تأليف :
مجموعة مؤلفين
تحرير وتقديم :
الشيخ حسن أحمد الهادي
فهرست الجزء الأول
مقدِّمة المركز ............. 7
المدخل ............. 11
الفصل الأول
الأسرة في الحضارات الشرقيّة القديمة
مقدمة الفصل الأول ............. 24
الأسرة في بلاد الرافدين ............. 27
الأسرة المصريّة القديمة ............. 67
الأسرة في بلاد فارس ............. 93
الأسرة عند قدماء الهنود ............. 115
الأسرة في الحضارة الصينيّة القديمة ............. 139
الفصل الثاني
الأسرة في الحضارة الغربيّة
مقدمة الفصل الثاني ............. 158
الأسرة الإغريقيّة ............. 163
د. حسام غازي
الأسرة في العصر الرومانيّ ............. 191
أ. د. أحمد محسن الخضر
العائلة في العصر الغربيّ الوسيط ............. 263
د. رامز أحمد
الأسرة الغربيّة الحديثة ............. 311
د. رامز أحمد
نقد الغرب وأنظمته في الحياة والعلاقات الأسريّة ............. 335
الأستاذة سارة دبوسي
الأسرة وتيّار مناهضة الأنثويّة في الغرب ............. 363
د. غيضان السيد علي
مقاربة نظريّة لمسألة الأسرة في المنظور الديني والنظريات الوضعيّة ............. 395
د. حسان عبد الله حسان
توهين السلطة الأبويّة وتفكيك المنظومة الأسريّة ............. 435
د. طلال عتريسي
فهرست الجزء الثاني
مقدمة المركز ............. 7
المدخل ............. 11
الفصل الأول
تكوين الأسرة في الإسلام
الزواج ودوره في تكوين الأسرة ............. 27
ش. سامر عجمي
دور عقد الزواج الإسلاميّ في حفظ المجتمع الإنسانيّ ............. 61
نادين يحفوفي
الأسس والأصول التشريعيّة في تكوين النظام الأسريّ ............. 85
عماد الدين عشماوي
تكامل أدوار الزوجين في إدارة الأسرة وقيادتها ............. 131
السيد محمد حسن ترحيني
الفصل الثاني
الإدارة والتربية الأسرية
التربية الدينيّة والعباديّة للأسرة ............. 175
ش. سامر عجمي
الأسرة الممتدّة وضرورتها في بناء الشخصيّة الإنسانيّة المتوازنة والمتكاملة ............. 213
رشيد البوشواري
دور القدوة والأسوة في التربية الأسريّة ............. 233
ش. حسن أحمد الهادي
الفصل الثالث
التحدّيات الأسرية، الأسباب وطرق العلاج
البرامج الإعلاميّة وتأثيرها في التربية الأسريّة والبناء الاجتماعيّ ............. 259
د. عبد العالي احمامو
بين قيِم الذّات وإلزامات العَصْرِ المعولم ............. 285
نبيل علي صالح
دِراسَةُ مَكانةِ الأُسرةِ في التَّنميةِ الاقتصاديّة مِن وُجهةِ نظرِ القرآنِ وَالرّواياتِ ............. 311
د. أصغر الطهماسبي البلداجي
التربية الاقتصاديّة والتدبير المعيشيّ للأسرة ............. 327
ش. حسن أحمد الهادي
الإشكاليّات الأسريّة والإشكاليّات الاجتماعيّة ............. 349
محمود أحمد عبد الرحمن علي كيشانه
سبل الإسلام لرقيّ أداء الأسرة ونموّها ............. 391
د. محمد رضا سالاري فر
مقدمة المركز الجزء الأول
الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين، وبعد...
لقد شهد العالم الغربي بشكل عام تغيّرات ثقافيّة وتربويّة واسعة في مجال العلاقة بين مكوِّنات الأسرة، ففقدت الأسرة في كثير من المجتمعات -وإن بدرجات متفاوتة- مفهومها في الطبيعة الفطريّة، وموقعها في البناء الاجتماعيّ، ووظيفتها في التنشئة والتربية، كلّ ذلك لصالح اتجاهات فردانيّة، تُعْلي من قيمة الفرد، وتجعلُه مركز الاهتمام، ولم تكن الأسرة العربيّة والإسلاميّة بمنأى عن هذه التغيّرات؛ إذ شهدت الأسرة نسبًا متنامية في حالات الطلاق، وارتفاع سن الزواج، وتطوير أنواع من الزواج لا تحقِّق هدفه السامي في بناء الأسرة. وبذلك اضطرب مفهوم الأسرة؛ فشاع مصطلح الشريك والقرين، ووُصِف الزواج الطبيعيّ بالتقليديّ أو النمطيّ، وظهرت دعوات إلى بناء الأسرة اللانمطيّة... ولم تعد الأسرة تقوم بوظائفها، فقد أثّرت منظومة التفكير الاجتماعيّ الغربيّة القائمة في المنظومات المعرفيّة لباقي الشعوب، بتأثير العولمة والهيمنة السياسيّة والاقتصاديّة والأكاديميّة…، دون مراعاة للخصوصيّات الثقافيّة، والاجتماعيّة، والدينيّة،… للمجتمعات والشعوب، ورأت بعض التيّارات الفكريّة الغربيّة أنَّ الأسرة شكلٌ من أشكال السيطرة الأبويّة السلطويّة، وأنَّ شرط الإبداع والتجاوز يتمّ من خلال التمرّد على كلّ أشكال الأبويّة ومنها الأسرة. وثّمة تيارات تنادي بالتطابق المطلق بين الرجل والمرأة، دون مراعاة لما أودعه الله عزَّ وجلَّ من خصائص فطريّة ونفسيّة وجسميّة لكلا الصنفين؛ فانتشرت الحركات النسويّة، وبرز مفهوم النوع الاجتماعيّ «الجندر» تجلّيًّا واضحًا للقضاء على سمات التفرُّد والتمايز الطبيعيّ بين الجنسين. ولقد حاولت المؤتمرات الدوليّة أن تغذّي هذا الإحساس بالتمرُّد والتفلُّت من القيام بالمسؤوليّة الأدبيّة والأخلاقيّة تجاه الأسرة، بإعطاء الشرعيّة للقوانين التي تقوّض عُرى الأسرة؛ مفهومًا وبناءً ووظيفةً.
وقد سعينا في هذا الكتاب أن نقدّم صورة واضحة عن تاريخ الأسرة في الحضارات الشرقية القديمة في الفصل الأول منه، حيث تناولنا تاريخ الأسرة في: بلاد الرافدين، الأسرة المصرية القديمة، الأسرة في بلاد فارس، الأسرة عند قدماء الهنود، الأسرة في الحضارة الصينية القديمة.
وسعينا في الفصل الثاني من الكتاب لقراءة تاريخ الأسرة في الحضارة الغربيّة القديمة، قبل أن نعرض ونناقش ما حلّ بها في العالم الحديث والمعاصر، فكانت البداية مع بناء تصوّرٍ واضحٍ لشكل الأسرة الإغريقيّة القديمة، وطبيعتها، ومراحل تفكّكها وصولًا إلى القرن الخامس ق.م.، ثم دراسة الأسرة في العصر الرومانيّ (من تأسيس روما سنة 753ق.م إلى سقوطها سنة 476م) ونبحث في بنية الأسرة الرومانيّة والعلاقات الاجتماعيّة والقانونيّة التي كانت تحكمها، والتّطوّرات التي رافقتها على امتداد التّاريخ الرومانيّ، والعوامل التي أدّت إلى انهيارها وسقوطها، وصولاً إلى العائلة في العصر الغربيّ الوسيط، حيث نعمل هنا على بلورة مفهوم العائلة ونُظم القرابة في العصر الوسيط، والأسرة الغربيّة الحديثة والظّروف والتّحوّلات التي أدّت إلى ولادة العائلة الحديثة (العائلة النواتيّة) بوصفها صيغةً جديدةً من صيغ العلاقات الأسريّة، وأنّ نشأتها كانت نتيجة قطيعةٍ أساسيّةٍ مع الدين، وذلك على خلفيّة القيم العلمانيّة التي أسّست لأولويّة الكائن البشريّ بخلاف ما بُنيت عليه الأسرة سابقًا. لنصل في سياق هذه الأبحاث إلى قضية نقد الغرب وأنظمته في الحياة والعلاقات الأسريّة انطلاقًا من ضرورة وضع الفكر الغربيّ على محكّ النّقد، وتبدّد مقولة أنّ الغرب هو ذاك الوجود الجغرافيّ والتّاريخيّ المتفوّق على باقي سكّان المعمورة. وكان لا بدّ من دراسة الأسرة وتيّار مناهضة الأنثويّة في الغرب، في ظلّ الجموح والشّطط الفكريّ للحركات الأنثويّة المعاصرة، وتحت تأثيرها اتّجهت معظم المجتمعات الغربيّة نحو المزيد من المفاهيم الشاذّة والانحرافات السّلوكيّة، نظرًا لخضوعها لرؤى فكريّة لحركاتٍ متطرّفةٍ يرى أصحابها أنّها تندرج تحت شعار الدّعوة إلى «حرّيّة المرأة». ومقاربة نظريّة لمسألة الأسرة في المنظور الدينيّ والنظريّات الوضعيّة، من خلال البحث في مداخل التفكير الاجتماعيّ الوضعيّ، التي تناولت ظاهرة الأسرة، وقدّمت لها تفسيراتٍ وأحكامًا لضبط حركتها ونموّها.
ونظراً لأهمية الأسرة وموقعها في البناء الاجتماعي، يقدّم المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة هذا الکتاب «نحن ومسألة الأسرة»؛ حيث يتناول في سلسلة من البحوث التخصّصيّة ( الجزء الأول) قضيّة الأسرة في الحضارات الشرقيّة القديمة، والحضارة الغربيّة، إضافة إلى دراسات نقديّة تتعلّق بقضايا حيويّة وأساسيّة ترتبط بالخلفيّات الفلسفيّة والفكريّة الغربيّة، والنظرة إلى الإنسان والحياة والمجتمع والأسرة، وما ترتّب على ذلك من آثار انعكست على الأسرة؛ لناحية مفهومها، ووظائفها، وتماسكها...
سائلين الله تعالى أن يكون هذا الكتاب نافعاً للباحثين والمتخصّصين، وأن يساهم في بيان الثغرات والأسس الضعيفة والتهافت المعرفي في البنيان الاجتماعي والأسري عند الغربيين.
والحمد لله ربّ العالمين
المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة
مقدمة المركز الجزء الثاني
الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين، وبعد...
الأسرة مؤسّسة اجتماعيّة تتكوّن من زوج وزوجة وأطفالهما، يحكمها ويسيّر شؤونها نظام حقوقٍ وواجبات، والزواج هو الوسيلة الوحيدة لتشكيل الأسرة؛ وهو الارتباط المشروع بين الرجل والمرأة، وهي أولی المؤسّسات الاجتماعيّة وأعمقها جذورًا؛ حيث تؤدّي دورًا فعّالًا في اتّزان الأفراد، وازدهار المجتمعات؛ ولذلك يُلاحظ أنّ أغلب الفلاسفة والمنظِّرين في العلوم الإنسانيّة منذ بداية التاريخ العلميّ المکتوب قد کتبوا عن الأسرة. وقدَّمت الديانات الإلهيّة تعاليم وتشريعات تفصيليّة مهمّة في هذا المجال، وبخاصةٍ الدين الإسلاميّ باعتباره آخر الآديان؛ حيث اعتبر أنّ الأسرة أحبّ موسّسة بشرية عند الله وأعزّها، حيث روي: "ما بني في الإسلام أحب إلى الله من التزويج"، ولا شك بأنّ التعاليم الإسلاميّة حول الزواج والأسرة تُمثّل النظام الأمثل لتلبية الحوائج المادّية والنفسيّة والمعنويّة للإنسان؛ بما تُشكّله من أرضيّة لتأمين الأمن والارتياح النفسيّ لأعضائها، وتربية الأجيال الجديدة، ودمجهم في المجتمع، وتلبية الحوائج العاطفيّة للأفراد. إضافة إلى ذلك فإنّ النصوص الإسلاميّة تبيّن منظومة الحقوق والواجبات لكلّ فرد من أفراد الأسرة، إلى جانب الأصول التربويّة التي تستند إليها؛ ولكي تتحقّق هذه الأصول التربويّة في الأسرة، فلا بدّ لها من عمليّة تربويّة متكاملة، وتتكوّن هذه العمليّة من عناصر رئيسة عدّة هي: المربّي، المتربّي، أهداف التربية، ميادين التربية وساحاتها. ومنها: القيم والسلوكات والآداب التي ينبغي تربية الأسرة عليها، والأساليب والتقنيّات التي ينبغي استعمالها في عمليّة التربية، وبعبارة أخرى نحتاج في عمليّة التربية إلى أمرين: الأوّل تحديد منظومة القيم وجدول الأفعال التي ينبغي أو لا ينبغي تربية الأطفال عليها، والأساليب والتقنيّات التي نُربّي بواسطتها. فإذا لم يكن لدى المربّي معرفة بذلك، فعلام يُربّي؟ وكيف يُربّي؟ وهذا يقتضي أن يكون لدى المربّي خلفيّة معرفيّة مسبقة ولو إجماليّة عمّا ينبغي أو لا ينبغي التربية عليه، وهو ما يؤكّد ضرورة عمل المربّي نفسه على تأهيل ذاته ورفد نفسه وتطوير مهاراته العمليّة في التربية، كي يكون مؤهّلًا للاتصاف باسم المربّي. والثاني بيان المعايير والمصادر التي نُحدّد من خلالها تلك المنظومة القيميّة والسلوكات والأساليب والتقنيّات المرغوب فيها أو غير المرغوب فيها. والعمل على تعيين الميزان الذي على أساسه نُحدّد أنّ هذا ممّا ينبغي تربية الطفل عليه وبه، وذاك لا.
وقد شهد العالم تغيّرات ثقافيّة وتربويّة واسعة في مجال العلاقة بين مكوِّنات الأسرة، ففقدت الأسرة في كثير من المجتمعات ـ وإن بدرجات متفاوتة ـ مفهومها في الطبيعة الفطريّة، وموقعها في البناء الاجتماعيّ، ووظيفتها في التنشئة والتربية، كلّ ذلك لصالح اتجاهات فردانيّة، تُعْلي من قيمة الفرد، وتجعلُه مركز الاهتمام، ولم تكن الأسرة العربيّة والإسلاميّة بمنأى عن هذه التغيّرات؛ إذ شهدت الأسرة نسبًا متنامية في حالات الطلاق، وارتفاع سن الزواج، وتطوير أنواع من الزواج لا تحقِّق هدفه السامي في بناء الأسرة. وبذلك اضطرب مفهوم الأسرة؛ فشاع مصطلح الشريك والقرين، ووُصِف الزواج الطبيعيّ بالتقليديّ أو النمطيّ، وظهرت دعوات إلى بناء الأسرة اللانمطيّة... ولم تعد الأسرة تقوم بوظائفها، فقد أثّرت منظومة التفكير الاجتماعيّ الغربيّة القائمة في المنظومات المعرفيّة لباقي الشعوب، بتأثير العولمة والهيمنة السياسيّة والاقتصاديّة والأكاديميّة…، دون مراعاة للخصوصيّات الثقافيّة، والاجتماعيّة، والدينيّة،… للمجتمعات والشعوب، ورأت بعض التيّارات الفكريّة الغربيّة أنَّ الأسرة شكلٌ من أشكال السيطرة الأبويّة السلطويّة، وأنَّ شرط الإبداع
والتجاوز يتمّ من خلال التمرّد على كلّ أشكال الأبويّة ومنها الأسرة. وثّمة تيارات تنادي بالتطابق المطلق بين الرجل والمرأة، دون مراعاة لما أودعه الله عزَّ وجلَّ من خصائص فطريّة ونفسيّة وجسميّة لكلا الصنفين؛ فانتشرت الحركات النسويّة، وبرز مفهوم النوع الاجتماعيّ "الجندر" تجلّيًّا واضحًا للقضاء على سمات التفرُّد والتمايز الطبيعيّ بين الجنسين. ولقد حاولت المؤتمرات الدوليّة أن تغذّي هذا الإحساس بالتمرُّد والتفلُّت من القيام بالمسؤوليّة الأدبيّة والأخلاقيّة تجاه الأسرة، بإعطاء الشرعيّة للقوانين التي تقوّض عُرى الأسرة؛ مفهومًا وبناءً ووظيفةً.
في ظلّ هذه الأجواء الفكريّة التي بدأت تظهر آثارها على الأسر والمجتمعات، يقدّم المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة هذا الکتاب "نحن ومسألة الأسرة" (الجزء الثاني)؛ حيث يتناول في سلسلة من البحوث التخصّصيّة قضيّة الأسرة في التعاليم والتشريعات الإسلامية من حيث تكوينها، وإدارتها، والتحدّيات التي تواجهها، ودورها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
وقد أولت الشريعة الإسلامية الأسرة عنايةً خاصة؛ من حيث التشريعات المرتبطة بتكوينها ووظائفها وأدوارها وتماسكها. وتستمدُّ هذه التشريعات قوّتها وثباتها من مصدرها المتمثّل بالوحي (الكتاب والسنة).
وما الأحكام الشرعيّة التفصيليّة، والتوجيهات الأخلاقيّة التي تنظِّم العلاقات الأسريّة، وتبثّ فيها قيم الحياة الإنسانيّة مثل المودّة والرحمة والسكن والصبر.. إلا خير مصداق على أنّ الحياة الأسريّة في الإسلام أحد أهمّ مصادر الطمأنينة والسعادة.
في الختام نسأل المولى عزوجل أن ينفعنا به، وأن يكون عنصرًا مساعدًا في تعزيز التربية الأسريّة الأصيلة المستندة على القرآن الكريم، والسنّة النبويّة الشريفة، والقيم الأصيلة وفق تعاليم الدين الإسلاميّ وأحكامه وقيمه.
والحمد لله ربّ العالمين
المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة
المدخل
الأسرة؛ المفهوم والملمح
الأُسْرَةُ في التعريف اللغويّ هي الدرع الحصينة، وأسره أسرًا أي قيّده وأخذه أسيرًا، وهو دليل على التّماسك والقوّة. ويقال: شدّ الله -تعالى- أَسر فلان، أي قوّاه، وأحكم خَلْقَه، وهيّأَ له الأعوان الذين يؤيّدونه وينصرونه[1]. والأسرة: أهل الرجل وعشيرته، والجماعة يربطها أمر مشترك[2]. وبتعبير أعمّ هي أهل بيت الإنسان وعشيرته، وأصل الأسرة الدرع الحصينة، وأُطلقت على أهل بيت الرجل (عشيرته ورهطه الأدنون)؛ لأنّه يتقوّى بهم[3].
وتطلق كلمة الأسرة على الجماعة التي يربطها أمر مشترك بين أفرادها، سواء أكان هذا الأمر يتعلّق بصلة الرحم بينهم، أم بصلة المصاهرة، أم بغير ذلك. كما تطلق هذه الكلمة على الزوجين، وما يتولّد عنهما من أولاد وأحفاد؛ ولذلك تعدّ الأسرة الركن الأساسيّ والخليّة الأولى التي يتكوّن منها كلّ مجتمع وأمّة.
وإذا أردنا أن نقارب المعنى اصطلاحًا[*] نقول: هي مؤسّسة تربويّة-اجتماعيّة تتكوّن من زوج وزوجة وأطفالهما، يحكمها ويسيّر شؤونها نظام حقوق وواجبات. وقد تتّسع لتشمل الجدود والأحفاد وبعض الأقارب على أن يكونوا في معيشة واحدة. والنكاح هو الوسيلة الوحيدة لتشكيل الأسرة، وهو الارتباط المشروع بين الرجل والمرأة، وهو طريق التناسل والحفاظ على الجنس البشريّ من الانقراض، وهو باب التواصل وسبب الأُلفة والمحبّة، والمعونة على العفّة والفضيلة، وفيه يتحصّن الجنسان من جميع ألوان الاضطراب النفسيّ، أو الانحراف الجنسيّ، ومن هنا كان الحثّ عليه في الشريعة الإسلاميّة، قال تعالى: (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[4]. وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «تزوّجوا فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من أحبَّ أن يتّبع سنتي فإنَّ من سنتي التزويج»[5].
ولم يتّفق علماء الاجتماع على معنى واحد لها؛ نظرًا لتعدّد أنماطها واختلاف صورها من مجتمع إلى آخر، فهي نتاج اجتماعيّ تعكس صورة المجتمع التي تظهر وتتطوّر فيه، وبما أنّ المجتمعات متغيّرة ومتعدّدة ومختلفة، فإنّ صورها ستختلف قطعًا حسب طبيعة كلّ مجتمع. ولهذا سنقارب بعض هذه المعاني الاصطلاحيّة على ضوء هذه الاختلافات الاجتماعيّة:
فعرَّف بعضهم الأسرة بأنها: «اللبنة أو الخليّة الأولى في البناء الاجتماعيّ، والوحدة الأساسيّة التي يقوم عليها المجتمع، والإطار الذي تمارس في إطاره أهمّ عمليّات التّفاعل الاجتماعيّ التي تحقّق التنشئة الاجتماعيّة للأجيال الجديدة، ويكتسب الأفراد من خلالها الجانب الأكبر من سمات وخصائص المجتمع الذي يعيشون فيه، ولما كانت الأسرة نواة المجتمع، فإنّها تحمل خصائصه، وتعبر عن ملامحه، وتكشف عن حقيقة واقعه واتجاهات تغيّره أو تطوّره»[6].
وذكر آخرون أنّها: «الوحدة الاجتماعيّة الأولى التي تهدف إلى المحافظة على النوع الإنسانيّ، وتقوم على المقتضيات التي يرتضيها العقل الجمعيّ والقواعد والمجتمعات المختلفة»[7]. كما يمكن اعتبارها بمثابة: «وحدة ثنائيّة تتكوّن من رجل وامرأة تربطهما علاقات روحيّة متماسكة مع الأطفال والأقارب، ويكون وجودهما قائمًا على الدوافع الغريزيّة والمصالح المتبادلة والشعور المشترك الذي يتناسب مع أفرادها»[8].
ويرى بعض الباحثين أنّ «الأسرة عبارة عن منظّمة اجتماعيّة تتكوّن من أفراد يرتبطون بعضهم بالبعض بروابط اجتماعيّة وأخلاقيّة ودمويّة وروحيّة، وهذه الروابط هي التي جعلت العائلة البشريّة تتميّز عن العائلة الحيوانيّة»[9]. أو هي «رابطة اجتماعيّة بين زوج وزوجة وأطفالهما أو بدون أطفال، أو زوج بمفرده مع أطفاله، أو زوجة بمفردها مع أطفالها. وقد تكون الأسرة أكبر من ذلك، فتشمل أفرادًا يعيشون معيشة مشتركة مع الزوج والزوجة والأبناء كالجدّ والجدّة وبعض الأقارب»[10].
الأسرة في الإسلام
انطلقت الحياة البشريّة في أوّل عهدها من علاقة فطريّة تكامليّة بين زوجين: رجل وامرأة، أصبحا أبًا وأمًّا، وكوّنا أسرة بشريّة كانت الوحدة الأولى في بناء المجتمع البشريّ. ومن تلك الأسرة الواحدة تفرّعت أُسَر عديدة تجمع بينها علاقات الأصل الواحد، وعلاقات القربى بين الأسر، ومن هذه الأسر تكوّنت الشعوب والقبائل والأمم. وكانت هذه هي السُّنة الإلهيّة التي فطر الله الناس عليها؛ لإعمار الأرض وتحقيق الاستخلاف فيها. ومنذ تلك البداية والأسرة هي وحدة البناء الأساسيّة في كلّ مجتمع بشريّ، الكفيلة بحماية المقوّمات الأساسيّة التي تعطي للمجتمع خصائصه البشريّة العامّة، وهويّته القوميّة أو العرقيّة أو الدينيّة الخاصّة.
وقد أوْلَت الشريعة الإسلاميّة الأسرة عناية فائقة؛ لإدراكها أهمّيّة الدور الذي ينبغي أن تلعبه هذه المؤسّسة في الساحة الاجتماعيّة. وينطوي البناء التحتيّ للنظريّة الإسلاميّة على تحديد دور الرجل والمرأة في المؤسّسة العائليّة وذلك بتفصيل التكليف الشرعيّ فيما يخصّ واجبات الزوجين وحقوقهما، وحقوق بقيّة الأفراد في المؤسّسة العائليّة ثانيًا. وما ذلك إلّا لأنّ العلاقات الأسريّة لها دورٌ كبير في توثيق بناء الأسرة والتّماسك بين أعضائها، ولها تأثيراتها على نموّ الأطفال وتربيتهم. وخلق الأجواء الفكريّة والنفسيّة والعاطفيّة الصحيّة داخل الأسرة، ما يمنح جميع أفراد الأسرة القدرة على التكيّف الجدّي مع أنفسهم ومع أسرهم ومع المجتمع. ومن هذا المنطلق فإنّ الأسرة بحاجة إلى منهج تربويّ يُنظّم مسيرتها، يُبيّن الحقوق والواجبات، ويوزّع الأدوار والوظائف... للمحافظة على تماسكها المؤثّر في الانطلاقة التربويّة الفاعلة في المجتمع.
ولقد جعل الإسلام الزواجَ السبيلَ الوحيد لتكوين الأسرة بالشكل الذي يحفظ الحُرُماتِ والأنسابَ، ويُلبِّي الغرائزَ الطبيعيّة في إطار من العفَّة والخصوصيّة، ويُحقّق لطرفي الزواج ما يبحثان عنه من السكن والاستقرار، وامتنَّ عليهما بإسباغ المودّة والرحمة على تلك العلاقةِ الشريفة. وقد نبَّه القرآن على ذلك في قوله - تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[11].
وورد في تفسير هذه الآية: الناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر، وتشغل أعصابَهم ومشاعرهم تلك الصلةُ بين الجنسين. وتدفع خُطاهم وتُحرِّك نشاطَهم تلك المشاعرُ المختلفةُ الأنماطِ والاتّجاهات بين الرجل والمرأة؛ ولكنّهم قلَّما يتذكَّرون يد الله التي خلقتْ لهم من أنفسهم أزواجًا، وأودعتْ نفوسَهم هذه العواطفَ والمشاعر، وجعلتْ في تلك الصلة سكنًا للنفس، وراحةً للجسم والقلب، واستقرارًا للحياة والمعاش، وأُنسًا للأرواح والضمائر، واطمئنانًا للرجل والمرأة على السواء[12].
وهذا التعبير القرآنيّ اللطيف الرفيق، يُصوّر هذه العلاقة تصويرًا موحيًا، وكأنّما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحسّ: (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)؛ فيدركون حكمة الخالق في خَلْق كلٍّ من الجنسين على نحوٍ يجعله موافقًا للآخر، ملبّيًا حاجته الفطريّة: نفسيّة، وعقليّة، وجسديّة؛ بحيث يجد عنده الراحةَ والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكنَ والاكتفاء، والمودّة والرحمة؛ لأنّ تركيبهما النفسيّ والعصبيّ والعضويّ ملحوظٌ فيه تلبيةُ رغبات كلٍّ منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية؛ لإنشاء حياة جديدة، تتمثّل في جيل جديد.
ولهذا فالزواج هو النواة الأولى لإيجاد الأسرة، وهي بدورها الحجر الأساس في بناء المجتمع، ولكيفيّة هذا البناء وإقامته أثر كبير في تقدّم المجتمع أو انحطاطه، سقوطه أو صعوده. والزواج في الإسلام رباط مقدّس، يُبنى على أساس تشريعيّ كامل وقواعد وآداب وسنن، وفي ظلّه التزامات وحقوق ومخالفتها توجب العقوبة والجزاء. وهذا الرباط المقدّس حينما يُعقد في ظلّ تلك الأسس والقوانين يسدّ من خلالها باب المفاسد والرذائل ولا يترك مجالًا لعدم الاستقرار والاضطراب والانحراف الذي يؤثّر سلبًا على سعادة المجتمع واستقراره. وقد تعدّدت الآيات والروايات التي تتحدّث عن تشريع الزواج وتحثّ عليه. قال الله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)[13].
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الـَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَـالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِـهِ وَالْأَرْحَـامَ إِنَّ اللَّهَ كَـانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[14].
وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِـنْ نَفْسٍ وَاحِـدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعـَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ)[15].
وقد تضافرت الروايات الشريفة في الترغيب بالزواج والحثّ عليه، فقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم غـدًا في القيامـة حتّى أنّ السقط ليجيء محبنطئًا على باب الجنـة، فيُقال له: ادخل الجنّة، فيقول: لا حتّى يدخل أبواي الجنة قبلي»[16]. والحبنطأ: بالهمز: العظيم البطن… والمحبنطئ: اللازق بالأرض، العريض[17]. يعني أنّ السقط يكون لازقًا ولازمًا في مكانه حتّى يأتي أبواه.
وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «تزوّجوا فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرًا ما كان يقول: من كان يُحب أن يتبع سنّتي فليتزوّج، فإنّ من سنّتي التزويج، واطلبوا الولد فإنّي أكاثر بكم الأمم غدًا»[18].
وروي عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلًا لعلّ الله أن يرزقه نسمة تُثقل الأرض بلا إله إلّا الله»[19].
وعنه(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ما بُنِيَ بناءٌ في الإسلام أحبّ إلى الله تعالى من التزويج»[20].
وفي صحيحة وليد بن صبيح، عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء بالله الظنّ»[21].
وجاء في صحيحة بريد بن معاوية العجليّ عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) قال: قـال رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث القدسيّ - قال الله عزّ وجلّ: «إذا أردتُ أن أجمع للمسلم خير الدنيـا والآخرة: جعلتُ له قلبًا خاشعًا ولسانًا ذاكرًا وجسدًا على البلاء صابرًا، وزوجة مؤمنة تسرّه إذا نظر إليها وتحفظـه إذا غاب عنها في نفسها وماله»[22].
وروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «ما استفاد امرء مسلم فائدة بعد الإسلام أفضـل مـن زوجـة مسلمـة تُسرّه إذا نظر إليها وتُطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله»[23].
الأسرة النموذجيّة في الفكر الإسلاميّ
إن الأسرة التي قدّمها الإسلام للبشريّة يجب أن تتميّز بمجموعة من المميّزات الفكريّة والتربويّة والاجتماعيّة...، تبدأ من الاعتقاد بوجود الله تعالى وتوحيده وصفاته الجماليّة والجلاليّة، وبأنّ الدنيا مزرعة الآخرة وأنّ الحياة الحقيقيّة يعيشها الإنسان بعد الموت، حيث يبعث للمساءلة والمحاسبة ثوابًا وعقابًا، الاعتقاد بنبوّة الأنبياء عمومًا ونبوة نبيّنا الأعظم صلى الله عليه وآله الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين، والاقتداء بسيرة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)
وأهل البيت(عليهم السلام) وتعزيز الارتباط المعرفيّ والروحيّ والسلوكيّ بهم.
وتستند الأسرة المسلمة على مرجعيّة القرآن والسنّة الشريفة في بناء التصوّرات الحياتيّة بمختلف مجالاتها، والعمل على تفتّح الاستعدادات الفطريّة وتوجيهها نحو الأهداف الإلهيّة، والاعتقاد بأنّ سعادة أفراد الأسرة تكمن في النظام المعياري الإسلاميّ، والعمل على بناء الأسرة في ضوء الثقافة القرآنيّة الأصيلة.
ولا بدّ في تشكيل الأسرة من اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر على ضوء المعايير الدينيّة والضوابط الأخلاقيّة والأعراف الحميدة، والالتزام بالآداب والضوابط الأخلاقيّة والفقهيّة فيما يتعلّق بالزواج والنكاح، والسعي لجعل الأسرة بيئة حاضنة للسير والسلوك نحو الله تعالى، وتحصين البيئة الأسريّة عقائديًّا وأخلاقيًّا أمام التحدّيات الخارجيّة والحرب الناعمة بما يتناسب مع الظروف والتغيّرات، والحذر من وقوع أفراد الأسرة في فّخ التيّارات والأحزاب والجمعيّات... الضالّة والمنحرفة. واستخدام أسلوب الدعوة الحسنة والرفق والإشفاق في التعرّف على العقائد الحقّة والتشجيع على الالتزام بالأخلاق الفاضلة والوظائف الشرعيّة. والتعامل مع كلّ جهد يُبذل في الأسرة على أنّه وسيلة لتزكية النفس وتهذيبها وليست عائقًا ومانعًا عن ذلك، واعتبار خدمة أفراد الأسرة والسعي في حوائجهم تقرّبًا إلى الله تعالى من أفضل أنواع العبادات، والتوأمة بين أصلي التربية بالحّب والرحمة والرفق في التوصل إلى الأهداف المقصودة من جهة، واستخدام أصل العقاب بما يتوافق مع الضوابط الشرعيّة والأخلاقيّة والمقاصد التربويّة.
ويجب أن يتمتّع ولي أمر الأسرة بالبصيرة والحكمة والانفتاح ورحابة الصدر والجرأة والشجاعة في اتخاذ القرارات بعيدًا عن الانفعالات السريعة، وذلك لتعزيز التكامل بين أدوار كلّ من الزوج والزوجة في الأسرة ومشاركتهما معًا في التربية الأسريّة؛ وذلك من خلال اهتمام المربّين والقيّمين على التربية داخل الأسرة ببناء ذواتهم وتربية أنفسهم؛ لأنّ من نصّب نفسه للناس إمامًا، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليمه غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، وتفعيل الاستشارات التربويّة والإرشاد الأسريّ من قبل المتخصِّصين للعمل على بناء الأسرة ومعالجة مشكلاتها، والعمل على معالجة المشكلات الأسريّة وعدم مراكمتها حتى تصل إلى مرحلة الانفجار الدفعيّ، والقيام بالأعمال التي من شأنها تنمية الأسرة وتطويرها والتسامي بها نحو تحقيق الأهداف الإلهيّة، وتعزيز الثقافة الأسريّة والتعرّف على نظام الحقوق والواجبات الأسريّة على ضوء التعاليم الدينيّة الأصيلة وترسيخ ثقافة ابتغاء وجه الله تعالى في كافّة الأعمال والأفعال الأسريّة، وثقافة الثقة بالله تعالى والاتكال عليه واللوذ به في مختلف المشكلات والتحدّيات التي تواجه الأسرة، والاستعانة الدائمة بالله تعالى واعتماد الدعاء بين أفراد الأسرة، والحضور الدائم إلى جانب أفراد الأسرة ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم.
ولا بدّ من الكدّ وبذل أقصى الجهد والطاقة في تأمين حياة كريمة لأفراد الأسرة والتوسعة عليهم. وتربية أفراد الأسرة على العيش ضمن المستوى العام لمعيشة أبناء المجتمع الإسلاميّ ومداراتهم، وحسن التدبير وتجنب الانفاق الترفيّ والنمط الاستهلاكيّ في أسلوب العيش، والاستخدام الأمثل لموارد الأسرة والاستفادة منها بما يحقّق الكفاية ويشبع الحاجات، والقناعة في العيش والصبر على المصائب ومراعاة الواقع الاقتصاديّ والظروف القهريّة في أسلوب العيش ونمط الحياة وعدم تكليف وليّ الأمر والقيّم فوق طاقته وسعته.
ومن الأصول التربويّة التي يجب مراعاتها في الأسرة، إشاعة مناخ حسن الظن داخل البيئة الأسريّة، وروحيّة العفو والصفح وكظم الغيظ والتغافل عن الأخطاء غير المتكرّرة وغير المتعمّدة، وتعزيز مبدأ التكافل الاجتماعيّ بين مختلف أفراد الأسرة لأجل التكامل الداخليّ لها، وتعزيز مهارة فنّ الإصغاء والاستماع المتعاطف والمتفهّم، وتنمية الحسّ الجماليّ لدى أفراد الأسرة وتوجيهه بما يحقّق الأهداف الإلهيّة، والتشجيع على رعاية البيئة والحفاظ على ما تحويه من مخلوقات لله تعالى.
وتكوين المعرفة الضروريّة لدى أفراد الأسرة بحاجاتهم الطبيعيّة لأجسامهم ومتطلّباته وكيفيّة إشباعها بما يتوافق مع النظام المعياريّ الإسلاميّ، وتعزيز العادات السلوكيّة التي تساهم في التنمية الصحّيّة للجسم (رياضة- تغذية سليمة...)، والعمل على تعديل العادات والسلوكات المضرّة.
وتربية أفراد الأسرة على احترام تقاليد الأسرة الحميدة وعادات المجتمع بما ينسجم مع النظام المعياريّ الإسلاميّ، وعلى الاهتمام بالعبادات بصورة مشتركة كقراءة القرآن والدعاء...، وعلى تحمّل كلٍّ لمسؤوليّته في موقعه الذي ينبغي عليه القيام به في الأسرة، وتعزيز ثقافة العفّة والحجاب والستر، وتجنّب الاختلاط المحرّم أو الموجب للوقوع فيه بما يحفظ مناخ الأسرة ويصونها والمبادرة إلى إصلاح ذات البين في حلّ المشكلات الأسريّة، والتعاون على إصلاح ما يعترض الأسرة وبيئتها من مشاكل وتحدّيات.
والاهتمام بتعليم أفراد الأسرة وحسن اختيار أماكن التعليم، والسعي المستمرّ للتطوير ومواكبة المتغيّرات والبصيرة بالتحدّيات التي تواجه الأسرة في عالمنا المعاصر، وحسن تربية الأولاد وتعليمهم وتأديبهم على ضوء الأصول والأساليب الإسلاميّة، والاهتمام بالثقافة القرآنيّة وتعليم القرآن لأفراد الأسرة.
وتعويد أفراد الأسرة على طاعة وليّ أمرها، وبر الوالدين وطاعتهما والخشوع بين يديهما والتواضع لهما والوفاء بتعهّداتهم لهما وشكرهما واحترامهما ورحمتهما و...، وتعزيز صلة الرحم وروابط العلاقة بين أفراد الأسرة الممتدّة، والعمل على قيام الروابط الأسريّة بين الأخوة والأخوات على المحبّة والاحترام المتبادلين، واعتماد البرامج والوسائل التي تعزّز روح الألفة والمودّة والرحمة بينهم، وتجنب العصبيّة العشائريّة والقبليّة على حساب الحقّ، وتدريبهم على حسن اختيار الأصدقاء وتجنّب قرناء السوء، وتجنّب إلزام الأولاد بآداب زمان الآباء، وعدم إجبارهم عليها، فإنّ لكلّ زمن آدابه وعاداته وتقاليده.
ومن المرتكزات المهمّة في التربية الأسريّة محوريّة دور الأمّ في التربية وحضورها الوجدانيّ الفاعل والمؤثّر في جميع أفراد الأسرة في مختلف مراحل العمر، فالتربية كوظيفة بنيويّة وتغييريّة، موضوعها الإنسان والمجتمع، يُشارك في إيجاد مبانيها وترسيخ أسسها وترشيدها مجموعة من العناصر والمؤثّرات؛ ومن أهمّ هذه العناصر الأمّ باعتبارها مصدر الحنان والعاطفة، ومركز التوجيه والحرص والعناية بكلّ حاجيّات الأبناء، فبعد أن يولَد الطِّفل -مثلًا-، تكون الأمّ أوّل فردٍ من أفراد العائلة يتواصل معه بنحو مباشر، وهذه العلاقة لا تؤثِّر فقط في مجال تلبية احتياجات الطِّفل، بل تؤثِّر على حالاته النفسيّة والعاطفيّة أيضًا.
والواضح أنّ العاطفة التي تمنحها الأمّ لأبنائها هي من أكثر العوامل التربويّة على صعيد تكامل الطِّفل ونموّه. يُستفاد من جملةٍ من الروايات أنّ الأمّ تبرز عواطفها تجاه ولدها أكثر من الأب، وتحرص أكثر على تكامله ونموّه[24]، وهذا يحكي عن أهمّيّة وجود الأمّ لنموّ الطِّفل واستقراره.
يقول الإمام السجّاد (عليه السلام)، في سياق بيان جانبٍ ممّا تبذله الأمّ من جهدٍ ومشقّة في سبيل تربية أبنائها وتكاملهم: «... فإنّك لا تطيق شكرها إلّا بعون الله وتوفيقه»[25]. وبالنتيجة فإنّ الأمّ قلب المجتمع، ومركز حياته وبقائه، فكما أنّ القلب في الجسم البشريّ مركز حياة وديمومة بقاء واستمرار، كذلك الأمّ قلب المجتمع، فإذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع. والمرأة تُمثّل نصف المجتمع من الناحية العدديّة، وتلد وتربّي النصف الآخر منه، فتكون بمثابة كلّ المجتمع ومدرسة تربويّة له، وتعكس عنوان حضارته، وعنوان قوّته ومقدار تقدّمه ورفعته، حتّى قيل: وراء كلّ رجل عظيم امرأة، وكذلك إذا فسدت المرأة تكون مصدر فساد المجتمع وضياعه.
ومن القضايا المهمّة في التربية الأسريّة تجنّب محاكاة النماذج غير الإسلاميّة ولا سيّما الغربيّة منها والامتناع عن تقليدها في السلوك الأسريّ والاجتماعيّ. فقد اجتَهَدَ الغربُ كثيرًا في محاوَلة إقناعنا بأنَّ الإسلامَ لا يُقيم موازين العدل بين أفراد الأسرة، وأنَّ أحكام الشريعة الإسلاميّة، التي أنزلها الله -سبحانه وتعالى- لإسعاد البشر -تَتَسَبَّب في تعاسَة الأسرة، وأنَّ قوانين الحضارة الغربيّة وقواعدها وتقاليدها هي النموذج الأمثل لسعادة الأسرة، وقد تأثّر بعض المسلمين بهذه الادِّعاءات، وقرَّروا أن يُطَبِّقُوا تلك التَّقاليد والقوانين في حياتهم، وكان المنتَظَر- والحال صارتْ هكذا -أن نرى هؤلاء، ومجتمعاتهم -سواء الغربيّة، أم المسلمة التي اتَّبَعَتْ خُطاهم- قد صارتْ في سعادة وهناء، وخلَتْ منَ المشاكل التي تعجّ بها الأسرة المسلمة في السيرة النبويّة -على حدِّ زَعْمِهم-، ولكن ما رأيناه من نتائج ما اقترفوه في حق أنفسهم، وحق المسلمين من أمراض اجتماعيَّة أقضَّت بنيان الأسرة، ومن ذلك؛ ارتفاع مُعَدَّلات زنا المحارِم بحسب الإحصاءات الدوليّة، وانتشار العُنف الأسريّ، وهناك نسبة رجل من بين ستة رجال يكون ضحيّة للعنف الزوجيّ في إحدى لحظات حياته، بحسب الدراسات الميدانيّة في أكثر من بلد، كما تُوَضِّح الدِّراسات أنَّه بينما هناك 120 امرأة تموت سنويًّا بسبب العنف الزوجيّ، فإنّه يوجد 30 رجلًا يموتون سنويًّا للسبب نفسه وفي الظروف نفسها [26]. إضافة إلى ظاهرة انتشار العنوسة، وانتشار ظاهرة هُرُوب الفتيات، وارتفاع معدّلات الطلاق، وهجران الأزواج واتخاذ الأصدقاء بدل الأزواج، كلّ ذلك بُني على ثقافة الجندر التي أشاعوها وقنّنوها في العالم الغربيّ.
ومن الآثار السلبيّة الناشئة عن الجندر، والتي انعكست على حياة المجتمعات الغربيّة أوّلًا وبدأت بالتسلّل إلى بلداننا، ما يرتبط بحرف دور المرأة في تشكيل الأسرة الطبيعيّة المنسجمة مع فطرة الإنسان وخلقه، عن مساره الفطريّ، ففُتحت العلاقات بين الذكر والأنثى، وأصبح الإنجاب خارج إطار الأسرة أمرًا طبيعيًّا ومشرّعًا...
إنّ هذه النزعة الأنثويّة المتطرّفة (Feminism) أو الأنثويّة الراديكاليّة قد وضعت هدفًا استراتيجيًّا لها سعت من خلال تحقيقه إلى التغيير الاجتماعيّ والثقافيّ وتغيير بناء العلاقات بين الجنسين وصولًا إلى المساواة المطلقة بينهما، وعلى هذا الأساس ترى أنّه يمكن تغيير بل إلغاء الأدوار المنوطة بالرجل والمرأة، وكذلك الفروق بينهما من ثقافة المجتمع وأفكاره السائدة، بحيث يمكن للمرأة أن تقوم بأدوار الرجل، ويمكن للرجل أن يقوم بأدوار المرأة، وهذا يعني أنها تتنكّر لتأثير الفروق البيولوجيّة الفطريّة في تحديد أدوار الرجال والنساء، وعلى سبيل المثال فإنّهم يسمّون الطاعة الزوجيّة بعلاقة القوّة (Power relation)، وتوسّع مفهوم الأسرة (Family) لتكون هناك أسرة (Traditional) تقليديّة وأسرة غير تقليديّة، أو لا نمطيّة خاصّة بالشاذّين جنسيًّا أو مجموعات إباحيّة تعيش مع بعضها، فيمكن أن تتشكّل الأسرة من زوجين وأولادهما، ورجل وصديقته مع أولادها، وامرأة وصديقها مع أولاده، ورجلين معًا وامرأتين معًا وهكذا.
ولهذا فإنّ البشريّة -اليوم- تعاني من أزمات حادّة ومعضلات صعبة ومشاكل جمّة، فبالرغم من التطوّر العلميّ والتقنيّ الذي يشهده عالمُنا المعاصر، نرى في المقابل انحرافًا أخلاقيًّا وتربويًّا خطيرًا أبعد المجتمع البشريّ عن صوابه، وجعل البشريّة تُنْخرُ من داخلها، وأدّى إلى فقدان الإيديولوجيّة والنظرة الصحيّة إلى السلوك الإنسانيّ، وهذا ما ينبئ عن الحاجة الأكيدة لمواكبة علميّة منهجيّة أصيلة تلبّي كلّ حاجيّات المجتمع المعاصر، وفق الرؤية والأصول الإسلاميّة.
وهو ما يؤكّد ضرورة إعادة النظرة في تحديد المنهج المعرفي للدخول في العلوم، ومعالجة النقص الموجود في المناهج، الناقصة أحيانًا، والقاصرة أحيانًا أخرى، ولا بدّ من توسعة الرؤية للدين في مختلف المجالات والفروع، فنحن لا نعيش مشكلة نصّ ديني، بل تكمن مشكلتُنا في فهم وقراءة النص وتثميره في مجال التشريع والتصدّي الفكري في مواجهة الإشكاليّات والتعقيدات التي تواجه منظومتُنا المعرفيّة والثقافيّة في هذه المرحلة.
والحمد لله رب العالمين
مدير التحرير
الشيخ حسن أحمد الهادي
------------------------------------
[1]- ابن منظور، لسان العرب، المجلد الرابع، تحقيق جملة من المحقّقين، بيروت، دار صادر، د. ت، ص19-20. (مادة أسر).
[2]- المعجم الوجيز، لمجمع اللغة العربية: 16، دار الثقافة، قم 1411هـ.
[3]- ابن منظور، لسان العرب 4: 20، مادة أسر، نشر أدب الحوزة، قم 1405هـ.
[*] استفدنا في المعنى الاصطلاحيّ من بعض ما ورد في بحوث الكتاب لعدم الوقوع في التكرار.
[4]- سورة النور: الآية32.
[5]- الكافي ج5، ص329.
[6]- مجدي حجازي وآخرون، علم الاجتماع العام، القاهرة، مكتبة النصر، 2000، ص182.
[7]- عاطف غيث، علم اجتماع النظم، ج2، الإسكندرية، دار المعارف، 1967، ص6.
[8]- إحسان محمد الحسن، البناء الاجتماعيّ والطبقيّة، بيروت، دار الطبعة، 1983، ص233.
[9]- إحسان محمد الحسن، مدخل إلى علم الاجتماع، بيروت، دار النشر والطباعة، ط1، 1988، ص188.
[10]- مجدي حجازي وآخرون، علم الاجتماع العام، ص184.
[11]- سورة الروم، الآية21.
[12]- سيد قطب، في ظلال القرآن.
[13]- سورة النحل، الآية72.
[14]- سورة النساء، الآية1.
[15]- سورة الأعراف، الآية189.
[16]- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه كتاب النكاح باب 101 فضل التزويج، ج3، ص236، ح6، الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج14، كتاب النكاح، باب1 من أبواب مقدمات النكاح، ح2، وفيه (إنّ السقط يجيء محبنطيًا) بالياء والصحيح بالهمز. وقريب منه في كنز العمال حديث 44427 و 44468.
[17]- العين للخليل، ج3، ص334.
[18]- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج100، ص218.
[19]- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه كتاب النكاح باب 101 فضل التزويج، ج3، ص236، ح1، الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة كتاب النكاح باب 1 من أبواب مقدمات النكاح ح3.
[20]- من لا يحضره الفقيه كتاب النكاح باب 101 فضل التزويج، ج3، ص236، ح5، الحر العاملي، وسائل الشيعة كتاب النكاح باب 1 من أبواب مقدمات النكاح ح4.
[21]- الشيخ الكليني، الكافي كتاب النكاح باب أن التزويج يزيد في الرزق، ج5، ص330، ح1، الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، كتاب النكاح، باب 105 فضل التزويج، ج3، ص217، ح1، الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة كتاب النكاح باب 10 من أبواب مقدمات النكاح، ح1.
[22]- الشيخ الكليني، الكافي ج5، ص327.
[23]- الكافي، ج5، ص327.
[24]- الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء، ج3، ص435. جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «دعوة الوالدة أسرع أجابة. قيل يا رسول الله لم ذاك؟ قال هي أرحم من الأب....». و «برّ الوالدة على الوالد ضعفان»
[25]- راجع الريشهري، ميزان الحكمة، ج10، ص712.
[26]- موقع أمان - المركز العربي للمصادر والمعلومات، من تحقيق حول العُنْف ضد المرأة.