تأليف
المرجع الديني الشيخ عبدالله جوادي الآملي
تعريب :
هاشم ميلاني
مقدمة المركز:
باتت مباحث الدين محور النقاش المحتدم طيلة القرون الماضية، سواء في الغرب أو الشرق، وقد اشتدّت هذه المباحث في فترة النهضة الاوروبية، والانقلاب على القراءة الدينية الرسمية، وظهور تيار اللإصلاح الديني، وما تبعه من ظهور تيارات ومدارس فكرية: سياسية واجتماعية وثقافية حيث كان الدين دوماً طرفا في النقاش هذا.
والعالم الإسلامي لم يكن بمعزل عن هذا الجدل المستمر، وإن بنحو آخر، وما نزاع الفلاسفة و المتكلمين والعرفاء وأهل الحديث، إلا من نتائج هذا الجدل، غير ان العالم الإسلامي بعد احتكاكه بالغرب الحديث، واجه نوعاً آخر من التحديات الدينية، ربما لم تكن من ذي قبل، بل ولدت جراء النهضة العلمية والعقلية الحديثة، وتغيير وجهة الإنسان من السماء إلى الأرض و السعي نحو تحقيق أكبر قدر من السعادة الدنيوية المحضة، وتغيرّت ميتافيزيقا الغيب الى فيزيقا الطبيعة، فانولدت جراءه لاهوت الطبيعة و الدين الطبيعي والإنسان الطبيعي محور الكون.
التحديات هذه، تفرض على الخطاب الإسلامي، الخوض في هذا المضمار، لتقديم قراءات تأسيسية حول مباحث الدين وما يتعلّق به سعة وضيقا، مع لحظ المباحث الجديدة و الإجابة على التحديات الحديثة، بغية الوصول الى الحقيقة.
هذا الكتاب الذي نضع ترجمته العربية بين يدي القارئ الكريم، من مؤلفات المرجع الديني سماحة الشيخ عبد الله جوادي الآملي يقدّم بين دفتيه أهم المباحث النظرية المتعلّقة بالدين، والتي كانت وما تزال مثار الجدل في الوسط الفكري في العالمين الغربي والإسلامي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الميامين.
تمهيد :
الدِّينُ، قرينُ الإنسان، والإنسانُ منذ خلقته يحسّ في باطنه بالحاجة إلى الدِّين، وبهذا الظمأ الفطريّ كان يبحث عن الدِّين؛ كي يروي ظمأه بالوصول إليه. ولذا، بعد أن أطلق علماء الاجتماع والأناسة على الإنسان في القرون الماضية لقب الموجود المستوي القامة، والفاعل في صناعة الآلات والسياسي، أصبحوا اليوم يتحدّثون عنه تحت عنوان الموجود المتديّن؛ وذلك أنّ المحقّقين أثبتوا ببحوثهم التّاريخيّة عدم خلوّ أيّ قوم من أقوام البشريّة من نوعٍ من أنواع الدِّين. كما أنّ أحدث الأبحاث الاجتماعيّة تثبت اعتقاد 95% من الناس بالله وبتديّنها بدينٍ من الأديان، وهذه الحقيقة تُبطل النّظريّة القائلة بانحطاط الدّين جرّاء تطوّر المجتمع وازدياد الرّفاه الماديّ. والسرّ في ذلك أنّ الإنسان مفطورٌ على الدّين، وأنّ هويّته الوجوديّة في الخلقة مجبولةٌ على الدّين.
وبما أنّ الإنسان مجبولٌ على التّديّن في أصل خلقته، يقول بيتر برغر أحد أهم علماء الاجتماع في بحثه عن مناهضة العلمانيّة في العالم:
«لا بدّ من الإذعان بأنّه لا يمكن القول بأنّنا نعيش في عالمٍ علمانيٍّ، وعدا بعض الاستثناءات؛ فإنّ العالم الذي نعيش فيه - كما هو في السابق - مليءٌ بالإحساس الدّينيّ، وهذه الأحاسيس تفوق في بعض الأماكن عمّا كانت في الماضي».[1]
كما أنّه، وفي مقطع آخر يردّ استشراف أُفول الدين في العقد السادس من القرن العشرين، ويقول:
«مع أنّ مصطلح نظريّة العلمنة بإمكانها أن تنضوي على آراء وأفكار وأمور تم نشرها خلال 1950 - 1960، ولكن يمكن البحث عن الجذور الأساسيّة لهذه النّظريّة في عصر التنوير. النظريّة البسيطة التي تقارن بين التّحديث وأفول الدين لدى المجتمع والفرد على السواء، ولكن هذه النظرية البسيطة جداً تبيّن خطؤها».[2]
ثم إنّه في مقطع آخر من بحثه هذا يُشير إلى النّهضة الإسلاميّة قائلاً:
«إنّ هذه النّهضة تحدّ في الواقع إحياء التمهيدات الدينيّة بشكلٍ مؤثّر ومؤكدّ في رقعةٍ جغرافيّةٍ وسيعةٍ، وفي كلّ نقطة تجذّر فيها التيّار الإسلامي، فإنّه لم يكتفِ بإحياء العقائد الإسلاميّة وتجديدها، بل يدافع عن نمط الحياة الإسلاميّة الذي يتقاطع مع الفكر الجديد في كثير من الموارد ... هذا التّيّار أماط عن نفسه في المجاميع الإسلاميّة القاطنة في أوروبا بشكلٍ أكثر، وبأقلّ منه في أمريكا الشماليّة.
إنّ تجديد الحياة الإسلاميّة لم يقتصر على مناطق متخلّفة اجتماعياً وبعيدة عن ظاهرة التحديث، كما يزعم بعض الحداثويين، بل على العكس من ذلك، فإنّ هذا التيّار أصبح منتشراً في مجتمعات ترسّخت فيها ظاهرة الحداثة بشكلٍ ملفتٍ ».[3]
فهذا العالم الاجتماعي، بعد أن يطرح موضوع تجديد حياة الدين في العالم، يجيب على سؤال منطلق النهوض الديني في العالم بجوابين:
1. بلحاظ أنّ التّحديث يسعى إلى التّشكيك في القطعيّات التي ألِف النّاس عليها طول التّاريخ، وأنّ التّشكيك في هذه القطعيّات يُوجب تذمّر النّاس، فإنّ الحركات الدينيّة المدّعية التي تبلّغ القطعيات للناس تحظى بإقبالٍ عامٍ عند الناس.
2. إنّ التّيّارات الإسلاميّة، تُعدّ بمثابة الصدّ أمام النّخب العلمانيّة، وبما أنّ الآراء العلمانيّة البحتة تقطن في النّخب الثّقافيّة من المجتمع، فإنّ كثيراً من الناس يرفضون هذه الأفكار، وجرّاء هذا يتمّ الإقبال على التّيّارات الإسلاميّة.
ويظهر أنّ هذا العالم الاجتماعي لم يرضَ بهذين الجوابين في دليل مقبوليّة التيّارات الدينيّة عند الناس، بل يرى سرّ ذلك في اتّجاه الإنسان الدائم نحو الدين، ويرى ذلك من الأمور البديهيّة. لذا يقول:
«فنحن نواجه أمرًا بديهيًّا من جهة، الإحساس الديني الهائج موجود دائم، وما يحتاج إلى توضيح أو إثبات فقدان الدين لا حضوره».[4]
بناء على هذا، فإنّ الدين حاجة الإنسان الطبيعيّة، والدين وإن أمكن حذفه بشكلٍ مؤقّتٍ من حياة الإنسان، لكنّه سرعان ما يرجع، وسرعان ما يقوم الإنسان بتطبيق حياته على ضوئه.
الإنسان يميل إلى الدين فطريًّا، غير أنّه لأجل الوصول إلى الدين الحقّ في بعده النّظريّ والعمليّ، لا بدّ وأن يقوم بالبحث والتّحقيق ليقبله عن اعتقادٍ جازمٍ، ويلتزم ببرامجه العلميّة.
إنّ «علم الدين» وإن كانت له سابقة في تاريخ البشريّة منذ بزوغ الدين، لأنّ الإنسان إذا لم يعرف شيئاً لم يلتزم به ولم يتّجه إليه، ولكن الدراسة المنتظمة للدين، ومعرفته طبقًا لأصول التّحقيق ومبانيه، بات ذا أهميّة في العالم الحديث وضروريًّا للجميع. فإنّ «علم الدين» في المجاميع الفكريّة والدّينيّة المعاصرة، بات مورد عناية مجالاتٍ علميّةٍ مختلفةٍ ومتنوّعةٍ، وكلّ مجموعة من هذه المجالات العلميّة، تهتم بالفحص والتّحقيق في أبعاد الدين المختلفة، كما هو الحال - ومنذ القدم إلى يومنا الحاضر - بخصوص المسلمين ومراجعتهم لمعرفة الدين من خلال النّصوص الدّينيّة، ومسارب فلسفيّة وكلاميّة وعرفانيّة.
وفي الغرب أيضًا يتّجهون نحو معرفة الدين بوجهاتٍ مختلفةٍ، فتارة بصبغة فلسفيّة، وأخرى عرفانيّة، وثالثة بصبغة سوسيولوجيّة وهكذا... وجرّاء ذلك ظهرت فروع مختلفة في «علم الدين» ومن ضمنها فلسفة الدين.
ففلسفة الدين تعدّ بمعنًى من المعاني استمرارًا للميل الفطريّ لدى الإنسان نحو المواضيع الدينيّة الهامّة والمؤدّية إلى التفكير الفلسفي في الدين.
وفي مقام تعريف فلسفة الدين، توجد آراءٌ مختلفةٌ؛ إذ يقول البعض إنّ فلسفة الدين بما أنّها من الفلسفات المضافة، وكما أنّ فلسفة العلم وفلسفة التاريخ وفلسفة الحقوق وغيرها، تشكو من إبهام نوعًا ما، وهذا الإبهام ناشئ من التلقيات المختلفة عن ماهيّة الفلسفة وأيضاً ماهيّة المجال المبحوث عنه - أي العلم، التاريخ، الحقوق والدين[5]. فمن الصّعب أيضاً تحريف فلسفة الدين، ولكن مع هذا يمكن القول بأنّ فلسفة الدين جهد للتحليل والبحث النّقدي تجاه المعتقدات الدينيّة[6]. وهناك من يقول: إنّ فلسفة الدين عُدّت بمعنى التفكير الفلسفي في الدين رأيَ الدفاع عن المعتقدات الدينية - «حينما كانت» غايتها إثبات وجود الله تعالى بالبراهين العقليّة[7]. ويقول هؤلاء أيضًا: إنّ فلسفة الدين تبحث في المفاهيم والأنظمة العقديّة الدينيّة وأيضًا الظواهر الأصليّة للتجربة الدينيّة والطقوس العبادية، وكذلك الأفكار التي تبتني هذه المنظومة العقديّة عليها[8].وهناك من يعتقد أنّ اكثر الفلاسفة يرون حاليًا إمكان البحث الفلسفي في أيّ جانب من جوانب الدين، ومنها التّعاليم أو الطقوس الخاصّة بالأديان. فالبحث الفلسفيّ في هذه التعاليم والأعمال؛ لم يكن ذا قيمة فحسب، بل غالبًا ما يطرح مسائل أخرى تنفع في باقي الفلسفات، كما أنّ التأمّل حول مفهوم التّطهير لدى المسيحيّة، يلقي ضوءه على بعض المباحث المعاصرة حول ماهيّة حريّة الإرادة [9].وبعبارةٍ أخرى، فإنّ فلسفة الدين تدقّق في مواضيع ومسائل تتعلّق بالمعتقدات الدينيّة وماهيتها وصدقها، من قبيل الله وخلود الإنسان. وكذلك الأعمال الدينيّة ومعناها.
إنّ فلسفة الدين ومن خلال بحثها عن الإيمان بالله، تطرح مسائل متنوّعة حول الله تعالى. كما يُبحث فيها مسألة خلود الإنسان وأبديّته، وعدم انعدامه بالموت واستمرار حياته في عالم آخر - التي تُعد من التّعاليم المشتركة في الأديان.
وأيضًا بالنّظر إلى معتقد المؤمنين حول ضرورة بعض الأمور الخاصّة للحياة الدينيّة، وإنّ الله تعالى أوحى بها، وهذا الوحي تمّ ضبطه في كتبٍ مقدّسةٍ، كالقرآن عند المسلمين، والعمد العتيق والجديد لدى المسيحيين، فإنّ كيفيّة مفاهيم هذه المتون المقدّسة، ومنهج تفسيرها، أدّت إلى ظهور مسائل فلسفيّة كثيرة، وعليه فإنّ نطاق فلسفة الدين واسعٌ جدًا ويبحث فيها مواضيع دينيّة كثيرة.
هذا الكتاب يتطرّق إلى بعض مباحث فلسفة الدين ضمن ستة فصول، ويضعها بين يدي القارئين والباحثين. يهتمّ الفصل الأوّل بتعريفٍ جامع للدين؛ إذ توجد تعاريف متنوّعة ومختلفة عن الدين ناتجة جرّاء التّلقيات المختلفة للدين. والفصل الثاني يُبيّن منشأ الدين ومعانيه المختلفة. أمّا الفصل الثالث فيتطرّق إلى مسألة تفكيك وتقسيم بعض تعاليم الدين إلى الجوهر والصدف (اللب والقشور) وفحص صحّة هذا التقسيم عن عدمه. والفصل الرابع يتابع لغة الدين وبيان اختلافه مع لغة العلم والعرف، سيما لغة القرآن وخصائصه. والفصل الخامس يبحث في تطابق العقل والدين، وبيان النسبة بينهما، وفي الأخير يتطرّق الفصل السادس إلى مسألة التعدّديّة الدينيّة: البلوراليزم.
-------------------------
[1]. افول سكولاريزم، ص 18.
[2]. م. ن، ص 18.
[3]. م. ن، ص 23.
[4]. م. ن، ص 27.
[5]. راجع: فلسفة الدين، ص 22.
[6]. راجع: عقل واعتقادات ديني، ص 27.
[7]. راجع: فلسفة الدين، ص 21.
[8]. م. ن، ص 22.
[9]. راجع: جستارهايي در فلسفة دين، ص 9.