السُّورةِ التّامَةِ، فَلا تَجِبَ عَلَيهِ؛ لأنَّ الأَحكامَ إنَّما تَتَوَجَّهُ إِلى المُتَمَكِنينَ، وهَذِهِ الدَعوى إنَّما تَكونُ مُسلّمةً إِذا احتُمِلَ وُقوعُ التَّحريفِ فِي جَميعِ السُوَرِ.

أَمّا إِذا كانَ هُناكَ سُورة لا يحتَملُ فِيها ذَلكَ كسورة التَّوحيدِ، فَاللازِمُ عَلَيهِ أَن لا يَقرَأَ غَيرها، ولا يُمكِنُ لِلخَصمِ أَن يَجعَلَ تَرخيصَ الأَئمةِ عَلَيهِمُ السَّلامُ لِلمُصَلي بِقِراءَةِ أيَّةِ سورَةِ شاءَ دَليلًا عَلَى الاِكتِفاءِ بِما يَختارُهُ مِنَ السُوَرِ، وإن لَم يَجز الاِكتِفاءُ بِها قَبلَ هَذا التَّرخيصِ بِسَبَبِ التَّحريفِ، فَإنَّ هذا التَّرخيصَ مِنَ الأَئمةِ عليهم‌السلام  بِنَفسِهِ دَليلٌ عَلَى عَدَمِ وُقوعِ التَّحريفِ فِي القُرآنِ، وإلّا لَكانَ مُستَلزِمًا لِتَفويتِ الصَّلاةِ الواجِبَةِ عَلَى المُكَلّفِ بِدونِ سَبَبٍ موجبٍ، كما أنّه إلزامٌ بِقِراءَةِ السورِ الَّتي يَقَعُ فِيها التَحريف.[1]

- رِوایاتُ الثَقَلین وعَدَمُ تَحریفِ القُرآن

أَخبارُ الثَقلين اللَذينِ خَلّفَهُما النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فِي أُمَّتِهِ، وأَخبَرَ أَنَّهُما لَن يَفتَرِقا حَتّى يَرِدا عَلَيهِ الحوض، وأَمَرَ الأُمَّةَ بِالتَّمَسكِ بِهِما، وهُما الكِتابُ والعِترَةُ. وهَذهِ الأَخبارُ مُتَظافِرَةٌ مِن طُرُقِ الفَريقَينِ والاِستِدلالُ بِها عَلَى عَدَمِ التَّحريفِ فِي الكِتابِ يَكونُ مِن ناحيَتَينِ؛ الناحِيةُ الأُولَى: إنَّ القَولَ بِالتَّحريفِ يَستَلزِمُ عَدمَ وُجوبِ التَّمَسُكِ بِالكتابِ المُنزَلِ لِضياعِهِ عَلَى الأُمَّةِ بِسَبَبِ وُقوعِ التَّحريفِ، ولَكِن وُجوبُ التَمسكِ بِالكِتابِ باقٍ إِلَى يَومِ القِيامَةِ، لِصَريحِ أَخبارِ الثقلينِ، فَيَكونُ القَولُ بِالتَّحريفِ باطِلًا جزمًا.

وتَوضيحُ ذَلكَ: إنَّ هَذِهِ الرِّوايات دَلَّت عَلَى اقتِرانِ العِترَةِ بِالكِتابِ، وعَلَى أَنَّهُما باقيانِ فِي النّاسِ إِلى يَومِ القِيامةِ، فَلا بُدَّ مِن وُجودِ شَخصٍ يَكونُ قَرينًا للكِتابِ ولا بُدَّ مِن وُجودِ الكِتابِ لِيَكونَ قَرينًا لِلعِترَةِ، حَتّى يَرِدا عَلَى النَّبي الحَوض، ولِيَكونَ التَمَسُّكُ بِهِما حافِظًا لِلأُمَةِ من الضَلالِ، كَما يَقولُ النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فِي هَذَا الحَديثِ. ومِنَ الضَّروري أَنَّ التَّمَسُكَ

(207)

بِالعِترَةِ إنَّما يَكونُ بِمُوالاتِهِم، واتّباع أَوامِرِهم ونَواهيهِم والسَّير عَلَى هَداهم، وهَذَا شَيءٌ لا يَتَوَقَّفُ عَلَى الاِتِصالِ بِالإمامِ، والمُخاطَبَة مَعَهُ شَفاها، فَإنَّ الوُصولَ إِلى الإمامِ والمُخاطَبةَ مَعَهُ لا يَتَيَسَّرُ لِجَميعِ المُكلِفينَ فِي زَمانِ الحُضورِ، فَضلًا عَن أَزمِنَةِ الغَيبَةِ، واِشتِراطُ إِمكانِ الوُصولِ إِلَى الإمامِ  عليه‌السلام لِبَعضِ النّاسِ دَعوَى بِلا بُرهانٍ ولا سَبَبَ يُوجِبُ ذَلكَ، فَالشِّيعةُ فِي أَيّامِ الغَيبةِ مُتمسِّكونَ بِإمامِهِم يوالونَه ويَتَّبِعونَ أَوامِرَهُ، ومِن هذهِ الأَوامِرِ الرُجوعُ إِلى رُوّاةِ أَحاديثِهِم فِي الحوَادثِ الواقعةِ، أَمّا التَّمسُكُ بِالقُرآنِ فَهُو أَمرٌ لا يُمكِنُ إلّا بِالوُصولِ إليهِ، فَلا بُدَّ مِن كَونِهِ مَوجودًا بَينَ الأُمَةِ، لِيُمكِنُها أَن تَتَمَسَّكَ بِهِ، لَئِلا تَقَع فِي الضَّلالِ، وهَذا البَيانُ يُرشِدُنا إِلَى فَساد القول بالتحريف[1].

بِاِختِصار إنَّ القُرآنَ الكَريمَ خالٍ مِن أَيِّ تَحريفٍ، واللهُ يَحفَظُ هَذَا الكِتابَ السَّماوي الأَخير مِن أَيِّ تَحريفٍ حَتّى يَومِ القِيامَةِ.

ثالثًا: التَمييزُ بَينَ الوَحي القُرآني والوَحي البياني

نُقطَةٌ أُخرَى يَجِبُ ذِكرُها فِي نَقدِ رأي نولدكه، وهِيَ التَّمييزُ بَينَ الوَحي القُرآنِي والوَحي البياني، وهُوَ ما اختَلَطَ عَلَى نولدكه شَرحه. فالوَحي البياني قَد أنزِلَ عَلَى النَّبي الكَريمِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَم مَعَ نُزولِ القُرآنِ. وهو مَجموعَةٌ مِنَ التَّعاليمِ القُرآنيّةِ الَّتي نزلَت عَلَى قَلبِ النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مَعَ آياتِ القُرآنِ. ولَعَلَّهُ يُمكِنُ القَولُ إنَّ الوَحي البياني هو المَعارِف البَاطنیّةِ لِآیاتِ القُرآنِ، وهِيَ لَيسَت مِن نَوعِ الکَلامِ وَإنّما نزلَت عَلَى قَلبِ النَّبي المُبارَكِ مَعَ كَلماتِ القُرآنِ. وأما الوَحي القُرآني، فهو نُزولُ آياتِ القُرآنِ (الألفاظ) مِن قِبَلِ جِبرئيلَ عَلَى قَلبِ الرَّسولِ الكَريمِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد تَلاها عَلَی النّاسِ.

وقَد وَرَدَت فِي هَذا الصَّدَدِ آياتٌ ورِواياتٌ عَديدَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّه -بِالإِضافَةِ إِلى آياتِ القُرآنِ- قد نزلَ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُمورٌ أُخرَى فِي صورَةِ وَحي مِن عِندِ اللهِ، ومِنها: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرينَ) [2]، وهي مِنَ الآياتِ الّتي تَدُلُّ عَلَى نُزولِ

(208)

الوَحي غَيرِ القُرآنِيّ عَلَى النَّبي الكَريم صلى‌الله‌عليه‌وآله . فعِبارَةُ (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) تَدُلُّ عَلَى أنَّ اللهَ أنزَلَ عَلَى الرَّسولِ الكَريمِ صلى‌الله‌عليه‌وآله  شَيئًا، وهو قَد كلّفَ بِنَقلِهِ، والأَمرُ المُؤكَدُ أَنَّ الشّيءَ الذي أُنزِل لَم يَكُن وَحيًا قُرآنِيًّا، بَل وَحي غَير قُرآنِي. وذَكَرَ البَعضُ أنَّ بَعضَ المَواضیعِ الّتي نزلَت عَلَى النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانَت وَحيًا مُطلَقًا لا وَحیًا قُرآنیًّا فَقَط. «وَهَذا يَدُلُّ عَلَى أنَّ ما رُوي فِي ذِكرِ اسمِ عَلي عليه‌السلام  فِي هذا المَقامِ بَل وفِي غَيرِهِ إنَّما هُوَ تَفسيرٌ وبَيانٌ لِلمُرادِ فِي وَحي القُرآنِ، بِكَونِ التَّفسيرِ والبَيانِ جاءَ بِهِ جِبرائيلُ مِن عِندِ اللهِ بِعُنوانِ الوَحي المُطلَقِ لا القُرآنِ، «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى»[1].

يَروِي الشَّيخُ الطوسي رِوايةً عَنِ الإِمامَينِ الباقِر والصّادق عليهما‌السلام یُشیرُ فِيها إلى الوَحي النازل عَلَی النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خصوص وِلايَةِ الإمامِ عَلي عليه‌السلام، وهَذا الوَحي هُوَ الوَحي البياني: «قالَ أَبو جَعفرَ وأبو عَبدِ اللهِ عليهما‌السلام : إنَّ اللهَ تَعالَى لَما أَوحَى إلى النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أَن يَستَخلِفَ عَليًا كانَ يَخافُ أَن يَشُقَّ ذَلكَ عَلَى جَماعَةٍ مِن أَصحابِهِ، فَأَنزَلَ اللهُ تَعالى هَذهِ الآيَةَ تَشجيعًا لَهُ عَلَى القِيامِ بِما أَمَرَهُ بِأَدائِهِ»[2].

يَكتُبُ الشَّيخُ الطّوسي فِي تَفسيرِ الآيَةِ: (قُلْ لا أَجِدُ في‏ ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحيمٌ) [3] الّذي يَذكُرُ فِيهِ بَعضُ النَواهِي: «بَينَ هُناكَ عَلَى التَّفصيلِ، وَها هُنا عَلَى الجُملَةِ وَأَجوَدُ مِن ذَلكَ أَن يُقالَ: إنَّ اللهَ تَعالَى خصَّ هَذهِ الثَلاثَةَ أَشياءَ تَعظيمًا لِتَحريمِها وبيّن ما عَداها فِي مَوضِعٍ آخَرَ. وقيلَ: إنَّهُ خَصَّ هذِهِ الأَشياءَ بِنَصِّ القُرآنِ وما عَداهُ بِوَحي غَيرِ القُرآنِ»[4] إِنَّ مَعنَى الوَحي غَيرِ القُرآني هُوَ ما أُنزِلَ عَلَى النَّبي الكَريمِ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

كما يَستَخدِمُ الطَبَرسي المُصطَلَحَ نَفسَه فِي شَرحِ مُلَخّصاتِ القُرآنِ، ويَستَخدمُ مُصطَلَحَ

(209)

الوَحي غَيرَ القُرآنِيّ: «خَصَّ هذهِ الأشياءَ بِالتَّحريمِ تَعظيمًا لِحُرمَتِها وبين تَحريمِ ما عَداها فِي مَواضِعَ أخرَ إمّا بِنَصِّ القُرآنِ وإمّا بِوَحي غَيرِ القُرآنِ»[1].

 كَما اِستَخدَمَ بَعضُ المُفَسّرينَ الآخرينَ مُصطَلَحَ الوَحي غَيرِ القُرآني فِي شَرحِ العِباراتِ القُرآنيّةِ[2]. الآية: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [3] هِيَ آيَةٌ أُخرَى تَدُلُّ عَلَى الوَحي؛ وَقَد يَكونُ مَعنَى الذِكرِ مَجموعَ آياتِ القُرآنِ وَتَفصيلِها وَتَفسيرِها الَّتي نُزِلَت عَلَى الرَّسولِ الكَريمِ صلى‌الله‌عليه‌وآله  يَنزِلُ وَيَشرَحُ لِلنّاسِ. اَلآيةُ ... هِيَ آيَةٌ أُخرَى تَدُلُّ عَلَى الوَحي التبياني؛ وَیُمکِنُ أَنّ مَعنَى الذِكرِ هُوَ مَجموعُ آياتِ القُرآنِ وَتَفصيلِها وَتَفسيرِها الّتي نزلَت مَعَاً عَلَى الرَّسولِ الكَريمِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنَّ النَّبي الكَريمَ صلى‌الله‌عليه‌وآله أَوضَحَ لِلنّاسِ ما أُنزِلَت عَلَيهِ مِنَ الوَحي البياني. الآياتُ: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى‏) [4] هي آياتٌ أُخرَى يُؤخَذُ مِنها نُزولُ الوَحي غَيرِ القُرآنِيّ عَلَى النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. اَلضَميرُ «هُوَ» فِي هذهِ الآيةِ المُباركةِ لا يُشيرُ إِلَى القُرآنِ، بَل هُوَ یَرجِعُ إِلَی مَنطِقِ وَأَحاديثِ النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فَهَذِهِ الآياتُ تَدُلُّ عَلَى أنَّ كَلامَ النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وَحيٌ، وَأنَّهُ لَم يَتَأَثَّر بِأَحوالِ الرّوحیةِ فِي الوَحي، وَأنَّ كَلامَهُ مِن عِندِ اللهِ[5]. فِي بَعضِ الرِّواياتِ بَلَغَ مَجموعُ الآياتِ الّتي نزلَت عَلَى النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سَبعَةَ عَشَرَ أَلف آيةً. «عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه‌السلام قَالَ إِنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ جَبْرَئِيلُ عليه‌السلام إِلَى مُحَمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ آيَة»[6]. إنَّ مَعنَى هذهِ الرِّوايةِ لَيسَ تَحريفَ بِالنَّقیصةِ لِلقُرآنِ، بَل هُوَ مَجموعُ الوَحي القُرآني وَالوَحي البياني. يَكتُبُ الشَّيخُ الصَدوق فِي شَرحِ هذهِ الرِّوايةِ: «إنّه قَد نَزَلَ الوَحي الّذي لَيسَ بِقرآنَ، ما

(210)

لَو جمعَ إلَى القُرآنِ لَكانَ‏ مَبلغُه مِقدارَ سَبعَةَ عَشَرَ أَلف آيةً»[1]. ويَرَى الشَّيخُ الصَدوقُ أنَّ مَعنَى هَذِهِ الرِّواياتِ هُو مَجموعُ الوَحي القُرآنيّ وَالوَحي غَیرِ القُرآنِي الَّتي قَد نزلَت عَلَى النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وفِي ما يَلي يُشيرُ الشَّیخُ إِلَى بَعضِ الرِّواياتِ المَنقولَةِ عَنِ النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فِي هَذا الصَدَدِ، وهو أَنَّه بِالإضافةِ إِلَى الوَحي القُرآني أنزلَ عَلَيهِ جِبرئيلُ آياتِ غَيرَ قُرآنيَةِ. عَلى سَبيلِ المِثالِ يستشهدُ بِهذهِ الرِّواياتِ:

«مَا زَالَ جَبْرَئِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى خِفْتُ أَنْ أُدْرِدَ وَأحفر، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ، ومَا زَالَ يُوصِينِي بِالْمَرْأَةِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي طَلَاقُهَا، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالْمَمْلُوكِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَضْرِبُ لَهُ أَجَلًا يُعْتَقُ بِه».

قَوْل جَبْرَئِيل عليه‌السلام لِلنَّبِيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حِينَ فَرَغَ مِنْ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ: «يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ لَا تُصَلِّيَ الْعَصْرَ إِلَّا بِبَنِي قُرَيْظَةَ».

قَوْله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أَمَرَنِي رَبِّي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ».

قَوْله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ لَا نُكَلِّمَ النَّاسَ إِلَّا بِمِقْدَارِ عُقُولِهِمْ».

قَوْله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إِنَّ جَبْرَئِيلَ أَتَانِي مِنْ قِبَلِ رَبِّي بِأَمْرٍ قَرَّتْ بِهِ عَيْنِي، وَفَرِحَ بِهِ صَدْرِي وَقَلْبِي، يَقُولُ: إِنَّ عَلِيًا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وَقَائِد الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ»[2].

وبَعد ذِكرِ هَذهِ الرِّواياتِ أَشارَ إِلى القرآن الذي جمعه أَمير المُؤمنينَ عليه‌السلام، والَّذي تَضمّن آياتِ القُرآنِ وتَفسيرَها وَتَأویلَها. «كلُّهُ وَحيٌ لَيسَ بِقُرآن، وَلَو كانَ قُرآنًا لَكانَ مَقرونًا بِهِ، وَموصلًا إِلَيه غَير مَفصولٍ عَنهُ كَما كانَ ‏أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه‌السلام جَمَعَهُ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ قَالَ: «هَذَا كِتَابُ رَبِّكُمْ كَمَا أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّكُمْ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ حَرْفٌ، وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ حَرْفٌ».

فَقَالُوا: لا حاجَةَ لَنَا فِيهِ، عِنْدَنَا مِثْلُ الَّذِي عِنْدَكَ. فَانْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ: «فَنَبَذُوهُ وَراءَ

(211)

ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ»[1]. لِذلِكَ بِالإِضافَةِ إِلى الوَحيِ القُرآنِي، نزلَ وَحيٌ آخرُ عَلَى النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فَكانَ شَرحُ آياتِه وَتَفصيلُها مِن بَينِ هذا الوَحي.

لِذلكَ فَإنَّ الوَحي القُرآني مُنفَصِلٌ عَنِ الوَحي الَّذي نزلَ عَلَى النَّبي فِي كَثيرٍ مِنَ الأَحيانِ، وَهَذا الوَحي لَم يَكُن عَلَى شَكلِ القُرآنِ. لِذلكَ فَإنَّ وُجودَ وَحي غَير قُرآنِيّ لا یَدُلُّ عَلَی اختِزالِ آياتٍ مِنَ القُرآنِ، وَلَكنَّهُ يُشيرُ إِلى أَنَّه بِالإضافَةِ إِلى آياتِ القُرآنِ نزلَ عَلَی النَّبي أوحي آخر فِي أَوقاتٍ مُختلفةٍ.

رابعًا: نَقدُ وَثائِقِ نولدکه فِي هَذا الرَأي

العَديدُ مِنَ الوَثائِقِ الَّتي يَستَشهِدُ بِها نولدکه باطِلَةٌ، وغَيرُ مَقبولةٍ. وجَميعُ الرِّواياتِ الَّتي وَرَدَت فِي تَحريفِ القُرآنِ هِيَ من أخبار الآحاد، ووِفقًا لِآراءِ العُلماءِ فَإنَّ خَبَرَ الواحِدِ لَيسَ لَهُ سَندٌ فِي هَذا الصَدَدِ. بِالإضافَةِ إِلَى الأَخبارِ الَّتي تُفيدُ بأنَّ هَذهِ التَّقاريرَ فَريدةٌ مِن نَوعِها، فَالكَثيرُ مِنها لَيسَ لَهُ صَلاحيّةً وَثائِقيّةً أَو نَصيّةً. عَلَى سَبيلِ المِثالِ، يُشيرُ نولدکه فِي الجُزءِ الأَوَّلِ إِلى هَذهِ الرِّوايَةِ عن عُمَر، وفيها إشارة إلى حذف آية من القُرآنِ، وهي: "اَلشَّیخ وَالشَّیخه إذا زَنیا فارجموهما ألبتةً نَکالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزیزٌ حَکیمُ"[2]. وقَد نُقِلَت هَذهِ المَسألةُ فِي ذَیلِ نَسخِ التِّلاوَةِ الَّتي ذَكَرَها العُلَماءُ فِي ذَیلِ تَحريفِ القُرآنِ، وعلى هَذا الأَساسِ فهم لا يَقبلُونَ ذَلكَ، كَما كَتَبَ العَلّامَةُ الخوئي فِي نَقدِهِ لِهذا المَوضوعِ: «قَد اِتَّفَقَ العُلَماءُ أَجمَع عَلَى عَدَمِ جَوازِ نَسخِ الكِتابِ بِخَبرِ الواحِدِ، وَقَد صَرَّحَ بِذلكَ جَماعَةٌ فِي كُتُبِ الأُصولِ وَغَيرِها بَل قَطَعَ الشّافعي وَأَكثرُ أَصحابِهِ، وَأَكثرُ أَهلِ الظّاهِرِ بِامتِناعِ نسخِ الكِتابِ بِالسُّنَةِ المُتَواتِرَةِ، وَإِلَيهِ ذَهَبَ أَحمدُ بنُ حَنبَل فِي إِحدَى الرِّوايَتَينِ عَنهُ، بَل إِنّ جَماعَةً مِمَن قالَ بِإمكانِ نَسخِ الكِتابِ بِالسُنَةِ المُتَواتِرَةِ مَنع وُقوعِهِ وَعَلَى ذَلكَ فَكَيفَ تَصِحُّ نِسبَةُ النَسخِ إِلى النَّبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلّم بِأخبارِ هَؤلاءِ الرُواةِ؟ مَعَ أَنَّ نِسبَةَ النسخِ إِلى النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وَسَلّم تنافِي جُملةً مِنَ الرِّواياتِ الّتي تَضَمَّنَت أَنَّ الإسقاطَ قَد وَقَعَ بَعدَهُ. وإن أَرادوا أنَّ النَسخَ قَد وَقَعَ مِنَ الَّذينَ تَصَدُّوا لِلزعامَةِ بَعدَ النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فَهُوَ عَينُ القولِ بالتَّحريفِ...»[3].

(212)

كَتَبَ العلّامَةُ معرفت أَيضًا فِي نَقدِ هَذا المَوضوعِ: «أَوَّلًا: لا شَكَّ أنَّ رجم المحصن حكمٌ ثابتٌ فِي الشَّريعَةِ وَأَمَرَ بِهِ رَسولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولَم يَزَل عَلَيهِ إِجماعُ الفُقَهاءِ فِي القَديمِ وَالحَديثِ. أَمَّا أَنَّ شَريعةَ الرجمِ نَزلت آيَةً مِنَ القُرآنِ، فَهذا وَهُم وَهمه ابن الخطاب، ولَم يُوافِقهُ عَلَى هَذا الرَأي أَحدٌ مِنَ الصَحابةِ رُغمَ إِصرارِهِ عَلَيهِ، وَسَيَأتي شَرحُه.

يُحدِّثنا زيدُ بن ثابت، يَقولُ: سَمِعتُ رَسولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله يَقولُ: «إِذا زنى الشَّيخ وَالشَّيخةُ فَارجموهُما اَلبتةً». والمُرادُ مِنَ الشَّيخِ وَالشَّيخةِ هُما الثيّبُ وَالثيّبةُ، كِنايَة عَن المُتزوّجِ وَالمُتزوّجةِ أَيّ المحصنِ. فَهذا حَديثٌ سَمِعَه زَيدٌ عَن رَسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله لَم يَقُل أنَّه قرآن. لَكِن ابنُ الخَطاب زعمَه وَحيًا قُرآنيًّا، يَقولُ: لَمّا نزلت أَتيت رَسولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وآلِه فَقلتُ: اكتبنيها. فَلَم يَجبهُ رَسولُ اللهِ. قالَ راوي الحَديثِ: كَأنَّه كَرِهَ ذَلكَ.

قُلتُ: لَعَلَّ رَسولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله اِستَغرَبَ اقتراحَ عمَر آنَذاكَ النّاشى‌ء عَن عَدَمِ تَدَبّرِهِ اللائِقِ بِشَأنِ الكتاب، أَو عَدَمِ إِلمامِهِ بِمَواضِعِ الكتاب مِنَ السُنَّةِ، وَ مِن ثَمَّ سَكَتَ تَأنيبًا لَه.

وأَسوَأ مِنهُ ما فَهِمَه ابنُ حَزم مِن هَذا الحادِثِ، فَحمل كَراهته صَلّى اللهُ عَلَيهِ وآلِه عَلَى عَدَمِ رَغبتِهِ فِي الثَبتِ فِي المُصحَفِ. وإِذا كانَ حُكمًا قُرآنيًّا ثابِتًا فِي الشَّريعَةِ، فَلماذا لا يثبت سَندُه فِي الكِتابِ؟ الأَمرُ الّذي تغافله ابنُ حَزم، وحبّ الشَي‌ِء يَعمي ويَصُمّ!

ثانِيًا: لا نَسخَ فِي غَيرِ الأَحكامِ -كَما سَلَف- فَضلًا عَن عَدَمِ فائِدةٍ مُتَوَخّاة مِن وَراءِ هَذا النَسخِ غَير المَعقولِ، إِذ ما هِيَ الحِكمَةُ فِي نسخِ آَيةٍ فَيَبقَى حُكمُها ثابِتًا بِلا مُستَنَدٍ مَعَ‌ الأَبَدِ! لَو لا أَنَّهُ اختِلاقُ أَلجأهُم إِلَيهِ ضَيقُ الخناقِ.

والحَقُّ يُقالُ إِنَّ هَذا النَّوعَ مِنَ النَسخِ وإِن كانَ جائِزًا عَقلًا ولَكنَّه لَم يَقَع فِي كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ؛ لأنَّ هَذهِ الرِّواياتِ رواياتُ آحادٍ، والقُرآنُ الكَريمُ لا يَثبُتُ بِرواياتِ الآحادِ مَهما كانَت مَكانَة قائِلِها، ولا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَواتُرِ، كَما أَجمَعَ عَلَيهِ العُلَماءُ قَديمًا وحَديثًا. ولو أَنَّه صَحَّ ما قالوهُ لاشتَهَرَ بَينَ الصَحابَةِ جَميعًا، ولَحفظَهُ كَثيرٌ مِنهُم أَو كَتَبوهُ فِي مَصاحِفِهم. ولَكِن لَم يَرِد شَي‌ء عَن غَيرِ هَؤلاءِ الرُواةِ. فَلا يُمكِنُ القَطعُ بِأنَّ هَذهِ الآياتِ الّتي ذَكَروها كانَت مَسطورَةً فِي عَهدِ النَّبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وآلِهِ وفِي صُحُفِ كُتّابِ الوَحي ثُمَّ نسخت بَعدَ ذَلكَ ورفعَت مِنَ المُصحَفِ -كَما رَواهُ بَعضُ الصَحابَةِ- وبَقي حُكمُها

(213)

لِلعَمَلِ بِهِ. وأَيضًا فَإنَّ الحُكمَ لا يَثبُتُ إِلّا مِن طَريقِ النَصِّ، فَزوالُ النَّصِّ مُقتَضٍ لِزَوالِ الحُكمِ، ولَم يظهر لِزوالِ النَّصِّ وَحدَهُ حِكمَةً مِن عَمَل الحَكيمِ لِأنَّ الحُكمَ ما زالَ قائِمًا لَم يَنسَخ فَأيُّ فائِدةٍ فِي نَسخِ تِلاوَتِهِ؟»[1].

اَلعَديدُ مِنَ الحالاتِ الأُخرَى الَّتي يُشيرُ إِلَيها نولدکه هِيَ مِن نَفسِ النَوعِ، وغَيرِ مَقبولَةٍ مِن حَيثِ المُستَنداتِ وَالنُّصوصِ.

خامسًا: عِصمَةُ الرَّسولِ فِي تَلَقي الوَحي وإبلاغِهِ

يَتَّهمُ نولدكه فِي نَظريّتهِ النَّبيّ بِاِرتِكابِ خَطَأ فِي تَلَّقي الوَحي وإبلاغِهِ، وهَذَا الکَلامُ یَتَعارَضُ مَعَ الحُجَجِ القُرآنيّةِ القاطِعَةِ والأَدِلَةِ السَّردیَةِ حَولَ عِصمَةِ النَّبي. يَقولُ القُرآنُ الكَريمُ:

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى‏ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى‏ عَلَّمَهُ شَديدُ الْقُوى‏ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى‏ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى‏ ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏ فَأَوْحى‏ إِلى‏ عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [2].

تثبتُ هذه الآياتُ عِصمةَ النَّبي العَظيمِ بِطُرُقٍ عدّةٍ:

أوَّلها: أَقوالُ النَّبي وأَفعاله وتَقریرُهُ مُرتَبَطةٌ بِالوَحي. اَلضَميرُ «هو» فِي هذهِ الآيةِ المُبارَكةِ لا يُشيرُ إِلى القُرآنِ، بَل هُوَ یَرجِعُ إِلی مَنطِقِ وأَحاديثِ النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . فَهذهِ الآياتُ تَدُلُّ عَلى أَنَّ أَقوالَ النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وَحيٌ، وأنّه لَم يَتَأثَر بِأَحوالِ الروحِ فِي بَیانِ الوَحي وأنَّ كَلامَهُ مِن عِندِ اللهِ. وقَد بَیَّنَ هذا الأمر فِي روايةِ الإمامِ الصّادِقِ عليه‌السلام حَيثُ یَقولُ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يَدَعْ شَيْئاً يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ إِلَّا أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وبَيَّنَهُ لِرَسُولِهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وجَعَلَ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ حَدًّا وجَعَلَ عَلَيْهِ دَلِيلًا يَدُلُّ عَلَيْهِ وجَعَلَ عَلَى مَنْ تَعَدَّى ذَلِكَ الْحَدَّ حَدًّا»[3].

وعِبارَةُ «بَيَّنَه لِرَسولِه» تَدُلُّ عَلَى أَنَّه بِالإضافَةِ إِلى آياتِ القُرآنِ أَنزَلَ عَلَی النَّبي وشَرحَ لَهُ مُحتويات القُرآنِ.

ثانِيها: عِلمُه فِي ظِلِّ تَعلیمِ اللهِ تَعالى، فَعِلمُهُ عِلمٌ لَدنيٌ.

(214)

ثالِثها: بَلَغَت قُدرَتُهُ وَطاقَتُهُ نُقطَةً وَصَل فيها إِلى أَقرَبِ مُستَوى روحي إلى اللهِ تَعالى. إنَّ القُربَ مِنَ اللهِ يَتَطَلَّبُ العِصمَةَ والتَّطهيرَ مِن أَيِّ ذَنبٍ وخَطأٍ.

رابِعها: كانَ قَلبُ الرَّسولِ فِي نِهايَةِ الیَقینِ ولَم يَنكر شَيئًا. اليَقينُ عامِلٌ مُهِمٌّ فِي تَأسيسِ واستِقرارِ الفَضائِلِ والمَعارِفِ الإلهيّةِ. بِالإضافَةِ إِلى كَونِهِ أَنزَلَ عَلَى الرَسولِ الكَريمِ، كانَ أَيضًا مُتَأكدًا فِي النِّهايةِ مِن هذا الوَحي، واليَقينُ هُوَ عامِلٌ مُهِمٌّ فِي عِصمَةٍ مِن أَيِّ خَطأٍ وخَطيئةٍ.

هُناكَ رِواياتٌ عَديدةٌ فِي هَذا الصَدَدِ، مِنها ما يَرويه الشَّيخُ الصَدوق فِي الاِعتِقاداتِ: «قَالَ النَّبِيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله: «أَنَا أَفْضَلُ مِنْ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، وَمِنْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَمِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَأَنَا خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، وَأَنَا سَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ»[1].

نَقَلَ الإمامُ عَلي عليه‌السلام کَیفیّةَ نُزولِ الوَحي عَلی النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله  ويَقينَه فِي هَذا الصَدَدِ علَى النَحو التّالي: «ومَا وَجَدَ لِي كذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ ولَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَيَأْمُرُنِي بِالاقْتِدَاءِ بِهِ وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَلَا يَرَاهُ غَيْرِي وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ، فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَتَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَلَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر»[2].

قالَ الإمامُ الصّادقُ عليه‌السلام رَدًّا علَى زَرارةَ عَن حَقيقةِ الوَحي وثِقةِ النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بِوَحيانیّةِ كَلمةِ اللهِ: «عَن زرارةَ قالَ قلتُ لِأَبي عَبدِ اللّهِ عليه‌السلام كَيفَ لَم يَخَف رسولُ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يَأتيهِ مِن قِبَلِ اللهِ أن يَكونَ ذَلكَ مِمّا يَنزَعُ بِهِ الشَّيطانُ؟ قالَ: فَقالَ إنَّ اللهَ إِذا اتَخَذَ عَبداً رَسولاَ اَنزَلَ عَلَيهِ السَّكينَةَ وَالوَقارَ وَكانَ يَأتيهِ مِن قِبَلِ اللّهِ مثلَ الَّذي يَراهُ بِعَينهِ‏»[3].

(215)

الخاتمة

بِناءً عَلَى ما سَبَقَ، فَإنَّ وُجهةَ نَظَرِ نولدكه حَولَ «ما لا يَتَضَّمَنَه القُرآنُ مِمّا أوحي إلی مُحَمّد» لَيسَت صَحيحةً. فقوله إنَّ بَعضَ آياتِ القُرآنِ قَد حُذِفَت مِنَ القُرآنِ الكَريمِ، فإنّ هَذا الحَذف إمّا أَن يكونَ بسبب النسيان أو بسبب اختلاط الآيات المحذوفة مع الأَحاديثِ النَّبويةِ، إلا أنّه بحَسب آياتِ القُرآنِ (المَذكورةِ فِي المَقالِ) والحُجَجِ العَقلانيَةِ والسَّرديَةِ، فَإنَّ القُرآنَ الكَريمَ خالٍ مِن أَيِّ تَحريفٍ، وآياتُ القُرآنِ الحاليّةُ هِيَ نَفسُ الآياتِ الَّتي نزلَت عَلَى النَّبي الكَريمِ. وما يَستَشهِدُ بِهِ نولدكه فِي تَقاريرِهِ لشبهته هُوَ خَبَرُ الواحِدِ غَيرِ المُعتَمَدِ، فَهَذهِ الأَقوالُ مِن حَیثِ فِقهِ الحِدیثِ وَنَقدِ الحَدیثِ تُعانِي مِن قَلق وضعفِ الوَثيقَةِ والنَّصِّ. ومِن ناحيةٍ أُخرَى، فَقَد نَقَلَ القُرآنُ بِشَكلٍ مُتَواتِرٍ واستَخدَمَه المُسلمونَ بِكَثرَةٍ عَلَى مَرِّ العُصُورِ، مِمّا لا شَكَ فيهِ أَنَّ خَبَرَ الواحِدِ لا مَكانَةَ لَهُ أَمامَ التَواتُرِ، بِالإِضافَةِ إِلى ذَلكَ، فَقَد تمَّ انتِقادُ بَعضِ هَذِهِ التَّقاريرِ ورَفضِها مِن قِبَلِ المُفَكرينَ الإِسلاميين.

الرَّسولُ العَظيمُ مُرتَبَطٌ بِالوَحي، وبِحَسَبِ القُرآنِ، أَقوالُهُ مُرتبِطَةٌ بِالوَحي. ووفقًا لِلآياتِ والأَحاديث الصَّحيحةِ، بِالإِضافَةِ إلى الوَحيِ القُرآني نزلَ عَلَى النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحيٌ آخَرُ ويُشارُ إِلَيهِ بِالوَحي البياني أَو غَيرِ القُرآني. إنَّ أَهَمَّ فَرقٍ بَينَ الوَحي القُرآنِي والوَحي البياني هُوَ أنَّ الرَّسولَ لَم يَتَدَخَّل فِي کَلامِ الوَحي القُرآني وَنَقلَ للنّاسِ ما أُنزِلَ عَلَيهِ بِالضَبطِ. لَكِن فِي الوَحي البياني، فالمُحتَوى مِن عِندِ اللهِ والكلام والألفاظ مِنَ النَّبي، وهُوَ بِالطَّبعِ الوَحي البياني أعمُّ مِنَ الأحاديثِ القُدسیّةِ. لِذلكَ عَلَى الرُغمِ مِن أَنَّ نولدکه قَد حَدَّدَ هذَا النَوعَ مِنَ الوَحي إلّا أَنّه لَم يَتَمَكَّن مِنَ تمييزه بِشَكلٍ صَحيحٍ من بَين أَنواعِ الوَحي.

ما يُمكِنُ استِنتاجُه مِن طروحات نولدكه، هُوَ أَنَّه لَدَيهِ شُكوكٌ حَولَ وَحي ونبوُةِ النَّبي، وهذا ما دَفَعَه إِلى التَّعبيرِ عَن هَذا الشَكّ بِطُرُقٍ مُختلفةٍ فِي كِتابهِ وفِي مَواقِفَ مُختلفةٍ، لَكِن عِصمَةُ الرَّسولِ فِي القَولِ والعَمَلِ والتَّقریرِ مِن جِهَةٍ، وَعِصمَتُه فِي إبلاغِ الوَحي وتَفسيرِهِ مِن جِهَةٍ أخرَى، مُوَثّقتانِ فِي آياتِ وأَحاديث قَطعیّة الصُّدورِ وهَذا لا يَترُكُ مَجالاً لِلشَّكِّ.

(216)

لائحة المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

1- بلاغي نجفي، محمد جواد، آلاء الرحمن في تفسير القرآن، قم - مؤسسة بعثت، 1420ق.

2- تيودور نولدكه، تاريخ القرآن، تعريب: جورج تامر، الطبعة الأولى، بيروت - مؤسسة كونراد، 2004م.

3- جوادي آملي، عبد الله، نزاهة القرآن عن التحريف، قم - مرکز نشرا اسراء، 1386ش.

4- الخوئي، سيد أبو القاسم، البیان في تفسير القرآن، قم - مطبعه علمیه، الخامسة، 1394ق.

5- راوندي، قطب الدين، فقه القرآن في شرح آيات الأحكام، قم - مکتبة آيه الله مرعشي نجفي، 1405ق.

6- سيد رضي، نهج البلاغة، قم - منشورات هجرت، 1414ق.

7- صدوق، محمد بن بابويه، الاعتقادات، قم - منشورات مؤتمر الشيخ المفيد، 1414ق.

8- طبرسي، الشیخ أبو علي فضل بن حسن؛ مجمع البیان فی تفسیر القرآن؛ تصحیح: شیخ أبو الحسن شعراني؛ الطبعه الثالثه، طهران - مكتبة الإسلامیة، 1382ق.

9- طوسي، أبو جعفر محمّد بن حسن؛ التبیان فی تفسیر القرآن؛ تحقیق: أحمد حبیب قصیر العاملي؛ بیروت - دار إحیاء التراث العربي.

10- عابدي، أحمد، الوحي القرآني والوحي البياني، مجلة فصلية للفكر الديني الجديد، السنة الرابعة، العدد الثالث عشر، الصيف 1387.

(217)

11- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، طهران - منشورات إسلامية، 1362ش.

12- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، بيروت - مؤسسة الوفاء، 1403ق.

13- معرفت، محمد هادي، صيانة القرآن من التحريف، قم - منشورات التمهيد، 1428ق.

14- نسائي، أحمد بن شعيب، سنن نسائي، بيروت - دار الكتب العلمية، 1411ق.

 

(218)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث 

نقد آراء نولدكه في مصادر تعليم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله

 

 

(219)

 

 

 

مقدمة الفصل

يتمحور هذا الفصل حول مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب تعبير نولدكه؛ حيث كثرت الأقوال في هذا المجال، فذهب المستشرقون جلّهم إلى أنّ النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اقتبس واستعان بالأديان السّابقة؛ لأجل أن يقدّم دينًا جديدًا ويطرح له كتابًا مقدّسًا. وقد كانت وسيلة نولدكه في إثبات ذلك الأحكامَ السّابقة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأديان اليهوديّة والمسيحيّة، بل حتى إنّه استفاد من تقاليد وأعراف العرب الجاهليّة في دينه الذي أتى به، حسبما يرى نولدكه في تحليله. وقد عالج هذا الفصل مجموعةً من الشّبهات التي أثارها نولدكه من قبيل: شبهة اليهوديّة والهاجادا، وشبهة المسيحيّة والليتورجيا، وشبهة زيد بن عمرو بن نفيل وأمية بن أبي الصلت...

(220)

مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله  بحسب تعبير نولدكه

أ.د عمار محمد النهار[1]

المقدمة

يتحدّث هذا البحث عن ثلاثة شبهات أثارها المستشرق الألمانيّ تيودور نولدكه في كتابه «تاريخ القرآن». وتمثّلت الشبهة الأولى في كون اليهوديّة والهاجادا كانتا مصدري تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ حيث اتّصف طرح نولدكه عنها بالاضطراب والتّناقض والتّردّد والإخلال بالأمانة العلميّة، وعدم معرفته بالحقائق التاريخيّة التي تفيد بندرة وجود اليهود بمكّة، وبأنَّهم لم يرووا شيئًا عن أحداث لهم مع المسلمين، وأنَّ سوادهم كان جاهلًا بالكتابة وبالقراءة، وأنَّ قريشًا لمَّا أرادت امتحان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذهبت إلى يهود المدينة.

وتتمثّل الشبهة الثانيّة في أنَّ المسيحيّة والليتورجيا والصابئة والأحناف وبحيرى، من مصادر تعليمه صلى‌الله‌عليه‌وآله، والملاحظ أنّ طرحه لهذه الشُّبهة كان متناقضًا وغير مؤكَّد، لذلك استخدم كلمة (على الأرجح)، ومن خلال طرح هذه الشبهة يتّضح جهل نولدكه أو تجاهله للعلاقة بين القرآن والكتب السماويّة، والتّشابه بين ما أنزله الله على الأنبياء وبين ما أنزله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، كما جاء البحث على ذكر نصوص الإنجيل التي تصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتتحدّث عن أخباره.

وأما الشبهة الثالثة التي يعالجها البحث، فهي شبهة أنَّ زيد بن عمرو بن نفيل وأميّة بن أبي الصلت واعتقادات الجاهليّة كانوا مصدرًا من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله، حيث اتّصف طرح نولدكه هنا بالتّفكّك؛ إذ أوضح البحث بطلان سند

(221)

ومتن ومعنى إحدى الرّوايات عن شعر زيد، والتي استشهد بها أصحاب الشُّبهة، وأنَّ مجموع شعر زيد لا يتعدّى الأربعين بيتًا، وأنَّه أصابه النحل، وتداخل مع أشعار غيره، وأنَّ زيدًا نفسه لم يدَّع ما ادَّعاه أصحاب الشُّبهة، كما وتمّ طرح شبهات عدّة متعلّقة بزيد.

وقد توزّعت هذه الشبهات على ثلاثة مباحث، حاول الباحث فيها دحض ما طرحه نولدكه.

 

المبحث الأوّل: نقد شبهة أنَّ اليهوديّة والهاجادا مصدر من مصادر تعليم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله

تمهيد

تحدَّث نولدكه عن اليهوديّة وعن الهاجادا كمصدر من مصادر تعليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب عبارته.

فجاء تخمينه وظنُّه بعيدًا عن الحقائق التاريخيّة، وظهر أنَّه تكلّم بما أملت عليه قريحته، وبطريقة يظهر منها أنَّه يتحدّث وفقًا لوقائع ووثائق علميّة لا جدال فيها، مع أنَّه لم يسعفنا بتفاصيل شبهته، ولا بأدلّته العلميّة والتاريخيّة عنها.

ومع أنَّ الهاجادا هي من اليهوديّة، لكنّني أفردت لها فقرةً خاصّة؛ لما لها من خصوصيّة بحثيّة، ولما فيها من تفاصيل استثنائيّة، ولسبب آخر يتعلّق بندرة الدّراسات الجادة عنها.

كما أنَّ طريقة الرّدّ على شبهة الهاجادا تختلف عن طريقة الرّدّ على شبهة اليهوديّة كما سيبيّن البحث. وسيكون لكلّ شبهةٍ مقدّمتها الخاصّة بها.

(222)

أوّلًا: نقد شبهة أنَّ اليهوديّة مصدر من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب تعبير نولدكه

مقدمة

 كرَّر نولدكه شبهة تلقِّي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن اليهود واليهودية في مواضع عدّة كما يأتي:

 الأوّل: قال ضمن سياق تظهر فيه متناقضات: «قد يلقي المرء جزافًا بالتّهمة القائلة بأنّ أهمّ تعاليم محمد مأخوذة عن اليهود والمسيحيين وليست نابعة من عقله، صحيح أنّ أفضل ما في الإسلام قد نشأ على هذا المنوال، لكن الطريقة التي اكتسب فيها محمد هذه التعاليم، وعدَّها وحيًا أنزله الله إليه، ليبشر به الناس، تجعل منه نبيًّا حقًّا»[1]. ومفهوم هذا الكلام أنّ نولدكه يعدّ من المجزافة القول إنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تلقَّى تعاليمه من اليهود والمسيحيين، ثم ينفي هذا الحكم مباشرة ويقول: «إنَّ أفضل ما في الإسلام قد نشأ على هذا المنوال». ثم يعدُّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيًّا لا لكونه موحى إليه، بل لأنّه اتبع طريقة اكتسب فيها هذه التعاليم، فجعلت منه نبيًّا.

الثاني: وقال في الموضع الثاني مؤكِّدًا هذه المرة على أثر اليهوديّة: «إنَّ المصدر الرئيس للوحي الذي نُزِّل على النبي حرفيًّا، وبحسب إيمان المسلمين البسيط، وبحسب اعتقاد القرون الوسطى وبعض المعاصرين: هو بلا شكّ الكتابات اليهوديّة، وتعاليم محمد في جلِّها تنطوي في أقدم السور على ما يشير بلا لبس إلى مصدرها، لهذا لا لزوم للتحليل لنكتشف أنَّ أكثر قصص الأنبياء في القرآن، لا بل الكثير من التعاليم والفروض هي ذات أصل يهودي». ثم قال: «أما تأثير الإنجيل على القرآن فهو دون ذلك بكثير، وسيفضي بنا البحث المتمعّن عمّا هو يهوديّ ومسيحيّ في القرآن إلى الاقتناع بأنّ التعاليم الأساسيّة التي يشترك

(223)

فيها الإسلام والمسيحيّة هي ذات صبغة يهودية»[1]. ثم قال: «نسوق مثالًا على ذلك الشهادة المعروفة في الإسلام (لا إله إلا الله)، وهي مستقاة من عبارة يهودية»[2]. وبعد ذلك أراد نولدكه أن يدلّل على انتشار اليهود في الجزيرة العربية، فقال: «وقد تواجد اليهود في أماكن عدة من شبه الجزيرة العربية، وكانوا يقيمون في مناطق يثرب التي كانت على صلةٍ وثيقةٍ بموطن محمد، وكانوا يتردَّدون إلى مكة كثيرًا». ثم قال: «مسيحيّة الفرق الشرقيّة ذاتها كانت ذات طابع يهودي بارز»[3]. وذكر أنّ هناك ما اقتُبس حرفيًّا من العهد القديم، مثلما ورد في سورة الأنبياء، الآية: 105، وهي -برأيه- تطابق ما ورد في المزمور (29/ 37)[4]، وسنناقش ذلك.

الثالث: ويصل نولدكه في الموضع الثالث إلى نتيجة استعراضاته السابقة، يقول: «فلا يُستبعد أن يحوز رجل وُجد في محيطه القريب عشرات من الرجال الذين استطاعوا القراءة والكتابة...[5] ليس فقط بوصفه تاجرًا، ما يحتاجه من هذه الصنعة، ليس فقط من أجل تسجيل البضائع والأسعار والأسماء، بل أيضًا بسبب اهتمامه بكتب اليهود والمسيحيين المقدّسة التي سعى أن يتعمَّق بها معرفة». ومع أنّ نولدكه ساق الكلام الآنف بطريقة الواثق مما يتكلم، عاد فشكَّك به، على عادته بذكر متناقضات في سياق واحد أو بين صفحة وصفحات أخرى، فقال: «ولكننا إذ نفتقر إلى أيّ معلومات وثيقة، علينا أن نكتفي بالنتائج الآتية، وهي بالطبع في غاية الأهمية». ثم ذكر هذه النتائج، وهي: «أوّلًا: إنَّ محمّدًا نفسه لم يشأ أن يعد عارفًا بالقراءة والكتابة، ولهذا السبب أوكل آخرين بقراءة القرآن ورسائله. وثانيًا: إنَّه لم يقرأ بتاتًا الكتاب المقدس أو آثارًا أخرى مهمة»[6].

(224)

الرابع: يعود نولدكه إلى محاولة إثبات شبهته، فيقول: «استنادًا إلى ما تقدّم لا بدّ لنا أن ننفي إمكانيّة استعمال محمد مصادر مكتوبة، فهو تَقبَّل أهم أجزاء تعليمه من اليهود والمسيحيين شفويًّا على الأرجح»[1]. ثم حاول أن يُطوِّع القرآن الكريم إلى ما يريد، فاستشهد بآيات منه قال عنها: «ويبدو أنّ القرآن يشير إلى هذا الأمر»[2]، أي أمر تعلُّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شفويًّا من اليهود والمسيحيين. والآيات التي استشهد بها هي:

قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [3]، وحذف نولدكه منها قوله تعالى: (فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا) .

وقوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ) [4]، وحذف منها قوله تعالى: (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) .

وبقيام نولدكه بحذف جواب هذه الآيات فإنَّه أخلَّ بالأمانة العلمية، فهذه الآيات جاءت لتنفي ما أراد نولدكه إثباته، وجاءت لتكشف افتراء هؤلاء[5].

ثم يعقِّب: «وتذكر التفاسير أسماء عديدة لمعاصري النبي المعنيين بهذه الآية: سلمان، يسار، جبر، يعيش، بلعام». ثم عاد فذكر قولًا ينقض ذلك كعادته: «ولا يمكن إضافة أي شيء إلى ما يرد في الروايات من هذا الاكتشاف اليسير أو ذاك»[6].

(225)

الخامس: ويشير نولدكه في الموضع الخامس إلى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله  أخذ «بعض الأساطير العربية القديمة كتلك الموثقة في أسماء مناطق جغرافية وأشعار قديمة، والتي تشير باختصار إلى عاد وثمود وإلى سيل العرم وما إلى ذلك، أخذها محمد وبدَّلها تبديلًا تامًّا بحسب قصص الأنبياء اليهود التي أتى بها حتى لم يبق من الصيغ الأساسية لهذه الروايات إلا القليل»[1].

ولم يكن نولدكه الوحيد الذي أثار شبهة أخذ الإسلام عن اليهودية، بل بات ذلك من سمة المستشرقين، لذلك يقول الدكتور عبد الجليل شلبي: «قلَّما تحدث مستشرق عن القرآن فأغفل أنه مستقى من اليهودية، حتى وصف تايلور الإسلام بأنه يهودية مهذَّبة»[2].

مناقشة ونقد

بكلّ الأحوال، هذه هي المواضع التي حاول نولدكه أن يضعنا فيها أمام شبهة تلقِّي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن اليهوديّة، وفي الفقرات الآتية مناقشة ذلك.

1. الحديث النبوي النَّاظم للتعامل مع أهل الكتاب، ووحدة المصدر:

الأصل في تعاملنا مع كتب اليهود والنصارى الحديث الآتي، ثم من بعده يدور النقاش: فعن أبي هريرة، قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) [3].

وقد عقَّب الإمام القسطلاني على هذا الحديث بقوله: «لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذِّبوهم: إذا كان ما يخبرونكم به محتملًا لئلَّا يكون في نفس الأمر

(226)

صدقًا فتكذِّبوه، أو كذبًا فتصدِّقوه فتقعوا في الحرج»[1].

وقد وضعنا ابن كثير في صورة الحكم على الإسرائيليَّات، وأنَّها تُذكر للاستشهاد لا للاعتضاد[2].

 ويجهل الذين قالوا إنَّ القرآن منحول عن الكتاب المقدّس في كثير من معارفه ونصوصه التي شابهت ما في الكتاب المقدّس من أخبار السابقين، أنَّ القرآن يصرِّح بوجود التّشابه بين ما أنزله الله على الأنبياء وبين ما أنزله على خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [3]، ومثله في قوله: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) [4]، فوحدة المصدر تستلزم وجود التشابه، والتشابه بينهما يكون بقدر ما يشتمل عليه الكتاب المقدس من حق وما بقي فيه من هدي الأنبياء: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [5].

لكن التّشابه بين الكتابين ليس مطَّردًا، فثمة فروق كبيرة بينهما، وإنَّ الكثير مما يظنه البعض تشابهًا هو في حقيقته مشتمل على مفارقة كبرى تبطل زعم الزاعمين بالتشابه بين الكتابين.

كما يلزم العلم بالاختلاف والبون الكبير بين موضوعات القرآن وموضوعات الكتاب المقدس، فالعهد القديم (التوراة) في حقيقته هو تاريخ بني إسرائيل وأنسابهم وأعدادهم وسير ملوكهم وأنبيائهم وقصص حروبهم، فهو في الجملة

(227)

كسائر كتب التاريخ المعروفة، كالبداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الأمم والملوك للطبري، ولا يستثنى من ذلك إلا سفران فقط (اللاويون والتثنية)، فهما معنيان بالأحكام التشريعية.

أما القرآن الكريم فهو مختلف في تكوينه وموضوعه، فهو يحوي (شرح حقائق الإيمان - قصص السابقين - أحكام تشريعية - توجيهات للمجتمع المسلم - معالجة قضايا في العصر النبوي - وصف اليوم الآخر وما يتعلق به). وينحصر المشترك بين موضوعات القرآن وموضوعات الكتاب المقدس في ثلاثة محاور (حقائق الإيمان - قصص السابقين - الأحكام التشريعية). لكن نظرة فاحصة ستكشف التباين الكبير بين حديث القرآن وحديث الكتاب المقدس في هذه الموضوعات الثلاثة[1].

2. يهود الجزيرة العربية، وهل رووا أو كتبوا شيئًا؟! وهل عرفوا الكتابة؟!

وهذه قضيّة تُفيدنا بشكلٍ حاسمٍ في نقض هذه الشُّبهة؛ إذ لا تذكر الأخبار التّاريخية أنَّ اليهود كتبوا أو رووا شيئًا عن أحداث لهم مع المسلمين (باستثناء روايات من أسلم منهم).

وقد تقصَّى جواد علي في هذا الموضوع وبحث، ووصل إلى أنَّ قصّة يهود جزيرة العرب قبل الإسلام، قصّة لا تستند إلى مؤلفاتٍ تأريخيّةٍ كُتبت في تلك الأيام، ولا إلى نصوص جاهليّة عربيّة أو أعجميّة لها علاقة بيهود كُتبت في ذلك العهد، ولكن تستند في أكثر تفاصيلها إلى موارد إسلاميّة، ذكرتهم وأشارت إليهم لمناسبة ما وقع بينهم وبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلاف، وقد ورد شيء كثير بحقّهم في القرآن الكريم وفي الحديث وفي الأخبار ولا سيما أخبار الغزوات، يتعلّق معظمه بأمر الخصومة التي وقعت بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند قدومه يثرب، فهو لا صلة له لذلك إلّا بما له علاقة بهذه الناحية.

وما ورد عنهم إذن هو من مورد واحد وطرف واحد.

(228)

أما الطرف الثاني من أصحاب العلاقة بهذا التأريخ والشأن، أي اليهود، فلا صوت لهم فيه، ولا رأي، فلم تصل إلينا منهم كتابة ما عنهم في علاقتهم بالإسلام، كذلك لم تصل إلينا كتابة أو رواية أو خبر عن أولئك اليهود في الموارد التأريخية التي دوَّنها غيرهم من مؤرخي يهود وكُتَّابهم عن علاقة يهود جزيرة العرب بالإسلام، وعن إجلاء يهود الحجاز من مواضعهم إلى بلاد الشام، لا في العربية ولا في العبرانية ولا في بقية اللغات، مع ما لهذا الحادث من خطر في تأريخ اليهود في جزيرة العرب[1].

ونفى جواد علي زيف ما كتبه المستشرقون عن أثر اليهود في الجاهليين أو أثر الجاهليين في اليهود، ومما قاله: «وما دمنا لا نملك نصوصًا يهوديّة جاهليّة، ولا نصوصًا عربيّة جاهليّة تتعرّض ليهود، فليس في وسعنا إذن أن نتحدّث باطمئنان عن أثر اليهود في الجاهليين أو أثر الجاهليين في اليهود»[2].

ومن جهة ثانية: يستحيل وصول أساطير اليهود في التلمود ونصوصه والأساطير الأخرى إلى عرب الجزيرة العربية، ونستشهد على ذلك مما كتبه ولفنسون وعبد الوهاب المسيري.

يقول إسرائيل ولفنسون: «إن سكوت المراجع الإسرائيلية عن سرد حوادث اليهود في الجزيرة العربية يدل دلالة قاطعة على أن اليهود في بلاد العرب كانوا منقطعين تمام الانقطاع عن بقية أبناء جنسهم في جهات العالم، ولم تكن لهم بهم أي صلة»[3]. ويقول: «لم يظهر شيء من النبوغ والعبقرية في يهود بلاد العرب مطلقًا، ولم تشتهر من بينهم شخصية واحدة في كل عصورها بالرقي الفكري»[4].

ويقول: «وكان العالم (شير) يعتقد أن اليهودية في بلاد العرب كانت لها

(229)

صبغة خاصة، كانت يهودية في أساسها لكنها غير خاضعة لكل ما يعرف بالقانون التلمودي»[1].

أما عبد الوهاب المسيري، فقد ذكر في موسوعته النقاط الآتية التي يهمنا الاستشهاد بها هنا:

- كان يهود الجزيرة العربيّة منعزلين عن يهود العالم، وعن مراكز الدراسة التلمودية والفقهية في فلسطين وبابل، بل ويُقال إن يهود العالم آنذاك لم يكونوا يعدُّونهم يهودًا ... ومن هنا تكون التفرقة بين يهود عصر موسى ويهود المدينة، ومن هنا تكون ضرورة افتراض عدم وجود استمرار يهودي[2].

- لم يرد ذكر يهود الجزيرة العربية في المراجع اليهودية أو غير اليهودية قبل بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نظرًا لانقطاع علاقتهم ببقية يهود العالم. وكانت علاقتهم بيهود فلسطين، الذين كانوا يتحدثون الآرامية، علاقة تجارية لا تختلف عن علاقة القبائل العربية الأخرى بهم. بل إنّ هناك من القرائن ما يدل على أن يهود دمشق وحلب لم يكونوا (في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي) يعدُّون يهود الجزيرة العربية يهودًا على الإطلاق؛ نظرًا لأنّهم لم يكونوا يعرفون التلمود وإن عرفوه لم يخضعوا لقوانينه. ويُقال إن اليهودية التي اعتنقها عرب الجزيرة كانت أشبه بحزب قَبَلي أكثر من كونها دينًا له أصول وأبعاد كدين يهود فلسطين، إذ كان مجرد اعتناق أحد رؤساء القبائل أو البطون أو الأفخاذ للديانة اليهودية يؤدي تلقائيًا إلى تهوُّد أتباعه[3].

(230)

ويتبيَّن من القرآن الكريم، أنّ اتّصال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله باليهود اتصالًا مباشرًا إنما كان في يثرب، أما في مكة، فلم يكن لليهود فيها شأن يذكر، لذلك لا نجد في الآيات المكية ما نجده في الآيات المدنيّة، ولا سيما المتأخر منها، من تقريع لليهود وتوبيخ لهم، لوقوفهم موقفًا معاديًا من الإسلام، واتفاقهم مع المشركين في معارضة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومقاومته.

إذًا، لم يكن لليهود نفوذٌ كبير ولا جاليات كبيرة في مكة، فلو كان لهم نفوذ فيها أو رأي مسموع، لسمعنا به كما سمعنا بخبرهم في يثرب، ولكان لهم حيّ خاص بهم، ومكانة بين رجال قريش، كالذي كان عليه يهود يثرب في اتصالهم بالأوس والخزرج، ولأُشير إليهم في السُّور المكيَّة، على نحو ما أُشير إليهم في السُّور المدنيَّة، ثم لما اضطر رجال قريش للذهاب إلى يثرب مرارًا، لاستشارتهم في أمر سلوكهم مع المسلمين، ولما جاء سادات يهود يثرب إلى مكة، لتحريض أهلها على مقاومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولعقد حلف معهم عليه[1].

وقد ردَّ المؤرِّخ اليهودي إسرائيل ولفنسون على المستشرق لامنس الذي حاول أن يثبت أنّ عددًا من اليهود كان يسكن مكّة قبيل ظهور الإسلام، وقال: «إنّ نظرياته لا يطمئن إليها الباحث، ولو صح ما ادّعاه هذا العالم لكان لليهود حي خاص بهم في مكة، ولكان لهم معبد خاص يقيمون فيه صلواتهم ويدرسون كتبهم، وليس في جميع المصادر التّاريخيّة القديمة ما يشير أقل إشارة إلى وجود شيء من ذلك»[2].

وعلى فرض أنَّ أحدًا عاند الحقائق السابقة، وأصرَّ على أنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ عن اليهود، فلننظر حال اليهود أنفسهم ومدى علمهم بموروثهم الديني أو كتبهم الدينيّة أو دينهم آنذاك:

يقول جواد علي بعد استقصاء شامل وطويل: «ونحن لا نستطيع أن نتصوَّر

(231)

أنَّ سواد يهود الجاهلية كانوا على علم بالكتابة وبالقراءة ثم بأحوال دينهم وأموره. وفي القرآن الكريم أنَّ هذا السواد كان جاهلًا ليس له علم ولا خبر بأمور دينه وشريعته، وأنَّه مقلد تابع لما تقوله له أحباره وربَّانيوه، فكل ما كانوا يقولونه له، كانوا يرونه حقًّا وعلمًا[1]. مع أنّ من بين أولئك من كان دجَّالًا ليس على درجة من دراية وعلم، ومن كان ينطق بالباطل ولا يخشى الكذب، لينال بذلك كسبًا ومالًا، وأنَّه كان لهؤلاء على أتباعهم ومقلديهم سلطان عظيم». ثم يقرّر: «فغالبيّة يهود جزيرة العرب في الجاهليّة، هم في مستوى يعدّ دون مستوى يهود البلاد الأخرى، بسبب تبدِّيهم وانقطاعهم عن غيرهم من اليهود»[2].

وأفادنا ابن خلدون بمستوى ثقافة اليهود العرب المتواضع، وأنَّهم «لا يعرفون من ذلك إلَّا ما تعرفه العامَّة من أهل الكتاب»[3].

واستبعد جواد علي أن يكون سواد يهود جزيرة العرب في الجاهلية يتكلمون العبرانية، ورأى أنهم كانوا يتكلمون لهجة من اللهجات العربية، وكانوا يُفسِّرون التوراة والتلمود والكتب المقدسة لسواد الناس من العبرانية إلى العربية، لأنهم لم يكونوا يعرفون العبرانية.

ثم بيَّن جواد علي أنَّه لم يظهر في يهود جزيرة العرب من حاز على شهرة في العلم والفقه والتأليف والخطابة على نحو ما ظهر بين يهود العراق أو فلسطين أو مصر، وإلا لاشتهر أمره وذاع خبره، كما ذاع خبر علماء يهود بابل وفلسطين ومصر.

(232)

وهناك جملة عوامل حالت دون نبوغ أحد من اليهود، منها أن يهود جزيرة العرب مهما قيل عنهم وعن رقيِّهم وارتفاع مستواهم عن مستوى من كان في جوارهم، لم يكونوا في ثقافتهم وفي مستواهم الاجتماعي أرقى من الفلاحين وسكان القرى وما إليها في العراق أو فلسطين أو مصر، كما أنَّ حالتهم المادية لم تكن على مستوى عال بحيث يمكن أن تقاس بالأحوال المادية التي كان عليها اليهود الآخرين في الأرضين المشار إليها، أو أصحاب تلك الأرضين من غير يهود. ثم إنّ عددهم مهما قيل فيه، لم يكن كبيرًا، فرجالهم المحاربون مثلًا لم يكونوا يتجاوزون كلهم في الحجاز كلّه بضعة آلاف، وفي مثل هذا العدد والظروف والأحوال لا يمكن بالطبع أن تتوفر الإمكانيات المساعدة على البحث والتَّتبع والتَّعمق في العلم[1].

وهذا لا يعني أنَّه لم يكن منهم أناس من أهل العلم، ولكنهم قلائل جدًا، فلا يستبعد جواد علي أن يكون من بين رجال الدين من الديانتين اليهودية والمسيحية أناس كانوا على قدر العلم والفهم بأمور التوراة والإنجيل وبالقصص الإسرائيلي والنصراني وعلى شيء من الإلمام بالتأريخ؛ فقد كان من بينهم أناس هم من أصل رومي أو سرياني أو عبراني؛ فليس من المستبعد أن يكون لهم حظ من العلم بالأمور المذكورة أخذوه من كتبهم المكتوبة بلغاتهم ومن دراساتهم لأمور الدين[2].

3. قصّة النضر بن الحارث مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وامتحان عملي منذ ذلك الوقت بصدق الإسلام

كانت قصّة النَّضر بن الحارث من الدلالات الواضحة لقريش وغيرها على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإسلام، وقد تعلَّم النضر في الحيرة أحاديث ملوك الفرس، فكان إذا جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مجلسًا فذكَّر فيه بالله، وحذَّر قومه ما أصاب

(233)

من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، فهلم إليَّ، فأنا أحدِّثكم أحسن من حديثه. ثم يحدِّثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟

فأرسل القريشيون النَّضر بن الحارث وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوِّل. والأشياء الثلاثة التي اقترحوها عليهم هي قصة فتية أهل الكهف، وقصة ذي القرنين، وقضية الروح.

فأقبل النَّضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش، ثم جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسألوه عن هذه الأمور الثلاثة، فأجابهم القرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها كما وردت تفصيلاتها في سورة الكهف[1].

وهنا يقول إسرائيل ولفنسون ويدافع (خلال حديثه عن قصة النَّضر بن الحارث): «وينفي بعض المستشرقين صحة هذه القصة الخطيرة دون أن يأتوا بدليل تطمئن إليه، والحق إنِّه من العسير إنكار رواية تاريخية كانت سببًا في نزول سورة الكهف والآيات الخاصة بالروح وذي القرنين»[2].

بل إنّ ولفنسون يستنتج استنتاجًا واقعيًّا، يدل على أن اليهود لم يعلموا

(234)

أو يخبروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئًا عن القصص في قصة النَّضر بن الحارث، ولا سمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم، ويدلل على ذلك بأمرين، يقول: «وعندنا دليل يحملنا على الاعتقاد بأن هذه الرواية من المحتمل أن تكون واقعية، وهي أن في التلمود قصة مشهورة تشبه قصة أهل الكهف، ومن هذه القصة أخذ أحبار اليهود الأسئلة التي وجَّهوها للرسول بواسطة وفد بني قريش».

ثم ينقلنا إلى الدليل الثاني الذي من الممكن أن نستشهد به مرتين، مرة بما يتعلق بالسياق الذي نتحدث عنه، ومرة كتأييد للأدلة الواضحة عن عدم وجود يهود (أو ذوي علم من اليهود) في مكة، يقول: «وتؤيد هذه القصة ما ذهبنا إليه من أنه لم يكن بمكة أحد من اليهود، إذ لو وجد منهم في مكة ما أوفد بنو قريش وفدهم إلى المدينة ليسألوا أحبار اليهود عن شأن النبي، وإذا وجد منهم أحد فلا بد أن يكون غير عالم»[1].

4. اليهود ومعاداة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والدعوة الإسلاميّة

لمَّا دخل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة المنورة تعامل بود مع اليهود، وتعاهد معهم في صحائف كُتبت لهم، فيها العهد بالوفاء لما اشترط لهم، ما داموا موفين بالوعد وبالعهد، وأمور أخرى عديدة[2].

ولم تكن علاقات اليهود مع المسلمين سيئة في الأيام الأولى من مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة، ولم ير اليهود في انتشار الإسلام بين أهل المدينة ما يضيرهم شيئًا أو يلحق بهم أذى، ولكن لمَّا دخل أهل المدينة في الإسلام أفواجًا، وتوجَّه المسلمون إلى اليهود يدعونهم إلى الدخول فيه وإلى مشاركتهم لهم في عقيدتهم باعتبار أنهم أهل دين يقول بالوحي ويؤمن بالتوراة، وبرسالة الرسل، فهم لذلك أولى بقبول هذه الدعوة من الوثنيين، أدركت جمهرتهم أن

(235)

الإسلام إذا ما استمر على هذا المنوال في المدينة من التوسع والانتشار ومن توجيه دعوته إلى اليهود أيضًا، فسيقضي على عقيدتهم التي ورثوها، وهي عقيدة لا تعترف بقيام نبي من غير بني إسرائيل؟

وقد رفض اليهود الدخول في الإسلام، وأبوا تغيير دينهم، ودافعوا عن عقيدتهم وتمسكوا بها، وجادلوا المسلمين في ذلك.

وهكذا بدأت خصومة اليهود للإسلام خصومة فكرية، ثم تطورت إلى معارك وحروب، والحروب كما نعلم تبدأ نزاعًا في الآراء والأفكار ثم تتحوَّل إلى صراع ونزاع وقتال[1].

واللافت أنَّ اليهود وساداتهم الذين عادوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والدعوة الإسلامية لم يتكلموا بالشُّبه التي يتكلَّم بها من يتكلَّم، وإنما كان لعداوتهم أسباب سنأتي على ذكرها وعلى ذكر من دخل الإسلام منهم، وهذا تصديق عملي على بطلان ما يثيره أصحاب الشُّبه.

فلقد أورد ابن هشام أسماء من عادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من اليهود، من بني النضير، ومن بني قينقاع، ومن بني قريظة، ومن بني ثعلبة.

ثم عقَّب بعد ذكرهم بقوله: «فهؤلاء أحبار اليهود، أهل الشرور والعداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه، وأصحاب المسألة، والنصب لأمر الإسلام الشرور ليطفئوه»[2].

ونجد في القرآن أمثلة من أسئلة وجَّهها اليهود إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لإحراجه ولإظهار فساد دعوته بزعمهم، وسألوه أسئلة عن أشياء مذكورة في التوراة، وسألوه عن أشياء أخرى محرجة عديدة، وأوحوا إلى غيرهم من المشركين

(236)

بأسئلة مماثلة ليلقوها على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لامتحانه وإحراجه، وقد نزل الوحي بالرد عليهم، وبتأنيبهم على أقوالهم هذه، وبتذكيرهم بما قام به أجدادهم وأسلافهم في مقام أنبيائهم من عدم التصديق برسالتهم ومن الطعن بهم ومن إصرارهم على عبادة الأوثان والكفر بالتوحيد[1].

ولم نجد في هذه المحاججات وإثارة الأسئلة والإحراجات أنَّهم قالوا إنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ عنهم! فلو كان هناك شبهة لأخبر بها اليهود هؤلاء الوثنيين.

لذلك يسوق ابن هشام السبب الحقيقي لعداوة اليهود للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والدعوة الإسلامية بقوله: «قال ابن إسحاق: ونصبت عند ذلك أحبار يهود لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله العداوة، بغيًا وحسدًا وضغنًا، لما خصَّ الله تعالى به العرب من أخذه رسوله منهم، وانضاف إليهم رجال من الأوس والخزرج، ممن كان عسي (بقي) على جاهليته فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث»[2].

فواقع الأمور ومآلها بين المسلمين واليهود آنذاك كان يتَّصف بالمحاججة والعداوة، وهو واقع ينفي الشُّبهة المثارة عنها، ويجعلها تحمل إشارات استفهام كثيرة.

5. دخول يهود في الإسلام

دخل عديد من اليهود في الإسلام، سواء في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عصر الخلفاء الراشدين، ومنهم من صار شديد القرب من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كزوجته صفية، وهي ابنة أحد زعمائهم. والشاهد هنا أن دخول هؤلاء في الإسلام (وخاصَّة الأحبار) ينسف الشُّبه المثارة حول تعلُّم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على يد اليهود واتِّهامه أنَّه أتى بالإسلام من اليهودية. وهؤلاء هم شهادة صدق الإسلام والقرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(237)

فمن هؤلاء: عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي[1]، وأولاده: محمد[2]، ويوسف[3]، وأخوه: ثعلبة[4]، وعمته خالدة أو خلدة بنت الحارث[5]، وابن أخته: سلام[6].

ومنهم: يامين بن يامين، أو: يامين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش، من بني النضير[7].

ومنهم: أسد بن سعية القرظي[8].

ومنهم: مخيريق النَّضري الإسرائيلي[9].

ومنهم: كعب الأحبار (كعب بن ماتع)[10].

ومنهم كعب بن سليم القرظي، ثم الأوسي، وابنه محمد من علماء التابعين[11].

ومنهم: رفاعة بن سموأل، خال صفية بنت حيي بن أخطب أم المؤمنين، زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله [12].

(238)

ومنهم: وهب بن منبه، العالم العابد، من التابعين[1].

ومنهم زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : صفية بنت حيي بن أخطب بن سعية بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن النحام بن ناخوم، وقيل: ينخوم، وقيل: نخوم. والأول قاله اليهود، وهم أعلم بلسانهم[2].

6. مقارنة بين الإسلام واليهودية - شهادة التوحيد والإيمان وآية سورة الأنبياء والمزمور مثالًا

وصَّفْنا في بداية هذا البحث الشُّبهات التي أثارها نولدكه، وكيف قرَّر أنَّ المصدر الرئيس للوحي الذي نُزِّل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حرفيًّا، هو الكتابات اليهودية، وساق مثالًا على ذلك شهادة التوحيد في الإسلام (لا إله إلا الله)، وقال إنَّها مستقاة من عبارة يهودية.

ونذكر أولًا قول موريس بوكاي: «نجد فيما يتعلق بالموضوعات الواردة في التوراة والقرآن فروقًا شديدة تدحض كل ما قيل ادعاء -ودون أدنى دليل- عن نقل محمد للتوراة»[3].

ويقول: «صحة القرآن التي لا تقبل الجدل، وهي تعطي النصّ مكانةً خاصّةً بين كتب التنزيل، ولا يشترك مع نص القرآن في هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد»[4].

(239)

ونأتي الآن إلى ذكر الشهادة اليهودية أو آية التوحيد، وهي حرفيًّا: «اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا واحد»[1].

ونذهب إلى كتاب متخصِّص لنستبين ذلك، يقول فوزي السعدي: «إن الدارس المدقّق يجد الفرق الجوهريّ بين الشهادتين، فالشهادة الإسلاميّة تبدأ بالضمير الفرد المتكلم، أي الإنسان الفرد صاحب الضمير الفردي يشهد على أنَّ الله إله العالمين واحد أحد، أما شهادة التوحيد اليهودية فتبدأ بخطاب إلى الأمة ككل، مما يُسقط بتاتًا فكرة الضمير والفرد والمسؤوليّة الخلقي، ففكرة الضّمير تتنافى مع فكرة الجماعة (القوميّة). ثم تنتقل الشهادة بعد ذلك لتأكيد أنّ (الرب إلهنا)، واستخدام ضمير الملكيّة في سياق الديانة اليهوديّة له دلالة قوميّة عميقة، فهو يخصّص الإله ويجعله مقصورًا على اليهود أو الشعب المختار. وفي نهاية الصلاة يأتي ذكر الرب الذي هو رب اليهود على أنه واحد، وهذا لا ينفي بأيّ حال تعداد الآلهة، فلليهود ربهم الواحد وللأغيار أربابهم، أي إنّ وحدانيّة الرب هي وحدانيّة الأمة وتقديسها».

ويخلص السعدي للقول: «إنّ آية التوحيد اليهودية ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بالشهادة الإسلامية».

ثم يقرّر أمرًا يهمّنا جدًّا فيما نناقش وننقد، فيقول: «وهذا ينطبق أيضًا على كثير من الجوانب التي يُتصوَّر أنها مشتركةٌ بين اليهوديّة والإسلام، مثل الختان وقوانين الطعام»[2].

(240)

ويذكر عبد الوهاب المسيري أنَّ الحلوليّة الثنائيّة الصلبة في العقيدة اليهوديّة تتبدَّى من خلال الثالوث الحلولي المقدَّس، وأوله: الإله، وتفسيره عندهم كما يأتي: «يختفي الإله الواحد العلي المنزَّه ويظهر بدلًا منه إله يسرائيل الذي يتَّحد بجماعة يسرائيل (الإنسان) وبأرض وتاريخ يسرائيل (الطبيعة)»[1].

ونجد هذه المعاني متناثرة في التوراة[2]، كما نجد في سفر التكوين أنَّ الرب ليس له من محب غير اليهود، أما باقي البشر فهم أعداؤه[3].

ونأتي إلى مقارنة أخرى تتعلق بحقائق الإيمان بين القرآن والكتاب المقدس؛ فالكتب التي ينزلها الله يتوقع قارئها جميعًا أن تركز على حقائق الإيمان الرئيسة كالتعريف بالله وأنبيائه وملائكته وكيفية عبادته، ومن البدهي أن تتطابق هذه الكتب، لوحدة مصدرها، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن بدعًا عن إخوانه الأنبياء، بل جاء لبيان المعاني ذاتها التي بعثهم الله للدعوة إليها، وفي مقدمة ذلك توحيد الله والتعريف به وبصفاته: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [4]، والتحذير من الشرك: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ) [5]، فهذه حقائق أطبق الأنبياء على ذكرها، ولا يتصور خلو دعوة نبي منها، فالتشابه بينها لازم لها، وهو دليل وحدة أصلها، وأما الاختلاف بينها في التعريف بهذه الحقائق فذاك دليل تحريف بعضها، وأنه ليس من عند الله تعالى.

ونثير هنا أهم مسألة من مسائل الإيمان، وهي التعريف بالله وصفاته، ليقيس القارئ الشاهد على الغائب.

(241)

وفي التعريف بالله وصفاته يتشابه الكتابان (القرآن والكتاب المقدس) بقدر ما يحويه الكتاب المقدس من الحق، ويفترقان بقدر ما تحويه هذه الكتب من الشوائب والتحريف بسبب التدخل البشري فيها.

ولا ريب أنّ في الكتاب المقدّس اليوم مجموعة من النّصوص التي تعظّم الله وتتحدّث عن وحدانيته، فأصول هذه الكتب من عند الله، وهذه الحقائق الإيمانيّة الصحيحة بقايا آثار الأنبياء في هذا الكتاب، فتطابق القرآن معها دليل على وحدة المصدر، وهو الله عز وجل، ولا يعني بالضرورة أن القرآن نقل منها؛ إذ التشابه لا يدل بالضرورة على النقل، فقد تطابق الإنجيليون الأربعة (متى ومرقس ولوقا ويوحنا) في الكثير من نصوصهم مع أسفار العهد القديم، ولم يزعم أحد من مثيري الأباطيل عن القرآن أنهم كانوا ينقلون من العهد القديم أو من بعضهم البعض.

وإزاء التطابق بين القرآن والكتاب المقدّس في بعض المعاني، فإنّه يمكن للمتابع رصد الكثير من التفاصيل المختلفة بين الكتابين، وهو ما يُحيل أن يكون أحدهما مصدرًا للآخر، فالله -بحسب القرآن الكريم- إله عظيم بائن من خلقه، مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، لا ندرك كُنه ذاته ولا كيفيّة صفاته: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [1]، بينما هو بحسب الكتاب المقدس إله يخالط مخلوقاته، فيتجسّد في صورٍ بشريّةٍ، وينزل إلى الأرض، ويمشي فيها: «هو ذا الرب يخرج من مكانه، وينزل ويمشي على شوامخ الأرض»[2]، ويركب على الملائكة (الكروبيم)[3] في تنقُّلاته: «طأطأ السماوات ونزل، وضباب

(242)

تحت رجليه، ركب على كروب، وطار، ورئي على أجنحة الريح ... »[1]، وقد نزل مرة إلى باب خيمة الاجتماع، فكلم موسى وجهًا لوجه «ويكلم الرب موسى وجهًا لوجه، كما يكلم الرجل صاحبه»[2].

وإذا كان الله عز وجل منزهًا -بحسب القرآن- عن الطعام والشراب والنقائص فإن الكتاب المقدس يزعم أن الرب زار إبراهيم وأكل عنده بعض اللحم مع اللبن[3].

وإذا كان القرآن ينزه الله سبحانه وتعالى عن الشبيه والمثيل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)[4]، (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [5]، فإنَّه في الكتاب المقدّس أشبه ما يكون بالإنسان الذي خلقه مشابهًا له: «وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا»[6].

وهكذا، فإنّ هذا وغيره يثبت التباين الكبير في أهم مسألة كان يفترض أن ينقلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الكتاب المقدّس لو كان هو مصدره في التعرف على الله تبارك وتعالى، لكن القرآن الموحى به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خالف الكتاب في هذه المسائل وغيرها؛ لأنّه وحي الله تبارك وتعالى[7].

 أما قول نولدكه إنَّ آيات قرآنيّة اقتُبست حرفيًّا من العهد القديم، مثلما ورد في سورة الأنبياء، الآية: 105، وهي -برأيه- تطابق ما ورد في المزمور (29/ 37)، فنذكر طرفي المقارنة لنستبين ذلك:

(243)

يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [1].

وفي المزمور: «لأن الرب يحب الحق ولا يتخلى عن أتقيائه، إلى الأبد يُحفظون، وأما نسل الأشرار فينقطع»[2].

فأين التشابه؟! ولو ورد فحكمه حكم ما ذكرنا من قبل من أنَّ الإسلام هو خاتم الشرائع والمهيمن عليها.

ولا بد أن نشير هنا إلى عكس الشُّبهة التي يتكلم بها نولدكه، وأقصد تأثُّر اليهود في فكرهم ودينهم بما حولهم من حضارات، ولقد استطاع جيمس فريزر من خلال دراسته للتوراة وتعمقه في علم الأنثربولوجيا أن يحصي ما في التوراة من عادات وتقاليد وتصوُّرات بدائية، وأن يقوم بتحليلها وفحصها واستبيان كنهها، عن طريق المنهج الأنثروبولوجي المقارن[3].

وتحدَّث الدكتور محمد جلاء إدريس عن ثبوت التأثير الخارجي على الفكر الديني اليهودي منذ القدم، وقال بالإضافة لذلك: «ومن بين تلك التأثيرات التي يحاول اليهود إنكارها وطمس معالمها تأثيرات الإسلام دينًا وفكرًا وفلسفة على طوائف اليهود على مر العصور»[4].

فكتب الدكتور محمد جلاء كتابًا كاملًا عن قضية واحدة هي مدى تأثر اليهود القرائين بالدين الإسلامي، وهدف إلى ما يأتي (ووصل إلى هذا الهدف): «إبراز جوانب عديدة من التأثير الإسلامي على الفكر الديني اليهودي، وذلك

(244)

من خلال آراء ومعتقدات طائفة القرائين التي ظهرت منذ قرابة الألف عام، وللوقوف على عوامل الجذب الإسلامي»[1].

7. الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتب اليهود، وآيات نقد اليهود في القرآن الكريم

قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [2]

لقد ساروا من أثار الإشكالات وراء شبهات لا تثبت، وما استندوا على وقائع صحيحةٍ أو مقنعةٍ، هذا إن أحسنَّا الظنَّ بهم، بينما تركوا وتناسوا وتغاضوا عن الوقائع الواضحة في التوراة، وأعرضوا عن النّصوص التي ذُكر فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

واختصر علينا عبد الأحد داود[3] كثيرًا من البحث حين ألَّف كتابًا خاصًّا وكاملًا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتب اليهود والمسيحيين، وتأتي قيمة هذا الكتاب التَّوثيقيَّة من أنَّ مؤلِّفه كان كاهنًا كاثوليكيًّا من طائفة الكلدان، وأحد كبار الكهنة (قسيس أورميا في إيران سابقًا)، ودرَّس ديانته السابقة كونه رئيسًا لمجمعه الديني، وعزَّز كتابه بأسانيد وحجج من الكتب المقدّسة المتداولة.

فضمَّ هذا الكتاب سلسلةً من الدّراسات الرّائعة، اتَّصفت بالعمق والأصالة، والمدهش أنَّ عبد الأحد داود قدَّم أبحاثه مستعينًا بالنّصوص الآراميّة والعبريّة واللاتينيّة واليونانيّة.

وساق عبد الأحد عشرات النّصوص من التوراة والإنجيل، وبدقّة كبيرة، ثم بشرحٍ مستفيضٍ، ودلائل واضحة، وكلّها كانت تشير بوضوح كما الشّمس في رابعة النهار إلى مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعض تفصيلات ذلك.

جعل عبد الأحد كتابه من قسمين: القسم الأوّل: محمد كما ورد في العهد

(245)

القديم، وساق تحته عشرة فصول، والقسم الثاني: محمد كما ورد في العهد الجديد، وساق تحته أحد عشر فصلًا[1].

وأوضح عبد الأحد أنّ هدفه الذي وصل إليه في هذا الكتاب هو أنّ العقيدة الإسلاميّة هي العقيدة الصّحيحة، وأنّها متّفقة وتعاليم الكتاب المقدّس وخاصّة فيما يتعلّق بالذات الإلهية وبخاتم الرسل، وبرهن أن محمدًا صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الهدف الحقيقي (للعهد)، وأنّ نبوءات العهدين القديم والجديد قد تحقّقت فيه وحده دون غيره فعليًّا وحرفيًّا[2].

وممن تناول التفصيل في هذه القضيّة ابن سعد، وساق أدلّة كثيرةً تحت عنوان: ذكر صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في التوراة والإنجيل.

ومن ذلك: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه سأل كعب الأحبار: «كيف تجد نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في التوراة؟ فقال: نجده محمد بن عبد الله، مولده بمكة، ومهاجره إلى طابة، ويكون ملكه بالشام، ليس بفحاش ولا بصخاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر»[3].

وساق ابن قيِّم الجوزية أيضًا أدلّة كثيرةً مما ورد في نصِّ التوراة والإنجيل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وذلك في كتاب كامل[4]. وغير ذلك كثير[5].

(246)

ونسوق هنا أمثلة عن الآيات الكثيرة التي أوردها القرآن الكريم، وفيها نقدٌ شديدٌ لليهود، ويظهر أنّ نولدكه لم يشاهدها أو تقصَّد ذلك، وهي بالتالي تنفي شبهته وأقواله. 

وآيات نقد اليهود كثيرة، سأختار نماذج عنها فقط، ومنها:

تطاولهم على الله تعالى، يقول عز وجل:(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) [1]

ووصف القرآن اليهود بأكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [2].

ووصفهم بخيانة العهود، قال تعالى: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [3].

ووصفهم بتحريف الكلام، قال تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) [4].

ووصفهم بالإفساد في الأرض، قال تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) [5].

ونقدهم بغلوُّهم في الدِّين، يقول عز وجل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي

(247)

دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)[1].

ثانيًا- نقد شبهة أنَّ الهاجادا مصدر من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب تعبير نولدكه

مقدمة

أشار نولدكه أيضًا إلى شبهةٍ يهوديةٍ أخرى تتعلَّق بالهاجادا؛ إذ ألمح -بتحايل- إليها وأنَّها من مصادر تعليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن، بجملةٍ واحدةٍ فقط، لمَّا قال: «هكذا تشبه قصص العهد القديم الموجودة في القرآن صيغتها المنمقة في الهاجادا أكثر مما تشبه أشكالها الأولى»[2].

فلم يبيّن لنا ما هي الهاجادا؟ وما هي تفصيلاتها؟ وأين نجدها؟! وما الأدلّة على أنّها من مصادر تعليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن؟ ولم يقدِّم مثالًا أو دليلًا واحدًا على ذلك.

فألزمنا طرحه هذا أن نعود إلى تفصيلات الهاجادا العديدة، وأن نبيِّن الشُّبهات حولها توضيحًا ونقدًا، إذ لم أقف على أيِّ بحثٍ أكاديميٍّ منهجيٍّ كُتب ضدّها، والحديث عنها اقتصر على مقالات على الشابكة معظمها عاطفية تُشكر غِيرة أصحابها، لكنّها لم تكن وافية، وليست موثّقةً علميًّا ومنهجيَّا.

وتنبع ضرورة التفصيل بشبهة الهاجادا من أمور عدّة، منها:

عدم توافر معلومات كافيةٍ وواضحةٍ أو منهجيّة عنها. وجهل كثيرين بها

(248)

وبتفاصيلها. وخطورة تصديق الشُّبهة المثارة حولها وخاصّة عند أصحاب الذهن الخالي. وبالنتيجة: ضرورة توفير بحثٍ منهجيٍّ عنها وعن الشُّبهة المثارة حولها لتوضع بين أيدي الأجيال.

ومن خلال الاستقصاء المتنوّع الذي قمت به، لم أجد أيّ بحثٍ علميٍّ منهجيٍّ تخصّص بإثارة هذه الشُّبهة، وما وجدته من المنشور عنها مقالات على الشبكة تتّصف بالعبثيّة والتّضليل والتّزوير، ولا تقف في ميزان العلم والتوثيق، ومع ذلك فإنّها أبحاثٌ تثير قلاقل وتبعث على التّشكيك والظّنّ وخاصّة عند أصحاب الأذهان الخالية كما نوَّهنا.

وبالنّسبة للمؤلَّفات الكاملة (الكتب) عن هذه الشُّبهة، لم أقف إلّا على مؤلَّفٍ واحدٍ[1]، تناول تفصيلات الهاجادا من ناحية محاولة إثبات أنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينقل منها أو يعلِّمه إياها اليهود، فكان مدار الكتاب بأكمله حول إثبات ذلك.

وممَّا يؤسف أنّ مؤلِّفَي الكتاب تلطَّيا خلف اسمين مستعارين، فلم نعرف عنهما إلا أنّهما من التيّار الإلحادي كما تفاخرا بذلك في المقدمة وعلى صفحات الكتاب.

وقد اعتمدا بشكلٍ كاملٍ تقريبًا على كتاب (أساطير اليهود) للويس جنزنبرج، ظانِّين أنَّه جمَّع أساطير الهاجادا في هذا الكتاب.

وقد أفدت من هذين الكتابين من ناحية أنّهما وفَّرا لي أمثلة استطعت أن أستند عليها في نقدي ومناقشاتي، وإلّا على ماذا أستند في ذلك وخاصّة أن نولدكه رمى كلمة واحدة وانسلَّ؟!

ولم تكن قضيّة مناقشة هذه الشُّبهة سهلةً؛ بسبب قلّة المادة العلميّة عنها،

(249)

وصعوبة الحصول على مخطوطات الهاجادا المتناثرة في العالم[1]، وهذا يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ وإلى جهود مؤسّسات لا أفراد، فكان اعتمادي على الأبحاث المنشورة عنها، وعلى ما ذُكر عنها في ثنايا الكتب.

1. ردٌّ ونقدٌ من خلال التعريفات

يُلزمنا هذا البحث الخوض في تعريفاتٍ كثيرةٍ ومتشعِّبة، وكلّها تتعلّق بكتب اليهود وأمثالها، وهي ذات علاقةٍ مباشرةٍ بالقضايا التي نناقشها أو ننقدها، ومن خلالها نستطيع أن نستبين حقائق عديدة نفضي من خلالها إلى حججٍ دامغةٍ تسهِّل علينا رسم الصورة العامة للموضوع.

فالهالاخا: هي الجانب التشريعي لليهود ككل[2]، في مقابل: المدراش: الذي هو الدراسة والوعظ الذي يعتمد دومًا على الاستشهاد بالتوراة وعلى البحث عن المعاني الخفية.

والهاجادا: هي التي تعتمد على الوعظ عن طريق القصص.

ويحتوي التلمود على أشياء هالاخية مختلفة وأخرى هاجادية.

وتحتوي المشناه على هالاخا أكثر من هاجادا، والجمارا فيها من الهاجادا أكثر من الهالاخا[3].

والمشناه: هي مجموعة التعاليم الشفوية التي تطورت منذ بداية القانون العرفي اليهودي المعروف بالهالاخاه، المعارض لقسم المواعظ في الأدب الرباني القديم المعروف بالهاجادا[4].

(250)

وكتب المدراش نوعان: المدراش الهالاخي (المشنوي)، والمدراش الهاجادي[1].

ويقدم مدراش الهاجادا روايات تاريخية أو حكايات أسطورية مطورة بأسلوب أخلاقي توثيقي[2].

ويقول صاحبا الكتاب الإشكالي (أصول أساطير الإسلام من الكتب اليهودية والأبوكريفا)[3] أنَّ مدراشيم الهاجادا: تتضمّن تفاسير وتآويل النّصّ المقدّس، أو التّوسّع عليه بإضافة أساطير جديدة. ويذكرا أنَّ كلمة هاجادا وبالآرامية: أجادة، تعني في الأصل: الإخبار أو التحديث[4].

ويعرِّف لويس جنزبرج[5] الهاجادا بأنها «حكايات شعبيّة، بمعنى أنّها تروق للناس أو للشعب، وفي الوقت ذاته من إنتاج الشعب بصفةٍ أساسيةٍ». ويقول: «ورأى البعض أنّ الهاجادا لا تحتوي على أيّ أساطير شعبيّة، وأنّها نتاج أكاديمي مصطنع بحت»[6].

ويبيِّن جواد علي أنّ المدراش ليست نصوصًا فقط، بل يُطلق أيضًا على المكان، أي موضع العبادة والصلوات[7].

(251)

ونأتي إلى الموسوعة اليهوديّة[1] لنرى أنّها تذكر المدراش الهاجادية، وتقول عنها: «يحتضن مدراش هجادية التفسير أو التوضيح أو التوسع بطريقة أخلاقية أو بنَّاءة، للأجزاء غير القانونية من الكتاب المقدس»[2].

وتخلص الموسوعة للقول: «بالتالي فهو يمثل المحتوى الكامل للجزء غير القانوني من الأدب الحاخامي القديم عند تطبيقه على الكتاب المقدس للإشارة إلى التفسير أو التوضيح أو التوسع بطريقة أخلاقية أو تنويرية، ويتم استخدامه في شكل (مدراش هجادية)»[3].

إذًا، وبحسب الموسوعة اليهوديّة، فإنّ الهاجادا مستمدّة من الكتاب المقدّس ومستندة عليه، وهي تفسير لما فيه وتوضيح أو توسع، وهذا يردّنا إلى الأدلّة المتعلّقة بكون الإسلام مصدِّقًا لما بين يديه من الكتب السماوية السابقة ومهيمنًا عليها وخاتمًا لها.

وهذا الكلام يدحض الادّعاء الذي ورد في كتاب (أساطير الإسلام من الكتب اليهودية متأخرة التلفيق الهاجادا والأبوكريفا)، الذي عرَّف الهاجادا بأنّها: مجموعة القصص الخرافيّة التي أضافها الربيون ضمن شروحهم وتوشياتهم على العهد القديم بقصصه وأساطيره، وأنَّ هذه كلّها أقدم من الإسلام، وبالتالي فإنّ أحد مصادر القرآن هو هذه الخرافات[4].

وتأكيدًا على ذلك تذكر الموسوعة اليهوديّة كلامًا دقيقًا حين تقول: «في حين

(252)

أنّ الهاجادية غالبًا ما تُوسِّع في المادة التاريخيّة للكتاب المقدّس لأغراض خاصّة بها».

وتؤكد: «تأثُّر الهاجادا بشكل كبير بأدب الحكمة في الكتاب المقدس»[1].

إذًا، الهاجادا توسّعت على ما ورد في الكتاب المقدس، وتأثرت بشكل كبير بأدب الكتاب المقدس، وهي القضية الطبيعية للنبوءات السابقة.

وتوضح الموسوعة اليهودية أن العلماء اليهود لما أرادوا تجميع المواد الهاجادية وتحريرها ومراجعتها لم يستطيعوا إلا أن يتّبعوا طريقة ترتيب التفسيرات التفسيرية للنص التوراتي، وأنّها كلّها كانت مرتبطة بأيّ شكلٍ من الأشكال بالكتاب المقدّس في تسلسلٍ نصيٍّ[2].

وهذا كلّه يسهّل علينا الرد على نولدكه، ونحيله إلى فقرة شبهة أخذ الإسلام عن اليهودية.

ونعود إلى الموسوعة اليهوديّة لننظر كيف تفسِّر الهاجادا وتشرحها، تقول: «الكلمات الافتتاحية لهذا الاقتباس هي إعادة صياغة لجملة مشهورة أثنى فيها الهاجاديون القدامى على الهاجادية أنفسهم: إذا كنت ترغب في أن تعرفه من كلامه نشأ العالم، فتعلَّم الهاجادية؛ لأنّه من خلالها ستعرف القدوس، والحمد له، وتتبع طرقه. وبالفعل، فإنّ الهاجادية، باعتبارها تفسيرًا دينيًّا وأخلاقيًّا، تعهد بالتأثير على عقل الإنسان وحمله على أن يعيش حياةً دينيّةً وأخلاقيّةً (حتى يسير في سبيل الله)، ووفقًا لظروف عصرها، لا يمكنها

(253)

ولن تقتصر على التفسير البسيط للكتاب المقدس، ولكنّها تضمّنت في دائرتها المتزايدة باستمرار من المناقشات والتأملات حول نص الكتاب المقدس أسمى أفكار الفلسفة الدينيّة والتّصوّف والأخلاق، فسَّر كلّ الأمور التاريخيّة الواردة في الكتاب المقدس بالمعنى الديني والوطني لدرجة أنّ أبطال الزمن القديم أصبحوا نماذج أوليّة»[1].

وواضح أنّ هذا الشرح فيه إثباتات عدّة:

- فهو يبيّن بوضوح أنّ الهاجادا تعرِّفك بالله الحق وكيف تحمده.

- وهي تفسيرٌ دينيٌّ وأخلاقيٌّ يؤثّر على عقل الإنسان ويدفعه للعيش حياةً دينيّةً وأخلاقيّةً.

- وهي التي تدفعه (حتى يسير في سبيل الله).

- وهي ليست تفسيرًا بسيطًا للكتاب المقدس.

- وهي تفسيرٌ للأمور التاريخيّة الواردة في الكتاب المقدّس بالمعنى الديني والوطني.

- والنّقطة الأكثر سخونةً هي قول الموسوعة: «ولكنها تضمّنت في دائرتها المتزايدة باستمرار من المناقشات والتّأمّلات حول نص الكتاب المقدس»، أي تم الزيادة عليها باستمرار نتيجة نقاشات وتأمُّلات، وهذا ما يبيِّن من أنّ الزيادة على الهاجادا استمر حتى القرن الثالث عشر الميلادي. وهذا يعني مجدّدًا أنَّ مصدر الهاجادا هو الكتاب المقدس، مع احتماليّة أن يكون أحد مصادرها الاطلاع على القرآن الكريم والروايات الإسلامية.

وقد أكَّدت الموسوعة اليهودية عدة مرات أنّ مصدر الهاجادا هو الكتاب المقدس[2].

(254)

بل النقطة الأهم هنا والتي تستحق التأمل قول الموسوعة اليهودية: «وتم العثور على الآثار الأولى للتفسير (midrashic) في الكتاب المقدس نفسه»[1].

إذًا، فهاجادية المدراش مصدرها بحسب النص: الكتب التوراتية، وروح الكتاب المقدس، تم جمعها وجعلها فروعًا بحسب المواضيع.

ويثبت تابوري وتولشكين ما نقول بقولهما: «على الرغم من اقتباس أجزاء من الهاجادية من التوراة...»[2].

وقد أقرَّ العالم اليهودي (زونز) بأنَّ القسم الأول للهاجادا هو تفسير نص الكتاب المقدس[3].

وقد ذكر موقع وزارة (الخارجية الإسرائيلية)كتب اليهود المقدسة رسميًّا، وذكر من ضمنها: الهاجادا[4].

والخلاصة الأساسيّة هنا أنَّ مصدر الهاجادا الأساسي والذي اعتمدت عليه في تفسيراتها وأساساتها هو الكتاب المقدس والتوراة، وإن ما ورد في الكتب السماوية يتشابه في نقاطٍ عديدةٍ، وجاء القرآن الكريم كآخر الكتب السماويّة ليهيمن بصحّته على الكتب السّماويّة الأخرى، وجاء كنصٍّ مكمّلٍ ومصدّقٍ لما

(255)

قبله من الكتب السّماويّة، ومصحّح للتحريف الذي أصابها.

ثم إنّ المنتج الديني كونه كلام الله الموحى به إلى الأنبياء هو منتج واحد وإن تعدّدت رسائله.

2. الهاجادا واعتراف اليهود بها، وأنَّها ليست خرافات بنظرهم

يتبيّن لنا بوضوح، وبعد كلّ التّعريفات والتّمهيدات السّابقة، اعتراف اليهود بالهاجادا وتقديسها، إذ يزعم من أثار هذه الشُّبهة أنَّ الهاجادا إنّما هي كتابٌ يحوي أساطير اليهود، ولا يؤمن به أي يهوديّ في العالم، ومن خلال هذا التّصوّر يقومون بالترويج لشبهتهم التي يدَّعون فيها أنّ القرآن قد أخذ من هذه الأساطير، فهو كتاب أساطير بزعمهم.

لننظر ماذا تقول الموسوعة اليهودية: «هذا الجزء، مع بعض التعديلات الطفيفة، التي ترجع أساسًا إلى إلغاء الذبيحة، بقي في الطقوس الحالية، وتستخدم كلماته الأولية: ماه نشتانة، كاسم الهاجادا»[1]، وقد جاء هذا الكلام بعد الحديث عن طقوس ليلة عيد الفصح، وهذا يدحض أنّ الهاجادا عبارة عن أساطير وخرافات وأنّ اليهود لا يعترفون بها، بل هي جزء من احتفالاتهم الدينيّة الرسميّة الأساسيّة.

والكتاب نفسه الذي يقول أنها خرافات وأساطير يذكر تحت عنوان (هدف الهاجادا): «الكلمات الافتتاحية المقتبسة هنا هي جملة شهيرة امتدح بها العلماء الهاجاديون قديمًا الهاجاده: إن كنت تريد معرفته الذي بكلمته جاء العالم إلى الوجود فعليك بدراسة الهاجادا، لأن بها ستعرف القدوس، مباركًا ليكن، وستتبع سبله».

(256)

ثم يعقب صاحبا الكتاب: «وبالفعل فإنّ الهاجادا كونها تفسيرًا منطلقًا من المنطلقات الفكرية الدينيّة والأخلاقيّة اليهوديّة، تقوم بالتأثير على عقل الإنسان، وتقنعه بالعيش عيشة دينية أخلاقية».

ثم يقول: «وهي تفسر كل التاريخ المذكور في الكتاب المقدس بتفسير ديني قومي بحيث يصير أبطال الزمن الماضي قدواة محتذاة»[1].

فللهاجادا قدسيتها عند اليهود ويتلون منها أثناء عيد الفصح، وتحتوي على صلوات هذا العيد، وتحتوي على الطقوس الدينية التى تستخدم فى عيد الفصح اليهودي[2].

وكثير من الكتب العبرية التي تتحدّث عن عيد الفصح، كانت تُطلق الهاجادا على النص اليهودي المقدس الذي يتناول قصة الخروج عند اليهود، ويُتلى قبل وجبة عيد الفصح[3].

3. متى كُتبت وطُبعت الهاجادا؟

تذكر الموسوعة اليهودية: «إنَّ بدايات الهجادية المكتوبة تعود إلى زمن بعيد جدًا، ولا يُعرف سوى القليل عن طبيعة كتبها، ومن المستحيل تحديد الآثار التي تركوها في أدب المدراش القديم»[4].

(257)

فوفقًا لهذا الكلام نحن أولًا أمام صعوبة في تحديد تاريخ كتابة الهاجادا، ثم أمام استحالة في تحديد الآثار التي تركوها في أدب المدراش القديم.

وتذكر الموسوعة اليهودية تحت عنوان: الهاجادا كتابًا، قضايا مهمّة، منها الحديث عن إضافات على الهادجادا ترقى إلى القرن الثالث عشر الميلادي، تقول: «قد تكون تكلفة المخطوطات باهظة الثمن قد اقترحت في وقت مبكر كتابة طقوس ليلة عيد الفصح في كتاب منفصل، ومع ذلك، لم يكن من الممكن فعل ذلك قبل عصر موسى بن ميمون (1135-1204)، الذي أدرج الهاجادية في شفرته ... والقرن الثالث عشر، وهو الوقت، على الأرجح، عندما تمت كتابة خدمة عشية عيد الفصح بشكل منفصل، حيث لم يرد ذكر للحقيقة في الكتابات السابقة، وعندما تم تجميع مثل هذا المجلد، أصبح من المعتاد إضافة قطع شعرية، وهذا مذكور في (تانيا)؛ وهو ملخص لصدقيا بن أبراهام أناو، المكتوب حوالي عام 1250»[1].

وهذا الكلام يدحض الادعاء الذي ورد في كتاب (أساطير الإسلام من الكتب اليهودية متأخرة التلفيق: الهاجادا والأبوكريفا) أن آخر قصة هاجادية كُتبت سنة 360م[2].

ثم تتحدّث الموسوعة اليهوديّة عن زمن طباعة الهاجادا، فذكرت: «طُبعت أقدم طبعة موجودة في إيطاليا، ربما في فانو، حوالي عام 1505م؛ ولكن لا بدّ من وجود طبعةٍ واحدةٍ على الأقل قد سبقته، ربما كانت تلك مرتبطة بنسخة (تيفيلات يعيد)، سونسينو، 1486م، والتي هي الآن في حوزة إم سولزبيرجر ...

(258)

لكن طبعات البندقية لعام 1609م تحتوي على ترجمات للهاغادا بأكملها»، ثم تقول: «منذ القرن السادس عشر، تم التعليق بشكل متكرر على الهجادية، في الغالب من وجهة نظر بيتي. تحتوي طبعة ويلنا لعام 1892م على 115 تعليقًا. نموذجي في هذا الصدد هو التعليق الهاجادي لآرون تيوميم، في طبعة أمستردام (1694-95)، بعنوان (Ḥilluḳa de-Rabbanan) في العصر الحديث، تم إجراء ترجمات وتعديلات مجانية، بشكل رئيسي بهدف القضاء على الهاجادوت التلمودي الخيالي. هذه هي ترجمات ليوبولد شتاين (فرانكفورت أون ذا ماين، 1841م)، وإتش إم بين (عشية عيد الفصح)، سينسيناتي، 1886م، وموسى، في الطبعة الأولى من كتاب (صلاة الاتحاد)، ص227-257، شيكاغو، 1892م، ومايباوم (برلين، 1893)»[1].

إذن: أقدم طبعة للهاجادا هي عام 1505م!!

وحدثت تعليقات بالعشرات وترجمات وتعديلات وتصحيحات!!

وهذا يعني بشكل أو بآخر أنّ الهاجادا مرَّت بمراحل كثيرة منذ سنة 170 ميلادية حتى القرن الثالث عشر الميلادي، ومرت بتعديلات خلال هذة المدة، فالهاجادا ليست مصدرًا ثابت المحتوى بل كانت مصدرًا متجدّدًا[2].

كيف يمكن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأخذ من الهاجادا أمام وجود الحقائق الآتية؟!

على من يقرأ الحقائق السابقة أن يسأل نفسه هذا السّؤال، وبكلّ الأحوال

(259)

يقول الله تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [1].

ويقول عز وجل: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) [2]

ثم كيف للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأخذ من الهاجادا مع وجود الحقائق الآتية:

- لم يُثبت أحد وجود كتاب مترجم واحد في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

- وكان النبيّ أمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتب، وسنناقش هذه القضيّة في بحثٍ مستقل.

- وإن قيل إنّه تعلَّم مشافهة، فنضع المتوهِّم أمام حقيقتين: الأولى أنّ معظم قصص الأنبياء والأمم السابقة رويت فى السور المكية، مثل حوار سيدنا إبراهيم مع أبيه في سورة مريم المكية، ومثل قصص يوسف ويونس، وغير ذلك.

- والحقيقة الثانية أنّ النّصوص تشير إلى عدم وجود يهود في مكّة، وإن وُجدوا فهم قلَّة قليلة، ولم يكونوا من أهل العلم، وناقشنا هذه الإشكاليّة في بداية هذا البحث.

- ومن الأدلّة العقليّة أنّ القرآن الكريم ذمّ اليهود ومعتقداتهم، ووصفهم بأعداء المؤمنين، وبأنّ الله غضب عليهم، وبأنّهم قتلة الأنبياء، بل واتّهمهم بتحريف الكتاب، فكيف تكون الهاجادا أو اليهوديّة مصدره؟![3].

(260)

- وفي القرآن قصص غير موجودة في العهد القديم وباقي التراث اليهودي وغيره، مثل قصة نبى الله صالح وهامان وزير فرعون وقوم عاد ... .

- وهل يحتوي العهد القديم أو الهاجادا على كلّ القصص منذ بدء الخليقة؟

- لقد تحدّى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله اليهود والنصارى بالقرآن، فكيف سيتحدّاهم إن كانوا هم مصدره؟! وكيف سكتوا عن ذلك؟!

- إن كان النّصّ موجودًا قبل الإسلام فأين المشكلة، الإسلام ختم الرسالات.

- إن كان النّصّ موجودًا بعد الإسلام، فالقضيّة تنتفي.

- كثير من القصص التي يزعمون اقتباسها من التلمود والهاجادا نجدها فى مصادر يهوديّة مكتوبة بعد ظهور الإسلام، أو مصادر يهوديّة تاريخ كتابتها غير معروفٍ بالتحديد، أو مصادر يهوديّة كُتبت قبل الإسلام ولكن استمر التعديل فيها إلى ما بعد ظهور الإسلام.

- إنّ القصص الموجودة -قبل ظهور الإسلام- في المصادر اليهوديّة وغيرها، باعتقادنا هي بقايا علم الأنبياء وهي موجودة في التراث اليهودي، ونحن كمسلمين وكما أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نرى أنّ ما وافق في التراث اليهودى ديننا فهو حقّ، وما عارضه فهو باطل، وما لم يوافقه ولم يعارضه فلا نثبته ولا ننكره.

5. قضيّة دخول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدراش اليهودي

المدراس من أصل درس والمدرس ودارس ومدارس ومدراس، وهي تقابل (درش) في العبرانيّة والسريانيّة. وقد ذكر علماء اللغة أنّ المدارس هي الموضع الذي يُدرس فيه كتاب الله، ومنه مدارس اليهود، وأنّ المدارسة والدارسة القراءة، وأن المدراس هو صاحب دراسة اليهود.

(261)

و(المدراس)، من (مدراش) في العبرانيّة، وتعني المدارسة بالمعنى العام، وخُصّصت بالشروح والتفاسير التي وضعها الأحبار على الأسفار [1].

والخلاصة أنّ المدراس لفظة عبرانيّة الأصل، هي (مدراش Midrash)، وتعني بحثٌ وشرحُ نصٍ. وقد أطلقت على المكان الذي تدرس فيه التوراة، فصار بمثابة المدرسة، يقصده اليهود للتفقُّه فيه والتعلُّم[2].

ونأتي إلى حادثة دخول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدراس، وهي الحادثة التي استشهد بها صاحبا كتاب (أساطير الإسلام ...)، واستدلَّا بها على معرفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بـ (التراث الحاخامي) حسب عبارتهم، وبالهاجادا[3].

وقبل أن ندخل إلى نقد هذا الافتراء غير المستند إلى تحليل صحيح أو استنتاج عقلي منهجي، نقول: إما أن يقبل هؤلاء الرواية بتمامها، أو أن يرفضاها بتمامها، وفي الحالتين تُنقض شبهتهم بأيديهم.

وهل يُعقل أن يُستشهد بحادثة واحدة وبلقاء واحد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مع اليهود للبرهان على أنَّه تعلَّم قرآنًا كاملًا منهم؟!

فبحسب رواية ابن هشام عن دخول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مدراس اليهود، وبحسب تتبع كل المصادر الإسلامية، فإنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل المدراس مرة واحدة، ولغاية محددة كما سيرد في الخبر.

لننظر في هذه الرواية، يقول ابن هشام: «قال: ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيت المدراس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه.

(262)

قالا: فإن إبراهيم كان يهوديًّا. فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: فهلم إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم، فأبيا عليه. فأنزل الله تعالى فيهما: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [1].

فالرواية واضحة لا لبس فيها، والواضح فيها النقاط الآتية:

- دخل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للمدراس إلى اليهود ليدعوهم إلى الله عز وجل، ولا لشيء آخر، وفعل ذلك: «فدعاهم إلى الله».

- حدث بينه وبينهم حوار حول دين إبراهيم، ولمَّا جادلوه طلب أن يكون الحكم بينهم التوراة، فرفضوا ذلك.

- دلَّت هذه الحادثة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدق دعوته، وذلك بذهابه إلى اليهود يدعوهم لدين الله عز وجل.

فترك مثيرا الشُّبهة ما هو واضح في هذه الحادثة وضوح الشمس في رابعة النهار، وذهبا إلى بعيد جدًّا، إلى استنتاج لا يحتمله النص بأي شكل من الأشكال ولا يقبله، ولا يرضى به أي عاقل متزن.

وهل يتصوّر صاحب عقل ورشد أنَّ النبي تعلَّم على اليهود من خلال هذه الحادثة، وهو الذي ذهب يدعوهم إلى دين الإسلام القويم؟! فكيف يستقيم أنّ اليهود والهاجادا مصدر دين محمد وأنّه ذهب بنفسه يدعوهم إلى هذا الدين؟!!

6. مقارنة بين القرآن والهاجادا، الملائكة وآدم والرجم مثالًا

أورد صاحبا كتاب (أساطير الإسلام ...)، ما يأتي: «هنا سوف نورد تفاصيل من حياة آدم لا توجد في التوراة، وهي موجودة في قصص كتابات الهاجادوت،

(263)

استمعها محمد شفويًا من شخص (أو أشخاص) يهودي، ومن ثم ذكرت في القرآن والأحاديث»، ثم يقول صاحبا الكتاب: «هي القصة التي يوردها لويس جنزبرغ في نصوص الهاجادا»[1].

ولم يذكرا متى وأين استمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لهذه القصة، ولم يذكرا مصدرهما أو مصادرهم في ذلك، فعلى أي شيء استندا في هذه (الحقيقة الخطيرة) كما صوَّراها؟!

ونبدأ مع الآيات التي أورداها، يقول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ  وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ  قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ  قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [2].

فيزعم صاحبا الكتاب أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن الكريم اقتبسا تساؤل الملائكة عن استخلاف الإنسان في الأرض من الهاجادا، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله استمع للقصة السابقة من اليهود واقتبس منها.

ومن يدخل في تفاصيل ما ذكره صاحبا الكتاب وما ذكره لويس جنزنبرغ سيجد ما يأتي:

ـ في القصة اليهوديّة اعترض الملائكة على أمر الله تعالى واختلفوا معه في الرأي، فأهلكهم، وذلك في نص الهاجادا الآتي: «وبالنسبة لعدد غير قليل من الملائكة أتت معارضتهم بعواقب مميتة، فعندما استدعى الرب طائفة الملائكة

(264)

تحت قيادة الملك ميكائيل وسألهم ... وعندها فرد الرب إصبعه فاحترقوا جميعًا بالنار ما عدا رئيسهم ميكائيل»[1].

فأين الاقتباس في القرآن؟ فالقصّة في الهاجادا تشير إلى أنّ الله عز وجل استشار الملائكة، فاعترضوا، فعاقبهم بالموت حرقًا.

أما في القرآن الكريم، فإنّ الله يُعلِّم ملائكته، ولمَّا لم تفهم الملائكة حكمة الله تعالى من خلق الإنسان، وسألوا سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة من ذلك، قال لهم: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، وبيَّن لهم حكمته بتجربة عملية[2].

والتّعليل هنا أنّ اليهود لديهم بقايا علم الأنبياء، وقد يمزجوا ما لديهم بالخرافة، فما جاء في القرآن وأحاديث النبي موافقًا لما لديهم فهو الحقّ، وما لم يأت كذلك، فهو غير صحيح، فحادثة الملائكة هنا تم إسقاطها من التوراة، ثم حُرِّفت في الهاجادا والأبوكريفيا، ثم جاءت في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بيضاء نقية.

ونأتي إلى حادثة الرجم، وهي من أوضح الحوادث التي تدل أن اليهود كانوا يعلمون صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وصدق الأحكام الإسلاميّة، والاختلاف بين أحكامهم وأحكام الإسلام والقرآن، وتوافق أحكام القرآن مع أحكام التوراة غير المزوّرة، وهذا يُقاس على الهاجادا، وتدلّ هذه الحادثة في الوقت نفسه على أنَّهم كانوا يعلمون صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويعلمون في الوقت نفسه أنهم حرَّفوا التوراة.

فيذكر ابن هشام عن ابن إسحاق تحت عنوان: (رجوعهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حكم الرجم) ما يأتي: «قال ابن إسحاق: ... إنَّ أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس، حين قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من يهود قد أحصنت، فقالوا: ابعثوا بهذا الرجل وهذه المرأة إلى محمد، فسلوه كيف الحكم فيهما، وولوه الحكم عليهما، فإن عمل فيهما بعملكم من

(265)

التجبية -والتجبية: الجلد بحبل من ليف مطلي بقار، ثم تسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين، وتجعل وجوههما من قبل أدبار الحمارين- فاتبعوه، فإنما هو ملك، وصدِّقوه، وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنّه نبيّ، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه. فأتوه، فقالوا: يا محمد، هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم فيهما. فمشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أتى أحبارهم في بيت المدراس فقال: «يا معشر يهود أخرجوا إليَّ علماءكم». فأخرج له عبد الله بن صوريا ... فسألهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، حتى حصل أمرهم، إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة ...

فخلا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وكان غلامًا شابًّا من أحدثهم سنًّا، فألظَّ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المسألة، يقول له: «يا ابن صوريا، أنشدك الله وأذكرك بأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟». قال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك لنبي مرسل ولكنهم يحسدونك. قال: فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، فأمر بهما فرُجما عند باب مسجده في بني غنم بن مالك بن النجار.

ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، وجحد نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال ابن إسحاق: فأنزل الله تعالى فيهم: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) [1]، أي الذين بعثوا منهم من بعثوا وتخلفوا، وأمروهم بما أمروهم به من تحريف الحكم عن مواضعه. ثم قال: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ[2] فَاحْذَرُوا) [3]، إلى آخر القصة[4].

(266)

قال ابن إسحاق: ... لمَّا حكَّموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  فيهما، دعاهم بالتوراة، وجلس حبر منهم يتلوها، وقد وضع يده على آية الرجم، قال: فضرب عبد الله بن سلام يد الحبر، ثم قال: هذه يا نبي الله آية الرجم، يأبى أن يتلوها عليك. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: «ويحكم يا معشر يهود! ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو بأيديكم؟». قال: فقالوا: أما والله إنه قد كان فينا يعمل به، حتى زنى رجل منا بعد إحصانه، من بيوت الملوك وأهل الشرف، فمنعه الملك من الرجم، ثم زنى رجل بعده، فأراد أن يرجمه، فقالوا: لا والله، حتى ترجم فلانًا، فلما قالوا له ذلك اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية، وأماتوا ذكر الرجم والعمل به. قال: فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: «فأنا أول من أحيا أمر الله وكتابه وعمل به»، ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده. قال عبد الله بن عمر: فكنت فيمن رجمهما[1].

7. تراث متواتر على الألسنة أُوحي به في زمن الأنبياء، ثم أتى عليه القرآن بالصورة الصحيحة، حادثة أصحاب الكهف مثالًا

من التّحليلات التي يمكن أن نُوصِّف بها الحالة التي نتحدّث عنها: أنَّ التّراث المتوارث بين الشعوب والأمم والأقوام لا ينكره أحد، ومنه التراث الذي كان تراثًا تاريخيًّا موجودًا في المشرق، فهو متواتر منذ عصور، وموجود عند أقوام عدّة: عند اليهود وعند السريان وعند العرب، فإذا سرى مسرى النّصّ المقدّس في وقت من الأوقات، فهذا يعني أنّه ليس بنصّ منقولٍ عن نصّ مكتوب بلغة أخرى هي العبرية، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قطعًا لم يكن يعرف العبريّة، والقول إنَّ اليهود كانوا يترجمون له عشرات أو مئات المقاطع أمر مستحيل، لا هم يرضون بذلك، ولو فعلوا لتكلموا بذلك، فليأتنا من يتكلّم بهذه الشُّبهة عن رواية عن ذلك ولو مكذوبة.

كل البشر يعلم أنّ اليهود ليس لديهم هذا الكرم الأخلاقي، ولا يوجد أيّ عاقل يقبل بهذا الطرح، لا اليهود ولا غيرهم ...

(267)

فهذا تراث شفاهي موجود آنذاك شفاهة فقط، قد يكون قد سجل في بعض الأحيان لدى السريان أو اليهود أو النصارى، لكن ليس معنى ذلك أنّ مصدره بشريّ فقط، بل أُوحي بهذا الكلام في بعض الأزمنة، فهناك أنبياء قبل رسول الله وقبل عيسى و...

وهذا تراث موجود، وتسجيله في الهاجادا أو المدراش لا يعني أنه موجود حصرًا في هاجادا المدراش أو هاجادا التلمود.

وهو تراثٌ موجودٌ، لكنّه تراثٌ شفاهيٌّ، ولما جاءت الآيات الكريمة -بسورة الكهف مثلًا- لتتحدّث عن هذه الحادثة بخصوص العبد الصالح، فهي عبارة عن استحضار لهذه الحادثة التي كانت موجودةً في التراث الشّفوي، لكنّها حُرِّفت هنا وهناك، ثم جاءت بصورتها الصّحيحة في القرآن الكريم.

وكان هذا التّراث الشّفويّ موجودًا في المشرق العربي بأجنحته الثقافيّة الثلاثة: العربيّة والسريانيّة واليهوديّة. ثم حُرِّف على الألسنة عبر العصور، فجاء عند العرب بشكل وعند السريان بشكل وعند اليهود بشكل آخر، فجاء القرآن ليكون هو الأصح والأدق، ومن هنا جاءت بعض التشابهات.

وقد أكَّد ابن خلدون على تبادل الثّقافات بين الأقوام، ثم ذكر التّحري عنها وتدقيقها عند المسلمين[1].

وقد أثبت جواد علي أنَّ أخذ الشعوب واقتباسها من بعضها البعض، من القضايا التي لا يمكن أن ينكرها إلا المعاندون الجاهلون المتعصبون[2].

ويثير جواد علي قضيّةً مهمّةً، وهي من جوهر مناقشتنا ونقدنا، فيذكر أنَّ العرب كانوا شعبًا ساميًّا، كاليهود في اصطلاح العلماء، وتشترك البطون السّامية في كثير من أصول التّفكير والعقيدة، ومعنى هذا أن ما نجده عند يهود قد

(268)

يكون عند العرب وعند غيرهم ممن يدخلهم المستشرقون في هذه الزمرة، فلم كل شيء ليهود، ونحكم على أنّ الجاهليين قد أخذوه منهم، ولا نقول إنّ هذا من ذلك التراث القديم الموروث؟

هذا ولا بد بالطبع من أن يتأثّر الجاهليون المجاورون لليهود بعض التأثر بهم، بأن يأخذوا منهم بعض الأشياء ويتعلّموا منهم بعض الأشياء التي تنقصهم والتي هم في حاجةٍ ماسةٍ إليها، فذلك أمر لا بد منه، كما ولا بد وأن يكون اليهود قد اقتبسوا من جيرانهم العرب، وعملوا على محاكاتهم في حياتهم الاجتماعيّة، لا سيما وبينهم يهود من أصول عربية[1].

ويحقّ لنا أن نسأل هنا: من المؤثِّر في الآخَر بداهة؛ الأغلبية أم الأقلية؟؟ ومن المتأثِّر من الآخَر بداهة؛ الأغلبيّة أم الأقليّة؟؟

وما سأذكره الآن -من خلال جواد علي- يدلّ على تبادل الأمم للتراث والأخبار والثقافات، ومنهم السريان مثلًا، فوردت عندهم قصصٌ ومروياتٌ مشتركةٌ في السياق العام ومختلفة ببعض النّقاط والتّفاصيل، ثم جاء القرآن فأثبت بعضها، وبشكله الصّحيح.

فحين حديثه عن تدوين التأريخ الجاهلي، لا ينكر جواد علي مجهود المستشرقين في تدوين التأريخ الجاهلي وفي كتابته بأسلوب حديث، يعتمد على المقابلات والمطابقات ونقد الروايات والاستفادة من الموارد العربيّة والأعجميّة، وأنَّهم أفادوا مما جاء عن العرب في التوراة وفي التلمود وفي الكتب اليهوديّة، كما أفادوا مما جاء عن جزيرة العرب وسكانها في الكتابات الأشوريّة والبابليّة ومن الموارد الكلاسيكيّة والمؤلفات النّصرانيّة سريانية ويونانية ولاتينية؛ فأضافوا كلّ ما تمكّنوا من الحصول عليه في هذا الباب إلى ما ورد في الموارد الإسلاميّة عن الجاهليين، فصحّحوا وقوَّموا، وسدُّوا بهذه المواد بعض الثلم في التأريخ الجاهلي.

(269)

وقد تمكّنا بالاستناد إلى ما أنتجه المستشرقون من الحصول على أخبار دول وأقوام عربية لم يرد لها ذكر في الموارد الإسلاميّة؛ لأنّ أخبار تلك الدول وأولئك الأقوام كانت قد انقطعت وطمست قبل الإسلام؛ فلم تبلغ أهل الأخبار.

وقد ساعد المستشرقون في شرح الكتابات الجاهليّة وتفسيرها لعلمهم بلغاتٍ عديدةٍ، مثل اللغة العبرانيّة والسريانيّة والبابليّة، فإنّ في هذه اللغات ألفاظًا ترد في تلك الكتابات بحكم تقاربها واشتراكها في هذه الثقافة المتقاربة التي نسميها (الرابطة السامية)، كما أنّ فيها أفكارًا وآراء ترد عند المتكلّمين بهذه اللغات، ولهذا صار في الإمكان فهم ما ورد في الكتابات الجاهليّة بالاستعانة بتلك الأفكار والآراء[1].

ونأتي إلى حادثة أصحاب الكهف، كمثال عن تداول الأمم للقصص؛ إذ جاءت الآيات الكريمة بسورة الكهف استحضارًا لهذه الحادثة التي كانت موجودةً في التّراث الشّفوي، لكنها حُرِّفت هنا وهناك، ثم جاءت بصورتها الصّحيحة في القرآن الكريم.

فهي حادثةٌ موجودةٌ في تراث العديد من أهل المشرق، وليست مما تفرَّدت به الهاجادا أو غيرها.

إنّ قصّة الفتية ظهرت مقدّسة لورودها في تراث العديد من الأمم أو الحضارات، فهي مثلًا تشبه قصة (النيام السبعة) في التراث الديني السرياني واليهودي واليوناني والمسيحي القديم[2].

ويذكر الأب لويس شيخو قصة أصحاب الكهف من ضمن التراث الرومي البيزنطي المسيحي، وأنهم كانوا في مدينة أفسوس، وأن ذلك جرى سنة 251م[3].

(270)

وفي التّفاسير الإسلاميّة ذهب بعض علماء التفسير إلى أنَّ الرقيم واد دون فلسطين فيه الكهف، وهو قريب من (أيلة)، وكان اليهود قد أوحوا إلى المشركين من أهل مكة، أن يسألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم، امتحانًا له، وكانوا يتداولون أخبارهم، ويروون قصصًا عنهم، كان شائعًا فاشيًا إذ ذاك بين النصارى أيضًا، فجاء الجواب عنهم في سورة الكهف[1].

ويقول الطبري بعد أن استعرض أقوالًا عن المقصود بالرقيم: «وأولى هذه الأقوال بالصّواب في الرقيم أن يكون معنيًّا به: لوح، أو حجر، أو شيء كتب فيه كتاب ... فيه أسماء أصحاب الكهف وخبرهم ...»[2].

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «الرقيم واد بين عسفان وأيلة دون فلسطين، وهو قريب من أيلة»[3].

ومما نقل ابن كثير من الأقوال أنَّهم قريب من أيلة أو عند نينوى أو ببلاد الروم أو ببلاد البلقاء[4].

وذكر ياقوت الحموي: «أفسوس بلد بثغور طرسوس، يقال: إنه بلد أصحاب الكهف»[5].

واختلفوا في زمانهم اختلافًا كثيرًا.

وهناك من زعم أنّ الرّقيم على فرسخ من عمان، أو قرية صغيرة بالقرب من البحر الميت، أو أنّها البتراء، وذهب باحثون إلى أنّ كهف أهل الكهف هو (كهف الرجيب)، وهو على مقربة من قرية صغيرة تدعى (الرجيب)، وجدت

(271)

بداخله مدافن يرجع عهدها إلى زمان القيصر ثيودوسيوس الثاني Theodosius II (408 – 450م)، الذي كان في زمانه بعث أهل الكهف، وذهبوا إلى أنّ اسم هذا الموضع في القديم هو (الرقيم)، تحوَّل إلى (الرجيب) فيما بعد[1].

8. أخذ الجاهليين القصص عن الأمم التي سبقتهم، وليس عن اليهود فقط، ووصف القرآن أهل الكتاب بالجهل

كما أشرنا أعلاه: من البديهي أخذ الأمم عن بعضها البعض، فلماذا يُسلِّط أصحاب الشُّبهة الضوء على الأخذ عن اليهود فقط ويقصرون ذلك عليهم؟!

ونشير بداية إلى أنَّ نولدكه ردَّ ما ذهب إليه شبرنكر[2] من وجود (صحف إبراهيم) عند الجاهليين، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأها وأخذ منها، وحجته في ذلك أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لو فعل ذلك فيكون «قد كشف للعالم عن مصادره بنزق»[3]، يقصد أنّ القرآن ذكر هذه الصحف.

ولم يقبل نولدكه ما ذهب إليه شبرنكر من أنّ النّبيّ قرأ كتابًا في العقائد والأساطير، وقد زعم أنّ اسم هذا الكتاب هو (أساطير الأولين)، وقد أخذ رأيه هذا من الآية: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [4]. وهذه السورة هي من السور المكية[5].

ولعلنا نذهب إلى ما ذهب إليه جواد علي من أن الأساطير (وهي الأباطيل والأكاذيب والأحاديث التي لا نظام لها)، قد أخذها الجاهليون (وليس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله) من الروم وغيرهم قبل الإسلام، واستعملوها بمعنى تأريخ وقصص.

ولم يستبعد جواد علي وجود الكتب التأريخية باليونانية وباللاتينية في

(272)

مكة، فقد كان في مكة وفي غير مكة رقيق من الروم، كانوا يتكلمون بلغتهم فيما بينهم وينطقون بها إذا تلاقوا، كما كانوا يحتفظون بكتبهم المقدسة، وبكتب أخرى مدوَّنة بلغتهم[1].

وورد في كتب أهل الأخبار أنّ الأحناف كانوا يقرؤون الكتب، وفي التوراة والإنجيل، ومنهم من وقف على لغة (بني إرم) وعلى العبرانيّة. ومن هؤلاء: ورقة بن نوفل، وكان قد «قرأ الكتب وتبحر في التوراة والإنجيل»[2]، وهو الذي لقيته خديجة في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله [3].

وورد في بعض التفاسير في تفسير الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [4]، أنها نزلت في النضر بن الحارث[5]، لأنه اشترى كتب الأعاجم: رستم وإسفنديار، فكان يجلس بمكة ويُحدِّث القصص، وذكرنا حادثته مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في بداية هذا البحث[6].

ويرجح جواد علي رجوع الحارث بن كلده الثقفي، أو ابنه النضر، وهما من العلماء بالطب، إلى مؤلفات في الطب كانت مدوَّنة بلغة من اللغات الأعجميّة، ويُستبعد جهلهما بمؤلفات أبقراط وجالينوس وغيرهما ممن بنوا صنعة الطب،

(273)

ووضعوا فيها المؤلفات. ولا يعتقد جواد علي أنّ رجالًا في مكة أو في يثرب أو الطائف كانوا على جهل بأسماء مشاهير حكماء اليونان، وبينهم من كان له اتصال ببلاد الثقافة والعلم وبالأجانب[1].

ونأتي إلى وصف القرآن لأهل الكتاب بالجهل؛ إذ حكى عنهم (خاصَّة اليهود) أنهم كانوا يقولون أمورًا هي ليست من الكتاب، وحكى أنَّهم لا يعلمون من كتاب الله شيئًا.

فكيف ذهب أهل الشُّبه أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تعلَّم منهم الهاجادا وغيرها؟!!

ففي تفسير ابن كثير، عن ابن جريج عن مجاهد: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [2]، قال: «أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا، وكانوا يتكلَّمون بالظَّن بغير ما في كتاب الله، ويقولون: هو من الكتاب، أماني يتمنونها. وعن الحسن البصري، نحوه.

وقال أبو العالية، والربيع وقتادة: «إِلَّا أَمَانِيَّ» يتمنون على الله ما ليس لهم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «إِلَّا أَمَانِيَّ» قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب. وليسوا منهم»[3].

وقد وصف القرآن الكريم بعض الأحبار بالعلم، ورمى أكثرهم بالجهل، أما السواد الأعظم منهم، فقد جعلهم عامة تتبع أقوال رجالها، فلا علم لها ولا معرفة بأمور الماضين أو الحاضرين[4].

وفي تفسير الرازي: «اعلم أن المراد بقوله: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) : اليهود ... وهم العامة الأُمِّيُّون الذين لا معرفة عندهم بقراءة ولا كتابة وطريقتهم التقليد وقبول ما يقال لهم»[5].

(274)

الخاتمة والنتائج

ـ يتَّضح لمن يقرأ ما كتبه نولدكه عن شبهة أنَّ اليهوديّة والهاجادا مصدر من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنَّه كان مضطربًا وغير واثق من معلوماته، لذلك أوقع نفسه في متناقضات جعلته يثبت أحكامًا ثم ما يلبث أن ينفيها أو يُشكِّك بها، فظهر غير متصوِّر لكامل الموضوع الذي يحكم عليه.

ـ ونستطيع أن نتَّهم نولدكه بالإخلال بالأمانة العلميّة، إذ اكتفى بذكر ما يقوله المفترون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على أنَّه إثباتٌ على تلقِّيه على اليهود شفويًّا، وحذف الجواب من الله عز وجلَّ بعد توصيف الحالة التي تحدّث عنها.

ـ واتّصف نولدكه بالتَّردّد، فباتت هذه الصّفة سمةً في شخصيّته وكتاباته، وهذا يظهر في هذا البحث وفي الأبحاث الأخرى بوضوح، بل إنَّ أوّل مؤلَّف له والمعنون: حول نشوء وتركيب السور القرآنيّة، الذي أنجزه عام 1856م، وعُدَّ أطروحة للدكتوراه، حكم عليه هو نفسه بأنَّه غير ناضج، لذلك قام بالتعديل عليه ليظهره بعنوان جديد هو: تاريخ القرآن، وهو الكتاب الذي نقوم بنقده[1].

ـ ثم إنَّ نولدكه صرَّح قبيل وفاته بتصريح يدلّ على الاضطراب الذي اتّصف به كتابه، حين قال: «إذا كان من ندم فلأنّني درست علومًا لم أظفر منها في النهاية بنتائج حاسمة قاطعة»[2].

ـ ومن الطرق التي اتبعناها في نقض شبهة نولدكه إثبات ما أثبته ديننا في أصل التعامل مع أهل الكتاب؛ بأن لا نصدِّقهم ولا نكذبهم، وأنَّ القرآن صرَّح بوجود التّشابه بين ما أنزله الله على الأنبياء وبين ما أنزله على خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله، فوحدة المصدر الإلهي تستلزم وجود التّشابه، لكن هذا التّشابه ليس مطَّردًا، فثمة فروق واختلافات في الموضوعات والتكوين وغيرهما.

ـ ولا تذكر الأخبار التاريخيّة أنَّ اليهود كتبوا أو رووا شيئًا عن أحداث لهم مع

(275)

المسلمين، فلم تصل إلينا منهم أيّ كتابة عن علاقتهم بالإسلام وبالمسلمين، وهذا دلّ دلالةً قاطعةً على أنّ اليهود في بلاد العرب كانوا منقطعين تمام الانقطاع عن بقيّة أبناء جنسهم في جهات العالم، وهذا يعني استحالة وصول أساطير اليهود في التلمود ونصوصه والأساطير الأخرى إلى عرب الجزيرة العربية.

ـ ولم يكن سواد يهود الجاهليّة على علم بالكتابة وبالقراءة، بل كان هذا السواد جاهلًا حتى بأمور دينه وشريعته، لذلك لم يظهر فيهم من نال شهرة في العلوم.

ـ وأثبتت قصة النضر بن الحارث أنَّه لم يكن بمكة أحد من اليهود أصحاب العلم، لذلك أرسل القريشيون النَّضر وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ليسألوهم عن النبي وصفته وخبره وليمتحنوه.

ـ ولما هاجر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة تعاهد مع اليهود في صحائف كُتبت لهم، فلم تكن علاقات اليهود مع المسلمين سيئة في الأيام الأولى، ثم بدأت خصومة اليهود للإسلام كخصومة فكرية، ثم تطورت إلى معارك وحروب، ومع ذلك وجدنا أنَّ اليهود وساداتهم الذين عادوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والدعوة الإسلاميّة لم يتكلّموا بالشُّبه التي يتكلَّم بها من يتكلَّم، وإنما كان لعداوتهم أسباب ذكرناها.

ـ ومع أنَّ اليهود عمدوا إلى توجيه أسئلة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لإحراجه ولإظهار فساد دعوته بزعمهم، وحدث بين الطرفين جدل ومحاججات، إلَّا أنَّهم لم يقولوا إنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ عنهم، ولم يأت على ألسنتهم الشُّبهة التي أثارها نولدكه.

ـ ويرتبط بذلك أنّ عددًا من اليهود دخلوا في الإسلام، كعبد الله بن سلام وعدد من عائلته، ومخيريق النضري، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وزوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صفية بنت حيي بن أخطب، وعشرات من أمثال هؤلاء الذين لم ترد هذه الشُّبهة على ألسنتهم، ولو كان لها أي أثر لظلوا على ديانتهم اليهودية فهي بذلك أولى بالاتباع.

ـ وثبت بطلان ادّعاء نولدكه بأنّ شهادة التوحيد في الإسلام (لا إله إلا الله)

(276)

مستقاة من عبارة يهودية، وتبين أنَّه ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بالشهادة الإسلاميّة.

ـ وظهر لنا التباين الكبير في أهم مسألة كان يفترض أن ينقلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الكتاب المقدّس لو كان هو مصدره، وهي مسألة الإيمان بالله تبارك وتعالى.

ـ وظهر زيف ادّعاء نولدكه بأنَّ آياتٍ قرآنيّةً اقتُبست حرفيًّا من العهد القديم، مثلما ورد في سورة الأنبياء، الآية 105، وهي -برأيه- تطابق ما ورد في المزمور.

ـ ولقد ثبت تأثُّر اليهود والتوراة بمن حولهم، وثبوت التأثير الخارجي على الفكر الديني اليهودي منذ القدم، وذلك نتيجة للتراث المتوارث بين الشّعوب والأمم والأقوام، فالجميع كان يتناقل قصصًا أو ما شابه، لكن أصحاب الشُّبه جعلوا الإسلام والقرآن وخاتم الأنبياء وحدهم الذين نقلوا هذه القصص عن اليهود وغير اليهود.

ـ وتبيَّن بوضوح ذِكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتب اليهود والمسيحيين، ففي التوراة والإنجيل عشرات النصوص والدلائل الواضحة التي تشير إلى مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفاته وأخباره.

ـ وورد في القرآن الكريم آيات كثيرة فيها نقد شديد لليهود، وهي بالتالي تنفي شبهة نولدكه وأقواله.

ـ وأشار نولدكه من ضمن شبهة اليهودية إلى شبهة أخرى تتعلَّق بالهاجادا، وأنَّها من مصادر تعليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن، ولكنه لم يبيّن لنا أيّ شيء أو تفصيل عنها، ولم يبسط أدلّته في شبهته عنها، مما يعني أنَّ طرحه ابتعد عن المنهجيّة والعلميّة.

ـ ولم يتوفَّر أيِّ بحثٍ أكاديميٍّ منهجيٍّ عن الهاجادا، فلم نجد أيّ بحثٍ منهجيٍّ تناولها كمصدر من مصادر تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب ادعاء نولدكه، ولم نجد أيّ بحثٍ منهجيٍّ دحض هذه الشُّبهة، وبالتالي لم تتوافر معلومات كافية وواضحة أو منهجيّة عنها.

ـ ووقفنا على مؤلَّف واحد فقط تناول تفصيلات الهاجادا من ناحية محاولة

(277)

إثبات أنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينقل منها أو يعلِّمه إياها اليهود، فكان مدار الكتاب بأكمله حول إثبات ذلك، وقد اعتمد هذا الكتاب بشكل كامل تقريبًا على كتاب (أساطير اليهود) للويس جنزنبرج، ظنًّا أنَّه جمَّع أساطير الهاجادا في هذا الكتاب.

ـ فلماذا لم ينتبه علماء وفقهاء ومفسّرو وحاخامات اليهود إلى شبهة الهاجادا، ولماذا لم يفطنوا لها أو يقولوا بها؟! فلو كان في هذه الشُّبهة رائحة حقيقة لأشبعوها بحثًا وشرحًا، لكن أي من ذلك لم يحدث، بل حدث أن تأثَّروا هم بالإسلام وعلمائه.

ـ ولو نظرنا في المؤلَّفات التخصُّصيّة (وليس الأبحاث المتناثرة هنا وهناك) فلن نجدها تثير شبهة الهاجادا، وأوضح مثال عنها الكتاب التفصيلي الذي أصدره المؤرِّخ اليهودي إسرائيل ولفنسون، وأفرده للحديث عن اليهود وتاريخهم في الحقبة التي نتكلم عنها وأثيرت الشُّبهة فيها.

ـ تبيّن لنا وبحسب الموسوعة اليهودّية والمصادر اليهودية أنَّ الهاجادا مستمدّة من الكتاب المقدس ومستندة عليه، وهي تفسير لما فيه وتوضيح أو توسع، وأنَّها من كتب اليهود المقدسة رسميًّا، ولها قدسيتها عند اليهود ويتلون منها أثناء عيد الفصح، وتحتوي على صلوات هذا العيد، وتحتوي على الطقوس الدينية التى تستخدم فى عيد الفصح اليهودي، وهذا يدحض الادعاء بأنّها مجموعة قصصٍ خرافيّة، وأنّ القرآن استقى منها هذه الخرافات.

ـ وأظهرت المصادر اليهوديّة صعوبة تحديد تاريخ كتابة الهاجادا، وأنَّه تم الزيادة عليها باستمرار نتيجة نقاشات وتأمُّلات، واستمرّ ذلك حتى القرن الثالث عشر الميلادي، وهذا يعني أنّ الهاجادا مرَّت بمراحل كثيرة منذ سنة 170 ميلادية حتى القرن الثالث عشر الميلادي، ومرت بتعديلات خلال هذة المدة، وأنَّها ليست مصدرًا ثابتَ المحتوى، بل كانت مصدرًا متجدّدًا. وهذا كلّه يدحض الادّعاء الذي يقول إنَّ آخر قصة هاجادية كُتبت سنة 360م.

ـ إنَّ مصدر الهاجادا الأساسي والذي اعتمدت عليه في تفسيراتها وأساساتها هو

(278)

الكتاب المقدس والتوراة، وبالتالي فإنَّ المنتج الديني كونه كلام الله الموحى به إلى الأنبياء هو منتج واحد وإن تعدّدت رسائله، مع الانتباه إلى ضوابط هذا التشابه.

ـ وبالتالي فإنّ الأدلّة التي تمّ من خلالها رد شبهة أنَّ اليهوديّة كمصدر من مصادر تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، تنطبق هنا على رد شبهة الهاجادا.

ـ حمَّل أصحاب الشّبهة حادثة دخول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للمدراس اليهودي ما لا تحتمل، فهي حدثت لمرة واحدة فقط، ولغاية ظاهرة هي دعوة اليهود إلى الله عز وجل، ولمَّا جادلوه طلب أن يكون الحَكم بينهم التوراة، فرفضوا ذلك.

ـ فترك أصحاب الشُّبهة ما هو واضح في هذه الحادثة، وذهبوا إلى استنتاج لا يحتمله النص ولا يرضى به أي عاقل متزن.

ـ ومن أمثلة نصوص الهاجادا التي زعم أصحاب الشُّبهة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن الكريم اقتبسا منها: تساؤل الملائكة عن استخلاف الإنسان فى الأرض، ففي الهاجادا: الله يستشير الملائكة، فيعترضون ويخالفون، فيهلكهم حرقًا بالنار. وفي القرآن الكريم: يخبر الله عز وجل ملائكته، وعندما لم يفهموا المراد يوقفهم، ثم يبين لهم حكمته بتجربةٍ عمليةٍ.

ـ فالفروق واضحةٌ بين القرآن والهاجادا، والواضح في هذه القصّة أنَّ اليهود لديهم بقايا علم الأنبياء، وقد يمزجوا ما لديهم بالخرافة، فحادثة الملائكة هنا تمّ إسقاطها من التوراة، ثم حرِّفت في الهاجادا، ثم جاءت في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بيضاء نقية.

ـ وتُظهر حادثة (الرجم) أنَّ اليهود كانوا يعلمون صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وصدق الأحكام الإسلامية، والاختلاف بين أحكامهم وأحكام الإسلام والقرآن، وتوافق أحكام القرآن مع أحكام التوراة غير المزورة، لذلك رجعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حكم الرجم.

ـ إنَّ التراث المتوارث بين الشّعوب والأمم والأقوام لا ينكره أحد، ومنه التراث الذي كان تراثًا تاريخيًّا موجودًا في المشرق، فهو متواتر منذ عصور، وموجود عند

(279)

أقوام عدّة: عند اليهود وعند السريان وعند العرب، فإذا سرى مسرى النص المقدس في وقت من الأوقات، فهذا يعني أنّه ليس بنصٍّ منقولٍ عن نصٍّ مكتوب بلغةٍ أخرى هي العبرية. فهذا تراثٌ شفاهيٌّ موجودٌ آنذاك شفاهة فقط، قد يكون قد سجل في بعض الأحيان لدى السريان أو اليهود أو النّصارى، لكن ليس معنى ذلك أنّ مصدره بشريًّا فقط، بل أُوحي بهذا الكلام في بعض الأزمنة، فهناك أنبياء قبل رسول الله وقبل عيسى و...

ـ وهذا تراثٌ موجودٌ، وتسجيله في الهاجادا أو المدراش لا يعني أنّه موجودٌ حصرًا في هاجادا المدراش أو هاجادا التلمود.

ـ وهو تراثٌ موجودٌ، لكنّه تراث شفاهيّ، ولما جاءت الآيات الكريمة -بسورة الكهف مثلًا- لتتحدّث عن هذه الحادثة بخصوص العبد الصالح، فهي عبارة عن استحضار لهذه الحادثة التي كانت موجودة في التراث الشفوي لكنها حُرِّفت هنا وهناك، ثم جاءت بصورتها الصحيحة في القرآن الكريم.

ـ وقد أكَّد ابن خلدون على قضية تبادل الثقافات، وتكلَّم عن التّحري عنها وتدقيقها عند المسلمين.

ـ وثبت بالتالي أخذ الجاهليين القصص عن الأمم التي سبقتهم، وليس عن اليهود فقط.

ـ وصف القرآن الكريم بعض أحبار اليهود بالعلم، ورمى أكثرهم بالجهل، أما السواد الأعظم منهم، فقد جعلهم عامة تتبع أقوال رجالها، فلا علم لها ولا معرفة بأمور الماضين أو الحاضرين.

ـ وكل هذه الإثباتات وغيرها تجعل من شبهة نولدكه مجرّد زوبعة في كستبان، ولا يمكن أن يقبلها أي صاحب عقل بمن فيهم نولدكه نفسه الذي لم يحسم المسألة بحسب تصريحاته الواضحة.

(280)

المبحث الثاني: نقد شبهة المسيحيّة والليتورجيا والصابئة والأحناف وبحيرى

تمهيد

ساق نولدكه قضايا عدّة عن شبهة المسيحيّة، وأنّها مصدرٌ من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وربط بذلك قضايا أخرى تتعلّق بذلك: كالليتورجيا والصابئة والأحناف وبحيرى.

ولعلَّ نولدكه لم يدرس الأديان كما ينبغي، ولم يقف على ثراء موضوعات القرآن وخلوّه من الأخطاء العلميّة، وتوافقه التام مع المعطيات العلميّة الحديثة، ولو قارن ذلك بالتوراة والإنجيل مثلًا، لوجد أنَّهما مع قلّة موضوعاتهما فإنَّهما يضمان أخطاء علميّة كثيرة وفاحشة.

فهو إمَّا يجهل أو يتجاهل هذه الحقائق، لذلك لم يستند في شُبَهه على حقائق، وإنّما على تكهُّناتٍ وتخرُّصاتٍ وتخيُّلاتٍ، وبدا غير متصوِّر لكامل الموضوعات التي دفعنا إلى مناقشتها ونقضها. بكلّ الأحوال سنناقش كلّ شبهة من هذه الشُّبه بفقرةٍ مستقلةٍ، مع التّنبيه إلى اندراجها تحت عنوان شبهة المسيحيّة، لذلك جعلناها في بحث واحد. وسيكون لكلّ شبهة مقدّمتها الخاصّة بها.

أوّلًا: نقد شبهة أنَّ المسيحيّة مصدر من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب تعبير نولدكه

مقدمة: قال نولدكه بشبهة تلقّي النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المسيحيّة في مواضع عدّة، وهي كما يأتي:

الأوّل: «قد يلقي المرء جزافًا بالتّهمة القائلة بأنّ أهمّ تعاليم محمد مأخوذةٌ عن اليهود والمسيحيين، وليست نابعةً من عقله، صحيح أنّ أفضل ما في الإسلام قد نشأ على هذا المنوال، لكن الطريقة التي اكتسب فيها محمد هذه التعاليم،

(281)

واعتبرها وحيًا أنزله الله إليه، ليبشّر به الناس، تجعل منه نبيًّا حقًّا»[1]. وهو هنا ينفي الشُّبهة ثم يثبتها، ثم يجعل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صاحب طريقة ذكيّة في اكتساب التّعاليم من اليهود والمسيحيين.

الثاني: وقال نولدكه في الموضع الثاني: «سيفضي بنا البحث المتمعن عمّا هو يهوديّ ومسيحيّ في القرآن إلى الاقتناع بأنّ التّعاليم الأساسيّة التي يشترك فيها الإسلام والمسيحيّة هي ذات صبغة يهودية»[2]. ويُرجع هنا مصدر التعاليم الأساسيّة في المسيحيّة والإسلام إلى اليهوديّة.

الثالث: وفي الموضع الثالث، قال: «كانت المسيحيّة على انتشارٍ واسعٍ في شبه الجزيرة العربية»، ثم عدَّد أماكن تواجدهم على الحدود الفارسيّة البيزنطيّة، وفي الداخل في تميم، وفي اليمن، ثم قال: «ينبغي علينا إذًا أن نأخذ بعين الاعتبار التأثير المسيحي على النبي إلى جانب التأثير اليهودي». وكعادته يُثبت ثم يشكّك، أو يشكّك ثم يثبت، إذ قال: «ولن نتمكن من تحديد مصدر الكثير من هذه المواد»، أي النّقاط التي أخذها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المسيحيّة. ثم يعود ليقول: «أما البعض الآخر فلا شكّ أنّ مصدره مسيحيٌّ»، ثم يعدّد هذا البعض الآخر، فذكر: التهجد، بعض أشكال الصلاة، وصف الوحي بالفرقان، وأنّه باللغة الآراميّة المسيحيّة يعني الخلاص.

الرابع: ووصل نولدكه في الموضع الرابع إلى نتيجة، حيث يقول: «يستطيع المرء أن يستخلص من كل ذلك أنّ الإسلام في جوهره دينٌ يقتفي آثار المسيحيّة، أو بعبارة أخرى: إنّ الإسلام هو الصيغة التي دخلت بها المسيحية إلى بلاد العرب كلّها»[3]. ثم يأتي بدليلين يؤيّد فيهما زعمه: الأول قوله: «وتؤكد هذا الربط بسهولة الأحكام الصادرة عن أشخاص عاصروا محمدًا، فقد أطلق الكفار على أتباعه لقب (الصابئة)، ما يعني أنهم عدّوهم على علاقةٍ وثيقةٍ ببعض

(282)

الفرق المسيحيّة، مثل: المندائيين والكسائيين والمعمدانيين».

والثاني قوله: «إنَّ المسلمين يعدّون أنفسهم خلفاء الأحناف، هؤلاء أناس رفضوا الوثنيّة وفتّشوا عمّا يرضيهم في التّعاليم اليهوديّة والمسيحيّة، وإطلاق هذا الاسم على الزُّهَّاد المسيحيين أيضًا يشير بوضوح إلى أنَّ المسلمين كانوا على علاقةٍ مميّزةٍ بالمسيحيين، وهذا يفسّر لجوء بعض أتباع محمد إلى ملك الحبشة المسيحي»[1].

الخامس: وفي الموضع الخامس، يعود نولدكه إلى عادته في المتناقضات، فبعد أن أثبت بزعمه ما أثبت، قام هنا بالتّشكيك بكلّ ما سبق، وهذا واضح بقوله: «من المؤكّد أنّ المسيحيين العرب، مما تجدر إليه الإشارة في هذا الصدد، غالبًا ما كانوا على معرفةٍ سطحيّةٍ بدينهم كما يقول شبرنغر»، ثم يستشهد بمقولةٍ للإمام علي عليه‌السلام، وهي قوله: «إنّ بني تغلب ليسوا مسيحيين، ولم يتّخذوا من المسيحيّة إلا شرب الخمر»[2].

السادس: وفي الموضع السادس، يعود نولدكه إلى محاولة إثبات شبهته، فيقول: «استنادًا إلى ما تقدّم لا بدّ لنا أن ننفي إمكانيّة استعمال محمد مصادر مكتوبة، فهو تَقبَّل أهم أجزاء تعليمه من اليهود والمسيحيين شفويًّا على الأرجح»[3].

وقلنا في بحث (شبهة الأخذ عن اليهودية) إنَّ نولدكه حاول أن يُطوِّع

(283)

القرآن الكريم إلى ما يريد، فاستشهد بآيات منه قال عنها: «ويبدو أنّ القرآن يشير إلى هذا الأمر»[1]، أي أمر تعلُّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شفويًّا من اليهود والمسيحيين.

والآيات التي استشهد بها:

قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [2]، وحذف نولدكه منها قوله تعالى: (فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا) .

وقوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ) [3]، وحذف منها قوله تعالى: (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) .

وبقيام نولدكه بحذف جواب هذه الآيات فإنَّه أخلَّ بالأمانة العلميّة، فهذه الآيات جاءت لتنفي ما أراد نولدكه إثباته، وجاءت لتكشف افتراء هؤلاء[4].

ثم عاد فذكر قولًا ينقض ذلك كعادته: «ولا يمكن إضافة أيّ شيءٍ إلى ما يرد في الروايات من هذا الاكتشاف اليسير أو ذاك»[5].

وفيما يأتي تفاصيل نقض شبهة نولدكه هذه:

1. علاقة القرآن بالكتب السماوية الأخرى

يقول الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [6].

(284)

إذًا، صرَّح القرآن بوجود التّشابه بين ما أنزله الله على الأنبياء وبين ما أنزله على خاتمهم.

ويقول المستشرق السويدي تور أندريه: «القرآن لا ينكر صلاته بالديانات اليهوديّة والمسيحيّة، وعقائد الحنيفيّة، وتقاليد العرب القدماء، ولكن ذلك لا يعني أنّه مجرد مجموعة من هذه العناصر»[1]. لكن هذا التّشابه ليس مطَّردًا، فمثلًا لا تشابه ولا توافق بين ما جاء في الإنجيل وما جاء في القرآن عن المحرومين من دخول الجنّة رغم ما قد يُظنّ من تشابه السياقين، ففي الإنجيل أنّ المسيح قال لتلاميذه: «الحق أقول لكم: إنّ مرور جملٍ من ثقب إبرةٍ أيسر من دخول غنيّ إلى ملكوت الله»[2]. فهذا النّصّ في تجريم الأغنياء وحرمانهم من الجنّة؛ بينما ضرب القرآن هذا المثل في حديثه عن الكفار المكذبين المجرمين، لا الأغنياء: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) [3]، فالتّشابه بين النّصين ينطبق عليه تشبيه العلَّامة أحمد ديدات بالشبه بين الجُبن والطباشير، وإن كان لا يُشكّ بتشابه القرآن مع ما أنزله الله على المسيح عليه‌السلام، مما أضاعوه وحرَّفوه.

وتكوَّن العهد الجديد من أناجيل أربعة، تضمّنت سيرة المسيح من الولادة إلى الصلب المزعوم، فهي أشبه ما تكون بسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي يرويها ابن إسحاق أو تهذيبها لابن هشام، كما يتضمّن العهد الجديد أيضًا رسائل التلاميذ، وهي تحكي عن قصصهم ورحلاتهم وأُعجوباتهم ووصاياهم الموجهة إلى أصدقائهم ومعارفهم لتوضيح بعض المفاهيم اللاهوتية أو لطلب بعض القضايا الشخصية.

ونودّ أن ننبّه هنا إلى أنّ آيات القرآن بلغت 6236 آية، وأن التّشابه بينها وبين النّصوص الكتابيّة لا يزيد -بحال من الأحوال- عن مئة آية، ونعتقد

(285)

جازمين أنّ هذه الكتب قبل تحريفها كان فيها من صور التّشابه مع القرآن ما هو أكثر من ذلك بكثير[1].

ولقد أخبر الله عز وجل أنَّ ما بين أيدي أهل الكتاب من اليهود والنصارى من الكتب ليس هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى وحيًا على موسى وعيسى عليهما‌السلام، ووقع في التوراة والإنجيل على أيدي الأتباع كتمان وتحريف، فهم يلبسون الحقّ بالباطل ويخلطونه به بحيث لا يتميز الحقّ من الباطل، ويكتمون الحقّ ويخفونه ويحرّفون الكلم عن مواضعه لفظًا ومعنى، ويلوون ألسنتهم بالكتاب ليلبسوا على السامعين اللفظ المنزل بغيره.

قال الله تعالى حكاية عنهم: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [2]، (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) [3]، (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) [4]، (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [5].

ورغم هذا كله، فإنَّ إشارات كثيرة لا تزال بين طيَّات هذه الكتب، تحمل النبوءات والبشارات بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كما سنبين فيما بعد.

(286)

وأراد الله تعالى أن تكون كلّ شريعة ناسخة للشريعة التي قبلها، فالإسلام ينسخ ما قبله من الأديان السماوية، وكل رسولٍ يأتي يبشِّر بالذي بعده؛ فقد بشَّر عيسى عليه‌السلام بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله​ [1].

وما أريد أن أقوله بعد هذا التمهيد، إنّ نولدكه لا يُعذر بجهله في هذه القضيّة، ولا يعذر بقوله إنَّ محمدًا أخذ من المسيحية واليهودية، فالآيات في القرآن واضحة عن العلاقة بين القرآن والكتب السماوية الأخرى، إذ يقول الله تعالى عن التوراة الحق: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) [2].

وكذلك قول الله تعالى عن الإنجيل الحق: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [3].

إنَّ الإسلام بمعناه العام هو دين الأنبياء جميعًا، فإذا أخذنا كلمة الإسلام بهذا المعنى نجدها لا تدع مجالًا للسؤال عن العلاقة بين الإسلام وبين سائر الأديان السماوية، إذ لا يُسأل عن العلاقة بين الشيء ونفسه، فهنا وحدة لا انقسام فيها ولا إثنينية[4].

ولو لم تمس يد التبديل والتحريف التوراة والإنجيل، لكان هناك التطابق التام بينهما وبين القرآن الكريم في أصول العقيدة، ولكان الاختلاف إن وُجد،

(287)

وُجد في فروع الشريعة العملية القابلة للتغيير، حسب الظروف ومتطلبات الحياة والمصالح[1].

ولذلك رفض العديد  من المستشرقين أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اقتبس من اليهودية والنصرانية[2].

ثم إنَّ الكتب السماوية جاءت مصدِّقة لبعضها البعض، يقول الله تعالى: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [3].

ويقول تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) [4].

أي إنَّ الإنجيل جاء مصدِّقًا لما بقي من حق في التوراة، أي صدَّق الجزء الثابت من الدين كالعقيدة والقيم، وترك الجزء المتغير أو الجزء الذي أصابه التحريف. وجاء القرآن مصدِّقًا لما بقي متوافقًا مع الجزء الثابت من الدين، ومهيمنًا عليه؛ أي إن المرجع هو القرآن إذا حدث اختلاف[5].

قال الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) [6].

(288)

وتعني «وَمُهَيْمِنًا»: أي رقيبًا وحافظًا لما تقدَّمه من سائر الكتب، وشاهدًا عليها وشاهدًا لها بالصحة والثبات[1]. وتعني المهيمن أيضًا: الأمين، والقرآن أمين على كل كتاب قبله. وتعني: أمينًا على التَّوراة والإنجيل يحكم عليهما ولا يحكمان عليه، مؤتمِنًا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله . وتعنب أنَّ محمدًا صلى‌الله‌عليه‌وآله مؤتَمنًا على القرآن والمهيمن الشَّاهد على ما قبله من الكتب[2].

وقد صوَّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علاقة الإسلام بالرسالات السابقة أبلغ تصوير وأوضحه، وكيف أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله، كخاتم للأنبياء، أتم البناء الذي تعاقبت عليه رسل الله الكرام، فعن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون هلَّا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»[3].

وقال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [4]، يعني أن رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت خاتمة الرسالات جميعًا[5].

بل إنّ نبوّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هي تصديق لنبوات الأنبياء قبله وشهادة لها بالصّدق، وهذا معنى قوله تعالى: (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) [6]. وهذه القضايا الواردة أعلاه تُظهر جهل نولدكه بها، فكان أن ادَّعى ما ادَّعى، فلم يستند على بيِّنةٍ، وإنّما على ظنّ.

(289)
2. الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتب النصارى، ومعرفته بالمسيحيّة من قبل ومن بعد

إنَّ ما ورد في الإنجيل وفي كتب النَّصارى وعند كهَّانهم واضح وجلي، وهو ما كان يستحق أن يثير نولدكه النقاش حوله؛ لأنَّه يستند على نصوصٍ ظاهرةٍ لا على شبهات أو استنتاجات أو توقُّعات أو تخيُّلات.

وقلنا في بحث (شبهة الأخذ عن اليهود) إنَّ الكاهن الكاثوليكي عبد الأحد داود (دافيد بنجامين كلداني) اختصر علينا كثيرًا من البحث حين ألَّف كتابًا خاصًّا وكاملًا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتب اليهود والمسيحيين، وتأتي قيمة هذا الكتاب التَّوثيقيَّة من أنَّ مؤلِّفه كان كاهنًا كاثوليكيًّا من طائفة الكلدان، وأحد كبار الكهنة (قسيس أورميا في إيران سابقًا)، ودرَّس ديانته السّابقة كونه رئيسًا لمجمعه الديني، وعزَّز كتابه بأسانيد وحجج من الكتب المقدّسة المتداولة.

فضمَّ هذا الكتاب سلسلةً من الدّراسات الرائعة، اتَّصفت بالعمق والأصالة، والمدهش أنَّ عبد الأحد داود قدَّم أبحاثه مستعينًا بالنّصوص الآراميّة والعبريّة واللاتينيّة واليونانيّة.

وساق عبد الأحد عشرات النّصوص من التوراة والإنجيل، وبدقّة كبيرةٍ، ثم بشرحٍ مستفيضٍ، ودلائل واضحة، وكلّها كانت تشير بوضوح كما الشّمس في رابعة النّهار إلى مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم وبعض تفصيلات ذلك[1].

 وحدَّث ابن هشام عن حديث الأحبار والرهبان والكهان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، فيما وجدوا من صفته في كتبهم وصفة زمانه لما كان في عهد أنبيائهم إليهم فيه[2]. ومن ذلك ما ورد في قصّة أبي سفيان وهرقل، وسؤال هرقل لأبي سفيان أسئلة عدّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، إلى أن قال هرقل: «وهو نبي، قد كنت أعلم أنه

(290)

خارج ولم أعلم أنه منكم، وإن يكن ما قلت حقًّا فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين، ولو كنت أظن أن أصل إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه»[1].

وذكر اليعقوبي جواب هرقل على رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله له التي أرسلها صلى‌الله‌عليه‌وآله مع دحية بن خليفة الكلبي، وهذا نصها: «إلى أحمد رسول الله الذي بشَّر به عيسى، من قيصر ملك الروم، إنه جاءني كتابك مع رسولك، وإني أشهد أنك رسول الله، نجدك عندنا في الإنجيل، بشَّرنا بك عيسى بن مريم، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيرًا لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك وأغسل قدميك».

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يبقى ملكهم ما بقي كتابي عندهم»[2].

وساق ابن قيِّم الجوزية أدلّة كثيرة مما ورد في نصِّ التوراة والإنجيل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وذلك في كتاب كامل[3]. والأمثلة عن ذلك كثيرة ووفيرة، يمكن الرجوع إليها وإلى تفاصيلها[4].

ونأتي إلى قضيّة معرفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمسيحيّة من قبل ومن بعد؛ فلم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم شيئًا عن تفاصيل اليهوديّة أو النّصرانيّة أو غيرهما من الأديان قبل النبوّة، إلّا بمثل ما كان يعلمه أهل مكة، وكان هذا من دلائل نبوَّته صلى‌الله‌عليه‌وآله، وهذا مصداق قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) [5].

(291)

قال القرطبي: «... وقيل: «مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ» أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الإيمان، حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم، وهو كقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) ، روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما»[1].

وفي تفسير السعدي: ولهذا قال: «مَا كُنْتَ تَدْرِي» أي: قبل نزوله عليك، (مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) أي: ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة، ولا إيمان وعمل بالشرائع الإلهيّة، بل كنت أميًّا لا تخط ولا تقرأ، فجاءك هذا الكتاب[2].

وفي تفسير الشوكاني: «قال النحاس: وذلك دليل على نبوَّته لأنّه لا يكتب، ولا يخالط أهل الكتاب، ولم يكن بمكة أهل كتاب، فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم، وإذًا لارتاب المبطلون أي: لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط لقالوا لعلّه وجد ما يتلوه علينا من كتب الله السابقة، أو من الكتب المدونة في أخبار الأمم، فلما كنت أميًّا لا تقرأ ولا تكتب لم يكن هناك موضع للريبة، ولا محل للشك أبدًا»[3].

وبعد نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله صار أعلم بدين اليهود والنّصارى من أنفسهم، قال تعالى: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [4].ففي تفسير السعدي: «وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»، وهذا يشمل جميع ما علَّمه الله تعالى. فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كما وصفه الله قبل النبوّة بقوله:

(292)

(مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)  (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) [1].

ثم لم يزل يوحي الله إليه ويعلمه ويكمله حتى ارتقى مقامًا من العلم يتعذّر وصوله على الأوّلين والآخرين[2].

وحديث عدي بن حاتم الآتي يدلّ على معرفة النّبيّ بدين عدي، فعن أبي عبيدة بن حذيفة قال: كنت أسأل عن حديث عدي بن حاتم وهو إلى جنبي لا آتيه فأسأله، فأتيته فسألته، فقال: بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  حيث بعث فكرهته أشد ما كرهت شيئًا قط، فانطلقت حتى كنت في أقصى الأرض مما يلي الروم، فقلت: لو أتيت هذا الرجل، فإن كان كاذبًا لم يخف علي، وإن كان صادقًا اتبعته، فأقبلت، فلما قدمت المدينة استشرف لي الناس، وقالوا: جاء عدي بن حاتم، جاء عدي بن حاتم، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لي: «يا عدي بن حاتم أسلم تسلم». قال قلت: إن لي دينًا. قال: «أنا أعلم بدينك منك -مرتين أو ثلاثًا- ألست ترأس قومك؟» قال: قلت: بلى. قال: «ألست تأكل المرباع؟» قال: قلت: بلى. قال: «فإن ذلك لا يحل لك في دينك». قال: فتضعضعت لذلك، ثم قال: «يا عدي بن حاتم، أسلم تسلم ...»[3].

3. حالة التقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله  بالنصارى- لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وآيات نقدهم

يقول إسرائيل ولفنسون عن النّصارى ووجودهم بمكة: «ومع أنَّ من المؤكّد أنّ أفرادًا من أحرار النّصارى وعبيدهم قد كانوا في مكّة ساكنين ومختلطين بأهلها، لكن لم يثبت أنّ أهل مكة قد عرفوا النّصرانيّة وتعاليمها ومبادئها»[4].

(293)

والذين التقى بهم صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأحبار والرهبان، هما: بحيرى الراهب وورقة بن نوفل، ولم يأخذ عنهما شيئًا.

وأما من أسلم من اليهود والنصارى فيما بعد، فلم يلتقِ بهم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا بعد الهجرة، وإسلامهم دليل لصالح ما نتحدّث عنه، إذ صاروا هم المُتلقِّين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس العكس، ومجرد إيمانهم واقتناعهم بالإسلام يدحض هذه الفرية. ولم يستطع أحد أن يثبت ولو في رواية ضعيفة أو مكذوبة أن النبي رأى التوراة أو الإنجيل، أو أن أحدًا أطلعه عليهما.

ولم نجد شيئًا من هذه الشُّبهة في التّفاصيل الكثيرة جدًّا التي نقلها الرواة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولو تعلَّم صلى‌الله‌عليه‌وآله على أحد من اليهود والنصارى لنقلوا لنا ذلك ولو شيئًا منه، فلماذا سكتوا عن ذلك، سواء أكانوا من المسلمين أم من غيرهم؟! بل لماذا لم يثر المشركون وأعداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك، وهم الذين تفنّنوا بكيل التّهم له، فلو كان في هذه الشُّبهة شيء من الصحّة لسارعوا إلى استغلاله وإلى تحويله إلى فضيحة، فهل مثل هكذا فرصة كان من الممكن أن يضيعوها؟!

فمن الفرص التي أرادوا استغلالها وردَّها عليهم القرآن الكريم ما رواه حصين عن عبد الله بن مسلم قال: «كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر اسم أحدهما يسار والآخر جبر، وكانا صيقلين (يجليان السيوف ويشحذانها) يقرآن كتبًا لهما بلسانهما، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمر بهما فيسمع قراءتهما، وكان المشركون يقولون أنَّه يتعلم منهما، فأنزل الله تعالى فأكذبهم: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [1].

(294)

وفصَّل الطبري بهذا الموضوع، وتتبَّع جلَّ رواياته وما نزل من القرآن في الرد على المشركين الذين أثاروا هذه الشُّبه[1].

ونأتي إلى آيات نقد النصارى؛ ويظهر أنّ نولدكه لم يطَّلع على القرآن وتفاصيله كما ينبغي، ولم ينتبه إلى الآيات الكثيرة التي تنتقد النصارى أو غضَّ بصره عنها، وهي حقائق تُسقط الشُّبهة التي أثارها، وتُسقط قوله: «إنّ الإسلام هو الصيغة التي دخلت بها المسيحيّة إلى بلاد العرب كلها»، وتُسقط أقواله الأخرى المتعلّقة بذلك والتي استعرضناها في بداية هذا البحث. 

وآيات نقد النصارى كثيرة، سأختار نماذج عنها فقط، ومنها:

ـ أنَّ القرآن اتّهمهم بالافتراء حين قالوا إنَّ الله اتخذ لنفسه ولدًا، يقول تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) [2].

ـ واتهمهم بإخفاء ما في كتابهم، يقول عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) [3].

ـ وقالوا إنَّ المسيح إله وثالث ثلاثة، يقول تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [4]

ـ ونقدهم بغلوُّهم في الدِّين، يقول عز وجل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا

(295)

فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [1].

4. أنباء القرآن الغيبيّة والتدرّج في التشريع كدليل قاطع:

إنّ في القرآن أنباءً غيبيّةً، وإنّ أكثر أنباء الغيب التي في القرآن لم يكن لأهل الكتاب علمٌ بها على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله . ثم إنّ النّبيّ صحَّح أغلاطهم في كثير من هذه الأنباء، فليس بمعقول أن يأخذها عنهم وهو الذي صحَّحها لهم! ثم إنَّ أهل الكتاب في زمنه كانوا أبخل الناس بما في أيديهم من علم الكتاب.

ولو كان لهذه الشُّبهة ظلّ من الحقيقة لطار بها أهل الكتاب فرحًا وطعنوا بها في محمد وقرآنه، ولطبَّل لها المشركون ورقصوا، لكنّ شيئًا من ذلك لم يكن، بل إنّ جلَّة من علماء أهل الكتاب آمنوا بهذا القرآن، ثم لم يمض زمن طويل حتى أعطت قريش مقادتها لها عن إيمان وإذعان.

ويذكر الزرقاني أنّ النبي كان رجلًا عظيمًا بشهادة هؤلاء الطاعنين، وصاحب هذه العظمة البشرية يستحيل أن يكون ممن يرمي الكلام على عواهنه، خصوصًا أنّه رجلٌ مسؤولٌ في موقف الخصومة بينه وبين أعداء ألداء، فما يكون له أن يرجم بالغيب ويقامر بنفسه وبدعوته وهو لا يضمن الأيام وما تأتي به مما ليس في الحسبان.

وعلى على فرض رجمه بالغيب جزافًا من غير حجة، يستحيل في مجرى العادة أن يتحقّق كل ما جاء به مع هذه الكثرة، بل كان ليخطئ ولو مرة واحدة، إما في غيوب الماضي أو الحاضر أو المستقبل، لكنه لم يخطئ في واحدة منها على كثرتها وتنوعها.

وإن هذه الأنباء الغيبيّة ليست في كثرتها مما يصلح أن يكون مجالًا للرأي، ثم إنّ ما يصلح أن يكون مجالًا للرأي أخبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعضه بغير ما يقضي

(296)

به ظاهر الرأي والاجتهاد، انظر مثلًا نبوءة انتصار الروم على الفرس[1].

أمَّا التّدرج في التّشريع؛ فلقد كان من أبرز خصائص التشريع الإسلامي أنَّه جاء متدرِّجًا بحسب الأحوال والوقائع، ولم ينزل جملةً واحدةً، وذلك مراعاة لواقع المجتمع الذي أراد معالجته وإخراجه من الظلمات إلى النور، ولم يصدر في وقت واحد كما هو متّبع في التّشريعات الوضعيّة[2].

فلم ينزل القرآن بالأحكام التي تُقوِّم وتُصلح الحياة جملة واحدة، بل تدرَّج في تشريع هذه الأحكام، يقول الدكتور يوسف حامد العالم: «إنَّ القرآن الكريم له مسلك خاص تفرّد به في معالجة الأمراض الاجتماعيّة الخطيرة، وذلك باتباع سنة التدرُّج في تقرير الأحكام وتأكيدها»[3].

وما أريد قوله هنا أنّ التّشريع الإسلامي القرآني جاء بحسب وقائع المجتمع الذي عايشه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي إنَّ الوقائع هي التي فرضت هذا التشريع، وهذا يدحض الأخذ عن أهل الكتاب مسبقًا، إذ لو كان كذلك، فكيف سيتوافق مع وقائع هي جديدة؟!

5 .مخالفة الشريعة الإسلاميّة لليهود والنصارى:

إنَّ من مقاصد الشريعة الإسلاميّة مخالفة اليهود والنّصارى في مسائل كثيرة، وقضايا كثيرة خالف فيها الإسلامُ اليهود والنصارى، وهي كثيرة، وسأختار نماذج عنها فقط، فمثلًا:

ـ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول: «لا تشدّدوا على أنفسكم فيشدّد عليكم،

(297)

فإنّ قومًا شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) [1].

ـ كان المسلمون في أوّل الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب إذا نام أحدهم لم يطعم حتى القابلة، أي لا يتسحَّر، ويؤيّد هذا ما أخرجه مسلم...: أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، أَكلةُ السحر»[2]، فأمرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسحور، مخالفة لأهل الكتاب.

ـ عن أنس بن مالك أنّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنزل الله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [3]، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اصنعوا كلّ شيءٍ إلّا النكاح». فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه ... [4].

لذلك لنا أن نسأل: كيف يكون القرآن مأخوذًا من الكتب الأخرى؟، وعند المقارنة بينه وبينها تبدو الفروق واضحة في جوانب عديدة!، وأن القرآن قد جاء بما هو أعلى وأوسع وأكمل من كلّ المعلومات الواردة فيها، وأن فيه من الإعجاز، ما ينفي نفيًا قاطعًا تبعيّته لغيره كما يشهد بذلك كل من يدرسه دراسةً موضوعيّةً مجرّدةً من الأهواء والتّعصّب من المسلمين وغيرهم[5]؟!

(298)

ثانيًا: نقد شبهة أنَّ الليتورجيا مصدر من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب تعبير نولدكه

مقدمة

أشار نولدكه إلى الليتورجيا في كتابه بكلمةٍ واحدةٍ فقط، مؤكِّدًا أنّها من مصادر القرآن أو مصادر تعلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولم يقدِّم لنا تفاصيل هذه الشُّبهة والأدلّة على أنها من مصادر القرآن أو مصادر تعلم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يناقش ذلك أبدًا.

يقول: «لا مجال للشك أنَّ أهم مصدر استقى منه معارفه (أي الرسول ) لم يكن الكتاب المقدّس بل الكتابات العقائدية والليتورجيّة»[1].

وكلام نولدكه يشابه ما قرّرته أنجيليكا نويفرت حين ادَّعت أنَّ القرآن قد جُمِع أوَّلًا بوصفه نصَّ تلاوة ليتورجيًّا، مختلفًا عن التوراة العبريّة أو العهد الجديد[2].

1. معنى الليتورجيا، وعلم الليتورجيا وفروعه ومحتواه وأنواعه وتاريخه ومصادره، ومدى علاقة ذلك بالإسلام، ونقض الشُّبهة:

السّؤال المناسب الذي أرى أن أبدأ به لنفهم علاقة الإسلام والقرآن مع الليتورجيا هو: هل الأفكار الآتية عن الليتورجيا تنطبق في شيءٍ على القرآن وعلى الإسلام؟! لننظر ونقارن، ولنبدأ من أجل ذلك بالوقوف على معاني الليتورجيا وتعريفاتها.

وأرى أيضًا أن أبدأ من النتيجة التي توصَّلت إليها عن هذه الشُّبهة، كي نستعرض بعدها ما ينبني عليها، وهي أنَّ الليتورجيا ونصوصها وطقوسها ليست إلا أشياء مسيحيّة تتناغم مع الرؤية المسيحيّة، ومن يثير هذه الشُّبهة على القرآن من خلالها هو جاهل بسياق وبناء وطبيعة القرآن التي تختلف تمامًا عن الكتاب المقدس.

(299)

وسيتَّضح ما نقوله من خلال التفاصيل الآتية:

فإنَّ كلمة ليتورجيا (Liturgiky) كلمة يونانيّة متأتِّية من كلمة (Liturgia) المركَّبة من(Laos)  وتعني: شعب، و(Ergon) وتعني: عمل[1]. أي إنَّ ليتورجيا تعني بالمجمل: عمل شعبي. وكان هذا المعنى يعني أيام اليونان: عبادة عامة علنية أو خدمة الآلهة[2].

ووردت هذه الكلمة في العهد القديم عانية أيَّ خدمة دينيّة كانت تتمّ في خيمة العهد، أي (هيكل سليمان). ووردت في العهد الجديد بمعنى أوسع، فوردت أولًا معبَّرة عن الخدم الدينيّة اليهوديّة، ووردت بمعنى: عمل المسيح الخلاصي، واستعملت بقصد التّعبير عن العبادة المسيحيّة، وبشكلٍ خاص الإفخارستيا الإلهيّة[3].

وحدَّد الكُتَّاب ورجال الدين المسيحيون المعنى اللاهوتي لكلمة (ليتورجية) بأنَّها: «ذاك الفرع من اللاهوت المتعلّق بالعبادة، وبكلّ ما يختصّ بها من صلواتٍ يوميّةٍ وأسرارٍ إلهيّةٍ وخدم، ويدرس تاريخها ونشأتها وتطورها، وكل ما يتعلق بها من ملابس ومكان وزمان  ...»[4].

وينقسم علم الليتورجيا إلى ثلاثة فروع:

ـ الفرع التاريخي: ويبحث في تطور العبادة تاريخيًّا.

ـ الفرع النظامي: ويختص بتحليل المبادئ العقيدية الخاصة بالعبادة.

(300)

ـ الفرع العملي التطبيقي: وينشغل بتتميم الطقوس والشؤون الخاصّة بالإكليروس[1].

والليتورجيا أنواع (نُظم)، وهي تتألف من قسمين كبيرين: غربي وشرقي، وتحت كلّ واحد أنواع بحسب البلدان[2]. فالأقسام الشّرقيّة تحتوي على عائلتين كبيرتين، هي: العائلة (النُظم) الليتورجية المصرية، وتشمل النظامين المصري والأثيوبي، والعائلة الليتورجية السريانية الأنطاكية، وتشمل النظامين السوري الفلسطيني والكلداني. وتحتوي النُّظم الغربيّة الليتورجيّة على: النظام الليتورجي الروماني، والأمبروسياني، والغالي الفرنسي، والمزرابي الإسباني، والكلتي البريطاني، والبوني الشمال إفريقي[3]. وتاريخ الليتورجيا كفرع لاهوتي، أي نشأة هذا العلم وتطوّره مع الزمن، مرَّ بمراحل كالآتي:

- مرحلة العصور القديمة حتى القرن السادس، ثم مرحلة العصور الوسيطة (القرن السابع - الخامس عشر)، ثم العصور الحديثة (القرن السادس عشر - الثامن عشر)، ثم مرحلة القرنين التاسع عشر والعشرين[4].

وذكر الأسقف يوحنا اليازجي مصادر الليتورجيا، وهي: الديانات غير المسيحية، الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، الكتب المنحولة، الآباء والكُتَّاب الكنسيون (وهذه تهمنا إذ ذكر فيها كتابات تعود لمختلف العصور قبل وبعد الإسلام)، الآباء المباشرون، مصادر آبائية غير مباشرة[5].

وبذلك يتبيّن لنا من خلال تعريفات الليتورجيا ومعناها وعلم الليتورجيا وفروعه ومحتواه وأنواعه وتاريخه ومصادره، أن لا علاقة لكل ذلك بالإسلام،

(301)

وخاصة أنَّه استمرَّ بالتّطوّر منذ العصور القديمة حتى القرن العشرين، أي قبل الإسلام وبعده، وتعلَّقت مصادره بالكتاب المقدّس، وهنا يأتي الردُّ على هذه الشُّبهة من خلال الردِّ على شبهة أنَّ المسيحيّة مصدر من مصادر تعليم محمد بحسب عبارة نولدكه.

2. جوانب من شبهة الليتورجيا

استطعت الوصول إلى بعض الأبحاث (وهي نادرة جدًّا) التي أثارت شبهة الليتورجيا، ومن تلك الأبحاث بحث (وهو ردٌّ على بحث) افترض أنَّ القرآن في أصله لم يكن كتابًا واحدًا كُتب في عقد أو عقدين من حياة جيل واحد، بل هو مجموعة من النّصوص التي تم جمعها من مصادر مختلفة ثم تحريرها على مراحل متباعدة ومتطاولة لتصبح في النهاية (القرآن) الذي نعرفه، من هنا فالقرآن المعاصر الذي بين أيدينا ليس سوى تحرير لـ (نصٍّ أصلي) سابق، هذا النصُّ هو نصٌّ ليتورجيّ أو شعائريّ، ينتمي إمَّا إلى جماعة مسيحيّة أو يهوديّة، في الجزيرة العربيّة أو حتى خارجها (العراق-سوريا)، أو ينتمي إلى جماعة مسلمة أولى تحاكي في بداية تأسيس هويتها الخاصّة التقوى المسيحيّة لمسيحيي الجزيرة قبل الانفصال عنها بهويّة خاصَّة[1].

وخلاصة البحث المثير للشُّبهة أنَّه يختزل القرآن في الليتورجيا ويتجاهل الأبعاد الأخرى، وهذا ما يُنتج تصوّرًا غير دقيقٍ لعلاقة النص بالشعائر الإسلاميّة وبتاريخ الأمة.

وكل هذا يعني أنّ فرضيّة القرآن الليتورجي لا تجد ما يسندها حقيقة لا في تحليل النصِّ نفسه، حيث تتجاهل هذه الفرضيّة المضمون الذي يقدِّمه

(302)

النصُّ حتى في آياته ذات الطابع الشعائري، ولا في تحليل سياقه التاريخي والنَّصي والذي يبرز تركيبًا في تناول القرآن لمفاهيم الكتابة والشفاهة يتّضح منذ مراحل مبكرة في بيان موقعه بين الكتب وطبيعته الخاصّة وموقفه من التّدوين والتلاوة الشفهيّة، ولا في تحليل الصلة بين الشعائر والنصوص بشكلٍ سليمٍ يستند لوظائف الشّعائر بشكلٍ عام، كما تظهر في الأنثربولوجيا وعلوم الأديان، ويستند كذلك بشكلٍ خاص لتحليل النظام الشعائري الإسلامي وموقع القرآن داخله وعلاقة معظم مرتكزاته بوضعية المسلمين، ممّا يجعل هذه الفرضيّة على شيوعها في الكتابات الاستشراقيّة المعاصرة مفتقدة لعمقٍ نظري ومنهجي سليم.

والحقيقة أنَّ فرضيّة النّصّ الليتورجي ليست إلّا فرضيّة كتابيّة مسيحيّة تتماشى تمامًا مع التّصوّر المسيحي عن الكلمة المتجسّدة، وتعدُّ استعادتها وتطبيقها على القرآن مجرد تجاهل تام لإمكان وجود تاريخ وسياق وبناء وطبيعة خاصّة بالقرآن مختلفة عن الكتاب المقدس في تصوّر المجتمعات الدينيّة الأخرى.

لذا فإنّ الليتورجيا بهذا المعنى الضيّق -كتاب صلاة- الذي يختزل القرآن ويتجاهل تعدُّد أبعاده، أو بذاك المعنى الواسع الذي يجعله كالكتاب المقدّس العبري المُضاء عبر تجسُّد الكلمة في الوسط المسيحي؛ لا تمثل سوى محاولة لدمج القرآن داخل تاريخ الكتب المقدسة وأممها؛ كنسخة باهتة عنها تارة، أو كمحاكاة بارعة لها تارة أخرى! وفي هذا إهدار كبير للبناء الخاص والطبيعة الخاصّة لهذا النّصّ وصلته التي يصطنعها مع الكتب السّابقة ومع التاريخ ومع المتلقِّين له[1].

الليتورجيا هي الكتاب المقدّس، وأمثلة في الليتورجيا تُناقض الاعتقادات الإسلاميّة

وعن أمر آخر، يثبت القس إبراهيم عازر أنّ الليتورجيا هي الكتاب

(303)

المقدّس، يقول: «مما سبق نجد أن الكتاب المقدّس والليتورجيا لا يتكلَّمان عن موضوعين منفصلين، الكتاب المقدّس يقدّم ما تقدّمه الليتورجيا»[1].

وفي كتاب ضمَّ سلسلة محاضرات تحت عنوان: الليتورجيا والكتاب المقدّس، جاءت هذه المحاضرات للتأكيد على -كما ذُكر حرفيًّا في مقدّمة هذا الكتاب بصيغة التأكيد-: «علاقة الليتورجيا بالكتاب المقدس وعلاقة الكتاب المقدس بالليتورجيا واضحة عميقة لا تحتاج إلى براهين وأدلة»[2].

وفي موضع آخر قالوا: «ومن هنا نبيّن الرابطة القويّة بين الكتاب المقدس والليتورجيا»[3].

وبما أنَّ الليتورجيا ترتبط ارتباطًا لصيقًا بالكتاب المقدّس، فإنَّ الردَّ على الشُّبهة المثارة حولها هو نفسه الردُّ على شبهة أنَّ المسيحيّة مصدر من مصادر تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالتالي يُراجع ذلك البحث فيها. ولو دخلنا إلى أعماق الليتورجيا، فسنجد فيها عشرات النّصوص والصور التي لا تلتقي مع الاعتقادات الإسلاميّة في شيء، وسأذكر هنا أمثلة عنها.

ففي الليتورجيا مثلًا: يسوع ربٌّ! يقول القس إبراهيم عازر حرفيًّا: «الليتورجيا تقدم لنا الرب يسوع محور الكتاب المقدس ... وهي العبادة الإلهية والأسرار التي بها نأخذ يسوع المسيح من خلال: سيرة حياته ... والأسرار الإلهية التي توحدنا بالمسيح يسوع بشكل حقيقي وفعلي ...»[4].

ويقول القس الأنبا بيمن: «ومن خلال سر الإفخارستيا سر الشركة مع الله يسلِّم الرب يسوع كنيسته سر معرفة الآب»[5].

(304)

وتقول الليتورجيا بالثالوث المقدس، يقول القس الأنبا بيمن: «وفي الليتورجيا نجد على سبيل المثال عقيدة الثالوث المقدس واضحة للغاية، فالبركة الرسولية تُمنح في القدَّاس من خلال محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وموهبة وعطية الروح القدس»[1].

وجاء في السلسلة الليتورجية: الإيمان بالصليب وعيد الصليب!![2].

وتقول السلسلة الليتورجية أن يسوع كاهن!!، ففيها حرفيًّا: «كرَّس دستور (الليتورجيا المقدسة) وهو إحدى وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الفصل الرابع لدراسة الفرض الإلهي». وتذكر أول فقرة من هذا الفصل فتقول: «إن المسيح يسوع الكاهن الأعلى للعهد الجديد والأزلي»[3].

ولا بدَّ أن ننبه إن كان نولدكه قصد بشبهة الليتورجيا قضيّة تشابهٍ في سياق الطقوس العام[4]، فالردُّ هنا سهل، فلا أحد ينكر -بما فيهم المكابرون- بأنَّ الطقوس هي مشترك بشري، فتتشابه كلّ الاعتقادات والديانات بأشياء وتختلف بأخرى، فالطقوس رموز لا تحمل فقط دلالات دينيّة وإنّما ترتبط بالعادات والتّقاليد والقصص والأساطير، وتختلط بالشّعائر الدينيّة، والطقوس مشتقّة من حياة الشّعب الذي يمارسها.

بينما الشعيرة هي ما ندب الشرع إليه وأمر بالقيام به، أي يمنع أن نعبد الله بما لم يأمر به؛ لأنّها في هذه الحالة لا تسمى شعائر بل طقوس[5].

وننبه إلى أنَّ الطقس غير التقاليد، كي لا تشتبه الأمور، لذلك يقول محمد بهاء الدين حسين: «أما الادعاء بأن بعض عناصر القرآن المسيحيّة وصلت إلى

(305)

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق التقاليد ... فباطل من أساسه ومردود لسبب بيِّن وهو أن من يتفحص العقيدة الواردة في القرآن الكريم تفحُّص إمعان يرى أنّه كان حربًا على هذه التقاليد والروايات القائمة على التثليث، والصلب، والتضحية من أجل خطايا البشر، وغير ذلك مما يناقض تمامًا عقيدة النصارى»[1].

وننهي هذا البحث بالإشارة إلى كلمة كانت تتردّد عند ذكر الليتورجيا، وهي: الإفخارستيا، وكانت تُذكر على أنَّها لا تنفصل عن الليتورجيا[2].

فما هي الإفخارستيا؟ وهل لها علاقة بالإسلام والقرآن؟

الإفخارستيا: هي ذبيحة جسد الرَّب يسوع ودمه بذاتها، التي أوجدها لكي تستمر بها ذبيحة الصليب على مرِّ الأجيال إلى أن يجيء، مودِّعًا هكذا كنيسته ذكرى موته وقيامته.

وبزعمهم أنَّ المسيح هو الذي أنشأ الإفخارستيا، وذلك حينما كان يحتفل بالعشاء الأخير مع تلاميذه، فبعد أن جمع يسوع رسله في العلِّيَّة، أخذ الخبز في يديه، وكسره وناولهم إيَّاه قائلًا: خذوا وكلوا منه كلكم، هذا هو جسدي يُبذل لأجلكم. ثم أخذ في يديه الكأس المليئة بالخمر وقال لهم: خذوا واشربوا منه كلكم، هذه هي كأس دمي، دم العهد الجديد الأبدي، الذي يراق لأجلكم ولأجل الكثيرين لمغفرة الخطايا، اصنعوا هذا لذكري[3].

والآن وبعد تبيين معنى الإفخارستيا وعلاقتها التي لا تنفصل عن الليتورجيا، يظهر بوضوح لا يقبل الشك أو النقاش، أنَّ الإفخارستيا وما يرتبط بها بالليتورجيا لا يمكن أن يكون لها علاقة بالإسلام وبالقرآن لا من قريب ولا من بعيد.

(306)

ثالثًا: نقد شبهة أنَّ الصابئة المندائية مصدر من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب تعبير نولدكه

مقدمة

أتى نولدكه على ذكر الصابئة المندائيين مرة واحدة، رابطًا إيّاها بالمسيحيّة، يقول بعد أن أشار إلى أنَّ الإسلام هو الصيغة التي دخلت بها المسيحيّة إلى جزيرة العرب كلّها: «وتؤكّد هذا الربط بسهولة الأحكام الصادرة عن أشخاص عاصروا محمدًا، فقد أطلق الكفار على أتباعه لقب (الصابئة)، ما يعني أنَّهم عدُّوهم على علاقة وثيقة ببعض الفرق المسيحيّة، مثل: المندائيين والكسائيين والمعمدانيين»[1].

1. أصل الصابئة المندائيين وتاريخهم، وجهل نولدكه بذلك:

تُبيِّن هذه الفقرة خطأ نولدكه، وتُظهر غلطه بالصابئة المندائيين وجهله بطبيعة علاقتهم بالإسلام والمسلمين، وعدم استيعابه لتاريخهم ومعتقداتهم، وإلا ما قال قوله المغالط أعلاه.

ذكر الشهرستاني أن الصبوة في مقابلة الحنيفية، وفي اللغة: صبأ الرجل: إذا مال وزاغ، فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق، وزيغهم عن نهج الأنبياء، قيل لهم الصابئة[2].

وذكرت المعاجم أنَّ الصابئين اشتقاقه من صبأ الرجل يصبأ صبوًا، إذا خرج من دينه إلى دين آخر. وكانت العرب تسمي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الصابئ، لأنه خرج من دين قريش إلى الإسلام[3].

(307)

ومما وصل إليه الباحث الفيومي في بحثه عن أصل كلمة الصابئة أنَّه لم يجد لها أو حولها بيتًا من الشعر، تناول معتنق هذا المذهب مدحًا أو قدحًا، وهذا ما جعله يميل إلى أنّ هذا اللفظ أطلقه القرآن اصطلاحًا على مقابل من خالف وثنيّة الجاهليّة الأولى وليس من أهل الكتاب[1].

واتسع معنى هذه الكلمة في العرف الجاهلي، فصارت لكلّ من استحدث دينًا غير دين قومه، وكل من خرج من دينه إلى غير دين[2].

وقال الطبري: «الذين عنى الله بهذا الاسم، قوم لا دين لهم»[3]. وبالتالي هم نحلة (دعوى) وليس دين.

والثابت أنَّهم قوم ليس لهم شريعة مأخوذة عن نبي[4].

أما الإسلام، فأطلق الصابئة على صنف ذي عقيدة، أخطأت تنزيه الله، فوسطت الكواكب بينها وبينه، إذ الكواكب في عرفهم تحتوي على النور الإلهي[5].

كما أُطلقت على جماعة بعينها معتنقة مذهبًا معيَّنًا غير الحنيفية؛ لأنّ القرآن عندما يذكر الصابئة يذكرها مقترنة بدعوة معتنقيها إلى الإسلام، أما الحنيفية فإنّ الإسلام يصف بها نفسه[6].

(308)

والصابئة من الملل والنحل التي تحدّث عنها القرآن، وعرض لها حين عرض لمقابلها وهو الحنيفية ملة إبراهيم الكبرى كما وصفها القرآن، فالصبوة -كما يذكر المؤرخون للأديان- في مقابلة الحنيفية[1].

والصابئة الأولى أو صابئة الحنفاء أصل فكرها القول باحتياجها في معرفة الله ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه إلى متوسط، والتي يقال عنها إنّها تنسب إلى هرمس وأنماثاذيمون على ما تذهب إليه المصادر الإسلامية. والحنفاء: هم الذين اتّبعوا ملة إبراهيم، وعندما يرتبط الاصطلاحان بعضهما ببعض يصبح المعنى الاصطلاحي مغايرًا لكلٍّ من الاصطلاحين على حدة، وينفرد بمعنى جديد، فهؤلاء هم الصابئة الأولى أو صابئة الحنفاء الذين شاركوا أهل الإسلام في الحنيفية. وأما تسميتهم صابئة حنفاء فمرد ذلك إلى أنهم وافقوا الحنيفية من حيث العقيدة في التوحيد، ومن حيث الشريعة في بعض مبادئها، لذلك صح تسميتهم بحنفاء، وفارقوا الحنيفية في إنكارهم أن يكون الوسيط النبي بشريًّا، وقولهم بوسائط الكواكب لروحانيتها ونورانيتها[2].

والصابئة الحنفاء هم بمنزلة من كان متَّبعًا لشريعة التوراة والإنجيل قبل النسخ والتحريف والتبديل من اليهود والنصارى، وهؤلاء حمدهم الله وأثنى عليهم[3].

والصابئة سابقة على الحنيفية التي جاءت مجادلة ومناقضة لها، إذ ذكر الشهرستاني أنَّ الفِرق في زمان إبراهيم كانت راجعة إلى صنفين اثنين: الصابئة والحنفاء، وذكر في مواضع أخرى ما يفيد بأسبقيّة الفكر الصابئي على الدين الحنفي[4].

(309)

والصابئة كذلك أقدم من المجوسيّة، لذلك هي من أقدم المذاهب فكرًا[1].

وكلمة مندائي هي من حيث اللغة كلمة آراميّة، وهو اسم صفة يتكوّن من مقطعين: الأول صفة مندا، وتعني العلم أو المعرفة، والثاني الياء (مندائي) وهي تعني النسبة.

فيكون المعني صاحب الدراية الإلهية والعلم والمعرفة[2]

ولكن الذي يُفهم من القرآن الكريم أن الصابئة جماعة كانت على دين خاص، وأنها طائفة مثل اليهود والنصارى، أي أن الكلمة مصطلح ولها مدلول معين مفهوم[3].

ويفهم من المواضع التي ورد فيها ذكرهم في القرآن الكريم، ومن ورود اسمهم مع اليهود والنصارى فيه، أنهم كانوا يعبدون إلهًا، ويتوجهون في دينهم إليه[4].

وفي النتيجة: لا يوجد أي علاقة أو تلاقي بين الإسلام والصابئة، ولا تعد الصابئة من المسيحيين، مما يدحض مغالطة نولدكه في ذلك، وهذا ما ستؤكد عليه أيضًا الفقرات الآتية[5].

2. اعتقادات الصابئة المندائيين، وهل لها علاقة بالإسلام أو بالمسيحيّة؟

تعدّ الصابئة المندائيّة يحيى عليه‌السلام نبيًّا لها، ويقدِّس أصحابها الكواكب

(310)

والنجوم ويعظمونها، ويعد الاتجاه نحو نجم القطب الشمالي، وكذلك التعميد في المياه الجارية من أهم معالم هذه الديانة التي يجيز أغلب فقهاء المسلمين أخذ الجزية من معتنقيها أسوة بالكتابيين من اليهود والنصارى[1].

ويعتقد الصابئة بأنّ الكواكب مسكن للملائكة، ولذلك يعظمونها ويقدسونها.

ويعتقدون من حيث المبدأ بوجود الإله الخالق الواحد الأزلي الذي لا تناله الحواس ولا يفضي إليه مخلوق، ولكنهم يجعلون بعد هذا الإله 360 شخصًا خلقوا ليفعلوا أفعال الإله، وهؤلاء الأشخاص ليسوا بآلهة ولا ملائكة، يعملون كل شيء من رعد وبرق ومطر وشمس وليل ونهار ... وهؤلاء يعرفون الغيب، ولكل منهم مملكته في عالم الأنوار، وهؤلاء الأشخاص الـ 360 ليسوا مخلوقين كبقية الكائنات الحية، ولكن الله ناداهم بأسمائهم فخلقوا وتزوجوا بنساء من صنفهم، ويتناسلون بأن يلفظ أحدهم كلمة فتحمل أمرأته فورًا وتلد واحدًا منهم.

والمندي: هو معبد الصابئة[2]، وفيه كتبهم المقدسة، ويجري فيه تعميد رجال الدين، يقام على الضفاف اليمنى من الأنهر الجارية، له باب واحد يقابل الجنوب بحيث يستقبل الداخل إليه نجم القطب الشمالي، ولابدَّ من وجود قناة فيه متصلة بماء النهر، ولا يجوز دخوله من قبل النساء.

وتؤدى الصلاة عندهم ثلاث مرات في اليوم: قبيل الشروق، وعند الزوال، وقبيل الغروب، وتستحب أن تكون جماعة في أيام الآحاد والأعياد، فيها وقوف وركوع وجلوس على الأرض من غير سجود، وهي تستغرق ساعة وربع الساعة تقريبًا. ويتوجه المصلي خلالها إلى الجدي بلباسه الطاهر، حافي القدمين، يتلو

(311)

سبع قراءات يمجّد فيها الرب مستمدًا منه العون طالبًا منه تيسير اتصاله بعالم الأنوار.

وكان الصوم عند الصابئة على نوعين: الصوم الكبير: ويشمل الصوم عن كبائر الذنوب والأخلاق الرديئة، والصوم الصغير الذي يمتنعون فيه عن أكل اللحوم المباحة لهم لمدة 32 يومًا متفرقة على طول أيام السنة، وصابئة اليوم يحرِّمون الصوم لأنه من باب تحريم ما أحل الله.

ويعدّ التّعميد من أبرز معالم هذه الديانة ولا يكون إلّا في الماء الحي، ويجب أن يتم على أيدي رجال الدين، ويكون العماد في حالات الولادة، والزواج، وعماد الجماعة، وعماد الأعياد.

ويعظم الصابئة يوم الأحد كالنّصارى ويقدّسونه ولا يعملون فيه أيّ شيءٍ على الإطلاق.

ويتنبأون بحوادث المستقبل عن طريق التّأمّل في السماء والنجوم وبعض الحسابات الفلكية.

ويؤمن الصابئة كذلك بالتناسخ والحلول[1].

وأشار الباحث نزار الكرخي إلى أنّ المندائيّة لا تكترث إذا آمن الناس أو كفروا، فهي ديانة غير تبشيرية، ولا تهتم إلا بمعتنقيها، وهي لا تلزم الناس بالإيمان بها ولا بصحتها[2].

ولقد تأثّر الصابئة بأديان ومذاهب وفلسفات كثيرة، فتأثروا باليهودية، وبالمسيحية، وبالمجوسية لمجاورتهم لهم، وبالوثنية، وتأثروا بالحرانيين الذين

(312)

ساكنوهم في حران عقب طردهم من فلسطين، فنقلوا عنهم عبادة الكواكب والنجوم، وتأثروا بالأفلاطونية مثل الاعتقاد بالفيض الروحي على العالم المادي، وتأثروا بالفلسفة الدينية التي ظهرت أيام إبراهيم الخليل عليه‌السلام، وتأثروا بالفلسفة اليونانية[1].

وتوصَّلت الدكتورة سارة العبادي في بحثها المعنون: (الصابئة المندائية وموقف الإسلام منها)، إلى كثير من الخلاصات والنتائج التي ذكرناها، وأهمها أنّ الصابئة ليسوا بمسيحيين، إنما هم طائفة يُقدِّسون الأفلاك، بل يعبدونها، وخاصة النجم القطبي الذي يتجهون إليه في عباداتهم وصلواتهم[2].

وللقارئ أن يتوثّق -بعد هذا الشرح المختصر- إن كان من شبه أو تبادل بالمعتقدات بين الإسلام والصابئة؟!

3. الصابئة في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي الجزيرة العربية

نحيل من أثار شبهة الشّبه بين المسلمين والصابئين إلى الآيات الثلاث التي تناولت الصابئين[3]، وكيف أنَّها لم تعفهم من الدّعوة إلى الإيمان والعمل الصالح، وفي الأخرى تناولتهم بالإنذار الشّديد من الله، فلم يهادنهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يصطنع معهم دون غيرهم لينًا في القول، إنما كان موقفه يتّسم بالوضوح والحسم مع سائر الأديان، ولم يؤثر أن ادُّعي عليه أنّه افترى شيئًا من الصابئة أو ادَّعت عليه الصابئة هذه الفرية.

أما من جهة إطلاق المشركين على المسلمين: صابئة، فإن هذا كان من باب وصفهم بأنهم خرجوا على دين الجماعة الرسمي ومألوف عقائدها.

(313)

ويرى جواد علي أنَّ إطلاق قريش لفظة الصابئ والصباة على المسلمين بدلًا من تسميتهم بمسلمين قضية مهمة جدًّا، يجب الاهتمام بها، وفي الأخبار أمثلة كثيرة على ذلك. فقد ذكرت كتب الحديث والسير واللغة أنّ قريشًا دعت النبي وبعض أصحابه بالصابئين، فالصابئون في نظر المشركين هم المسلمين.

فالصابئون إذن هم أولئك الخارجون على عبادة قومهم المخالفون لهم في ديانتهم شأنهم في ذلك في نظر قريش شأن من يسميهم المسلمون في أيامنا بالملحدين أو الهدامين، أو أي مصطلح آخر يراد به الرمي بالخروج على مثل المجتمع القائم وتقاليده، وذلك ازدراء بهم، وتنفيرا للناس عنهم[1].

أما قضيّة انتقال ديانة الصابئة إلى جزيرة العرب، فنقول إنَّ صلة جزيرة العرب بالفرس قديمة، من حيث متاخمة الحدود والعلاقات السياسيّة، فإنّه لمن المنتظر أن نرى انتقالا فكريًّا، يتناسب مع طبيعة عقل البدوي، فمتاخمة الجزيرة لتخوم الفرس، وعلاقتها بها من الناحيتين الاقتصاديّة والسياسيّة ورحلات العرب التجارية: صيفا وشتاء، تحدث عنها القرآن فقال: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ  إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) [2].

فبذلك انتقلت الصابئة إلى الجزيرة العربية اسمًا من غير مضمون فكري؛ لأنّ استعمالها في اللسان العربي جعلها بمعنى: مال أو خرج، أو طلع، وليست اسمًا لمذهب، فهو لفظ أطلقه العرب على خوارج الجاهليّة، أي: الذين خرجوا عن دين الجاهليّة، وكلّ من استحدث دينًا غير دينه، وهم الذين أطلق عليهم صابئة الحنفاء[3].

وتوصل الباحث نزار الكرخي أنّ التاريخ لم يروِ لنا وجود صابئة في جزيرة العرب، ولا وجود لأيّ شخصيّة صابئية في الجاهلية قبل الإسلام، وأن الإشارة إلى

(314)

هكذا موضوع لا يصمد أمام النقد التاريخي، فضلًا عن أنَّ المندائية هي ديانة مغلقة على نفسها، ولديها لغتها الخاصّة، وهي ديانة غير تبشيرية، ولا تسعى للانتشار ولا تدعو الآخرين لاقتناعها، كما أنها ديانة تعتمد على وجود الماء لضرورة التعميد، فماذا يفعل الصابئة في جزيرة العرب الصحراوية القاحلة الخالية من الأنهار؟![1].

ولا بد من الإشارة إلى أن العرب كانوا يعرفون بوجود قوم اسم ديانتهم الصابئة، وحصل هذا من خلال الاختلاط التجاري بقوافلهم التي كانت تتاجر في بلاد الشام، وكذلك من اختلاط القبائل العربية التي كانت تسكن العراق، كقبيلة شيبان وقبيلة إياد وغيرهما، واختلاط هذه القبائل مع غيرها من قبائل العرب في مواسم التبادل الثقافي في أسواق العرب المعروفة[2].

ويرجح الفيومي أن يكون المذهب الصابئي قد انتقل بمضمونه الفكري منذ رحلة إبراهيم وإسماعيل، وأنَّ هذا الفرض له من آيات القرآن ما يؤيده[3]. ومع هذا تكون الصابئة دخلت الجزيرة العربية منذ نبي الله إبراهيم وإسماعيل بمضمون فكري غير أنها على هذا الفرض دخلت مقابلة للحنيفية، وبناء على هذا جعل القرآن -والعرب قبله- كل من لا يعتنق الحنيفية صابئًا.

فمن يوم أن دخل مذهب الصابئة العقدي شبه الجزيرة العربية دخل مضطهدًا تحدوه لعنات نبي الله إبراهيم أبي الأنبياء، وبهذا نستطيع أن نفسر عدم انتشاره في الجزيرة العربية، كذلك نستطيع أن نفسّر اضطهاد الذين اعتنقوه؛ لأنهم في عرف الجاهلية خارجين عن دين الجماعة.

وعندما جاء الإسلام أكد نبذ هذا المذهب، ولما لم يكن له كتاب يحمل مكوناته الفكرية، ضاع صلبه ولم يبقَ منه سوى مسائل وقضايا عرض لها

(315)

القرآن، وبسبب كل ذلك تعرض المذهب الصابئي لوسائل الضياع المتعدّدة الكفيلة بمحوه، من عدم كتاب له ومن اضطهاد ومكافحة إلى نبذ معتنقيه، كل ذلك لازم المذهب الصابئي منذ دعوة نبي الله إبراهيم والإسلام عندما عرض لها مناقشًا كان ذلك منه لخطورة قضاياها الدينية[1].

ولقد أثَّر المذهب الصابئي كثيرًا في الوثنيّة العربيّة، ورضي العربي أن يأخذ منه ما يعدل به وثنيته. ففي وثنيته الكثير من العناصر الصابئيّة مثل عبادة الأفلاك، والحنيفية مثل عبادة الكعبة، والوثنية اليونانية مثل عبادة التماثيل، فخلطوا بينها وبين وثنيتهم وبينها وبين الحنيفية.

وينقل الرواة أن عمرو بن لحي هو أول من نصب الأصنام، وينقلون أيضًا أن أبا كبشة هو أول من أتى بعبادة النجوم إليهم، ويصبح مفاد الروايتين أن الوثنية العربية قد وفدت إلى العرب من بلاد خارج الجزيرة العربية، كذلك الصابئة أتى بها أبو كبشة[2].

وكان كفَّار قريش يدعون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بابن أبي كبشة لأنه دعا إلى الله تعالى وخالف أديانهم[3].

4. قراءة في الآيات التي ورد فيها ذكر الصابئة، وأنهم ليسوا بمسيحيين

أورد القرآن الكريم ذكر الصابئة في ثلاث آيات (سور)، وفيها وفي تفسيرها ما ينقض شبهة نولدكه، وهي كالآتي:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

(316)

وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[1].

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [2].

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [3].

وفي تفسير ابن كثير، وعند ورود هذه الآية، جمَّع ابن كثير جلَّ الأقوال في الصابئة، ثم رجَّح قول مجاهد ومتابعيه، ووهب بن منبه، يقول: «وأظهر الأقوال، والله أعلم، قول مجاهد ومتابعيه، ووهب بن منبه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه؛ ولهذا كان المشركون ينبذون من أسلم بالصابئي، أي: أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك»[4].

وفي تفسيره استحضر الشعراوي حين أتى على هذه الآية الآيات الأخرى التي ورد فيها ذكر الصابئة، ثم قال: «الآيات الثلاث تبدو متشابهة، إلا أنَّ هناك خلافات كثيرة، فما هو سبب التكرار الموجود في الآيات، وتقديم الصابئين مرة وتأخيرها، ومع تقديمها رُفعت وتغيَّر الإعراب؟ وفي الآيتين الأوليين (البقرة والمائدة) تأتي: (مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) ، أما في الآية التي في سورة الحج فقد زاد فيها: (وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) ، واختلف فيها الخبر، فقال الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة) ...

الآية الكريمة تقول: «إِنَّ الذين آمَنُواْ»، أي إيمان الفطرة الذي نزل مع آدم

(317)

إلى الأرض، وبعد ذلك جاءت أديان كفر الناس بها فأبيدوا من على الأرض، كقوم نوح ولوط وفرعون وغيرهم، وجاءت أديان لها اتباع حتى الآن كاليهودية والنصرانية والصابئية، والله سبحانه وتعالى يريد أن يجمع كل ما سبق في رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جاء لتصفية الوضع الإيماني في الأرض، فالذين آمنوا أولًا سواء مع آدم أو مع الرسل، الذين جاءوا بعده لمعالجة الداءات التي وقعت، ثم الذين تسموا باليهود والذين تسموا بالنصارى والذين تسموا بالصابئة، فالله تبارك وتعالى يريد أن يبلغهم أن كل هذا قد انتهى، فمن آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فكأن رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله جاءت لتصفية كل الأديان السابقة».

ويتابع الشعراوي الشرح إلى أن يصل إلى قوله: «إننا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى جاء بالصابئين في سورة البقرة متأخرة ومنصوبة، وفي سورة المائدة متقدمة ومرفوعة، نقول هذا الكلام يدخل في قواعد النحو، الآية تقول: «إِنَّ الذين آمَنُواْ»، نحن نعرف أَنَّ (إِنَّ) تنصب الاسم وترفع الخبر، فالذين مبني لأنه اسم موصول في محل نصب اسم لأن: «والذين هَادُواْ» معطوف على الذين آمنوا يكون منصوبًا أيضًا، والنصارى معطوف أيضا على اسم إن، والصابئين معطوف أيضًا ومنصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم. نأتي إلى قوله تعالى: «مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر»، هذه مستقيمة في سورة البقرة إعرابًا وترتيبًا، والصابئين تأخرت عن النصارى لأنهم فرقة قليلة، لا تمثل جمهرة كثيرة كالنصارى، ولكن في آية المائدة تقدمت الصابئون وبالرفع في قوله تعالى: «إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ»، الذين آمنوا اسم إن والذين هادوا معطوف، و(الصابئون) كان القياس إعرابيًا أن يقال: والصابئين، وبعدها النصارى معطوفة، ولكن كلمة (الصابئون) توسطت بين اليهود وبين النصارى، وكسر إعرابها بشكل لا يقتضيه الظاهر، وللعرب إذن مرهفة لغويًّا، فمتى سمع الصابئين التي جاءت معطوفة على اسم إن تأتي بالرفع يلتفت لفتة قسرية ليعرف السبب، فحين تولى أبا جعفر المنصور الخلافة، وقف على المنبر ولحن لحنة أي أخطأ في نطق كلمة، وكان

(318)

هناك أعرابي يجلس فآذت أُذنيه، وأخطأ المنصور للمرة الثانية فحرك الإعرابي أُذنيه باستغراب، وعندما أخطأ للمرة الثالثة قام الإعرابي وقال: أشهد أنك وليت هذا الأمر بقضاء وقدر. أي أنك لا تستحق هذا. هذا هو اللحن إذا سمعه العربي هز أذنيه، فإذا جاء لفظ مرفوعًا والمفروض أن يكون منصوبًا، فإن ذلك يجعله يتنبه أن الله له حكمة وعلة، فما هي العلة؟ الذين آمنوا أمرهم مفهوم والذين هادوا أمرهم مفهوم والنصارى أمرهم مفهوم، أما الصابئون فهؤلاء لم يكونوا تابعين لدين، ولكنهم سلكوا طريقًا مخالفًا، فجاءت هذه الآية لتلفتنا أن هذه التصفية تشمل الصابئين أيضًا، فقدَّمتها ورفعتها لتلفت إليها الآذان بقوة، فالله سبحانه وتعالى يعطف الإيمان على العمل لذلك يقول دائمًا: (آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) ، لأن الإيمان إن لم يقترن بعمل فلا فائدة منه، والله يريد الإيمان أن يسيطر على حركة الحياة بالعمل الصالح، فيأمر كل مؤمن بصالح العمل وهؤلاء لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة»[1].

وتوقفت سارة العبادي في بحثها عند هذه الآيات الثلاث، وقالت مما يهمنا هنا عن الآية الأولى: «إن ترتيب الطوائف المذكورة في آية البقرة يراد منه الترتيب الرتبي؛ أي أنها ذكرت الأمثل والأسبق إلى أن وصلت إلى لمن ليس له كتاب ...»[2].

وقالت عن الآية الثانية: «والترتيب في آية سورة المائدة كان لغرض التنبيه عليه، فقد ورد لفظ الصابئين منصوبًا بالياء في آيتي البقرة والحج، عطفًا على محلّ اسم إنَّ، بينما ورد اللفظ نفسه مرفوعًا (الصابئون) بالقطع عما قبله في آية المائدة، والتغيير في الحكم الإعرابي عن طريق القطع لا يعد فصيحًا، إلّا إذا كان هذا التغيير لهدف يراد التنبيه عليه ... فإذا قلنا إنّ محمدًا وزيدًا وعمرًا قادرون على منازلة خالد، فلا يكون هذا القول فصيحًا وبليغًا إلا إذا كان عمرو في مظنة العجز عن منازلة خالد، فأردنا بهذا أن ننبّه المخاطب إلى خطئه في

(319)

هذا الظنّ، كما أردنا التأكيد على أنّ عمرًا يقدر على ما يقدر عليه زميلاه محمد وزيد ... فالصابئون وإن لم يكونوا أهل كتاب، إلّا أنّ حكمهم كحكم أهل الكتاب من اليهود والنصارى في ارتباط الجزاء، وهو نفي الخوف عنهم يوم القيامة بالشرط الذي هو الدخول في الإسلام عن اعتقاد صحيح وإيمان خالص ...»[1].

وتتابع: «إنّ سياق كل آية من الآيات الثلاث مختلف عن سياق الأخرى، فالمخاطب في آية البقرة اليهود، لأنّ أكثر من نصف سورة البقرة يتحدّث عنهم ... وسياق سورة المائدة ينعي على أهل الكتاب من يهود ونصارى عدم حكمهم بما أنزل الله، بل يقربهم السياق في آياتٍ عديدةٍ إلى قبول الإسلام ... ثم جاءت آية المائدة لتبيّن أنّ (الصابئين) يثابون إذا صح منهم الإيمان والعمل الصالح، أما سورة الحج فجاءت في سياق سورة يمتاز أسلوبها في مجموعه بالقوّة والشّدّة والإنذار والتّحذير وغرس التّقوى في القلوب بأسلوبٍ تخشع له القلوب، وتستعرض مشاهد يوم القيامة ومصارع الغابرين، فرتَّبت الآية الطوائف المذكورة ترتيبًا زمنيًّا، وبيّنت أنّ من يؤمن إيمانًا صادقًا يناله الثواب، ومن يكفر ينزل به العقاب ...»[2].

رابعًا: نقد شبهة أنّ الأحناف كانوا مسيحيين وكانوا مصدرًا من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب تعبير نولدكه

مقدمة

أراد نولدكه أن يدخل إلى أثر المسيحيّة في الإسلام من خلال الأحناف، عادَّهم زُهَّادًا مسيحيين، يقول: «إنَّ المسلمين يعدُّون أنفسهم خلفاء الأحناف، هؤلاء كانوا أناسًا رفضوا الوثنيّة وفتّشوا عمّا يُرضيهم في التّعاليم المسيحيّة واليهوديّة، إطلاق هذا الاسم على الزُهَّاد المسيحيين أيضًا يشير بوضوح إلى أنَّ المسلمين

(320)

كانوا على علاقة مميَّزة بالمسيحيين، وهذا يفسِّر لجوء بعض أتباع النبي إلى ملك الحبشة المسيحي»[1].

وقد أقنع نولدكه نفسه بأنَّ الأحناف مسيحيون لغاية في نفسه كرّرها في عددٍ من المواضع، وهي أن يصل إلى أنّ المسلمين قد تأثَّروا بالمسيحيين! بل كانوا على علاقةٍ مميَّزةٍ معهم! ولذلك لجؤوا إلى ملك الحبشة المسيحي![2].

قلا بدَّ هنا أن نناقش هذه المغالطة التي أثارها نولدكه، وأن نستبين حقيقة الأحناف.

1. هل كان الأحناف هودًا أو نصارى؟

قرَّر نولدكه -كما رأينا قبل أسطر- أنَّ الأحناف كانوا مسيحيين، وأنَّ المسلمين عدُّوا أنفسهم خلفاء الأحناف، وبالتالي أكَّد تأثّر المسلمين بالمسيحيين من خلال ذلك، وألمح إلى تأثّر الأحناف أيضًا باليهودية. فهل كان الأحناف إذن هودًا أو نصارى؟

يقول الله تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [3].

إنَّ هذه الآية تنفي المسيحيّة واليهوديّة عن الأحناف بشكلٍ قاطع، وقد قال الطبري في تفسير هذه الآية: «عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما الهدى إلا ما نحن عليه! فاتَّبعنا يا محمد تهتدِ! وقالت النّصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل فيهم: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [4].

وفي تفسير ابن عباس: «ثم ذكر خصومة اليهود والنصارى مع المؤمنين

(321)

فقال: «وَقَالُوا» يعني اليهود للمؤمنين «كُونُوا هُودًا» تهتدوا من الضلالة، «أَوْ نَصَارَى» مقدم ومؤخر، وقالت النصارى كذلك: «تَهْتَدُوا»، «قُلْ» يا محمد ليس كما قلتم «بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ» مسلمًا، ولكن اتَّبعوا دين إبراهيم حنيفًا مسلمًا مخلصًا تهتدوا، «وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» على دينهم»[1].

أي إنَّ إبراهيم الحنيف ما كان على دين اليهود والنصارى.

وقد بحث جواد علي واستقصى الكتب مطوَّلًا عن قضيّة الأحناف والحنيفيَّة، فذكر بداية أن القرآن الكريم أشار إلى جماعة من العرب لم تتعبَّد الأصنام، ولم تكن من اليهود ولا النصارى، وإنما اعتقدت بوجود إله واحد عبدته، واستشهد بالآية التي استشهدنا بها[2].

ثم قال إنَّ المفسرين وأهل الأخبار ذكروا أسماء جماعة من هؤلاء، غير أنَّ ما ذكروه عنهم غامض لا يشرح عقائدهم، ولا يوضِّح رأيهم في الدين، فلم يذكروا عقيدتهم في التوحيد، ولا كيفيّة تصوُّرهم لخالق الكون. وقد عُرف هؤلاء بالحنفاء وبالأحناف، ونُعتوا بأنهم على دين إبراهيم، ولم يكونوا يهودًا ولا نصارى، ولم يشركوا بربهم أحدًا، وسفَّهوا عبادة الأصنام وسفَّهوا رأي القائلين بها[3].

ويمكن الاستنتاج أنّ أهل الأخبار لم يكونوا على بيِّنةٍ تامةٍ وعلم واضح بأحوال الحنيفيَّة وبآرائها وقواعد أحكامها وأصولها، وأنهم خلطوا في بعض الأحيان فيما بينها وبين الرهبنة، ولا سيما رهبنة النصرانية، فأدخلوا فيها ما

(322)

يجب إخراجه عنها، لأنّهم كانوا نصارى على ما يذكره أهل الأخبار أنفسهم في أثناء تحدثهم عنهم، ومن هؤلاء: قيس بن ساعدة الأيادي وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، فقد نصُّوا نصًّا صريحًا على أنّهم كانوا من العرب المتنصرة، ثم نجدهم مع ذلك يدخلونهم في جملة الأحناف[1].

2. من هم الأحناف؟ وما هي نظرة الإسلام لهم؟

أُشيرَ إلى (الحنيفيَّة) و(الحنفاء) في كتب الحديث، وقد بحث عنها شُرَّاح هذه الكتب[2]. ومما نُسب إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله حديثٌ عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: «الحنيفيَّة السمحة»[3].

وذكر العلماء أنَّنا لا نملك شيئًا من الجاهليّة يعيننا في الوقوف على عقائد الأحناف ودينهم، فليس في كتابات المسند ولا في الكتابات الجاهليّة الأخرى، بل ولا في كتب اليونان واللاتين شيء عن عقيدتهم وعن آرائهم، لذلك اقتصر علمنا بأحوالهم على ما جاء في المؤلَّفات الإسلاميّة وحدها، والفضل في حفظ أخبارهم للقرآن الكريم، فلولا إشارته إليهم وذكره لهم، لما اهتمَّ المفسِّرون وأصحاب الأخبار بجمع ما كان عالقًا في ذهن الناس عنهم[4].

ويقول العلماء في معنى حنيف أنّ الأصل (حنف)، بمعنى مال، وحنف القدمين: ميَّل كل واحدة منهما نحو الأخرى، والحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال، والحنيف هو المائل، ومن هذا المعنى أخذ الحنف.

وأما الحنيف، فالذي يميل إلى الحق، وقيل الذي يستقبل البيت الحرام، أو

(323)

الحاج أو من يختتن، والحنيف من أسلم في أمر الله فلم يلتو في شيء، والحنيف المستقيم الذي لا يلتو في شيء[1].

وقد وردت لفظة (حنيفًا) في عشرة مواضع من القرآن الكريم (البقرة، الآية 135، آل عمران، الآية 67، 95، النساء، الآية 125، الأنعام، الآية 79، 161، يونس، الآية 105، النحل، الآية 120، الروم، الآية 30).

ووردت لفظة (حنفاء) في موضعين منه: (الحج، الآية 31، البينة، الآية 5).

وبعض الآيات التي وردت فيها آيات مكية، وبعضها آيات مدنية. وقد نصّ في بعض منها على إبراهيم، وهو على الحنيفيَّة، ولم ينص في مواضع منها على اسمه.

وذكر بعض أهل الأخبار أنّ الحنيف عند أهل الجاهليّة من اختتن وحج البيت، فكل من اختتن وحج البيت هو الحنيف[2].

والذين يذكرون أنّ الحنيف هو من اختتن وحج البيت، يذكرون أنّ العرب لم تتمسّك في الجاهليّة بشيءٍ من دين إبراهيم غير الختان وحج البيت، ولهذا فكلّ من اختتن وحج البيت، قيل له حنيف.

وقد أضاف بعضهم إلى الختان وحج البيت: اعتزال الأصنام والاغتسال من الجنابة، وجعلوا ذلك من أهم العلامات الفارقة التي ميَّزت الحنفاء عن المشركين؛ لأنّ الحنيفيَّة على حدّ قولهم لو كانت حج البيت والاختتان لوجب أن يكون الذين كانوا يحجّون ويختتنون في الجاهليّة من أهل الشرك حنفاء، وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنُّفًا بقوله: (وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [3].

وينسب أهل الأخبار إلى الأحناف بالإضافة إلى ما ذكرنا، امتناعهم عن أكل

(324)

ذبائح الأوثان وكل ما أُهِلَّ لغير الله، كما نسبوا إليهم تحريم الخمر على أنفسهم[1].

وقد رأى جواد علي -في النتيجة- أنّ لفظة (حنيف)، هي في الأصل بمعنى (صابئ) أي خارج عن ملة قوم، تارك لعبادتهم. وهذا ما ذهب إليه علماء اللغة، من أنها من الميل عن الشيء وتركه، ومن ورودها بهذا المعنى في النّصوص العربيّة الجنوبيّة، وبمعنى (الملحد)، و(المنافق)، و(الكافر) في لغة بني إرم، ومن إطلاق المسعودي وابن العبري لهذه اللفظ على (الصابئة)، ومن ذهاب المسعودي إلى أنّ اللفظة من الألفاظ السريانيّة المعرَّبة. وقد أُطلقت على (المنشقِّين) على عبادة قومهم الخارجين عليها، كما أطلق أهل مكة على النبي وعلى أتباعه (الصابئ) و(الصُّباة)، فصارت علمًا على من تنكَّر لعبادة قومه، وخرج على الأصنام. ولهذا نجد الإسلام يطلقها في بادئ الأمر على نابذي عبادة الأصنام، وهم الذين دعاهم بأنهم على دين إبراهيم. ولما كان التنكر للأصنام هو عقيدة الإسلام لذلك صارت مدحًا لمن أطلق الجاهليون عليهم تلك اللفظة لا ذمًّا[2].

والحنفاء، كما يفهم من روايات أهل الأخبار، كانوا طرازًا من النُّسَّاك، نسكوا في الحياة الدنيا، وانصرفوا إلى التَّعبد للإله الواحد الأحد إله إبراهيم وإسماعيل، ساحوا في البلاد على نحو ما يفعله السُّيَّاح الزُّهَّاد بحثًا عن الدين الصحيح دين إبراهيم. ومنهم من أخذ على قومه هدايتهم بحثِّهم على ترك عبادة الأصنام، لذلك لاقوا منهم نصبًا شديدًا. ومنهم من كان يتأمَّل في هذا الكون، لذلك تجنَّب الناس واعتزلهم، والتجأ إلى الكهوف والمغاور البعيدة ابتعادا عن الناس للتَّأمل والتَّفكر، وقد تجنَّبوا الخمرة والأعمال المنكرة، وقول الفحش، وساروا على مثل الإسلام، وإن عاشوا قبل الإسلام، لأن الإسلام دين إبراهيم[3].

(325)

والذي يُفهم من القرآن الكريم، هو أنَّ الحنفاء هم أولئك الذين رفضوا عبادة الأصنام، فلم يكونوا من المشركين، بل كانوا يدينون بالتوحيد الخالص، وهو فوق توحيد اليهود والنصارى، فلم يكونوا يهودَّا ولا نصارى، و(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [1]، وكذلك في سورة البقرة، الآية 35، وآل عمران، الآية 95، والنساء، الآية 124، والأنعام، الآية 79، 162، ويونس 105. وأن قدوتهم في ذلك إبراهيم.

ويلاحظ أن لفظة (مسلم) استعملت في مرادف ومعنى لفظة (الحنيف)، وأنَّ إبراهيم هو أبو المسلمين وأوّلهم. وقد وُصف الإسلام بأنّه دين الله الحنيف، والدين الحنيف، وأن الشريعة الإسلامية هي الحنيفيَّة السمحة السهلة، وذلك تمييزًا لها عن الرهبانيّة المتعصّبة[2].

ويرى جواد علي مستنتجًا أنَّ الحنفاء جماعة سخرت من عبادة الأصنام، وثارت عليها وعلى المثل الأخلاقيّة التي كانت سائدةً في ذلك الزمن، ودعت إلى إصلاحاتٍ واسعةٍ في الحياة وإلى محاربة الأمراض الاجتماعيّة التي كانت متفشّية في ذلك العهد، دعاها إلى ذلك ما رأته في قومها من إغراق في عبادة الأصنام ومن إسفاف في شرب الخمر ولعب الميسر وما شاكل ذلك من أمور مضرَّة، فرفعت صوتها كما يرفع المصلحون صوتهم في كلّ زمن ينادون بالإصلاح، وقد أثارت دعوتهم هذه المحافظين وأصحاب الجاه والنّفوذ وسدنة الأوثان شأن كلّ دعوة إصلاحيّة. ويجوز أن يكون من بين هؤلاء من مالَ إلى النصرانية، غير أنّنا لا نستطيع أن نقول إنّهم كانوا نصارى أو يهودًا، إنما يمكن تشبيه دعوة هؤلاء بدعوة الذين دعوا إلى عبادة الإله رب السماء (ذو سموى) أي ذو السماء، أو عبادة الرحمن في اليمن، متأثِّرين بمبادئ التوحيد التي حملتها اليهودية والنصرانية إلى اليمن. ولكنّهم لم يكونوا أنفسهم يهودًا أو نصارى، إنما هم أصحاب ديانة من ديانات التوحيد، وكان أولئك الأحناف نفرًا من قبائل

(326)

متفرّقة لم تجمع بينهم رابطة، إنما اتفقت فكرتهم في رفض عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الإصلاح. وهذا المعنى واضح في آيات القرآن الكريم التي أشارت إلى الحنفاء[1].

خامسًا: نقد شبهة أن بحيرى مصدر من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب تعبير نولدكه

مقدمة

أثار نولدكه هذه الشُّبهة في موضع واحد حين قال: «حتى لو كانت الروايات التي تجمع محمدًا براهب سرياني اسمه بحيرى أو نسطوريوس تحتوي نواة من الحقيقة، فلا يمكن للقاء كهذا أن يكون ذا أثر بالغ في نبوته، فحتى لو سافر محمد إلى سورية مرارًا -والمئات من بني قومه قاموا بهذه الرحلة سنويًّا- لم يكن من الضروري لوثنيٍّ في مكة أن يذهب إلى سورية أو الحبشة ليتعرّف على ديانات الوحي، ولا أن يأتي مسيحي سوري أو حبشي إلى مكة ليتم ذلك، ففي مكان غير بعيدٍ منها توافر ما يكفي لهذا الغرض من اليهود والمسيحيين، لقد توفَّرت إذن قنوات اتصال عديدة ومتنوّعة سرت عبرها المعارف الدينيّة إلى محمد»[2].

 وكلام نولدكه هذا يدلّ على ما يأتي:

ـ إنَّ لقاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ببحيرى فيه نواة من الحقيقة، بمعنى نواة من الأخذ عن بحيرى بحسب سياق كلامه وسياق كتابه.

ـ لا ينفي نولدكه أثر هذا اللقاء على النبي، وإنما يجعله أثرًا ضعيفًا.

ثم يجعل نولدكه من الأثر اليهودي والمسيحي هو الأثر البالغ.

(327)
1. نقد رواية التِّرمذي بداية

إنَّ التِّرمذي هو الوحيد الذي حسَّن رواية لقاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ببحيرى[1]، وإنَّ التقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالراهب بحيرى إبَّان شبيبته ليس محلّ اتّفاق المسلمين، فقد ضعَّفها آخرون وحسَّنها التِّرمذي فقط، وقد حُكم على إسناده بالغرابة، وهذا عند أهل العلم النُّقَّاد المتقدِّمين لا يُقبل؛ لأنَّ المتفرِّد به له روايات مناكير.

وسنأخذ بأحسن الأحوال، وسنقول إنَّ خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع عمه إلى بصرى وتحذير الراهب بحيرى لعمه من اليهود ثابتة اعتمادًا على رواية الترمذي واستئناسًا بالروايات الضعيفة في الطبقات الكبرى[2] ودلائل النبوة للبيهقي[3] والسيرة النبوية لابن كثير[4].

وحديث التِّرمذي حسن غريب، ورواه الحاكم في المستدرك وصحَّحه[5]، وتعقَّبه الذهبي في تاريخ الإسلام فقال: «وهو حديث منكر جدًّا»[6].

وليس ببعيد أن يكون ابن إسحاق قد أدرك ما في المتن من نكارات فقال: يزعمون، وكرَّرها ثلاث مرات[7]، وهي تفيد ضعف الخبر وتمريضه.

وقد عقَّب ابن سيد الناس على هذه الحادثة بقوله: «قلت: ليس في إسناد هذا

(328)

الحديث إلا من خرَّج له في الصحيح، وعبد الرحمن بن غزوان أبو نوح لقبه: قُرَاد، انفرد به البخاري ويونس بن أبي إسحاق انفرد به مسلم، ومع ذلك ففي متنه نكارة، وهي إرسال أبي بكر مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلالًا، وكيف وأبو بكر حينئذ لم يبلغ العشر سنين، فإنَّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أسنُّ من أبي بكر بأزيد من عامين، وكانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تسعة أعوام على ما قاله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وغيره، أو اثنا عشر على ما قاله آخرون، وأيضًا فإنّ بلالًا لم ينتقل لأبي بكر إلّا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عامًا، فإنّه كان لبني حلف الجمحيين وعندما عذب في الله على الإسلام اشتراه أبو بكر رحمة له واستنقاذًا له من أيديهم، وخبره بذلك مشهور»[1].

ومن متابعتي لابن الأثير في الكامل في التاريخ[2] وجدت عنده طرفًا من حُسن الانتقاء لما لا اعتراض عليه عند العلماء، فإنَّ كلَّ ما اعتُرض عليه في هذه القصَّة تجنَّبه[3].

2. التغاضي عن مضمون رواية قصة بحيرى

اتَّصف من تناول شبهة بحيرى بأنَّه حمَّل النَّص التاريخي الوارد بذلك ما لا يحتمل، واجتهد في مورد النص، بينما تغاضى عن الكلام الصريح فيه، وهو اعتراف بحيرى بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكما في رواية الترمذي، قال بحيرى: «فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك، فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدًا ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة»[4].

(329)

ولنا أن نسأل الأسئلة الآتية:

لماذا تمَّ تجاهل تحذير بحيرى للنبي من اليهود؟؟

ولماذا تمَّ تجاهل أن الحديث الذي ذكرته الروايات في هذه الحادثة بين بحيرى وبين النبي اقتصر على أسئلة بحيرى له عن أشياء من حاله ونومه وهيئته وأموره، ليقارنها ببشارات أهل الكتاب عنه كما ورد عندهم من علامات نبي آخر الزمان؟

فإما أن يقبل هؤلاء الرواية كاملة، وبالتالي يؤمنون بما فيها من وضوح يتعلق باعتراف بحيرى بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإما أن يرفضوا الرواية من أصلها، وبالتالي تنتفي الشُّبهة التي أثاروها من غير وعي.

ولماذا لم يذهب هؤلاء إلى سفر إشعياء ليقارنوا ما ورد فيه مع ما لاحظه بحيرى؟!! فلقد علم بحيرى الراهب أنَّ من صفات النبي القادم أن يكون بين كتفيه خاتم النبوة، انظر
ذلك في سفر إشعياء: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ»[1].

3 . مزاعم تستند على افتراضات غير علميّة ولا يقبلها العقل:

إنَّ من أثار هذه الشُّبهة لم يستند على قواعد علميّة منهجيّة، يبين ذلك ما يأتي:

إنّ مزاعم المستشرقين بأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تأثر برجال آخرين أمثال بحيرى وورقة بن نوفل وقس بن ساعدة الإيادي والفلاسفة ... إلخ، كلّها مجرد استنتاجاتٍ باطلةٍ لا تستند إلى حقائق تاريخيّةٍ أو روايات صحيحة أو ضعيفة، ولذا يجب الإعراض عنها، فهي سمة بارزة مشتركة في كتابات المستشرقين من أصحاب الأهواء والأغراض، فهم يريدون أن يوهموا قرّاءهم بأن محمدًا صلى‌الله‌عليه‌وآله ألَّف القرآن وفق هذه المعطيات التي يوردونها[2].

(330)

وهي دعوى مجرَّدة من الدليل خالية من التحديد والتعيين، ومثل هذه الدعاوى لا تُقبل ما دامت غير مدلّلة، وإلا فليخبرونا ما الذي سمعه محمد من بحيرى الراهب؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟[1].

إنّ التاريخ لا يعرف أكثر من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله سافر إلى الشام في تجارة مرتين مرة في طفولته ومرة في شبابه، ولم يسافر غير هاتين المرتين، ولم يجاوز سوق بصرى فيهما.

ولم يسمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من بحيرى ولا من غيره شيئًا من الدين، ولم يك أمره سرًّا هناك، بل كان معه شاهد في المرة الأولى وهو عمه أبو طالب، وشاهد في الثانية وهو ميسرة غلام خديجة التي خرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بتجارتها أيامئذ.

وكل ما هنالك أن بحيرى الراهب رأى سحابة تظلله من الشمس فذكر لعمه أن سيكون لهذا الغلام شأن، ثم حذَّره عليه من اليهود وقد رجع به عمه خوفًا عليه ولم يتم رحلته[2].

ولم ترد معلومات صحيحة أو غير صحيحة في مصادر السيرة النبوية تفيد بأن بحيرى أخبر محمدًا بعقيدة عيسى أو سفَّه -أي بحيرى- عبادة الأصنام، فكل الذي ذكرته المصادر هو أن الراهب بحيرى عندما قال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا غلام! أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه»، قال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تسألني باللات والعزى، فو الله ما أبغضت شيئًا بغضهما»[3].

وأنه كله لا يعدو كونه تخمينات وافتراءات وتخرُّصات لا تسندها نصوص قوية أو ضعيفة[4].

كذلك ليس في شيء من الروايات أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله  سمع من بحيرى أو تلقى منه

(331)

درسًا واحدًا أو كلمة واحدة، لا في العقائد ولا في العبادات ولا في المعاملات ولا في الأخلاق، فأنَّى يؤفكون؟[1].

ولم يستند من أثار هذه الشُّبهة على منطق أو أمر يقبله العقل، يبين ذلك ما يأتي:

الذين التقى بهم صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأحبار والرهبان هما: بحيرى الراهب وورقة بن نوفل، وكان اللقاء مرة واحدة بالنسبة لورقة، ومرتين بالنسبة لبحيرى إذا فرضنا صحة ذلك، وذلك لا يكفي للتلقي عنهم، إضافة إلى أن ورقة توفي بعد اللقاء بثلاث سنوات ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يجهر بدعوته بعد، وهذا كلّه وغيره يعني استحالة ثبوت أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ عنهما شيئًا.

وهل المدة التي جلسها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مع بحيرى تسمح أن يتعلم مئات القضايا القرآنية الموسوعية الفلكية والجغرافية و... ثم يظهرها بعد ثلاثين عامًا من هذه الحادثة؟![2].

وإذا فرضنا أنّ مدة اللقاء كانت بضع ساعات فهل يستطيع الراهب بحيرى في هذا الوقت أن يلقنه هذا الكم الكبير من علوم التوارة والإنجيل؟! فلم يتجاوز لقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع بحيرى بضع ساعات لا تسمح له بأن يتلقى هذا الكم الهائل من تعاليم الإسلام.

ويستحيل في مجرى العادة أن يتمّ إنسان على وجه الأرض تعليمه وثقافته، ثم ينضج النضج الخارق للمعهود فيما تعلم وتثقف، بحيث يصبح أستاذ العالم كلّه لمجرّد أنّه لقي مصادفة واتفاقًا راهبًا من الرهبان مرتين، على حين أنّ التلميذ كان في كلتا المرتين مشتغلًا عن التعليم بالتجارة، وكان أميًّا لا يعرف القراءة والكتابة، وكان صغيرًا تابعًا لعمه في المرة الأولى، وكان حاملًا

(332)

لأمانة ثقيلة في عنقه لا بد أن يؤديها كاملة في المرة الثانية، وهي أمانة العمل والإخلاص في مال خديجة وتجارتها[1].

إنّ تلك الروايات التاريخيّة نفسها تحيل أن يقف هذا الراهب موقف المعلم المرشد لمحمد؛ لأنّه بشَّره أو بشَّر عمّه بنبوّته، وليس بمعقول أن يؤمن رجل بهذه البشارة التي يزفها ثم ينصب نفسه أستاذًا لصاحبها الذي سيأخذ عن الله ويتلقى عن جبريل ويكون هو أستاذ الأستاذين وهادي الهداة والمرشدين، وإلا كان هذا الراهب متناقضًا مع نفسه.

إنّ بحيرى الراهب لو كان مصدر هذا الفيض الإسلامي المعجز لكان هو الأحرى بالنبوة والرسالة والانتداب لهذا الأمر العظيم[2].

هل كان بحيرى عالمًا بعلوم القرآن التي فيها قصص الأولين والآخرين، وتضمّنت الغيبيات التي لم تُكشف إلَّا مؤخرًا عبر العلم الحديث؟!

لم يتكلّم أحد في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذه التهمة أبدًا، لا قريش ولا غيرها، فلو كانت واردة لاشتهرت على ألسن أهل ذلك الزمان، ولشاع الخبر وتناقله الناس، وحينئذ يكون حجّة لكفار قريش لرد رسالته والطعن في نبوته، إلّا أنّ شيئًا من هذا لم يحدث، ولم تنقل كتب السير أنّ كفار قريش قالوا له أنت تلقّيت هذه التعاليم من بحيرى[3].

إنّ القرآن واسع جدًا في علومه، متآلف متناسق، مما يستحيل استيعابه، فلا يعقل أن يكون نصفه مثلًا من تأليف بحيرى والنصف الآخر من تأليف ورقة، أو إذا افترضنا معهم أمية بن أبي الصلت كما يدَّعون، فلا يعقل أن يكون ثلثه من تأليف بحيرى والثلث الثاني من تأليف ورقة، والثلث الثالث من تأليف أمية بن أبي الصلت!!

(333)

فهذا الإمام السيوطي يذكر في مقدّمة كتابه (الإتقان في علوم القرآن) أنَّ القرآن: «مفجر العلوم ومنبعها، ودائرة شمسها ومطلعها، أودع فيه سبحانه وتعالى علم كلّ شيء، وأبان فيه كلّ هدي وغي، فترى كل ذي فن منه يستمد...»[1].

وهذا كلّه جعل توماس كارلايل يندهش من هذا (الزَّعم) في هذه القصة، ونفى تعلُّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من بحيرى بطريقةٍ استغرابيّةٍ بقوله: «وإني لست أدري ماذا أقول بشأن الراهب سرجياس (بحيرى) الذي يُزعم أن أبا طالب ومحمدًا سكنا معه في دار، ولا ماذا عساه يتعلمه غلام في هذه السن الصغيرة من أي راهب ما، فإن محمدًا لم يتجاوز إذ ذاك الرابعة عشرة، ولم يكن يعرف إلا لغته»[2].

وإنّ طبيعة الدين الذي ينتمي إليه الراهب بحيرى تأبى أن تكون مصدرًا للقرآن وهداياته خصوصًا بعد أن أصاب ذلك الدين ما أصابه من تغيير وتحريف.

ثم إنّ القرآن صوَّر علوم أهل الكتاب في زمانه بأنَّها الجهالات، ثم تصدّى لتصحيحها، وصوَّر عقائدهم بأنّها الضلالات، ثم عمل على تقويمها، وصوَّر أعمالهم بأنّها المخازي والمنكرات، ثم حضَّ على تركها، وبذلك فإنّ فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه، وإنّ الخطأ لا يمكن أن يكون مصدرًا للصواب، وإنّ الظلام لا يمكن أن يكون مشرقًا للنور[3].

والدّليل المادي الواضح أنّ قصص الأنبياء في القرآن الكريم لم تتوافق مع ما جاء في التوارة والإنجيل، وهذا يعني أنّ مصدر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله  -وهو الوحي- لم يكن بحيرى ولا غيره.

وإذا قارنا بين تعليمات القرآن والتوحيد الذي جاء به، نجده مختلفًا جدًا عن

(334)

عقيدة التثليث عند النصارى، كما أنّ شريعة القرآن تختلف عن شريعة التوراة والإنجيل.

وهذه القضيّة ناقشناها في مبحث خاص.

والأمر الأوضح والحاسم أنَّه وردت في القرآن أحداث بالعشرات، حدثت بعد وفاة بحيرى (وورقة وغيرهما)، مثل الأحداث في سورة آل عمران وفيها ثمانون آية تتعلق بنصارى نجران، وستون آية تتعلق بغزوة أُحد، وفي سورة التوبة آيات تعلقت بغزوة تبوك، والأمثلة كثيرة في هذا الباب.

وورد فيه الكثير من العلوم التي سجَّلت قصص الأولين والآخرين ضمن غيب الماضي وغيب الحاضر وغيب المستقبل الذي لم يكشفه إلا العلم الحديث اليوم.

ولنا أن نقول أخيرًا، إنَّ من حظّ بحيرى أن قابل محمدًا، فلولا هذه المقابلة لاندثر كما اندثر ملايين الرهبان قبله وبعده[1].

ونختم بما قاله العلَّامة الشبلي النعماني: «إنّ علماء الغرب يَعتدُّون بصحّة هذه الرواية، مع أنَّ الرواية -لو صحَّت- خالية من ذكر التعليم والتلقين، وما قاله علماء الغرب لا يقوله عاقل رُزق من سلامة العقل والإنصاف ذرة، وكيف يعقل أنّ غلامًا لا يتجاوز عمره اثنتي عشرة سنة على الأكثر أو تسع سنوات على الأصح، تلقى من شيخ لا يعرف لغته، ولم يجلس إليه إلا ما يستغرقه وقت الجلوس على المائدة، المسائل الدقيقة والتفاصيل العميقة في نقد عقيدة الشرك!؟» [2].

(335)

الخاتمة والنتائج

ساق نولدكه مجموعةً من التَّصوّرات التي أراد من خلالها أن يثبت شبهة أنَّ المسيحيّة (والليتورجيا) مصدر من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصرَّح في مواضع عدّة بكلام يدلّ على عدم تمكُّنه أو ثقته بالأدلّة التي يذكرها، لذلك كانت يثبتها مرة، ثم يعود لينفيها مرة ثانية، فأوقع نفسه في متناقضات.

واستخدم نولدكه عبارة (على الأرجح) في حكمه على قضيّةٍ جوهريّةٍ أراد من خلالها إثبات تلقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أهم أجزاء تعليمه من اليهود والمسيحيين شفويًّا، وإنَّ استخدامه لهذه العبارة تجعلنا نحكم على كتاباته وأحكامه بأنَّها ظنيَّةٌ وغيرُ علميّةٍ وغير منهجيّةٍ.

وظهر لنا أنّ نولدكه جاهلٌ أو متجاهلٌ بما صرَّح به القرآن الكريم من وجود التّشابه بين ما أنزله الله على الأنبياء وبين ما أنزله على خاتمهم، لذلك فإنَّ القرآن لا ينكر صلاته بالمسيحيّة وغيرها، كما أراد الله أن تكون كلّ شريعة ناسخة للشريعة التي قبلها، فالإسلام ينسخ ما قبله من الأديان السماوية، وإنَّ هذه الصلة وهذا التّشابه بين الإسلام والمسيحيّة ليس مطَّردًا، بسبب وقوع الإنجيل بالكتمان والتحريف على أيدي الأتباع.

وجعل الله تعالى القرآن الكريم مهيمنًا على ما سبقه من الكتب السماويّة، أي رقيبًا وحافظًا لما تقدَّمه من سائر الكتب، وشاهدًا عليها وشاهدًا لها بالصحة والثبات، وهو كلمة الله الأخيرة لهذه البشرية التي يجب أن يفيء إليها الناس كلهم حتى يكونوا مؤمنين.

لذلك، فإنَّ إنكار نولدكه العلاقة بين القرآن والكتب السماوية الأخرى يجعلنا نحكم عليه أنَّه ليس مؤهلًا منهجيًا وعلميًّا لكل ما طرحه من شُبَه.

هنالك عشرات النّصوص من التوراة والإنجيل تشير بوضوح إلى صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخباره ومبعثه، وهي نصوصٌ ثابتةٌ وظاهرةٌ، لم يأتِ نولدكه على ذكرها، وتجاهلها

(336)

كليًّا، بينما ذهب باتجاه تشكيكات هو صرَّح بعدم ثقته بها.

وتوضَّح لنا أنَّ معرفة نولدكه بالمسيحيّة في شبه الجزيرة العربية لم تكن واسعة، وينطبق ذلك على الصابئة والأحناف وأمثال ذلك.

إذ كان عدد النّصارى في الجزيرة العربيّة قليلًا، ولم يثبت أنّ أهل مكّة قد عرفوا النّصرانيّة وتعاليمها ومبادئها، لذلك لم يثبت التقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأحد من النصارى، سوى بحيرى وورقة، ثم من أسلم منهم، لذلك سكت الرواة عن إيراد أخبار عن ذلك، وكذلك سكت المشركون عن إثارة مثل هذه الشُّبهة، ولو توفَّر لهم عنها شيئًا لسارعوا إلى استغلاله وإلى تحويله إلى فضيحة.

وما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل النبوّة على علم بشيء من تفاصيل اليهوديّة أو النصرانيّة أو أخبار الكتب السابقة إلا بمثل ما كان يعلمه أهل مكة؛ لأنّه أميٌّ، ولا يخالط أهل الكتاب، ولم يكن بمكة أهل كتاب. ولكنّه صار بعد النبوّة أعلم بدين اليهود والنصارى من أنفسهم.

وظهر لنا أنَّ نولدكه لم ينتبه إلى الآيات الكثيرة التي تنتقد النصارى، أو تجاهلها، وهي حقائق تُسقط الشُّبهة التي أثارها.

إن أكثر أنباء الغيب التي في القرآن لم يكن لأهل الكتاب علم بها على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل إنَّه صحَّح أغلاطهم في كثير من هذه الأنباء، ويستحيل في مجرى العادة أن يتحقّق كلّ ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله  مع هذه الكثرة من الأخبار الغيبية، لكنه لم يخطئ في واحدة منها على كثرتها وتنوّعها.

إنَّ التّشريع الإسلامي جاء بحسب وقائع المجتمع الذي عايشه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي إنَّ الوقائع هي التي فرضت هذا التشريع، وهذا يدحض الأخذ عن أهل الكتاب مسبقًا، إذ لو كان كذلك، فكيف سيتوافق مع وقائع هي جديدة؟!

إنَّ مما ينقض شبهة نولدكه أنَّ من مقاصد الشريعة الإسلاميّة مخالفة اليهود والنّصارى في مسائل كثيرة، ومن ذلك: تحريم التّشدّد والرهبانيّة، والسحور، وقضيّة حيض المرأة.

(337)

ومن ضمن شبهة المسيحيّة أثار نولدكه شبهة الليتورجيا، وكان الطرح العلمي الموضوعي يقتضي منه أن يبيّن لنا تفاصيل هذه الشُّبهة، وأن يضع بين أيدينا مثالًا واحدًا على الأقل يدلّل فيه على أخذ الإسلام عنها، لكنّه لم يفعل، إذ أشار إلى الليتورجيا بكلمة واحدة، وقرّر أنَّها من مصادر تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وتبيّن لنا من خلال تعريف الليتورجيا ومعانيها وفروعها ومحتواها وأنواعها وتاريخيها ومصادرها، أن لا علاقة لكل ذلك بالإسلام، وخاصّة أنَّها استمرَّت بالتطوّر منذ العصور القديمة حتى القرن العشرين.

وتبيّن لنا أنّ من أثار فرضيّة وشبهة الليتورجيا اختزل القرآن فيها متجاهلًا الأبعاد الأخرى الكثيرة جدًا، مما يجعل هذه الفرضيّة مفتقدة لعمقٍ نظريٍّ ومنهجيٍّ سليم، وأنَّها ليست إلا فرضيّة كتابيّة مسيحيّة تتماشى تمامًا مع التّصوّر المسيحي.

أجمع رجال الدين المسيحيين أنّ الليتورجيا هي الكتاب المقدّس، وأنَّ بينهما رابطة متينة، وأنَّ العلاقة بينهما علاقة واضحة عميقة لا تحتاج إلى براهين وأدلّة، لذلك فإنَّ الردَّ على هذه الشُّبهة هو نفسه الردُّ على شبهة أنَّ المسيحيّة مصدر من مصادر تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي الليتورجيا عشرات النّصوص والصّور التي لا تلتقي مع الاعتقادات الإسلاميّة في شيء، مثل أنَّ يسوع ربٌّ، وعقيدة الثالوث المقدس، والإيمان بالصليب.

وإن أراد نولدكه بشبهته طقوس الليتورجيا، فإنَّ الطقوس رموزٌ لا تحمل فقط دلالاتٍ دينيّةً، وإنّما ترتبط بالعادات والتقاليد والقصص والأساطير، وتختلط بالشّعائر الدينيّة، والطقوس مشتقّة من حياة الشعب الذي يمارسها.

وظهر لنا ارتباط الإفخارستيا ارتباطًا وثيقًا بالليتورجيا، وأنَّ معانيها لا علاقة لها بالإسلام، ولا تلتقي معه في شيء.

وفي النتيجة: إنَّ عدم التقاء الإسلام والليتورجيا والإفخارستيا في شيء هو أمرٌ يدفعنا للاستغراب والاندهاش من طرح نولدكه، ومن إثارته لشبهة العلاقة بينها،

(338)

ومن خلال كلمةٍ واحدةٍ قالها، ولم يكلِّف خاطره أن يشرحها أو أن يذكر المكان الذي تلتقي فيه مع الإسلام.

وأثار نولدكه شبهة الصابئة، وتبيَّن لنا بعد المرور على تعاريفهم الدقيقة وأصلهم وتاريخهم، أنَّ نولدكه كان جاهلًا بتفاصيل ذلك، فجاء حكمه مغالطًا للحقيقة.

وثبت لنا من خلال اعتقادات الصابئة أنَّهم ما كانوا يهودًا ولا مسيحيين كما ادّعى نولدكه، حين حاول أن يثبت من خلالهم أنّ المسيحيّة هي مصدر الإسلام.

وإنَّ إطلاق المشركين على المسلمين: صابئة، جاء من باب وصفهم بأنّهم خرجوا على دين الجماعة الرسمي ومألوف عقائدها، فكانت هذه اللفظة تطلق على الخارجين على عبادة قومهم المخالفين لهم في ديانتهم.

وانتقلت الصابئة إلى الجزيرة العربية اسمًا من غير مضمون فكري، فكان استعمالها في اللسان العربي كلفظ أطلقه العرب على خوارج الجاهليّة، أي: الذين خرجوا عن دين الجاهليّة. ولقد أثَّر المذهب الصابئي كثيرًا في الوثنيّة العربيّة؛ فصار في وثنيّة العرب الكثير من العناصر الصابئيّة، كعبادة الأفلاك مثلًا.

وأشار القرآن الكريم إلى الصابئة في آيات ثلاث، وفيها وفي تفسيرها ما ينقض شبهة نولدكه، فلم يعفهم الله عز وجل من الدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح، وتناولهم بالإنذار الشديد، ولم يهادنهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يصطنع معهم دون غيرهم لينًا في القول، إنما كان موقفه يتسم بالوضوح والحسم مع سائر الأديان، ولم يؤثر أن ادُّعي عليه أنه افترى شيئًا من الصابئة أو ادَّعت عليه الصابئة هذه الفرية.

وأثار نولدكه شبهة الأحناف، وأنَّهم كانوا مسيحيين، وأراد أن يدخل من خلال ذلك إلى شبهته الرئيسة في أنّ الحنفية كانت من مصادر تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفاته أنَّ الأحناف ما كانوا يهودًا ولا مسيحيين، وإنما كانوا على دين إبراهيم عليه‌السلام ، فكانوا من النُّسَّاك الذين نسكوا في الحياة الدنيا، وانصرفوا إلى التَّعبد للإله الواحد الأحد إله إبراهيم وإسماعيل.

(339)

وأثار نولدكه شبهة الراهب بحيرى، وأنَّه مصدر من مصادر تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنَّه جعل هذا الأثر ضعيفًا في مقابل الأثر اليهودي والمسيحي.

وظهر لنا أنَّ التقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله  بالراهب بحيرى ليس محلّ اتّفاق المسلمين، فقد حسَّن رواية هذا الخبر بعض أهل العلم، وضعَّفها آخرون، فحسَّنها التِّرمذي فقط، وقد حُكم على إسناده بالغرابة، وهذا عند أهل العلم النُّقَّاد المتقدِّمين لا يُقبل؛ لأنَّ المتفرِّد به له روايات مناكير.

إنَّ من أثار شبهة بحيرى استنتج استنتاجات لا يحتملها النص، ولا حتى الظن، بينما غضَّ النظر عن الكلام الصريح الذي فيه اعتراف بحيرى بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهذه طريقة في التّعامل مع النّصّ لا تنزل في ميزان المنهجيّة العلميّة، ولا تقبلها الموضوعيّة، بل ترقى لتضليل النص وتزويره.

ولا يمكن وصف هذه الشُّبهة إلا بالمزاعم التي لا تستند على افتراضاتٍ علميةٍ، ولم ترتكز على قواعد علميّة منهجيّة، ولا يقبلها العقل ولا المنطق، وهي ليست إلا دعوى مجرَّدة من الدّليل خالية من التحديد والتعيين، وكل ما فيها لا يعدو كونه تخميناتٍ وافتراءاتٍ وتخرُّصاتٍ لا تسندها نصوص قويّة أو ضعيفة، وهي تخالف مجرى العادة.

ولم يُثبت أحد أنَّ بحيرى كان على علم بعلوم القرآن التي فيها قصص الأولين والآخرين والغيبيات، وأين هو من عشرات الأحداث التي حدثت بعد وفاته؟!

لم يتكلّم أحد أبدًا في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله  عن هذه التهمة، سواء الأصدقاء أو الأعداء، فمن أين جاء أصحاب الشُّبهة بها؟

(340)

المبحث الثالث: نقد شبهة زيد بن عمرو بن نفيل وأمية بن أبي الصلت واعتقادات الجاهليّة

 تمهيد

ذكر نولدكه ثلاث شُبَهٍ تحت ادّعاء أنّها من مصادر تعليم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي تتعلّق بشخصيّتين هما: زيد بن عمرو بن نفيل وأمية بن أبي الصلت، وبقضيّة اعتقادات قوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهي شُبَه لم يوقفنا نولدكه فيها على دراسة السند والمتن والمعنى، واكتفى بالوقوف على شواطئها دون الغوص في أعماق مضامينها وتفصيلاتها وتشعُّباتها، فجاءت أحكامه غريبة عن الواقع وعن الحقيقة، فابتعد من المصداقيّة ومن الموضوعيّة، وخرج بذلك عن المنهجيّة العلميّة السليمة، وعن النزاهة البحثيّة.

ولتعدّد الشُّبه في هذا البحث سنجعل كلّ واحدة في فقرة مستقلّةٍ.

ولن أطيل في المقدّمة هنا؛ لأنّه سيكون لكلّ شبهةٍ مقدّمتها الخاصّة المتناسبة معها.

أوّلًا: نقد شبهة أنّ زيد بن عمرو بن نفيل مصدر من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب تعبير نولدكه

مقدّمة: ذكر نولدكه شبهة أنَّ زيد بن عمرو بن نفيل مصدر من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في موضع واحد، وقد نقل هذه الشُّبهة عن شبرنغر أولًا، فقال: «يضيف شبرنغر إلى مصادر محمد الشّفويّة زيد بن عمرو بن نفيل الذي قاوم عبادة الأصنام في مكة زمنًا طويلًا قبل ظهور محمد، كما تورد بعض الأخبار التي تمّ للأسف إجراء تعديلات عليها من وجهة نظر إسلاميّة بحتة».

ثم نفهم من كلام نولدكه أنَّه يؤيِّد شبرنغر في شبهته لمَّا قال: «لعل محمدًا

(341)

قد تلقَّى بالفعل من هذا الرجل ما دفعه في المرة الأولى إلى التفكير في الدين»[1]. بل نفهم من هذا الكلام أنَّ نولدكه يلمِّح أنَّ انطلاقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نحو التفكير بالدين كانت ما تلقَّاه من زيد بن عمرو بن نفيل.

وكعادة نولدكه، وربما تحوَّل ذلك إلى منهج عنده، يعود ليشكِّك بهذا المصدر، لمَّا قال: «لكننا على جهل تام بالتفاصيل»، أي تفاصيل تعلُّم النبي على زيد بن عمرو بن نفيل.

واتّهم نولدكه شبرنغر بالتمادي في الاستنتاج في هذه الشُّبهة، يقول: «شبرنغر يتمادى في استنتاجه مما وصلنا من أقوال زيد، وهو يشبه القرآن كثيرًا، (أنَّ محمدًا لم يستعر ذاك فقط تعاليمه بل أيضًا تعابيره). تلك الأقوال تحمل بصراحة طابع تأليف قام به أحد المسلمين بجمعه آيات قرآنية، مما يدفعنا إلى عدم التعويل على هذه الأقوال، أكثر منه الأشعار المنسوبة إلى زيد التي يوردها ابن هشام وكتاب الأغاني»[2].

ويختم نولدكه أقواله هذه بقوله: «ولكان مدعاة للتعجب الشديد لو أنَّ محمدًا لم يقم بنفسه بحفظ خطب زيد غيبًا وإدخالها حرفيًّا في القرآن، بل نقلها إلى جانب ذلك شخص آخر في صيغتها الأصلية إلى الأجيال اللاحقة»[3].

وفي كلام نولدكه في المقطعين الأخيرين يختلط تأييده بنفيه لهذه الشُّبهة، وهذان المقطعان هما من المقاطع الكثيرة التي تدفعنا للحكم على أفكار نولدكه بأنّها أفكارٌ مضطربةٌ ومفكّكةٌ غير مترابطة. بهذه العبارات البسيطة أثار نولدكه هذه الشُّبهة ومشى في طريقه كما يقولون، ولم يأتنا بتفاصيلها ومدار النقاش حولها وأدلتها، وهذا يُلزمنا بالتّفصيل حولها لحسم أمرها.

(342)
1. شبهة شعر زيد، وخطبته، وعدم أكله مما يذبحون على أنصابهم

لمَّح نولدكه كما رأينا قبل قليل إلى إمكانيّة تعلُّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أقوال وخطب زيد، ولكنّه لم يأتِ بتفاصيل ذلك، بل قال إنَّه يجهل ذلك. وهذا ما دفعنا إلى السير وراء التفصيلات المتوافرة عن هذه الشُّبهة، وقد جعلناها في ثلاث فقرات كالآتي:

أ. شبهة شعر زيد

يرى أصحاب الشُّبهة أنَّ تعبير (دحا الأرض) لم ينفرد به القرآن، بل كان أمرًا معروفًا عند زيد بن عمرو بن نفيل. وأوردوا أبياتًا له أوردها ابن هشام في سيرته، وهي:

وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمــل صخرًا ثقالا

دحاها فلـــما رآهـــا استوت ... على المــاء أرسى عليها الجبالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت ...  لــه المـــزن تحمل عذبًا زلالا

إذا هي سيـــقت إلى بلـــدة ...  أطاعت فصبت عليها سجالا[1]

وقالوا إنَّ ذلك يعني أنَّ استخدام زيد لتعبير (دحا الأرض) أنَّه كان نبيًّا وكلامه السابق وحي إلهي، أو أنَّ القرآن مأخوذ من أشعار العرب.

ونقض هذه الرواية يكون بدراسة سندها ومتنها ومعناها مقارنة بالقرآن الكريم، أما السند فهو غير ثابت، إذ أوردها ابن هشام كما يأتي: «قال ابن إسحاق، وقال زيد بن عمرو بن نفيل ...». ثم ذكر الأبيات، فهو سند غير قابل للاستدلال، ولم يأت برواية صحيحة ولا متواترة ولا يقينية.

وأما المتن: فواضح أنَّ من قال هذه الأبيات هو من المسلمين ممن جاء بعد نزول القرآن، ثم جاء من نسبها إلى زيد، على عادة نحل الشعر كما فصَّلنا في شبهة أمية بن أبي الصلت.

(343)

ونبقى في المتن، إذ لم يُكمل من ساق الشبهة بقيّة الأبيات، وهي قوله:

 وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الــمزن تـحمل عذبًا زلالا

إذا هــي سيــقت إلى بلــدة ...  أطاعت فصبت عليها سجالا

وأورد ابن هشام قبل هذه الأبيات قوله: «قال ابن إسحاق: وحُدِّثت عن بعض أهل زيد بن عمرو بن نفيل: أن زيدًا كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد، قال: لبيك حقًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا:

عذت بما عاذ به إبراهم ... مستقبل القبلة وهو قائم»[1].

فقوله: أسلمت، يدل على أنَّ من قال هذه الأبيات كان من المسلمين، وكلمة (الإسلام) و(أسلمت) لم تكن تعرفها العرب، ولم ترد في أدبياتهم، بل كانت ترد عندهم (الحنيفية)، فلو قبلنا أنّ البيت الأخير لزيد، فهو يُصرِّح فيه أنَّه على دين إبراهيم، إذ يقول إنَّه يعوذ بما عاذ به إبراهيم. وهذا كله يثبت إيمان زيد[2].

ونأتي إلى المعنى، فمعنى البيت:

 دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا

أي أنَّ الأرض لما دحاها الله استوت على الماء أي طافت، ثم أرسى عليها الجبال.

أما الآية القرآنيّة، فهي: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) [3].

(344)

وتفسيرها: بعد أن خلق الله الأرض خلق السماء، ثم دحا الأرض، أي بسطها، ثم أخرج منها ماءها ومرعاها، ثم أرسى الجبال، أي أثبتها على سطح الأرض لتثبت ولا تميد[1].

ففي الشعر أنَّ الأرض استوت على الماء، أما في الآية الكريمة، فإنّ الله أخرج الماء من الأرض.

ومن ناحية أخرى؛ أورد ابن إسحاق أبياتًا لزيد، ومنها قوله:

وإياك لا تجعل مع الله غيره ... فإنًّ سبيل الرشد أصبح باديا[2]

وبحسب سيرة زيد، وقد أوردنا مجمل تفاصيلها، فإنّه لم يصل إلى سبيل الرشاد، بل كان ذلك غامضًا بالنسبة إليه، ولذلك توجه إلى الشام لسؤال الأحبار والرهبان، فهذا البيت الشعري لا يستقيم أن يكون قائله زيد.

ومن جهةٍ ثانيةٍ، أظهر فؤاد سزكين أنَّ مجموع شعر زيد لا يتعدّى الأربعين بيتًا[3].

ومن يبحث في شعره سيجد وبوضوح اختلاطه مع شعر غيره وتداخله، خاصّة مع ورقة بن نوفل وأمية بن أبي الصلت.

وهذا كلّه يظهر عدم مصداقيّة الاستشهاد بشعر زيد على وجه اليقين من الأصل.

ثم بعد ذلك نسأل أصحاب الشُّبهة: متى وكيف تعلَّم النبي من زيد أو أخذ عنه؟! والجواب أنّ ذلك لم يحدث بتاتًا، ولم يذكره أحد قطعًا بما فيهم أصحاب الشُّبهة، ولم ترد معلوماتٌ صحيحةٌ أو غير صحيحةٍ في مصادر السيرة النبويّة

(345)

تفيد بأنَّ ذلك حدث، كذلك ليس في شيء من الروايات أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله سمع من زيد أو تلقى منه درسًا واحدًا أو كلمةً واحدةً، لا في العقائد ولا في العبادات ولا في المعاملات ولا في الأخلاق، وأنه كلّه لا يعدو كونه تخميناتٍ وافتراءاتٍ وتخرُّصاتٍ لا تسندها نصوصٌ قويّةٌ أو ضعيفةٌ.

بل إنَّ الروايات -والتي تغاضى عنها أصحاب الشُّبه- تقول إنَّ زيدًا كان ينتظر دين الإسلام ليدخل فيه[1].

ولقد استند أصحاب الشُّبهة على كلمة واحدة هي (دحاها)، وعلى خطبة، فهل يقبل عاقل أنّ النبي تعلَّم القرآن على زيد لمجرّد تشابه كلمة في شعره مع القرآن؟!

ونسأل كذلك أصحاب الشُّبهة: هل ادَّعى زيد النبوة؟ والجواب: لا، ولم يقل أحد بالمطلق بذلك. فكيف نقبل من هؤلاء استنتاجهم الغريب العجيب، بأنَّ زيدًا، ووفقًا لكلمات قالها، كان نبيًّا، وهو لم يقل بذلك، ولا من حوله، ولا من نقل الروايات؟!

والقرآن واسع جدًا في علومه، متآلف متناسق، مما يستحيل استيعابه، فليخبرونا أين زيد من هذا الاتساع والتآلف والتناسق؟! وأين زيد من عشرات الآيات التي تحدثت عن الكون وعن الإنسان، وقضايا كثيرة يصعب حصرها؟!

وقد وردت في القرآن أحداث بالعشرات حدثت بعد وفاة زيد، فأين أصحاب الشُّبهة منها.

وقد ناقشنا في بحث (شبهة المسيحية) أنَّه كان من أبرز خصائص التّشريع الإسلامي أنَّه جاء متدرِّجًا بحسب الأحوال والوقائع ولم ينزل جملة واحدة، وذلك مراعاة لواقع المجتمع الذي أراد معالجته وإخراجه من الظلمات إلى النور[2].

(346)

إذًا، جاء التّشريع الإسلاميّ القرآنيّ بحسب وقائع المجتمع الذي عايشه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي إنَّ الوقائع هي التي فرضت هذا التّشريع، وهذا يدحض الأخذ عن زيد وغيره مسبقًا، إذ لو كان كذلك، فكيف سيتوافق مع وقائع هي جديدة؟! 

ثم نقول لمثيري الشُّبهة: لقد دخلت قريش في الإسلام، ودخل فيه آباؤهم وأبناؤهم ونساؤهم، فلم يتكلّم أحد منهم -لا قبل إسلامهم ولا بعده- بهذه الشُّبهة!

ولنا أن نستغرب استغرابهم في أنَّ القرآن الكريم كان يستخدم ألفاظًا عربية؟!

ثم إنَّه من الممكن أن يكون ما ورد في أشعار بعض الشعراء هو من التَّأثر بالشرائع السابقة التي جاء الإسلام خاتمًا لها ومصححًا ومهيمنًا.

ب. شبهة خطبة زيد

من تخيُّلات نولدكه التي أوردناها بداية قوله: «ولكان مدعاة للتعجّب الشّديد لو أنَّ محمدًا لم يقم بنفسه بحفظ خطب زيد غيبًا وإدخالها حرفيًّا في القرآن، بل نقلها إلى جانب ذلك شخص آخر في صيغتها الأصلية إلى الأجيال اللاحقة»[1].

وبدوري بحثت فلم أجد إلا خطبة واحدة لزيد، كانت عند الكعبة، إذ أورد البخاري ما يأتي: «عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائمًا مسندًا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري»[2].

(347)

وفي مثير الغرام: «عن الزهري، قال: قالت أسماء: نظرت إلى زيد بن عمرو بن نفيل، وهو مسند ظهره إلى الكعبة في أيام الحج، والناس مجتمعون، وهو يقول: يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، ثم قال: اللهم لو كنت أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك متوجهًا إليه ولكن لا أعلم، ثم قال:

إني نصحت لأقوام وقـــلت لهم ...  أنــا النـذير فلا يغــرركم أحـــد

لا تعبدون إلها غــــير خالقـكم ...  وإن سئــلتم فقــولوا ما له أحد

سبحانه ثم سبــحانًا يعـود لــه ...  من قبل ما شج الجودي والجمد

لا شيء فيما ترى تبقى بشاشته ...  يبقى الإله ويودى المال والولـــد

لم تغن عن هرمز يومًا خزائنه ...   والخلد قد حاول عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ دان الشعوب له ... والإنس والجن يجري بينها البـرد

مسخرًا دون أسبـاب السماء له ...  فلا ينازعــه في ملكــه أحـــد»[1].

وأورد الأصفهاني وابن أيبك الصفدي هذه الأبيات -مع اختلافات- ونسباها لورقة بن نوفل[2]، وهذا يُدخلنا في قضية النحل، وبالتالي يُضعف الرواية من أصلها، ويجعلها غير قابلة للاستدلال[3].

وبكل الأحوال لا يوجد في هذه الخطبة وفي الأبيات الشعرية ما يمكن أن يُستدل به على أخذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله  عن زيد، بل فيهما ما يؤيد عكس ذلك، إذ أقرّ

(348)

زيد أنَّه على دين إبراهيم، وتوجَّه في الأبيات إلى نصيحة قومه، ودعاهم إلى توحيد الله عز وجل[1].

ت. شبهة حديث عدم أكل زيد مما يذبحون على أنصابهم

أثار أصحاب الشُّبه حديثًا استنتجوا من خلاله أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأكل مما لم يُذكر اسم الله عليه، بينما فعل زيد ذلك، ونَفَذُوا من خلال هذا الاستنتاج إلى استنتاج آخر مفاده أنَّ زيدًا هو الذي علَّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله  ذلك، وأنَّه أفضل منه.

والحديث الذي استشهدوا به هو عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، وذاك قبل أن ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  الوحي، فقدم إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال: «إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه»[2].

يقول ابن بطال في التعقيب على هذا الحديث: «يوهم أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله  كان يأكل ذلك، والنبى كان أولى باجتناب ذلك من زيد. وقد جاء هذا الحديث مبينًا في مناقب زيد بن عمرو في كتاب فضائل الصحابة، بينه فضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة، أنَّ النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله  لقى زيد بن عمرو بأسفل بلدح -قبل أن ينزل الوحى على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله - فقُدِّمت إلى النبى سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه.

فالسفرة إنما قدَّمتها قريش للنبى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأبى أن يأكل منها، فقدّمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله  إلى زيد، فأبى أن يأكل منها، ثم قال لقريش الذين قدموها إلى النبي: «أنا لا آكل مما تذبحون على أنصابكم». ولم يكن زيد في الجاهليّة بأفضل من النبي، فحين امتنع زيد فالنبى الذي كان حباه الله لوحيه واختاره

(349)

ليكون خاتم النبيين وسيد المرسلين أولى بالامتناع منها في الجاهلية أيضًا»[1].

ويمكن العودة إلى تفاصيل ما ذكرنا في (شبهة أخذ الرسول من اعتقادات قومه)، وكيف أنَّه كان يُجانب المشركين في تعظيمهم للأصنام، وكان ينهى عن ذلك، وليس في روايات الحديث أن الشاة ذُبحت للأنصاب، ولا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أكل منها، ولم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله  متعبدًا قبل البعثة بشرع من قبله.

ثم إنَّ الله تعالى قال: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [2].

فسمَّى الله التحليل والتحريم كذبًا وافتراءً إذا كان دون إذن شرعي، وبالتالي فإنَّ اجتناب الشيء قبل تحريم الشريعة له هو اجتهاد ورأي شخصي، ولذلك فإنَّ زيد بن عمرو بن نفيل اجتنب برأيه وباجتهاده ما ذبح للأصنام، فلم يكن قد نزل من القرآن شيء بتحريم الأكل مما ذبح على النصب.

فالعبرة تكون بامتثال أمر الله بعد نزول التحريم وليس قبله.

ونختم بما أورده الإمام الذهبي، وهو إيراد واضح معبِّر، يقول: «حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا أبو قطن، عن المسعودي، عن نفيل، عن أبيه، عن جده قال: مر زيد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  وبابن حارثة وهما يأكلان في سفرة، فدعواه. فقال: إني لا آكل مما ذبح على النصب. قال: وما رؤي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  آكلًا مما ذبح على النصب.

فهذا اللفظ مليح، يُفسِّر ما قبله، وما زال المصطفى محفوظًا محروسًا قبل الوحي وبعده، ولو احتمل جواز ذلك، فبالضرورة ندري أنه كان يأكل من ذبائح قريش قبل الوحي، وكان ذلك على الإباحة، وإنما توصف ذبائحهم بالتحريم بعد نزول الآية، كما أنّ الخمرة كانت على الإباحة إلى أن نزل تحريمها بالمدينة

(350)

بعد يوم أحد. والذي لا ريب فيه أنّه كان معصومًا قبل الوحي وبعده، وقبل التّشريع من الخيانة، والغدر، والكذب، والسكر، والسجود لوثن، والاستقسام بالأزلام، ومن الرذائل، والسفه، وبذاء اللسان، وكشف العورة، فلم يكن يطوف عريانًا، ولا كان يقف يوم عرفة مع قومه بمزدلفة، بل كان يقف بعرفة. وبكل حال، لو بدا منه شيء من ذلك، لما كان عليه تبعة، لأنه كان لا يعرف، ولكن رتبة الكمال تأبى وقوع ذلك منه»[1].

2. إيمان زيد بن عمرو بن نفيل، ورفضه اليهودية والنصرانية، وأنَّه كان على دين إبراهيم، وانتظاره الإسلام

مما ينفي شبهة نولدكه أنَّ المصادر أجمعت أنّ زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي (يرجَّح أنَّ وفاته كانت سنة 17ق.هـ/ 606م) كان يتعبَّد في الجاهليّة، ويطلب دين إبراهيم الخليل صلى‌الله‌عليه‌وآله  ويوحِّد الله تعالى، ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، وأنَّه كان ينتظر دين الإسلام.

ورحل إلى الشام باحثًا عن عبادات أهلها، فلم تستمله اليهوديّة ولا النصرانيّة، فعاد إلى مكة يعبد الله على دين إبراهيم، وجاهر بعداء الأوثان، فتألَّب عليه جمع من قريش، فأخرجوه من مكة، فانصرف إلى (حراء) فسلَّط عليه عمُّه الخطاب شبَّانًا لا يدعونه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سرًّا [2].

وقد خصَّص البخاري بابًا بعنوان: باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل. ومما أورد فيه:

ـ رفض زيد أكل الذبائح التي على غير اسم الله [3].

(351)

ـ عند خروجه للشام ومحاورته لعالم من اليهود ثم عالم من النصرانية: رفض اليهودية والنصرانية، ثم قال: «اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم»[1].

ـ وكان زيد يُسند «ظهره إلى الكعبة يقول: يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري»[2].

ثم صار زيد يعبد الله على دين إبراهيم عليه‌السلام حتى مات، إذ أجمعت المصادر أنَّه كان حنيفيًّا على دين الخليل إبراهيم.

ثم إنَّ انتظار زيد ظهور دين الإسلام ينقض شبهة نولدكه ويُظهر هشاشتها، فكيف يستقيم أن يترقَّب دين الإسلام ليدخل فيه وأن يكون هو نفسه من مصادر هذا الدين؟!

فعن عامر بن ربيعة قال: «سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيًّا من ولد إسماعيل ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنّه نبيّ، فإن طالت بك مدّة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك. قلت: هلم! قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يُخرجه قومه منه ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره.

فإيَّاك أن تخدع عنه فإنِّي طفت البلاد كلّها أطلب دين إبراهيم. فكلّ من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل

(352)

ما نعتُّه لك، ويقولون لم يبق نبيّ غيره. قال عامر بن ربيعة: فلمّا أسلمت أخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قول زيد بن عمرو وأقرأته منه السلام. فرد عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورحم عليه، وقال: «قد رأيته في الجنة يسحب ذيولًا»[1].

وهذا الخبر يدل أنَّ زيدًا كان يشهد بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويعلم صفاته، وعلم أنّه سيُبعث، وشهد وأشهد النَّاس أنّه سيؤمن به إن أدركه.

3. وفاة زيد، وشهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله به، وإسلام أبناءه

توفي زيد على الإيمان، وشهد له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله  بذلك، وكذلك المسلمون، مما يؤكِّد كل التفاصيل التي أوردناها سابقًا، ويدحض بالتالي الشُّبهة المثارة التي نعالجها. ففي مسند أبي داود الطيالسي: جاء سعيد بن زيد رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إنَّ أبي كما رأيت وكما بلغك، فاستغفر له، قال: «نعم فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده»[2]. ونقل الواقدي أنَّه توفي وقريش تبني الكعبة، قبل أن ينزل الوحي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  بخمس سنين[3]، ولقد نزل به وإنه ليقول أنا على دين إبراهيم. فأسلم ابنه سعيد بن زيد واتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وأتى عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  فسألاه عن زيد بن عمرو بن نفيل، فقال: غفر الله له ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم.

قال: فكان المسلمون بعد ذلك اليوم لا يذكره ذاكر منهم إلا ترحَّم عليه واستغفر له. ثم يقول سعيد بن المسيب: رحمه الله وغفر له[4].

(353)

وفي التوضيح: «عن الزبير قال هشام: بلغنا أن زيدًا كان بالشام فلمَّا بلغه خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقبل يريده فقتله أهل ميفعة، وهي قرية من أرض البلقاء بالشام»[1].

ويذكر ابن كثير: «مات بأرض البلقاء من الشام لمَّا عدا عليه قوم من بني لخم فقتلوه بمكان يقال له ميفعة»[2].

وقد جمَّع جواد علي الروايات في مقتله، يقول: «وتذكر رواية من الروايات، أن زيد بن عمرو بن نفيل مات بالسم في بلاد الشام، سمَّه بعض ملوك غسان. وتجعل رواية أخرى مقتله بمكان يقال له (ميفعة) من أرض البلقاء بالشام، وتذكر أن قتلته هم من بني لخم ... وهناك روايات أخرى تفيد رجوع زيد إلى قومه بعد عودته من الشام، ووفاته وفاة طبيعية لا قتلًا بيد إنسان»[3].

ثم إنَّ إسلام ولدي زيد أحد أهم الدلائل التي تنفي الشُّبهة المثارة، فلو كان في هذه الشُّبهة أدنى شكٍّ منهما ما دخلا في الإسلام، مع العلم أنَّهما وكل من عاصر تلك الأحداث آنذاك لم يذكروا هذه الشُّبهة أو يلمِّحوا إليها.

ولقد جعل البخاري بابًا سمَّاه: باب إسلام سعيد بن زيد رضي الله عنه[4].

فكان لسعيد سبق وقدم في الإسلام، وكان من السابقين الأولين ومن المهاجرين[5].

أمَّا عاتكة بنت زيد، فهي الصحابية المهاجرة[6].

(354)

ثانيًا- نقد شبهة أنَّ أمية بن أبي الصلت مصدر من مصادر تعليم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله  بحسب تعبير نولدكه

مقدمة

ذكر نولدكه هذه الشُّبهة من خلال حديثه عن م. كليمان هوار، قائلًا: «ينسب م. كليمان هوار لنفسه فضل اكتشاف مصدر جديد من مصادر كتابة القرآن في بعض قصائد أميّة بن أبي الصلت، لكن كل المواضيع التي يسوقها لدعم فرضيته تخضع للشك القوي بأنها مزورة تحت تأثير القرآن، أما المشابهات الأخرى فيمكن تفسيرها بأن أمية نهل مثل محمد من معين الروايات اليهودية والمسيحية»[1].

إذًا، يستبعد نولدكه صحّة هذه الشُّبهة من جهة، لكنَّه من جهة أخرى يجعل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله  شريك أمية في الأخذ عن اليهودية والمسيحية. وبكل الأحوال ليس أمامنا إلا أن نناقش هذه الشُّبهة.

1. أمية وتاريخ وفاته:

من الممكن أن نفهم مبدئيًّا من خلال التوصيف العام لحياة أمية، ثم من خلال تاريخ وفاته، ضعف الشُّبهة المثارة حوله.

فهو أمية بن عبد الله أبي الصلت بن أبي ربيعة بن عوف الثقفي، الشاعر الجاهلي الحكيم، من أهل الطائف، قدم دمشق قبل الإسلام، وكان مطلعًا على الكتب القديمة، يلبس المسوح تعبُّدًا، وهو ممن حرَّموا على أنفسهم الخمر، ونبذوا عبادة الأوثان في الجاهلية. وهو من الحنفاء الذين ثاروا على عبادة الأصنام وآمنوا بالله الواحد واليوم الآخر، وأزعجهم التردِّي الخُلقي الذي كان شائعًا في الجزيرة العربية، وتطلَّعوا إلى نبي يبعث من بين العرب، بل إنّه هو بالذات كان يرجو أن يكون ذلك النبي.

ورحل إلى البحرين فأقام ثماني سنين ظهر في أثنائها الإسلام، وعاد إلى الطائف، ثم

(355)

قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة، وكاد أن يسلم لولا ما حُدِّث عن وقعة بدر.

أخباره كثيرة، وشعره من الطبقة الأولى، وعلماء اللغة لا يحتجون به لورود ألفاظ فيه لا تعرفها العرب.

قال الأصمعي: ذهب أمية في شعره بعامة ذكر الآخرة، وذهب عنترة بعامة ذكر الحرب، وذهب عمر ابن أَبي ربيعة بعامة ذكر الشباب.

وكان أمية يخالط رجال الدين، ويقرأ كتبهم، ويقتبس منها في أشعاره، وكان رجل أسفار وتجارة، كما كان يمدح بعض كبار القوم؛ كعبد الله بن جدعان، وينال عطاياهم وينادمهم على الخمر، وإن قيل: إنه قد حرَّمها بعد ذلك على نفسه.

وتُجمع المصادر على أنه مات كافرًا حسدًا منه وبغيًا؛ إذ ما إن بلغه مبعث النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى ترك الطائف فارًّا إلى اليمن ومعه بنتاه اللتان تركهما هناك، وأخذ يجول في أرجاء الجزيرة ما بين اليمن والبحرين ومكة والشام والمدينة والطائف.

كانت وفاته -على اختلاف المصادر- بين: 2هـ و9هـ/ 362م، 630م[1].

وقال ابن حجر في الإصابة: «وكانت وفاة أمية بن أبي الصَّلت قبل ذلك بيقين سنة تسع من الهجرة»[2].

ورجَّح الدكتور عبد الحفيظ السطلي وفاته في السنة الثانية للهجرة، وذلك

(356)

لغيابه عن مسرح الأحداث نهائيًّا منذ أن قال قصيدته في رثاء قتلى قريش في بدر، لا سيما وأن أحداث السنتين الثامنة والتاسعة كانت من الأهميّة بحيث لا يمكن لأميّة أن يقف منها موقف الصامت المتفرج، ففيهما حدثت غزوة الطائف، وغزوة حنين، وفي السنة التاسعة جاء وفد ثقيف إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يعلنون إسلامهم[1].

2. الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وشعر أمية

عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: ردفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يومًا، فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟» قلت: نعم. قال: «هيه». فأنشدته بيتًا، فقال: «هيه». ثم أنشدته بيتًا، فقال: «هيه». حتى أنشدته مئة بيت[2].

وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه قال: استنشدني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  بمثل حديث إبراهيم بن ميسرة، وزاد قال: «إن كاد ليسلم»، وفي حديث ابن مهدي قال: «فلقد كاد يسلم في شعره»[3].

فلو قال قائل إنّ النّبيّ استمع لمئة بيت من شعر أمية، فنقول له: لم تذكر الروايات هذه الأبيات حتى نتَّخذها مجالًا للنقاش.

ثم إنَّ هذه الرواية عن الشريد الثقفي، وكان إسلامه بعد إسلام المغيرة بن شعبة بمدة، أي أنَّه دخل الإسلام في أواخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنَّ إنشاده بشعر أمية تم في آخر حياته وقت اكتمال القرآن تقريبًا[4]، فمهما كان مضمون الأبيات المئة لا يصح الاستشهاد بها هنا.

(357)

بل نجد في رواية أن سماعه صلى‌الله‌عليه‌وآله لهذا الشعر كان في فتح مكة سنة ثمان للهجرة، ونعلم أنّه لم تنزل بعد فتح مكة سوى بضع سور[1].

وفي صحيح البخاري: عن أبي هريرة ، قال: قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم»[2].

وكان يُخبر بأنَّ نبيًّا يبعث قد أظل زمانه، ويؤمل أن يكون ذلك النبى، فلمَّا بلغه خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقصته كفر حسدًا له. ولما أنشد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شعره قال: «آمن لسانه وكفر قلبه». وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتى بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب[3].

وفي تاريخ ابن عساكر: «قرأ رجل من القوم الآية التي في الأعراف: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) [4]، قال: هل تدرون من هو؟ قال بعضهم: هو صيفي بن الراهب. وقال آخر: بل هو بلعم رجل من بني إسرائيل. قال: لا. قالوا: فمن هو؟ قال هو أمية بن أبي الصلت»[5].

وبسند ابن عساكر عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صدق أمية في شيء من شعر، فقال:

رجل وثوق تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : صدق. وقال:

والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء يصبح لونها يتورد

تأبى فما تطلع لنا في رسلـــها ... إلا معـــذبة وإلا تجـــلد

(358)

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : صدق[1].

وقدمت الفارعة أخت أمية بن أبي الصلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  بعد فتح مكة، وكانت ذات لب وعقل وجمال، فقال لها ذات يوم: «يافارعة هل تحفظين من شعر أخيك شيئًا». فقالت: نعم ... ثم أخبرته عنه أخبارًا وأشعارًا ... فقال لها صلى‌الله‌عليه‌وآله : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا فارعة فإن مثل أخيك كمثل الذي أتاه الله آياته فانسلخ منها إلى آخر الآية[2].

وبسند ابن عساكر قال: قال أمية بن أبي الصلت:

ألا رسول لنا منا يخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس مجرانا

قال: ثم خرج أمية إلى البحرين ونبئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأقام أمية بالبحرين ثماني سنين، ثم قدم الطائف فقال لهم: ما يقول محمد بن عبد الله. قالوا يزعم أنه نبي فهو الذي كنت تتمنى. قال: فخرج حتى قدم عليه بمكة. قال: فلقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا ابن عبد المطلب ما هذا الذي تقول. قال: قال: رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أقول إني رسول الله وأن الله إله إلا هو. قال: فإني أريد أن أكلمك تعدني غدًا؟ قال: فموعدك غدًا. قال: فتحب أآتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي وتأتي وحدك أو في جماعة من أصحابك؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أي ذلك شئت. قال: فإني آتيك في جماعة فأت في جماعة. قال: فلما كان الغد غدا أمية في جماعة من قريش قال وغدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله معه نفر من أصحابه، حتى جلسوا في ظل البيت، قال فبدأ أمية فخطب ثم سجع ثم أنشد الشعر حتى إذا فرغ قال: أجبني يا ابن عبد المطلب. قال فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: «بسم الله الرحمن الرحيم: «يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ»[3] حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجرر رجليه، قال فتبعته قريش تقول: ما يقول يا أمية؟ قال: أشهد أنه على حق.

(359)

قالوا: فهل تتبعه؟ قال: حتى أنظر في أمره. قال ثم خرج أمية إلى الشام حتى نزل بدرًا، قال ثم ترحل يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال فقال قائل: يا أبا الصلت ما تريد؟ قال: أريد محمدًا. قال: وما تصنع؟ قال: أؤمن به وألقي إليه مقاليد هذا الأمر. وقال: تدري من في القليب؟ قال: لا. قال: فيه عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما ابنا خالك وأمه رقيقة بنت عبد شمس. قال: فجدع أنف ناقته وقطع ذنبها ثم وقف على القليب يقول:

ماذا ببدر فالعقن ... قل من مرازبة جحاجح

قال: فرجع إلى مكة وترك الإسلام[1].

وأبدى ابن خلدون رأيه بقضية أمية، فقال: «مثل أمية بن أبي الصلت الشقي وما وقع له في سفره إلى الشام مع أبي سفيان بن حرب، وسؤاله الرهبان ومفاوضته أبا سفيان فيما وقف عليه من ذلك، يظن أن الأمر له أو لأشراف قريش من بني عبد مناف حتى تبين لهما خلاف ذلك في قصة معروفة»[2].

3. شعر أمية والنحل

إنَّ ظاهرة النحل في الشعر العربي من نسبة أشعار المتأخرين إلى المتقدمين ظاهرة مشهورة ومعروفة ومنتشرة جدًا في الأدب العربي، وهذا يبطل شبهة قضية أمية بن أبي الصلت من أساسها، فبعد أن خصَّص الدكتور عبد الحفيظ السطلي حديثًا عن النحل وعن نحل شعر أمية، قال: «إن المنحول من شعر أمية كثير وقديم»[3].

ومما قاله السطلي: «إننا لا نجد الشعر الديني المنسوب إلى أمية على سوية واحدة في الأسلوب، وإنما نجد الإسفاف والركاكة في بعض القصائد،

(360)

ونجد القوة والرصانة في قصائد أخرى، وهذا الاختلاف في الأسلوب يشير إلى وجود قصائد موضوعة على أمية»[1]. وقال: «وهذا الاختلاف في جزالة الأسلوب واللغة والمعاني يفرض أن يكون أكثر من شاعر واحد قد عمل على صياغة هذا الشعر»[2]. ثم خصّص السطلي فقرة خاصّة تحت عنوان: «ما أُنشد لأمية وليس له»، وقال عنها: «لم أُدخل في هذا القسم إلا ما تأكد بالدليل القاطع أنه ليس لأمية»[3]. ثم خصّص السطلي فقرة خاصّة تحت عنوان: «تخريج ما أُنشد لأمية وليس له»[4].

ومن خلال استمزاج خبراء الشّعر ومحقّقي الدواوين والعلماء واللغويين والمؤرخين وكبار دارسي الشعر الجاهلي يصل المرء إلى أنَّ لأميّة ديوانَ شعر يختلط فيه الشعر الصّحيح النِّسبة له، بالشعر المنسوب له ولغيره، بالشعر الذي لا يبعث على الاطمئنان إلى أنّه من نَظمه، وهذا القسم الأخير هو الغالب، وأكثر شعر الديوان في المسائل الدينيّة: تأمُّلًا في الكون ودلالته على ربوبيّة الله، ووصفًا للملائكة وعكوفهم على تسبيح ربهم والعمل على مرضاته، وإخبارًا عن اليوم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب، وحكاية لقصص الأنبياء مع أقوامهم، إلى جانب أشعاره في مدح عبدالله بن جدعان والفخر بنفسه وقبيلته وما إلى ذلك ... .

وأكَّد عمر فروخ أنّ القسم الأكبر من شعر أمية قد فُقد، وأنّه لا يثبت منه إلا قصيدته في رثاء قتلى بدر من المشركين، وأن الشعر الديني المنسوب لأمية كثيرًا منه ركيك النسج لا ضعيف[5].

ورأى شوقي ضيف أنَّ أشعار أميَّة تدور في موضوعين أساسيين: أما الموضوع الأوّل، فيتحدّث فيه عن خلق السموات والأرض ونشأة الكون مستدلًّا بذلك

(361)

على وجود الله، ومتحدِّثًا عن الموت والفناء والبعث والنشور والعذاب والثواب .... «وهذه المعاني تستمد من القرآن الكريم بصورةٍ واضحةٍ، وأسلوبها ضعيف واهن؛ ولذلك قلنا ظنًّا أنها وما ويماثلها مما نُحل على أمية»[1].

والموضوع الثاني الذي يدور فيه شعره ليس أقل من الموضوع الأول اتهامًا؛ بل لعلّ الاتهام فيه أوضح، إذ نراه يقصّ علينا سير الأنبياء قصصًا لا يكاد يفترق في شيء عمّا جاء في القرآن الكريم، وواضح أنّ هذا شعر ركيك ساقط الأسلوب، نظمه بعض القُصَّاص والوُعَّاظ في عصور متأخّرة عن الجاهليّة[2].

وردَّ ضيف على دعوى المستشرق الفرنسى م.كليمان هوار الذي زعم حين اطلع على هذا القسم من شعر أمية أنّه اكتشف فيه مصدرًا من مصادر القرآن الكريم، ولو كان له علم بالعربيّة وأساليب الجاهليين لعرف أنّه وقع على أشعارٍ منتحلةٍ بيِّنة الانتحال، ولما تورّط في هذا الخطأ البيِّن، وقد ردَّ عليه غير واحد من المستشرقين[3].

فيرى بروكلمان أنَّ أكثر ما رُوي من شعر أميّة منحول عليه، ما عدا مرثيّته لقتلى بدر. ثم يرد على م.كليمان هوار، فيقول: «وزعم كليمان هوار أن شعره كان من مصادر القرآن، وهذا غير صحيح، لكن الحق ما ذكره تور أندريه، وهو أن الأشعار التي نظر إليها هوار إنما هي نظم جمع القصاص فيه ما استخرجه المفسرون من مواد القصص القرآني، ولابد أن تكون هذه الأشعار قد نحلت لأمية في وقت مبكر لا يتجاوز القرن الأول للهجرة»[4].

وقد جمع الدكتور الحديثي -عبر رحلة طويلة من البحث- (657) بيتًا لأمية،

(362)

وهي أكبر مجموعة شعريّة له حتى الآن[1]. ونتيجة دراساته الدقيقة والشاملة والمطوّلة لشعر أمية وكل ما يرتبط به، وصل الحديثي إلى نتيجة مهمّة هي أنّ شعر أمية مختلط النسبة[2]. وقال: «إنّ شعر أمية دخله الانتحال، ووُضع فيه ما ليس له، وهذا واضح من إفرادنا تلك المجموعة الكبيرة من شعره تحت باب: ما يُنسب إليه وإلى غيره»[3]. وقال: «إن الفروق بين شعر أمية والقرآن يمكن أن تكون دليلًا على وجود النحل في شعره، وأرى أنّ الشعر الذي جاء مطابقًا للقرآن تمام المطابقة هو الشعر المنحول، هذا إذا ما وجدنا مع المطابقة ركاكة في اللغة وضعفًا بالأسلوب، ومعالم فنية أخرى تدل على الوضع»[4].

ورأى الحديثي أنّ إلحاح م.هوار كليمان على إثبات صحّة شعر أميّة غايته باتت معروفة، فلم يسع لذلك إلا ليقول: إن محمدًا استفاد من شعر أمية في نظمه للقرآن[5].

ويقول إنَّ شعر أمية متأثّر في الغالب بالقرآن الكريم، وأبياته عبارة عن آيات قرآنيّة نُظمت نظم الشعر، وإنَّ أمية عاش في الجاهليّة والإسلام، ووفاته في السنة الثامنة أو التاسعة، وهذا يعني أنّه عاصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله  قرابة عشرين سنة بعد البعثة.

وبما أنّه أكثر من الترحال، بالإضافة إلى تأخر قومه في الطائف في الدخول في الإسلام، فهذا يعني أنه لم يبق بجوار النبي مدة طويلة لكي يسمع منه أو من أصحابه الآيات القرآنيّة، ولم تسعفنا المصادر القديمة كيف نظم شعره على نسق القرآن[6].

(363)

وتوصَّل الحديثي إلى نتيجة مفادها أن شعر أمية يُقسم إلى قسمين: قسم يظهر فيه أثر الحنيفية والتوراة والإنجيل، وقسم يظهر عليه أثر القرآن.

وذكر أنّ القسم الأوّل واضح من خلال لغته وأساليبه ومعانيه أنَّه لأمية، وأن القسم الثاني منحول لوضوح ركاكة لغته وضعف صياغته، وواضح أن أسلوبه مستمد من القرآن الكريم[1].

وأخيرًا نقول إنَّ شعر أمية المشابه للقرآن الكريم لم تأت كتب الأدب واللغة والتاريخ والتفسير المعتمدة على ذكره، ويمكن لأي إنسان تتبعها واكتشاف ذلك.

ونشير في نهاية هذه الفقرة إلى قضيّة شعر أمية وكتاب (الزهرة)، وإنَّ شعر أمية المقصود هنا ليس موجودًا في أيٍّ من دواوين أمية، وهو شعر ليس له سند صحيح أصلًا. وإنَّ معظم أشعار أمية التي تشابه القرآن الكريم ظهرت في القرن الرابع الهجري، وأُخذت من محمد بن داود الأصفهاني الذي جمعها في كتاب، ثم أنكر في الوقت نفسه أنَّها تعود لأمية، وذلك في كتابه (الزهرة)، وهو الكتاب الوحيد (من الكتب القديمة) التي ذكرت قضية أمية والقرآن، وذكرها الأصفهاني من باب نفيها نفيًا قاطعًا، وما فعله المؤلف في هذا الكتاب هو جمع الأشعار وتنسيقها فقط، مع ورود بعض التعليقات على شرح لفظة صعبة أو تحليل حادثة[2].

4. قصيدتا أمية الحاسمتان

نهجتُ أن أؤخر ذكر هاتين القصيدتين -وهما تحسمان النقاش والجدال- حتى لا يقال إنّنا اطمأنينا لهما واكتفينا بهما، فالناس في قبول الحقيقة تختلف طريقة

(364)

تقبلهم للأدلة، لذلك أكثرنا من هذه الأدلّة الواضحة وضوح الشمس، وأنهينا كلّ ذلك بهاتين القصيدتين الحاسمتين.

القصيدة الأولى: روى ابن الجوزي[1]: «وذكر أبو الحسين بن المنادي في كتاب (صفايا حكم الأشعار)، قال: قد صحَّ بين علماء الناس بالشعر وأيام العرب، أنَّ مما أُسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  من شعر أمية بن أبي الصلت قوله: لك الحمد والنعماء والملك ربنا

وقوله: سبحان من سبحت طير السماء له

وقوله: إله محمد حقًا إلهي».

وذكر ابن الجوزي القصيدة كاملة، وهي 38 بيتًا على هذا النمط[2].

القصيدة الثانية: ذكرها ابن داود الأصبهاني، قال: أمية يمدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله  ... يقول:

محمدًا أرســـلـه بالهــدى ...  فعــاش غنيًّا ولـم يُهتـــضَمْ

عطاءٌ من اللــــه أعطيتــه ...  وخصَّ به الله أهـــلَ الحرمْ

وقد علموا أنَّه خـــيرهــم ...   وفي بيتهم ذي النَّدى والكرمْ

نبيُّ الهدى طيـــبٌ صادقٌ ...   رحيم رؤوف بوصل الـرحمْ

به ختم اللـــه مــن قبلــه ...   ومن بعده من نبيٍّ خُتـــمْ

يموت كما مات من قد مضى ...  يُردُّ إلى الله باري النَّســـمْ

مع الأنبياء في جنان الخلود ... همُ أهلها غير حل القَسمْ[3]

(365)

ففي هاتين القصيدتين يعترف أميَّة بنبوَّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ويفتخر به ويمدحه أيما مدح، وبالتالي فإن المُشكِّك أمام أمرين: إمَّا أن يُصدِّق رواية هذا الشعر، فينتفي تشكيكه، أو أن يُشكِّك بهاتين القصيدتين، فيُيسِّر ويُسهِّل هذا التشكيك بكل ما سواهما، وفي الحالتين تنقض الشُّبهة  نفسها بنفسها.

لماذا لم يدخل أمية في الإسلام؟ وإنَّ دخول أهله وقومه في الإسلام يُبطل الشُّبهة

القضيّة الواضحة أنّ أميّة كان يلهث وراء النبوّة قبل الإسلام، وكان يعتذر عن الدخول في دين الإسلام بأنّه كان يقول لقومه: أنا النبيُّ المبعوث، قال: فخشي أن يعيِّره بسيئات ثقيف بكونه صار يتبع غلامًا من بني عبد مناف، حكى ذلك عنه أبو سفيان بن حرب في قصة طويلة ذكرها أبو نعيم في دلائل النبوة وغيره[1].

وقد وصف الجاحظ أمية بن أبي الصلت بالدهاء، وأنه من خلال ذلك بحث عن الكيفية التي من خلالها يمكن أن يصبح نبيًّا، يقول: «فإن أردتم معرفة ذلك فانظروا في أشعارهم المعروفة، وأخباره الصحيحة ثم ابدؤوا بقول أمية بن أبي الصلت، فقد كان داهية من دواهي ثقيف، وثقيف من دهاة العرب، وقد بلغ من اقتداره في نفسه أنّه قد كان همَّ بادِّعاء النبوة، وهو يعلم كيف الخصال التي يكون الرجل بها نبيًّا أو متنبِّيًا إذا اجتمعت له، نعم وحتى ترشَّح لذلك بطلب الروايات، ودرس الكتب، وقد بان عند العرب علَّامة، ومعروفًا بالجولان في البلاد، راوية»[2].

ونستطيع أن نأتي الشُّبهة التي أثارها نولدكه ومن لفَّ لفَّه من جهة أخرى، فلو كان صحيحًا ما يقال عن نقل القرآن من شعر أمية الثقفي لما أسلم أهل الطائف وثقيف قومه، يقول ابن حجر: «لم يبق أحد من ثقيف وقريش بمكة

(366)

والطائف في حجة الوداع إلا شهدها مسلمًا»[1].

هذا بالعموم، وإذا قصدنا الخصوص، فسنرى أنّ أهل بيته قد دخلوا في الإسلام، فلو كان صحيحًا ما يقال عن نقل القرآن من شعر أمية بن أبي الصلت الثقفي لما أسلموا بل كانوا ليفضحوا ذلك:

ـ ومنهم أخته فارعة بنت أبي الصلت[2].

ـ وابنه وهب، وذكره ابن الأثير وابن حجر من الصحابة[3].

ـ وابنه القاسم، وذكره ابن حجر في الصحابة[4]

ـ وابنه ربيعة، وذكره ابن حجر من ضمن الصحابة[5].

ـ وحفيده القاسم بن ربيعة بن أمية بن أبي الصلت، ولَّاه عثمان على الطائف[6].

وقد وصل جواد علي من خلال بحثه في المصادر إلى أنَّ أمية بن أبي الصلت كان واقفًا على كتب اليهود والنصارى كما يذكر أهل الأخبار، قارئًا لكتب الديانتين، مطلعًا على العبرانية أو السريانية أو على اللغتين معًا، وإن كان واقفًا -أي حائرًا- بين الديانتين، فلم يدخل في أية ديانة منهما، وإنما كان من الأحناف على حد تعبير أهل الأخبار؛ لذلك لا يستبعد وقوفه على قصص توراتي وإنجيلي، وعلى الاستفادة منه في الشعر.

(367)

ونجد في شعره ألفاظًا غريبة، يذكر أهل الأخبار أنه أخدها من لغات أهل الكتاب، فوضعها في شعره.

ورأى جواد علي أن شعر أمية يستحق من هذه الناحية الدرس والنقد، لنرى إلى أية درجة من الحق والصدق تصل دعاوى أهل الأخبار في شعر أمية، وفي نسبته إليه.

وهو إن ثبت أنه له، كان أيضًا دليلًا على وقوف المثقفين من الجاهليين على كتب أهل الكتاب، وشيوعه في الحجاز، وكان أيضًا دليلًا على نظم بعض الشعراء لحوادث التوراة والإنجيل في شعرهم في ذلك العهد[1].

ونجد في شعر أمية بن أبي الصلت وأمثاله من المتصلين بأهل الكتاب القارئين لكتبهم كما يذكر أهل الأخبار، فائدة كبيرة لنا في تكوين رأي عام عن وقوف العرب على الآراء التوراتية في الجاهلية، وفي جملة ذلك أنساب التوراة. وفي الشعر المنسوب إلى أمية آراء مستمدة من التوراة، مثل شعره في نوح وفي قصة الطوفان والغراب والحمامة وبقية حكاية الطوفان إلى زواله، فإنّه إن صحّ دلّ على وقوفه على خبر قصة الطوفان الواردة في السفر السادس فما بعده من التكوين، فإن ما جاء في هذا الشعر هو اقتباس لما ورد في تلك الأسفار[2].

وأثبت جواد علي أثر الوضع على شعر أمية من خلال استعراضه لبعض القصائد ومعانيها الإسلامية، ووصفه بأنّه وضع يثبت أنّ صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيّدًا، ولا له إلمام بأمور التأريخ، وأنَّه رجل مؤمن عميق الإيمان، وواعظ ومبشر يخطب قومه فيدعوهم إلى الإسلام وإلى طاعة الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدلَّ ذلك على وجود أيد لصُنَّاع الشعر ومنتجيه في شعر أمية، وأنَّ صُنَّاعها لم يتقنوا صنعتها، ففضحوا أنفسهم بها[3].

(368)

وهنا نردُّ على نولدكه من خلال ما قاله جواد علي: «ولو كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمية قد أخذا من منهل واحد، واستقيا من مورد واحد، لما سكتت قريش عن القول به! ولما سكت أمية نفسه وهو الغاضب الحاقد على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله  عن الجهر به! وكيف يعقل سكوته عن هذا، وهو أمر مهم جدًا بالنسبة إليه، وسيف يحارب به الإسلام، ولما سكت مسيلمة ومن كان على شاكلته من المتنبئين من الإشارة إليه في أثناء حروب الردة، وقد كانت فرصة سانحة لإظهار هذه المقالة، ولما سكت يوحنا الدمشقي وأمثاله من التّلميح إلى ذلك، وقد لمَّح بأمور كثيرة في طعنه في الإسلام»[1].

ثم إنّ هذا التّشابه، على ما يتبيّن من نقده وتمحيصه، ليس من نوع ما يحصل عن أخذ شخصين مستقلين من مورد معين، إنما هو من قبيل ما يحدث من اعتماد أحد الشخصين على الآخر، بدليل ورود أمور في القرآن الكريم، لم ترد في التوراة ولا في الإنجيل، ولكنها وردت في شعر أمية، وبدليل ورود أكثر قصص الأنبياء والآراء والمعتقدات في شعر أمية على شكل إسلامي، لا على النحو الوارد عند أهل الكتاب. واستعمال هذا الشعر لجمل وألفاظ وتراكيب إسلاميّة واردة في القرآن الكريم وفي الحديث لا في الكتب السماوية المذكورة. فلو كان مرد هذا التّشابه الأخذ من مورد واحد، لوجب انحصار هذا التّشابه في الأمور المشتركة التي ترد في الكتب المقدّسة: التوراة والإنجيل والقرآن، وفي شعر أمية فحسب، لا في المسائل التي ترد في شعر أمية وفي القرآن الكريم، ولا ترد في الكتابين المقدسين أو في الكتب الأخرى[2].

ثم إنّ المقابلة بين نصين لمعرفة صلة أحدهما بالآخر، وأخذ أحدهما من الآخر، تستوجب التأكد من صحة نسبة الشعر إلى أمية، ففي هذا الشعر مقدار لا يمكن أن يشك في وضعه وصنعه، ومقدار نص العلماء نصًّا على أنّه لغيره، وهم إنما ذكروه في شعر أمية؛ لأنّ بعض أهل الأخبار نسبه إليه. ولذلك

(369)

استدركوا هذا الخبر، بالإشارة إلى اسم قائله الصحيح، فلم يبقَ من هذا الشعر ما يصلح للمقابلة غير القليل منه، وهو القليل الذي له صلة بعقيدة ودين. وهذا القليل هو، في الغالب أيضًا، تبع لما ورد في القرآن وحده، لا لما ورد في الكتابين المقدسين. ولما كان القرآن محفوظًا ثابتا، فلم يرتقِ إليه الشّك. أما شعر أمية، فليس كذلك، وهو غير معروف من حيث تعيين تاريخ النظر. فهذه المقابلة إن جازت، فإنها تكون حجّة على القائلين بالرأي المذكور، لا لهم. وقد كان عليهم أن يثبتوا أولًا إثباتًا قاطعًا صحة رأيهم في أصالة هذا الشعر، لا أن يفترضوا مقدَّمًا أنه شعر أصيل صحيح، وأن يذهبوا رأسًا إلى أنه هو والقرآن الكريم من وقت واحد، بل إنه على حد قول بعضهم أقدم منه، فكتاب الله منتزع منه[1].

ثالثًا: نقد شبهة أنّ أحد أهم مصادر تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الاعتقادات الدينيّة لقومه بحسب تعبير نولدكه

مقدمة

أثار نولدكه هذه الشُّبهة في موضع واحد، لمَّا قال: «أحد أهم مصادر تعليم محمد كانت الاعتقادات الدينية التي اعتنقها قومه». ودلَّل على ذلك بدليل استنتاجي، قال: «وما من مصلح يمكنه أن يتنصَّل تمامًا من المعتقدات التي تربَّى عليها».

ومن الأمثلة التي ذكرها قوله: «أما الطقوس الممارسة في الكعبة والحج فقام بتعديلها (أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لتلائم تعليمه، معيدًا إيَّاها إلى أصول إبراهيميّة، وهذا ما لم يكن معلومًا عند العرب»[2].

فهذه شبهةٌ جديدةٌ لا تستند إلى حقائق مشاهدة، بل الوقائع تنقضها، ومن يتدبّر سور القرآن وآياته ويقرأ أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويستطلع المصادر يجد

(370)

الإجابات الواضحة الشافية، ومن خلالها سننقض هذه الشُّبهة.

 

1. القرآن والحديث النبوي يُكذِّبان هذه الشُّبهة

لقد وردت تفصيلات قرآنيّة وحديثيّة بعكس الشُّبهة المثارة، وكأنّ من أثارها لم يطَّلع على ذلك، أو أنّه كان جاهلًا بها، أو تقصَّد المغالطة؟!

وكي لا ندخل في مغالطة أخرى نشير أن موقف الإسلام من أعمال الجاهليّة اختلف تبعًا لنوعيَّتها، فهناك ما كان قائمًا على وشائج الخير، كالشجاعة والكرم والنجدة ونصرة المظلوم، فذلك أقرَّه، ومثاله حضور الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لحلف الفضول، ومدحه له، وعلَّل سبب ذلك، فعن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده عبد الرحمن، قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «شهدت حلف بني هاشم وزهرة وتيم، فما يسرني أني نقضته ولي حمر النعم، ولو دعيت به اليوم لأجبت على أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر ونأخذ للمظلوم من الظالم»[1].

وفيما يأتي أمثلة عن تكذيب الشُّبهة المثارة.

أ. في القرآن الكريم:

إن ما ورد في القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله  يُكذِّب شبهة تعلم الرسول من اعتقادات قومه، وأدلة ذلك كثيرة ومنتشرة على مدى سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسنكتفي بنماذج منها.

ونبدأ بالقرآن الكريم، فكيف يستقيم إثارة هكذا شبهة أمام احتجاج الله عز وجل على العرب ببعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ كانوا بعيدين عن الدِّيانات السَّماويَّة، ولم ينشغلوا بدراسة كتابٍ سماويٍّ كما كانت تفعل اليهود والنَّصارى، وهذا مصداق قول الله عز وجل: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ

(371)

ُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) [1].

وكيف تستقيم شبهتهم هذه أمام نقد القرآن الكريم لاعتقادات العرب الخاطئة، مثل مرض تقليد الآباء في الباطل؛ فهذا إبراهيم عليه‌السلام يخاطب قومه قائلًا: (إِذْ قَالَ لأِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [2].

وهل يُتخيَّل -أمام فواحش الجاهلية- أنَّ الله يأمر بالفحشاء؟! يقول عز وجل عنهم: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [3].

وقد رفض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أحكام الجاهلية والجاهليين، وامتثل حكم الله عز وجل، يقول تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ* أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [4].

(372)

ورفض القرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله  العديد من اعتقاداتهم وعباداتهم، مثل اعتقاداتهم في الذبح، فدلَّت الأدلة من القرآن والأحاديث النبوية على أن الذبح عبادة، فمن ذبح لغير الله فقد أشرك، وللذبح حالات منها ما يكون عبادة، ومنها ما يكون شركًا أصغر، ومنها ما يكون شركًا أكبر.

وقد كان أهل الجاهلية يتقربون بهذه العبادة لغير الله عز وجل، ورأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله  أهل الجاهلية يتقربون إلى آلهتهم بالذبح، فيأتون إلى القبور فيذبحون عند قبور من يرون فيهم الصلاح، وتسمى عقيرة أو تسمى عتيرة أو تسمى الفرع، فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله  يرد هذه الأنساك التي يتقرب بها لغير الله جل في علاه، فأبطلها وبين أنها من أكبر الشرك، وأنكرها الله عز وجل على العباد[1].

ولقد أوحى الله إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله  أن يبطل هذه الاعتقادات وهذه الأفعال الباطلة بقوله: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [2] أي: قل: إن صلاتي لله، وقل إن نسكي لله، والنسك: هو الذبيحة التي يتقرب بها العبد، وهو في اللغة العبادة، فهو إذًا في الشرع أخص من ذلك، والذبح هو إنهار الدم.

ففي تفسير الطبري: يقول تعالى لنبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : قل يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، الذين يسألونك أن تتَّبع أهواءهم على الباطل من عبادة الآلهة والأوثان: إنَّ صلاتي ونسكي وذبحي وحياتي ووفاتي كله لله خالصًا دون ما أشركتم به أيها المشركون من الأوثان، لا شريك له في شيء من ذلك من خلقه، ولا لشيء منهم فيه نصيب، لأنه لا ينبغي أن يكون ذلك إلا له خالصًا، وبذلك أمرني ربي وأنا أول من أقرَّ وأذعن وخضع من هذه الأمة لربه بأن ذلك كذلك[3].

(373)

وقال الله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [1].

ب. في الحديث النبوي

وفي أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نهي عن كثير من الأمور التي كانت منتشرة في الجاهلية، منها؛ تحريم العيافة والطرق أو الرمي بالحصى لما فيها عندهم من التشاؤم والاستبشار بأشياء لا تنفع ولا تضر، وكذلك ادعاء علم الغيب. والعيافة هي التنبؤ بملاحظة حركات الطيور والحيوانات ودراسة أصواتها، وقراءة بعض أحشائها. وقد اشتهرت بنو أسد بالعيافة، فقصدها الناس للأخذ منها، واشتهرت بنو لهب بالعيافة كذلك[2].

وأما الطرق فهو الضرب بالحصى للكشف عن المستقبل، يقوم بذلك الرجال والنساء، ويقال للقائمين بذلك الطُرَّاق والطوارق. وورد أنَّ الطرق: الضرب بالحصى والخط في التراب، وهما ضربان من التَّكهُّن. وقيل أيضًا: الطرق: أن يحط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع، ويقول: ابني عيان اسرعا البيان. وزعم بعضهم أن الطرق أن يخلط الكاهن القطن بالصوف فيتكهَّن. وقد نهى عنه الإسلام، فعن قبيصة بن مخارق، أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «العيافة والطيرة والطرق من الجبت»[3].

وقد فسَّر بعض العلماء كلمة (الجبت) في القرآن الكريم بمعنى السحر، كما ذكروا أنها تعني الساحر والكاهن والصنم وكل ما عُبد من دون الله[4]. وفي هذا نجد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر الحديث على سبيل الزجر والردع لهؤلاء هدمًا للجاهليات وكأنه يقول: عليكم أن تنفروا من هذه الاعتقادات وتبطلوها.

الطيرة: وهي من الاعتقادات الباطلة التي جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لإبطالها، وهي من

(374)

الاعتقادات الجاهلية التي جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فوجد أهل الجاهلية ومشركي العرب يتعبدون لله بها.

والطيرة: من زجر الطيور ومراقبة حركاتها، فإن تيامنت دل تيامنها على فأل، وإن تياسرت دل على شؤم[1]. وقد حرَّم صلى‌الله‌عليه‌وآله الطيرة، فعن أبي هريرة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر، وفُرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد»[2].

ومن العقائد المنتشرة عند أهل الجاهلية قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله: اعتقادهم بالنجوم واستسقاؤهم بها، فيقولون: مطرنا بنوء كذا[3].

وقد بيَّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنَّ أهل الجاهلية كانوا يعتقدون في الأنواء، وذم ذلك فقال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب»[4].

2. نقد شبهة الحج التي أثارها نولدكه

من الأمور التي دلَّل من خلالها نولدكه على شبهته التي تقول بأنّ من مصادر تعليم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله معتقدات قومه: موضوع الحج ومناسكه وأعماله، وواضح أنّ نولدكه جاهل بأصل الحجّ والعمرة، وجاهل بتفاصيلهما عند العرب قبل الإسلام ومقارنتها مع ما جاء به الإسلام، فلم يستوعب نولدكه هذه المسألة ويتصوَّرها، فجاء حكمه عنها شاذًّا. وقد اتَّهم نولدكه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله  -كما أوردنا قوله في بداية هذا البحث- بأنَّه قام بتعديل مناسك الحج والعمرة، معيدًا إيَّاها إلى أصولٍ إبراهيميّةٍ، وأنَّ العرب لم تكن تعلم ذلك. فسمَّى نولدكه التّصحيح تعديلًا، ولم

(375)

يقل (الأصول الإبراهيمية) بل قال (أصول إبراهيميّة)، منكرًا إيَّاها، وقال إنَّ العرب كانت تجهل ذلك.

وبالتالي فإنَّ نولدكه يجهل أنَّ العرب توارثوا من لَدُن إبراهيم عليه‌السلام مناسك الحج، وهذا أمرٌ مجمعٌ عليه، بينما غالط نولدكه هذه الحقيقة حين قال إنّ العرب لم تكن تعرف ذلك، وغالط جميع المصادر التي تكلّمت بذلك، ولم يأتِ بدليلٍ واحدٍ على مغالطته هذه.

يذكر الكلبي تفاصيل ذلك، وكيف كان العرب يحجُّون البيت، ويعتمرون، ويطوفون بالبيت أسبوعًا، ويمسحون الحجر الأسود، ويسعون بين الصفا والمروة[1]. وقد تعرَّض اليعقوبي لموضوع أديان العرب وشعائرها، فقال: «وكانت أديان العرب مختلفة بالمجاورات لأهل الملل، والانتقال إلى البلدان، والانتجاعات، فكانت قريش وعامة ولد معد بن عدنان على بعض دين إبراهيم، يحجُّون البيت ويقيمون المناسك، ويقرون الضيف ويُعظِّمون الأشهر الحرم، وينكرون الفواحش والتّقاطع والتَّظالم، ويعاقبون على الجرائم. فأدخل في الدين أمورًا نعدها اليوم من الأعراف وقواعد الأخلاق والسلوك، وجعلها من سنة إبراهيم، أي دين العرب القديم قبل إفساده بالتعبُّد للأصنام»[2].

لكنَّ أهل الجاهليّة غيَّروا مناسك إبراهيم الحنيفيّة، وأحدثوا أشياء اقترنت فيها العبادة بالخرافة، فجاء الإسلام وأعاد تقويم الأمور على الشّكل الصّحيح، فعن جابر، قال: رأيت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه»[3].

ونبدأ من حج إبراهيم عليه‌السلام ، إذ يقول الله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ

(376)

يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [1]. فقد بنى إبراهيم الكعبة للحج، ثم أمره الله عز وجل أن يؤذِّن في الناس بالحج [2]، فورث العرب هذه العبادة وشعائرها من دين الحنيفية دين إبراهيم، ثم ما لبث أن غيَّروا وبدَّلوا وانحرفوا، ولما جاء الإسلام، أقر ما عليه دين إبراهيم، وأبطل ما غيَّروا وبدَّلوا، إذ أدخلوا في شريعة الحج طقوسًا وعادات ما أنزل الله بها من سلطان، لم تكن في ملة إبراهيم، فجاء الإسلام وأبطل ذلك[3].

فالأصل إذن شريعة إبراهيم عليه‌السلام، وشريعة الله واحدة، وجاء الإسلام ليردَّها إلى أصولها الإلهيّة الحقَّة، وينقِّيها من الوثنيّة.

يقول الكلبي: «وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل، يتنسَّكون بها من تعظيم البيت والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البدن والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه»[4].

وقد رفض النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما هم عليه من عبادة الأصنام عند الكعبة: ففي تفسير مقاتل بن سليمان: أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل المسجد وحول الكعبة ثلاثمئة وستون صنمًا، وفي المسجد العاص بن وائل السهمي، والحارث وعدي ابنا قيس، كلهم من قريش من بني سهم، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [5].

(377)

وأما الطواف، فكان أهل الجاهليّة يطوفون بالكعبة وقد جعلوا مئات الأصنام في جوفها ومن حولها، فعن عبد الله بن مسعود، قال: دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة، وحول البيت ستون وثلاث مئة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[1]، (جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) [2] [3].

ومن اعتقاداتهم التي رفضها الإسلام أنَّهم كانوا يطوفون بالبيت عراة: يقول الله تعالى: (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [4]، يقول الزمخشري: «وقيل: المراد بالفاحشة: طوافهم بالبيت عراة». ويقول الله تعالى: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [5]. يقول الزمخشري: «أي كلَّما صليتم أو طفتم، وكانوا يطوفون عراة. وعن طاوس: لم يأمرهم بالحرير والديباج، وإنما كان أحدكم يطوف عريانًا ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت عنه، لأنهم قالوا: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها: وقيل: تفاؤلًا ليتعرُّوا من الذنوب كما تعرُّوا من الثياب».

ويقول تعالى: (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [6]. ومعناه: أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة: الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم يُصفِّرون فيها ويُصفِّقون. ويقول تعالى: (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) [7].

(378)

والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة متعبدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته. ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر: ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة ويقولون: لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطًا سجدوا لها. وقيل: هو قولهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك[1].

ولم يكن طواف العرب يختصُّ بالبيت الحرام فقط، فكان الطواف عندهم بالبيوت وبالأصنام ركن من أركان الحج، ومنسك من مناسكه. وكانوا يفعلونه كلما دخلوا البيت الحرام، فإذا دخل أحدهم الحرم، وإذا سافر أو عاد من سفر، فأول ما كان يفعله الطواف بالبيت. وقد فعل غيرهم فعل قريش ببيوت أصنامهم، إذ كانوا يطوفون حولها كالذي كان يفعله أهل يثرب من طوافهم بمناة.

وقد ذكر الأخباريون أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون حول الرجمات، وهي حجارة تجمع فتكون على شبه بيت مرتفع كالمنارة، ويقال لها الرجمة. وكان الجاهليون يطوفون حول الأصنام والأنصاب كذلك. وكانوا يطوفون حول الذبيحة التي يقدمونها قربانا للآلهة. وكانوا يطوفون حول القبور أيضًا، كقبور السادات والأشراف من الناس.

وكانوا يطوفون حول الأنصاب، ويسمون طوافهم بها (الدوار)، فكانوا يطوفون حول حجر. و(الدوار) من دار حول موضع من المواضع، وطاف حوله الشيء، وإذا عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه. وقد ذكر علماء اللغة أن (الدوار) صنم كانت العرب تنصبه، يجعلون موضعًا حوله يدورون به.

وقيل إنّهم كانوا يدورون حوله أسابيع كما يطاف بالكعبة، وقيل حجارة كانوا يطوفون حولها تشبُّهًا بالكعبة. ولم يكن للطواف وقت معلوم، ولا يختص به معبد معين وبموسم خاص مثل موسم الحج، بل يؤدونه كلّما دخلوا معبدًا

(379)

فيه صنم، أو كعبة أو ضريح، فهم يطوفون سبعة أشواط حول الأضرحة أيضًا، كما يطوفون حول الذبائح المقدَّمة إلى الآلهة. فالطواف إذن من الشّعائر الدينيّة التي كان لها شأنٌ بارزٌ عند الجاهليين[1].

ومن أعمالهم في الطواف أنَّ الرجل كان يربط يده بيد أخيه، يتقرَّبان بذلك إلى الله تعالى، فنهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك، فعن ابن عباس: أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير -أو بخيط أو بشيء غير ذلك- فقطعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده، ثم قال: «قده بيده»[2].

ونأتي إلى موضوع آخر وهو التَّلبية، إذ كان أهل الجاهلية يُلبُّون، وكانت تلبيتهم للآلهة وليس لله عز وجل، فجاء الإسلام وصحَّحها لهم. فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ويلكم، قد قد» فيقولون: إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت[3].

يقول ابن حبيب: «وكان لكل قبيلة، بعد، تلبية، فكانت تلبية من نسك للعزى: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، ما أحبنا إليك. وكان تلبية من نسك للات: لبيك اللهم لبيك، لبيك، كفى ببيتنا بنية، ليس بمهجور ولا بلية، لكنه من تربة زكية، أربابه من صالحي البرية ... وكانت تلبية من نسك لسواع: لبيك، اللهم لبيك، لبيك، ابنا إليك، إن سواع طلبن إليك»[4].

ويقول الكلبي: «فكانت نزار تقول إذا ما أهلَّت: لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. ويوحِّدونه بالتلبية ويدخلون معه آلهتهم ويجعلون ملكها بيده، يقول الله عز وجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَمَا يُؤْمِنُ

(380)

أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [1] أي ما يوحِّدونني بمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكًا من خلقي»[2].

أما الإسلام، فجعل التلبية موحَّدة بين جميع الناس، وهي شعار التوحيد، وليس الإشراك، فالفرق كبير جدًّا بين الأمرين، فعن عبد الله بن عمر: «أن تلبية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»[3].

أمَّا السعي بين الصفا والمروة:

فلم تكن كلّ العرب تسعى بين الصفا والمروة، فعن عائشة قالت: «إنما كان من أهل بمناة الطاغية التي بالمشلل، لا يطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) [4][5]»....

وكان على الصفا صنم يقال له إساف، وكان على المروة صنم يقال له نائلة، وكان المشركون إذا سعوا بينهما تمسَّحوا بهما، وهما صنمان، وكانا من جرهم، فذكروا أنَّ إساف فجر بنائلة في الكعبة، فمُسخا حجرين، فوُضعا على الصفا والمروة ليُعتبر بهما، ثم عُبدا بعد ذلك، حتى كان يوم الفتح فكُسرا[6].

وبالتالي، فإنّ أعمال الحج في الإسلام هي أبعد ما تكون عمَّا كان عليه أهل الجاهليّة، في الظاهر وفي المضمون، وهي أعمال خالصة لله عز وجل، وهي إحياء لذكريات إبراهيم عليه‌السلام وزوجته هاجر وولدهما إسماعيل عليه‌السلام، مما يعكس آثارًا طيبة في حياة الفرد والجماعة.

(381)
3. سور كاملة في القرآن في مواجهة مجتمع الجاهلية وعاداته وتقاليده واعتقاداته

وكيف تستقيم شبهة نولدكه أمام سورٍ عديدةٍ في القرآن وقفت موقف المواجهة مع المجتمع آنذاك، مواجهة تصحيح مساره، وسأضرب مثالًا من سورتين فقط، مع بعض تفصيلاتهما التي شكَّلت برنامجًا اجتماعيًّا تصحيحيًّا.

أ. تطهير المجتمع المسلم من أدران الجاهليّة من خلال سورة النساء

هذه السورة (سورة النساء) تمثل جانبًا من الجهد الذي أنفقه الإسلام في بناء الجماعة المسلمة، وإنشاء المجتمع الإسلامي وفي حماية تلك الجماعة، وصيانة هذا المجتمع.

وتعرض هذه السورة نموذجًا من فعل القرآن في المجتمع الجديد، الذي انبثق أصلًا من خلال نصوصه، والذي نشأ ابتداء من خلال المنهج الرباني. وتُصوِّر بهذا وذلك طبيعة هذا المنهج في تعامله مع الكائن الإنساني كما تُصوِّر طبيعة هذا الكائن وتفاعله مع المنهج الرباني، تفاعله معه وهو يقود خطاه في المرتقى الصاعد، من السفح الهابط، إلى القمة السامقة، خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، بين تيارات المطامع والشهوات والمخاوف والرغائب، وبين أشواك الطريق التي لا تخلو منها خطوة واحدة وبين الأعداء المتربصين على طول الطريق الشائك! وكما في سورة البقرة وسورة آل عمران اللتان تضمنتا مواجهة القرآن لكل الملابسات المحيطة بنشأة الجماعة المسلمة في المدينة وبيان طبيعة المنهج الرباني الذي تنشأ الجماعة على أساسه وتقرير الحقائق الأساسية التي يقوم عليها التصور الإسلامي، والقيم والموازين التي تنبثق من هذا التصور وإبراز التكاليف التي يقتضيها النهوض بهذه الأمانة في الأرض وتصوير طبيعة أعداء هذا المنهج وأعداء هذه الجماعة التي تقوم عليه في الأرض، وتحذيرها من وسائل أولئك الأعداء ودسائسهم وبيان ما في عقائدهم من زيف وانحراف، وما في وسائلهم من خسة والتواء ... إلخ ... فكذلك نرى القرآن -في هذه السورة- يواجه جملة هذه الملابسات والحقائق.

(382)

وفي الوقت ذاته، نلمح رواسب الجاهليّة، وهي تتصارع مع المنهج الجديد، والقيم الجديدة، والاعتبارات الجديدة، ونرى ملامح الجاهليّة وهي تحاول طمس الملامح الجديدة الوضيئة الجميلة.

ونشهد المعركة التي يخوضها المنهج الرباني بهذا القرآن في هذا الميدان، وحين ندقّق النّظر في الرّواسب التي حملها المجتمع المسلم من المجتمع الجاهلي الذي منه جاء، والتي تعالج هذه السورة جوانب منها -كما تعالج سور كثيرة جوانب أخرى- قد تنالنا الدهشة لعمق هذه الرّواسب.

ثم تنالنا الدهشة كذلك للنقلة البعيدة السامقة الرفيعة التي انتهى إليها هذا المنهج العجيب الفريد، بالجماعة المسلمة، وقد التقطها من ذلك السفح الهابط، الذي تمثله تلك الرواسب، فارتقى بها في ذلك المرتقى الصاعد إلى تلك القمة السامقة.

والذي يدقّق النّظر في هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشريّة، يتجلّى له جانب من حكمة الله في اختيار «الأميين» في الجزيرة العربية، في ذلك الحين، لهذه الرسالة العظيمة، حيث يمثلون سفح الجاهليّة الكاملة، بكل مقوماتها الاعتقاديّة والتصوريّة، والعقليّة والفكريّة، والأخلاقيّة والاجتماعيّة، والاقتصاديّة والسياسيّة، ليعرف فيهم أثر هذا المنهج، وليتبيّن فيهم كيف تتم المعجزة الخارقة، التي لا يملك أن يأتي بها منهج آخر، في كل ما عرفت الأرض من مناهج، وليرتسم فيهم خط هذا المنهج، بكل مراحله -من السفح إلى القمة- وبكلّ ظواهره، وبكل تجاربه، ولترى البشريّة -في عمرها كله- أين تجد المنهج الذي يأخذ بيدها إلى القمة السامقة، أيًّا كان موقفها في المرتقى الصاعد.

وهذه السورة تتولى رسم مفرق الطريق بالدّقّة وبالوضوح الذي لا تبقى معه ريبة لمستريب.

وفي هذه السورة نجد بعض الملامح التي يتوخى المنهج الإسلامي إنشاءها وتثبيتها في المجتمع المسلم، بعد تطهيره من رواسب الجاهليّة، وإنشاء الأوضاع

(383)

والتّشريعات التنفيذيّة، التي تكفل حماية هذه الملامح وتثبيتها في الواقع الاجتماعي[1].

ب. سورة الأنعام في مواجهة الجاهليّة

إنّ سورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها، وتواجه الجاهليّة بها، وتفند هذه الجاهليّة عقيدة وشعورًا، وعبادة وعملًا.

وبينما تتناول سورة الأعراف حركة هذه العقيدة في الأرض وقصتها في مواجهة الجاهليّة على مدار التاريخ، وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضًا، إلّا أنّ سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس، بارتفاع وضخامة في الإيقاع، وسرعة وقوة في النبض، ولألاء شديد في التصوير والحركة، بينما تمضي سورة يونس، في إيقاع رخي، ونبض هادئ، وسلاسة وديعة.

فأمّا هود فهي شديدة الشّبه بالأعراف موضوعًا وعرضًا وإيقاعًا ونبضًا ...

إنَّ هذه السورة تواجه ابتداءً موقف المشركين في مكة من حقيقة الوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن هذا القرآن ذاته بالتبعيّة، فتقرّر لهم أنّ الوحي لا عجب فيه، وأنّ هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله.

وتواجه طلبهم خارقة مادية -غير القرآن- واستعجالهم بالوعيد الذي يسمعونه. فتقرّر لهم أنّ آية هذا الدين هي هذا القرآن وهو يحمل برهانه في تفرده المعجز الذي تتحداهم به. وإنّ الآيات في يد الله ومشيئته وأنّ موعدهم بالجزاء يتعلّق بأجل يقدره الله، والنبي لا يملك شيئًا، فهو عبد من عباد الله. وفي هذا جانب من التعريف لهم بربهم الحقّ وحقيقة الألوهيّة وحقيقة العبوديّة.

(384)

وتواجه هذه السورة اضطراب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية -الأمر الذي يحدثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه، فيكذبون بالوحي أو يشكّكون فيه ويطلبون قرآنًا غيره، أو يطلبون خارقة مادية تثبت لهم صحته- بينما هم ماضون في عبادة ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الشركاء، على اعتقاد أنهم شفعاؤهم عند الله، كما يزعمون لله الولد سبحانه بلا علم ولا بيّنة .. فتقرّر لهم صفات الإله الحقّ وآثار قدرته في الوجود من حولهم، وفي وجودهم هم أنفسهم، وفيما يتقلّب بهم من ظواهر الكون، وما يتقلب بهم هم من أحوال وهتاف فطرتهم وأنفسهم بربها الحقّ عند مواجهة الخطر الذي لا دافع له إلا الله .. وهذه هي القضيّة الكبرى التي تستغرق قطاعات شتى من السورة والتي تتفرّع عنها سائر محتوياتها الأخرى[1].

الخاتمة والنتائج

ـ اتّصف كلام نولدكه عن شبهة زيد بن عمرو بن نفيل بالتفكك، إذ تكلَّم بداية واثقًا متأكِّدًا من تلقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من زيد، ثم عاد ليقول إنَّه على جهلٍ تامٍ بتفاصيل هذا التَّلقي، بل قام باتهام شبرينغر بالتّمادي في استنتاجاته حول أقوال زيد والقرآن والشّبه بينهما.

ـ وثبت بطلان سند ومتن الرواية الأساسيّة عن شعر زيد، والتي استند عليها أصحاب الشُّبهة، وهي المتعلّقة باستخدام زيد لتعبير (دحا الأرض)، وثبت اختلاف معناها في شعر زيد عن معنى الآية المقصودة في سورة النازعات.

ـ وقد ظهر لنا أنَّ مجموع شعر زيد لا يتعدّى الأربعين بيتًا، فأين هو إذن من تفاصيل القرآن المتشعّبة المواضيع؟! مع العلم أنَّ شعر زيد أصابه النحل، وتداخل مع أشعار غيره، مما صار سمة لشعره.

ـ حدثت بعد وفاة زيد عشرات الأحداث التي تكلَّم عنها القرآن الكريم، وفي

(385)

الأصل لم يدَّع زيد الادّعاء الذي ادَّعاه نولدكه ومن لفَّ لفَّه.

ـ لم نجد إلا خطبةً واحدةً لزيد، وهي خطبة فيها أبيات شعرية، وكلاهما ينقض الشُّبهة المثارة، على عكس ما أراد نولدكه الذي لمَّح إلى حفظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لخطب زيد ومن ثم أدخلها في القرآن الكريم.

ـ وثبت بطلان شبهة أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأكل مما لم يُذكر اسم الله عليه، كما ثبت بطلان الاستدلال بالحديث الذي أورده أصحاب الشُّبهة.

ـ أجمعت المصادر على إيمان زيد، وأنَّه كان على دين إبراهيم، وأنَّه رفض اليهودية والنصرانية، وأنَّه كان ينتظر ظهور دين الإسلام، وهذا كلّه ينقض الشُّبهة المثارة.

ـ إنَّ عدم ادِّعاء زيد للنبوة، ثم إنَّ دخول أبناءه في الإسلام، يجعل الشُّبهة المثارة في مهب الريح.

ـ وأثار نولدكه شبهة أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أمية بن أبي الصلت، ومع أنَّه شكَّك بها إلا أنَّه جعل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شريك أمية في الأخذ عن اليهودية والمسيحية.

ـ إنَّ هذه الشُّبهة لم تثر إلا منذ قرن تقريبًا باستثناء ما ورد في كتاب (الزهرة) الآتي، فلو كانت صحيحة أو فيها مقدار مثقال من الصحة، فلماذا سُكت عنها ثلاثة عشر قرنًا!! وإنَّ معظم أشعار أمية التي تشابه القرآن الكريم ظهرت لأول مرة في القرن الرابع الهجري، وأُخذت من محمد بن داود الأصفهاني الذي جمعها في كتاب (الزهرة)، ثم أنكر في الوقت نفسه أنَّها تعود لأمية.

ـ ولم يعترّض أميّة نفسه أصلًا ولم يقل إنّ النّبيّ اقتبس من شعره، وقد التقى بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعاصره مدة بين العشر إلى العشرين عامًا تقريبًا.

ـ ثبت من خلال التّوصيف العام لحياة أميّة، ومن خلال تاريخ وفاته، ضعف شُبهة أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه، إذ رجَّح الدكتور عبد الحفيظ السطلي وفاته في السنة الثانية للهجرة.

(386)

ـ وبغضّ النّظر عن مضمون شعر أمية، ثبت أنَّ الروايات لم تذكر الأبيات التي سمعها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله منه حتى نتَّخذها مجالًا للنقاش، وأنَّ إنشاد الشريد الثّقفي بشعر أمية تم في آخر حياته وقت اكتمال القرآن تقريبًا.

ـ وإنّ قسمًا كبيرًا من شعر أميَّة لا يمكن الجزم بصحّة نسبته إليه، وعلى هذا فإنّ المنهجيّة والمصداقيّة تقتضي أن لا تثار هذه الشُّبهة، لسبب منهجيٍّ موضوعيٍّ بسيطٍ، وهو أنّها ستبنى على توهم أو تخيل.

ـ وتم التَّيقن أنَّ الشعر الديني المنسوب إلى أمية فيه من الإسفاف والركاكة في بعض القصائد، والقوة والرصانة في قصائد أخرى، وهذا الاختلاف في الأسلوب يشير إلى وجود قصائد موضوعة على أمية، وهذا الاختلاف في جزالة الأسلوب واللغة والمعاني يفرض أن يكون أكثر من شاعر واحد قد عمل على صياغة هذا الشعر.

ـ وظهر أنَّ القسم الأكبر من شعر أمية قد فُقد، وأنَّ أكثر ما رُوي من شعره منحول عليه، وأنَّه مختلط النسبة، وأنَّه لا يثبت منه إلا مرثيته لقتلى بدر.

ـ وأثبت المتخصّصون بالأدب والشعر أنَّ شعر أمية يُقسم إلى قسمين: قسم يظهر فيه أثر الحنيفيّة والتوراة والإنجيل، وهو شعر واضح من خلال لغته وأساليبه ومعانيه أنَّه لأمية، وقسم يظهر عليه أثر القرآن، وهو شعر منحول لوضوح ركاكة لغته وضعف صياغته، وواضح أنّ أسلوبه مستمدّ من القرآن الكريم.

ـ ولم يُعثر في قصائد أمية أي ذكر للشرائع من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها من الشرائع الإسلامية، ولا ذكر لأيّ أمور ستقع للمشركين والمؤمنين كما في القرآن، فلو صحَّت تلك القصائد له يكون معناها بكل وضوح أنه كان يسمع القرآن المكي ويسرد القصائد بفوائده وهذا واضح من مدحه للقرآن.

ـ ودلَّت الأشعار المنسوبة لأمية على وجود أيد لصُنَّاع الشعر ومنتجيه في شعره، وأنَّ صُنَّاعها لم يتقنوا صنعتها، ففضحوا أنفسهم بها.

ـ ولذلك قال المستشرق براو: «إنّ صحة القصائد المنسوبة لهذا الشاعر أمر

(387)

مشكوك فيه، شأنها شأن أشعار الجاهليين بوجه عام، وإن القول بأن محمدًا قد اقتبس شيئًا من قصائد أمية هو زعم بعيد الاحتمال لسبب بسيط هو أن أمية كان على معرفة أوسع بالأساطير التي نحن بصددها، كما كانت أساطيره تختلف في تفصيلاتها عما ورد في القرآن»[1].

ـ ثم إنَّ منهج من أثار هذه الشُّبهة كان السكوت عن الأدلّة والنّصوص واتباع التّخيلات والتأويلات والاستنتاجات الغريزية العقلية التي لا تستند إلى رواية أو نص، وبالتالي تكوَّنت هذه الشُّبهة من نسج الخيال، ولم تقم على وقائع صحيحة، ولم تحظَ بأي دليل حقيقي يدعمها.

ـ لأمية قصيدتان، يعترف فيهما بنبوَّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويفتخر به ويمدحه، فإن صدَّق أصحاب الشُّبهة هذا الشعر، انتفى تشكيكهم، وإن لم يصدِّقوا فإنّ الشُّبهة  تنقض نفسها بنفسها.

ـ ثم إنَّ دخول الطائف قوم أمية في الإسلام، ثم دخول أهل بيته فيه، ينقض الشُّبهة بالكليَّة، ويدل على عدم ورودها أصلًا.

ـ وأما عن إثارة نولدكه لشبهة أنّ أمية والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نهلا من من معين الروايات اليهوديّة والمسيحيّة، فلقد أثبت جواد علي بعد دراسة وتثبت، أنه لو كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمية قد أخذا من منهل واحد، لما سكتت قريش عن القول به، ولما سكت مسيلمة ومن كان على شاكلته من المتنبئين من الإشارة إليه في أثناء حروب الردة، ولما سكت يوحنا الدمشقي وأمثاله.

ـ فهي شبهة لم يأتِ على ذكرها بالمطلق أحد من كفار قريش، ولم يصلنا ولا حتى من رواية ضعيفة أن كفار قريش اتهموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه أخذ من شعر أمية، فلو وصلهم أدنى شك بذلك لأثاروه حتمًا ولكانت فرصتهم الكبيرة لإثبات دعاويهم ضدّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ـ ثم إنّ أميّة نفسه لو كان يعلم ذلك، أو يظنّ أنّ محمدًا إنما أخذ منه؛ لما سكت عنه وهو خصم له، منافس عنيد، أراد أن تكون النبوة له، وإذا بها عند شخص آخر

(388)

ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمنون بدعوته، أما هو فلا يتبعه أحد. فهل يعقل سكوت أمية لو كان قد وجد أي ظن، وإن كان بعيدًا، يفيد أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخذ فكرة منه، أو من المورد الذي أخذ أمية نفسه منه؟

ـ لقد تحدّى القرآن الكريم العرب قاطبةً، وهم أهل البلاغة والفصاحة والمعلقات السبع، بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله (أي بقدر سورة الكوثر التي هي ثلاث آيات فقط) فعجزوا عن ذلك وخرجوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحراب والسنان ودفعوا أنفسهم وفلذات أكبادهم في سبيل القضاء على دين الإسلام ما استطاعوا، بينما كانت المواجهة بالشعر والكلام والاتهام بالاقتباس مع وجود الدليل -لو كان- أسهل عليهم بكثير من الخروج بالحراب والسنان!!

ـ ولو بحثنا بطريقةٍ أخرى من خلال السّؤال الآتي: هل ادّعى أمية النبوّة أم كان على أمل أن تكون له؟ يأتي الجواب من تفاصيل ترجمته في كتب التاريخ التي تُجمع أنه عاش على أمل أن يكون هو ذلك النبي، وكان خلال ترحاله وخاصّة إلى بلاد الشام يأتي الرهبان ويستمع منهم إلى الكتاب المقدس، وخاصة أخبار نبي آخر الزمان.

ولمَّا لم تكن له النبوّة لم ينكر نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل كاد أن يدخل في الإسلام لولا ما حدث من إغارة بعضهم لصدره على قتلى غزوة بدر من قومه.

إذًا، هذه الخلاصة تؤكِّد بما لا يدع مجالًا للشك أنَّ أمية لم يدَّع النبوة ولم ينكر نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا كلّه ينسف الشُّبهة التي بين أيدينا من أركانها.

وأخيرًا: إنَّ القرآن الكريم كتابٌ شاملٌ لأبواب العقيدة والغيب والأحكام والقصص والأمثال، مترابطٌ يشبه بعضه بعضًا في بيانه وفصاحته، وأحكامه وحكمته، وفي معانيه ولغته؛ كما قال سبحانه وتعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [1].

وأما شعر أمية، فعلى فرض صحّة نسبته إليه كله؛ فهو إنّما يتعلّق ببعض

(389)

القصص، وبعض أمور الغيب، لا يتجاوز هذا، وهو مضطرب الأسلوب من قصيدة إلى أخرى.

وأثار نولدكه أيضًا شبهة أنّ أحد أهم مصادر تعليم محمد كانت الاعتقادات الدينية التي اعتنقها قومه.

لقد أثبتت تفصيلات القرآن والأحاديث النبويّة أنّ موقف الإسلام من أعمال الجاهليّة اختلف تبعًا لنوعيَّتها، فهناك ما كان قائمًا على وشائج الخير، كالشجاعة والكرم والنجدة ونصرة المظلوم، فذلك أقرَّه، وما كان على غير ذلك أنكره وحرَّمه، مثل مرض تقليد الآباء في الباطل، ومثل اعتقادات الجاهليين في الذبح، ومثل الطعن في النَّسب واللطم، ومثل العيافة والطرق أو الرمي بالحصى، ومثل الطيرة والاستسقاء بالنجوم.

وأثار نولدكه موضوع الحج ومناسكه وأعماله، واتَّهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنَّه قام بتعديل مناسك الحج والعمرة، معيدًا إيَّاها إلى أصولٍ إبراهيميّةٍ، وأنَّ العرب لم تكن تعلم ذلك، فأثبتنا جهل نولدكه بأصل الحج والعمرة، وبتفاصيلهما عند العرب قبل الإسلام ومقارنتها مع ما جاء به الإسلام، وبالتالي فإنَّ نولدكه يجهل أنَّ العرب توارثوا من لَدُن إبراهيم عليه‌السلام مناسك الحج، وهذا أمر مجمع عليه، بينما غالط نولدكه هذه الحقيقة حين قال إنّ العرب لم تكن تعرف ذلك، وغالط جميع المصادر التي تكلمت بذلك، ولم يأتِ بدليلٍ واحدٍ على مغالطته هذه. فلم يستوعب نولدكه هذه المسألة ويتصوَّرها، فجاء حكمه عنها شاذًّا.

وبيَّنَّا أنَّ أهل الجاهلية غيَّروا مناسك إبراهيم الحنيفية، وأحدثوا أشياء اقترنت فيها العبادة بالخرافة، وعبدوا الأصنام عند الكعبة، وطافوا بالكعبة وقد جعلوا مئات الأصنام في جوفها ومن حولها، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، وكانوا يتمسّحون بالأصنام عند الصفا والمروة، فجاء الإسلام وأعاد تقويم الأمور على الشكل الصحيح.

وقد قام القرآن الكريم في سور كاملة بوضع برنامج اجتماعيّ تصحيحيّ، من أجل تطهير المجتمع من رواسب الجاهليّة، وإنشاء الأوضاع والتشريعات التنفيذية، التي تقيم مجتمعًا نقيًّا وطاهرًا.

(390)

لائحة المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1- إبراهيم عازر: مدخل إلى الليتورجيا والطقس الكنسي، إنسبيراشن للطباعة والنشر، 2015م.

2- ابن الملقن عمر بن علي (ت 804هـ): التوضيح لشرح الجامع الصحيح، تحقيق: دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، دمشق، سوريا، دار النوادر، ط1، 2008م.

3- أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك، ابن بطال (ت 449هـ): شرح صحيح البخارى لابن بطال، تحقيق: ياسر بن إبراهيم، الرياض، مكتبة الرشد، ط3، 2003م.

4- أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي (ت 597هـ): مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن لابن الجوزي، تحقيق: مصطفى محمد حسين الذهبي، القاهرة، دار الحديث، ط1، 1995م.

5- أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني (ت 356 هـ): الأغاني، بيروت، دار الفكر، تحقيق: سمير جابر، ط2.

6- أبو بكر بن أبي عاصم، أحمد بن عمرو الشيباني (ت 287هـ): الآحاد والمثاني، تحقيق: باسم الجوابرة، الرياض، دار الراية، ط1، 1991م.

7- أبو بكر محمد بن داود الأصبهاني البغدادي (ت 297هـ): الزهرة، تحقيق: إبراهيم السامرائي، الزرقاء، الأردن، مكتبة المنار، ط2، 1985.

8- أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي (ت 745هـ): البحر المحيط في التفسير، تحقيق: صدقي محمد جميل، دار الفكر، بيروت، 1420 هـ.

9- أبو داود سليمان الطيالسي البصرى (ت 204هـ): مسند أبي داود الطيالسي، تحقيق: الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي، مصر، دار هجر، ط1، 1999م.

(391)

10- أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل (ت 241هـ): مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، عادل مرشد، وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط1، 2001م.

11- أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (ت 671هـ): الجامع لأحكام القرآن، تفسير القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، إبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1964م.

12- أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (ت 671هـ): الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، إبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1964م.

13- أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430هـ): دلائل النبوة، تحقيق: محمد رواس قلعه جي، عبد البر عباس، بيروت، دار النفائس، ط2، 1986م.

14- أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر (292 هـ): تاريخ اليعقوبي، النجف، المكتبة الحيدية، 1964م.

15- أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458هـ): دلائل النبوة، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، دار الريان للتراث، ط1، 1988م.

16- أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852هـ): فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، 1379، رقَّم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، إخراج وتصحيح: محب الدين الخطيب.

17- أحمد بن علي، ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ): الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ.

18- أحمد بن عمرو، البزار (ت 292هـ): مسند البزار، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، (الأجزاء من 1 إلى 9)، عادل بن سعد (الأجزاء من 10 إلى 17)، وصبري عبد الخالق الشافعي (الجزء 18)، المدينة المنورة، مكتبة العلوم والحكم، ط1، 2009م.

(392)

19- أحمد بن محمد القسطلاني (ت 923هـ): إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، مصر، المطبعة الكبرى الأميرية، ط7، 1323هـ.

20- أحمد بن يحيى البلاذري (ت 279هـ): أنساب الأشراف، تحقيق: سهيل زكار، رياض الزركلي، بيروت، دار الفكر، ط1، 1996م.

21- أحمد بن يوسف بن عبد الدائم، السمين الحلبي (ت 756هـ): الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، تحقيق: أحمد الخراط، دمشق، دار القلم.

22- أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف (ت 1426هـ): تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، دار المعارف، ط10.

23- إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، مصر، مطبعة الاعتماد، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1914م.

24- إسماعيل بن عمر (ت 774هـ): تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2، 1999م.

25- إسماعيل بن عمر بن كثير (ت 774هـ): البداية والنهاية، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1988م.

26- إسماعيل بن عمر بن كثير (ت 774هـ): السيرة النبوية (من البداية والنهاية لابن كثير)، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1976م.

27- إسماعيل بن عمر بن كثير (ت 774هـ): السيرة النبوية (من البداية والنهاية لابن كثير)، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، بيروت، لبنان، دار المعرفة، 1976م.

28- الأسفار: - سفر إشعياء - سفر التثنية - سفر إرميا - سفر التكوين - متى - ميخا - صموئيل - القضاة - الخروج - المزمور - الأمثال - تيموثاوس.

29- الأسفار: - متى - تيموثاوس - إشعياء -

(393)

30- الأنبا بيمن: الليتورجيا من منظار مسكوني عصري، مطرانية ملوى وأنصنا والأشمونين، مصر، دار الجيل.

31- الحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري (ت 405هـ): المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1990.

32- الحسن بن محمد النيسابوري (ت 850هـ): غرائب القرآن ورغائب الفرقان، تحقيق: زكريا عميرات، بيروت، دار الكتب العلميه، ط1، 1416 هـ.

33- الحسن علي بن أبي الكرم، عز الدين ابن الأثير (ت 630هـ): الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، بيروت، لبنان، دار الكتاب العربي، ط1، 1997م.

34- السلسلة الليتورجية (4)، الصلاة الليتورجية، بغداد، دار نجم الشرق.

35- الليدي دراوور: الصابئة المندائيون، ترجمة: نعيم بدوي، غضبان الرومي، دار المدى، ط1، 1969م.

36- المشناه، ركن التلمود الأول، النظام الثالث نظام النساء: ترجمه إلى العربية نقلًا عن الأصل بعبرية المشناه: حمدي النوباني، القدس، 1987م.

37- المطهر بن طاهر المقدسي (ت نحو 355هـ): البدء والتاريخ، بور سعيد، مكتبة الثقافة الدينية.

38- الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، إشراف وتخطيط ومراجعة: مانع بن حماد الجهني، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، ط4، 1420هـ.

39- أمية بن أبي الصلت، حياته وشعره، دراسة وتحقيق: بهجة عبد الغفور الحديثي، أبو ظبي، المجمع الثقافي، ط1، 2009م.

40- أنجيليكا نويفرت: دراسات في تركيب السور المكية، 1981.

(394)

41- إيمل إسحق: الكتاب المقدس، أسلوب تفسيره القويم وفقًا لفهم الآباء القويم، مطبعة الأنبا رويس، القاهرة، 1997م.

42- توماس كارليل: الأبطال، ترجمة: محمد السباعي، دار الكاتب العربي.

43- تيودور نولدكه: تاريخ القرآن، ترجمة: جورج تامر، مؤسسة كونراد، بيروت، 2004م.

44- جابر بن موسى الجزائري: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط5، 2003م.

45- جواد علي: المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام، (ت 1408هـ)، دار الساقي، ط4، 2001م.

46- جيمس فريزر: الفولكلور في العهد القديم (التوراة)، ترجمة: نبيلة إبراهيم، القاهرة، دار المعارف، 1982م.

47- خير الدين بن محمود الزركلي (ت 1396هـ): الأعلام، دار العلم للملايين، ط15، 2002م.

48- دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربية.

49- رافد نجم: الصلاة المندائية وبعض الطقوس الدينية، بغداد، 1988م.

50- رشدي دوس: مصادر وتاريخ ليتورجيات كنيسة الإسكندرية القبطية الأرثوذكسية، مريوط، مطبعة دير الشهيد.

51- زكا عيواص: قصة أهل الكهف في المصادر السريانية، مجلة مجمع اللغة السريانية، بغداد، 1975، عدد 1.

52- سارة العبادي: الصابئة المندائية وموقف الإسلام منها، مجلة جامعة أم القرى، العدد 52، سنة 1432هـ.

53- سعد الملك، أبو نصر علي بن هبة الله بن جعفر بن ماكولا (ت 475هـ): الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب، بيروت، لبنان، دار الكتب

(395)

العلمية، ط1، 1990م.

54- سيف الدين الآمدي (ت 631 هـ): أبكار الأفكار في أصول الدين، تحقيق: أحمد المهدي، القاهرة، دار الكتب والوثائق القومية، ط2، 2004م.

55- شبلي النعماني: كتاب سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتكملته لسليمان الندوي، المدينة المنورة، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.

56- شهاب الدين محمود بن عبد الله الألوسي (ت 1270هـ): روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، تحقيق: علي عبد الباري عطية، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1415 هـ.

57- صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (ت 764هـ): الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، بيروت، دار إحياء التراث، 2000م.

58- طارق حجي: فرضية (القرآن الليتورجي) في الدرس الاستشراقي المعاصر، موقع: مركز تفسير للدراسات القرآنية:

59- عبد الأحد داود: محمد صلى الله عليه وسلَّم كما ورد في كتاب اليهود والنصارى، ترجمة: محمد فاروق الزين، دار نهضة مصر، 2002م.

60- عبد الجليل الشلبي: الإسلام والمستشرقون، القاهرة، مطابع الشعب.

61- عبد الحفيظ السطلي: ديوان أمية بن أبي الصلت، الحقوق للمؤلف، دمشق، 1974م.

62- عبد الرحمن السيوطي (ت 911هـ): الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974م.

63- عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت 911هـ): الدر المنثور، بيروت، دار الفكر.

64- عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي (ت 581هـ): الروض الأنف في شرح السيرة النبوية

(396)

لابن هشام، تحقيق: عمر عبد السلام السلامي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط1، 2000م.

65- عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (ت 597هـ): المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1992م.

66- عبد الرحمن بن محمد الثعالبي (ت 875هـ): الجواهر الحسان في تفسير القرآن، تحقيق: محمد علي معوض، عادل أحمد عبد الموجود، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1418هـ.

67- عبد الرحمن بن محمد، ابن خلدون (ت 808هـ): ديوان المبتدأ والخبر (مع المقدمة)، تحقيق: خليل شحادة، بيروت، دار الفكر، ط2، 1988م.

68- عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ت 1376هـ): تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، تحقيق: عبد الرحمن اللويحق، مؤسسة الرسالة، ط1، 2000م.

69- عبد الله بن عباس (ت 68هـ): تنوير المقباس من تفسير ابن عباس، جمعه: مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى (ت 817هـ)، لبنان، دار الكتب العلمية. 

70- عبد الله بن عبد العزيز البكري (ت 487هـ): سمط اللآلي في شرح أمالي القالي، تحقيق: عبد العزيز الميمني، بيروت، لبنان، دار الكتب العلمية.

71- عبد الله بن عمر، البيضاوي (ت 685هـ): أنوار التنزيل وأسرار التأويل، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1418 هـ.

72- عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276هـ): الشعر والشعراء، القاهرة، دار الحديث، 1423 هـ.

73- عبد الملك بن هشام (ت 213هـ): السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم

(397)

الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، مصر، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، ط2، 1955م.

74- عبد الملك بن هشام (ت 213هـ): السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، مصر، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، ط2، 1955م.

75- عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مصر، دار الشروق، ط1، 1999م.

76- عثمان بن جمعة ضميرية: الإسلام وعلاقته بالديانات الأخرى، مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.

77- عزيز سباهي: أصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية، سوريا، دار المدى، ط1، 1996م.

78- علي بن أبي الكرم، عز الدين ابن الأثير (ت 630هـ): أسد الغابة، بيروت، دار الفكر، 1989م.

79- علي بن أحمد النيسابوري (ت 468هـ): أسباب نزول القرآن، تحقيق: كمال بسيوني زغلول، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1411هـ.

80- علي بن الحسن، ابن عساكر (ت 571هـ): تاريخ دمشق، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995م.

81- علي نايف الشحود: القرآن الكريم في مواجهة الجاهليَّة، ط1، 2010م.

82- عمر فروخ: تاريخ الأدب العربى، دار العلم للملايين، ط5، 1948م.

83- عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255هـ): الحيوان، بيروت، دار الكتب العلمية، ط2، 1424هـ.

84- غازي السعدي: الأعياد والمناسبات والطقوس لدى اليهود، عمان، دار الجليل، 1994م.

(398)

85- غونتر لولينغ: حول القرآن الأصلي، 1974م.

86- فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي، ترجمة: محمود حجازي، السعودية، جامعة محمد بن سعود، 1982م.

87- كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، ترجمة: عبد الحليم النجار، دار المعارف.

88- لؤي عشري وابن المقفع: أصول أساطير الإسلام من الكتب اليهودية متأخرة التلفيق: الهاجادا والأبوكريفا، منتدى الملحدين.

89- لويس جنزبرج: أساطير اليهود، أحداث وشخصيات العهد القديم، ترجمة: حسن حمدي السماحي، حلب، دمشق، دار الكتاب العربي، ط1، 2007م.

90- لويس شيخو الأب: مجاني الأدب في حدائق العرب، بيروت، مطبعة الآباء اليسوعيين، 1938م.

91- ماهر حامد محمد الحولي: التدرج في التشريع الإسلامي، ورشة عمل: تطبيق الشريعة الإسلامية في ضوء الواقع الفلسطيني، غزة، كلية الشريعة والقانون، الجامعة الإسلامية، 2009م.

92-متى المسكين: الإفخارستيا عشاء الرب (بحث في الأصول الأولى لليتورجيا، ومدخل لشرح القدَّاس وتطوره من القرن الأول حتى عصرنا الحاضر)، القاهرة، مطبعة القديس أنبا مقار، ط2.

93- مجلة جهة الإسلام، بحث: عقيدة التوحيد في شعر زيد بن عمرو، المجلد 13، كانون الثاني، 2020، إصدار 2.

94- محمد إبراهيم الفيومي (ت 1427هـ): تاريخ الفكر الديني الجاهلي، دار الفكر العربي، ط4، 1994م.

95- محمد بن أبي بكر بن أيوب، ابن قيم الجوزية (ت 751هـ): هداية الحيارى في أجوبة

(399)

اليهود والنصارى، تحقيق: محمد أحمد الحاج، جدة، السعودية، دار القلم، دار الشامية، ط1، 1996م.

96- محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي (ت 370هـ): تهذيب اللغة، تحقيق: محمد عوض مرعب، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م.

97- محمد بن أحمد بن الضياء المكي (ت 854هـ): تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف، تحقيق: علاء إبراهيم، أيمن نصر، بيروت، لبنان، دار الكتب العلمية، ط2، 2004م.

98- محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748هـ): تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق: عمر عبد السلام التدمري، بيروت، دار الكتاب العربي، ط2، 1993م.

99- محمد بن إسحاق المكي الفاكهي (ت 272هـ): أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، تحقيق: عبد الملك عبد الله دهيش، بيروت، دار خضر، ط2، 1414هـ.

100- محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء، المدني (ت 151هـ): سيرة ابن إسحاق (كتاب السير والمغازي)، تحقيق: سهيل زكار، بيروت، دار الفكر، ط1، 1978م.

101- محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ): التاريخ الكبير، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الدكن، طبع تحت مراقبة: محمد عبد المعيد خان.

102- محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ): الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، صحيح البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، ط1، 1422هـ.

103- محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت 321هـ): الاشتقاق، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، بيروت، لبنان، دار الجيل، ط1، 1991م.

(400)

104- محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ): جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 2000م.

105- محمد بن حبان الدارمي البُستي (ت 354هـ): الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ترتيب: الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي (ت 739 هـ)، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1988م.

106- محمد بن حبيب الهاشمي البغدادي (ت 245هـ): المحبر، تحقيق: إيلزة ليختن شتيتر، بيروت، دار الآفاق الجديدة.

107- محمد بن سعد، (ت 230هـ): الطبقات الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1990م.

108- محمد بن سلَّام الجمحي (ت 232هـ): طبقات فحول الشعراء، تحقيق: محمود محمد شاكر، جدة، دار المدني.

109- محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت 548هـ): الملل والنحل، مؤسسة الحلبي.

110- محمد بن علي بن محمد، الشوكاني (ت 1250هـ): فتح القدير، دمشق، بيروت، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، ط1، 1414 هـ.

111- محمد بن عمر، فخر الدين الرازي (ت 606هـ): مفاتيح الغيب، التفسير الكبير، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط3، 1420هـ.

112- محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (ت 279هـ): الجامع الكبير، سنن الترمذي، تحقيق: بشار عواد معروف، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1998م.

113- محمد بن محمد بن عبد الرزاق، مرتضى الزَّبيدي (ت 1205هـ): تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: مجموعة من المحققين، دار الهداية.

(401)

114- محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، ابن سيد الناس، (ت 734هـ): عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، تعليق: إبراهيم محمد رمضان، بيروت، دار القلم، ط1، 1993م.

115- محمد بن مكرم، ابن منظور (ت 711هـ): لسان العرب، بيروت، دار صادر، 1414هـ.

116- محمد بهاء الدين حسين: المصادر الخيالية فى دراسات المستشرقين للقرآن الكريم، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، السودان، جامعة إفريقيا العالمية، عدد 6، 2005م.

117- محمد جلاء إدريس: التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي، مكتبة مدبولي.

118- محمد عبد العظيم الزرقاني (ت 1367هـ): مناهل العرفان في علوم القرآن، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط3.

119- محمد متولي الشعراوي (ت 1418هـ): تفسير الشعراوي، مطابع أخبار اليوم، 1997م.

120- محمود بن أحمد العينى (ت 855هـ): عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

121- محمود بن عمرو، الزمخشري (ت 538هـ): الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، بيروت، دار الكتاب العربي، ط3، 1407هـ.

122- محمود بن عمرو، الزمخشري (ت 538هـ): الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، بيروت، دار الكتاب العربي، ط3، 1407 هـ.

123- محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676هـ): تهذيب الأسماء واللغات، عنيت بنشره وتصحيحه والتعليق عليه ومقابلة أصوله: شركة العلماء بمساعدة إدارة الطباعة المنيرية، بيروت، لبنان، دار الكتب العلمية.

(402)

124- مسلم بن الحجاج (ت 261هـ): المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

125- مشتاق الغزالي: القرآن في دراسات المستشرقين، بيروت، دار النفائس، ط1، 2008م.

126- مصطفى شلبي: المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي، دار النهضة، 1995م.

127- مصعب بن عبد الله الزبيري (ت 236هـ): نسب قريش، تحقيق: ليفي بروفنسال، القاهرة، دار المعارف، ط3.

128- معاوية سيد أحمد: فقه التدرج في التشريع الإسلامي فهمًا وتطبيقًا، مجلة جامعة القرآن الكريم زالعلوم الإسلامية، العدد التاسع، سنة 2004م.

129- مقاتل بن سليمان (ت 150هـ): تفسير مقاتل بن سليمان، تحقيق: عبد الله محمود شحاته، بيروت، دار إحياء التراث، ط1، 1423 هـ.

130- مكي بن أبي طالب القرطبي المالكي (ت 437هـ): الهداية إلى بلوغ النهاية، تحقيق: مجموعة رسائل جامعية بكلية الدراسات العليا والبحث العلمي - جامعة الشارقة، ط1، 2008م.

131- منصور بن محمد المروزى السمعاني التميمي (ت 489هـ): تفسير القرآن، تحقيق: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس بن غنيم، دار الوطن، الرياض، ط1، 1997م.

132- منقذ بن محمود السقار: تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين، رابطة العالم الإسلامي.

133- مهدي بن رزق الله أحمد: مزاعم وأخطاء وتناقضات وشبهات بودلي في كتابه «الرسول، حياة محمد»، دراسة نقدية، المدينة المنورة، مجمع الملك فهد.

134- موريس بوكاي: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، بيروت، دار

(403)

المعارف.

135- ناصر السيد: شبهات المستشرقين حول العبادة في الإسلام، القاهرة، مركز التنوير الإسلامي، ط1، 2006.

136- نبيل الكرخي: دراسات في كتاب الكنزاربا، ط1، 2011م.

137- نبيل بن منصور بن يعقوب: أنيس السَّاري في تخريج وتحقيق الأحاديث التي ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، تحقيق: نبيل بن منصور بن يعقوب، بيروت، لبنان، مؤسَّسة السَّماحة، مؤسَّسة الريَّان، ط1، 2005م.

138- هشام بن محمد، ابن السائب الكلبي (ت 204هـ): كتاب الأصنام، تحقيق: أحمد زكي باشا، القاهرة، دار الكتب المصرية، ط4، 2000م.

139- وهبة الزحيلي: التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، دمشق، دار الفكر المعاصر، ط2، 1418هـ.

140- ياقوت بن عبد الله الحموي (ت 626هـ): معجم البلدان، بيروت، دار صادر، ط2، 1995م.

141- يوحنا اليازجي: المصادر الليتورجية، معهد القديس يوحنا الدمشقي، جامعة البلمند، لبنان، 2005م.

142- يوحنا تابت وآباء آخرون: الليتورجيا والكتاب المقدس، سلسلة محاضرات، لبنان، جامعة الروح المقدس، 1991م.

143- يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر (ت 463هـ): الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط1، 1992م.

144- يوسف حامد العالم: حكمة التشريع الإسلامي في تحريم الربا، القاهرة، دار الصحوة، 1987.

(404)

المصادر الأجنبيّة:

1- David Arnow  , Rabbi Lawrence ; My People’s Passover Haggadah: Traditional Texts, Modern Commentaries, Volume 1, 2008.

2- https://webcache.googleusercontent.com/search?q=cache:4129nEDjOBcJ:https://tafsir.net/paper/4/frdyt-alqr-aan-al-lytwrjy-fy-ad-drs-al-astshraqy-al-m-asr+&cd=1&hl=ar&ct=clnk.

3- https://www.jewishencyclopedia.com/articles/10806-midrash-haggadah

4- Tabory, Joseph; The JPS Commentary on the Haggadah: Historical Introduction, Translation, and Commentary. Jewish Publication Society, (2008).

5- Telling The Story - A Passover Haggadah Explained; by Barry Louis Polisar Illustrations, by Sierra Hannah Polisar Typography and design by Chris Abshire, Copyright, 2006.

6- Telushkin, Rabbi Joseph; Jewish Literacy, (2001).

7- הגדה של פּסח הוצאת,„מרכז לעניני חנוך".770 איסטערן פּאַרקוויי ברוקלין, נ.י. שנת חמשת אלפים שבע מאות שבעים ותשע לבריאה;.

(405)
(406)

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيًّا؛ مصادر تعليمه

نسرين شاكر الحكيم[1]

الملخّص

يمثّل الوحي العلاقة التي تربط الأرض (النبي) بالسّماء (الله تعالى)، وهو بذلك يعتبر الأساس الذي تستند إليه النبوات في أحكامها والرسالات في تشريعاتها، حيث إنّ الوحي يمثّل المصدر الرئيس الذي يستقي منه النبيّ جملة التشريعات والأحكام والأوامر الإلهيّة التي يقوم بإبلاغها للناس. عمل المقال على دراسة مصادر تعليم النبيّ في كتاب تاريخ القرآن لمؤلفه تيودور نولدكه، ونقد تلك الدراسة وتحليلها من الناحية العلميّة والنفسيّة والتاريخيّة، قامت الدّعوى الرئيسة في هذا الفصل من الكتاب على إنكار الوحي بالنّسبة للنبي وتفسير ذلك بالصوت الداخلي أو ما يسمّى اليوم بالتجربة الدينيّة التي عاش من خلالها النّبيّ أحاسيس مختلفة قد كان هدفه منها إنقاذ المجتمع الجاهلي والعمل على نجاته مما كان يعاني. وقد كانت وسيلته في ذلك الأحكام السابقة عليه من الأديان اليهوديّة والمسيحيّة، بل حتى إنّه استفاد من تقاليد وأعراف العرب الجاهلي في دينه الذي أتى به حسبما يرى نولكه في تحليله. وقد تصدّى المقال للتفكيك بين تلك الآراء وتحليلها والردّ عليها، والتّحقيق في ذلك كان ضمن محاور ثلاث هي: تحليل ماهيّة النبوة والوحي عند نولدكه ونقدها، الجوانب التي اعتمدها نولدكه في دعم آرائه، وأساليب الإقناع العامة التي انتهجها نولكه في تحقيقه والردّ على ذلك وتحليله من خلال المعطيات القرآنيّة والعلميّة والنفسيّة والتاريخيّة بواسطة المصادر المعتبرة في هذه المجالات.

الكلمات المفتاحيّة

النبي، مصادر تعليمه، تاريخ القرآن، تيودور نولدكه، الوحي، النبوة.

(407)

المقدّمة

يعتبر الوحي أحد المفاهيم الإسلاميّة الأصيلة، فالأديان على ذلك تقسّم إلى أديانٍ وحيانيّة وغير وحيانيّة: الأديان الوحيانيّة أو السماوية هي التي تتّصل بالله تعالى عن طريق الوحي، والأديان غير الوحيانيّة أو غير السماويّة هي ما لا نجد فيها إشارة أو كلامًا عن الاتّصال بالله تعالى[1]، والقرآن الكريم كتاب وحي نازل من الله تعالى إلى خلقه بواسطة النّبيّ، فقد انتقل إلى النّبيّ عن طريق الوحي وإلى الآخرين عن طريق الكلام وإلينا بواسطة النّصّ المكتوب[2]. فالوحي هو الوسيلة التي تربط النّبيّ بالله ومن خلاله يتلقّى النّبيّ الأحكام الإلهيّة ويوصلها إلى النّاس؛ وعلى ذلك فإنّ اليقين به وتصديقه يعتبر تصديقًا بالنّبيّ وبرسالته وبإخباره عن الله تعالى، كما أنّ إنكاره أو التّقليل من شأنه يوجب التّشكيك في صدق النّبيّ وانتسابه للساحة الإلهيّة، لذلك كان الوحي من الأمور الأساسيّة التي انتبه المستشرقون إلى أهميتها وخاضوا دراساتٍ عديدةً في بحثها كما سنعرف ذلك في دراستنا الحاليّة.

الأمر الذي تميّزت به الدّراسات الاستشراقيّة بالنسبة للقرآن الكريم، وخصوصًا في القرون المتأخّرة هو سوء الظّنّ وكثرة التّشكيك فيه، فهي لا تفتأ تشكّك وتهاجم القرآن الكريم بين الفينة والأخرى وذلك نتيجة أمور عدّة يمكن إيجازها بـ:

أوّلًا: الفروض المسبقة الكثيرة، حيث نجد أنّ للمستشرقين اعتقاداتٍ كثيرةً فيما يتعلّق بالتّراث الإسلامي وهي تسقط بشكل واع أو لا واع في كتاباتهم واستنتاجاتهم.

ثانيًا: عدم الاستفادة من المصادر الأصيلة والمعتبرة، فهم يستندون إلى مصادر ضعيفة وغير مستندة في كتاباتهم.

ثالثًا: عدم الفهم الصّحيح حيث في بعض الحالات ورغم استناد المستشرقين إلى المصادر المعتبرة، فإنّهم لا يفهمونها بشكلٍ جيدٍ[3]. وعلى ذلك، فالمفروض أن نقف

(408)

موقف الحذر والحيطة من جملة جهود المستشرقين واجتهاداتهم بالنّسبة للدراسات القرآنيّة، فهم يعملون على إخضاع النّصّ القرآنيّ غالبًا إلى مناهج وطرائق واستنتاجات قد تكون بعيدةً عن الفهم القرآني الأصيل، لا سيما في مجالي التّفسير والترجمة، فالتفسير مهما كان دقيقًا، قد لا يتوافر منه المراد في اللغات الأخرى كما يتوافر في اللغة العربية، والترجمة مهما كانت حرفيّة فقد تشذّ عن الأصول البلاغيّة والأساليب الجماليّة التي جاء بها القرآن الكريم[1]. ومن بين الأمور التي اهتمّت بها الدّراسات الاستشراقيّة هو مبحث الوحي، فقد أولته اهتمامًا خاصًّا، لكن هذا الاهتمام كان خاضعًا لدوافع ودواعٍ خاصّة جعلت منهم يتأرجحون في تحليله بين معانٍ ونظرياتٍ مختلفةٍ، فقد كان هذا المبحث ملفوفًا بالإبهام وعدم الوضوح، فإنّ ما يذهب إليه بعض المستشرقين من أنّ ظاهرة الوحي، قد يقصد بها المكاشفة، وقد يعبر عنها الإلهام المطلق تارة، أو بالوحي النفسي تارة أخرى، دون تحديد أو بيان مميّز، لا يتوافق والدّراسة الموضوعيّة لظاهرة الوحي، الذين اعتبروه نوعًا من الإلهام النفسي. إنّ كلمة الإلهام ليست ذات دلالةٍ نفسيّةٍ محدّدةٍ، مع أنّها مستخدمةٌ عمومًا لكي ترجع معنى الوحي إلى ميدان علم النفس. إنّ الوحي النّفسيّ يدور حول معرفة مباشرة لموضوع قابل للتفكير، والوحي الإلهي يجب أن يأخذ معنى المعرفة التلقائيّة والمطلقة لموضوع لا يتعلّق بالتّفكير، بل هو غير قابلٍ للتفكير[2]. وعلى ذلك فالنّظريات التي تطرح بالنسبة لتحليل الوحي هي مختلفة بين اعتباره صوتًا داخليًّا أو إلهامًا أو نداءً إلهيًّا.

بحث المقال مصادر تعليم النّبيّ في كتاب تيودور نولكه، وفق الأسلوب الوصفي التّحليليّ، ضمن مباحث ثلاثة هي:

المبحث الأوّل: تحليل ماهيّة النبوة والوحي عند نولدكه ونقدها.

المبحث الثاني: الجوانب التي اعتمدها نولدكه في دعم آرائه.

المبحث الثالث: أساليب الإقناع العامة عند نولدكه.

(409)

أوّلًا: تحليل ماهية النبوة والوحي عند نولدكه ونقدها

يبدو اعتقاد الجنبة الإنسانيّة في النبوّة واضحًا جليًّا عند نولدكه، وهو يعرّف جوهر النبوّة بأنّه يقوم على تشبّع روح النّبيّ من فكرةٍ دينيّةٍ ما، تسيطر عليه أخيرًا، فيتراءى له أنّه مدفوعٌ ليبلّغ من حوله من النّاس تلك الفكرة على أنّها حقيقةٌ آتيةٌ من الله[1]، فالنبوّة تحصل وبحسب ما يراها نولدكه نتيجة:

1. سلسلة ومجموعة من الأفكار الدينيّة التي تتوارد بكثرةٍ في ذهن النبي من الديانات السابقة.

2. تغلب هذه الأفكار ونتيجة تأثير قوة الخيال والغرائز والأحاسيس الداخليّة على النبي.

3. في النتيجة يتخيّل النّبيّ تلك الأفكار في منامه بأنّها قوّةٌ وإلهامٌ إلهيّ يدفعه لتبليغ هذه الأحكام؛ لايجاد تحوّلٍ اجتماعيٍّ في المجتمع.

وعلى ذلك يمكننا معرفة الأصول والمبادئ التي يعتقد نولدكه بأنّ النبوة تقوم عليها:

1. تأثير الديانات السابقة على النبي في أفكاره وتصوراته.

2. تنامي قوة الخيال لدى النبي ليرتبط بعالم الإلهام والرؤيا.

3. تنمية قوّة الخيال يحصل عن طريق الأحاسيس والغرائز.

4. الاندفاع نحو التغيير الاجتماعي.

وعلى ذلك، فالنّبوّة وحسب اعتقاد نولدكه هي حصيلة لتمازج التاريخ المتمثّل بتراث الأديان السّابقة والاجتماع المتمثّل برحلة التغيير المنشودة في المجتمعات. وسنشرع بحوله تعالى في مناقشة الأصول التي يعتمدها نولدكه في تقريره لتعريف النبوة.

(410)

1. الجانب الأول: التأثّر بالديانات السابقة (البعد التاريخي)

يعتبر أنّ القرآن الكريم قد أفاد في تعاليمه وأحكامه من الديانات التي سبقته، وعلى ذلك فالقرآن الكريم كتاب قد تطوّر عمّا سبقه من ديانات، فهو نسخةٌ مطوّرةٌ ومتكاملةٌ لها، فهو يعتقد باقتباس القرآن الكريم منها، وهذا ينطوي على اتّهام القرآن بالاقتباس من التّعاليم السّابقة للدين المسيحيّة واليهوديّة والثقافة الجاهليّة (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) [1]، فهو يعتقد «أنّ أهمّ تعاليم محمد مأخوذة عن اليهود والمسيحيين وليست نابعة عن عقله...إنّ محمدًا حمل طويلًا في وحدته ما تسلمه من الغرباء، وجعله يتفاعل وتفكيره، ثم أعاد صياغته بحسب فكره حتى أجبره الصوت الداخلي الحازم على أن يبرز لبني قومه رغم الخطر والسخرية اللذين تعرض لهما ليدعوهم إلى الإيمان»[2]. فها هي الأحكام السابقة للمسيحيّة واليهوديّة والجاهليّة تتفاعل مع بعضها في ذهن النّبيّ الذي اعتزل الناس وقام يتأمّل وحيدًا في الغار ليأتي بأحكامٍ متطوّرةٍ عنها يدعو الناس من خلالها إلى الإيمان بالله تعالى. وهناك مجموعة من الإشكالات الواردة على هذه النظريّة (نظرية الاقتباس) هي:

أ. إنّ النّماذج التي يستدل بها نولدكه لإثبات التّشابه بين تعاليم القرآن والأحكام السابقة (مثل الدعوة إلى كلمة التوحيد والايمان بالله تعالى) هي أمورٌ كليّةٌ قد تكون موجودةً بين كثير من الديانات حتى غير التوحيديّة منها، كالاعتقاد بالله والايمان بالأنبياء حتى يمكن عدّها من جملة الأمور الفطريّة التي يتّفق على وجودها العقل السليم والفطرة الخالصة، يقول الامام علي عليه‌السلام : «وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول»[3]. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : إِنَّ اللّه عزّ وجل خَلَقَ النَّاسَ كُلَّهُم عَلَى الفِطرَةِ الَّتي فَطَرَهُم عَلَيها، لا يَعرِفُونَ إِيمانا بِشَريعَةٍ، ولا كُفرا بِجُحُودٍ، ثُمَّ بَعَثَ اللّه

(411)

الرُّسُلَ تَدعو العِبادَ إِلَى الإِيمانِ بِهِ؛ فِمِنهمُ مَن هَدَى اللّه، ومِنهُم مَن لَم يَهدِهِ اللّه»[1]. هذا أمرٌ لا يتغيّر ولا يتبدّل؛ لأنّه مبنيٌّ على الفطرة التكوينيّة التي لا سبيل للتغير والتبدّل إليها، فلا يختلف بحسب الأحوال والأزمان بأن يدعو إلى السعادة الإنسانيّة في حال دون حال أو في زمان دون زمان، ولا بحسب الأجزاء بأن يزاحم بعض أحكام الدين الحنيف بعضه الآخر بتناقضٍ أو تضادٍ أو أيّ شيءٍ آخر يؤدّي إلى إبطال بعضها بعضا»[2].

ب. إنّ هذا القول يفترض أصلا مهمًّا، هو «لا بدّ أنّ محمدًا كان يعرف العبريّة والسريانيّة واليونانيّة، ولا بد أنّه كان لديه مكتبة عظيمة اشتملت على نصوص التلمود والأناجيل المسيحيّة ومختلف كتب الصلوات وقرارات مجامع الكنيسة، وكذلك بعض أعمال الأدباء اليونانيين وكتب مختلف الكنائس والمذاهب المسيحيّة، وهذا كلام شاذ لا برهان عليه»[3]

ت. التأثّر الذي يقول به نولدكه باعتقادات الأديان السابقة أو الثقافة الجاهليّة، هو أمرٌ لا يتوافق والنقول التاريخيّة التي تؤيّد كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان على الديانة الابراهيمية الحنيفية، فهو لم يكن على واحدة منها حتى يكون قد أخذ عنها وطورها، قال تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [4]، «اللّه جل ثناؤه قد هداه بالفطرة الصافية، والعقل السليم، والوحي من عنده إلى السبيل الذي يبتعد به عن الباطل، ويوصله إلى الحقّ دِينًا وقِيَماً مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً: الملة هي الدين، والحنيف من ترك الأديان الباطلة، واتبع دين الحق، والمعنى أنّ الصّراط الذي هدى اللّه به رسوله محمدًا هو دين إبراهيم خليل الرحمن الذي يعظمه أهل الأديان جميعًا ومٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ بل من أعدى أعداء الشرك وأهله»[5].

ث. إنّ السّبب وراء التّشابه بين الأديان السابقة وتشريعات وأحكام القرآن الكريم

(412)

هو كونها من مصدر واحد، فهي تنبع من عينٍ واحدةٍ وتنتمي إلى مصدر واحد»، فإنّ الجميع ترتضع من ثدي التوحيد الذي يعدّلها أحسن تعديل، كما أنّ القوى البدنيّة إذا تنافت أو أراد بعضها أن يطغى على بعض فإنّ هناك حاكمًا مدبرًا يدبّر كلًّا على حسب ما له من الوزن والتأثير في تقويم الحياة الإنسانيّة. ولا بحسب الأشخاص، فإنّ المهتدين بهذه الهداية القيّمة الفطريّة لا يختلف مسيرهم، ولا يدعو آخرهم إلّا إلى ما دعا إليه أوّلهم وإن اختلفت دعوتهم بالإجمال والتفصيل بحسب اختلاف أعصار الإنسانيّة تكاملًا ورقيًا»[1].

ج. أمّا فيما يتعلّق باشتراك القرآن مع بعض الأمور التي تعود للثقافة الجاهليّة وإقراره لها، فهو ليس لأنّها ذات مصدرٍ جاهليٍّ، وقد أخذها القرآن عنهم، بل لأنّ تلك الأحكام والأمور تعود إلى أصل واحد؛ فهي ترتبط برسالات الأنبياء كالحج مثلا، فهو يعود إلى الديانة الإبراهيميّة، كما أنّ القرآن الكريم قد خالف في كثير من الآيات تلك الثقافة ولم يرتضِ لها أحكامها، من قبيل: تحريم أكلهم لبعض المحرمات[2]، تحريم الربا[3]، تحريم الصيد في الحرم المكي[4] وكثير من الأحكام الأخرى.

ح. قد يكون الغرض من إدراج نولدكه نبوّة النبي الخاتم استمرارًا للنبوات المسيحيّة واليهوديّة السابقة لأجل بيان دوام الخط الحضاري الواصل بينها، والذي قد يكون إحدى دعائم الاستعمار العالمي المحكمة، التي يستند إليها في خداع الشعوب والتغرير بها والاستحواذ على ممتلكاتها.

2. الجانب الثاني: الوحي وقوّة الخيال

من الأمور التي يستند إليها نولدكه في تحليله للنبوّة، هي قوله باعتماد النّبيّ على قوّة التّخيّل أو رؤية المنام، فهو يعتقد بأنّ الوحي يصل إلى الأنبياء عن طريق قوّة الخيال، فهو تنمية للأفكار السابقة من الأنبياء السابقين، وهذه التنمية تحصل عن

(413)

طريق قوّة الخيال، ويقول في ذلك: «إنّ محمدًا حمل طويلًا في وحدته ما تسلمه من الغرباء، وجعله يتفاعل وتفكيره، ثم أعاد صياغته بحسب فكره، حتى أجبره أخيرًا الصوت الداخلي الحازم على أن يبرز لبني قومه رغم الخطر والسخرية اللذين تعرض لهما، ليدعوهم إلى الإيمان»[1].

والذي اعتمده نولدكه في إدّعاءه المذكور أمور:

- الجانب التأريخي في نبوة النبي، وهو ما يعبر عنه بـ»ما تسلمه من الغرباء» وهو ما ثبت بطلانه من خلال بحثنا في الجانب الأوّل.

- جانب الخيال وتفاعل المعطيات السابقة مع قوة الخيال لدى النبي «وجعله يتفاعل وتفكيره»، وهو يستند كما هو واضح إلى أمرين:

الأول: وهو انتفاء الموضوع الذي يتفاعل مع تفكير النبي حيث أبطلنا كونه يعتمد على من سبقه من انبياء.

الثاني: كيف يمكن لقوّة الخيال أن تأتي بنصّ أو وحي لم يُعهد من قبل، خالف فيه شعر العرب ونثرهم فضلا عن كتب الأنبياء السابقين.

والسبب في تحليل نولدكه للوحي بهذا الشكل يعود إلى تعريفه للوحي وماهيّة الوحي التي يقول بها، فسنطلع على ماهية الوحي في مباحث الفلسفة الغربيّة، وكيف أصبح الوحي عندهم معادلًا للتجربة الدينيّة؟ ونتعرّف على ماهيّة التجربة الدينيّة؟ فنولدكه يرى الوحي معادلًا لتجربةٍ دينيّةٍ يمرّ بها النبي وليس أمرًا متّصلًا بالله تعالى ينزله إلى أنبياءه.

التجربة الدينية: لقد ظهر مفهوم التجربة الدينيّة مع فريدريك شلايرماخر[2]، فهو أوّل من تناول مصطلح «الشعور الديني»، وضمَّن كتابه «حول الدين» تعريف التجربة الدينيّة التي كان يقصد بها: الشعور بالاعتماد على وجود مطلق وحقيقة مطلقة، وهو

(414)

يعتقد بانتمائها إلى الجانب الشّعوري للإنسان، فليست من سنخ العلم والمعرفة، فهي تمنح الإنسان شعورًا روحانيًّا ذا درجات، وأعلى درجاته تتمثل بـ «الوحي»[1]. إنّ طرح مفهوم التجربة الدينيّة في اللاهوت المسيحي أسفر عن تغييراتٍ وتحوّلاتٍ عميقةٍ في المباحث الدينيّة؛ حيث استخدم للدلالة على المواجهة المصحوبة بـ «التأثر»، وهي تعبيرٌ عن حالةٍ من الانفعال الخاص، فالتجربة الدينيّة تتضمّن انفعالًا روحيًّا يحدث للأشخاص حينما يشعرون بارتباطهم بأمرٍ مقدّسٍ ومتعالٍ، وهي تمتزج بالمفاهيم الدينيّة والمعتقدات امتزاجًا كاملًا[2].

 لقد تبلورت هذه النظريّة في اللّاهوت الليبرالي، فالوحي عند اللاهوتيين الليبراليين نوع من التجربة الدينيّة[3]، والوحي للنبي وفقًا لهذه النظريّة هو عبارة عن تفسير وفهم النبي والحالة الشعورية التي يعيشها نتيجة ارتباطه بالله تعالى، فهو لم يتلق الوحي على هيئة كلام؛ لأنّ تجربته ليست تجربةً كلاميّةً، بل هي حالة شعوريّة يقوم بتفسيرها للناس حسب لغاتهم[4]. فالتجربة الدينيّة وفقًا لذلك تتميّز بمجموعةٍ من الخصائص:

ـ اشتمالها على انفعالٍ معنويٍّ وروحيٍّ.

ـ حدوثها بشكلٍ عمليٍّ وواقعيٍّ، ولا علاقة لها بالمنطق والعقل.

ـ تعتمد على ذات الفرد ولا تنتقل إلى الغير (فهي ذات طابع شخصي)[5].

ولهذا تعدّدت النظريات التي تتعلّق بالوحي، والتي تعتبر الوحي أمرًا بشريًّا، والنبي هو فاعل الوحي، فالوحي نتيجة ذلك ليس إلّا عملًا إنسانيًّا، وأهم هذه النظريات[6]:

- الوحي نارٌ باطنيّةٌ: يعتقد بعض الباحثين، والذين يرون الوحي فعاليّة بشريّة،

(415)

بأنّ الوحي شيء شبيه بالنار الباطنيّة الموجودة في لا وعي النّبيّ، فهو نتيجة اشتياقه الشّديد لهداية الناس يعتقد بارتباطه بالله تعالى، نجد ذلك عند أمثال (درمنجام وكارن ارمسترانج)، فالنّبيّ مثل الشاعر الذي لديه طاقة داخلية، وهو يقوم بالاستفادة منها في خلق المعاني المختلفة ويعتقد أنّها من الله تعالى.

- النّبوغ وفكر الإصلاح: ترى هذه النظريّة أنّ الوحي هو نتيجة نبوغ وإبداع النّبيّ لإصلاح المجتمع وتغيير أوضاعه، فالأنبياء هم أذكياء ونوابغ الساحة الاجتماعيّة الذين سعوا لبناء المدينة الفاضلة.

- التجربة الدينيّة: وهو ما تحدّثنا عنه سابقًا، وقلنا إنّه مفهوم تمثّل في جهود شلايرماخر التي سعت للحفاظ على ما تبقّى من تراث المسيحيّة بعد عصر النّهضة والتنوير الذي جعل الفكر المسيحي تحت السؤال والبحث، فكان مفهوم التجربة الدينيّة هو الحلّ للخروج من مأزق التناقضات والإشكالات العديدة التي طالت المعتقد المسيحي آنذاك.

وعلى أساس هذا التّراث قامت الفكرة التي رأت الوحي نتاجًا إنسانيًّا لأجل إصلاح المجتمع وتغييره اعتمادًا على التراث الديني السابق له كما يعتقد نولدكه بذلك، وهو يرى تجلي الوحي من خلال الخيال وهو ما يحصل عن طريق الأحاسيس والغرائز. وهذا يدفعنا لتناول الجانب الثالث في تحليله للنبوة، وهو تفاعل الخيال مع الأحاسيس والغرائز.

3. الجانب الثالث: تنمية قوّة الخيال عن طريق الأحاسيس والغرائز

وهو ما يعبّر عنه نولدكه حين تعريفه بخلوة النبي وتفاعل أفكاره مع ما أخذه عن الغرباء، بـ «حتى أجبره الصوت الداخلي الحازم على أن يبرز لبني قومه رغم الخطر والسخرية اللذين تعرض لهما ليدعوهم إلى الإيمان....فإذا كانت النبوّة بالإجمال تصدر من المخيّلة المنفعلة وموحيات الشّعور المباشرة أكثر مما تصدر من العقل النظري...لهذا السبب اعتبر ما حرّك نفسه أمرًا موحى به، منزلًا من السماء، ولم يختفِ اعتقاده اطلاقًا،

(416)

بل اتبع الغريزة التي كانت تدفع به تارة إلى هنا وطورًا إلى هناك؛ ذلك أنّه اعتبر هذه الغريزة صوت الله الذي أتاه»[1].

فالوحي هو صوتٌ غريزيٌّ نتيجة انفعال النّبيّ بالأحكام السابقة للشرائع السماويّة من جهة، ومن جهةٍ أخرى كان هذا الصوت الغريزي داعيًا للإصلاح والانقلاب على الأوضاع الموجودة. يؤكّد نولكه في كتابه على جانبي الغرائز والأحاسيس عند الأنبياء واتّصالها بقوّة الخيال، وقوّة الخيال تكون فعاليتها أكثر وأشد عند النوم، وتظهر بشكل الرؤى ويعمل الأنبياء عن طريق إحساساتهم بكشف رؤياهم وتفسيرها. وكلا الاعتقادين بأنّ الوحي هو ترجمان رؤى النّبيّ أو كونه مكاشفة تحصل عن طريق الغرائز والأحاسيس، هما اعتقادان باطلان؛ لأسباب، هي:

أ. من المؤكّد أنّ ارتباط النّبيّ لا علاقة له لما يراه الأنبياء في عالم الرؤيا وقوّة تخيّلهم، فحقيقة الوحي تعتمد إنزال الحقائق الدينيّة إلى عوالم الوجود، سواء أكان ذلك في المنام أم اليقظة أم عالم الدنيا، وهذا الأمر يكون عن طريقٍ بشريٍّ غير عاديٍّ، وهذا ما يكون إثباته عن طريق العقل والنقل، وإثبات عصمة الأنبياء وعدم كذبهم وصحّة ما يقولون.

ب. كيف يمكن للوحي الإلهيّ بهذه المعان العظيمة -التي أذهلت العرب وأعجزتهم ونالت من عظمتهم- أن يكون حاصل رؤيا وخيال للنبي، فأين الخيال والرؤيا من هذا الإعجاز الإلهي، فنحن والنّصّ الإلهي لا نواجه مجموعةً من الكلمات التي يمكن أن يكون النّبيّ قد تخيّلها أو رآها في منامه، فالإنسان عندما يتخيّل أمورًا، فإنّه يحلّق في خياله بين أمورٍ مختلفةٍ قد لا يوجد بينها ترابطٌ إلّا من باب تداعي المعاني، فكيف ينسجم هذا المعنى والنص الإلهي الذي فاق من قبله وأعجز من جاء بعده.

ت. الظاهر تأثر نولدكه بأفكار معاصره زيجموند فرويد عالم النفس الشهير، والذي كانت له دراسات وتأمّلات حول المباحث الدينيّة، وكان يرى الدين من أقدم وأقوى الأميال البشريّة الذي كان عبارة عن نوع من الدفاع في قبال ظواهر الطبيعيّة، مثل

(417)

الزلازل والسيول والأعاصير والأمراض والموت وغيره[1]، وبذلك كان فرويد يعتقد بأنّ الدين هو نتيجة الوهم البشري، فللغرائز والوهم والخيال دورٌ مهمٌّ في اتّجاهه الدينيّ وعدم إشباع هذه الجوانب من شأنه أن يقود الإنسان نحو الخيال والتوهم[2]، واختلاف نولدكه عن فرويد يكون في أنّ فرويد يرى كلّ الدين نتيجة وهم البشر في حين أنّ نولدكه يرى النبوّة فقط كذلك.

ث. اصطدام هذه النظريّة بالاعتقاد الإسلامي الذي يرى الوحي امتدادًا لعالم الغيب، فالوحي في نظر الإسلام هو ما كان عن طريق الرسول أو الإلقاء الباطني أو رفع الحجاب[3]، ورفع الحجاب يكون بدون أيّ واسطة في البين. والقرآن الكريم صريح في بيان ارتباط الوحي بالله تعالى وكونه نازلًا عنه.

ج. عدم انسجام ما يقوله نولدكه والفكر العقلي السليم، فالنّبوّة أمر ضروريُّ، وهي لطفٌ إلهيٌّ بالبشر، والوحي بهذا المعنى ارتباط للنبي بالله تعالى وليس لعاقل بعد أن يرى آيات النّبيّ ومعجزاته أن يقول بأنّها تخيّلات النّبيّ أو أوهامه أو تفسيره لرؤى رآها، فالإسلام يرى النّبيّ معصومًا لا يمكن أن يعرض عليه السهو والخطأ في كلّ مراحل الوحي والتبليغ[4].

4. الجانب الرابع: دافع التغيير الاجتماعي

«فغالبا ما استخدم سلطة القرآن، ليفرض أمورًا لا علاقة لها بالدين، لكن من العدل ألّا نتجاهل من جهة أن الدين ونظام المجتمع في ذلك الحين كانا وثيقي الارتباط، وأنّ إنزال الله إلى أكثر الأمور إنسانيّة إنّما يرفع على العموم من شأن الحياة اليوميّة إلى مستوى إلهيّ من مستوى آخر»[5].

(418)

«حتى أجبره أخيرًا الصوت الداخلي الحازم على أن يبرز لبني قومه رغم الخطر والسخرية اللذين تعرّض لهما، ليدعوهم إلى الإيمان»[1].

هنا تأخذ الدّعوة جانب الاجتماع، ويتّجه الصوت الداخلي كما يسمّيه نولدكه بالصوت الداخلي، هذا النّوع من الرؤية يعكس الاعتقاد بكون النبوّة حاصلًا اجتماعيًّا ونتيجة تطوّرات المجتمع، فالنبوّة وفق هذه النظريّة ليست سوى نبوغًا اجتماعيًّا، فالأنبياء هم مصلحون اجتماعيون يعملون على إحداث تغييراتٍ مهمّةٍ في المجتمع بحيث يمكننا دعوتهم بصنّاع المجتمع، والوحي وفق هذا النّظر يكون نبوغًا فكريًّا يهدف إلى بناء مجتمع صالح[2]. ويرد على ذلك:

- هذا الرأي يقويّ من اعتقاد نولدكه بأنّ الوحي ليس إلهيًّا.

- نزع اللباس الإلهيّ عن الأنبياء بجعلهم نوابغ بشريون يمكن لغيرهم إذا توفّر لهم ذلك النبوغ أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه، وهذا يتعارض مع الاعتقاد الحقّ القاطع بإلهيّة الأحكام النبويّة وصحّة ارتباطها بالله تعالى، وما ذلك الإصلاح الاجتماعيّ سوى مظهر من مظاهر أصالتها وارتباطها بالله تعالى.

- إنّ دافع التّغيير الاجتماعيّ موجودٌ عند كثير من رجالات الإصلاح عبر التاريخ، ولكن هل دفع ذلك بهم إلى ادّعاء النبوّة والقول بأنّهم أنبياء من قبل الله تعالى، إضافة لذلك لا نجد في تلك الثورات التي قامت لإصلاح المجتمع ذلك الانتشار بين البلدان المختلفة والدعوة الواحدة إلى الاله الواحد، فالدّعوة إلى إصلاح المجتمع والرغبة في ذلك لا يمكن لها أن تكون مقوِّمًا لنبوّة النبي، فالنبوّة أمر وشأن إلهيّ يختصّ به الله تعالى من اصطفى من أوليائه.

(419)

ثانيًا: الجوانب التي اعتمدها نولدكه في دعم آرائه

1. الجانب النفسي

 لا يخفى التأثّر الواضح لنولدكه بمعاصره عالم النفس المعروف زيجموند فرويد في الاستفادة تارة مما يسميه أساليب الدفاع النفسي[1] (كالإنكار والتبرير والإزاحة مثلًا) والتي يعتبرها ضرورة حياتيّة لاستقرار الشخص وتوازنه النفسي، وتارة يعتمد طريقته في تحليل شخصيّة النبيّ، وتارة نجده قد اعتمد كثيرًا في إقناع مخاطبي كتابه على تحريك مشاعرهم وإقناعهم بما يريد بواسطة أساليب نفسيّة متنوّعة، حيث نجد نولدكه في هذا الجانب قد استعمل:

أ. أساليب الدفاع النفسي: هناك آليات اعتمدها نولدكه في دفاعه عمّا يريد إثباته، رغم ادّعائه طبعًا الحياديّة والموضوعيّة في البحث العلمي! ومن أهم تلك الآليات والتي تبدو في مطاوي بحثه هي آلية الإنكار[2]، حيث تعتبر إحدى الآليات الدفاعيّة التي يستخدمها الإنسان للفرار مما لا يحب، أو مما يسبّب له الألم والقلق[3]، حيث نجد تحقيق نولدكه حول مصادر تعليم النّبيّ مليء بالإنكار، وفضلًا عن كون الإنكار هنا آليّة دفاعيّة يستخدمها لإخفاء مخاوفه إلّا أنّها من جهة أخرى تعكس كون ما أتى به النّبيّ هو الحقّ الذي كان نوره يخيف نولدكه وأمثاله، وإنكاره هذا يتمثّل في أمورٍ مهمّةٍ مختلفةٍ، منها إنكاره كون الوحي إلهيًّا، وأنّ ما عند النّبيّ من أحكام وتعاليم هي مما اقتبسه من اليهود والنصارى، «إنّ أهم تعاليم محمد مأخوذة من اليهود والمسيحيين وليست نابعة من عقله»[4]. وتسميته الوحي بالصوت الداخلي الذي أقضّ مضجع النبيّ، فجعله يبادر

(420)

إلى الدعوة وإنذار الناس «اعتبر ما حرّك نفسه أمرًا موحى به، منزلًا من السماء»[1]، وأنّ السور القرآنيّة التي جاء بها النّبيّ كانت نسيجًا انتظم في مخيّلته وأبدعه بهذا الشكل آخذًا به ممن سبقه»، وأنّ محمدًا أعلن عن سور، أعدّها بتفكير واعٍ وبواسطة استخدام قصصٍ من مصادر غريبةٍ ..، وكأنّها وحيٌ حقيقيٌّ من الله تعالى»[2].

ومن الآليات النّفسيّة الأخرى التي يمكن ملاحظتها بوضوح هي آلية التبرير[3]، وهي تفسير السلوك الفاشل وتعليله بأسباب منطقيّة معقولة، وأعذار مقبولة شخصيًّا أو اجتماعيًّا، بحيث يدفع الفرد عن نفسه الاتهامات التي يمكن أن توجّه إليه[4]، يحتاج الإنسان هذه الآليّة حينما يعلم بأنّه يفعل أمرًا خاطئًا، كقيامه بتزييف الحقائق وتشويهها، فيأتي بالأعذار والأسباب التي تخفي قباحة ما عمله، كقوله بأنّ أعظم كلمةً في الإسلام وهي (لا إله إلا الله) ذات أصلٍ يهوديٍّ، ويقوم بذكر الأسباب في ذلك وهو كثرة اليهود في أماكن عديدة من شبه الجزيرة العربية وتردّدهم على مكّة أو كون صلاة النبي وتهجّده ذات أصلٍ مسيحيٍّ أو كون الإسلام هو الصيغة المسيحية التي دخلت إلى بلاد العرب كلّها[5]، وهو واضح البطلان في الاختلاف بين التعاليم المسيحيّة والعبادات التي يؤدونها وبين عبادة المسلمين ومناسكهم.

أمّا الإزاحة[6] التي تتمثّل بإعادة معكوسة لما يمرّ به الفرد من مشاعر وانفعالات إلى موضوعات أو أشخاص ليسوا هم السبب فيها[7]، حيث نجد نولدكه من خلال عرضه المتقدّم يزيح ما ابتليت به الديانتين المسيحية واليهودية من تحريفٍ لأحكامها وحقائقها

(421)

نحو الديانة الإسلاميّة ووصم الإسلام بتلك الصفات، بحيث يحاول البحث وبصعوبةٍ بالغةٍ عن وجوه الاشتراك بينها، وجعل المحرّف من تلك الديانات مصدرًا لتعاليم الإسلام الحنيف بتعبيره: «إنّ الدين الجديد الذي قدّر له أن يهزّ العالم كلّه، انصهر في وجدان محمد من مواد مختلفة[1]، وأنّى لهذا النور الإلهي أن يكون من تلك الديانات المحرفة.

ب. التحليل النفسي لشخصيّة النّبيّ: يحاول نولدكه في طيّات بحثه تحليل شخصيّة[2] النّبيّ خلال سيره في بيان مصادر تعليمه ودعم آرائه وما يرتضي من أقوال بواسطة الأبعاد الشخصيّة عند النبي، فنراه مثلا يقول: «إنّ روح محمد كان يشوبه نقصان كبيران يؤثّران على سموّه، فإذا كانت النبوة بالإجمال تصدر من المخيّلة المنفعلة وموحيات الشعور المباشرة، أكثر مما تصدر من العقل النظري، فإنّ محمدًا كان يفتقر إلى هذا بشكلٍ خاصٍ، ففيما كان يتمتّع بذكاءٍ عمليٍّ كبير لم يكن له من دونه أن ينتصر على كلّ أعدائه، أعوزته القدرة على التجريد المنطقيّ إعوازًا شبه تام، لهذا السبب اعتبر ما حرّك نفسه أمرًا موحى به، منزلًا من السماء، ولم يختبر اعتقاده اطلاقًا، بل اتّبع الغريزة التي كانت تدفع به تارة إلى هنا وطورًا إلى هناك؛ ذلك أنّه اعتبر هذه الغريزة صوت الله الذي اتاه»[3]، هنا يحلّل نولدكه شخصيّة النبي على أنّها مزيجٌ من بُعدين: عملي، ونظري. ويراه لم ينجح في التنظير (الجانب النظري) لما يعتقد، فاقتصر على البُعد العاطفي الغريزي، فالغريزة هي من تحرّكه وتبعثه نحو التبليغ إلى دين الله، والدعوة إلى الإيمان به، وهنا نجد نولدكه يخفق في تأسيسه لما يريد، فأنّى للغريزة أن تكون محرّكًا نحو حركةٍ إلهيّة قد طالت المشرق والمغرب وقلبت العرب وثقافتهم رأسًا على عقب وأطاحت بما كانوا عليه، وهو يُدين في تحليله هذا إلى المدرسة النّفسيّة التي ترى في الغريزة سببًا للسلوك

(422)

الإنساني ودافعًا نحوه[1]، وقد ثبت بطلان هذه النظريّة من خلال النظريات التي تلتها، فالغريزة وإن كانت سببًا لنوعٍ من الأفعال (التي تشمل الجانب الطبيعي في الحياة كالأكل والشرب وغيرها)، لكنّها لا يمكن أن تكون السّبب في كلّ الأفعال الإنسانيّة، على الخصوص تلك المتّسمة بسمةٍ إلهيّة وتنتمي إلى ساحة القرب الإلهي، فكما ينفي النقل ذلك، فإنّ العقل بدوره يرى ذلك محالًا وغير قابلٍ للصدق والتّحقّق.

كما يتحدّث نولدكه عن الانطوائيّة والاعتزال عند النّبيّ، وهو ما جعله يزاوج الديانات السّابقة لأجل إبداع دينٍ جديدٍ ينقذ به بني قومه، وهو ما ناقشناه سابقًا وقمنا بردّه. وعن الحماسة الشّديدة والاندفاع عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يعبّر عن ذلك بأنّ النّبيّ كان «متحمّسًا للغاية لإلهه ولخلاص نفوس بني قومه، لا بل لخلاص البشريّة جمعاء»[2]، قد يرى نولدكه في الحماس نوعًا من الصبغة السلبيّة، لكنّه وفق التصوّر الإسلاميّ أمر في غاية الإيجابيّة، فقد كان النّبيّ يسعى بكلّ قوّة ولم يألُ جهدًا في إبلاغ رسالة السماء إلى كلّ أنحاء العالم، وكان من سعيه ما ذكره القرآن الكريم في سورة طه: (طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [3]، «ففي هذه الآية الكريمة نفحة من نفحات السّماء، وروح من رحمة الرّحمن، يتلقاهما النبىّ الكريم، من ربّه، وهو في هذا المعترك الصاخب بينه وبين قومه، الذين لجّ بهم العناد، وإيذاء له وهو البارّ بهم، الحريص على هدايتهم، واستنقاذهم من الضلال والهلاك وليس يدرك ما كان يجد النبىّ من خلاف قومه عليه، من أسى وحسرة، إلّا من يستمع إلى قوله تعالى في وصف اللّه سبحانه للرسول بقوله: (لَقَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مٰا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) [4]، وليس يتصوّر مدى ما كان يحمل النبيّ من آلام، وما يكابد من مشقّات، وهو يدور حول هؤلاء السفهاء من قومه، ليجد منفذًا ينفذ منه إلى مواقع الهدى منهم ومواطن

(423)

الاستجابة فيهم، ليس يتصوّر هذا إلّا من يستمع إلى قوله تعالى، ناصحًا لنبيّه، داعيًا إيّاه إلى الرفق بنفسه، والمصالحة مع كيانه، الذي كاد يتمزّق ألمًا وضيقًا وحسرةً عليهم؛ إذ يقول سبحانه وتعالى له: (فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ) [1]»[2].

وكذا نجد في طيات توصيفات نولدكه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عبارة «فغالبًا ما استخدم سلطة القرآن ليفرض أمورًا لا علاقة لها بالدين ........ فإنّه لم يتوانَ عن استخدام وسائل مرذولة، أجل حتى ما يسمى الخداع باسم الدين من أجل نشر ما آمن به»[3]. فالنبيّ استعمل كل ما كان متاحًا لديه لأجل تمرير ما كان يبغي وما يؤمن به، وهو إشارةٌ لضعف الشّخصيّة وسيطرة الأهواء عليها وتسييرها من قبل ميولها ورغباتها، وهو ما ينطق القرآن الكريم بتكذيبه صريحًا، قال تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) [4]؛ «لأنّ دراسة تاريخه وسمات شخصيّته المبنيّة على العقل والاتّزان، تدلّ على أنّه كان يزن كلّ كلمة يريد أن يتكلّم بها لتكون كلمة عقل وحق، مما جعله موضع احترام كلّ أفراد مجتمعه قبل النبوّة؛ لأنّه كان الصادق في قوله، الأمين على مجتمعه، كما أنّ دراسة مفاهيم رسالته التي تتحرّك في مواقع الغيب من جهة، وفي مواقع الحسّ من جهة أخرى، توحي بالحقيقة التي لا يقترب إليها الباطل من قريب أو من بعيد»[5].

ومن جملة ما يركز عليه نولدكه في هذا السياق قوله: «لكنّ محمدًا يضع نفسه في مرتبة أسمى من الأنبياء إذ يدّعي لنبوّته معنًى ختاميًّا (خاتم النبيين)»[6]، فهو يعتبر هذه الحقيقة هي ادّعاء محض، وهو ليس بعجيب بعد تشكيكه في أصل الوحي وكيفيّته ومصداقيّة النّبيّ أن يصل به الأمر إلى إنكار خاتميّة الدين الإسلامي للأديان الإلهيّة،

(424)

ويمكن القول بأنّ هذه النتيجة طبيعيّة لمن أنكر كلّ هذه الأمور أن ينكر خاتميّته، فمن أنكر الأصل أنكر الفرع كذلك، فإذا كان الإسلام مأخوذًا -كما يقول نولدكه- من الأديان السابقة وتقاليد العرب الجاهليّة، فبأيّ حقٍّ يكون الخاتم لها والأفضل بينها! ولكنّنا علمنا بطلان دعواه في ذلك جميعًا فيما تقدّم.

2. الجانب التاريخي

يوظّف نولدكه المعلومات التاريخيّة لإثبات مدّعياته وجعلها أشدّ قوّةً، فإنّ الاستدلال الخالي من المعلومات التاريخيّة وخاصّة في هكذا قضايا يكن ضعيفا ويثير تساؤلات عدّة عند المتلقّي، ولدفع هذه التّساؤلات والشّكوك التي يمكن أن تُثار عليه نجده يأتي بوثائقَ تاريخيّةٍ تدعم ما يقول فتنأى به عن ساحة التحليل الذاتي البحت.

 فنراه يعتمد في بيان حقيقة النبوّة ونشأتها وتطوّرها على نشأتها في بني إسرائيل وتطوّرها عنهم إلى المسيحيّة، ثم وصولها إلى العرب في ثوبٍ جديدٍ ألبسها إيّاه النبي لدوافع ذاتيّة[1]. أو العمل على إثبات كون مصدر الإسلام هو الديانة المسيحيّة؛ بسبب إطلاق الكفار على أتباع النبي كلمة (الصابئة)، أو اعتبار الإسلام حنيفا في إشارة إلى اتّباعه الديانة المسيحيّة، أو لجوء المسلمين إلى ملك الحبشة المسيحيّ، أو إثبات التّشابه المعنويّ بين معاني القرآن وسوره وقصصه بما جاء في كتب الديانتين اليهودية والمسيحيّة.[2] أو نقل الشواهد التاريخيّة فيما يتعلّق بأُمّيّة النبي ونقاش واقعيّة قدرته على القراءة والكتابة من عدمها[3]، وقد ناقشنا هذه الادّعاءات فيما تقدّم بشكلٍ تفصيليٍّ.

(425)

ثالثًا: أساليب الإقناع العامة

يتميّز الإقناع[1] بكونه فنًّا يعرف بأنّه «الجهد المنظّم المدروس الذي يستخدم وسائل مختلفة للتأثير على آراء الآخرين وأفكارهم، بحيث يجعلهم يقبلون ويوافقون على وجهة النّظر في موضوع معيّن، وذلك من خلال المعرفة النفسيّة والاجتماعيّة لذلك الجمهور المستهدف»[2]، ونجد أنّ نولدكه قد استعمل العديد من الوسائل الإقناعيّة لكسب تأييد المخاطب وقبوله ما يطرح من أمور:

1. كسب الثّقة: وهو ما يعمل عليه نولدكه ابتداءً بطرحه أمورًا مقبولةً لدى عامة القرّاء الذين يستهدفهم الكتاب، بتعريفه أنّ الشّعوب كلّها قد عرفت النبوّة أو ما يشبهها، لكنّها لم تتطوّر إلّا في الشعب الإسرائيلي، الذي تطوّرت النبوّة فيه من مستوى بسيط إلى مستوى السلطة والحاكميّة[3]، فنراه بذلك يتراوح في طرحه بين النبوة في بني إسرائيل ونبوّة المسيح إلى نبوة نبينا الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله، من خلال طرح مجموعة من الأمور التي يرى فيها الاشتراك بين تلك الديانات والإسلام، أو بالأحرى أنّ الإسلام أخذ تعاليمه عنها.

2. التدرّج المنطقي في طرح الأحداث: لا يطرح نولدكه اعتقاداته بشكلٍ دفعيٍّ، بل يستعمل التدرّج المنطقيّ في طرح الأحداث بأسلوبٍ يجعل المخاطب يعيش تلك الأحداث دون أن تُثار ضدّه الأسئلة أو تحوم حوله الشّكوك، فهو يبتدئ بذكر تاريخ النبوّات وتطوّرها والأحداث التي مرّت بها، ثم ينتقل إلى نبوّة النبي، فيقوم بتحليلها وكيف أمكنه الحصول عليها؟ وكيف استعمل التعاليم السابقة في إخراج دينه ومصادره في ذلك؟ وإثبات أنّه استند إلى المواد المسيحيّة واليهوديّة وتعاليم الجاهليّة في ذلك، ومناقشة مسألة أمية النبي والإتيان بأدلّة في ذلك ناقش فيها الآراء التي تُثبت أو تنفي

(426)

ذلك، ثم يخلص إلى القول باستقاء النبي تلك المصادر عن طريق المشافهة لا الكتابة أو القراءة؛ لأنّه لم يكن عالمًا بها، أو القول بأنّه كان على علمٍ بها ولكن بشكلٍ بسيطٍ.

3. التّحليل النّفسي لشخصيّة النّبيّ: كما تبيّن سابقًا، فقد اضطلع نولدكه بتحليل شخصيّة النبي، فهو لا يتورّع عن وصف النّبيّ بقوله: «إنّ محمدًا كان بطبعه ضعيف العزم. أجل، لقد كان يخاف إلى درجة أنّه لم يتجرّأ في البدء على المجاهرة برسالته، لكن الصوت الدّاخلي أقضّ مضجعه: لقد وجب عليه أن يعظ، وأن يتشجّع من حين إلى آخر كلّما خانته الشجاعة، وذلك رغم التعبيرات والإهانات التي وجّهها إليه حتى أصدقاؤه السابقون»[1]. فضلًا عن سخافة ما يدّعيه في ذلك، فالتّاريخ ينقل لنا العديد من المواقف التي عمي عنها نولدكه خلال تحقيقه! منها «بعد أن دارت معركة حنين والتقى المسلمون والكفار، ولَّى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يركض ببغلته قِبَلَ الكفار. . . ثم قال: «أي عباس، نادِ أصحاب السمرة» فقال عباس: -وكان رجلًا صيِّتًا- فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عَطْفَتهم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار. . . فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الآن حمي الوطيس وظهرت شجاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي لا نظير لها في هذا الموقف الذي عجز عنه عظماء الرجال»[2]. والكثير من الحالات الأخرى التي يمتلئ بها التاريخ[3].

وكما لاحظنا أيضًا فيما تقدّم نماذج أخرى لتحليله شخصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما يوحي للمخاطب بأنّه عالمٌ بها ومحيطٌ بدقائق أمورها وما تشتمل عليه من حالات وكيف أودى به ذلك إلى ادّعاء النبوّة الخاتمة.

4. المحاورة المباشرة مع المخاطب: نجد نولدكه في بيانه يعتمد أسلوب الخطاب المباشر،

(427)

وهو ما يجعله قريبًا من المخاطب، يتحاور معه، ويُثبت له ادّعاءاته بطريقةٍ حواريّةٍ تجعله وكأنّه يتكلّم وجهًا لوجه مع مخاطبه، وينساب في بيان أدلّته ضمن تحقيق يرتبط به مباشرة، وهذه الإنسيابيّة تجعل المخاطب قريب لقبول ما يعرض عليه، حيث نرى أنّ عقول الناس مبرمجةٌ لقبول ما تراه مناسبًا من معطياتٍ حسيّةٍ أو عقليّة[1].

5. اعتماد الأسئلة:  يعتمد نولدكه في تهيئته عقليّة المخاطب السؤال لتمرير ما يُريد دون الإخبار الذي قد يجعل المخاطب حذرًا من قبول ادّعاءاته، حيث تعتبر الأسئلة من الأدوات الفاعلة في عمليّة التّخاطب، فهي ذات أهميّةٍ كبيرةٍ في إقناع المخاطب والتّأثير عليه[2].

فنلاحظ قوله في بحثه عن مدى معرفة العرب بالتّراث اليهوديّ أو المسيحيّ: «من الصّعب جدًّا الإجابة على السّؤال حول شكل الأدب الدّيني، الذي كان يعرفه اليهود والمسيحيون العرب في ذلك الحين وكميته»[3]، ويقول في سبب التفاف الناس حول النبي: «ولو أنّه كان دجّالًا وحسب فكيف انضمّ إليه رجال مسلمون كثر، كرام عقلاء»[4]، أو اعتماده الأسلوب الاستفهاميّ، كقوله: «فحتى لو سافر محمد إلى سوريا مرارًا -والمئات من بني قومه قاموا بهذه الرحلة سنويًّا- لم يكن من الضروري لوثنيّ من مكّة أن يذهب إلى سوريا أو الحبشة ليتعرّف على ديانات الوحي»[5]، وقوله: «لو تسنّى لنا أن نتعرّف على حياة أنبياء آخرين، بالقدر نفسه الذي تعرّفنا فيه على حياة محمد، لفقدَ كثيرٌ منهم المرتبة الجليلة التي يتمتّع بها الآن»[6]، حيث يُشير بذلك إلى عدم عصمة الأنبياء. وإمكانيّة خطأهم وارتكابهم المعصية وهو ما يرفضه العقل والنقل.

(428)

خاتمة

عمل المقال على تحليل جزءٍ من كتاب تاريخ القرآن لمؤلّفه تيودور نولدكه، وهو الفصل المختصّ بدراسة مصادر تعليم النّبيّ ونقدها، حيث كان الاعتقاد بالجنبة الإنسانيّة في النبوّة واضحًا جليًّا عند نولدكه، وهو يعرف جوهر النبوّة بأنّه يقوم على تشبّع روح النّبيّ من فكرةٍ دينيّةٍ ما، تسيطر عليه أخيرًا فيتراءى له أنّه مدفوع ليبلغ من حوله من الناس تلك الفكرة على أنّها حقيقةٌ آتيةٌ من الله، فالنبوّة وحسب اعتقاد نولدكه هي حصيلةٌ لتمازج التّاريخ المتمثّل بتراث الأديان السابقة والاجتماع المتمثل برحلة التغيير المنشودة في المجتمعات، حيث نجد أنّ النّماذج التي يستدلّ بها نولدكه لإثبات التّشابه بين تعاليم القرآن والأحكام السابقة (مثل الدعوة إلى كلمة التّوحيد والإيمان بالله تعالى) هي أمور كليّة قد تكون موجودةً بين كثير من الديانات حتى غير التوحيديّة منها، كالاعتقاد بالله والإيمان بالأنبياء حتى يمكن عدّها من جملة الأمور الفطريّة التي يتّفق على وجودها العقل السّليم والفطرة الخالصة، كما أنّ التّأثّر الذي يقول به نولدكه باعتقادات الأديان السابقة أو الثقافة الجاهليّة هو أمرٌ لا يتوافق والنّقول التّاريخيّة التي تؤيّد كون النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان على الديانة الابراهيميّة الحنيفيّة، فهو لم يكن على واحدةٍ منها حتى يكون قد أخذ عنها وطوّرها. ومن الأمور التي يستند إليها نولدكه في تحليله للنبوة، هي قوله باعتماد النّبيّ على قوّة التّخيّل أو رؤية المنام، فهو يعتقد بأنّ الوحي يصل إلى الأنبياء عن طريق قوّة الخيال، فهو تنمية للأفكار السّابقة من الأنبياء السّابقين، وهذه التّنمية تحصل عن طريق قوّة الخيال، ويعود وعلى أساس هذا التّراث قامت الفكرة التي رأت الوحي نتاجًا إنسانيًّا؛ لأجل إصلاح المجتمع وتغييره اعتمادًا على التّراث الدّيني السّابق له كما يعتقد نولدكه بذلك، وهو يرى تجلّي الوحي من خلال الخيال، وهو ما يحصل عن طريق الأحاسيس والغرائز. كما نجد مجموعةً من الجوانب التي اعتمدها نولدكه في دعم آرائه: الجانب النفسي، والجانب التاريخي. كما يعتمد على الاستفادة من أساليب الإقناع العامّة لتمرير ادّعاءاته.

(429)

لائحة المصادر والمراجع

1- القرآن الكريم

2- نهج البلاغة.

3- برويز آزادي- مجيد معارف، تحليل ونقد الدراسات القرآنية الاستشراقية، مجلة قرآن شناخت، السنة الخامسة، ربيع وصيف 1391.

4- جان هيك، فلسفة الدين، ترجمة بهرام راد، انتشارات بين المللي هدى، 1372.

5- حامد عبد السلام زهران، الصحة النفسية والعلاج النفسي، عالم الكتب، القاهرة، 1997.

6- حامد حسينيان، ترجمان وحي، فصلنامه انديشه نوين ديني، السنة الخامسة، شتاء 1391.

7- خطیب، عبدالکریم، بدون تاریخ، التفسیر القرآنی للقرآن، ج8، بیروت – لبنان، دار الفکر العربي.

8- تيودور نولدكه، تاريخ القرآن، تعديل فريدريش شفالي، ترجمة جورج تامر، بيروت، 2004.

9- زيجموند فرويد، نظرية التحليل النفسي، ترجمة حسين بايبنده، نشر آوند دانش، 1382.

10- سامر جميل رضوان، الصحة النفسية، عمان، دار الميسرة للنشر والتوزيع، 2009.

11- سعيد بن وهف القحطاني، رحمة للعالمين، دار السلام، 1998.

12- لانا قطان- فطمير شيخو، مفهوم التجربة الدينية من المنظرين الغربي والإسلامي: جيفري لانغ أنموذجًا، مجلة الإسلام في آسيا، المجلد 17، العدد1، يونيو 2020م.

13- عبد الرحمن البدوي، دفاع عن القرآن ضد منتقديه، الدار العالميّة للكتب والنشر، بدون تاريخ.

(430)

14- عبير حمدي، الإقناع والتأثير، سما للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015.

15- علي رضا قائمي نيا، الوحي ليس تجربةً دينيّة، مجلة الاستغراب، العدد 22، شتاء 2021م/ 1442هـ.

16- علي رضا قائمي نيا، الوحي والافعال الكلامية، كتاب طه، قم، 1397.

17- علي رضا قائمي نيا، تشريح النص، انتشارات فرهنك وانديشة إسلامي، 1393.

18- كارل البرت، أنماط الشخصيّة أسرار وخفايا، ترجمة: حسين حمزة، كنوز المعرفة، 2014.

19- مجيد ابادي ومجيد كوبائي، التجربة الدينية والوحي النبوي، فصلنامه انديشه ديني، خريف 1389.

20- محمد حسين الصغير، المستشرقون والدّراسات القرآنيّة، دار المؤرّخ العربي، 1420.

21- محمد فؤاد جلال، مبادئ التحليل النفسي، مؤسسة هنداوي، 2017.

22- هاري ميلز، فن الاقناع، مكتب جرير، الرياض، 2001.

(431)
هذا الكتاب كتاب تاريخ القرآن لنولدكه من أوسع ما صدر من كتب حول القرآن في القرن العشرين باللغة الألمانية ، وقد تعامل نولدكه وطلابه مع القرآن كنص وضعه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، نتيجة إلهام ، متفاعلا مع الأحداث والتطورات الدينية والاجتماعية والسياسية ، ولرفع هذه الشبهة وغيرها كان هذا الكتاب بحوث وقراءات نقدية في كتاب (تاريخ القرآن) ، حيث تناول الجزء الاول إطلالة على الاستشراق الالماني في فصله الاول ، بينما تناول الفصل الثاني قراءة نقدية لأطروحة نولدكه حول الوحي . وقد ناقشنا في الفصل الثالث ما أثاره نولدكه حول مصادر تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسب استعمال نولدكه في كتابه .
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف