فهرس المحتويات

مقدمة المركز | 7

الفصل الأول: معالم الشكّ واليقين | 9

الشكّ | 10

اليقين | 11

أنحاء أو نماذج الشكّ | 11

أنواع اليقين | 17

أدوار ومراحل الشكوكيّة | 20

الطعون أو براهين الشكوكيّة | 31

القيمّة المعرفيّة للشك واليقين | 38

الفصل الثاني: المنازل السبعة للشكوكيّة | 41

المنزل الأوّل للشكوكيّة | 43

التشكيك في الأضلاع الثلاثة للمعرفة | 43

انهيار أضلاع المثلث | 44

المنزل الثاني للشكوكيّة | 44

المنزل الثالث للشكوكيّة | 45

تفاعل الذهن والعين | 45

تقاريرُ للتفاعل بين الذهن والعين | 47

المنزل الرابع للشكوكيّة | 53

الجدال في البديهيّات | 53

مراحل المنزل الرابع للشكوكيّة. | 53

المنزل الخامس للشكوكيّة | 58

ما وراء قضيّة البديهيّات | 59

المنزل السادس للشكوكيّة | 60

جرّة نوزيك | 60

معادلة حلقة الملازمة | 65

المنزل السابعة حول الشكوكيّة | 73

مشكلة الابتناء | 74

الفصل الثالث: العبور عن مراتب الشكوكيّة السبع | 75

العبور من المنزل الأوّل للشكوكيّة | 76

تدعيم أضلاع المعرفة الثلاثة | 77

الحكاية التصديقيّة ودورة المعرفة | 99

العبور من المنزل الثاني للشكوكيّة | 109

الدفاع عن حجيّة العقل | 109

العبور من المنزل الثالث للشكوكيّة | 119

العلاقة بين كيفيّة الوجود وقيمة المعرفة | 119

العبور من المنزل الرابع للشكوكيّة | 136

تدعيم المباديء والأسس المعرفيّة | 136

1. مرحلة التعريف (المرحلة الأولى) | 137

2. مرحلة الإثبات (المرحلة الثانية) | 187

3. مرحلة الصدق (المرحلة الثالثة) | 190

العبور من المرحلة الثالثة من المنزل الرابع للشكوكيّة | 190

4. مرحلة النفق (الجسر) (المرحلة الرابعة) | 201

العبور عن المرحلة الرابعة من المنزل الرابع للشكوكيّة | 201

5. مرحلة الوجدانيّات (المرحلة الخامسة) | 204

العبور من المرحلة الخامسة من المنزل الخامس للشكوكيّة | 204

6. مرحلة الأوّليات (المرحلة السادسة) | 207

العبور من المرحلة السادسة من المنزل الرابع للشكوكيّة | 208

7. المرحلة الشرطيّة (المرحلة السابعة) | 210

العبور من المرحلة السابعة من المنزل الرابع للشكوكيّة | 210

العبور من المنزل الخامس للشكوكيّة | 213

محاكمة حول ما وراء قضيّة البديهيّات | 213

العبور عن المنزل السادس للشكوكيّة | 218

العبور من المنزل السابع للشكوكيّة | 241

بيان نموذج الابتناء وكيفيّة تحويل النظري إلى بديهي | 241

القضيّة النظرية «واجب الوجود موجود» | 255

البرهان | 255

فهرس المصادر والمراجع | 295

العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية سلسلة مصطلحات معاصرة 36 الشكوكية دراسة في المصطلح والمفهوم والنظرية تأليف : عباس عارفي تعريب : الشيخ محمد جمعة
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها ، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار ، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظمة الفكرية المختلفة. ثانيا:إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لا سيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقة. ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ، ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

الشكوكيّة

تأليف : عباس عارفي

تعريب : الشيخ محمد جمعة

 

(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

(2)

الشكوكية / تعريب الشيخ محمد جمعة .- الطبعة الاولى.- النجف ، العراق : العتبة العباسية المقدسة ، المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية ، 1441 ه. = 2019 .

304 صفحة ، 12x20 سم . -(سلسلة مصطلحات معاصرة ، 36)

يتضمن ارجاعات ببليوجرافية .

ردمك : 9789922625843

1. الشك (علم النفس) أ. جمعة ، محمد ، مترجم . ب. العنوان .

LCC : BF773 . S53 2019

DDC : 153.4

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

(3)

الفهرس 

مقدمة المركز7

الفصل الأول: معالم الشكّ واليقين9

الشكّ10

اليقين11

أنحاء أو نماذج الشكّ11

أنواع اليقين17

أدوار ومراحل الشكوكيّة20

الطعون أو براهين الشكوكيّة31

القيمّة المعرفيّة للشك واليقين38

الفصل الثاني: المنازل السبعة للشكوكيّة41

المنزل الأوّل للشكوكيّة43

التشكيك في الأضلاع الثلاثة للمعرفة43

انهيار أضلاع المثلث44

المنزل الثاني للشكوكيّة44

المنزل الثالث للشكوكيّة45

تفاعل الذهن والعين45

تقاريرُ للتفاعل بين الذهن والعين47

المنزل الرابع للشكوكيّة53

الجدال في البديهيّات53

(4)

الفهرس 

مراحل المنزل الرابع للشكوكيّ53

المنزل الخامس للشكوكيّة58

ما وراء قضيّة البديهيّات59

المنزل السادس للشكوكيّة60

جرّة نوزيك60

معادلة حلقة الملازمة65

المنزل السابعة حول الشكوكيّة73

مشكلة الابتناء74

الفصل الثالث: العبور عن مراتب الشكوكيّة السبع75

العبور من المنزل الأوّل للشكوكيّة76

تدعيم أضلاع المعرفة الثلاثة77

الحكاية التصديقيّة ودورة المعرفة99

العبور من المنزل الثاني للشكوكيّة109

الدفاع عن حجيّة العقل109

العبور من المنزل الثالث للشكوكيّة119

العلاقة بين كيفيّة الوجود وقيمة المعرفة119

العبور من المنزل الرابع للشكوكيّة136

تدعيم المباديء والأسس المعرفيّة136

1. مرحلة التعريف (المرحلة الأولى)137

(5)

الفهرس

2. مرحلة الإثبات (المرحلة الثانية)187

3. مرحلة الصدق (المرحلة الثالثة)190

العبور من المرحلة الثالثة من المنزل الرابع للشكوكيّة190

4. مرحلة النفق (الجسر) (المرحلة الرابعة)201

العبور عن المرحلة الرابعة من المنزل الرابع للشكوكيّة201

5. مرحلة الوجدانيّات (المرحلة الخامسة)204

العبور من المرحلة الخامسة من المنزل الخامس للشكوكيّة204

6. مرحلة الأوّليات (المرحلة السادسة)207

العبور من المرحلة السادسة من المنزل الرابع للشكوكيّة208

7. المرحلة الشرطيّة (المرحلة السابعة)210

العبور من المرحلة السابعة من المنزل الرابع للشكوكيّة210

العبور من المنزل الخامس للشكوكيّة213

محاكمة حول ما وراء قضيّة البديهيّات213

العبور عن المنزل السادس للشكوكيّة218

العبور من المنزل السابع للشكوكيّة241

بيان نموذج الابتناء وكيفيّة تحويل النظري إلى بديهي241

القضيّة النظرية «واجب الوجود موجود»255

البرهان255

فهرس المصادر والمراجع 295

(6)

مقدمة المركز 

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى بحث  وتأصيل ونقد مفاهيم شكَّلت ولمّا تزل مرتكزاتٍ أساسيةً في فضاء التفكير المعاصر.

وسعيًا إلى تحقيق هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطةً شاملةً للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضورًا وتداولًا وتأثيرًا في العلوم الإنسانية؛ ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الاجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين، والاقتصاد، وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها بالآتي:

أولًا: الوعي بالمفاهيم وأهميّتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورةٍ للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرُّف على النظريات والمناهج التي تتشكّل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانيًا: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبًا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأنّ كثيرًا من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

(7)

ثالثًا: بيان حقيقة ما يؤدّيه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتّب على هذا التوظيف من آثارٍ سلبيةٍ بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرَّض لها المجتمعات العربية والإسلامية، وخصوصًا في الحقبة المعاصرة.

رابعًا: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعملٍ موسوعيٍ جديدٍ يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلًا عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى.

وانطلاقًا من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع، فقد حرص المركز على أن يشارك في إنجازه نخبةٌ من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكّرين من العالمين العربي والإسلامي.

* * *

يتناول هذا الكتاب مفهوم الشكوكيّة كمصطلح وهوية فلسفية، والمكانة التي حظي بها في الفلسفة الحديثة. كما يدرس مؤلِّفه «المعرفة» و«الشكوكيّة» على نحوٍ متقابلٍ، وتظهير  عنصر «الثبات» أو «عدم قابلية المعرفة للتشكيك» وهو أي (الثبات) من العناصر المقوّمة لـ «اليقين بالمعنى الأخصّ. إلى ذلك يعرض المؤلف إلى المدارس والتيارات الفلسفية الشكوكيّة القديمة والمعاصرة ولا سيما منها تلك التي أقامت نظامها المعرفي على قواعد الشك كمقدمات لتحصيل المعارف اليقينية.

 

 والله ولي التوفيق
(8)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

معالم الشكّ واليقين

(9)

معالم الشكّ واليقين

تمهيد:

يختصّ المبحث، الذي سنشرع به الآن وسيستمرّ معنا طيلة الفصول الثلاثة اللاحقة، بمعضلة الشكوكيّة، وفي هذا المبحث سندرس «المعرفة» و«الشكوكيّة» على نحوٍ متقابلٍ، وسنتناول خلال مسار البحث تثبيت عنصر «الثبات» أو «عدم قابلية المعرفة للتشكيك» وهو من العناصر المقوّمة لـ «اليقين بالمعنى الأخصّ»[1]؛ أمّا الآن فسنتعرّض في أوّل فصلٍ من هذا المبحث لرسم معالم الشكّ واليقين بنحوٍ موجزٍ.

الشكّ

يُشير «الشكّ» ومرادفاته وما يعادله في جميع اللغات إلى اضطرابٍ في الفهم وفي معرفة الواقع، فعندما نضع حقيقةً ما محلًّا للبحث ولا نتمكّن من الوصول إلى نتيجةٍ قطعيّةٍ حولها ونقع في التردّد والحيرة، فهنا نكون قد وقعنا في الشكّ.

أساسًا، يُمكن للتأمّل في مسألةٍ وقضيّةٍ ما أن يُؤدّيَ بنا إلى النتائج التالية:

1. الوهم (الاحتمال بنسبةٍ أقلَّ من 50 بالمائة).

2. الشكّ (الاحتمالان متساويان أيّ  50 بالمائة مقابل 50 بالمائة).

3. اليقين (الاحتمال يصل إلى نسبة مائةٍ بالمائة).

(10)

ولكن من الضروري التذكير هنا بهذه النقطة، وهي أنّه كما سيتّضح لاحقًا، قد استعمل «الشكّ المنطقي» الذي بينه وبين «اليقين المنطقي» تقابلٌ بالمعنى الأعمّ، وهو يشمل كافّة المصاديق غير اليقينيّة من المواقف الإدراكيّة، بل مع التدقيق أكثرَ يُمكن القول: إنّ «الشكّ المنطقي» ينطوي لُبّاً على «اليقين غير المنطقي» أيضًا؛ لأنَّ اليقين المنطقي أشمل من «اليقين النفسي»، فكلّ يقينٍ منطقيٍّ هو يقينٌ نفسيٌّ إلّا أنَّ عكس ذلك غيرُ صادقٍ، فـ «اليقين المنطقي» يمتلك قاعدةً ثابتةً بحيث لا يقبل التشكيك منطقيّاً وهو عين اليقين الذي بينه وبين الشكّ الفلسفي تقابلٌ.

اليقين

خلافًا للشكّ، نجد أنّ «اليقين» يُظهر حالةً من القطع والجزم في التصديق بالقضيّة.

إنّ اليقين إنّما يتحقّق عندما يخرج الشخص المُدرِك من حالة التردّد والتذبذب في ما يتعلّق بإيجاب القضيّة أو سلبها، وعندما يخرج من حالة الوهم والشكّ والظنّ ويصل إلى القطع والجزم أيضًا. هذا ولليقين أقسامٌ، فاليقين الذي بينه وبين «الشكّ المنطقي» تقابلٌ هو نفس «اليقين المنطقي» الذي خرج الشكّ من ساحته بنحوٍ منطقيٍّ.

أنحاء أو نماذج الشكّ

هناك أقسامٌ لـ «الشكّ» أو لـ «الشكوكيّة»[1]، وسوف نُشير إلى بعضها الآن:

(11)

1. الشكّ المنطقي: هذا النوع من الشكّ هو شكٌّ قائمٌ على أساس المنطق والعقل؛ أيّ هو شكٌ مبنيٌّ على التأمل والدقّة في مسألةٍ ما؛ لا أنّه مبنيٌّ صرفًا على أساس الاضطراب الفكري الناجم عن تخيل قوّة الخيال أو تمرّد القوّة الواهمة عن قبول أوامر العقل، فإذًا «الشكّ المنطقي» هو عبارةٌ عن شكٍّ ذي جذورٍ وأسسٍ، وهو أعمُّ من «الشكّ الاستدلالي» الذي سيأتي بحثه لاحقًا.

2. الشكّ الوهمي: المراد من «الشكّ الوهمي» هو ذلك الشكّ الذي يكون متقابلًا مع «الشكّ المنطقي»، ويُمكن وسم هذا النوع من الشكّ بـ «الشكّ النفسي الإدراكيّ»[1]. وإنّما يفترق «الشكّ الوهمي» عن «الشكّ المنطقي» من جهة أنّه في الحقيقة استبعادٌ ناجمٌ عن عدم الدقّة في المسألة أو من عدم التحمّل واضطراب القوّة الواهمة عن قبول ما فهمه العقل وأدركه، فإذًا الشكّ الوهمي لا ينشأ عن العقل والمنطق.

3. الشكّ الاستدلالي: «الشكّ الاستدلالي» هو ذلك النوع من الشكّ المقترن بالاستدلال والبرهان، فالشكّاك الاستدلالي لا يكتفي بإبراز مُدّعاه بل يدعم كلامه بالأدلّة.[2]

4. الشكّ المزاجي: «الشكّ المزاجي» أو «الشكّ المبني على «أنا هكذا»»، وهو يقابل بشكلٍ مباشرٍ «الشكّ الاستدلالي»، فالشكّاك المزاجي لا يستدلّ على مُدّعاه، أي لا يستدلّ على شكوكيّته، بل يكتفي ببيان أنّه بشخصه على نحوٍ يرى بأنَّ الأمور، التي يعتبرها الآخرون يقينيّةً، ليست يقينيّةً بالنسبة له، إنّه يدّعي بأنَّ أغلب الناس

(12)

«يقتنعون بسهولةٍ»[1] وأنّهم «سُذَّج»[2] ويقنعون بأدلّةٍ ضعيفةٍ، أما هو فليس كذلك، وبالطبع هذه ليست إلّا عجرفةً يُبديها هو ولا يدعمها بالأدلّة، ومن هذا المنطلق يُمكن اعتبار هذا النحو نوعًا من «الوسواس الفكري»[3] إلّا أن يُقرَّ المُستدلّ بأنَّه لن يستمرّ كـ «شكّاكٍ مزاجيٍّ».[4]

5. الشكّ المطلق: «الشكّ المطلق» أو «الشكّ الإفراطي» هو ذلك النوع من الشكوكيّة الذي لا يعرف حدّاً ولا قيدًا، فيُشكّك بكلّ شيءٍ، وهذا النوع من الشكّ هو الشكّ الإفراطي بعينه والذي لا يُمكن الإشارة إليه على أمد تاريخ الفكر إلّا بنحوٍ نادرٍ، ولكن بعض مؤرخي الفلسفة يعتبرون أحيانًا بأنَّ «بيرون»[5] لديه هذا النوع من الشكوكيّة، وأنّه كان وفيًّا لمقتضى شكوكيّته بصورةٍ تامّةٍ، وكان يُحجم عن الكلام ولم يكن ليتجنّب أيَّ حيوانٍ مفترسٍ أو بئرٍ أو حُفرةٍ؛[6] لأنَّه إن فعل ذلك فسوف يتمكّن زملاؤه من إلزامه بقبول قضيّة «أنا موجودٌ» كحدٍّ أدنى.

6. الشكّ النسبي: «الشكّ النسبي» هو الشكّ الذي يخرج عن حدّ الإفراط، فبحدٍّ أدنى يُقرّ بوجود قضايا تعتبر قضايا يقينيّةً، وعادةً الشكوكيّة هي شكوكيّةٌ نسبيّةٌ؛ لأنَّ الشكوكيّة المطلقة نادرةٌ أو مستبعدةٌ وحتّى أنّها تنقض نفسها بنفسها؛ إلّا أن يفعلوا كـ «بيرون» حيث أغلق فمه عن الكلام؛ لأنَّه إن قُلنا: «كلّ شيءٍ

(13)

مشكوكٌ» فإمّا أن تكون هذه القضيّة يقينيّةٌ وإمّا أن تكون غير يقينيّةٍ، فإن كانت غيرَ يقينيّةٍ، ففي هذه الحالة يسقط ادّعاء «الشكّ المُطلق» وإن كانت يقينيّةً يسقط أيضًا «الشكّ المطلق».[1]

7. الشكّ المناطقي[2]: «الشكّ المناطقي» هو الشكّ الذي يقع ضمن إطارٍ معيّنٍ من المعارف الخاصّة، مثل الشكوكيّة في إطار «الأخلاق» و«الدين» و«المستقبل»، فهناك أفرادٌ لا يشكّون في كلِّ شيءٍ، ولكن إذا وصل الدور إلى المسائل الأخلاقيّة ولم يتمكّن من توضيح المباني الأخلاقيّة تجده يقع في الشكّ والحيرة، أو يقع في الاضطراب حول القضايا الدينيّة أو يقع في الشكّ حول ما سيحصل في الغد؛ أيّ العلم بما في المستقبل، وكلّها مصاديقُ لـ «الشكوكيّة المناطقيّة»، ويعتقد «دانسي»[3] بأنّه إن لم يتمّ ضبط هذا النوع من الشكوكيّة فسوف يتحوّل إلى شكٍّ ما بعد مناطقي.[4]

8. الشكّ ما بعد المناطقي[5]: الشكّ ما بعد المناطقي، هو شكٌّ يقع مباشرةً مقابل الشكّ المناطقي، وهذا النوع من الشكوكيّة غيرُ محصورٍ ضمن إطارٍ خاصٍّ من قبيل «الأخلاق» و«الدين» و «المستقبل»، بل يجد طريقه إلى مواطنَ أخرى.[6] ويُستفاد من بعض الكتب المتعلّقة بنظريّة المعرفة بأنَّ «الشكّ ما بعد المناطقي» يُمكن أن يكون مصداقًا لـ «الشكّ النسبي» وهو

(14)

يختلف عن «الشكّ المطلق» وبعبارةٍ أخرى: ليس كلّ «شكٍّ ما بعد مناطقي» هو شكٌّ مطلقٌ، ولكن «الشكّ المطلق» مُصداقٌ لـ«الشكّ ما بعد المناطقي» الذي يشمل تحته كلّ مجالات المعرفة ويُمكن القول اصطلاحًا بأنَّه «شكٌّ ما بعد بعد مناطقي».[1]

9. الشكّ القانوني: هذا النوع من الشكّ الذي يُسمّى أحيانًا «الشكّ المنهجي» هو نفس الشكّ الذي اشتهر بـ «الشكّ الديكارتي»، فقد يقع الشكّاك المنهجي أحيانًا في وادي الشكّ ليُعمّق يقينه، ولذا فإنَّ الشكّ المنهجي هو شكٌّ يهدف إلى تعميق اليقين، فـ «ديكارت» انتهج الشكّ ليحصل على اليقين ليكون مصونًا من تشكيك الشكوكيّين، وقد بيَّن تفاصيل أحداث شكّه في رسالته «مقالٌ عن المنهج»[2] وكتابه «التأملات»[3] بشكلٍ مُسهبٍ.

والمسألة التي يجب الالتفات إليها هنا هي أنَّ «الشكّ القانوني» هو في الواقع شكُّ كلّ محقّقٍ وعالمٍ، فالعالم هو الذي يُحقّق في مسألةٍ ما، وينظر في أبعاد المسألة وجوانبها ثمَّ يحكم بها. دعونا نُدقّقْ في العبارة التالية التي تتحدّث عن هذا الأمر:

الشكّ القانوني... يطرأ على كلّ عالمٍ مُحقّقٍ يمشي في سبيل التحقيق والبحث في المطالب العلميّة بهدف أن يجد ضالته مستفيدًا من نور البرهان وساطع الاستدلال فيخرج من بين

(15)

الشكوك والاعتراضات والتردّد، وهذا الأمر غريزيٌّ وجِبِلِّيٌّ في كلّ البشر، وتحصُل هذه الحالة لكلّ من استيقظ من غفلته ولديه رأسُ مالٍ في اكتساب المعرفة، وهذه الحالة هي شرطٌ ومنهجٌ ووسيلةٌ لتحصيل الحقيقة، إلّا أنَّ ديكارت دونَّ الأمر وبيّنه وإلّا لقال غيره ما يقوله، غير أنَّه بيَّنَ الأمر بوضوحٍ والأخرون أخفوه أو عبروا عنه ببياناتٍ مشابهةٍ، فالإنسان الذي يصل إليه أمرٌ ما ويُفكّر به ثمَّ يقبل به أو يرفضه من النظرة الأولى فهو وفق قول الشيخ الرئيس منسلخٌ عن الفطرة الإنسانيّة. وخلاصة القول أنَّ الشكّ المذكور هو منهجُ كلّ طالبِ علمٍ وهو مصلحةُ كلّ محقّقٍ، إلا أنّ الشكّ يصبح إفراطًا في بعض الموارد بسبب غموض القضايا أو بسبب خصوصيّة في حالة الأشخاص[1].

10. الشكّ الهَوَسي: من الضروريّ هنا الإشارة إلى أحد أنواع الشكّ، على  الرغم من أنّه من الناحية المنطقيّة لا يُعتبر «شكّاً فلسفيّاً»، ولكن أحيانًا نجد أنّ فيلسوفًا أو بعض الفلاسفة مالوا واتّجهوا نحو هذا المنهج. وخلافًا للشكّ القانوني يمنع هذا النوع من الشكّ من الوصول إلى الحقيقة، و«الشكّ الهوسي» هو في الواقع ذلك النوع من الشكّ الذي لا يقوم على أساس «الرغبة بطلب الحقيقة» أو «البحث عن الحقيقة»، بل هو ناشئٌ من «الرغبة» و«هوى النفس» بل يخوضه بهدف «الجموح» و«اللا مبالاة»، ونحن نقرأ في القرآن المجيد قوله عزّ وجلّ: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَه) [2] وطبعًا من الواضح أن الفلاسفة وطالبي المعرفة

(16)

الباحثين عن الحقّ، يبحثون عن «الحقّ» ويتجنّبون «الشكّ الهوسي» في تفكيرهم وتفكّرهم.

ويعتقد ديكارت بأنّ قصور الإنسان عن المعرفة ينشأ أحيانًا عن هوى النفس وكلّ من يترك لنفسه العنان ويترك الأمر للهوى يُحرم من معرفة الحقيقة المطابقة للواقع[1].

أنواع اليقين

لليقين أنواعٌ، وسنُشير إلى نموذجين منها:

أ. اليقين المنطقي: كما أشرنا سابقًا، فإنَّ «اليقين المنطقي» هو يقينٌ بُنِيَ على أساسٍ محكمٍ، ولا يُمكن التشكيك به منطقيّاً، إذ اليقين المنطقي هو جزمٌ قاطعٌ مائة بالمائة بقضيّة ما، وهو يقينٌ متجذرٌ ومبنيٌّ على أساسٍ متينٍ، وهذا النوع من اليقين عبارةٌ عن جزمٍ متجذّرٍ بثبوت المحمول للموضوع أو بثبوت التالي للمُقدَّم، وبما أنَّ هذا الجزم هو جزمٌ مُتجذّرٌ لذا فهو يقترن مع «امتناع سلب المحمول عن الموضوع» أيضًا إمّا بالقوّة أو بالفعل أيضًا.

ب. اليقين النفسي: يقع في مقابل اليقين المنطقي، اليقينُ النفسي، واليقين النفسي ـ من زاويةٍ ما ـ أعمّ من اليقين المنطقي واليقين غير المنطقي؛ لأنَّ اليقين المنطقي الذي ينبني على أسسٍ منطقيّةٍ يُعدّ مِصداقًا لليقين النفسي، ولكنّ «اليقين النفسي» والذي يقع مقابل «اليقين المنطقي» يفيد وجه تباعدهما عن بعضهما البعض.

يتحدّث ديكارت عن نوعين من اليقين: 1. اليقين الميتافيزيقي.[2] 2.

(17)

اليقين الأخلاقي.[1] وبناءً لوجهة نظر ديكارت، اليقين الميتافيزيقي هو ذلك النوع من اليقين حيث لا يوجد أدنى نوعٍ من الشكّ فيه، على خلاف اليقين الأخلاقي فهو ليس محكمًا بإحكام اليقين الميتافيزيقي، وهو فقط من أجل تسيير مُجريات الحياة العاديّة.

ويُقسّم فيتغنشتاين اليقين كذلك إلى قسمين: 1. اليقين الذهني.[2] 2. اليقين العيني.[3] وما سماه ديكارت «اليقين الميتافيزيقي» أسماه فيتغنشتاين «اليقين العيني»؛ طبعًا مع مراعاة هذا الفرق، وهو أنَّ ديكارت في كتاب الأصول (الأصل 206) صرّح بأنَّ اليقين الذي من المُيسّر تحصيله لا ينحصر بالـ «اليقين الأخلاقي»، إلّا أنَّ فيتغنشتاين لا يعتبر الحصول على «اليقين العيني» أمرًا مُيسّرًا.[4]

ويُقسّم تشيشولم[5] اليقين إلى قسمين: 1. اليقين النفسي 2. اليقين المعرفي. وكذلك يُقسّم اليقين المعرفي إلى يقينٍ سابقٍ ويقينٍ لاحقٍ، ويُؤكّد على هذه المسألة، وهي أنّ اليقين السابق مرتبطُ بالقضايا الضروريّة التي يعتبرها أرسطو من الأصول الموضوعة[6] ويرى بأنّ الصدق درجةٌ لم يُعرف شيءٌ أفضلُ منها؛ واليقين اللاحق ما ارتبط بالقضايا الحسيّة.[7]

(18)

وقد تحدّث آية الله الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر عن اليقين بشكلٍ مسهَبٍ في كتابه الأسّس المنطقيّة للاستقراء، فقسّم اليقين إلى ثلاثة أقسام:

1. اليقين المنطقي: إنّ اليقين المنطقي هو نفس اليقين الذي يقصده البرهان الأرسطي في المبادئ والمقدّمات، واليقين المنطقي مُركَّبٌ من عِلمين، وما لم ينضمَّ العلم الثاني إلى العِلم الأوّل لا يحصل هذا النوع من اليقين، والمراد من «اليقين المنطقي» العلم بقضيّةٍ معيَّنةٍ مع علمنا بأنّه من المستحيل ألّا تكون القضيّة بالشكل الذي علمناها به.

2. اليقين الذاتي: المراد من اليقين الذاتي، هو الجانب النفسي من اليقين، مع صرف النظر عمّا إذا ما كانت تقتضيه «المُجَوِّزات الواقعيّة» أم لا.

3. اليقين الموضوعي: «اليقين الموضوعي»: هو ذلك اليقين الذي تقتضيه «المجوزات الواقعيّة».

النسبة بين اليقين الذاتي واليقين الموضوعي: إنّ اليقين الذاتي يختلف عن اليقين الموضوعي بحيث يمكن القول: إنّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجهٍ. ومورد اجتماع اليقين الذاتي واليقين الموضوعي هو في الموطن الذي يحصل فيه اليقين داخل نفس الإنسان مع كون ذلك اليقين من مقتضيات «المجوزات الواقعيّة»، وهذا النوع من اليقين هو مصداقٌ لليقين الذاتي لا لليقين الموضوعي.

ومن ناحيةٍ أخرى: يُمكن أحيانًا لـ «المجوّزات الحقيقيّة» أن تقتضي اليقين، ولكن بسبب الشروط الروحيّة الخاصّة للفرد أو الأفراد لا يحصل

(19)

لهم اليقين، وهنا يُصبح «اليقين الموضوعي» مفروضًا بسبب وجود المجوزات الواقعيّة، دون أن يتحقّق «اليقين الذاتي»[1].

وهكذا يصبح جليًّا أنَّ «اليقين» أقسامٌ، ولكن يجب على نظرية المعرفة أن تبذل جهدها بهدف تحصيل «اليقين المنطقي» وهو عين اليقين الذي يستطيع تأمين عنصر المعرفة التصديقيّة بالمعنى الأخصّ الذي لا يقبل الشكّ.

أدوار ومراحل الشكوكيّة

سنُلقي هنا النظر على المراحل التي مرّت على الشكوكيّة، ومن بعد ذلك سنُلقي نظرةً على «الشكوكيّة المعاصرة»:

أولاً: الشكوكيّة القديمة[2]: للشكوكيّة القديمة مظاهرُ مختلفةٌ سنُشير إلى بعض النماذج البارزة منها في ما يلي:

1. شرارة الشكوكيّة: لقد عاش هراكليتوس[3] الفيلسوف اليوناني قبل ولادة المسيح عليه‌السلام بخمسمائة سنةٍ تقريبًا، ويُطلقون عليه «الفيلسوف الباكي»، وكان يعتقد بأنَّ كلّ شيءٍ في حال تبدُّلٍ وتغيُّرٍ، فـ «لا يُمكن للرجل أن يسبح في النهر مرتين أبدًا»، ومن هنا اُستُنتجت هذه النتيجة التشكيكيّة من كلامه، وهي أنّه إذا كان كلُّ شيءٍ في حال تغيُّرٍ وتبدّلٍ فلن نستطيع الحصول على «المعرفة».[4] وتوصل كراتيلوس[5] عقبه

(20)

إلى هذه النتيجة وهي «لا يمكن السير في  النهر نفسِه مرتين لأننّا والنهرَ في حالة تغيُّرٍ»[1]، وقد قاد هذا الكلام إلى «الشكوكيّة الأعم».[2] وفي تلك الأثناء بيّن كسينوفون[3] بأنّنا «لا نملك معيارًا صادقًا للمعرفة، فإنْ وصلنا إلى الحقيقة مصادفةً، فلن نستطيع تمييزها عن الخطأ»[4].

2. ظهور السفسطائية:[5] عند النظر في تاريخ الفكر اليوناني سنصادف بعض الوجوه الذين اشتهروا باسم «السفسطائيّ»، وتعني هذه الكلمة الحكيم والعالم، ولكن كما دَوّن العديد من المؤرخين فإنَّ سيرهم لا يتناسب مع هذا الاسم؛ لأنَّهم عمليًّا وضعوا الجدل والسفسطة شعارًا لهم وألبسوا الباطل ثوب الحقّ وألبسوا الحقّ ثوب الباطل، وهكذا فإن كانت هذه النسبةُ صحيحةً في الجملة، ولكن بحدٍّ أدنى يُمكن أن يُطلق على البعض «سفسطائيًّ» أكثرَ من كونه «حكيمًا» و«عالمًا»، وقد اعتُبر هذا الأمر سببًا لإطلاق سقراط اسم «فيلسوف» على نفسه تعريضًا بهم؛ لأنّ كلمة فيلسوف تعني «محبّ الحكمة».[6] وقد عرّف آريستوفان في مسرحية «السحب» (البيت 331) السفسطائيّين بأنّهم «علماء كاذبون» و«ذوو شعرٍ طويلٍ هو شعر الكسالى» وبأنّهم «شعراء الغزل» و...،[7] ولكن منذ

(21)

سنة 1930 ميلادي وصاعدًا تصدّى البعض في الغرب من أجل الدفاع عنهم، وتعرّضوا لانتقاد أفلاطون في تحقيره لهم،[1] وعلى كلّ حالٍ، فإنَّ البحث في صحّة هذه القضيّة التاريخيّة وسقمها يتطلّب دراسةً مستقلّةً.

كما ذكروا فإنَّ السفسطائيّين يختلفون عن الشكوكيّين من حيث الشخصيّة، وأمّا أوجه الاختلاف فهي كالتالي:

ـ الشكوكيّون كانوا فلاسفةً أمّا السفسطائيّون فقد كانوا مَكَرةً، يسعون خلف منفعتهم، ويستغلون جهل الآخرين وسهولة إقناعهم.

ـ وجهات نظر السفسطائيّين بدائيّةٌ ومُتسرّعةٌ مقارنةً بنظريّات الشكوكيّين.

ـ احتجاجات السفسطائيّين إذا ما قورنت بالشكوكيّين فهي تفتقر إلى النَّظْم وإلى المنهج.

ـ احتجاجات السفسطائيّين مقارنةً باحتجاجات الشكوكيّين لا تتمتّع بالمتانة.

ـ يَستعمل السفسطائيّون الشكّ والتردّد وسيلةً للوصول إلى مطامعهم السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، خلافًا للشكوكيّين الذين زهدوا في الدنيا، وبسبب نظرهم الثاقب عاشوا كرجالٍ حكماءَ.[2]

الوجوه البارزة من السفسطائيين: هناك شخصيّاتٌ بارزةٌ عاشت في اليونان، واشتهرت بـ «السفسطة»، ومن هذه الوجوه البارزة:

(22)

ـ بروتاغوراس [1]

ـ غورغياس [2]

ـ بروديكوس [3]

ـ هيبياس [4]

ـ انتيفون[5]

ـ تراسيماخوس [6]

ـ كريتياس[7]

ـ آلسيداماس[8]

ـ آنونيموس[9]

ـ آنتيستنس[10]

ـ ليكوفرون[11]

(23)

ويعتبر هؤلاء من الوجوه البارزة والمشهورة في اليونان القديمة واشتهروا بـ «السفسطائيّين»[1]، بحيث إنّ أفلاطون خصّص بعض نماذج رسائله وحواراته بهم فأسماها بأسمائهم، ولكن برزت هناك شخصيّتان أكثر من البقيّة وهما پروتاغوراس وغورغياس، وقد طرح هذان الشخصان خطاباتٍ تُشير إلى الشكّ في إمكانيّة الوصول إلى المعرفة، ولهذا كانا مؤثّرين في ترويج التشكيك، ولولا مساعي سقراط وأفلاطون وأرسطو في تثبيت المعرفة وتدعيمها، لأصبح بناءُ الفكر بلا أساسٍ، يقول غورغياس:

لا شيء موجودٌ، وإذا كان هناك شيءٌ موجودٌ، فإننّا عاجزون عن إدراكه، وإذا فرضنا أنَّه من الممكن إدراكه، فإننّا لا نستطيع أن نُفهمه للآخرين.[2]

وبوجهات النظر هذه بُنيت الـ «النسبيّة»[3] وكتب أفلاطون حول قول بروتاغوراس: إنّ هذا الكلام يجعل «المعرفة الصادقة مطلقًا»[4] تحت السؤال والتشكيك؛ لأنَّ الحقيقة سوف تتعدّد في هذه الحالة بعدد الأفراد،[5] وبالطبع هناك العديد من التفاسير لمراد بروتاغوراس من لفظة «الإنسان»، مثلًا هل مُراده من «الإنسان» فردُ الإنسان أم نوع الإنسان و... وبالطبع لا مجال الآن للتعرّض لهذا الأمر بالبحث.

3. الشكوكيّة الأكاديميّة[6]: تقريبًا قبل 300 سنة من ولادة المسيح

(24)

عليه‌السلام  تمّ تأسيسُ نوعٍ من الشكوكيّة عُرِفت لاحقًا بـ «الشكوكييّة الأكاديميّة»، وذلك بواسطة أتباع سقراط وأفلاطون وبالاستناد إلى رسالةٍ من رسائل أفلاطون اسمها الدفاع[1]، وهي رسالةٌ تتضمّن الدفاع الذي قدّمه سقراط أمام محكمة أثينا، والمُؤسّس لهذا النوع من الشكوكيّة هو شخصٌ اسمه أركسيلاوس[2]، والذي بنى شكوكيته على خطاب سقراط في رسالته الدفاع، قال: إنّ سقراط يقول: «أنا إنّما أعلمُ شيئًا وهو أنّي لا أعلم»، ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار «الشكوكيّة الأكاديميّة» وليدة رسالة الدفاع، ويعتقد الشكوكيّون الأكاديميّون بعدم وجود معيارٍ واضحٍ للتمييز بين «الإدراك المعتبر»[3] و«الإدراك الخاطئ»[4]، فإذًا يدُنا قاصرةٌ عن «المعرفة»، وعملنا منحصرٌ فقط بالـ «التصديق الصادق المحتمل».[5]

4. الشكوكيّة البيرونيّة[6]: سُمّي هذا النوع من الشكوكيّة باسم الشكّاك المشهور القديم بيرون[7]، وقد عاش سنة 300 قبل ميلاد المسيح عليه‌السلام  ، وأسّس لشكوكيّة عامّةٍ تامّةٍ، ثمَّ قام بنشرها أفرادٌ آخرون، ويُنكر الشكوكيّون البيرونيّون «المعرفة» مطلقًا، وحتّى أنّهم لا يقبلون بما قاله الشكوكيّون الأكاديميّون أيَّ «إنّنا نعلم أننّا لا نعلم»، ولهذا توجّه الشكوكيّون البيرونيّون نحو نقد «الجزم» وكذلك نحو نقد «الشكوكيّة

(25)

النسبيّة» وانغمسوا في الشكوكيّة المُطلقة الإفراطيّة[1] وكما ذكرنا سابقًا، التزم بيرون بشكوكيّته بصورةٍ عمليّةٍ ولم يكن يفتح فمه بالكلام ولم يكن ليتجنّب أيَّ حيوانٍ مُفترسٍ أو بئرٍ أو حُفرةٍ، وكان مُريدوه هم الذين يُجنبّونه هذه المهالك!

سكستوس أو محيي الشكوكيّة البيرونيّة: في القرن الثاني بعد ميلاد المسيح عليه‌السلام انبرى شخصٌ اسمه سكستوس إمبيريكوس[2] لإحياء الشكوكيّة البيرونيّة، فدوّن التعاليم البيرونيّة، وكان يقول: «الشكوكيّة البيرونيّة» مثل «مليّن المعدة»[3] الذي بواسطته يُدفع كلّ شيءٍ، ما يعني أنّه لا يجب تلقي التعاليم البيرونيّة على أنَّها أمورٌ يقينيّةٌ، بل هي أمورٌ تضمحل فيها كلُّ الأمور الأخرى وفقط،[4] وقد دوّن سكستوس التعاليم البيرونيّة في كتابٍ بعنوان كليّات الشكوكيّة البيرونيّة[5] والذي يُعرف اليوم باسم طريق الشكوكيّة[6]، وهو يقيم في هذا الكتاب «عشرة أدلةٍ» على الشكوكيّة.[7]

(26)

ثانياً: الشكوكيّة الحديثة[1]: سنبحث هنا الشكوكيّة الحديثة في مظاهرها الثلاثة:

1. شكوكيّة مونتني: اتّجهت الشكوكيّة القديمة رويدًا رويدًا نحو الأفول إلى أن عاودت الظهور مجدّدًا في القرن الخامس عشر الميلادي في عصر النهضة، حيث جددّ حياتها الفيلسوف الفرنسي المشهور مونتني[2] وبرغبةٍ مبالغٍ فيها بهدف الدفاع عن الكنيسة ودين المسيح عليه‌السلام ، وقد عاش مونتني إبان الفترة التي بدأت بها «الحركة الإصلاحيّة»[3] بهدف رفع يد الكنيسة عن حصر شرح الكتاب المقدس بها.

وكان كالفين[4] وأتباعه قادة هذا التيّار، فكانوا يقولون: إنّنا نمتلك «الفهم» فإذًا يُمكننا بمفردنا وبدون الكنيسة أن نفهم الكتب المقدّسة وأن نعمل بها، هنا انتفض مونتني على غطرستهم وعمد إلى إحياء «الشكوكيّة القديمة» وبالخصوص «الشكوكيّة البيرونيّة» حتّى أسقط «الفهم البشريّ» عن أصالته، فأعادهم مجدداً إلى التواضع، وقد نُشرت تعاليمه ضمن سلسلة مقالاتٍ، وقد وصلت «الشكوكيّة البيرونيّة» إلى ذروتها من خلال الاستعانة بكتابات سكيستوس،[5] وقد نُقش على جدار غرفته «الأمر المُتقّين هو أنّه لا شيءَ يقينيًّا»، «دائمًا أصدُر حكمًا معلّقًا» وكان الذِكر الذي يُجريه على لسانه: «ماذا أعلم؟ »[6]، وقد اصطبغت «شكوكيّة مونتني» بصبغةٍ

(27)

أخلاقيّةٍ،[1] ومن هذا المنطلق فهي قد لامست «النسبيّة الأخلاقيّة»، وكان لشكوكيّة مونتني بالغ الأثر على ديكارت وباسكال ومالبرانش وآخرين،[2] ولهذا فهو «أبو الشكوكيّة المعاصرة» وكان له تأثيرٌ بنحوٍ أو آخرَ على مجريات الشكوكيّة اللاحقة وحتّى في نشوء المدارس الفلسفيّة، من قبيل «التجريبيّة»، طبعًا وفق هذا التحليل، وهو أنّه على سبيل المثال: خاض لوك في التجريبيّة ليتمكن من خلال هذا الأسلوب الإجابة على شكوكيّة مونتني.[3]

2. الشكوكيّة الديكارتيّة: كان ديكارت يعيش في القرن السادس عشر ميلادي في فضاءٍ ملأته «شكوكيّة مونتني»، فانطلق ديكارت من ذلك الجوّ الفكريّ ليبني مُجدّدًا البناء المعرفي الذي تضرّر إثر تشكيكات مونتني، ليُرممها ويمهد الطريق لـ «اليقين الصادق»، ومن هنا، شرع بـ «الشكّ المنهجي» ثمَّ توصّل إلى قاعدة «أنا أفكر إذًا أنا موجودٌ»، وعقب ذلك تناول مسائلَ أخرى أشرنا إلى بعضها في الفصول السابقة، وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ مواجهة ديكارت للشكوكيّة لم تتمكّن من إخماد نارها، بل استمرّ هذا التيّار على ما كان عليه.[4]

3. الشكوكيّة الهيوميّة: في القرن الثامن عشر الميلادي، كان ديفيد هيوم[5] مازال مُنْكَبّاً على مسألة الشكوكيّة، ولهذا دوّن كتابه المشهور باسم رسالة في الطبيعة البشريّة وبيّن بعض المسائل في هذا الخصوص، وقد مال هيوم طوال تاريخ فكره إلى نوعين من الشكوكيّة:

(28)

أ. الشكوكيّة التامّة.[1]

ب. الشكوكيّة المحدودة.[2]

فحيثما تحدّث حول كافّة الاعتقادات والتصديقات، كان يُجرّب الشكوكيّة التامّة، ولكن حيثما وضع «العلم التجريبي» في مقابل «الميتافيزيقيا» و«علم الكلام»، فإنّه كان ذا توجّهٍ إيجابيٍّ يلزم منه الشكوكيّة في الأمور ما وراء الحسّ.[3]

وكلام هيوم حول «أصل العليّة» ومناقشاته لـ«فرضيّة وحدة عمل الطبيعة»[4] لم تطرح التجريبيّة جانبًا فقط بل ألحقت الضرر أيضًا بالعلم بالمستقبل في ما يتعلّق بالطبيعة.[5]

ثالثاً: الشكوكيّة المعاصرة[6]

إنّ الشكوكيّة المعاصرة في الغرب هي وليدة الأزمات التي مرّت على الشكوكيّة الجديدة، وكان أثر كانط بعد شكوكيّة هيوم مثل أثر ديكارت بعد شكوكيّة مونتني، مع فارق أنَّ كانط توصّل إلى إجابةٍ كانت نتيجتُها انسدادَ باب العلم حول ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا)، ومع التحليلات التي طرحها حول مفاهيم العليّة والوجود، نثر الغبار على روّاد الواقعيّة الكلاسيكيّة، فإذًا في الواقع، عاشت الشكوكيّة المعاصرة في مثل هذه الأجواء، ونحن لا يسعنا المجال

(29)

هنا لأنْ نتناول الشكوكيّة المعاصرة بالتفصيل، ولذلك سنكتفي بالإشارة فقط إلى أننّا نُقسّم الشكوكيّين إلى ثلاثة أقسام:

1. الشكوكيّون الذين هاجموا «التصديق الصادق المُبرّر».

2. الشكوكيّون الذين هاجموا «التصديق المُبرّر».

3. الشكوكيّون الذين هاجموا «التصديق» و «الفهم»[1].

فإذًا الشكوكيّة المعاصرة هي في وضعٍ جرّبت معه المراحل الثلاث هذه، خلافًا للشكوكيّة السابقة التي نظرت غالبًا إلى «التصديق الصادق المُبرّر»، وهذه النقطة تستحقّ الاهتمام، إذ يُمكن اعتبارها «الفارق الأساسي» بين الشكوكيّة القديمة والشكوكيّة المُعاصرة كما سيتمّ بيانه في الفصل القادم في «المنزل السادس من الشكوكيّة»، وبالطبع فإنَّ الشكوكيّة المعاصرة اقترضت تعاليمها من الشكوكيّة السابقة، ولكنّنا سنعرض تلك التعاليم بتقاريرَ مختلفةٍ متناسبةٍ مع العصر، أمّا الآن فسوف نُشير إلى نماذجَ من الكُتَّاب الذين دوّنوا وألَّفوا في هذا الباب بنحوٍ علميٍّ:

ـ سترود[2] مؤلّف كتاب مفاد شكاكيت فلسفى [= مفاد الشكوكيّة الفلسفيّة][3].

ـ ويليامز[4] مدوّن كتاب شك هاى غير طبيعى [= الشكوك غير الطبيعيّة][5].

(30)

ـ آنغر،[1] مؤلّف كتاب جهالت [= الجهل][2].

ـ فوجيلين،[3] مدون كتاب پرتوهاى شكاكيت پيرونى بر معرفت وتوجيه [= انعكاس الشكوكيّة البيرونيّة على المعرفة والتبرير][4].

ـ نوزيك،[5] مؤلّف كتاب تبينات فلسفى [= التفسيرات الفلسفيّة][6].

وهذه نماذجُ من مؤلّفاتٍ تمّ إيراد الشكوكيّة المعاصرة فيها بتقاريرَ مختلفةٍ.

وكان هذا بيانًا موجزًا لمسار الشكوكيّة منذ الحقبة القديمة إلى الآن حيث يمكن لنا أن نتعرّف في ظلّها على موقعيّة الشكوكيّة، ومن الآن فصاعدًا سنقوم بتجهيز الجواب والتحقيق في الإجابات مع معرفةٍ واطّلاعٍ أكبرَ.

الطعون أو براهين الشكوكيّة

سنُشير هنا إلى بعض نماذج أدلّة الشكوكيين التي أقاموها لنفي المعرفة، وصنعوا على أساسها الحججّ والذرائع للشكوكيّة.

(31)

وكما أشرنا سابقًا، فإنَّ سكيستوس استدلّ بعشرة أدلّةٍ أو«طعونٍ»[1]لرفض المعرفة، وبالطبع هو كان قد أخذ هذه الأدلّة نوعًا ما من انزيدموس كنوسوسي (سنة 43 ق.م تقريبًا).

والآن سنُقرّر هذه الأدلّة أو الطعون بالاستعانة بخلاصة کوبلستون:

1. الفروق الموجودة بين أصناف الموجودات الحيّة تستلزم اختلاف علمهم بالشيء الواحد.

2. الفرق بين البشر أيضًا يؤدّي إلى اختلاف العلوم.

3. إنَّ مقتضى الحواس المتنوّعة، اختلاف الإدراك، (افرض فاكهةً تكون ذات رائحةٍ كريهةٍ بالنسبة لحاسة الشمّ، ولكنها ذات طعمٍ حلوٍ بالنسبة لحاسة التذوّق).

4. إنَّ تنوع الحالات بين اليقظة والنوم، الشباب والهرَم يُؤدّي إلى اختلاف الإدراك، فعلى سبيل المثال: إنَّ التيّار الهوائي الشديد يُعتبر بالنسبة للشابّ نسيمًا عليلًا، وأمّا بالنسبة للعجوز فيبدو أمرًا مزعجًا جدًّا.

5. إختلاف المشاهد الطبيعيّة وانعكاسها، فعلى سبيل المثال: قطعة خشب في الماء تبدو مكسورةً، والبرج المربع يبدو أسطواني الشكل من بعيدٍ.

6. لا يُمكن إدراك الأشياء بنحوٍ خالصٍ، بل لا بدّ من وجود وسيطٍ كالهواء مثلًا.

7. الاختلاف في الإدراك ناجمٌ عن الاختلاف في كيفيّة الإدراك، مثلًا:

(32)

تبدو حبة الرمل قاسيةً في النظر، بينما تبدو ناعمةً في اليد.

8. بصورةٍ عامّةٍ النسبيّة هي الحاكمة على الإدراك.

9. اختلاف التأثّر ناجمٌ عن ندرة أو كثرة الإدراك، فمثلًا الشهاب المُذنّب الذي يُشاهد أحيانًا يترك تأثيرًا أكبر من الشمس.

10. إنَّ الاختلاف والتفاوت في أسلوب الحياة وتنوّع القواعد الأخلاقيّة والضوابط الاجتماعيّة والأنظمة الفلسفيّة وغيرهما يوجب الاختلاف في الإدراك.

ومن ثمّ قام آغريبا[1] بإنقاص هذه الأدلّة أو الطعنات العشرة إلى خمسٍ، وهي كالتالي:

1. اختلاف الآراء حول الشيء الواحد.

2. إثباتُ أيِّ شيءٍ مبنيٌّ على لا نهائيّة الاحتمالات.

3. اختلاف ظهور الأشياء للأفراد يعود إلى اختلاف أحوالهم.

4. قبول الفرضيّات بصورةٍ جزميّةٍ بهدف تجنب التسلسل المُحتمل.

5. الدور أو مصادرة المطلوب، يعني أنَّنا افترضنا شيئًا في الحقيقة ينبغي إثباته.

وقام البعض أيضًا بتقليص هذه الأدلّة إلى دليلين:

1. لا شيءَ مُتيقّنًا بنفسه، بسبب تنوّع وتعدّد العقائد والآراء.

(33)

2. لا شيء مُتيقّنًا بواسطة شيءٍ آخرَ؛ لأنَّه يلزم عنه الدور والتسلسل الباطلان.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ «قضيّة المعيار» التي هي مِن أهمّ أدلّة المُشكّكين، ترجع إلى هذا الدليل أيضًا؛ لأنَّه عندما نضع «نحن نعلم» معيارًا للاختيار؛ ولأنَّنا نحتاج أيضًا إلى معيارٍ من أجل إحراز صدق ذلك المعيار، فإذًا ينتهي هذا الأمر إمّا إلى الدور أو التسلسل.

وهذه نماذجُ من الأدلّة أو الطعون[1] التي ذكرها سكستوس في كتابه.[2]

واختصر بول فولكييه الأدلّة التي أوردها الشكوكيّون في السابق، بأربعة أدلّةٍ:

الأول: الجهل: إنَّ قضايا الكون مرتبطةٌ ببعضها البعض بحيث إنَّه ينبغي تحصيل المعرفة بالكلّ بهدف معرفة أحدها، ولأننّا لا نعلم الكلّ فإذًا لن نُحصِّل المعرفة بأيٍّ منها.

الثاني: الأخطاء الحسيّة والعقليّة: يستدلّ سكستوس على الشكوكيّة عن طريق «الخطأ» أيضًا، والذي يُسمّى «الاستدلال عن طريق الخطأ»[3][4].

الثالث: اختلاف الناس في الآراء والعقائد.

الرابع: عدم القدرة على إثبات حجيّة المعارف.

(34)

وبعد أن لخص بول فولكييه أدلّة الشكوكيّة، بدأ بنقدها بصورةٍ مُفصّلةٍ[1].

وقام بعض المعاصرين كذلك بتلخيص أدلّة الشكوكيّين بهذه الطريقة:

1. هناك اختلافٌ في الإدراكات الحسيّة بين كافّة الموجودات الحيّة.

2. هناك اختلافٌ بين أفراد البشر من الناحية الجسميّة والطبائع والقدرات الذهنيّة ما يُؤدّي إلى جعل الأشياء وأمور العالم مختلفةً في نظر كلِّ واحدٍ منهم بحسب اختلافهم.

3. تنوّع الحواس، فترتسم في الذهن انطباعاتٌ حسيّةٌ متنوّعةٌ عن الشيء الواحد، فعلى سبيل المثال: التفاح، له رائحةٌ جميلةٌ، ونكهةٌ حُلوةٌ وتراه العين أحمرَ أو أصفرَ، ولكن من غير المعلوم أيُّها هي حقيقة التفّاح؟

4. يُؤدّي اختلاف الأحوال في ما يرتبط بالفرد الواحد، في أوقاتٍ مختلفةٍ إلى تغيّر حكمه في ما يرتبط بالأشياء.

5. تبدو ذوات الأشياء مختلفةً من مسافاتٍ مُختلفةٍ وفي وضعيّاتٍ مُختلفةٍ.

6. الإدراك الحسي لا يكون بنحوٍ مُباشرٍ، بل لا بدّ من واسطةٍالثانيةًا.

7. تبدو الأشياء مختلفةً باختلاف درجة لونها وحركتها ودرجة حرارتها.

8. تختلف صورة الشيء الواحد قبل أن يُصبح مأنوسًا ومعلومًا لنا، عن مرحلة ما بعد أن يُصبح مأنوسًا ومعلومًا لنا.

(35)

9. العلم الذي ادّعى الحكماء الحصول عليه، هو القضايا المنطقيّة، والقضايا المنطقيّة ليست حمل محمولٍ ما على موضوعٍ فقط، بل هي في الواقع تعيين نسبةٍ بين الأشياء أو بين الإنسان والأشياء، ولكن لا تُبيّن كُنه أو ماهيّة الأشياء في نفسها.

10.  إنَّ عقائد وآداب الأفراد تتبدّل وتتغيّر بتغيّر الزمان والمكان.[1]

فجدال المُشكّكين لا يتوقّف عند هذه الخلاصة، فقد استدلّ غورغياس في كتاب اللا وجود بهذه الكيفيّة:

لا يستطيع أحدٌ أن يُنكر أنَّ «العدمَ عدمٌ» أو أنّ «اللا وجود هو لا وجودٌ» ولكن بمُجرّد نُطقِنا لهذه العبارة نكون في الحقيقة قد صدقّنا أنَّ «العدم موجودٌ»، ولذلك تكون النتيجة أنَّه لا فرق بين الوجود والعدم، فإذًا لا وجود للوجود![2]

أبرز سكستوس جداله بصورة قياسٍ مستخدمًا مواد القياس، وناقش في حجيّة القياس أيضًا.[3]

كانت هذه مجموعةُ نماذجَ من أدلّة الشكوكيّين وقد بينّاها باختصارٍ، ولسنا بصدد الإجابة عليها هنا؛ لأنّنا سنقوم في الفصل اللاحق بتقرير أهم إشكالات الشكوكيّة تحت عنوان «المنازل السبعة للشكوكيّة» بحيث إنّ الأدلة المذكورة ستندرج ضمنها وعلى الأخصّ في «المنزل الثالث من الشكوكيّة» والمندرج تحت اسم «تفاعل الذهن والعين»، وسنسعى في الفصل العاشر وما بعده إلى أنْ نُجيبَ على إشكالات

(36)

الشكوكيّة، وإلى أنْ نمهد الطريق للوصول إلى «اليقين الصادق».

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ استدلال غورغياس أنَّ «اللا وجود غير موجودٍ، فإذًا لا فرق بين الوجود والعدم» هو استدلالٌ مخدوشٌ؛ لأنَّه خلط بين نفس الأمر الذي للوجود وبين نفس الأمر الذي للعدم، وبين تقرّر هذين الوعائين من الواقع ـ بما هو أعمّ من الواقع الوجودي والواقع العدمي ـ كما سلف ذكره في الفصل الثالث من أنَّ القياس يقينيٌّ أيضًا؛ لأنَّ صورة القياس منتجةٌ وبديهيّةٌ أو نظريّةٌ وأصول الصور المنتجة للقياس هي من الأوّليات، و«الأوّليات» يقينيّةٌ بدورها، كما سيتمّ تفصيله في الفصل العاشر؛ وتوضيح ذلك: أنَّ الشكل الأوّل الذي هو بديهيُّ الإنتاج هو في الواقع مصداقٌ لقضيّةٍ شرطيّةٍ لزوميّةٍ متصلةٍ بديهيّةٍ؛ لأنَّ صورة الشكل الأوّل مثلًا على النحو التالي: إن كان «أ» هو «ب»، وكان «ب» هو «ج»، إذًا فهذه القضيّة بديهيّةٌ أوّليّةٌ بحيث مُجرّد تصوّر الطرفين يُؤدّي إلى الجزم بصدقها، وهكذا القياس الاستثنائي كالقياس المُفيد فائدةً تامّة؛ لأنّنا في القياس نصل إلى معلومٍ جديدٍ يختلف بالحدّ الأدنى عن المعلوم السابق في الاجمال أو التفصيل، وقد يكون في هذا إجابةٌ على إشكال الدور في الشكل الأوّل التي بينّها الشيخ الرئيس في الإجابة على شبهة الشيخ أبو السعيد أبو الخير، وبالطبع هناك إجاباتٌ أخرى لا يسع المجال طرحها.[1] وعلى كلّ حالٍ، سنطرح في الفصول القادمة المُناقشات التي تُعتبر خطّ الدفاع الأوّل للمعرفة، ومن خلال الاستعانة بالإجابة التي سنُقدّمها في الفصل العاشر، يمكن تصيّد الإجابة التي نستفيد منها للردّ على إشكالات الشكوكيّة المذكورة في هذا الفصل.

(37)

القيمّة المعرفيّة للشك واليقين

قيل في فضيلة «الشكّ والشكوكيّة»: «الشكوكيّة هي القوّة الديناميكيّة الرئيسية في التاريخ الفكري»[1].[2] وهذا القول صحيحٌ إلى حدٍّ ما، فإذا لم يقف البشر في وجه الخرافات وأباطيل الشكّ ولم ينكروها، لن ينجوا من الباطل ولن يصلوا إلى الحقّ، ولكن هل «الشك» أرقى من «اليقين» مطلقًا؟ من المسلم أنّه لا؛ لأنَّ متعلق الشكّ هو الذي يحدِّد قيمة معرفته، فالشكّ مقارنةً بالباطل ليس غيرَ ممدوحٍ وحسب، بل إنّ إنكاره واجبٌ، ولكن الشكّ مقارنةً بالحقّ ليس فقط غير مستحسنٍ وحسب، بل مذمومٌ تمامًا، وهو ذو قيمة سلبيّة من حيث نظرية المعرفة؛ لأنَّ «الشكّ» يعود في الأساس إلى عدم العلم، كما تعود «الشكوكيّة» إلى «الجهل»، أمّا «اليقين» ـ بالطبع المقصود «اليقين المنطقي» الذي يستلزم صدق القضيّة ـ فهو نفس «العلم»، ومن الواضح أنَّه عند تقييم العلم والجهل، فمن المُسلّم أنَّ العلو يكون للعلم.

وهكذا نستنتج أنَّه عند تضادّ «الشكّ» مع «اليقين المنطقي» فإنَّ العلوّ والرفعة لـ «اليقين»؛ لأنّه عند تقابل «العلم» و«الجهل» فالعلوّ يكون لـ «العلم»، وسوف يُواجه الإنسان هناالثانيةًا السؤال القرآني وهو: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ).[3] فإذًا «الشكوكيّة» تكون قوّةً ديناميكيّةً رئيسيّةً في التاريخ الفكري عندما لا تكون محلًّا للتخلف الفكري، بل حينما تكون تبلورًا لتأمّل الفكر البشري بهدف اكتساب العلم والفرار من الباطل والوصول إلى الحقّ، وفي هذه الحالة الشكوكيّة مطلوبةٌ لتصل بنا إلى «الجزم المنطقي»، ولذلك لا يمكن

(38)

القول: الشكوكيّة ذات قيمة إيجابيّةٍ مطلقًا، إذ أنَّه نوعًا ما:

الشكوكيّة آفةٌ خطرةٌ جدّاً تُهدّد كافّة شؤون الإنسان بالزوال، وبرواجها لن يقبل أيّ نظامٍ أخلاقيٍّ وقانونيٍّ وسياسيٍّ ودينيٍّ أن يستمرّ، وبتبريرها سيكون أيّ ذنبٍ وجنايةٍ وظلمٍ قابلًا للتبرير، ولهذا فإنَّ مواجهة «الشكوكيّة» هي تكليفُ كلّ مُفكّرٍ وفيلسوفٍ وكذلك هي وظيفةُ القادة الدينيّين والزعماء الدينيّين وكذلك ينبغي أن تكون محلًّا لاهتمام المُربّيين والسياسيّين والمُصلحين الاجتماعيّين. [1]

(39)
(40)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

المنازل السبعة للشكوكيّة

 

(41)

المنازل السبعة للشكوكيّة

سنقوم في هذا الفصل بتقرير أهم إشكالات الشكوكيّة، وسوف نقوم بذلك من خلال الاقتباس من الحكيم أبو قاسم الفردوسي شاعر الحماسة في بلاط المسلم الإيراني، وسنُعبّر عنها بـ «المنازل السبعة للشكوكيّة».

كنون زين سپس هفت خوان آورم  

                                                                سخن هاى نغز وجوان آورم

 

پر از جنگ وعزم وپر از رأى وجزم

                                                            پر از كين وداد و پر از رزم وبز

[يقول: الآن، بعد أن عبرتُ من المنازل السبعة،

                                                             سأروي لكم أحاديثَ بديعةً،

مليئةٍ بالحرب والعزيمة، ثريّةٍ بالآراء والجزم،

                                      مليئةٍ بالعناد والإنصاف، غنيّةٍ بالجدال والأنس.]

يُمكن لهذا العنوان أن يجمع الإشكالات اللاحقة تحت مسمًّى واحدٍ، وأن يُشير من خلاله إلى أهميّتها وصعوبتها، كما يُؤكّد على الموقف الخطير من الجهة المعرفيّة والأبستوملوجيّة.

ستُطرح هذه الإشكالات بقوّةٍ من أجل أن نُناقش مباحث المعرفة بمنتهى الإنصاف من خلال بحثٍ علميٍّ مع الشكّاكين، وسنقوم في هذا

(42)

الفصل بطرح «المنازل السبعة للشكوكيّة»، ثمّ سنقوم بالإجابة عليها في الفصل اللاحق[1].

سمندر نه اى، گرد آتش مگرد         كه مردانگى بايد، آن گه نبرد

[يقول: لا تَدُرْ أيّها السمندل حول النّار، بل ينبغي عليك أن تُقاتل عندها برجولةٍ].

المنزل الأوّل للشكوكيّة

يُناقش الشكّاك في المنزل الأوّل ويُشكّك في ثلاثة أركانٍ من أركان المعرفة، ونحن نعلم بأنَّ «المعرفة الحصوليّة» تقوم على ثلاثة أركانٍ:

أ. الذهن؛ ب. الصور الذهنيّة؛ ج. الحكاية الصادقة للصور الذهنيّة عن الخارج؛ وكخطوةٍ أولى يبدأ الشكّاك بالنقاش في هذه الأركان الثلاثة للمعرفة.

التشكيك في الأضلاع الثلاثة للمعرفة

 مثلث المعرفة

مراجعة الكتاب

(43)

أضلاع مثلث المعرفة

1. الذهن

2. الصور الذهنيّة

3. الحكاية الصادقة

انهيار أضلاع المثلث

يقول لنا الشكّاك: أنتمُ إنّما يمكن لكم أن تمتلكوا المعرفة عندما يكون لكم ذهنٌ جُمعت فيه «الصور الذهنيّة»، وعندما يكون لهذه الصور حكايةٌ صادقةٌ عن الخارج، ولكن طالما لم تُثبتوا هذه الأركان الثلاثة، فكيف لكم أن تمتلكوا المعرفة؟

ويُمكن تسمية هذا المنزل الذي تمّت فيه مناقشة أركان المعرفة الثلاثة واختصاره بـ «التشكيك ثلاثي الأضلاع».

المنزل الثاني للشكوكيّة

يطرح الشكّاك في المنزل الثاني مسألة «حجيّة العقل» ويُناقشها.

العقل ودوّامة الحجيّة

يطرح علينا الشكّاك السؤال التالي: «من أين علمتَ أنّ العقل حجّةٌ؟» وبعبارةٍ أخرى: كيف علمتَ بأنّ العقل «موصِلٌ إلى الواقع؟»، ويمكن القول: علمنا «حجيّة العقل» عن طريق الحواسّ، ولكنّ الشكوكيّ سيُجيبنا قائلًا: ليس للحسّ القدرة على الإثبات! فإذا أجبتم: نُحرز حجيّة العقل عن

(44)

طريق العقل، فسيُجيبك الشكوكيّ: يستلزم ذلك الدور! فكيف اِستطعت أن تقول: العقل حجّةٌ؟!

المنزل الثالث للشكوكيّة

يبدأ الشكوكي في المنزل الثالث بنقاشٍ آخرَ حول صحّة وصدق الإدراكات عبر طرح احتمال «تفاعل الذهن والعين» و«حصّة الذهن في عمليّة الإدراك».

تفاعل الذهن والعين

يقول لنا الشكوكيّ: يُمكن لك أن تمتلك «المعرفة» بعد أن تُثبت أنَّه ليس لـ «الذهن» أيّ تأثيرٍ في ظاهرة الإدراك سواءً بالإضافة أم بالإنقاص، وطالما أنَّك لم تتمكّن من إثبات هذا الأمر، فكيف تدّعي المعرفة؟ فإذا ما أردت إثبات العزم وإثبات عدم تأثير الذهن في عمليّة الإدراك، فعلى الرغم من أنّ هذا العزم قابلٌ للتقدير، لكن يبدو أنّ إثبات هذا الأمر مستحيلٌ، بحيث إنّ «دونه خرط القتاد!»[1].

وسنبين هذا الأمر عبر المثال التالي: افترض أنَّك في يومٍ ربيعيٍّ مُعتدلٍ وكنتَ في حضن الطبيعة منشغلًا بالتجوال إلى جوار بِرْكةٍ تحيط بها زهور الربيع، ووصلت الطيور المهاجرة وانشغل البلبل مغردًا نغماته، وكان الجوّ سالبًا للألباب بحيث إنّ قلوبنا تستحضر حتّى في الشتاء مثل هذا الربيع.

فإذا أردنا دعوة «الشكوكي» في هذا الفضاء المُثير أيضًا لينضمّ إلى

(45)

جوار جمعنا، فسيسألنا: «مِن أين لك أن تُحرز أنَّه في الخارج مثل هذا المشهد المثير؟» «فلرُبّما ربيع قلبك هو مَن يختلق مثل هذه المشاهد الخياليّة الرقيقة؟» «وكيف تدرك بأنّ نغمة البلبل على هذه الهيئة؟» «فلرُبّما خلاياك العصبيّة والشعيرات البصريّة التي تبني دماغك أو ربّما كان هناك مزيجٌ من القوّة المتخيّلة لذهنك، هو الذي زيّن لك الورد بهذه الكيفيّة؟»

وإذا ما غضضنا النظر عن جميع هذه المواطن من تدليس الجهاز الإدراكيّ، فكيف لنا أن نُبرهن عدم تدخلّها في «عمليّة الإدراك» ؟!

وهنا أنشد الشاعر المتحيّر قائلًا:

كار ما نيست شناسايى راز گل سرخ،

كار ما شايد اين است

كه در افسون گل سرخ شناور باشيم.

پشت دانايى اردو بزنيم.

...

كار ما شايد اين است

كه ميان گل نيلوفر وقرن

پى آواز حقيقت بدويم!.[1]

(46)

ولكن هل يقتنع الفلاسفة بمثل هذا السحر والشعوذة؟ الجواب هو أنَّه ينبغي أن نرى كيف سيخرجون من مستنقع هذا السحر بنحوٍ منطقيٍّ؟

والآن سندرس عددًا من التقارير لـ «آلية تفاعل الذهن والعين».

تقاريرُ للتفاعل بين الذهن والعين

1ـ  تقرير كانط لتفاعل الذهن والعين: يبني كانط فرضه في منظومته الفلسفيّة على تفاعل الذهن والعين، ويرى بأنّ هذا الإدراك مبنيٌّ على هذا التفاعل، ويشرح هذه العمليّة من خلال تصوير الاثني عشر مقولةً والزمان والمكان كذلك. ويعتقد كانط بأنّ الذهن يُقولب في «الحسيّات المتعالية»[1] الإدراكات في قناتين حسّيتين باسم «الزمان» و«المكان» ومرّةً أخرى يُصنّفها ويُنظّمها في «اثني عشر مقولةً» من مقولات «الفهم الخالص»[2]، ويعتبر كانط أنّ الاهتمام بهذا الأمر هو أحد ميزات فلسفته، ولذلك سمّى فلسفته بـ « الفلسفة النقديّة»[3] و«الفلسفة المتعالية»[4].

يعتقد كانط بأنّ لـ«الإدراك» «مادّةً» و«صورةً» أو «لُحمةً» و«سَدًى»، فإنَّ مادّة الإدراك وسداه هما عين الشيء الذي في الخارج ونستنتجه بواسطة القوى الإدراكيّة، أمّا صورة الإدراك ولُحمَته فهما الصِّبغة والوجه الخاصّين

(47)

الذين يُفيضهما الجهاز الإدراكيّ للإنسان عليه، وهذه المواد الأوّليّة تحصل إذًا على الدخول من صورتي الشهود الحسيّين («الزمان» و«المكان») ثمَّ يُصنفان بشكلٍ مُتناظرٍ ضمن المقولات الاثنا عشر المتعالية للفهم الخالص من خلال جدولٍ منطقيٍّ للأحكام.

في البداية وصل كانط في الجدول المنطقي للأحكام إلى اثني عشر نوعًا من الأحكام، ثمَّ حدّد اثني عشرة مقولةً متناظرةً معها، وقد توصّل إلى الأحكام الاثني عشر الآتية تحت عنوان كلٍّ من الكمّ والكيف والنسبة والجهة: 1. الحكم الكلّي؛ 2. الحكم الجزئي؛ 3. الحكم الشخصي؛ 4. الحكم الإيجابي؛ 5. الحكم السلبي؛ 6. الحكم العدولي؛ 7. الحكم الحملي؛ 8. الحكم الشرطي؛ 9. الحكم الانفصالي؛ 10. الحكم الظني؛ 11. الحكم الوقوعي؛ 12. الحكم اليقيني.

ثمَّ توصّل كانط إلى جدول المفاهيم المتعالية الخالصة للفاهمة بعد دراسة الجدول المنطقي للأحكام، والمفاهيم الخالصة للفاهمة أو مقولات الفكر هي عبارةٌ عن: 1. الوحدة؛[1] 2. الكثرة؛[2] 3. التمام؛[3] 4. الإيجاد؛[4] 5. السلبيّة؛[5] 6. العدول أو الحصر؛[6] 7. الجوهر؛[7] 8.

(48)

العلّة؛[1] 9. المشاركة؛[2] 10. الإمكان؛[3] 11. الوجود؛[4] 12. الضرورة.[5]

وكما لاحظنا فإنَّ «الإدراك» في منظومة كانط الفلسفيّة هي عمليّة تفاعل بين الذهن والعين، بمعنى أنّ المواد الأوّلية تأتي من الخارج فيَنتُج بسبب الأعمال التي يُجريها الذهن عليها نتاجٌ جديدٌ، وهذا النتاج ليس عينَ الشيء الذي أخذه الذهن من الخارج، فـ«الإدراك» في هذا الجهاز، له هويةٌ ظاهرةٌ وله ظهورٌ لا تطابق بينه وبين ذات الشيء (النومينون) [6]ونفس الأمر.

وتبرز هذه النظريّة لكانط في كتابيه المشهورين: 1. نقد العقل الخالص.[7] و2. التمهيدات[8]. وهذان المؤلَّفان نقلهما إلى قسم التحرير والطباعة بعد اليقظة من منام الدوغماتيّة (Dogmatism)، فهو إنّما أقدم على طبع كتاب نقد العقل الخالص بعد اثني عشر عامًا من التفكير والتأمّل أيْ سنة (1781 م)، ثمَّ في عام (1783 م) قام بطباعة كتاب التمهيدات والذي يُعتبر مقدّمةً أو خلاصةً موجزةً لـ نقد العقل الخالص.

2ـ تقرير ناغل لتفاعل الذهن والعين: يؤكّد توماس ناغل[9] فرضيّة تفاعل الذهن والعين في عمليّة الإدراك ببيانٍ آخرَ.

(49)

ويتناول ناغل في كتابه المشهد من اللامكان ببيان أنَّ الإدراكات البشريّة أسّست وصنعت في الجهاز الإدراكيّ للإنسان، بحيث يمكن القول: «إنّ إدراك الإنسان تابعٌ لكيفيّة بناء جهازه الإدراكيّ».[1] وفي ما يلي خلاصةٌ لرأي ناغل بقلم الأستاذ ملكيان:

إنّ انعكاس صورةٍ ما في المرآة، يقع ضمن أمرين؛ الأوّل الشيء المواجه للمرآة، والآخر هو بُنيةُ ذات المرآة وأداءُها، وفي الحقيقة الصورة الحاصلة في المرآة هي نتاج فعلٍ وردّة فعلٍ متقابلَيْن بين الشيء المواجه للمرآة وبين المرآة بحدّ ذاتها، فإذا أشحنا النظر من الشيء A إلى الشيء B فإن الصورة ستُقلب، ولكن إذا كانت المرآة مواجهةً للشيء A وكانت مرآةً مُسطّحةً وأزلناها ووضعنا مرآةً مُحدّبةً أو مُقعّرةً فإنَّ شكل وطريقة الصورة ستتغيّر، والأهمّ من كلِّ هذا أنَّه لا رُجحان لأيٍّ من الانعكاسات على الآخر، ولا يمكن القول بأنَّ أحد هذه الانعكاسات صحيحةٌ وبأنَّ الانعكاسات الأخرى خاطئةٌ، فالإنسان هو تلك المرآة وعالم الوجود هو ذلك الشيء الذي يقع في مواجهة المرآة، والإدراك والعلم الذي يحصل عليه الإنسان من عالم الوجود هو ذات الصورة التي تنعكس في المرآة. فالإنسان موجودٌ صغيرٌ في هذا العالم الكبير وفهمه وإدراكه للعالم ناقصٌ جدًّا، والكيفيّة التي تبدو الأمور عليها في ناظريْه ذات ارتباطٍ بماهيّةِ العالم وطبيعته، وترتبط كذلك بهويّته وطباعه، ولا بدّ من التأكيد على هذا الارتباط الثاني: إذ للبناء والأداء البدني الروحي للإنسان دورٌ وتأثيرٌ على كمّ وكيف علمِ الإنسان عن عالم الوجود. وكلُّ رأيٍ أو أسلوبِ تفكيرٍ هو مبنيٌّ على الخصائص الفطريّة لذلك الفرد صاحب ذلك الرأي

(50)

وأسلوب التفكير وعلى خصائص (وَضعه) و(موقعه) في العالم، أو بعبارةٍ أخرى: على الطبيعة الخاصّة به؛ وبذلك فإنّ أيّ رأيٍ أو أسلوبِ تفكيرٍ هو ذهنيٌّ أو (أنفسيٌ = Subjective) أو (داخليٌّ= Internal)، والآن إذا كان المُراد من الرأي أو أسلوب التفكير العيني (أو الآفاقي= Objective) أو (الخارجي= External) ذلك الرأي أو أسلوب التفكير المرتبط فقط بطبيعة العالم، وليس له أيّ ارتباطٍ بأيّ وجهٍ بهوية وطبع صاحب الرأي وأسلوب تفكيره، فلا بدّ من القول بعدم وجود مصداقٍ لمثل هذا المفهوم ولم يخلق الله مثل هذا الإنسان.[1]

كانت هذه نظرةٌ عامّةٌ على تقرير ناغل لتفاعل الذهن والعين في عمليّة الإدراك، وقد طرح في كتابه المشهد من اللامكان طرق حلٍّ لكيفيّة الاقتراب من حلّ هذه المشكلة ولكن لا يسعنا المجال لبحثها هنا.

3 ـ تقريرٌ تشبيهيٌّ لتفاعل الذهن والعين: يُؤكّد الشكّاك في تقريره لـ «تفاعل الذهن والعين» من خلال «تنظيره للعلم بالعشق» على تبعيّة عمليّة الإدراك إلى متغيرَيْ «العالم» و«المعلوم»، فيقول الشكّاك في تقريره هذا لتفاعل الذهن والعين ما يلي: العلم مثل العشق، وبالتالي كما يتوقّف العشق على عاملين «العاشق» و«المعشوق» ويعتبر تابعًا لهما، فكذلك «العلم» هو أيضًا تابع لـ « العالم» و«المعلوم»، ونعلم أنّ «كيفيّة العشق» تتبع «خصائص العاشق» و «مميزات المعشوق»؛ أيْ ينبغي أن يكون للعاشق شروطًا جسديّةً وروحيّةً خاصّةً ـ من قبيل الدقّة الذهنيّة أو الاختلال الروحي أو الجنون الفكري أو … ـ كما ينبغي أن يكون المعشوق كذلك بحيث يتمكّن من عقد أوتار آلة القلب الموسيقيّة وقلب العاشق،

(51)

ولذلك، فإنَّ «ظاهرة العشق» دائمًا ما ترتبط بأنّ يكون كلٌّ من العاشق والمعشوق بكيفيّةٍ خاصّةٍ، وبالنتيجة فإنّه إن فقدَ العاشقُ خصائصَه، أو تغيّرَ المعشوقُ، فإنَّ «العشق» سيتغيّر وكثيرًا ما يتبدلّ إلى «نفورٍ»، وعلى هذا الأساس يُمكن، أن يكون فرهاد عاشقًا لـ شيرين، ولا يكون عاشقًا لـ ليلى، ولكن مجنون ليلى (قيس بن الملوّح) عاشقٌ لـ ليلى وينفر من شيرين. وكلّ ذلك هو بسبب أنَّ « ظاهرة العشق» تتبع الشروط الجسميّة والروحيّة لـ «العاشق» و«المعشوق»، وكذلك «ظاهرة العلم»؛ أي إنَّ العلم أيضًا مثل العشق تابعٌ لمتغيّرين، وهذان المتغيران هما «العالِم»  «المعلوم»، وهكذا في «عمليّة الإدراك» التقَى العالِم والمعلوم فتحقّقت ظاهرة الإدراك، بحيث إنَّه لو لم يكن هناك فعلٌ وردّةُ فعلٍ من هذين المتغيرين، لم تكن لتتحقّق ظاهرةٌ باسم الإدراك ذات الخصائص الخاصّة التي تميّزها، فإذًا لأنَّ الأمر كذلك، لا يمكن الحديث عن انعكاس الحقيقة والمطابقة مع الواقع دون نقص الصور الذهنيّة عن الواقع!

إنّ هذه التقارير قد حُرّرت للحديث عن «أثر تفاعل الذهن والعين على عمليّة الإدراك» وكلّها تُذكّرنا بخطاب بروتاغوراس[1] (411-485 ق. م) حيث قال: «الإنسان مقياسُ كلِّ شيءٍ»[2] وكان كلامه كالتالي: «الأشياء كما تبدو لي، هي كذلك، والأمور كما تبدو لك، هي كذلك بالنسبة لك»[3].

(52)

المنزل الرابع للشكوكيّة

يستهدف الشكّاك في المنزل الرابع «مباني المعرفة» ومن خلال تشكيكاته يُزلزل أصول المعرفة ومبادئها.

الجدال في البديهيّات

في هذه المرحلة يتمّ التشكيك في القيم المعرفيّة «البديهيّات» وخصوصًا في «الأوّليّات» و«الوجدانيّات»، والجدال يقع فيها بحيث يُصبح وفق تعبير الفخر الرازي: «عند ذكره تقشعر الجلود وتبلغ القلوب الحناجر»!

مراحل المنزل الرابع للشكوكيّة

إنّ المنزل الرابع من الشكوكيّة هو من منازل الشكوكيّة صعبة العبور، وهو يتكوّن من عدّة منازلَ صغيرةٍ أو مراحلَ وهي عبارةٌ عن:

1. مرحلة التعريف: يُريد الشكّاك منّا في هذه المرحلة أن نُقدّم تحديدًا مفهوميّاً للقضايا المبنائيّة والأساسيّة (البديهيّات)، وذلك بهذا النحو، وهو أنَّ نُبيّن الخصوصيّة أو الخصائص التي تتمتّع بها القضايا التي تُشكّل مباني العلوم والمعارف البشريّة.

2. مرحلة الإثبات: يُريد الشكّاك منّا في هذا المرحلة أن نُثبت بأنّ القضايا التي نعدّها نحن كـ «مبادئ للمعرفة»، موجودةٌ من الأساس.

3. مرحلة الصدق: يُريد الشكّاك منّا في «مرحلة الصدق» أن نُثبت بأنَّ القضايا المبنائيّة مُطابقةٌ للواقع ونفس الأمر.

(53)

سيجعلنا الشكّاك في هذه المرحلة نواجه «مشكلة البُنية الأخرى» أيضًا، وذلك بعد أن يُخيّل لنا أننّا وصلنا إلى إثبات صدق القضايا البديهيّة، وأمّا «مشكلة البُنية الأخرى» التي تكمن في «عمليّة إثبات الصدق»، فهي عندما يتسلّل الشكّاك من الكمين ويقول: إنّ مُدّعي المعرفة يدّعون بأنّ المعرفة تابعةٌ للبنية الفعليّة لجهازهم المعرفي؛ يعني: على سبيل المثال معرفتُك بصدق قضيّة «2+2=4» تتبع بناءك الإدراكيّ الفعلي؛ لأنّه لو كان لك بناءٌ آخرُ، فقهرًا سيكون لك فهمٌ وإدراكٌ مختلفٌ يتناسب مع ذلك البناء، وبما أنَّ الأمر كذلك، فلا يُمكن القول بأنّك أنت وكلّ إنسانٍ آخرَ مماثلٍ لك لديه الآن «المعرفة» واقعًا؛ لأنَّه يكفي الاحتمال فقط حتّى يسقط فهمك عن المعرفة؛ لأنّه مُعرّض للأخطار، ولذلك لا بدّ عند «العبور من مرحلة الصدق» أن نُجيب أيضًا عن «مشكلة البُنية الأخرى».

4. مرحلة النفق (الجسر): في هذه المرحلة يسألنا الشكوكي: «كيف عبرتَ من وضوح القضيّة البديهيّة إلى صدق القضيّة؟»؛ فـ «وضوح القضيّة» هي النسبة التي بين القضيّة وقائلها، أمّا «صدق القضيّة» فهو الرابطة التي تنظر إلى محكيّ القضيّة، وبعبارةٍ أخرى: إنَّ متغير الوضوح الذي يتجلّى في قالب «اليقين» يرتبط بـ «قائل القضيّة»، أمّا « الصدق» فهو النسبة بين القضيّة وموضوعها، والآن السؤال الذي يُطرح هنا هو بأيَّ دليلٍ تدّعي بأنّ «كلّ قضيّةٍ واضحةٍ لقائلها، فهي مطابقةٌ للواقع»؟ وبعبارةٍ أخرى: ما دليلك على ادعائِك بأنَّ كلّ قضيّةٍ تكون واضحةً وجليّةً بالنسبة لقائلها فإذًا هذه القضيّة مطابقةٌ للواقع؟

(54)

مراجعة الكتاب 

 

ويمكن تمثيل هذه المرحلة بالبيان التالي:

- القائل " (القضيّة) ! المحكي.

- الحالة الإدراكيّة للقائل " (القضيّة) ! صدق القضيّة وكذبها.

- الوهم، الشكّ، الظن، اليقين = الحالات الإدراكيّة.

- اليقين = الوضوح (المبني على البداهة أو البرهان).

- الوهم، الشكّ، الظنّ = عدم الوضوح.

- الوضوح (حال القائل) " جسر ! صدق القضيّة (علاقة القضيّة مع الواقع).

فالشكوكيّ في هذه المرحلة يعتبر أنّ الحفر من «وضوح القضيّة» للوصول إلى «صدق القضيّة» هو أمرٌ بلا دليلٍ، ويقول: «كما أنّه لا يمكن لك الانتقال من «عدم وضوح القضيّة» إلى «كذب القضيّة»، فكذلك لا يمكن لك الحفر والتنقيب للوصول أيضًا إلى «صدق القضيّة» ومن «وضوح القضيّة» التي ظهرت في قالب «اليقين».

5. مرحلة الوجدانيّات: يقول الشكوكيّ: إذا اعتمدتم على «الوجدانيّات» أيّ القضايا المستمدّة من العلم الحضوري، فحتّى لو تجاوزتم مثلًا الإشكالات الأخرى ـ الإشكالات العامّة -فإنَّكم ستواجهون إشكالاتٍ خاصّةً أخرى من القبيل ما يلي:

أ. عليك أن تُثبت في الخطوة الأولى أنَّ «العلم الحضوري» هو العلم الذي له ارتباطٌ وثيقٌ بالواقع والحقيقة، فكثيرًا ما لم يكن هناك مصداقٌ لهذا العلم! وطالما أنَّك لم تُثبت مثل هذا العلم، لا يمكن لك أيضًا الاعتماد

(55)

على الوجدانيّات التي تعتمد بدورها على العلم الحضوريّ.

ب. عليك أن تثبت أنَّه يمكن لنا أن نحصل على «تعبيرٍ بلا تفسيرٍ» من العلم الحضوري؛ لأننّا في الوجدانيّات سنواجهالثانيةًا هذا الاحتمال، وهو أنَّ ما شكّلناه في قالَب قضيّةٍ وأسميناه «قضيّةً وجدانيّةً» تجلّى لنا ضمن تفسيرٍ خاصٍّ.

ج. إنّك إذا حاولت في أيِّ وقتٍ من الأوقات أن تُعبّر، فأنت في الواقع تُحاول التفسير، وتفسير أيِّ مجالٍ إدراكيٍّ ـ حضوريٍّ أو غير ِحضوريٍّ ـ لن يبقى مصونًا من تدخّل الذهن، فإذا انطلق تفسير الإدراكات من «حصّة الذهن»، فربما ستتقدّم خطوةً باتجاهٍ ما، ولكنّك ستواجهالثانيةًا هذا الاحتمال ـ خطاب كانط ـ وهو «جهاز ذهنك سيكون له دخالةٌ في تفسيرك للواقعيّة».

د. ستواجه الوجدانيّات هذا السؤال أيضًا: إذا كان صدق الوجدانيّات يتغذّى من العلم الحضوريّ، فكلّما شكّكنا في صدق هذا النوع من القضايا، يُمكن لنا أن نعود إلى أنفسنا ونعثر على ما يطابقها في داخلنا، فإذًا سنقول: ماذا سنفعل لو أنّ العلم الحضوري لم يكن حاضرًا، مثلًا: لو تلاشى خوفك؟

هـ. وإن تجاوزنا كافّة الإشكالات المرتبطة بـ «الوجدانيّات»، فإننَّا سنواجه عندها هذا الإشكال: «القضايا الوجدانيّة» هي قضايا شخصيّةٌ،[1] لا موضوعيةٌ[2] وهي ليست مثل «العلم الحضوري» فلا تقبل النقل والانتقال.

6. مرحلة الأوّليّات: «الأوّليّات» أو «القضايا الأوّليّة» هي قضايا يكفي

(56)

تصوّر طرفيها ليحصل الجزم بصدقها، وهذا النوع من القضايا أعمُّ من قضايا كانط التحليليّة، فإذا اُختِيرت «الأوّليّات» بعنوانها «مبدأً للمعرفة»، بمعزلٍ عن الإشكالات الأخرى التي ستواجهها بشكلٍ عامٍّ، فإنَّك أيضًا ستواجه بعض الإشكالات التالية بصورةٍ خاصّةٍ:

أ. إذا كنّا نعتبر بأنَّ سرّ حصول اليقين بـ «القضايا الأوّلية»، هو أنّ مُجرّد تصوّر طرفَيِ القضيّة والبحث في السنخيّة بين الموضوع والمحمول في القضيّة الحمليّة وبين المُقدَّم والتالي في القضيّة الشرطيّة، هو الأمر الذي يُوجب الجزم بصدق القضيّة الأوّليّة، وإذا استنتج شخصٌ نتيجةً من عدم حصول ذلك الجزم أحيانًا فقال: عدم الجزم أو عدم الحكم بالصِدق، معلولٌ لعدم تصوّر أطراف القضيّة. فسوف نقول: لِمَ اعتقدتَ أنَّ عدم جزم الآخرين ناشئٌ عن عدم التصوّر الصحيح لطَرَفَيِ القضيّة؟ فكثيرًا ما يكون الإنسان لأنّه تصوّر طرفي القضيّة بصورةٍ صحيحةٍ، خلافًا لك، فأصدر الحكم! فبأيّ دليلٍ تدّعي بأنّه بما أننّي أنا أدرك الأمر بهذه الطريقة فحتمًا الآخرون[1] كان لهم عين الإدراك أو عندهم أو سيكون عندهم؟ أليس تسرية هذا الحكم إلى الآخرين يُعد أمرًا تمثيليًّا؟

ب. إذا قلتَ: «الأوّليات» هي نوعٌ من القضايا لا يمكن الاستدلال عليها، فسنقول: «كيف استطعت أن تنتقل من عدم إمكان الاستدلال على القضيّة إلى صدق تلك القضيّة؟ ».

ج. إذا قلتَ: «الأوّليات» هي قضايا إذا تصوّرنا طرفي القضيّة بشكلٍ سليمٍ، لا يمكن أن نحصُل على الجزم بها، فسنقول: كيف لك أن تعتبر «عجزك عن عدم التصديق بقضيّة» دليلًا على «صدق تلك القضيّة»؟

(57)

7. المرحلة الشرطيّة: يقول الشكوكي: إذا استطعتَ أن تجتاز بسلامةٍ المراحل السابقة وأن تصل بأمانٍ إلى هذه الدرجة، فإنّك ستواجه هنا طريقًا مسدودًا حيث ستقع في كمين القضايا الأوّليّة والقضايا التحليليّة كذلك باعتبارها قِسمًا من القضايا الأوليّة، وهذا الكمين هو عين الأمر الذي عبّرنا عنه بـ «المرحلة الشرطيّة» وبسبب أهميته طرحناه تحت عنوانٍ مُستقلٍّ.

ونتيجة بيان الشكّاك في هذه الدرجة أنَّك إذا اخترت «الأوّليات» باعتبارها «قضايا مبادئ»، أو كان لك في «القضايا التحليليّة لـ كانط» أملٌ أو توقّعٌ، فهنا سيُواجهك هذا الإشكال، وهو أنَّ هذه القضايا لا تحكي «الخارج» يعني: لا تتكلم عن كلّ ما هو خارجٌ عن مراتب الذهن، ولا تُضيف شيئًا إلى معلوماتنا عن عالم الواقع، وهذا النوع من القضايا أو ما شابهها هي قضايا حقيقيّةٌ، ولكن من حيث المضمون هي قضايا شرطيّةٌ ولا تتحدّث عن أيِّ شيءٍ يتعلّق بعالم الحقيقة والواقع، وعلى سبيل المثال فإنَّ قضيّة «كلُّ معلولٍ فله علّةٌ» هي قضيّة حقيقيّةٌ ومن حيث المضمون هي قضيّة شرطيّةٌ، ويُمكن تبديلها إلى قضيّة «لو كان هناك معلولٌ، فله علّةٌ» وهي لا تُبيّن كيف يكون «نظام الواقع».

المنزل الخامس للشكوكيّة

تُقَرّر الشكوكيّة في هذا المنزل بالنحو التالي وهو أنَّ القضايا التي يُدّعى بداهتها، كيف تكون بديهيّةً في الواقع، خصوصًا مع الالتفات إلى أنَّ تلك القضايا التي تعتبرها مجموعةٌ من الحكماء بديهيّةً تعتبرها مجموعةٌ أخرى من الحكماء غيرَ بديهيّةٍ، والآن سنبحث هذا النوع من الشكوكيّة تحت عنوان «ما بعد قضيّة البديهيّات».

(58)

ما وراء قضيّة البديهيّات

نعلم بأنّ الحكماء يختلفون في ما بينهم حول مواد القياس البرهاني، والسؤال المطروح الآن هو ما يلي: «هل هذا الاختلاف حول أنّه أيُّ قضيّة تكون بديهيّةً وأيُّ قضيّة تكون نظريّةً، لا يعود إلى الاختلاف بين آراء الحكماء؟» أليس القدماء هم من اعتبر «المشاهدات» و«المجرّبات» و«المتواترات» من البديهيّات، بينما عموم المتأخّرين أخرجوا هذه الأقسام من البديهيّات باستثناء الوجدانيّات، وأبعدوها إلى وادي النظريّات؟... فإذًا جميع هذه الأدلّة على أنَّ كلَّ قضيّةٍ بديهيّةٍ ـ القضيّة التي تمّ الادعاء ببداهتها ـ محكومةٌ لما وراء القضيّة التي تكون فوقها، وما وراء القضيّة قضيّةٌ نظريّةٌ، وهكذا فإنَّ من يدّعي المعرفة سيواجهالثانيةًا هذا الإشكال، وهو أنَّه لا بدّ من أنّ يُثبت بأنَّ تلك القضيّة التي يستند عليها باعتبارها قضيّةً بديهيّةً، هي في الأصل قضيّةٌ بديهيّةٌ، وإذا ما أراد أن يقوم بالإثبات، فمضافًا إلى أنَّه يشهد بنفسه بأنَّ «قضيّة ما وراء قضيّة البديهيّات» هي قضيّةٌ نظريّةٌ، سيواجه المشكلة نفسها حول المواد البديهيّة التي استعملتها في قياسه، لِمَ؟ لأنَّه سيتمّ السؤال: أنت استعملتَ هذه المواد باعتبارها بديهيّةً، فمن أين لها أن تكونَ بديهةً في الواقع؟ والنتيجة هي أنَّ كلّ قضيّةٍ بديهيّةٍ ينتظرها في الكمين قضيّةٌ نظريّةٌ وراء قضيّة البديهيّات، وستُطالب مُدّعي المعرفة إثبات بداهتها.

وسنوضّح هذا المطلب بمثال: نحن نعلم بأنّ الحكماء يعتبرون «قضيّة الكلّ أعظم من الجزء» من «البديهيّات الأوّليّة»، ويدّعي الحُكماء بأنّ هذه القضيّة «بديهيّةٌ» ولكن يُمكن للأفراد ألّا يقبلوا بها كقضيّةٍ «بديهيّةٍ»، وهكذا فإنّ قضيّة «الكلّ أعظم من الجزء» التي تمّ الادعاء ببداهتها أصبحت محلّاً للنزاع بأنّه هل هي بديهيّةٌ واقعًا أم هي نظريّةٌ، ومن هنا يمكن القول حولها ما يلي: [قضيّة (قضيّة «الكلّ أعظم من الجزء» بديهيّةٌ) نظريّةٌ].

(59)

المنزل السادس للشكوكيّة

لقد مشت الشكوكيّة المعرفيّة قَدمًا بقَدمٍ، وقطعت خلفها عددًا من المراحل، واليوم أيضًا ترصّدت أمثال هذه الشكوكيّة في أروقة الفلسفة في كمين المعرفة، فـ «الشكوكيّة» تتجلّى في كلّ عصرٍ بصورةٍ خاصّةٍ، ويتمّ رسمها في قالب الاصطلاحات والمعتقدات والروح الحاكمة على ذلك العصر، ولذلك، فإنَّ الشكوكيّين، وبما يتناسب مع كلّ عصرٍ، وباستعمال الوسائل الخاصّة يحضُرون في «ميدان التصارع بين المعرفة والشكوكيّة»، و«نحن، في أيّ عصرٍ نحيا؟»، إنّنا نعلم، أنّ العصر الذي نحيا به يُسمّى «عصر الكمبيوتر» فنحن اليوم نستخدم وسائلَ معقّدةً ومُثيرةً للعجب تُسمّى «كمبيوتر»، والأجهزة المعقّدة منها، يمكن لها القيام بالمهام الفكريّة، بل أحيانًا تفوز على الإنسان في سباق المهارات، كالشطرنج»، ولذلك أطلق على مثل هذه الكمبيوترات اسم «الذكاء الصناعي»[1] لما يُمكن لها أن تؤدّيه من مهامَّ.

جرّة نوزيك

الشكوكيّة المعاصرة وجرّة نوزيك: لقد تعرّض روبرت نوزيك،[2] في

(60)

دفاعه عن «حقّ الشكوكي[1]» لتقرير نوعٍ من «الشكوكيّة» من خلال ملاحظة شروط البحث في كتاب التفسيرات الفلسفيّة[2]، وهذا النوع لا يقتصر على سحب «المعرفة»[3] أي «التصديق الصادق المبرر»[4] من مُدّعي المعرفة وحسب، بل يشمل حتّى «التصديق المُبرّر» (التصديق العقلائي)؛ ولذلك المُرعب في هذا النوع من الشكوكيّة إنّما جاء إلى ميدان الفكر من أجل أن يهزم «التصديق الصادق المُبرّر» (المعرفة العقلانيّة)، وكذلك «التصديق المبرّر» (المعرفة العقلائيّة)، وهو لا يُهدّد المعرفة) الاعتقاد العقلاني) وحسب، بل حتّى المعرفة المتعارف عليها والعقلائية المبنيّة على «العقل[5] السليم»[6] لن تبقى مصونةً من الضرر، وبعد أن قرّر نوزيك هذا

(61)

النوع من الشكوكيّة، أراد أن يُدافع عن حصن «التصديق المُبرّر» على الأقل، وذلك من خلال طرح «النظرية الشرطيّة حول المعرفة»[1]، ولكنّ ناقديه هجموا عليه في هذا الحصن، وهزموا دفاعه عن «التصديق المُبرّر».[2] وهذا

(62)

النوع من الشكوكيّة الحديثة يمكن تسميته بـ «الشكوكيّة الحاسوبيّة» أو وفق تعبير هيلاري بوتنام[1] في كتاب السبب، الصدق، والتاريخ[2] وأسماه «الذهن في جرّة»[3] وسيبرز سبب تسمية هذا النوع من الشكوكيّة بمثل هذا الاسم ضمن تقرير الإشكال، وعلى أيّ حال، فإنَّ هذا النوع من الشكوكيّة يمتلك «هوية عصرية» بحيث يمكن القول: تتجلّى «روح الشكوكيّة المعاصرة» في «تقرير نوزيك» والتي أسميناها «جرّة نوزيك»، وقد استمدّ نوزيك خلال

(63)

تقريره لهذا النوع من الشكوكيّة، مسلتهمًا[1] من ديكارت[2]ولكنّه طرحه بطرحٍ جديدٍ، وفي دراستنا لمسار أبي حامد الغزالي الفكري، (450 - 505 هـ. ق) نواجه أساليبَ تُماثل هذه الشكوكيّة أيضًا، وقد تناول فخر الدين الرازي البحث بصورةٍ مختلفةٍ أيضًا، وهكذا فإنّنا في مواجهة صعودٍ وهبوطٍ تمّ طَوْيُهما، ونحن الآن هنا بصدد تقريرٍ جديدٍ.

حلقة الملازمة في جرّة نوزيك: التقرير الذي يطرحه نوزيك حول الشكوكيّة مبنيٌّ على «مبدأ الانحصار[3]» أيّ «أصل البقاء ضمن حدود المُلازمات المعلومة»، والذي يمكن تسميته تسهيلًا للتعبير «حلقة الملازمة»، وهذا المبدأ يُبين أنّه إذا كان لدينا علمٌ بملازمة شيئين وكان لدينا علمٌ بـ «الملزوم» أيضًا، فإذن سوف يكون لدينا علمٌ بـ «اللازم» بالضرورة، وسنوضح الأمر بمثالٍ: افرضوا أنَّ شخصًا يعلم بالملازمة بين «العلم» و«القدرة» ويعلم كذلك أنَّ «العلم» حاصلٌ، فإذًا يجب أن يقبل النتيجة، مثلًا: إذا كان يعلم بأنّه «إذا كان زيدٌ عالمًا» فإذًا «هو قادرٌ» وسيعلم أيضًا بأنّ «زيدًا عالمٌ»، وسيعلم بالنتيجة أنَّ «زيدًا قادرٌ»؛ وعكس النقيض سيكون كالتالي: إذا كان شخصٌ لا يعلم بأنّ «زيدًا قادرٌ» فإنَّه لن يعلم بأنّ «زيدًا عالمٌ» أو أنَّه لا يعلم أصلًا بالملازمة؛ أيّ لا يعلم أنَّه إذا كان «زيدٌ عالمًا» فإذًا سيكون «زيدٌ قادرًا»، وهو عين مراد نوزيك من «مبدأ البقاء ضمن حدود الملازمات المعلومة» وهذا البيان يُصبح على صورة معادلةٍ بالنحو التالي:

(64)

معادلة حلقة الملازمة

[K(P"q) & Kap]"(Kaq)

توضيح المعادلة: [إذا كان الشخص a يعلم أنّ -K-؛ «إذا كان P فإذًا q» ويعلم P]، فعندها سيعلم q.

(~Kaq)"[Ka (p"q)] & Kap]

معادلة عكس نقيض حلقة الملازمة:- -     

(~Kaq)"[Ka (p"q)] v (Kap]

شرح معادلة عكس النقيض: إذا كان الشخص a لا يعلم q فعندها [إما أنَّه لا يعلم «إذا كان p فإذًا q» أو لا يعلم أنَّه p].

بيانٌ: إن مفاد معادلة حلقة الملازمة، هو أنّه إذا كان لشخصٍ علمٌ بالملازمة بين قضيتين، وحصل له العلم بالقضيّة الأوّلى أيضًا، فلا بدّ من أن تحصل له المعرفة بالقضيّة الثانية، فإذًا الآن لم يحصل له العلم بقضيّة «التالي»، فإذًا يُمكن افتراض عدة احتمالاتٍ: الأوّل أنَّه لا يعلم إن كانت p صادقةً، والأخرى أنَّه لا يعلم أنَّ قضيّة «إذا كانت p فإذًا q صحيحةٌ» أو أنَّه لا يعلم أنَّ p صادقةٌ وأيضًا لا يعلم إن كانت p صادقةً فإذًا q صادقةٌ، فمثلًا إذا علم شخصٌ «إذا كان للهرة شاربٌ فهي تستطيع المرور عبر الجدار» ويعلم إذا كان «للهرة شاربٌ» فسيعلم حينئذٍ أنَّه «يمكن للهرة أن تمر عبر الجدار» وسيكون عكس نقيضها كالتالي: «إذا لم يعلم شخص أن الهرّة يمكن لها أن تعبر الجدار» فإذًا إمّا أنَّه لا يعلم «العلم بقانون الملازمة بين امتلاك الشارب وبين العبور عبر الجدار» أو أنَّه لا يعلم «أنَّه لا شارب للهرة»، ونطرح مثالًا آخر: فلنفرض أن الشخص a يعلم أنَّ P ومفاد قضيّة P هو

(65)

أنَّ «الهرّةَ، هرّةٌ» ويعلم أيضًا (p"q) ومفاد q في هذه الرابطة مساوٍ لـ «الهرّة ليست بفأرةٍ» والآن نُطبّق «حلقة الملازمة» وعكسها في المثال:

[K(P"q) & Kap]"(Kaq)

[(~Kaq)"~[Ka (p"q)] &Kap]]

[(~Kaq)" [~Ka (p"q)] v (~Kap)]]

ومفاد تالي القضيّة المذكورة، أيّ [(Ka (p"q) v (~Kap~) ] في المثال هو بالنحو التالي: الشخص a إمّا أنَّه لا يعلم «إذا كانت الهرّة هرّةً، فإذًا ليست الهرّة فأرةً» أو أنَّه لا يعلم أنَّ «الهرّة هرّةٌ»، وإلى هنا نكون قد وضحنا «مبدأ الانحصار»[1] أو «مبدأ البقاء ضمن الملازمات المعلومة» بواسطة عدّة أمثلةٍ. ونوزيك يعتمد على هذا المبدأ ليتمكّن من تقديم تقريرٍ عن الشكوكيّة وهو ما سنتناوله بالبحث الآن.

تقرير شكوكيّة الجرّة: هذا النوع من الشكوكيّة يُمكن تقريره على مرحلتين؛ ومن مقتضيات تقرير المرحلة الأوّلى إيجاد الشكّ والتردّد في هويّة الإنسان وتبديله إلى أداةٍ في يد قوًى قاهرةٍ تجعله ليس من شأنه إلّا أن يكون آلةً وأداةً تستعمله لأهدافها الخاصّة، فالشكوكي في هذه المرحلة يُريد ممّن يدّعي المعرفة أن يُثبت أنَّه ليس بآلةٍ، ولكنّ مقتضى المرحلة الثانية من تقرير شكوكيّة الجرّة هو إيجاد الشكّ في صحّة إدراكات الإنسان، فإذًا مقتضى المرحلة الأولى من شكوكيّة الجرّة هو «سلب هويّة الإنسان» وتحويله إلى آلةٍ، وحاسوبٍ، و... ومقتضى المرحلة الثانية «سلب صحّة إدراكات الإنسان». والآن سنتناول تقرير شكوكيّة الجرة في المرحلتين مستعينين بـ «حلقة الملازمة».

(66)

مراحل تقرير شكوكيّة الجرة: يمكن تقرير شكوكيّة الجرّة ضمن مرحلتين:

المرحلة الأوّلى: بناءً على «مبدأ البقاء ضمن الملازمات المعلومة» والتي مفادها أنّه إذا علم شخصٌ بالملازمة بين قضيتين؛ يعني: كان لديه العلم بالملازمة بينهما وكان لديه العلم بمقدّم قضيّة الملازمة كذلك، فإذًا لديه بالضرورة العلم بما ينتج عن هذا العلم، ولنفرض أنَّه لدينا قضايا بهذه الخصائص:

[Ka (p"q) & Kap]"(Kaq)

P= «أنا الآن أقوم بمطالعة كتابٍ فلسفيّ»

q = ذهني ليس في جرةٍ

a =  شخصٌ خاصٌّ

توضيح القضيّة: في هذه المسألةُ يبنى الفرض على أن الجمع بين «كون الذهن في جرّةٍ» وبين «الكون في حالة المطالعة» أمرٌ غيرُ ممكنٍ، فإذا ادّعى شخصٌ أنَّه يُطالع كتابًا فلسفيّاً فكيف يمكن أن يكون الذهن في جرّةٍ بحيث يقبل الحركة بأدواتٍ إلكترونيةٍ، وادعاء القول «أنا الآن مشغولٌ بمطالعة كتابٍ فلسفيٍّ» هو بناءٌ على فرض أنَّه أنا إنسانٌ وبناءً على هذا الفرض فأنا مُنشغلٌ بمطالعة كتابٍ، فإذًا مفاد القضيّة المذكورة هو «إن كنتُ أعلم بأننّي عندما أكون منشغلًا بمطالعة كتابٍ، فلن يكون ذهني في جرّةٍ وأعلم بأنّه «الآن أنا منشغلٌ بمطالعة كتابٍ فلسفيٍّ، فإذن بناءً على هذين الفرضين سأعلم أنَّه لن يكون «ذهني في جرةٍ».

(67)

والآن فلنلتفت إلى عكس نقيض القضيّة المذكورة:

~Kaq " ~ [Ka (p " q)] & Kap]

~Kaq " ~ [Ka (p "q)]v (~Kap)]

فمفاد قضيّة عكس النقيض هي أنَّه إذا لم أعلم بأنَّ «ذهني ليس داخل الجرّةٍ»، فإذًا إمّا أننّي لا أعلم بأنّه «إذا كنتُ الآن مُنشغلًا بمطالعة كتابٍ فلسفيٍّ، فإذًا ليس ذهني داخل الجرّةٍ» أو أننّي لا أعلم «أننّي الآن منشغلٌ بمطالعة كتابٍ فلسفيٍّ»، وفي هذه الحالة وحيث إنّه من المفترض أن نقبل بشقّ (Ka (p "q؛ أيّ أننّا وافقنا على أنّه «إذا كنّا الآن منشغلين في مطالعة كتابٍ فلسفيٍّ، فإذن ذهننا ليس في جرّةٍ»، فإذًا هنا ينبغي القبول بالقسم KaP~ من الشق الآخر من القضيّة المنفصلة المذكورة [~Ka (p "q) v (~Kap)]، فستكون نتيجة ذلك أننّي الآن لا أعلم إذا كنت منشغلًا بمطالعة كتابٍ فلسفيٍّ؛ لأننّي لا أعلم أنّ «ذهني ليس داخل الجرّة» وهكذا سائر القضايا.

فإذًا النتيجة التي نصل إليها من هذه المرحلة من تقرير شكوكيّة الجرّة، هي أنّنا لا يُمكن لنا أن نُثبت أننّا لسنا بآلةٍ، فإذًا كيف يمكن لنا أن نحوز على «المعرفة» و«التصديق المُبرّر» وأعلى من ذلك «التصديق»؛ لأنَّ «التصديق» من فعل الإنسان لا الآلة، فإذًا يمكن كتابة المعادلة المذكورة لـ «التصديق» بالطريقة التالية:

~[Ba (p  "q) & Bap]

 [Ba (p "q) & Bap]" Baq= ~ Baq] " 

 [~Ba (p "q) v ~ Bap]

(68)

وبالتالي سوف تكون نتيجة المعادلة بحيث ـ بناءً على المرحلة الأولى من تقرير شكوكيّة الجرّة ـ لن تكون فقط «المعرفة» أيّ «التصديق الصادق المُبرّر» ـ المعرفة العقلانيّة ـ محلّاً للنقاش، بل «التصديق المُبرّر» - المعرفة العقلية - أيضًا ستكون محلًّا للشكّ، وفي النهاية لن يبقى مبدأُ «التصديق» -الفهم والإدراك- مصونًا من أضرار الشكوكيّة، بل إنَّ «الهوية الإنسانيّة» ستقع في هالةٍ من الإبهام من خلال فرضيّة «الذرائعية».

المرحلة الثانية: في التقرير الثاني لشكوكيّة الجرّة، يدخل متغيّرٌ آخرُ إلى ميدان النزاع، مُتغيّرٌ حاضرٌ الآن في مسرح معركة الفكر، وهو موجودٌ شريرٌ ومُحتالٌ وخادِعٌ تُؤدّي إلقاءاتُه إلى أنّنا إذا وقعنا في الخطأ خلال التفكير فلا مجال للوصول إلى الصدق، ربما تقول: إلى الآن لم نُحرز أنَّ موجودًا شريرًا قد خدعنا، ولكن احتمال وجود مثل هذا الموجود الشرير والخادع يُمكن أن يسلبك إمكانيّة اِدعاء المعرفة؛ لأنَّه «إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال»، فإذن احتمال وجود موجودٍ شريرٍ، مثل الشيطان و... يُمكن له أن يُسدّد ضربةً مُهلكةً إلى كيان «المعرفة» وأن يسلب منها هويّة صدقها.

جرّة نوزيك في كلام نوزيك: لقد دوّن[1] روبرت نوزيك،[2] في كتاب التفسيرات الفلسفيّة تحت عنوان «الاحتمالات الشكوكيّة»[3] ما يلي:

يُشير الشكّاك غالبًا إلى بعض الموارد، بحيث يعتقد الشخص بأمرٍ

(69)

وإن كان باطلًا، فإذًا في الواقع إنَّ مثل هذا الفرد إمّا أنّ «الشيطان» قد خدعه أو أنَّه شاهد رؤيا أو كان يسبح في مخزنٍ ما بحيث حركت العوامل الخارجيّة ذهنه، وعلى أيّ حالٍ، فإنَّ قضيّة P التي يعتقد بها كاذبةٌ، وهو لديه هذا الاعتقاد على الرغم من أنَّ القضيّة المذكورة كاذبة. [1]

حُلُم ديكارت وجرّة نوزيك: أشرنا سابقًا إلى أنَّ نوزيك في تقرير الشكوكيّة الحاسوبية استلهم من ديكارت. ومن المناسب هنا، أن نبحث ما طرحه ديكارت في التأمل الأوّل في كتاب التأملات حول العلاقة بين قيمة الإدراك واحتمال تحقّق مثل هذه العمليّة في الحُلُم.

دوّن ديكارت في كتاب التأملات في الفلسفة الأوّلى ما يلي:

ومع هذا كلّه، هنا لا بدّ أن نحتفظ في أذهاننا بأننّي إنسانٌ وبالنتيجة اعتدتُ على الحلم وجميع هذه الأمور التي يراها المجانين في الواقع ـ وحتّى أحيانًا تلك الأمور ذات الواقعيّة الأدنى ـ أراها في الحلم، وقد رأيتُ عدّة مرّات في الحلم أننّي أرتدي هذه الملابس عينها وكنت جالسًا إلى جوار النار، وكنت... وكنت مستلقيًا على السرير، والآن يبدو واضحًا أمامي بأنّني لا أنظر إلى هذه الورقة بعيونٍ ناعسةٍ، وهذا الرأس الذي أحمله، وهذه اليد التي أحركها عن عمدٍ وإرادةٍ تامّةٍ ولدي إدراكٌ بها، وجميع الأحداث التي تقع في الحلم لا تبدو واضحةً جليّةً كما تبدو عليها الأمور الآن، ولكن عندما أفكّر بدقةٍ، أتذكّر أنّني كثيرًا ما خُدعت في الحلم بقبيل هذه الأوهام، ولأنّني أمكثُ في التفكير، أرى بوضوحٍ تامٍّ

(70)

أنّه ليس في يدي أيّ دلالةٍ قطعيّةٍ تُمكنّني من التفرقة بين الحلم واليقظة، وهنا وقعت في حيرةٍ شديدةٍ، حيرة بلغت إلى الحدّ الذي يجعلني أقنع تقريبًا أنني في حُلُم.[1]

لقد استفاد ديكارت أيضًا في الواقع من «مبدأ البقاء ضمن حدود الملازمات المعلومة»؛ لذلك يمكن القول: «جرّة نوزيك» هي بيانٌ آخرُ لـ « حُلُم ديكارت». وقد كتب ديكارت في ختام التأمل الأوّل من كتاب التأملات عند طرحه لـ «فرضيّة الخداع الشيطاني» في عمليّة الإدراك ما يلي:

لذلك، أَفرِضُ أنّه ليس هناك إلهٌ واحدٌ حقيقيٌّ ـ وهو المنبع الأساسي للحقيقة ـ بل شيطانٌ شريرٌ ومكّارٌ وخادع قد أودع كافّة مهاراته لإغوائنا، أَفرِض أنَّ السماء والهواء والأرض والألوان والإشكال والأصوات وكافّة الأشياء الخارجيّة التي أراها هي أوهامٌ وخداعٌ استفاد منها الشيطان ليُثمّن صيده.[2]

جرّة نوزيك ورؤيا الغزالي: طرح أبو حامد محمّد الغزالي، ( 450ـ 505 هـ.ق) في كتابه المنقذ من الضلال، قبل قرونٍ من ديكارت ونوزيك، احتمال هويّة رؤيا الإدراكات البشريّة، وقرّرها وفقًا للبيان التالي:

أما تراك تعتقد في النوم أمورًا وتتخيّل أحوالًا وتعتقد لها ثباتًا واستقرارًا؟ أَوَلا تشكّ في تلك الحالة فيها؟ ثمّ تستيقظ فتعلم أنّه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصلٌ وطائلٌ؟ فبِمَ تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحسٍّ أو عقلٍ، هو أحقّ بالإضافة إلى حالتك؟ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالةٌ، يكون

(71)

نسبتها إلى يقظتك، كنسبة يقظتك إلى منامك وتكون يقظتك نومًا، بالإضافة إليها، فإذا أوردت تلك الحالة، تيقنت أن جميعَ ما توهمّت بعقلك خيالاتٌ لا حاصل لها.[1]

لذلك يُستفاد من عبارة الغزالي أيضًا هذه النقطة، وهي أنّه طالما لم نصل إلى مرحلةٍ من الإدراك بحيث إذا تغيّرت الوضعيّة، فإدراكنا سيتغير بالتبع، فإذًا نحن أيضًا لم نصل إلى «إدراك مضمون الصدق»، فلو كانت الإدراكات التي نمتلكها الآن، أو لو حلُمنا بها في المنام، أو كنّا حاسوبًا و… لكان لدينا هذه كلّها، فإذًا من أين لنا الآن إدراكاتٌ مطابقةٌ للواقع والحقيقة أيضًا.

الفخر الرازي وجرّة نوزيك: طرح فخر الدين الرازي المعروف بإمام المشككين (544 – 606 هـ ق.) تقريرًا بليغًا لجرّة نوزيك (البقاء ضمن حدود الملازمات المعلومة).

فقد دوّن في كتاب محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين ما يلي:

إنّ النائم يرى في النوم شيئًا ويجزم بثبوته، ثمَّ يتبيّن له في اليقظة أن ذلك الجزم كان باطلًا وإذا جاز ذلك فلَم لا يجوز أن يكون هنا حالةٌ ثالثةٌ يظهر لنا فيها كذب ما رأيناه في اليقظة... إن صاحب البرسام قد يتصوّر صورًا لا وجود لها في الخارج ويشاهدها ويجزم بثبوتها ووجودها ويَصيح خوفًا منها، وهذا يدلّ على أنّه يجوز أن تعرض للإنسان حالةٌ لأجلها يرى ما ليس بموجودٍ في الخارج موجودًا، وإذا جاز ذلك فلِمَ لا يجوز أن يكون الأمر كذلك فيما يشاهده الأصحاء، فإن قُلت: الموجب لتلك الحالة هو المرض

(72)

فعند الصحّة لا يوجد، قلتُ: انتفاء السبب الواحد لا يوجب انتفاء الحكم….[1].

لقد طرح الفخر الرازي في هذا المؤلّف ـ وهو حول الفكر الشكوكي ـ هذه الفرضيّة، وهي أنّه يُمكن أن يكون الإنسان جازمًا بأمورٍ وهي في الواقع لا تمتّ إلى الحقيقة بصلةٍ، ولكنّ جزمه يتحقّق بها. وهكذا، يطرح فخر الرازي «جرّة نوزيك» بتقريرٍ آخرَ.

ويُشير مولوي في مناسبةٍ أخرى إلى هذه الجرّة ويقول هناك مُعرّضًا بالفلاسفة المنكرين للشيطان، فيقول:

فلسفى مر ديو را منكر بُوَد
 

   خود در آن دَم، سُخره ديوى بُوَد

[يقول: لأنَّ الفيلسوف أنكر الشيطان، فأوقع بذلك نفسه في شراك الشيطان].

كان هذا طرحًا مجملًا لـ «تقرير نوزيك حول الشكوكيّة» والذي أطلقنا عليه «جرّة نوزيك» وسمعنا تقاريرَ أخرى عنه على ألسنة الآخرين، وهي ممتازةٌ ومتشابهةٌ وربما كان لهذا السبب مورد اهتمام علماء نظريّة المعرفة فاتّجهوا لنقده أو لتأييد كلامه.

المنزل السابعة حول الشكوكيّة

يُريدنا الشكوكي في «المنزل السابع» أن نُثبت أنَّ ما قبلناه كـ «مبادئ للمعرفة»، هي بكيفيّةٍ يُمكن دمجها ببعض والاستفادة منها بهدف إحكام بناء المعرفة.

(73)

مشكلة الابتناء

يُطالبنا الشكّاك في «المرحلة السابعة» أو «مرحلة الابتناء» بأمرين:

أ. إثبات أنَّ «مبادئ المعرفة» ـ البديهيّات ـ لها كيفيّةٌ بحيث يُمكن القيام بعمليّة تركيب الصورة فيها ـ أي أنَّها على سبيل المثال ذوات حدٍّ مشتركٍ ـ وأنّه بناءً عليها، فقد أُسّست بُنية المعرفة للمعرفة اليقينيّة أيضًا.

ب. أن نُقدّم نماذجَ بحيث نصل فيها بناءً على جميع البديهيّات إلى إثبات القضيّة النظريّة العائدة إلى عالم الخارج (الخارج عن كلّ مراتب الذهن).

وفي البند (ب) هناك تأكيدٌ على أنّ القضيّة التي تُثبت بناءً على أساس البديهيّات، تعود إلى العالم الخارج، أيّ الخارج عن كلّ مراتب الذهن؛ لأنّ الشكّاك عندما يبحث عن سبيل نجاةٍ من بئر «الشكوكيّة»[1] فإنَّه سيقع[2] في أزمةٍ أخرى باسم «وحدة الأنا»[3] فإذًا ينبغي أن يكون «نموذج الابتناء» بحيث يُمكن أن يمنح الشكوكيّين النجاة من هذه الأزمة.

كان هذا عينةً من أهم إشكالات الشكوكيّين التي حرّرناها تحت عنوان «مراتب الشكوكيّة السبع»، وسنسعى في الفصل القادم أن نَعبرَ هذه المنازل السبعة.

(74)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

العبور عن مراتب

 الشكوكيّة السبع

 

(75)

العبور عن مراتب الشكوكيّة السبع

في الفصل السابق، طرحنا نماذجَ عن أهم تقارير الشكوكيّة تحت عنوان «مراتب الشكوكيّة السبع»، وسنسعى الآن في هذا الفصل للإجابة على هذه الإشكالات وأن نتقدّم خطوةً في طريق الوصول إلى «اليقين الصادق».

شب تار است وره وادى ايمن در پيش  آتش طور كجا موعد ديدار كجاست

[يقول: الليل مُظلمٌ، وطريق الوادي آمنٌ، عند نار الطور، فأين موعد اللقاء أين؟].

العبور من المنزل الأوّل للشكوكيّة

(ع. م ـ1([1]: المرتبة الأوّلى من الشكوكيّة، والتي قرّرناها تحت عنوان «التشكيك ثلاثي الأضلاع»، وكانت الدعوى أنَّ إثبات قيمة المعرفة، يندرج تحت إثبات ثلاثة أمورٍ: 1. وجود الذهن والقوّة الإدراكيّة 2. وجود الصور الذهنيّة 3. الحكاية الصادقة للصور الذهنيّة عن الخارج.

وعلى هذا الأساس، يستنتج المُستشكل ما يلي: بما أنَّ مدعي المعرفة لم يُثبت الأركان الثلاثة هذه، فسيسقط البناء الذي قام على أساسه ذاك البنيان إذا ما تمّ التشكيك في أيّ ركنٍ من هذه الأركان الثلاثة.

وكان هذا طرحٌ إجماليٌّ للإشكال الذي طرحناه في الفصل السابق تحت عنوان «التشكيك ثلاثي الأضلاع».

(76)

وبما أنَّ هذا المنزل ذو ثلاثة أضلاعٍ كما هو جليٌّ من العنوان، يُطالبنا الشكاك بدليلٍ على كلّ واحدةٍ من الأضلاع الثلاثة، ومن هذا المُنطلق سنطرح عددًا من الأدلّة باعتبارها إجاباتٍ على الإشكال الأوّل من إشكالات الشكوكي، وستكون تحت عنوان «تدعيم أضلاع المعرفة الثلاثة».

تدعيم أضلاع المعرفة الثلاثة

لا شكّ، أنَّ مُرادنا من «المعرفة» هنا هو «العلم الحصولي»، وهو يقوم على ثلاثة أسسٍ: 1. الذهن؛ 2. الصور الذهنيّة؛ 3. الحكاية الصادقة للصور الذهنيّة. فإذا كُنّا ندّعي المعرفة فلا بدّ من السعي لإحكام وتدعيم الأسس الثلاثة هذه.

تدعيم الضلع الأوّل (الذهن): لقد أثبتنا في الفصل الأوّل من هذه الرسالة عنصر الذهن أيّ القوّة الإدراكيّة في العلم الحصولي، وخلاصة الاستدلال الذي أقمناه هناك هو ما يلي: بما أنّه لدينا علمٌ مرتبطٌ بالحالة الإدراكيّة الخاصّة والتي يُعبّر عنها بالعلم الحصولي، فإذًا لا بدّ من وجود قوّةٍ تمنح التحقّق لهذه الظاهرة، أو لا بدّ من وجود ظرفٍ بالنسبة للمظروف يعدّ مكانًا لها عند تحليل العقل، ولذلك، إذا كان لدينا هذا النوع من الإدراك (العلم الحصولي)، فلا ينبغي أن نُشكّك في قوّته المرتبط بها (إن اعتبرنا الذهن قوّةً من قوى النفس) أو في وعاء تحقّقه (إن اعتبرنا الذهن وعاءً للإدراكات الحصوليّة)، وبالطبع، إذا كان الشخص يشكّ في وجود هذه الحالة الإدراكيّة، والتي هي عبارةٌ عن أمرٍ وجدانيٍّ، فيمكن له أن ينتبه لها من خلال أدلّة وجوده الذهنيّ، وهنا سنكتفي بهذا المقدار وسنُحيل تفصيل البحث إلى الفصليْن الأوّل والثاني.

تدعيم الضلع الثاني (الصور الذهنيّة): من المطالب التي ذكرناها ضمن الاستدلال لتدعيم الضلع الأوّل من المعرفة، هو أنّ الصور الذهنيّة

(77)

تقبل الإثبات أيضًا، على الرغم من أنَّ أصل وجود الصور الذهنيّة هو أمرٌ وجدانيٌّ لا يحتاج إلى دليلٍ أصلًا، وحتّى لو أقمنا أدلّةً لإثباتها ـ في مبحث الوجود الذهني ـ فهذه الأدلّة إنّما كانت لمُجرّد التنبيه ودفع الشُبهة، وبالطبع، هناك اختلافاتٌ بين الحكماء حول تفسير الصور الذهنيّة، كما تناولناها مُسبقًا، إذ يعتبر المشاؤون عمومًا بأنّ الصور الذهنيّة عبارةٌ عن كيفٍ نفسانيٍّ وعرضٍ من الأعراض، ولكنّ أفرادًا من أمثال صدر المتألهين مِمّن يقول باتّحاد العاقل والمعقول، يرى بأنّ رابطة النفس بالصور الذهنيّة من قبيل رابطة المادّة والصورة، بل أعلى من هذا، حيث طرحوا تفسيرًا للصور الذهنيّة على أساس شفافية الذهن ومرآتيّته، وهي شاسعة البُعد عن تفسير المشائين للصور الذهنيّة، وبالنتيجة فإنّ بعض المعضلات التي وقع بها المشاؤون بسبب تفسير الصور الذهنيّة بالكيف النفساني، ارتفعت بناءً لتفسير العلم بتنوّر النفس الذاتي. ولذلك، هناك اختلافٌ بين المشائين ومخالفيهم حول تفسير الصور الذهنيّة، ولكن لا اختلاف بينهما حول أصل وجود الصور الذهنيّة، وإن وُجد اختلافٌ، فهو أنّه هل هذه الحالة الإدراكيّة أمرٌ ذاتيٌّ داخليٌّ أم أمرٌ عرضيٌّ يظهر على صفحة النفس الظاهريّة، وعلى ما يبدو فإنّه حتّى من يقول بالإضافة ـ مثل الفخر الرازي ـ لا شكّ لديه[1] في أصل وجود هذه الحالة الإدراكيّة الخاصّة أيضًا، وإنّما أبدوا وجهة نظرٍ خاصّةٍ حول تفسير هذه الحالة الإدراكيّة؛ لأنَّ القائلين بالإضافة، يعتبرون أنَّ «الإدراك» أعلى من انطباع الصورة، ويُفسّرونها بأنّها «كيفٌ ذو إضافةٍ»، وحتّى لو أنكروا الصور الذهنيّة بشكلٍ تامٍّ، فذلك من أجل الفرار من مشاكل الوجود الذهني في الحقيقة[2].

(78)

ونسب فلاسفة الغرب أمر إنكار الصور الذهنيّة لتوماس ريد[1] ولكن كما دوّنوا فإنَّه أساسًا مال إلى هذا الرأي على أساس مبنى «العقل السليم» أو «الفهم المتعارف».[2] ويُعتبر توماس مخالفًا لهيوم الذي أنكر «الصور الذهنيّة» والتجأ إلى الفهم المتعارف[3] في قبال سدّ الشكوكيّة، التي بدأت ممارستها من طرف هيوم، [4]ولكن هذا الأمر لا يقتصر على كونه إنكارًا لأمرٍ وجدانيٍّ، بل هو في الواقع جلبُ أمرٍ مخفيٍّ يقع بنحوٍ ما إلى جانب التفريط في مقابل الشكوكيّة الهيوميّة. وعلى كلّ حالٍ فإنَّ وجود مثل هذه الحالة الإدراكيّة لا تقبل الإنكار أصلًا، وإنكارها في الواقع يعني الامتناع عن قبول مبدأ العلم الحصولي مع غضّ النظر عن صدقه وكذبه.

نقد كلامين: سنتناول هنا نقد رأيين لأحد الكتّاب المعاصرين، حرّرهما في نفي الصور الذهنيّة، حيث كتب ما يلي:

1. لقد أثبتوا في الفلسفة والمنطق الجديد أنَّه لا يُمكن أن تكون هناك مفاهيمُ بلا مصاديق، أو معدوماتٌ ذاتُ وجودٍ ذهنيٍّ، ويقول برتراند راسل المشهور، بدلًا من أن نقول لا وجود لجبلٍ ذهبيٍّ، نقول لا شيءَ موجودًا يكون جبلًا وذهبًا في الوقت عينه.[5]

هذا الكلام لا يعتبر صادقًا، بالالتفات إلى التفسير الصحيح للوجود الذهني ولا يختصّ بالمفاهيم الماهويّة أو المفاهيم غير العدميّة، بل يشمل كافّة الصور الذهنيّة بما هو أعمُّ من التصوّريّة والتصديقيّة والقضيّة

(79)

(حمليّةً أو شرطيّةً و...)؛ لأنَّه بعد تحليل راسل لقضيّة «لا وجود لجبلٍ ذهبيٍّ» إلى قضيّة «لا شيءَ موجودًا يكون جبلًا وذهبًا في الوقت عينه»، فإنّنا سوف نقول: لم تخرج أنت عن مدار الذهن والوجود الذهني والصور الإدراكيّة في كافّة مراحل تحليل القضيّة، ولذلك، كيف يُمكن لك أن تضع ذات المدّعى دليلًا على نفي الصور الذهنيّة؟ فأنتَ في صدد إنكار «الذهن» بالاستعانة بـ «الذهن»، مثل من يصرخ عاليًا ليُخفي صرختي.

2. في الفلسفة الجديدة، تزلزلت الأركان الأساسيّة الثلاثة التي تعتبر أساسًا ومبنىً لنظريّة الوجود الذهني، وهذه الأركان الثلاث هي عبارةٌ عمّا يلي: 1. الاختلاف بين الوجود والماهيّة؛ 2. الاختلاف بين الجوهر والعرض؛ 3. الاختلاف بين الذاتي والعرضي.[1]

وهذا الكلام غيرُ تامٍّ؛ لأنّه أوّلًا: مُجرّد إدعاءٍ بأنَّ مثل هذا التفكيك باطلٌ، وكم كان من الجيّد لو أنّ الكاتب استند على دليل حتّى نفهمه خلال دراستنا النقديّة؛ وثانيًا: إبطال هذه العناصر الثلاثة ـ الوجود والماهيّة، الجوهر والعرض، الذاتي والعرضي ـ إنّما يمكن له أن يُزلزل كيان الوجود الذهني حينما يكون الوجودُ الذهني والصورُ الإدراكيّة مبنيَّيْن على هذه الأصول، ويُمكن تفسير «الصور الذهنيّة» بطرقٍ مُتعدّدةٍ، ولكنّ التفسير الذي طرحناه في الفصل الثاني من هذه الرسالة، يجعلها ذات هويّةٍ مفهوميّةٍ، ويُكسبها كلّ حدود العلم الحصولي، وتشمل تحت ظلّها مُطلق المفاهيم بما هو أعمّ من المفاهيم الماهويّة وغير الماهويّة، والحقيقيّة منها والاعتباريّة، والذاتيّة منها والعرضيّة، والتصوّريّة منها والتصديقيّة و...، ولهذه الصور شأنٌ داخليٌّ ذاتيٌّ وليست بأمرٍ عرضيٍّ، ومن هذا المنطلق، إذا أنكرنا الاختلاف بين الوجود والماهيّة، وبين الجوهر والعرض، وبين الذاتي والعرضي، مع ذلك لن يترتّب ضررٌ على استحكام الوجود الذهني والصور

(80)

الإدراكيّة؛ لأننّا ما زلنا نجد في أنفسنا حالةً إدراكيّةً خاصّةً عند مشاهدة الأشياء أو عند التفكير حول مسألةٍ، وهذا الأمر ليس إلّا الوجود الذهني والصور الإدراكيّة. وسنبسط هذا البحث في الفصل الثاني من هذه الرسالة.

إحكام الضلع الثالث (الحكاية الصادقة): يضع الشكّاك عنصر الحكاية في «التشكيك ثلاثي الأضلاع»، ويُطالب في هذا الباب مدعيّ المعرفة أن يُقدّموا دليلًا؛ ومن الضروري، تقديم عدّة توضيحاتٍ حول العلم الحصولي والتفاسير المتنوّعة عنه قبل الخوض في إثبات «الحكاية»، ومن هنا فصاعدًا، سنُحاكم مسألة حكاية الصور الذهنيّة؛ لأنَّ تفسير الحكاية في العلم الحصولي منوطٌ بتفسير أصل العلم الحصولي.

تفسير العلم الحصولي: هناك العديد من التفاسير حول العلم الحصولي، وهذه الاختلافات في التفسير ناشئةٌ عمومًا من التفاسير المختلفة لـ «الصور الذهنيّة» أو «الوجود الذهني»، ونحن قد بيّنا تفاسيرَ مُتعدّدةً في الفصل الثاني حول «الصور الذهنيّة» وقُلنا: إنَّ الحكماء فسّروا العلم الحصولي بثلاثِ طرقٍ:

1ـ التفسير الماهوي: المُراد من هذا التفسير هو أنّنا نُعبّر عن العلم الحصولي بحصول الماهيّات في الذهن ـ يعني: تحقّق الحقائق الماهويّة في الوجود الذهني والظلّي حيث لا أثر يترتّب عليها، ولم نعتمد على حيثيّة حكاية هذه المفاهيم، بحيث إنّنا إمّا لا نلتفت إلى «الحكاية» التي في العلم الحصولي أو نُفسّر الحكاية على أنَّها مُجرّد حصول الماهيّة في الذهن، فـ «الماهيّة» هي ذات الشيء الذي يقع في جواب «ما هو؟» ويحكي عن ماهيّة الأشياء، وهي الحيثيّة التي تتحقق في الخارج كوجودٍ خارجيٍّ، وفي الذهن كوجودٍ ظلّيٍ، أيّ في ظلّ وجود العلم.

وقد قُدّم هذا التفسير للوجود الذهني على أنّه الرأي المشهور

(81)

للحكماء؛[1] ولكن ربما لا يُمكن نسبة هذا التفسير عن الوجود الذهني ـ أيّ الفلسفة الوضعيّة الذهنيّة للماهية ـ لكافّة الحكماء، وإنّما يُمكن أن ننسب الغفلة عن الحيثيّة الحكائيّة للصور العلميّة، أو عدم التفوّه صراحةً بهذه الحيثيّة إلى الكثير من الحكماء، وللعلّامة الحلّي بيانٌ عند تفسيره لكلام المحقّق الطوسي، يُبيّن فيه بأنّ العلم الحصولي لا يجلب نفس ماهيّة الأشياء إلى الذهن، بل مفاهيمها هي التي تحصل في الذهن (وهو التفسير الثاني للصور الذهنيّة) كذلك نقرأ في كشف المراد:

قال [المحقق الطوسي]: والموجود في الذهن إنّما هو الصورة المخالفة في كثيرٍ من اللوازم. أقول [العلامة الحلي]: هذا جوابٌ عن استدلالِ مَن نفى الوجود الذهنيّ، وتقرير استدلالهم: إنّه لو حلّت الماهيّة في الأذهان لزم أن يكون الذهن حارّاً باردًا، أسودَ أبيضَ، فيلزم مع اتّصاف الذهن بهذه الأشياء المُنتفية عنه اجتماع الضدّين. والجواب: إنّ الحاصل في الذهن ليس هو ماهيّة الحرارة والسواد بل صورتهما ومثالُهما المخالفة للماهيّة في لوازمها وأحكامها فالحرارة الخارجيّة تستلزم السخونة وصورتهما لا تستلزمهما، والتضادّ إنّما هو بين الماهيّات لا بين صورها وأمثلتها.[2]

على الرغم من أنّه من غير المقدور نسبة التفسير الأوّل إلى كافّة القدماء، إلّا أنّه لا شكّ في أنّ هذا الفهم والتفسير للوجود الذهني موجودٌ بين القدماء، وبالطبع يجب استثناء ابن سينا؛ لأنّ له كلامًا يُشعرنا بأنَّ المفاهيم ـ لا الماهيّات بمعناهم غير الحكائي ـ تحصُل في الذهن، قال:

العلم هو حصول صور المعلومات في النفس وليس نعني به أن

(82)

تلك الذوات تحصل في النفس، بل آثارٌ منها ورسومٌ[1].

نقد: يرد على هذا التفسير للعلم الحصولي ـ تفسير العلم الحصولي بالحصول غير الحكائي لعين الماهيّات في الذهن ـ إشكالاتٌ مهمّةٌ وأساسيّةٌ، وهي أنَّه لو كانت الماهيّات بعينها تتبادر إلى الذهن، فلا بدّ من حصول لوازم الماهيّات في الذهن؛ لأنَّ لوازم الماهيّات لن تكون قابلةً للانفكاك عنها في أيٍّ من مواطن الوجود، ومن هذا المنطلق، تقريبًا منذ زمن صدر المتألهين وما بعد، تراجعوا عن تفسير العلم الحصولي بالحصول غير الحكائي لعين الماهيّات في الذهن، وأتوا بطرحٍ آخرَ ـ التفسير الثاني للعلم الحصولي ـ وفي الواقع سيكون مرادهم من حصول الماهيّات في الذهن هو حصول مفاهيم الماهيّات في الذهن، وكنموذجٍ سنطرح كلامًا لصدر المتألهين بعنوان شاهدٍ ودليلٍ:

فإن قلتَ أليست حقيقة السواد والبياض والحيوان والشجر وغيرها معقولةً لنا وهي من الموجودات المادّيّة القابلة للقسمة المقداريّة فلزم أن يكون الشيء المنقسم من حيث هو منقسمٌ معقولًا. قُلنا: عروض القسمة المقداريّة لها من لوازم وجودها الخارجيّ، بل كونها بحيث يعرض لها القسمة المقداريّة بالذات أو بالعرض أو يلزمها إمكان القسمة بأحد الوجهين، هو نحو وجودها في الخارج وأمّا وجودها العقليّ فنحوٌ آخرُ ليس بحسبه إمكان القسمة الوضعيّة، وهذا الإشكال إنّما يصعُب حلّه عند من يرى أنَّ التعقّل عبارةٌ عن تجريد الماهيّة عن الزوائد؛ لأنّ بعض الماهيّات ممّا يدخل في حدودها الذاتيّة الجسميّة قبول الانقسام المقداري كالحيوان والفلك وغيرهما؛ فإذا جُرّدت عن الزوائد والعوارض، بقي لها كونها منقسمةً بالفعل أو بالقوّة القريبة؛ لأنّ

(83)

ذاتي ماهية الشيء لا ينفكّ عنها بحسب أنحاء وجودها الخارجي والعقلي فيقوى الإشكال ويعسر الانحلال، وأمّا على طريقتنا فإنّ ماهيّة الشيء عبارةٌ عن مفهومها ومعناها، فمعنى الجسميّة مثلًا مفهوم قولنا جوهرٌ قابلٌ للأبعاد وله وجودٌ في الخارج ووجودٌ في العقل، فإذا وجدت معنى الجسميّة في العقل، يوجد بوجودٍ آخرَ غيرِ هذا الوجود، وذلك الوجود حاملٌ للمفهوم من الجسميّة بحيث هو هو فيحمل على تلك الماهيّة أنّها ماهيّة كذا حملًا أوّليًا ولكن لا يصدق على ذلك الوجود العقليّ أنّه قابلٌ للأبعاد وأنّه قابلٌ للانقسام المقداريّ.[1]

فإذا التزمنا بحصول نفس الماهيّات في الذهن، فلا بدّ أن نقبل بحصول لوازم الماهيّات في الذهن أيضًا، ولكن قبول مثل هذه الملازمة يستلزم إيقادهم لـ «الشرارة الذهنيّة»! ومن هنا أراد صدر المتألهين وآخرون حلّ[2] مشكلة الوجود الذهني عبر التفكيك والفصل بين الوجود الخارجي والوجود الذهني عن طريق اختلاف الحمل ـ الحمل الأوّلي والحمل الشائع ـ وبالطبع، فإنَّ المشكلة تقبل الحلّ عبر هذا الطريق، ولكن لأنَّ المطلب قد طُرح ضمن لفافةٍ من الاصطلاحات، أضيفت مشكلةٌ إلى بقيّة المشكلات؛ فهم شرعوا بالبحث ابتداءً عن حصول الماهيّة في الذهن، ولأنّهم واجهوا مشكلاتٍ حول الوجود الذهني، قالوا: نحن نستطيع التفوّق على مشاكل الوجود الذهني عن طريق اختلاف الحمل، ولكن هذا الالتجاء إلى اختلاف الحمل ـ الحمل الأوّلي والشائع ـ هل يحمل رسالةً غير أنّ «المفهوم غير المصداق»؟! حسنًا قُل من البداية: إنّ عملنا منصبٌّ على المفهوم في الوجود

(84)

الذهني، لا على المصداق، لكي لا تقع من الأصل في مشكلةٍ وتتعنّى وتبذل الجهد لحلّها! هذا النوع من طرح المسألة موجودٌ في نهاية الحكمة، حيث يبدأ بحث الوجود الذهني في نهاية الحكمة بالطريقة التالية:

المعروف من مذهب الحكماء أنّ لهذه الماهيّات الموجودة في الخارج المترتّبة عليها آثارها وجودًا آخرَ… وهو علمنا بماهيّات الأشياء.[1]

إنّ القارئ ينتقل ابتداءً من هذه العبارة في التفسير الأوّل من تفاسير العلم الحصولي، أيّ التفسير الماهوي غير الحكائي، ولكن قطعًا مُراد العلّامة من الماهيّة هو مفهوم الماهيّة، والشاهد على ذلك، هو المطالب التي ذُكرت بعنوان تفريعاتٍ مبحث الوجود الذهني، تحت عنوان «وقد تبين بما مرّ أمورٌ»، مثلما نقرأ:

الأمر الأوّل: الماهيّة الذهنيّة غيرُ داخلةٍ ولا مندرجةٍ تحت المقولة التي كانت داخلةً تحتها، وهي في الخارج تترتّب عليها آثارها وإنّما لها من المقولة مفهومها فقط…، وهذا معنى قولهم: إنّ الجوهر الذهنيّ جوهرٌ بالحمل الأوّليّ لا بالحمل الشائع.[2]

ونقرأ أيضًا:

الأمر الثاني: إنَّ الوجود الذهني لمّا كان لذاته مقيسًا إلى الخارج، كان بذاته حاكيًا لما وراءه …. وبالجملة شأن الوجود الذهني، الحكاية لما وراءه من دون أن يترتب آثار المحكي على الحاكي[3].

(85)

وكما لاحظنا، يبدأ بحث الوجود الذهني في نهاية الحكمة ابتداءً بطريقةٍ، وكأنّ عين الماهيّات، تأتي إلى الذهن بمعناها غير الحكائي، خصوصًا مع الالتفات إلى قوله:

ذهب بعضهم ـ ونُسب إلى القدماء ـ أنّ الحاصل في الذهن عند العلم بالأشياء أشباحُها المحاكية لها كما يُحاكي التمثال لذي التمثال مع مباينتهما ماهيةً….[1]

ولكن مع الالتفات إلى المطالب التي ذكرناها، يتّضح بأنَّ المُراد من كلمة «ماهيّة» في كلام المرحوم العلامة، هو مفهوم الماهيّة، فإذن وصلنا هنا إلى تفسيرٍ آخر للصور الذهنيّة وللعلم الحصولي.

2. التفسير المفهومي ـ الماهوي: التفسير الثاني من تفاسير العلم الحصولي هو تفسيره بحصول مفهوم الماهيّة في الذهن، وهذا هو تفسير العلم الحصولي الذي أتى به الحكماء بعد مواجهة مشاكلَ مرتبطةٍ بالوجود الذهنيّ، وقد قدّم صدر المتألّهين التعبير الكلاسيكي لسبيل النجاة من المشاكل المرتبطة بالوجود الذهني[2] بالاعتماد على «اختلاف الحمل» ـ الحمل الأوّلي والحمل الشائع ـ وقد كتب صدر المتألّهين حول إرجاع الماهيّة إلى المفهوم، فقال:

فكما أنّ ما يتخيّل من صورة الإنسان في المرآة ليس إنسانًا موجودًا بالحقيقة، بل وجوده شبحٌ لوجود الإنسان مُتحقّقٌ بتحقّقه بالعرض، فكذلك ما يقع في الذهن من مفهوم الحيوان والنبات والحركة والحرارة وغيرها، هي مفهومات تلك الأشياء ومعانيها، لا ذواتها وحقائقها

(86)

ومفهوم كلّ شيءٍ لا يلزم أن يكون فردًا له؛ وبالجملة يحصل للنفس الإنسانيّة حين موافاتها الموجودات الخارجيّة لأجل صقالتها وتجرّدها عن المواد صورٌ عقليّةٌ وخياليّةٌ وحسيّةٌ كما يحصل في المرآة أشباحُ تلك الأشياء وخيالاتها والفرق بين الحصولين: أنّ الحصول في المرآة بضربٍ شبيهٍ بالقبول وفي النفس بضرب من الفعل[1].

وبعد أن يُبدّل صدر المتألّهين الماهيّة إلى مفهومٍ، يفطن إلى هذه المسألة، وهي أنّه من الممكن أن يظنّ القارئ أنّ هذا الكلام هو عين القول بـ«الشبح» وبالنتيجة يكون «وقع في ما فرّ منه»؛ ومن هنا، يُصبح بصدد بيان الفرق بين قوله وبين القول بالـ «الشبح»، ونتيجة ما طرحه لحلّ هذه المشكلة، هو أنَّ «الماهيّة» ـ وفق التعبير الفلسفي ـ أو العين الثابتة ـ بالتعبير العرفاني ـ لا أصالة لها في نفسها، وهي تتحقّق في كافّة مظاهر الوجود بنحو التبع، ونُلاحظ هذا الأمر بما دوّنه بقلمه حيث قال:

ولا تظننّ أنّ ما ذكرناه هو بعينه مذهبُ القائلين بالشبح والمثال، إذ الفرق بين الطريقين أنّهم زعموا أن الموجود من الإنسان مثلًا في الخارج، ماهيته وذاته وفي الذهن شبحه ومثاله، ونحن نرى أنّ الماهيّة الإنسانيّة وعينه الثابتة، محفوظةٌ في كلا الموطنين، لا حظّ لها من الوجود بحسب نفسها في شيءٍ من المشهدين على ما قرّرناه، إلّا أنّ لها نحوًا من الاتّحاد مع نحوٍ من الوجود أو أنحاء منه.

نقد: يُمكن القول في نقد التفسير الثاني للعلم الحصولي: أوّلًا، إذا وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أنّ العلم الحصولي هو العلم بالمفهوم، لا حصول عين الماهيّة في الذهن، فإذًا لا يعود لنا مُبرّرٌ لتخصيص العلم الحصولي بالماهيّة،

(87)

فإن قيل: إنّ الماهيّة وحدها التي لها حيثيّة لا بشرطيّةٍ من الوجود والعدم، فإّننا نُجيب: كلّ مفهومٍ له حيثيّةٌ لا بشرطيّةٌ، ولا يختصّ ذلك بالماهيّة أو بالمفاهيم الماهويّة. ثانيًا: التبرير الذي طرحه الملا صدرا للوجود الذهني على أساس الماهيّة، يسري في كلّ مفهومٍ ولا يختصّ بالمفاهيم الماهويّة؛ لأنَّه إذا كان الوجود أصيلًا، فهو أصيلٌ في كافّة المواطن ولا اختصاص للاعتبارية بالمفاهيم الماهويّة. ثالثًا: لدينا هنا ـ في بحث الوجود الذهني ـ بحثٌ ابستمولوجيٌّ (معرفيٌّ)[1] لا بحثٌ أنطولوجيٌّ (وجوديٌّ)[2]؛ ولذلك، لا علاقة لنا في هذا المبحث بما إذا كان الوجود هو الأصيل أم الماهيّة. رابعًا: أساسًا لِمَ كلّ هذا الإصرار على أن انتقال عين الماهية إلى الذهن، فهل ستُحلّ مشكلة المعرفة من خلال هذا الطريق؟ يعني: إذا فرضنا بأنّ عين الماهيّة هي التي انتقلت إلى الذهن، فهل يمكن التغلّب على مشاكل المعرفة عن طريق المماثلة )الوحدة النوعيّة بين الماهيتين)؟ فهل المعرفة هي أن نبني مجسّمًا عن الماهيّة في الذهن ثمّ نعرفه؟ أم أنّ المعرفة هي ما ندركه عن طريق مرآة الذهن، أيّ عن طريق المفهوم والواقع ونفس الأمر؟ فإذًا إن لم يكن من تلك الناحية أمرٌ مخترعٌ، فلا ينبغي ترك المجال للخوف من القول بالشبح[3]، ولكن بالطبع مع هذا التفسير للقول بالشبح

(88)

  وهو أنّه على الرغم من أنَّ الماهيّة ليست بمعنىً غير مفهوم الوجود، إلّا أنّها تشمل وتتضمّن كمال الحكاية وبيان محكيها بشكلٍ وافٍ. ومن هذا المنطلق ومع الأخذ بعين الاعتبار أمثال هذه الانتقادات التي ترد على هذا التفسير للعلم الحصولي (تفسير العلم الحصولي بحصول الماهيّة في الذهن)، سندافع بدورنا عن تفسيرٍ آخر للعلم الحصولي، والذي يُمكن له توضيح وبيان حقيقة الحكاية أيضًا على أساس ذلك بشكلٍ جيّدٍ.

3- التفسير المفهومي ـ الحكائي: يعني تفسير العلم الحصولي بالعلم بالشيء عن طريق المفهوم الحاكي عنه؛ وتوضيح ذلك: إنَّ الأشياء والحقائق تنكشف لنا على نحوين: 1. يحضر عندنا نفس المعلوم بعينه، وعلمنا به بصورةٍ مباشرةٍ وبلا واسطةٍ. ويُسمّى هذا العلم بالعلم الحضوري؛ 2. ينكشف لنا المعلوم عن طريق واسطةٍ حاكيةٍ والتي نُسمّيها المفهوم، ونُسمّي هذا النوع من العلم بالعلم الحصولي، وفي هذا النوع من العلم إذا فرضنا بأنَّ الواسطة بين العالم والمعلوم، ليس لها شأنٌ الحكاية ولا الإراءة ولا الانكشاف، ففي هذه الحالة نكون قد أنكرنا أصل العلم الحصولي والشأن الحكائي للصور الذهنيّة، وبالطبع، نحن هنا فقط بصدد الدفاع عن وجود مثل هذه الحالة الانكشافيّة والحكائية للنفس، وحقيقةً لسنا بصدد إثبات انطباق محكيِّ هذه الصور الذهنيّة على المصداق الواقعي؛ لأنَّ إثبات قيمة المعرفة لا يُمكن أن يحصل عن الحكاية التصوّريّة فقط، بل إنّ قيمة المعرفة تُؤمّن الحكاية التصديقيّة الخاصّة والتي سنُشير إليها لاحقًا.

وعلى أيّ حالٍ فإنَّ التفسير الثالث للعلم الحصولي هو عين التفسير الذي ندافع عنه، ونقرأ في «تعليقةٌ على نهاية الحكمة» في الردّ على انحصار العلم الحصولي بالعلم بالماهيّة ما يلي:

وعرّف [العلامة الطباطبائي] الأوّل [العلم الحصولي] بالعلم  
(89)

بماهيّات[1] الأشياء والثاني [العلم الحضوري] بالعلم بوجوداتها، لكنّ الأحسن تعريف الحصولي بالعلم غير المباشر وبوساطة الصور العلميّة، وتعريف الحضوري بالعلم المباشر وبلا وساطتها؛ لأنّ العلم الحصولي لا ينحصر في العلم بالماهيّات، فلنا علومٌ بالوجودات وبالواجب تبارك وتعالى تتمثّل في المعقولات الثانية وهي علومٌ حصوليّةٌ ولو كان العلم الحصولي مختصًّا بالماهيّة لما تعلّق بما لا ماهيّة له كواجب الوجود.[2]

لقد طرحنا حتّى الآن تفاسيرَ مختلفةً للعلم الحصولي من أجل البحث والدراسة،[3] والآن سنشرع بطرح توضيحٍ حول مفهوم «الحكاية» ثمَّ سنُحاكم المسألة حول وجود الحكاية في العلم الحصولي والصور الذهنيّة.

مفهوم الحكاية: هذا المفهوم، هو مفهومٌ معلومٌ لدينا وعلى العموم هو بمعنى «أمرٌ من خلاله ينتقل ذهننا إلى أمرٍ آخرَ»، وهذا المفهوم مماثلٌ تقريبًا لـ «الكاشفيّة» و«الإراءة» و«عكس الواقع» و«الدلالة» و...

ويمكن تقسيم «الحكاية» بتقسيمٍ كلِّيٍ إلى قسمين: 1. الحكاية الحقيقيّة. 2. الحكاية الاعتباريّة. والحكاية الحقيقيّة عبارةٌ عن هذا النوع من الحكاية الذي يحكي فيه شيءٌ عن شيءٍ على نحوٍ يكون بالذات، وأصلًا لا ربط له بـ «الوضع» مثل حكاية «صورة الوردة» التي تحكي عن الوردة في الواقع ونفس الأمر. أمّا الحكاية الاعتباريّة فهي حكايةٌ، ليست بالذات، بل بالعرض ومبنيّةٌ على الوضع، بمعنى أنَّ هذا النوع من الحكاية يتحقّق

(90)

بسبب الجعل والوضع، وطالما لا وضع فلن يكون هناك حكايةٌ، مثل حكاية لفظة الوردة ـ كتابةً أو مشافهةً ـ على الوردة التي يُمكن أن تكون موجودةً أو معدومةً في الواقع ونفس الأمر، وبعبارةٍ أخرى: محكيّ لفظة الوردة هو عين المصداق ونفس الأمر اللا بشرط بالنسبة إلى الوجود والعدم، والمسألة التي تحوز على أهميّةٍ هنا هي أنَّ الحكاية الاعتباريّة تستند بنحوٍ ما إلى الحكاية الحقيقيّة، وإذا لم تكن حكايةً حقيقيّةً، فسوف يتوقّف الوضع، وتوضيح ذلك: أنَّه في عمليّة الوضع هناك خمسة أمورٍ لا بدّ من مراعاتها:

1. الواقع، 2. اللفظ، 3. تصوّر الواقع، 4. تصوّر اللفظ، 5. وضع لفظٍ على الواقع.

والنقطة اللافتة هنا، هي أنّه لو لم يكن الأمر الثالث والرابع موجودين، فحتّى لو تحقّقت جميع الأمور الأخرى، فمع ذلك لن تصل العمليّة إلى نتيجتها، وهذه هي وجهة النظر التي يعتقد بها الفلاسفة المسلمون حول الوضع، ولكن هناك أفرادٌ أيضًا يتجاهلون دور الأمر الثالث (تصوّر الواقع) والأمر الرابع (تصوّر اللفظ) في عمليّة الوضع، ولكنّ بطلان وجهة النظر هذه واضحةٌ بأدنى تأمّلٍ؛ لأنَّ حقيقة الوضع أمرٌ تكوينيٌّ وليس هو مثل وضع حجرٍ على حجرٍ آخرَ، بل هو أمرٌ ذهنيٌّ تمامًا، وبما أنَّ الأمر كذلك فسوف يتوقّف بالضرورة على تصوّر الواقع وتصوّر اللفظ، وبناءً عليه، الذين يقولون: نحن لدينا في الوضع لفظةٌ فقط وليس لدينا واقعٌ وأصلًا ليس هناك مفهومُ واسطةٍ، في حين أنَّه في كافّة كلامهم الوضع هو أمرٌ عينيٌّ في حين أننّا نعلم بأنَّ الوضع أمرٌ اعتباريّ وذهنيٌّ ووضعيٌّ، وقياسه بالأمور العينيّة هو قياسٌ مع الفارق.

والنقطة الجديرة بالتأمّل حول الوضع، هي أنّه على الرغم من أننّا حين الوضع نتصوّر الواقع واللفظ، ولكنّنا نجعل اللفظ لنفس الواقع الذي هو عين مُسمّى اللفظ؛ فإنّ عملنا يرتبط عند الوضع بالمفهوم ولكنّ مسمّى

(91)

اللفظ هو ذلك الأمر الخارجي، فإذا ترافق مسمّى اللفظ بخصائصَ أخرى نكون أمام لفظٍ عَلَمٍ [بفتح العين واللام] وإن كان مسمّاه طبيعةً، فسوف يكون لدينا لفظٌ عامٌّ واسمُ جنسٍ.

فإذًا إلى هنا تعرّفنا على نوعين من الحكاية ـ الحقيقيّة والاعتباريّة ـ وفي بعض الأحيان قد يطال الحديث نوعًا آخر من الحكاية والتي يعتبر إطلاق لفظ الحكاية عليها من باب التسامح، وهذه الحكاية في الواقع هي بمعنى وجود الماهية في الذهن، والأفراد القائلون بهذا النوع من الحكاية والذين يعتبرون العلم الحصولي هو حصول ماهيّات الأشياء ـ لا مفاهيمها ـ  في الذهن، طرحوا تفسيرًا للحكاية  أسقط في الواقع العلم الحصولي عن الحكاية بالمعنى المتبادر لها؛ فإذًا مع هذا التفسير للحكاية، أصبح من غير الممكن الحديث عن الإراءة والكاشفيّة و...، ونقرأ عن هذا الفهم لمعنى الحكاية بقلم أحد المعاصرين، حيث يقول:

المراد من الحكاية هو ظهور الماهيّة العينيّة في الذهن، لا بمعنى المرآة والمرئيّ أو العنوان والمعنون لأنَّا في الفرصة المناسبة سنقول: باعتقادنا إنّ نسبة الوجود الذهني والوجود الخارجي مع الطبيعة هي نسبةٌ واحدةٌ، وكلاهما يُعتبر نوعًا من تحقّق الماهيّة لا أنّ أحدها حاكٍ والآخر محكيٌّ عنه.[1]

العلم الحصولي والحكاية: طرحنا في المباحث السابقة، تفاسيرَ مختلفةً للعلم الحصولي، والصور الذهنيّة، وكذلك لمفهوم الحكاية وذلك من أجل دراستها، والآن سنقوم بدراسة وجود الحكاية في العلم الحصولي والشأن الحكائي للصور الذهنيّة.

وكما مرّ، سوف نبحث ثلاثة أنواعٍ من التفسير للعلم الحصولي:

1. تفسير العلم الحصولي بحصول عين ماهيّات الأشياء في الذهن.

(92)

2. تفسير العلم الحصولي بحصول مفاهيم الماهيّات في الذهن.

3. تفسير العلم الحصولي بالعلم بالشيء عن طريق المفهوم الحاكي عنه.

كذلك وضعنا ثلاثة تفاسيرَ للماهية محلًّا للبحث:

1. الحكاية بمعنى وجود الماهية في الذهن.

2. الحكاية الحقيقيّة وبالذات.

3. الحكاية الاعتبارية والوضعية.

ولا بدّ أن نشير أنّنا سنبحث البحث هنا بناءً على الحكاية الحقيقيّة وبالذات؛ لأنّ الحكاية الاعتباريّة تتحوّل ـ كما بيّنا ـ إلى حكايةٍ حقيقيّةٍ، والأشخاص القائلون بحصول عين الماهيّات في الذهن ينتهون نوعًا ما إلى النوع الأوّل من الأنواع الثلاثة للحكاية، وأما التفسير الثاني والثالث للعلم الحصولي فينسجم مع المعنى الثاني من الحكاية أيّ الحكاية بالذات.

ومن هذا المنطلق، فإنَّ سنخ حكاية الصور الذهنيّة ستكون ما وراء دلالة الألفاظ على المعاني.

توضيح: كما أُشير سابقًا، نحن إنّما نُدافع عن التفسير الثالث للعلم الحصولي وكذلك عن الحكاية بمعنى الحكاية الحقيقيّة وبالذات؛ لأنَّ تفسير العلم الحصولي بحصول عين الماهيّات في الذهن، لا يُمكن الدفاع عنه بسبب المشاكل الخاصّة التي يُواجهها؛ وبالنتيجة الدفاع عن الحكاية بمعنى حصول ماهيّة الأشياء في الذهن لا يقبل التبرير أيضًا، إضافةً إلى أنَّ العلم الحصولي شيءٌ وراء حصول الماهيّة في الذهن، وإذا أخذنا حالة الانكشاف ـ وهو أمرٌ وجدانيٌّ ـ من العلم فلن يتبقّى شيءٌ منها؛ ولكن إذا قال القائلون بحصول الماهيّات في الذهن بالحكاية، بمعنى الانكشاف، فهم في الواقع قائلون بالتفسير الثاني والثالث للعلم الحصولي، والتفسير الثاني من العلم الحصولي - يعني تفسير العلّم الحصولي بحصول مفاهيم

(93)

الماهيّات في الذهن ـ يتناول الحكاية على أنَّها بمعنى الانكشاف، ولكن الإشكال الذي يطاله هو أنّنا إذا دافعنا عن مفهوم الماهيّة وغضضنا النظر عن حصول عين الماهيّات في الذهن، فلِمَ نتكلم عن المفاهيم الماهويّة في العلم الحصولي فقط؟ يُمكن أن يكون العلم الحصولي أبعد من المفاهيم الماهويّة، والحكاية كذلك قد تحضر برفقتها خطوةً بخطوةٍ في كافّة أقسام العلم الحصولي.

استدلال: هنا من الضروري التنبيه إلى وجود الحكاية في العلم الحصولي أو بتعبيرٍ آخرَ: عرض الشأن الحكائي للصور الذهنيّة؛ لأنَّه إذا بحثنا في داخلنا، فلن نحتاج من الأساس إلى الاستدلال؛ لأنَّ حكاية الصور الإدراكيّة هو أمرٌ وجدانيٌّ محضٌ، ولكن من الضروريّ الإجابة على الإشكالات التي تُطرح حول الحكاية في العلم الحصولي، وكنموذجٍ لنلتفت إلى الكلام التالي حول هذا الموضوع:

حقيقة العلم، تعني أن يتطابق ما هو معلومٌ لديك بالذات مع ما هو معلومٌ لديك بالعرض... فإذًا حقيقة العلم تعني أنَّ ما هو معلومٌ بالذات هو عين ما هو معلومٌ بالعَرَض؛ يعني: ذلك الشيء الذي ورد إلى ذهني، وليس الأمر بأنَّ هناك شيءٌ، وصاحب التصوّر شيءٌ آخرُ، بل إنَّ الأمر الذي ورد إلى ذهني من حيث الماهيّةُ هو عين الشيء الذي هو شيءٌ خارجيٌّ، فإذن إذا قُلنا بحقيقة العلم، فالفرق بين المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض في الوجود لا في الماهيّة، وإذا قُلنا بالكاشفيّة وحقيقة العلم؛ يعني: أنَّ ذلك التصوّر الذي في ذهني هو علمي أنا أوّلًا بالذات، ويرتبط به كذلك ثانيًا وبالعرض، فهما شيءٌ واحدٌ وأمّا وجه اختلافهما ففي الوجود، فالأوّل ماهيّةٌ تحقّق لها الوجود الخارجيّ، والشيء الآخر هو عين الماهية التي تحقّق لها الوجود الذهني[1].

(94)

وبتبع هذا الكلام يُطرح الإشكال التالي: «كيف يُمكن أن يكون المعلوم بالذات هو عين المعلوم بالعرض؟ لأنَّ كانط وصل به المقام إلى أن يقول: «من أين لك أن تعرف بأنّ ذهنك لم يعمل في المعلوم بالذات، اثني عشر عملًا؟».

وبالطبع من الواضح أنَّه تمّ في هذا البيان عرض تفسيرٍ للحكاية ينسجم مع التفسير الأوّل من تفاسير العلم الحصولي (حصول ماهيّات الأشياء في الذهن) وباعتقادنا فإنَّ مثل هذا الإشكال يَرِد على مثل هذا التفسير للعلم الحصولي وعلى مثل هذا الفهم والاستنتاج من الحكاية ـ تفسير الحكاية بمجرّد حصول الماهيّات في الذهن ونفي الإراءة والانكشاف بالمعنى الحقيقي للكلمة ـ ولكن مثل هذا الإشكال لا يرد على تفسير العلم الحصولي بحصول مفاهيم الماهيات في الذهن ـوالذي أصبح مُتداولًا تقريبًا في هذا الاتجاه منذ زمن الملّا صدراـ وتفسير العلم الحصولي بالعلم بالشيء عن طريق المفهوم الحاكي ـالماهوي أو غير الماهويـ غير واردٍ أصلًا، وبالطبع لدينا ثلاثة أنواعٍ من الحكاية:

1. الحكاية التصوّريّة. 2. الحكاية القضويّة. 3. الحكاية التصديقيّة.

في الحكاية التصوّريّة، ينكشف لنا المعلوم، ولكن لا نقول بأنَّ الواقع هو كما بينه التصوّر، أمّا في الحكاية القضويّة والحكاية التصديقيّة فنذهب أبعد من «الذهن» ونُبدي وجهة النظر في ما يتعلّق بالواقع حيث إنَّه في تلك الحال من الممكن أن يقع حكمنا مخالفًا للواقع على نحوٍ خاصٍّ، والمطروح هنا هو الصدق والكذب فقط، ولكن الحكاية التصوّريّة لا يرتبط بها خطأٌ وصوابٌ، وسرّ ذلك هو أنَّ الحكاية التصوّريّة أصلًا لا تُظهر وجهة نظرٍ مرتبطةٍ بالتحقّق أو بعدم التحقّق في ظرف الواقع، بل تقتصر على طرح شيءٍ من الممكن ألّا يكون له تحقّقٌ خارجيٌّ أو هو ممتنع التحقّق من الأصل، وكمثالٍ: إنَّ مفهوم «الغول» يُطرح مَحكيّه ـ أي المصداق ـ لا

(95)

بشرط التحقّق أو عدم التحقق؛ لأنَّه إذا لم يطرحه بهذه الطريقة فإنَّك لن تفهم شيئًا.

ويمكن أن تقول: «نحن نفهم معنى «الغول» ولكن كلامك فيه جنبةُ صوابٍ، وهو أنَّ مُرادك من «المفهوم» هو «معنى» اللفظ. أليس كذلك؟» والجواب هو: إنَّ مُرادنا من محكيّ «الغول» هو ذات معنى «الغول» يعني نفس الأمر لا بشرط تحقّقه أو عدم تحقّقه.

وعليه، لا يُطرح الصواب والخطأ واليقين والشكّ في التصوّرات كما هو الأمر في العلم الحضوري، مع هذا الفارق وهو أنَّ سرّ عدم الخطأ في «العلم الحضوري» هو حضور نفس المعلوم عند العالم، ولكن في التصوّرات وجه عدم الخطأ يعود إلى عدم إظهار وجهات نظر التصوّرات تجاه عالم الواقع (نفس الأمر)، بمعنى أنَّ التصوّرات عن الواقع ليس لها حكايةٌ قضويّةٌ أو تصديقيّةٌ؛ لأنَّ الحكاية التصوّريّة، هي مجرّد تبيينٍ لأمرٍ له نسبة التحقّق وعدم التحقّق لا بشرطٍ، أمّا القضايا والتصديقات فبسبب حكايتهم عن نفس الأمر أو تحقّق نفس الأمر فإنّها توصف بالصدق والكذب، ولكن من غير الممكن أن تكون كافّة القضايا والتصديقات كاذبةً. وهذا قد يكون سرّ الكلام الذي يقول:

ولو كان كلّ علم مخطئًا في الكشف عمّا وراءه لزمت السفسطة وأدّى إلى المناقضة، فإنّ كون كلّ علمٍ مخطئًا يستوجب أيضًا كون هذا العلم بالكليّة مخطئًا فيكذب، فيصدق نقيضه وهو كون بعض العلم مصيبًا.[1]

فإذًا بما أنَّ العلم الحصولي له حكايةٌ، فإذًا هو كاشفٌ، ولكن الكشف التصوري يختلف عن الكشف القضويّ والكشف التصديقي، وإذا كان

(96)

هناك شخصٌ يعتقد أنَّه لا حالةَ إدراكيةً ولا شأنَ حكائيًّا لنا، فإنّه يكون قد أنكر مبدأ الفهم، وعندها سيتوقّف البحث، أفلا نصل نحن إلى شيءٍ ما عند قراءتنا لهذه الكلمات؟

فلنلتفت إلى هذا البيان الآخر في الذي ورد هذا المجال:

إنّ الإدراكات إذا فُرضت غيرَ كاشفةٍ عمّا وراءه فمن أين علم أنّ هناك حقائقَ وراء الإدراك لا يكشف عنها الإدراك؟... وبعد ذلك كله، تجويز ألّا ينطبق مطلق الإدراك على ما وراءه لا يحتمل إلّا السفسطة، حتى أن قولنا: «يجوز ألّا ينطبق شيءٌ من إدراكنا على الخارج» لا يؤمّن ألّا يكشف بحسب مفاهيم مفرداته والتصديق الذي فيه عن شيءٍ[1].

دور الحكاية: يُمكن طرح مناقشةٍ دقيقةٍ نسبيّاً حول حكاية الصور الذهنيّة بالبيان التالي: إنّ فرض الحكاية المتعلّق بالصور الذهنيّة ناشئٌ عن امتلاك الألفاظ لمعانٍ، وتوضيح ذلك: إننّا في الأساس نُفكّر من خلال استخدام الألفاظ،[2] وللألفاظ معانٍ، فمثلًا: عندما نستحضر لفظ الإنسان في صفحة الذهن، نظنّ بأنَّ لهذه الصورة حكايةً في حال كان لهذا اللفظ له معنًى، وأساسًا ليست الحكاية سوى امتلاك معنًى، والدليل على هذا الأمر هو أنّكم لو كان لديكم لفظٌ مهملٌ [ أي لم يكن له معنًى] في صفحة الذهن ـ والمراد من أن يكون لدينا لفظٌ في الذهن، هو أن يكون لدينا تصوُّرٌ له وأن يكون هذا التصوّر حاضرًا في ذهننا ـ فلن يكون له حكايةٌ لأنّه لا معنى له، فإذًا إناطةُ الحكاية بامتلاك المعنى هو دليلٌ قويٌّ بذاته على أنَّه لا حكاية للصور الذهنيّة بنفسها، بل الصورة الذهنيّة بحيث إذا كان

(97)

اللفظ ـ الذي أتت الصورة في قالبه ـ يمتلك معنىً، كان ذا معنىً فقط، وإذا كان ذلك اللفظ مهملًا، فبما أنَّ اللفظ لا معنى له، لذا لن يكون للصورة الذهنيّة الحاصلة من اللفظ المهمل حكايةٌ.

وهكذا، ومن خلال هذا التحليل، فإنَّ أصل حكاية الصور الذهنيّة، سيخرج من المشهد بناءً على دور الحكاية (توقّف الحكاية على امتلاك المعنى، والعكس).

التحرّر من الدور الحكائي: للحكاية هويّةٌ تختلف عن امتلاك المعنى، فلا يقتصر الأمر على أنّ الحكاية لا ترتبط بامتلاك اللفظ للمعنى وحسب، بل بدون الحكاية سوف يكون لـ «امتلاك المعنى» أساسٌ وقاعدةٌ ضعيفةٌ مُتزلزلةٌ، فنحن نُفكّر قبل أن نضع الألفاظ، ثمّ نبدأ بوضع الألفاظ على أساس الصور الذهنيّة التي لها حكايةٌ بالذات عن محكيها، وتتحقّق الحكاية لكلّ صورةٍ ذهنيّةٍ، وسوف يكون لكلّ صورةٍ ذهنيّةٍ حكايةٌ سواءً أكانت لفظيّةً أم بلا لفظٍ، وسواءً أفكّرنا بها مُستخدمين الألفاظ أم بلا ألفاظٍ، فمثلًا: الصورة الذهنيّة لـ «ديز» تحكي عن لفظة «ديز» أو كتابة «ديز» التي لا معنى لها، وبالتالي سيكون لها حكايةٌ في هذه المَواطن أيضًا، على الرغم من أنَّها لا خبر لها عن المعنى، ولذلك فإنَّ عمليّة الحكاية، ستحفظ استقلالها عن مسألة امتلاك المعنى.

أنواع الحكاية: إلى هنا أثبتنا مبدأ الحكاية والآن سنُشير إلى أنواع الحكاية، ويُمكن أن تنقسم الحكاية إلى عدّة أقسامٍ:

1. الحكاية التصوّريّة 2. الحكاية القضويّة 3. الحكاية التصديقيّة.

وهذه الأنواع الثلاثة للحكاية تتمايز عن بعضها وفقًا للخصائص التي تمتلكها كلّ واحدةٍ منها، فالحكاية التصوّريّة هي حكايةٌ تطرح محكيَّها فقط، وهي بلا شرطٍ بالنسبة إلى وجوده وعدمه في العالم الخارجي،

(98)

والحكاية القضويّة تتحدّث عن عالم الواقع، وبذلك سيكون لها شأنيّة الاتّصاف بالصدق والكذب، والحكاية التصديقيّة تحكي عن الصدق النفس أمري لمفاد القضيّة بناءً على أنّ التصديق هو نفس فهم صدق القضيّة.

الحكاية التصديقيّة ودورة المعرفة:

لا بدّ من الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنَّ مشكلة المعرفة بما أنَّها مشكلةٌ تصديقيّةٌ في الأساس، فهي تقبل الحل والفصل ضمن مجال الحكاية التصديقيّة فقط، فإذن لا بدّ من البحث عن حلّ هذه المشكلة في الحكايات التصديقيّة الخاصّة -لا أيّ تصديقٍ-. وبالتالي مِن الضروري الالتفات إلى هذا الأمر أيْ لا ينبغي البحث عن حلّ هذه المعضلة في الحكاية التصوّريّة أو الحكاية القضويّة، بل ينبغي حلّها في الحكاية التصديقيّة، وكذلك ليس في كلّ حكايةٍ تصديقيّةٍ، بل في الحكاية التصديقيّة الخاصّة، وسرّ ذلك، هو أنَّ الحكاية التصوّريّة هي لا بشرطٍ عن وجود مصداقٍ لها وعدم وجوده، والحكاية القضويّة تنسجم مع الشكّ في أصل تحقّق مفاد القضيّة في الواقع أيضًا، فالحكاية التصديقيّة ليست أوّليّةً ولا وجدانيّةً، وليس لها في نفسها ضمانٌ للصدق. والنتيجة هي أننّا بهدف حلّ مشكلة المعرفة، يُمكن لنا طيّ سبيلٍ واحدٍ لا غير، وهو أننّا نحصل على التصديقات ضروريّة الصدق ووضعها كأساسٍ للمعرفة، وأن نبني على أساسها بُنيان المعرفة.

الحكاية الشأنيّة: لقد صوّر بعض العظماء الحكاية الشأنيّة في التصوّرات (الحكاية بالقوّة)، فقالوا في هذ الأمر ما يلي:

التصوّر في اللغة يعني «قبول الصورة» وهو عند أهل المعقول عبارةٌ عن ظاهرةٍ ذهنيّةٍ بسيطةٍ تتميّز بشأنيّة الحكاية

(99)

عمّا وراءها، مثل: تصوّر جبل دماوند[1] ومفهوم الجبل.[2]

وكتبوا أيضًا:

التصور عبارةٌ عن تلك الظاهرة الذهنيّة البسيطة التي من شأنها أن تعكس ما وراءها.[3]

نقد ودراسة: بدايةً سنُحلل النظريّة المذكورة على نحوين، ثمَّ سنقوم بمقاضاة كلّ واحدٍ من كلا التفسيرين:

أ. من الممكن أن يكون المراد من «الحكاية الشأنيّة» ما يلي: طالما لم يتم تشكيل القضيّة والتصديق ولم تقع التصوّرات فيها، فليس للتصوّرات حكايةٌ بالفعل، بل تبقى إلى ما قبل ذلك كما كانت عليه فتبقى حكايةً شأنيّةً وحكايةً بالقوّة.

ب. ومن الممكن، أن يكون المراد هو أنّ التصوّرات يمكن أن تقع «ملحوظٌ بها» ويمكن أن تصعد إلى مرتبة الحكاية بالفعل إذا ما تمّ النظر إليها بنظرةٍ آليّةٍ؛ وإلّا، فهي إلى ما قبل ذلك، موجوداتٌ كسائر الموجودات الأخرى وليس لها إلّا شأنيّةٌ تمنحها هويّةً مرآتيّةً عاكسةً كي تُصبح حاكيةً بالفعل.

ويبدو أن النظريّة المذكورة قابلةٌ للنقاش بكلا التفسيرين الذين أخذناهما بعين الاعتبار (وبالطبع يبدو أنّ التفسير الثاني هو المُراد)؛ لأنَّ التفسير الأوّل يرد عليه أنَّ كلَّ صورةٍ ذهنيّةٍ لها حكايتها الخاصّة، ولا يمكن لها أن تحكي عن صورٍ ذهنيّةٍ أخرى، أو أن تمنعها عن حكايتها، ولذلك، لو

(100)

فرضنا أنّ التصوّرات لها حكايةٌ شأنيّةٌ فإنّ، القضايا والتصديقات كذلك لا يُمكن أن تُبدّلها من حاكٍ بالقوّة إلى حاكٍ بالفعل، فإذًا لازمة ذلك، أن تبقى التصوّراتالثانيةًا في الحكاية الشأنيّة!

وأما النقاش الذي يرد على التفسير الثاني (ب) للحكاية الشأنيّة، هو أنّه أوّلًا: إذا كانت «الحكاية» تعتمد على رأينا، بمعنى أنّه إذا كان وجود رأينا أو عدمه هو الذي يُوجد الحكاية، فإذًا الصور الذهنيّة القضويّة أو التصديقيّة هي الأخرى ينبغي أن تكون كذلك، وبالنتيجة يلزم من هذا الكلام أنّه يجب أن يتمّ تصوّر «الحكاية الشأنية» لهم!

فلو قلنا: الفرق بين التصوّرات والقضايا يكمن في أنّ القضايا والتصديقات ناظرةٌالثانيةًا إلى الخارج؛ أي أنّ هويتهما بحيث «يُنظر بها»، أمّا التصوّرات فليست كذلك.

فيُمكن القول في الردّ: التصوّرات هي الأخرى هكذا، ولكن نوع نظرها إلى الخارج يكون بنحوٍ مختلفٍ؛ لأنَّ التصوّرات تحكي عن مصداقٍ لا بشرط تحقّقها أو عدم تحققها، ولا تتحدّث عن وجود مصداقها وعدمه، أمّا القضايا والتصديقات الصوريّة فلها لسانٌ صادقٌ حول الواقع، ولذلك، فإن اختلاف نوع حكاية التصوّرات لا يُمكن أن يُؤدّي إلى أن نعتبر حكاية التصوّرات على أنَّها حكايةٌ شأنيّةٌ.

ثانيًا: نسأل ما هي الخصائص الذاتيّة والحقيقيّة التي «للتصوّرات» من بين مئات الحالات والشؤون النفسيّة التي تُؤدّي إلى تصوّر «حكايةٍ شأنيّةٍ» لها، وعدم تصوّر ذلك بالنسبة إلى الحالات النفسية الأخرى؟ فإذا قلت: «التصوّرات» هي على نحوٍ يمكن اعتبارها ناظرةً إلى أمرٍ في الخارج، أمّا الحالات النفسيّة الأخرى فليست كذلك، فهنا يتّجه السؤال إلى نفس «كيفيّة التصوّرات»، فنقول: «ما هو منشأ شأنيّة «الحكاية الشأنيّة؟».

(101)

وهكذا، سنصل في نهاية المطاف إلى هذه النتيجة، وهي أنّنا إذا كُنّا نُريد أن نُوضّح منشأ «الحكاية الشأنيّة» فسوف نصل إلى هذا الشأن الحكائي الذي يُعطي في الواقع نتيجةً وهو إبطال الحكاية الشأنيّة، والأمر الذي ينبغي الالتفات له هنا هو أنّه صحيحٌ أنَّه يُمكن اعتبار الصور الذهنيّة كالمرآة التي يُمكن النظر إليها مرّةً بنحوٍ آليٍّ ومرّةً بنحوٍ استقلاليٍّ ولكن هوية الصور الذهنيّة بتمامها إراءةٌ، ولكن بالطبع يُمكن لك اعتبارها وجودًا ملحوظًا؛ فلا تلتفت إليها من حيثيّتها الالتفاتيّة، ولكن هذا الأمر لا يصدر دستورًا لِأَلَّا تضرب «الصور الذهنيّة» محكياتها في نفس تلك الحالة، ومثلما كتب بهمنيار في التحصيل: «وأمّا الأثر الذي في النفس فهو حكايةُ طبيعة الأمور الموجودة من خارج»[1]؛ ويقول العلامة الطباطبائي: «العلم الحصولي بما أنَّه علم، من ذاتيه الحكاية...»[2]

والمحصلة هي أنَّ هذه المناقشات ترد على «الحكاية الشأنيّة» بالمقدار الذي فهمناه نحن منها.

تفسير الحكاية: لقد حرّرنا في السابق مجموعةً من المباحث التي تتحدّث حول تبيين حقيقة الحكاية، ولكن بسبب أهميّة هذا البحث سنقوم بفتحه من جديدٍ.

وسنُشير هنا إلى ثلاثة وجهات نظرٍ حول تبيين حقيقة الحكاية، وهذه الآراء لها مبانيها الخاصّة التي أشرنا إليها في المباحث السابقة، ومن هذا المُنطلق سنذكر الردود على الأجوبة عن السؤال القائل «ما هي الحكاية؟»، وهي كما يلي:

1ـ كما ذكرنا سابقًا، يعتقد البعض أنَّ «الحكاية» هي عين «حضور الماهيّة في الذهن» وأنّ قولنا: «الصور الذهنيّة» تحكي عن الخارج معناه

(102)

أنَّ «الصور الذهنيّة» هي أمورٌ ذهنيّةٌ، وهي من حيث الماهية عينُ الماهيّة الخارجيّة؛ فإذًا هنا «الحاكي» و«المحكي» و«العنوان» و«المعنون» يُمكن تفسيرها بحضور الماهيّة في الذهن[1].

إنّ هذا الرأي مبنيٌّ على التفسير الماهويّ للوجود الذهني، الذي تناولناه سابقًا بالبحث والنقد، وهذا الرأي حول تفسير الحكاية لن يصل إلّا إلى الابتعاد عن التفسير السليم لظاهرة المعرفة، وهو يعرض تفسيرًا للحكاية يتمّ فيها تجاهل «الهويّة الشفّافة للصور الذهنيّة».

2 ـ وهناك رأيٌ آخرُ في تفسير الحكاية، وهو أنَّ «الحكاية» هي عين الشأن القياسي للصور الخارجيّة مع الخارج، وتوضيح ذلك: أنَّ الصور الذهنيّة تارةً «ينظر فيها» وتارةً أخرى «يُنظر بها»، والحكاية هي عين حيثيّة أن «ينظر بها» التي للصور الذهنيّة، وهذا الرأي كان محلّ اهتمام القدماء أيضًا في الجملة، ولكن اليوم نعثر عليه في كتابات العلامة الطباطبائي (رحمه الله) فبناءً لرأيّ العلامة الطباطبائي، للوجود الذهني حيثيتان: «حيثيّة وجوديّةٌ» و«حيثيّة قياسيّةٌ»، والحكاية هي عين الحيثيّة القياسيّة للوجود الذهني، وقد دوّن ما يلي حول هذا الموضوع:

فللوجود الذهني جهتان حقيقيّتان: الأولى جهة كونه مقيسًا إلى وجوده الخارجي، وهو من هذه الجهة فاقدٌ للآثار الخارجيّة التي له في الخارج، وهذه هي حقيقة حكايته وليس له إلّا الحكاية عن ما وراءَهُ فقط وهذا هو مورد البحث في الوجود الذهني، والثانية جهة ثبوته في نفسه من غير قياسه إلى وجوده الخارجي، بل من جهة أن هذا الحاكي ثابتٌ مطارِدٌ للعدم، وله من هذه الجهة آثارٌ وجوديّةٌ مترتّبةٌ عليه، ومن الممكن حينئذٍ أن يكون أقوى وجودًا من محكيه الخارجي، وهو من هذه الجهة وجودٌ خارجيٌّ لا ذهنيٌّ.[2]

(103)

فالعلامة الطباطبائي يرى أنّ هويّة الوجود الذهني هي إنّما تكون بالحيثيّة القياسيّة التي هي عين الشأن الحكائي، وقد أكد على قوله هذا أيضًا، حيث قال:

إنّ الوجود الذهنيّ وجودٌ قياسيٌّ بذاته يرتفع بارتفاع القياس، وهذا معنى حكايته عمّا وراءَه.[1]

وهكذا، يبدو أن «الحكاية» أبعد من «المقارنة»، فعلى الرغم من أنّ الحكاية تأتي أحيانًا مصاحبةً للمقارنة، ولكن اقتران هؤلاء الاثنين ليست بمعنى وحدتهما الحقيقيّة، فـ «الصور الذهنيّة» مرايا الذهن التي هي دائمًا ما تكون شفّافةً، وليس للاعتبار والمقارنة أثرٌ على هذه الشفّافيّة؛ لأنّه إذا كان الأمر كذلك، نكون قد ربطنا حقيقة العلم باعتبارنا، ولو كان للاعتبار والمقارنة دورًا في تكوين العلم، فإذًا ينبغي أن تحكي حالَتَيِ السرور والغمّ بالمقارنة، وسيتبدّلان إلى علمٍ حصوليٍّ.

وبذلك يتّضح أنّ المقارنة ليست هي الحكاية نفسَها، ولو كانت الحيثيّة المقارنة التي للوجود الذهني بمعنى الالتفات والاهتمام بالهويّة الحكائيّة للصور الذهنيّة، ففي ذلك وجهٌ من الصحّة، وهذه الجنبة من الوجود الذهني هي الجنبة التي تمتاز عن الوجود العيني.

3 ـ بعد التوجيه والنقد الذي قدّمناه حول التفسير الثاني للحكاية، نصل الآن إلى النظريّة الثالثة حول حقيقة الحكاية، وفي البداية نُؤكّد على هذه النقطة، وهي أنّ فهم حقيقة «الحكاية» غيرُ ميسَّرٍ سوى عن طريق التأمّل الباطني، والاستبطان والتأمّل الفكري؛ لأنّ الأمور النفسيّة ينبغي فهمها أساسًا بعد مراجعة النفس، فكما أنَّه لا يمكن شرح وتوضيح «العشق» فكذلك هويّة «الحكاية» أيضًا لا يمكن نقلها للآخرين بالاستعانة

(104)

بالألفاظ، فالشرح والبيان في هذا الباب يُمكن أن يكون له دور «المنبه» ويهدينا إلى أن نصل إلى حيطة عالم الذهن.

لو راجعنا أنفسنا، نرى أنّنا نمتلك حالاتٍ وشؤونًا مختلفةً؛ فنكون أحيانًا مغمومين ومتشائمين، وأحيانًا أخرى مسرورين طربين، وأحيانًا غاضبين مشتعلين، وأحيانًا أخرى رؤوفين،... وإحدى حالاتنا هي العلم والإدراك، وقد دوّن الأستاذ مطهري حول هذا الأمر ما يلي:

يعثر الإنسان في ذاته على حالةٍ، يُسمّيها العلم أو الإدراك أو المعرفة أو الوعي، وأمثال ذلك، والنقطة المقابلة للعلم والإدراك هو الجهل وعدم الوعي، فنحن عندما نرى شخصًا لم نراه من قبل، أو نزور مدينةً لم نزرها من قبل، نشعر أنّنا امتلكنا شيئًا لم نكن نملكه من قبل... .[1]

وكتب صدر المتألّهين كذلك حول حقيقة العلم، بعد أن عبر في منحنيات ومنعطفات المعرفة، ما يلي:

العلم وهو هيئةٌ نفسانيّةٌ ينكشف به الأشياء، وهي غنيّةٌ عن التعريف؛ لأنّه أمرٌ وجدانيٌّ بل وجودٌ خاصٌّ مُجرّدٌ عن الغواشي، والوجود لكونه أظهر الأشياء لا يمكن تعريفه؛ ولأنّ العلم هو الكاشف للأشياء فكيف يكون غيره كاشفًا له وإلّا ينقلب الكاشف بالذات منكشفًا بالعرض، فلا يكون كاشفًا مطلقًا بل من وجهٍ، وقد شهدت فطرة العقول به، إلّا أن الأفاضل من السلف عبّروا عنه بتنبيهاتٍ لفظيّةٍ دالّةٍ على مراتب الكشف والجلاء.[2]

ولذلك نحن، بعد الاستبطان الذي نقوم به، نصل إلى هذه النتيجة:

(105)

تتحقّق فينا حالةٌ باسم «الإدراك» وهي عين «الكشف» ـ بالمعنى الاسم المصدري ـ وهي تتحقّق على نحوين، فأحيانًا يقع هذا الكشف بنحوٍ مباشرٍ؛ يعني: «العلم الحضوري»، وأحيانًا يتحقّق هذا الأمر بصورةٍ ما، مثلًا: لأنَّك تمتلك صورةً عن إحدى المدن في ذهنك، فأنت تمتلك اطلاعًا عنها؛ ولأنَّك تمتلك مفهومًا عن العدم، فتصبح مطلعًا على «اللا شيء»، و«الحكاية» هي نفس الخاصّة الذاتيّة للمفهوم ـ سواءً أكان ماهويّاً أم غيرَ ماهويٍّ، وسواءً أكان وجوديّاً أم عدميّاً ... ـ والتي نصل من خلالها إلى الحقيقة، ومن هنا، فإنَّ الحكاية بالمعنى المذكور تختصّ بالعلم الحصولي الذي هو علمٌ بالشيء بواسطة الحاكي.

والمباحث التي ذكرناها حول حقيقة الحكاية لها أثرٌ تنبيهيٌّ، ومن هذا المنطلق، نُؤكّد ثانيةً في الختام على ضرورة الرجوع إلى الذات لفهم حقيقة الحكاية.

صدق الحكاية: إنّ التعبير الذي استعمل في كلام الشكوكي حول الحكاية، هو أنَّ أحد شروط حصول المعرفة هو أن نمتلك حكايةً صادقةً، وطالما أنَّ مُدّعي المعرفة لم يُحضر دليلًا على «صدق الحكاية» فلا يُقبل منه ادعاؤُه بالمعرفة، ولذلك، فإنَّ الشكوكي يُطالبنا بأمرين في الضلع الثالث من الشكوكيّة ذات الأضلاع الثلاثة، الأمر الأوّل: بيان «الحكاية»، والآخر: إثبات «صدق الحكاية»، ونحن في المباحث السابقة تناولنا مسألة تبيين «هوية الحكاية»، والآن سنشير إلى «صدق الحكاية».

كنّا قد تناولنا هذا البحث مفصَّلًا في المباحث السابقة، وذكرنا بأنَّ «التصوّرات» إنّما تعرض لنا مجرّد مصاديقَ لا بشرطٍ بالنسبة للتحقق وعدمه، وبالتالي إمّا لم يعد بالإمكان الكلام حول صدق الحكاية التصوّريّة وكذبها، وإمّا ينبغي أن تحسب الحكاية التصوّريّة على أنَّها تطابقٌ، وبالأساس إنّما يُطرح الصدق والكذب حول القضايا والتصديقات، وهنا

(106)

كذلك لا يستند الصدق والكذب إلى مُجرّد الحكاية؛ لأنَّ كلَّ صورةٍ ذهنيّةٍ صادقةٌ في حكايتها، فقضيّة «العدالةُ سيّئةٌ» سيكون لها نفس نحو الحكاية الذي لقضيّة «العدالةُ حسنةٌ» بالدقّة، ولذلك، ينبغي بذل دقّةٍ أعلى في تعريف «الصدق» و«الكذب»، وعلى ما يبدو أنَّه إذا عرفنا «الصدق» و«مطابقة المحكي للواقع» وعرفنا «الكذب» بـ «عدم مطابقة المحكي للواقع»، نكون قد خطونا خطوةً باتّجاه تقديم تعريفٍ أدقَّ لـ «الصدق» و«الكذب»، وبعبارةٍ أخرى: المطروح في التصوّرات هو «المطابقة الحكائية» فقط، ولكنّ المطروح في القضايا والتصوّرات «المطابقة ما بعد الحكائية (نفس الأمريّة)» أيضًا، فللتصوّرات مطابقٌ حكائيٌّالثانيةًا، وليست «المطابقة النفس الأمريّة» هي المطروحةُ أصلًا، وبالطبع، التصوّرات والتصديقات متطابقة بالضرورة مع نفس الأمر، أي أنّ لها ضرورة الصدق، وهو إمّا بديهيٌّ أو قائمٌ على بديهيٍّ.

سرّ الحكاية: لقد ذكرنا سابقًا بأنّنا نحصل على المعرفة في العلم الحصولي عن طريق المفهوم الحكائي، والآن من الممكن، أن يتبادر لنا هذا السؤال، وهو «لِمَ تُؤدّي الصور الذهنيّة إلى حصول مثل هذه الانكشافات لنا؟»، وقدّ قُدمّت لهذا السؤال عددٌ من الإجابات، وبدورنا سنشير هنا إلى بعض النماذج منها.

لقد أراد البعض، توضيح سرّ حكاية الصور الذهنيّة عن طريق «حضور الماهيّة في الذهن» يعني المماثلة الماهويّة، وهذا الرأي ـ بغضّ النظر عن الإشكال البنيوي الذي يَرِد عليه، والذي مرّ في الفصل الثاني وفي المباحث السابقة أيضًا ـ لا ينسجم مع أصالة الوجود كثيرًا، ومن هذا المنطلق، رغب البعض، في أن يبسطوا البحث طبق ما ذكره العرفاء حول تطابق العوالم،[1]

(107)

وهذا الرأي تمّ بيانه أحيانًا عن طريق حمل الحقيقة والرقيقة، وقد ذكر الحكيم السبزاوري ما يلي حول هذا الأمر:

إنّ لكلّ حقيقةٍ معنىً وصورةً، أي حقيقةً ورقيقةً، وبعبارةٍ أخرى: أصلًا وفرعًا فمعناه وحقيقته وأصله ما هو في النفس؛ فإنّ النفس بسيطةُ الحقيقة بعد الحقّ تعالى والعقول المفارقة المحضة وكلّ بسيط الحقيقة جامعٌ لوجودات ما دونه؛ فوجود النفس وجودٌ جامعٌ لوجود الأنواع بنحوٍ أعلى وأبسطَ؛ فإذا أردتَ أن تعرف حقيقةً من الحقائق، ترجع إلى صفحة ذاتِها، وذاتُها متصوّرةٌ بكلِّ حقيقةٍ فتعرفها من ذاتها.[1]

وظاهر ما يُستفاد من البيانين ـ البيان عن طريق تطابق العوالم وحمل الحقيقة والرقيقة ـ هو أنَّ «سرّ الحكاية» قابلٌ للتبرير عن طريق الترتيب في مراتب الوجود والتشكيك فيها، ولكن ما يبدو أنَّه الصواب، هو أنَّه ينبغي أن نُؤكّد على ذلك النوع من الكمال الوجودي الباعث على مثل هذا الانكشاف لنا؛ لأنَّ الاتّكاء البحت على الكمال الوجودي ـ بدون العناية بالكمال الوجودي الخاصّ، يعني: وجود العلم الحصولي وحالة كاشفيّة النفس ـ لا يمكن له أن يُفصح عن «سرّ الحكاية»، وسنبسط في بيان مباني هذا البحث في الفصل الثاني من هذه الرسالة.

كان هذا يسيرٌ من كثيرٍ تمّ تحريره حول الحكاية التي تُعتبر إجابةً على إشكال الشكوكيّ، فعنصر الحكاية من العناصر المحوريّة في بحث المعرفة التي جلبت إليها اهتمام فلاسفة الغرب أيضًا. وقد تناولوا هم أيضًاـ بنحوٍ مختلفٍ ـ هذا البحث، كما أشرنا نحن في الفصل الثاني والسادس، وقد بدأ الأمر باهتمامٍ جدّيٍ بهذا البحث تحت عنوان Internationality من برنتانو واستمرّ به طلابه أمثال هوسيرل وآخرون، وبالطبع تتمتّع كتابات

(108)

سرل[1] من بينهم بدقّةٍ أعلى،[2]. ولكن التعرّض لها وبيانها ونقدها سيمنعنا من عبور المنازل الأخرى للشكوكيّة.

ولذلك الآن بعد تدعيم أضلاع المعرفة الثلاث (الذهن، والصور الذهنيّة، وحكاية الصور الذهنيّة الصادقة) نكون قد عبرنا عن «المنزل الأوّل للشكوكيّة» ووصلنا إلى المنزل الثاني.

العبور من المنزل الثاني للشكوكيّة

الدفاع عن حجيّة العقل

(ع. م - 2): يُشكّك الشكوكي في المنزل الثاني بحجيّة العقل، وحاصل إشكاله ما يلي: ما الذي يُثبت حجيّة العقل؟ يعني: ما هو الشيء الذي أثبت أنَّ «العقل» يُؤدّي إلى الواقع؟ فالجواب لا يخرج عن أمرٍ من أمرين: إمّا أنّ «حجيّة العقل» بديهيّةٌ وإمّا أنّها نظريّةٌ، فإن كانت حجيّة العقل بديهيّةً، فسيرد عليها الإشكالات المختصّة بالبديهيّات ـ الإشكالات المذكورة في المنزل الرابع ـ وإذا كانت «حجيّة العقل» نظريّةً، فهي تحتاج إلى إثباتٍ بالضرورة، والإثبات إما أن يكون حسيّاً أو عقليّاً، وحيث إنّ الحسّ لا يملك القدرة على الإثبات، فيقع كامل الثقل على عاتق العقل، وإذا أراد العقل إثبات حجيّته، فسيلزم من ذلك الدورّ، ومن هنا، نستنتج بأنّه طالما لم يتم إثبات «كون العقل مُوصِلًا للواقع» ولم يتمّ إثبات «كون الذهن البشري حاكيًا عن الواقع على الأصول»، فإنَّ «قيمة المعرفة» تبقى معلّقة، وهذا مختصرٌ لأصل الإشكال؛ وللإجابة عليه، سنُشرِّح في البداية عناصر البحث التصوّريّة ثمَّ سنحاكم عناصر البحث التصديقيّة.

(109)

مفهوم الحجيّة: يُستخدم هذا المفهوم غالبًا بمعنيين: 1. الكاشفيّة. 2. الاعتبار والوثاقة، ويُحال المفهوم الثاني للحجيّة في البحث، أيّ حجيّة العقل، إلى الكاشفيّة أيضًا؛ ومن هذا المنطلق، سنبحث الحجيّة بمعنى الكاشفيّة، فالحجيّة بمعنى الكاشفيّة على قسمين: 1. الحجيّة الحقيقيّة. 2. الحجيّة الاعتباريّة. والقسم الحقيقي، هو الحجيّة التي لها كاشفيّةٌ ذاتيّةٌ، والقسم الاعتباري هو الحجيّة التي لها كاشفيّةٌ بالعرض والمجاز، وفي الواقع الكاشفيّة المنسوبة لها هي من باب «جرى الميزاب».

ولتوضيح هذا النوع من الحجيّة سنستعين بالمثال المطروح في الأصول (علم أصول الفقه)، فعندما يقول علماء الأصول: خبر الواحد حجّةٌ، مُرادهم من هذه العبارة هو أنّ خبر زرارة على سبيل المثال كاشفٌ عن قول المعصوم عليه‌السلام  ، فإن لم يقل الإمام: «صَدِّق العادل» لم نكن لنتمكّن من أن نأخذه بعنوانه كاشفًا؛ يعني: لو لم يقل الإمام أنَّ خبر الواحد له عنوان الكاشفيّة، لم يكن ليكون لدينا إذنٌ بالعمل بخبر الواحد (مثلًا: بخبر زرارة)، فإذًا خبر الواحد، هو حجّةٌ اعتبارًا بالاستناد إلى حديث «صَدِّق العادل» بمعنى أنَّ خبرَ الواحد كاشفٌ اعتبارًا، ثمَّ يتبع هذا البحث سلسلةٌ من المباحث حول الحجيّة والكاشفيّة الاعتباريّة (حول الاعتبارات الشرعيّة) فهل هي من باب «تتميم الكشف» أم «إلغاء احتمال الخلاف» أم «جعل الحكم المماثل» أم «المعذريّة والمُنجزيّة»، ولكنّ التعرّض لها يخرج عن موضوع البحث، ولذلك فإنَّ الفرق الأساسي بين الحجّة الحقيقيّة أي الكاشف بالذات وبين الكاشف الاعتباري وبالعرض، يكمن في كون الكشف حقيقيًّا أم مجازيًّا، ولكنْ كُلًّا من الحجّتين يشترك في معنى الكشف.

وقد كتب آية الله الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر حول حجيّة الظهور (أحد أقسام الحجيّة الاعتباريّة) ما يلي:

ومن المُقدّر في علم الأصول أنّ ظهورَ حال المتكلم في إرادة أقرب المعاني إلى اللفظ حجّةٌ، ومعنى حجيّة هذا الظهور اتّخاذه

(110)

أساسًا لتفسير الدليل اللفظي على ضوئه... مع أنّ المهم عند تفسير الدليل اللفظي هو اكتشاف ماذا أراد المُتكلّم باللفظ من معنًى.[1]

وبذلك، يُمكن تقسيم الحجيّة ـ التي يُمكن من الآن فلاحقًا أن نُعبّر عنها بالكاشفيّة ـ إلى نوعين أساسيين: أ. الحجيّة المعرفيّة. ب. الحجيّة غير المعرفيّة. وبتعبيرٍ آخرَ إنَّ الكاشفيّة إمّا معرفيّةٌ وإمّا غيرُ معرفيّةٍ، ومن الجليّ أن مُرادنا هو الكاشفيّة المعرفيّة في بحث الكاشفيّة؛ لأنّنا سنُحكّم هنا حول كاشفيّة العقل في الإيصال إلى الواقع، يعني: حول عكس العقل للواقع والتي تُعتبر أساس كافّة المباحث التي تجري حول الأمور الاعتباريّة، ومن الواضح أنّ مُراد المُستشكل من الحجيّة نفس المعنى المراد من الحجيّة والكاشفيّة؛ لأنَّه قد ورد في الإشكال ما يلي: «طالما لم يتمّ إثبات أنّ العقل يوصل إلى الواقع، ولم يثبُت أنّ العقل البشري يعكس الواقع طبقًا للأصول، فإذًا قيمة المعرفة تبقى مُعلّقةً».

وبذلك، يُصبح واضحًا أنَّ المراد من الحجيّة في مقام البحث هو الكاشفيّة الحقيقيّة والمعرفيّة؛ فإذًا يجب الحكم على هذا الأساس بأنّه هل «العقل» «كاشفٌ عن الواقع» أم لا؟

وسنتناول عددًا من التوضيحات حول المُراد من مفهوم «العقل» في مقام البحث.

مفهوم العقل: لقد حاز العقل على عددٍ من الإطلاقات، وقد ذكر ابن سينا استعمالاتٍ متعدّدةً له، والمسمى الرائج لـ «العقل» في الفلسفة هو العقل النظري الذي يُدرك الكليّات، وقد كتب ابن سينا حول هذا الموضوع قائلًا:

أمّا الذي يدل عليه اسم العقل عند الحكماء فله ثمانية

(111)

معانٍ... فمِن ذلك: العقل النظري والعقل العملي، فالعقل النظري قوّةٌ للنفس تقبل ماهيّات الأمور الكليّة من جهة ما هي كليّةٌ.[1]

وكما بينّا في الفصل الأوّل من هذه الرسالة، فالعقل النظري إقليمٌ من أقاليم آلة الذهن البشري، فلأنّ العقل البشري تتواجد فيه الإدراكات الكليّة، لذا فهو يتوفّر على الأدوات الضروريّة لأجل الاستدلال القياسي الذي يحتاج إلى كبرى كليّةٍ، والاستدلال القياسي غيُر ممكنٍ بدون كليّةٍ الكبرى؛ ولأنَّ كلية الكبرى غيرُ ممكنةٍ بدون كليّة المفاهيم التصوّريّة، لذا فنحن بحاجةٍ إلى العقل الذي تقع المفاهيم الكليّة تحت تصرّفه، وقد أتى في طرح الإشكال أنّه «فقط العقل له شأنيّة الإثبات، أمّا الحس فيفتقد للقدرة على الإثبات والاستدلال»، ولكن هذا الاحتمال مطروحٌ أيضًا وهو أنّ «عمليّة إثبات وتشكيل القياس» هي للقوّة المُتصرّفة للنفس[2]، ولكن على كلّ حالٍ، في الاستدلال نحن مدينون للعقل الذي تقع المفاهيم الكلية تحت تصرّفه، والنقطة الجديرة بالإشارة هي أنّ كلمة «العقل» عندما تتوفّر في قضيّةٍ، يقع تذبذبٌ صغيرٌ في مجال المعنى يتناسب مع الحكم والموضوع، فمثلًا: أحيانًا المراد من العقل هو ذات العقل النظري، وأحيانًا قدرته الإدراكيّة، وأحيانًا المقصود منه هو عين الإدراكات العقليّة، ونقرأ في المباحث المشرقيّة ما يلي:

فاعلم أن الحكماء تارةً يطلقون اسم العقل على إدراكات هذه القوة وتارةً على نفس هذه القوة.[3]

تفصيل الإشكال: الآن بعد أن بحثنا مفردات الإشكال ـ المنزل الثاني ـ سنقول تشريح الإشكال، وسنقوم بتطبيق المعاني المختلفة لـ «الحجيّة» و«العقل» على البحث، وكان أصل الإشكال هو أنَّه «ما الذي يُثبت حجيّة

(112)

العقل؟» ونحن سنقوم بتحليل تركيب «حجيّة العقل» لنصل إلى حاقِّ مفادها، بدايةً سنكتب عبارة «حجيّة العقل» بصورة جملةٍ خبريّةٍ ثمَّ سنتحدث عن المُراد من العقل في هذه العبارة.

إنّ قضيّة «العقل حجّة» هي جملةٌ خبريّةٌ، وقد ذكرنا بأنّ المُراد من «الحجيّة» في بحث «الكاشفيّة الحقيقيّة وبالذات»، فإذن قضيّة «العقل حجّة» تعني: «العقل كاشفٌ»، والآن نحن نُريد أن نرى هل المراد من العقل في هذه العبارة هو الحيثيّة الوجوديّة للعقل النظري أم المراد منه هو القدرة الإدراكيّة أم المُراد من العقل هو نفس الإدراكات العقليّة، ومن الواضح أنَّه عندما نقول: «العقل كاشفٌ»، لا نعني بأنَّه كاشفٌ مع غضّ النظر عن حيثيّته الإدراكيّة؛ لأنَّ كلّ وجودٍ باعتباره تعيُّنًا خاصّاً من الوجود، فهو نفس الوجود، وليس له شأنُ الكشف والإراءة، وكذلك قضيّة «العقل كاشفٌ» ليست بمعنى أنّ «القوّة الإدراكيّة للعقل كاشفةٌ»؛ لأنَّ «القوّة الإدراكيّة» تعني: القدرة على اكتساب الشأن الإدراكيّ والكاشفيّة.

فإذن نستنتج بأنّ معنى «العقل كاشفٌ» هو أنّ «إدراكات العقل كاشفةٌ»، وهكذا يتحوّل الإشكال حول «حجيّة العقل» إلى إشكالٍ عن «حجيّة الإدراكات العقليّة»، وبذلك نصل في نهاية المطاف إلى هذه النتيجة: إنّ المنزل الثاني لا رسالة له سوى التشكيك في «كاشفية الإدراكات العقليّة عن الواقع».

إرجاع الحجيّة إلى الكاشفيّة: الآن، مع الالتفات إلى أنَّ الإشكال الثاني ـ التشكيك في حجيّة العقل ـ تحوّل إلى أنّه «مِن أين علمتم بأنّ الإدراكات العقليّة كاشفةٌ عن الواقع؟»، سنسعى نحن للإجابة على هذا الإشكال، ويمكن التعبير عن هذا الإشكال بـ «حجيّة العقل» أو «كاشفيّة العقل»، ولكن من الضروري الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنَّه عندما نقول «العقل حجّةٌ»؛ فذلك يعني أنّ للعقل دورًا اسمه «الفهم»، وهو حجّةٌ

(113)

(كاشفٌ)؛ فإذن نسبة الحجيّة ـ أي الكاشفيّة ـ للعقل هي نسبةٌ صحيحةٌ، ولكن يجب الانتباه إلى أنّ هذه النسبة هي باعتبار المهمّة التي يُؤدّيها العقل، وعلى هذا الأساس، وبالالتفات إلى النقطة التي تمّ بيانها فإنّ نُعبر عن «كاشفيّة الإدراكات العقليّة» بـ «كاشفيّة العقل».

كاشفية العقل: بما أنَّ الإدراكات الحصوليّة هي صورٌ ذهنيّةٌ وكل صورةٍ ذهنيّةٍ هي أمرٌ حاكٍ ـ كما بيّنا سابقًا ـ فإذًا الإدراك العقليّ له هويّةٌ حكائيّةٌ وكشفيّةٌ أيضًا، وبالطبع، بما أنَّ الإدراكات تنقسم إلى تصوّرٍ وتصديقٍ، فإذًا الكاشفيّة أيضًا تنقسم إلى كاشفيّةٍ تصوّريّةٍ وكاشفيّةٍ تصديقيّةٍ، ومرادنا من الكاشفيّة التصوّريّة هنا هو الكاشفيّةَ غير التصديقيّة ـ بما هو أعمُّ من تصوّر المفرد أو تصوّر القضيّة ـ والمقصود من الكاشفيّة التصديقيّة هو الكاشفيّة التي ترجع إلى عالم الواقع والتي لها لسانٌ صادقٌ، وتركيب «لسان الصدق» يُحدّد الهويّة التصديقيّة للقضيّة، فيُظهر كلًّا من القضيّة والتصديق رأيهما حول عالم الواقع؛ يعني: كلاهما يتحدّث عن عالم الواقع، ولكن التصديق بسبب خاصيّة مقاضاة ومحاكمة عالم الواقع التي يمتلكها، والتي نُعبّر نحن عنها بـ «لسان الصدق»، لذا فهو يقف على منصّةٍ أعلى من القضيّة، وذلك بسبب أنَّ التصديق هو الوحيد الذي يُمكنه أن يُعلّق ميدالية الفخر لحلّ مشكلة المعرفة على رقبته، إذا فاز في هذه المسابقة، ولذلك، فإنَّ الكاشفيّة التصوّريّة ـ مثل: مفهوم الفأرة ـ وكاشفية القضيّة ـ مثل: قضيّة «الفأرةُ كبيرةٌ» ـ لا يُمكنها أساسًا المشاركة في مسابقة حلّ مشكلة المعرفة، وفقط التصديق هو الذي يُمكنه المشاركة في صراع المعرفة؛ لأنَّه يُبدي رأيًا قطعيّاً حول عالم الواقع.

والأمر الذي لا بدّ من الالتفات إليه، هو أنَّ «القضيّة» و«التصديق» يتمّ بيانهما عادةً في «جملةٍ» واحدةٍ ـ مثل جملة «الفأرةُ كبيرةٌ» ـ ولكن «التصديق» من الناحية المنطقيّة مغايرٌ لـ «القضيّة». فالتصديق هو عين

(114)

فهم صِدق القضيّة، فمثلًا: إذا صدّقنا بقضيّة «الكلّ أعظم من الجزء»؛ معنى ذلك أنّنا أذعنّا بصدقها من طريق تصوّر الموضوع والمحمول، ووصلنا إلى الكاشفيّة التصديقيّة، ولكن بما أنّ القضيّة يُرافقها عادةً التصديق، ويرافقها اللفظ «است»[1] في اللغة الفارسية أو ما يعادلها في اللغات الأخرى، فإذن يتمّ إفهامها بجملةٍ واحدةٍ أو في تركيبٍ واحدٍ خاصٍّ، وكذلك، نُعبّر عن القضيّة الأوّليّة على شكل «اجتماعُ النقيضين محالٌ»، وإذا أردنا أن نُبيّن تصديقنا بالنسبة إلى هذه القضيّة، فإنّنا نستعمل هذا التعبير، ولكن حقيقة «التصديق» مغايرةٌ لحقيقة «القضيّة» كما تمّ بيانه في الفصل الثاني.

أنواع كاشفية العقل: يتّضح من المطالب السابقة، أنّ العقل يعني الإدراكات العقليّة تمتلك هويّةً كاشفيّةً وشأن الإراءة، وكذلك نستنتج هذه النقطة، وهي أنّه لدينا ثلاث أنواعٍ من الكاشفيّة: 1. الكاشفيّة التصوّريّة؛ 2. الكاشفيّة القضويّة؛ 3. الكاشفيّة التصديقيّة. والكشف التصوري يُبيّن محكيه فقط، وليس له نظرٌ إلى الواقع أصلًا، يعني: الكشف التصوّري يتناسب مع أن يكون الأمر الذي يُبيّنه شيئًا غير موجودٍ في الخارج أصلًا، فالكشف التصوّري لا بشرطٍ من وجود مصداقه وعدمه، فمثلًا: مفهوم الغول، يعرض الغول، ولكن لا يذكر وجوده أو عدمه، فالإراءة والكاشفيّة لازمان لا ينفكّان عن الكشف التصوّري، وبتعبيرٍ أدقَّ: التصوّر مثل أيّ صورةٍ ذهنيّةٍ أخرى، هو عين الكشف والإراءة، فإذًا يمكن القول: كشف العقل التصوّري حجّةٌ؛ يعني: لو توفّرت التصوّرات، فإنَّها كاشفةٌ عن محكيّها (أعمّ من الموجود والمعدوم)، والتصوّرات التي يمتلكونها في الكشف، لا خطأ وصواب فيها؛ لأنّهم يعرضون محكيَّهم فقط، ولا يتحدّثون عن عالم الواقع والتحقّق النفس الأمري، فلو ادّعى شخصٌ بأنّ التصوّرات تتحدّث

(115)

عن عالم الواقع، فكلامه مُخالفٌ للواقع، والكشف القضويّ هو كشفٌ آخرُ، وهو يختلف عن الكشف التصوّري المفرد؛ لأنَّه مع هذا الكشف ستنفتح نافذةٌ على عالم الواقع، ولكن هذا الكشف أيضًا ـ الكشف القضوي ـ إذا لم يُرافقه تصديقٌ، لا يحسب «معرفةً»؛ لأنَّه عندما تنتقش قضيّة «اللبن أسودٌ» في الذهن، فإنَّها تحكي في الواقع عن اسوداد اللبن، ونحن لن نصدّقها أو نصدّق نقيضها.

فإذًا الكشف التصديقي، هو كشفٌ خاصٌّ وهو مضافًا إلى أنَّه يفتح نافذة إلى الواقع، يُمكنه أن يكون مؤيّدًا لصحّة كاشفيّة القضيّة أيضًا.

كشف العقل التصديقي: حيث إنّ مشكلة المعرفة هي مشكلةٌ تصديقيّةٌ أساسًا، فإذًا ينبغي بحثها في هذا المجال، فالتصوّرات والقضايا أدواتٌ ضروريّةٌ من أجل الحلّ والفصل في هذه المسألة، ولكن ذلك الإكسير الذي يُمكن أن يُشارك في الأساس باعتباره عنصرًا فعّالًا في هذه اللعبة، لا يُمكن أن يكون أمرًا سوى التصديق، فالكشف التصديقي أو الفهم التصديقي عنوانٌ كليٌّ، وهذا العنوان يقبل التعدّد بتعدد مصاديقه؛ لأنَّ الكلّي بما هو كلِّيٌّ لا مصداقَ له، والكشف التصديقي له مصاديقُ متعدّدةٌ، وهذا الكشف يُمكن أن يُقسّم بناءً لأحد التقسيمات إلى قسمين: 1. الكشف التصديقي البديهي؛ 2. الكشف التصديقي النظري.

أنواع كشف العقل التصديقي: ذكرنا بأنّه لمّا كان الإشكال الثاني (أي التشكيك بحجيّة العقل) يُطرح في ما يتعلّق بمسألة المعرفة، وهذا الإشكال يرتبط أساسًا بالتصديق، فإذن يُمكن القول: يتبدّل في الواقع السؤال حول حجيّة العقل إلى سؤالٍ حول كشف العقل التصديقي، ومن هنا فما بعد سوف يكون معنى «هل العقل حجّةٌ؟» هو أنّه «هل تصديقات العقل كاشفةٌ عن الواقع؟»، فالكشف التصديقي ينقسم إلى أقسامٍ تبعًا لتقسيمات التصديق، فالتصديق أساسًا يشمل التصديقات الظنيّة أيضًا،

(116)

ولكن من الواضح أنَّ هذا النوع من التصديقات لا يُمكن أن يكون حلًا لمشكلة المعرفة، فإذًا سينحصر البحث بالتصديقات اليقينيّة.

يُمكن تقسيم التصديقات اليقينيّة بتقسيمٍ كلّيٍّ إلى قسمين: 1. التصديقات اليقينيّة البديهيّة؛ 2. التصديقات اليقينيّة النظريّة. وللتصديقات البديهيّة أقسامٌ، ولكن بما أنّنا نعتمد على «الأوّليّات» و«الوجدانيّات» من بين التصديقات البديهيّة، لذا سنُوجّه بحثنا في هذا الاتجاه.

الكشف الخاصّ وانكشاف الواقع: التصديق بمعنى فهم صدق قضيّةٍ ما أو نقيضها، وهو إمّا بديهيٌّ وإمّا نظريٌّ، وللبديهيّات أنواعٌ أساسها ـ كما ذكرنا سابقًا ـ هو هذه «الأوّليات» و«الوجدانيّات»، وهذه القضايا نقطة اعتمادنا في بحث المعرفة وعمليّة الوصول إلى الواقع، فـ «الأوّليات» هي تصديقاتٌ متطابقةٌ للواقع قطعًا؛ لأنَّ الأوّليات هي عبارةٌ عن فهمٍ للواقع حيث إنّ التصوّر السليم للموضوع والمحمول (في القضيّة الحملية) أو المُقدّم والتالي (في القضيّة الشرطيّة) يضمن صحّتها وصدقها، و«الوجدانيّات» كذلك هي ذلك النوع من القضايا حيث شهود الواقع يدعم صدقها ويضمن صحّتها.

وبناءً على هذا، يندفع احتمال «الجهل المركّب» في مثل هذا النوع من القضايا، ولا يجري على هذا النوع من القضايا إلقاء الشبهات والشكّ فيها، ولو حصل شكٌّ بدويٌّ بالنسبة إلى صدق هذا النوع من القضايا، لكن بالعودة مجدَّدًا إلى هذه القضايا يزول هذا الاضطراب عن ساحة النفس، وبالاستناد إلى هذا النوع من القضايا تصل النظريّات إلى اليقين أيضًا، فإن كان للقضايا النظريّة اعتمادٌ سليمٌ على الأوّليات والوجدانيّات، فسوف تكون يقينيّةً أيضًا، وهذا اليقين الذي يتوفّر بها يصل بالمآل إلى «الأوّليات» و«الوجدانيّات»، والقضايا النظريّة التي تصل إلى رتبة اليقين بالاعتماد على «الأوّليّات» و«الوجدانيّات»، لا واسطة

(117)

لها في الثبوت، خلافًا للكاشفيّات بالعرض ـ التي ذكرناها نحن باسم الحجيّات المجازيّة ـ والتي لها واسطةٌ في العروض، ولكن ليست كاشفًا حقيقيّاً، فإذًا النظريّات اليقينيّة أيضًا، لها كشفٌ عن الواقع، ولكن هذا الكشف يعتمد ثبوتًا على مبادئ المعرفة (الأوّليات والوجدانيّات)، فإذًا كما ذكرنا: لا تقع الشبهة في البديهيّات أساسًا، والشاهد على ذلك، هو أنّنا على الرغم من أنَّا لا نعلم الإجابة المفصّلة على الشبهة ولكنّنا لسنا مُستعدّين لرفع اليد عنها بأيِّ صورةٍ كانت، ولكن النظريّات ليست على هذا النحو، فإذًا في كافّة هذه الموارد، العودة إلى مبادئ المعرفة (الأوّليات والوجدانيّات) يُمكن له أن يُنير السبيل.

الكشف التصديقي واحتمال الجهل المركّب: من الممكن أن يدخل هنا متغيِّرٌ آخرُ في البحث، وهذا العنصر هو إشعال «احتمال الجهل المركّب»، فقد يقول الشكّاك: «من أين حصلت على الاطمئنان بتصديقاتك؟ أفلا يجري احتمال الجهل المركّبالثانيةًا في تصديقات الإنسان؟ فمن أين وصلت إلى العصمة المعرفيّة؟».

دفع احتمال الجهل المركّب: يُطرح احتمال الجهل المركّب عندما نستحضر كافّة معلوماتنا دفعةً واحدةً وبنحوٍ مجموعيٍّ، فهنا يتّضح أنّ احتمال الجهل المركّب قد يسري إلى معلوماتنا، فهل يُمكن أن يدّعي شخصٌ ـ إذا لم يكن معصومًا ـ بأنَّ جميعَ معلوماته مطابقةٌ للواقع، فإذًا «احتمال الجهل المركّب» يسري في معلوماتنا إذا ما طرحناها كوحدةٍ وبنحوٍ مجموعيٍّ، ولكن إذا فكّكنا القضايا عن بعضها وفصلنا بين «البديهيّات» و «النظريّات» وركزنا على «البديهيّات»، يندفع أيضًا احتمال الجهل المركّب؛ لأنَّه يندفع احتمال الخلاف في «الأوّليّات» عند الالتفات إليها بحدِّ ذاتها؛ لأنَّ نفس تصوّر القضيّة في هذا النوع من القضايا ضامنٌ لصدقها، وفي «الوجدانيّات» شهود الواقع يؤيّد صدقها، فإذًا يُطرح احتمال الخلاف

(118)

والخطأ أو الجهل المركّب، حول النظريّات أو مجموعة المعارف في الجملة، ولكن ليس لاحتمال الجهل المركّب سبيلًا إلى كافّة المعارف؛ لأنَّه مع مراقبة القضايا البديهيّة واحدةً واحدةً، وخصوصًا «الأوّليّات والوجدانيّات»، يندفع هذا الاحتمال أيضًا.

فإذًا كما لاحظت: «حجيّة العقل» تحوّلت إلى «كاشفيّة العقل» وكاشفيّة العقل تُفسّر كذلك بكاشفيّة الإدراك العقليّ، وبالتالي بالتمسّك بالبديهيّات فُتح الباب لتحرّر العقل من دوامة الحجيّة.

العبور من المنزل الثالث للشكوكيّة

العلاقة بين كيفيّة الوجود وقيمة المعرفة

(ع. م ـ 3): إنّ الشكوكيّة في المنزل الثالث تُشكّك بـ «قيمة المعرفة» بناءً على احتمال تفاعل الذهن والعين في الإدراك، وهذا النوع من الشكوكيّة، له ثلاثةُ تقاريرَ؛ أ. تقرير كانط[1]؛ ب. تقرير نيغل[2]؛ ج. تقريرٌ تشبيهيٌّ لتفاعل الذهن والعين.

وهذه التقارير الثلاث للمنزل الثالث من الشكوكيّة (تفاعل الذهن والعين) هي في الواقع قبضٌ وبسطٌ تمّ إرواؤه وإسقاؤه من إشكالٍ واحدٍ، فهي تستقي نوعًا ما من المنظومة المعرفيّة لكانط التي لها شأن الظاهرة، ومع احتمال التفاعل المتقابل بين الذهن والعين أسقطت المعرفة من الأصالة، ووجدت عقدةٌ بين قيمة المعرفة وبين الهويّة البنيويّة للذهن، وعليه فكلّ جوابٍ على أحد التقارير سيكون أيضًا جوابًا على التقارير الأخرى، ومن هنا سنسعى لتقديم جوابٍ جامعٍ على هذه التقارير الثلاث للمنزل الثالث من الشكوكيّة، ولكن قبل الشروع بالإجابة على الإشكال،

(119)

سنقوم بالتعرّض للشكوكيّ وسنتنازع معه حول العلاقة بين كيفيّة ظهور الإدراكات وقيمة المعرفة.

المناقشة في مبنى المناقشة: يبدو أن أساس كافّة الإشكالات التي تعتمد على التفسير التفاعلي بين الذهن والعين يقوم على هذا الاستنتاج، وهو أن المعرفة لا تكون صادقةً إلّا عندما يكون لها انفعالٌ من الخارج دون أيِّ نقصٍ، وكنموذجٍ على ذلك ذُكر في تقرير إشكال نيغل ما يلي: «الإنسان موجودٌ صغيرٌ في عالمٍ كبيرٍ، وهو لا يمتلك عنه إلّا فهمًا واستنباطًا ناقصًا جدًّا، وأمّا كيف تصل الأمور إليه، فالأمر يتوقّف على ماهيّة وطبيعة الكون وعلى هويته وطبعه أيضًا». وكأنّما يغلب الظنّ على أنّه لو تمّ الانفعال عن الخارج بصورةٍ صحيحةٍ، فسوف يتمّ تأمين قيمة المعرفة، ولكن بما أنَّه لن يقع انفعالٌ خالصٌ، فلا بدّ من طرح «تفسيرٍ ذي وجهين» للمعرفة، وأن يتمّ الحديث عن أنّ «للعينيّة مراتبَ» حيث إنّه في هذه المنظومة بعض مراتب العين لن تكون شيئًا سوى «العينيّة الظاهريّة»، ولكن المناقشة الموجودة هنا هي أنَّ «قيمة المعرفة» ليست مبنيّةً بأيّ وجهٍ من الوجوه على «كيفيّة إيجاد الإدراكات»، فـ «قيمة المعرفة» هي بحدّ ذاتها مسألةٌ مستقلّةٌ يتمّ تقييمها بطرقٍ خاصّةٍ، ونحو ظهور الإدراكات (بنحو الانفعال المحض أو الفاعليّة التامّة و...) لا يؤثّر نفعًا أو ضررًا على «القيمة الإيجابيّة» أو «القيمة السلبيّة» لتلك الإدراكات، ولبيان هذه المسألة، سنبدأ برسم صورة المسألة، ثمَّ سنبحث «قيمة المعرفة» حول كلّ واحدةٍ من هذه الصور المصوّرة.

الصور الذهنيّة واحتمالات الظهور: يمكن تصوير عدّة صورٍ حول كيفيّة ظهور الصور الإدراكيّة (الصور الذهنيّة)، وهذه الصور إمّا هي نتيجة انفعالٍ تامٍّ للخارج وإمّا ليست كذلك، وفي الحالة الثانية فإمّا هذه الصور من نسج الذهن تمامًا، وإمّا لا، وفي الفرض الثاني، فكذلك إمّا أنّ هذه

(120)

مراجعة الكتاب

 

 

الصور هي نتاج تفاعل الذهن والعين وإمّا أنَّها ليست كذلك، وفي الفرض الثاني إمّا أن تكون هناك قوًى أبعدُ من الذهن (الله تعالى، الملائكة، العقل الفعّال، الشيطان، موجودٌ شريرٌ، غرفة إدارة الحاسوب، و...) تصنع هذه الصور بمشاركة الذهن والعين على نحو الإعداد مثلًا، وإمّا أنّ هذه القوى الأبعد من الذهن، تُصوّر هذه الصور في صفحة الذهن دون أن تُلحظ أيُّ مساهمةٍ من الذهن والعين في الإدراك.

وهذه أهم الصور التي تمّ تصوُّرها، وربما يمكن إضافة المزيد من الصور عليها، ولكن الصور الأساسيّة هي تلك التي تمّ بيانها.

ويمكن تلخيص وتنظيم الصور على هذا النحو:

1. الإدراك (الصور الذهنيّة)، هي انفعالٌ خالصٌ للخارج.

[(عين) ـ (ذهن)] ! الإدراك (الصور الذهنيّة)

2. الإدراك من نسج الذهن فقط.

[(الذهن) ـ (العين)] ! إدراك (الصور الذهنيّة)

3. الإدراك هو نتيجةٌ للتفاعل بين الذهن والعين.

[(عين) + (ذهن)] ! إدراك (الصور الذهنيّة)

4. الإدراك مستمَدٌّ من المشاركة بين «قوى ما وراء الذهن» وعناصر الذهن والعين.

[ (ما وراء الذهن) + (الذهن والعين)] ! الإدراك (الصور الذهنيّة)].

5. الإدراك من نسج «قوى ما وراء الذهن».

[(ما وراء الذهن) ـ (الذهن والعين)] ! الإدراك (الصور الذهنيّة)

(121)

فهذه صورٌ فرضيّةٌ تصوّرناها، حول كيفيّة ظهور الإدراك (الصور الذهنيّة)، ونحن هنا، لسنا في صدد بيان أيّ الصور ينبغي قبولها، بل ما سنقوم به لاحقًا سيكون تقييمًا للإدراك مع فرض قبول كلّ واحدٍ من هذه الصور.

تحليل صور الظهور: إنّ الصور الذهنيّة التي كنّا نتحدّث عن كيفيّة ظهورها، يمكن تقسيمها في تقسيمٍ كلِّيٍّ إلى ثلاث أقسام:

1. الصور الساكتة: هذه الصور هي عين التصوّرات غير القَضَويّة، وجميع التصوّرات غير القضويّة، ساكتةٌ بالنسبة إلى وجود مصاديقها في الواقع وعدمها، فإذًا من البديهي أن تكون التصوّرات ساكتةً بالنسبة إلى الصدق والكذب؛ لأنَّ التصوّرات بما أنَّها لا تُبدي رأيًا بالنسبة إلى تحقّقها وعدم تحقّقها في ظرف الواقع، فإذًا بالضرورة لا تتحدّث عن الصدق والكذب، ومن الأساس ليس لها شأنيّة الاتّصاف بالصدق والكذب.

2. الصور الصامتة: نُسمّي الصور القضويّة صورًا صامتةً، فعلى الرغم من أنَّ هذه الصور تُبدي رأيًا مرتبطًا بالواقع، ولذا فهي تحسب من هذه الجهة صورًا ناطقةً، ولكن بما أنّها لا تبدي رأيًا مرتبطًا بصدقها وكذبها، فإذًا يُمكن تسمية القضيّة صورًا صامتةً، فعلى سبيل المثال: القضيّة الموجبة «الكون في حال انبساطٍ» هي قضيّةٌ تبدي رأيًا مرتبطًا بعالم الواقع، خلافًا للتصوّر المفرد ـ التصوّر غير القضويّ ـ، فهي ليست ساكتةً عن بيان وضع الواقع، ولكنْ كونُها قضيّةً يتناسب مع هذا الفرض، وهو كونها كاذبةً أو مشكوكًا بها، ومرادنا من «إبداء رأيٍ مرتبطٍ بعالم الواقع» هو الحديث عن ظرف التحقّق الذي تمّت الإشارة إليه في نسبة القضيّة، ولا تختصّ بأيّ وجهٍ من الوجوه بإبداء رأيٍ يرتبط بالعالم الفيزيائي؛ لأنّ «عالم الواقع» يعني: نفس الأمر، وهو أعمُّ من العالم المادي والمجرّد، وأحيانًا يُعتبر «عالَمُ الواقع» مرتبةً من الذهن تمامًا كما تنطق القضايا المنطقية داخل الذهن

(122)

حول الواقع. وبمزيدٍ من التفصيل، يمكن القول: «عالم الواقع» أو نفس الأمر، أعمُّ من «الواقع الوجودي» و«الواقع العدمي»، تمامًا كما بيّناه في الفصل الثالث، فإذًا مع الالتفات إلى هذه النقطة، يمكن الإجابة على إشكال بعض[1] المعاصرين على قول بعض الفضلاء حول شمول نفس الأمر لوعاء العدم، وبالطبع فإنَّ هذا الجواب مبنيٌّ على مباحثَ مفصّلةٍ فصّلناها سابقًا في الفصل الثالث حول نفس الأمر بالنسبة للعدميّات.

3. الصور الناطقة: المراد من الصور الناطقة، هو الصور التصديقيّة، إذْ فقط التصديق من بين أقسام الصور الذهنيّة، يبدي رأيًا بالنسبة إلى الصدق والكذب، لأنّ التصديق هو عين «فهم صدق القضيّة». فالتصديق هو الجوهر الذي يُخرج القضيّة من حالة اللا بشرط بالنسبة إلى الصدق والكذب، ويمنحها هويّةً معرفيّةً، وبالطبع كلّ تصديق يقع في خطر «الجهل المركّب» بدوًا، ولكن يمكن التطرق بالحديث عن المعرفة التصديقيّة التي نجت من الجهل المركّب بناءً على التصديقات الخاصّة، وهذا القسم من البحث له شأنٌ محوريٌّ، وسنقوم مجدَّدًا ببسط المطلب بعد بيان عدّةِ مطالبَ.

الصور التصوّريّة وقيمة المعرفة: الآن وقد عرفنا أنواع الصور الذهنيّة وعلمنا بأنَّ «الصور الذهنيّة» تنقسم بتقسيمٍ كليٍّ إلى «الصور الساكتة» و«الصور الصامتة» و«الصور الناطقة»، فإذًا أصبح من المناسب أن نتأمّل في نصيب كلّ واحدٍ من أنواع الصور المذكورة في عمليّة المعرفة، وسنبدأ البحث في البداية عن «الصور الساكتة» وهي الصور غير القضويّة، ولهذه الصور ـ الصور الساكتة ـ أقسامٌ، فالصور التصوّريّة إمّا أن تكون صورًا جزئيّةً وإمّا أن تكون صورًا كليّةً، والصورُ الكليّة المعروفة بالمفاهيم هي صورٌ إمّا ماهويّةٌ وإمّا منطقيّةٌ وإمّا فلسفيّةٌ، وهذا هو التقسيم السائد حول الصور التصوّريّة.

(123)

وليس من الضروري هنا تناول كلّ واحدةٍ من هذه الصور بالبحث؛ لأنَّه من جهةٍ ـ كما سنرى ـ جميع أنواع الصور التصوّريّة لها دورٌ واحدٌ في عمليّة الإدراك، والمعرفة التصوّريّة شرطٌ لازمٌ لحصول المعرفة، أمّا المعرفة التي لها شأنٌ تصديقيٌّ فهي تنتج في ظلّ «بنَاء المعرفة» الذي هو نفس التصديق، والتصوّرات أدواتٌ لها دورٌ آليٌّ في عمليّة المعرفة، والتصوّرات غير القضويّة تُقسَّم وفق تقسيمٍ آخرَ إلى تصوّراتٍ مفردةٍ وتصوّراتٍ مركَّبةٍ (بالتركيب الإضافي)، والتصوّرات المركّبة تركيبًا إضافيّاً هي أيضًا تصوّراتٌ ساكتةٌ، ولا تُبدي رأيًا حول الواقع، فمثلًا: المركّب الذي يقول: «الإنسان العالم» لا يُفيد وجود مثل هذا الفرد في الخارج، وهذا التصوّر المركّب الإضافي، يشير فقط إلى محكيِّه؛ فإذن الصور التصوّريّة غير القضويّة هي ساكتةٌ بالنسبة إلى تحقّق أمرٍ أو عدم تحقّقه في ظرف الواقع، وحتّى مفهوم «الوجود» لا يُبين التحقّق أو لا اقتضاء التحقّق، والصورة الذهنيّة لـ «العدم» لا تبين رفع شيءٍ عن صفحة الواقع، ولذلك، يجب أن نضيّق وأن نضع حدودًا لتوقّعاتنا من التصوّرات غير القضويّة إلى حدود قدرات هذه الصور.

فالتوّقعات التي يمكن نتوقّعها من الصور التصوّريّة غير القضويّة هي أنّ هذه الصور تشير إلى محكيِّها، وبالطبع كلّ صورةٍ تكون حاضرةً في صفحة الذهن بأيِّ كيفيّةٍ حصلت فسيكون لها هذه الحكاية، وكذلك التصوّرات أيضًا، فأكثر الصور التخيليّة الجعليّة التي لديك في ذهنك هي تمامًا كالصور التي لها مصداقٌ في عالم الخارج، تحكي عن محكيِّها، فإذًا في الحكاية التصوّريّة أو أساسًا في الحكاية والإراءة البدْويّة التي لكلّ صورةٍ ذهنيّةٍ عن محكيِّها بالذات، لا فرق بين الصور الجعليّة والتخيّلية.

توضيح الأمر: ذكرنا بأنَّ التصوّرات لها حيثيّة وشأن الحكاية، وهذا الشأن موجودٌ في كافّة الإدراكات التصوّريّة بأيِّ كيفيّة حصلت، ونحن لا

(124)

نتوقّع أكثر من ذلك من التصوّرات، فللتصوّرات حكايةٌ تامّةٌ عن محكيِّها (بما هو أعمّ من الموجود أو المعدوم)، ولا تتحدّث عن وجود مصداق محكيها في عالم الواقع أو عدمه، والآن سنتناول عدّة أمثلةٍ لتوضيح عدم ارتباط «قيمة الإدراكات التصوّريّة» بـ «كيفيّة الوجود» :

1. افرض أنَّك تسير في الصحراء في يومٍ حارٍّ صيفيٍّ، وبدأ الهواء يصبح أشدّ حرارةً، وبدأتَ تشعر بالعطش، وهذا الإحساس بدأ بالازدياد شيئًا فشيئًا، ولم يكن معك ماءٌ، ولا مناص من أن تبحث عن الماء، وبدأت تجول في الأطراف ولم تعثر على الماء، وهنا تنظر إلى الأفق من بعيد فتنتقش صورة الماء فورًا في ذهنك، فتستمرّ بالمسير مسرورًا، ولكن بعد الركض، واللهاث تواجه «السراب»، والآن تعالَ لنبحث عن القيمة التصوّريّة لمفهوم «الماء» الذي حصل لك إثر رؤية السراب، فالسؤال هنا: «ما هي القيمة المعرفيّة لمفهوم الماء الذي انتقش في ذهنك؟» وللإجابة عن هذا السؤال يجب أن نُفرّق بين «القيمة التصوّريّة» و«القيمة القضويّة» فالقيمة التصوّريّة للإدراكات التصوّريّة منوطةٌ بحكايتها عن محكيها (بما هو أعمُّ من الموجود أو المعدوم)، وهذه الحكاية، يتمّ تأمينها بحصول التصوّرات في الذهن، ولا دور لكيفيّة حصولها في الذهن في هذه الحكاية.

2. لنا صديقٌ اسمه «أمير» ولم نره منذ مدّةٍ طويلةٍ، وافترضوا أنّه بينما كنّا مُنشغلين بالسير على شاطئ البحر المتوسط، رأينا من بعيدٍ شخصًا فانتقشت في ذهننا صورة «أمير»، ولكن عندما يقترب ذلك الشخص، وجدنا أنَّه «أمين»، والسؤال هنا هو: هل تحكي صورة «أمير» التي نُقشت في ذهننا من خلال رؤيتنا لـ «أمين» عن محكيها (بما هو أعمّ من أن يكون موجودًا أو معدومًا)؟ بلا شكٍّ، مثل هذه الحكاية ترافق التصوّرات، ونحن لا توقّع لنا قبل هذه التصوّرات.

فإذن بذلك لا تأثير لكيفيّة حصول الإدراكات على قيمة الإدراكات التصوّريّة بل ولا على كافّة الإدراكات كما سنذكر لاحقًا، فمفهوم «الغول»

(125)

الذي لا مصداق له في الخارج، يُشير إلى محكيه بهذه الطريقة كما يفعل «مفهوم الفأر».

وهنا إذا كان هدف كانط[1] ونيغل[2] وغيرها من إشكال «تفاعل الذهن والعين» هو إثارة الرعب حول الإدراكات التصوّريّة، فحقيقة الأمر هي أنَّ «احتمال تفاعل الذهن والعين» وحتّى «اليقين بتفاعل الذهن والعين» وأعلى من ذلك «القطع بكون كافّة الصور الذهنيّة التصوّريّة جعليّةً» و...، لا تضرّ بحكاية هذه الصور قيد أنملةٍ؛ لأنَّ هذه الصور ليس لها ادّعاءٌ سوى هذه الحكاية، وأمّا إذا كان مراد كانط ونيغل وآخرون غير هذا الأمر، أو كان كلامُهم أعمَّ من الإدراكات التصوّريّة وغير التصوّريّة، فهو بحدّ ذاته موضوعٌ وسوف نتناوله الآن.

الصور القضويّة وقيمة المعرفة: إلى هنا تركنا وراءنا المرحلة الأوّلى من مراحل البحث والدراسة للقيمة المعرفيّة للصور الإدراكيّة (الصور الذهنيّة)، وفي المرحلة السابقة تناولنا بالبحث القيمة المعرفيّة للصور الساكتة (الصور التصوّريّة غير القضويّة)، والآن في هذه المرحلة (المرحلة الثانية) سنبحث حول القيمة المعرفيّة للصور القضويّة، وقد أسمينا هذه الصور كما هي لديك في ذهنك «الصور الصامتة»؛ لأنَّ هذه الصور على الرغم من أنَّها تُبدي رأيًا حول الواقع، إلّا أنّها بَكْماءُ بالنسبة إلى صدقها وكذبها؛ لأنَّ القضيّة، حتّى لو قالت: أنا صادقةٌ أو أنا كاذبةٌ، فقضويّة القضيّة تتناسب مع المشكوكيّة، وهذا الأمر يوجب أن نقول: إنَّ القضيّة فاقدةٌ لـ «اللّسان المعرفي».

والآن يُمكننا من خلال الالتفات لمثل هذا التوصيف الذي طرحناه حول القضيّة، أن نُبدي رأينا حول دورها في «عمليّة المعرفة» براحةٍ، فـ «المعرفة» هي الحقيقة التي من لوازمها الضروريّة عنصر «الصدق»

(126)

(صدق القضيّة الموجبة أو القضيّة السالبة)، وطالما لا نملك ضمانًا لأجل أن يكون هذا العنصر متوفّرًا، لا يجب أن نُجري لساننا بالحديث عن المعرفة بالمعنى الفلسفي الدقيق، ومع مثل هذا الشرط الذي لاحظناه في المعرفة، فهل القضيّة التي تحكي الواقع فقط ولا تبدي رأيًا حول الصدق، هل يمكن لها أن تصلنا بالمعرفة؟ الجواب هو النفي بلا شكٍّ، ولذلك، إذا كان لمشكلةِ المعرفة حلًّا، فلا بدّ من البحث عنها في العلوم التصديقيّة، فالصور القضويّة ضروريّةٌ من أجل الوصول إلى المعرفة، ولكن هذه الصور، كما الصور الساكتة (الصور التصوّريّة غير القضويّة) ليس لها القدرة على حلّ مشكلة المعرفة، والآن وقد حددنا توقعاتنا من الصور الصامتة (الصور القضويّة) فلنعد إلى إشكال تفاعل الذهن والعين.

لو أنّنا فرضنا الصور القضويّة بأيِّ نحوٍ من الأنحاء (انفعالٌ بحتٌ، من صُنع الذهن، ناجمةٌ عن تفاعل الذهن والعين، من صنع قوى ما وراء الذهن بمساعدة الذهن الواعي، أو من صنع قوى ما وراء الذهن بشكلٍ بحتٍ) فسوف يتمّ إيفاء توقّعاتنا، والتي هي عين إبداء الرأي المرتبط بعالم الواقع، فافرضوا أنَّ الشيطان ألقى في ذهننا قضيّةَ «صدامٌ عادلٌ» أو افرضوا أنَّ وسائل الإعلام تمكّنت يومًا من إشراب هذه القضيّة في أذهان الناس، وهي أنّ «إسرائيل على حقٍّ»، فمع ذلك لن يحصل إشكالٌ؛ لأنَّ توقّعنا من القضيّة بما هي قضيّةٌ، ليس شيئًا سوى إبداء كلامٍ يرتبط بعالم الواقع، والقضيّة بنفسها لا تُبدي رأيًا يرتبط بصدقها وكذبها، ولذلك، فإنَّ إشكال كانط ونيغل لن يُصيب حكاية القضيّة بضررٍ في مورد تفاعل الذهن والعين؛ لأنَّ توقعنا ذلك من الصور القضويّة سيتمّ إيفاؤه بنحوٍ كاملٍ حتّى على فرض كونها جعليّةً بتمامها، ولن نبحث هنا في مشكلة المعرفة بحيث نقع في اضطرابٍ بسبب هذه الإشكالات، بل إنَّ هذه المسألة ينبغي حلّها والفصل فيها في الصور التصديقيّة الخاصّة والتي سنشير إليها لاحقًا.

(127)

توضيحان:

1. إنّ مرادنا من هذا المطلب الذي ذكرناه حيث قلنا: «القضيّة لا تبدي رأيًا حول صدقها أو كذبها»، هو أنَّ القضيّة لا بشرطٍ بالنسبة إلى صدقها أو كذبها؛ أيّ حتّى لو تحدّثت عن صدقها أو كذبها، فيبقى أنّ كونها قضيّةً ينسجم مع كونها مشكوكةً، ولكن التصديق لا ينسجم مع كون الأمر مشكوكًا؛ لأنَّ التصديق والشكّ لا يجتمعان، فالتصديق هو فهم الصدق، والشكّ بالنسبة إلى الصدق لا ينسجم مع فهم الصدق؛ فإذًا على الرغم من أنّ القضيّة تحكي عن صدق ذاتها أحيانًا، ولكنّها في الوقت نفسِه، تنسجم مع الشكّ الموجود فيها أيضًا، وهذا هو الفارق المهم بين القضيّة والتصديق.

2. القضيّة إمّا بديهيّةٌ أو نظريّةٌ، والقضايا البديهيّة يعتمد عليها في بحث المعرفة، ولكن النقطة التي يجدر الانتباه إليها، هي أنّ ما يبتّ في الأمر هو التصديق الذي يترتّب على القضايا البديهيّة كالوجدانيّات والأوّليات، وإلّا فإنَّ القضيّة بما هي قضيّةٌ تنسجم مع الكذب والشكّ أيضًا؛ فإذًا القضايا الوجدانية والأوّلية حتّى لو كانت محلّ اعتمادنا في بحث المعرفة، ولكن حيثيّة الاستناد إليهما هي من جهة أنَّ هذين النموذجين من القضايا التصديقيّة يُؤدّيان إلى انتفاء احتمال الجهل المركّب فيهما، فإذًا التمسك بهما ليس فقط من أجل كونهما قضيتيْن.

الصور التصديقيّة وقيمة المعرفة: لقد وقع البحث في المراحل السابقة في إشكال تفاعل الذهن والعين في الصور التصوّريّة والصور القضويّة، ورأينا بأنَّ الصور التصوّريّة والصور القضويّة في ذلك الحدّ المتوقّع منهما لن يُشكّل التفاعل بين الذهن والعين صدمةً لهما، بل لن تحصل مشكلةٌ حتّى من ناحية جعل هذه الصور من ناحية الشيطان أو...، والآن سنقوم ببحث الصور التصديقيّة من هذه الناحية.

(128)

إنّ التصديق ـ كما أشرنا سابقًا عدّة مرّاتٍ ـ هو فهم صدق القضيّة (القضيّة الموجبة أو السالبة)، أو بعبارةٍ أخرى: التصديق، هو فهم صدق القضيّة أو كذبها، فالعلوم التصديقيّة وإن كان من الممكن أن تكون معرّضةً لضرر الجهل المركّب في البداية، إلّا أنَّ هذا الاحتمال يندفع في التصديقات الخاصّة التي نُطلق عليها نحن «التصديقات الأساسيّة»، وطريق دفع «الجهل المركّب» غير مسدودٍ وفي التصديقات الأخرى.

وقبل أن نبدأ البحث حول «الصور الأساسيّة»، يُمكن أن نقوم ببحث احتمال الضرر الذي من جانب إشكال «تفاعل الذهن والعين» أو... حول «الصور التصديقيّة» (غير الصور الأساسيّة).

نحن نعلم بأنَّ التصديقات العامّة (التصديقات غير الأساسيّة) مُعرّضةٌ دائمًا لاحتمال الجهل المركّب؛ ولذا لا فرق بين أن تحصل هذه الصور في الذهن من خلال الانفعال التامّ مع الخارج وبين أن ينسجها نفس الذهن أو تقوم قوى ما وراء الذهن (كالشيطان) بخلقها في ساحة الذهن، فالصور التصديقيّة غير الأساسيّة في معرض الجهل المركّب، وحتّى لو كان حصولها فرضًا على نحو الانفعال الكامل أيضًا، مع ذلك سيستمرّ وجود الإشكال حولها، وعليه لن يعود كون الإدراك انفعالًا بالنفع على المستشكل، ولن يُلحق كون الإدراك جعليًّا ضررًا بنا.

الصور الأساسيّة وقيمة المعرفة: إنّ المراد من «الصور الأساسيّة» هو «الأوّليات» و«الوجدانيّات»، والأوّليات هي قضايا يكفي مُجرّد تصوّر ذات القضيّة ليحصل الحكم بصدقها، أمّا الوجدانيّات فهي ذلك النوع من القضايا التي تحكي عن العلم الحضوري، والتي يكون شهود الواقع دعامة صدقها، والآن نُريد أن نبحث في تأثير كيفيّة ظهور الإدراكات ـ بنحو الانفعال المُجرّد أو بنحو الفاعليّة أو بنحو التفاعل و... ـ في القضايا الأساسيّة.

(129)

1ـ  الأوّليات، كيفيّة الظهور والصدق: الأوّليات هي نوعًا ما قضايا نبنيها نحن أمام أنفسنا؛ لأنَّها غير موجودةٍ على هذا النحو في الخارج، كمثال على ذلك: عندما نقول: «الكلّ أعظم من الجزء»، فالإيجاب الموجود في هذه القضيّة الذي قوام القضيّة به، لا يحصل نتيجة الانفعال مع الخارج؛ لأنَّ الحكم هو فرع تعدّد الموضوع والمحمول، ولا تعدّد للموضوع والمحمول في الخارج، فالإيجاب هو فعلٌ للذهن، ولكنّه يحكي عن هوهويّة الموضوع والمحمول في الخارج، فإذًا، على الرغم من أنّ الإيجاب هو من فعل النفس، إلّا أنّ الحكاية عن الهوهويّة العينيّة للموضوع والمحمول تكون بصحبته أيضًا، وهذا الأمر مبنيٌّ على ذلك الشيء الذي بيّناه، وهو أنَّ «الصورة الذهنيّة لها حيثيتان؛ حيثيّةٌ وجوديّةٌ وحيثيّةٌ حكائيّةٌ، وبالطبع تعتبر هذه الصورة علمًا حصوليّاً باعتبار حيثيّتها الحكائيّة.

فإذًا رأينا إلى هنا أنَّ كلّ واحدٍ من «التصور» و«القضيّة» يؤدّي دوره الخاصّ به، ولن يؤدّي صناعة وجعل الصور التصوّريّة والقضيّة إلى أي مشكلةٍ.

والآن يصل الدور إلى «التصديق» الذي يؤدّي دوره، فـ «التصديق» صورةٌ ذهنيّةٌ خاصّةٌ بينها وبين الصور الذهنيّة الأخرى فرقٌ أساسيٌّ وجوهريٌّ، فتلك الصورة الذهنيّة التي اسمها تصديق، هي عين فهم صدق القضيّة، فكلّ قضيّةٍ يُمكن أن يرافقها «فهم الصدق» ـ التصديق ـ أو «فهم الكذب ـ «التكذيب» ـ ولكن لا ضمانة في كافّة القضايا على صحّة مثل هذا الفهم (فهم الصدق أو فهم الكذب)، إلّا أنّ مثل هذه الضمانة تتوفّر في الأوّليات؛ لأنَّ «احتمال الجهل المركّب» الذي هو محتملٌ في القضايا الأخرى، لا سبيل له في الأوّليات، وسبب ذلك هو أن فهم صدق القضيّة في الأوّليات ناجمٌ عن تصوّر القضيّة؛ يعني: التصوّر الصحيح للقضيّة هو منشأ مثل هذا التصديق، وبما أنَّ التصديق بلا تصوّرٍ محالٌ، فإذًا علّة تصديق

(130)

هذه القضايا يصاحبهاالثانيةًا، وليس هناك حتّى نافذةٌ لاحتمال الخطأ عن طريق فرض تفاعل الذهن والعين و...، وما يُهمّ هو أنّنا في الأوّليات نصل إلى إدراكاتٍ لا دخالة فيها لكيفيّة ظهور الإدراكات في صدقها، ولذلك، فإنَّ «فرض تفاعل الذهن والعين» وبل حتّى ما هو أعلى من ذلك وهو «كون كافّة الصور جعليّةً» لن يُؤدّي إلى ضرب صدق «الأوّليّات».

2ـ الوجدانيّات، كيفيّة الظهور والصدق: النموذج الثاني من «القضايا الأساسيّة» هي القضايا الوجدانيّة، وهذه القضايا كما أشرنا سابقًا، لها حكايةٌ مباشرةٌ عن العلم الحضوري، وهذه القضايا تقترض صدقها من العلم الحضوري، بمعنى أنَّ شهود الواقع هو دعامة صدقها، والبحث الذي يجب أن نتناوله هنا، هو دور كيفيّة ظهور الصور الإدراكيّة على الوجدانيّات، فالقضيّة الوجدانية هي القضيّة التي يؤدّي التصديق بها إلى انتفاء «احتمال الجهل المركّب» عنها بسبب الدعامة الحضوريّة التي تمتلكها، فإذًا «الصور التصديقيّة» في «الوجدانيّات» بأيّ كيفيّةٍ حصلت تتمتّع بالصدق بسبب أنَّها تحكي عن «المعلومات الشهوديّة والحضوريّة»، فإذًا كيفيّة ظهور الإدراك على نحو التفاعل وغيره لا تستطيع أن تُلحق ضررًا بهذا الأساس.

نتيجة البحث: كان البحث قد بدأ من هنا: يريد الشكّاك في «المنزل الثالث» أن يُسقط «قيمة المعرفة» عن اعتبارها عن طريق فرض «تفاعل الذهن والعين»، ونحن بدورنا قد أشرنا إلى هذه النقطة في البداية، وهي أنّه كأنّما المرتكز الذهني عند الأفراد الذين هاجموا هذه «المعرفة»، هو أنّه لا يُمكن تأمين «قيمة المعرفة» إلّا حينما نُثبت بأنَّ «الذهن» عمل بصورةٍ منفعلةٍ تمامًا، ولم يُضف من تلقاء نفسه شيئًا على مقدار المعرفة، ثمَّ تمّ البحث والنقاش بهذا المبنى (الربط بين قيمة الإدراك وبين كيفيّة ظهوره)، ثمّ بحثنا الصور الخمسة التي صوّرناها عن كيفيّة ظهور الإدراكات فتعرّضنا

(131)

بالبحث لـ «قيمة الإدراكات التصوّريّة» و«قيمة الإدراكات القضويّة» و«قيمة الإدراكات التصديقيّة» وبالأخير «قيمة الإدراكات الأساسيّة»، وفي الختام، وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أنَّ ظهور الإدراكات بأيّ نحوٍ كان، لا يُحدث أيّ ضررٍ بالقيمة المعرفيّة، وأساسًا لا ربط بين المسألتين، فإذًا مع هذا التقريب من الاستدلال ليس فقط تجاوزنا شكوك كانط ونيغل و...، والتي تُؤكّد على تفاعل الذهن والعين، بل أجبنا أيضًا على الإشكالات المفترضة أيضًا.

تتمّة: يبدو من المناسب في هذه الفرصة أن نخوض في دراسةٍ نقديّةٍ لما حُرّر عن «فكرة نيغل» حول تفاعل الذهن والعين، ومن هنا فلاحقًا سوف نشير إلى النقطة الخاصّة التي أكدنا عليها في «العبور عن المنزل الثالث للشكوكيّة» تحت عنوان نقد كانط ونيغل و... .

فكرة نيغل: يُؤكّد طوماس نيغل[1] في كتاب النظر من اللا مكان إلى كلّ مكانٍ[2] على هذه النقطة المعرفيّة، وهي أنَّ إدراكات البشر ترتبط بطبيعتهم وفطرتهم أيضًا مثلها مثل صور الأشياء في المرآة المقعّرة أو المحدّبة؛ وبالتالي كما أنّ لهذه الصور المرآتيّة هويّةٌ ذات طرفين، فكذلك إدراكات البشر تتغذّى من قناتين أيضًا.[3]

نقد: لقد أورد هذا النقد على هذا الرأي (فكرة نيغل) في سبعة بنودٍ نتيجتها ما يلي:

1. هذا الرأي يناقض نفسه بنفسه، وينجرّ إلى حصول التناقض

(132)

فيلزم من صدقه كذبه؛ لأنَّه إذا كان كلام نيغل صحيحًا ـ أي أنّ إدراكات البشر مرتبطةٌ بفطرتهم وطبيعتهم ـ فإذًا عين هذا الرأي يرتبط بفطرة وطبيعة نيغل، وبالنتيجة فإنّه بناءً على مُدّعى نيغل نفسه، لا قيمة لمثل هذا الكلام.

2. بناءً على وجهة النظر هذه، لا يمكن تحقّق أي درايةٍ مُشتركةٍ بين أيّ مجموعةٍ، وحتّى لا يمكن لشخصين أن يتفاهما حول مسألةٍ واحدةٍ، وبالنتيجة سيقع خللٌ في نظام التعليم والعلم وهذه بعض نماذجها:

أ. يُصبح التعليم والتعلم محالًا وغيرَ ممكنٍ؛ ب. يصبح من غير الممكن وجود لغةٍ مشتركةٍ بين المجتمعات البشريّة؛ ج. يصبح وضع قوانينَ اجتماعيّةٍ وحقوقيّةٍ و… في المجتمع أمرًا مستحيلًا؛ د. بناءً على نظرية نيغل، لا نزاعَ واقعيًّا يقبل التصور والتحقّق، بل إنَّ كافّة النزاعات الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة والعلميّة و…، هي نزاعاتٌ غيرُ واقعيّةٍ وستصبح بلا طائل؛ لأنَّه لا يوجد موضوعٌ مشترَكٌ بين طرفَيِ النزاع كي يتمكّنا من نفيه وإثباته.

3. تستلزم نظريّة نيغل ارتفاع النقيضين:

4. يدّعي نيغل بأنَّ إدراكات البشر ترتبط بعاملين؛ الأوّل: ماهيّة الأشياء، والآخر: طبيعة البشر وفطرتهم أيضًا ولكن مع الدليل التالي يمكن حذف العامل الثاني وإثبات الجمل الصادق بحدٍّ أدنى والتي تعكس الواقع في إبداء الأشياء والحكاية عن الواقع، ولا علاقة لها بهويّة الفرد ذي الدراية، وبيان البرهان كما يلي:

لا تخرج إدراكات البشر عن ثلاث حالاتٍ: أ. أن تكون صادقةً مطلقًا وتعكس الواقع؛ ب. أن تكون كاذبةً مطلقًا؛ ج. البعض منها صادقٌ ويعكس الواقع، والبعض كاذبٌ وخاطئٌ.

(133)

والفرض الأوّل محالٌ؛ لأنَّه ينجرّ إلى التناقض؛ لأنَّه في إدراكات البشر عقائدُ يبين طرفَا التناقض، فإذا كانت كافّة الجمل مبيّنةً للواقع، فيجب أن يتحقّق في الواقع طرفَا التناقض، ومعنى ذلك: اجتماع النقيضين وهو محالٌ بالضرورة.

والفرض (ب) محالٌ أيضًا؛ لأنَّه يؤدّي أوّلًا إلى التناقض الذي تم بيانه في البند الأوّل من الإشكالات؛ وثانيًا: سينجرّ الأمر إلى ارتفاع النقيضين في ما يتعلّق بالمعتقدات التي يُشكّلها طرفَا التناقض، وبذلك مع بطلان الفرض (أ) و(ب) فلا مناص من القبول بالفرض (ج) ومقتضاه هو أنَّ بعض الإدراكات صادقةٌ وتبيّن الواقع، وبالنتيجة لا ارتباط لها بطبيعة الشخص المدرك وهويّته.

5. المعتقدات الثابتة التي عادةً تكون لدى كلّ إنسانٍ، لا تنسجم مع طرح نيغل وفكرته.

6. سينجرّ طرح نيغل إلى إمكانيّة تحقّق كافّة المُحالات.

7. تستلزم فكرة نيغل نفي كلّ وجوبٍ وضرورةٍ.

وهذه خلاصةٌ مركّزةٌ دُوّنت في نقد «فكرة نيغل» حول «قيمة الإدراكات».[1]

نقد النقد: على الرغم من أنّ النقد الذي لاحظناه في دراستنا على «فكرة نيغل» قد دُوِّن بسياقٍ وسبكٍ مميّزٍ وغير مسبوقٍ ولكننا نعتقد بأنّ «فكرة نيغل» لم تخرج من الميدان من خلال النقد المذكور؛ لأنَّ نيغل يدّعي أنَّ كافّة إدراكات البشر مرتبطةٌ بفطرة الإنسان وطبيعته ولم يستثنِ

(134)

نفسه أو إدراكاته من هذا الكلام، ومن هنا فما تمّ ذكره تحت عنوان نقد على نيغل، هو ممّا التزم به نيغل من قبل، فبمقتضى تفكير نيغل، هو لم يكن لديه فكرةٌ بأنَّه سيقع في التناقض ولا أنّه يلزم منه ارتفاع النقيضين ولا أنّه سيُصاب وضع التعليم والتربية بالضرر، أو سيتسبّب باختلال النظام القانوني و…، والآن بعد أن ذكرتَ كافّة هذه اللوازم، سيقول لك نيغل: أحسنت! لقد وقفت الآن على سرّ وحقيقة إشكالي، وهنا إذا قال المنتقد: لا تقطع الحبل (وثاقة الإدراكات) وإلّا سوف نقع في البئر، فسوف يقول نيغل: لقد سقطنا الآن بأجمعنا في البئر والحبل بمعيّتنا أيضًا! وبالتالي كأنّما المستشكل شَهَر سيفه، أمّا المنتقد فقد رفع درعه، وعلى كلّ حال يريد نيغل من خلال إشكاله أن يُحدّد لنا حدود قيمة المعارف، وهو مثل «آرش رامي السهام»[1] ـ الرجل الأسطوري ـ بعد أن رمى سهمه ـ سهم الشكوكيّة ـ رمى نفسه كذلك بسهم الأجل، وبالتالي يمكن القول: إنَّ مُدَّعَى نيغل في الواقع هو أنَّ نهاية الكلام تعني نهايتي، وإلّا فلا نهاية للشكوكيّة!

نقدٌ آخرُ: النقد الذي سنشير إليه هنا، هو عين النقد الذي بيّناه مُفصَّلًا سابقًا بناءً على أساس البحث في مبنى نيغل وكانط و…، من أنَّ «قيمة الإدراكات» مرتبطةٌ بـ «كيفيّة ظهور الإدراكات» على نحو التفاعل وغيره، ويُجفّف هذا النقد جذور مثل هذه الإشكالات، ومن ثمَّ يُهيّئ الأرضيّة لإحكام مباني المعرفة من خلال مبنى الدفاع عن «قيمة الإدراكات الأساسيّة».

ولذلك لا يُمكن لـ «تفاعل الذهن والعين» أن يسدّ «طريق المعرفة» بناءً على البيان الذي مرَّ بالتفصيل، ومن هنا باعتقادنا إنّنا إذا خطونا بصورةٍ جيّدةٍ، فبإمكاننا أن نجد «مدينة المعرفة» ونقرأ شعر سهراب سپهري:

(135)

پشت درياها شهري است

كه در آن پنجره‌ها رو به تجلي باز است.

بام‌ها جاي كبوترهايي است كه به فواره هوش بشري مي‌نگرند.

دست هر كودك ده ساله شهر، شاخه معرفتي است.

….

پشت درياها شهري است!

قايقي بايد ساخت.

[يقول:

توجد مدينةٌ خلف البحر.

شبابيكها مفتوحةٌ بوجه التجلّي.

سطوحها مكانٌ للحمامات التي تتطلّع إلى الفكر البشري الفوّار.

وفي يد كلّ طفلٍ ذي عشر سنواتٍ، فرعٌ من المعرفة.

….

توجد مدينةٌ خلف البحر!

يجب أن نبني قاربًا.][1]

العبور من المنزل الرابع للشكوكيّة

تدعيم المباديء والأسس المعرفيّة

(ع. م. 4): يُسمّى المنزل الرابع للشكوكيّة «الجدال في البدايهيّات» وهو من منازل الشكوكيّة صعبة العبور، وهو يتكوّن من سبعة منازلَ صغيرةٍ أو مراحلَ، وسوف نتعرّض هنا للإجابة عليها الآن.

(136)

العبور من مراحل المنزل الرابع للشكوكيّة

1. مرحلة التعريف (المرحلة الأولى)

يُريد الشكّاك منّا في هذه المرحلة أن نُقدّم تحديدًا مفهوميًّا للقضايا المبنائيّة والأساسيّة (البديهيّات) على هذا النحو، وهو أنَّ نُبيّن الخصوصيّة أو الخصائص التي تتمتّع بها القضايا التي تُشكّل مباني العلوم والمعارف البشريّة.

العبور من المرحلة الأولى من المنزل الرابع للشكوكيّة

في عبورنا من مرحلة التعريف، سنقدّم في البداية تعريفًا لـ«البديهيّات» بنحوٍ مُجملٍ، ثمّ سنتعرّض من بين البديهيّات إلى تعريف خصوص «الوجدانيّات» و«الأوليّات» التي نعتبرها نحن كـ «معاييرَ للمعرفة».

تعريف البديهي: «البديهي» هو قسمٌ من العلم الحصولي لا يحصل عن طريق الفكر والنظر، ويقع في مقابله «النظري» وهو العلم الحصولي الذي يحتاج حصوله إلى الفكر والنظر[1]. وكما يشمل هذا التعريف للبديهي كُلًّا من القضايا والتصديقات يشمل التصوّرات أيضًا؛ لأنّ التصوّرات هي الأخرى تكون إمّا بديهيّةً أو نظريّةً، فإمّا أن تحصل من خلال التفكير وإمّا بدون التفكير، إذًا فالتعريف المذكور للبديهي يشمل كلًّا من «التصوّرات» و«القضايا» و«التصديقات»، ولكن العلم الحضوري خارجٌ عن مَقسَم البديهي والنظري؛ لأنّ مَقسَم «تقسيم العلم إلى بديهيٍّ ونظريٍّ» هو العلم الحصولي لا العلم الحضوري، وينبغي الالتفات هنا إلى هذه النقطة، وهي أنّ المراد من «الفكر» في «التصوّرات النظريّة» هو ترتيب وتركيب عددٍ من التصوّرات البديهيّة، يعني: «التعريف»، ولكن المراد من «الفكر» المتربط بـ «القضايا» و«التصديقات»، هو «الاستدلال».

(137)

والبديهيّات التي هي مبادئُ البرهان، هي ذلك القسم من اليقينيّات الذي يكون أساسًا للنظريّات، والذي بمساعدته تصل النظريّات إلى اليقين، ولذا فما ينبغي علينا التعرّض للإجابة عليه ضمن العبور من هذه المرحلة من مراحل المنزل الرابع للشكوكيّة، هو تعريف «البديهيّات» بوصفها قضايا وتصديقاتٍ يُمكنها أن تكون أساسًا للمعارف النظريّة، ولا يقتصر الأمر على كونها عاكسةً بنفسها للواقع، بل أيضًا على كونها بإمكانها أن تصل بين النظريّات والواقع أيضًا، وأن تُبيّن صدقها ووثاقتها واستحكامها.

بناءً على هذا، فتعريف «البديهي» في مقام البحث يدور أكثر على محور القضايا والتصديقات، وعلى الرغم من أنّ التعريف الذي يُذكر لـ «البديهي» يُذكر بنحوٍ كليٍّ ويُمكن له أن يشمل البديهيّات التصوّريّة، لكن بالطبع أحد لوازم التدقيق في البحث هو أن نُرجع «بداهة القضايا» إلى «بداهة التصديقات» أيضًا؛ لأنّ «بداهة القضايا» ترجع إلى «فهم الصدق»، و«فهم الصدق» هو نفس التصديق، وبذلك سوف يكون مسار بحثنا حول تعريف «البديهيّات» متّجهًا نحو تعريف «التصديقات البديهيّة».

نموذجٌ: لقد عرّفنا «البديهي» في بداية البحث بأنّه العلم الحصولي الذي لا يحصل عن طريق الفكر والنظر، وهذا التعريف جاء في الكتب الكلاسيكيّة للمنطق والحكمة، وعلى سبيل المثال قال المنطقيّ المشهور قطب الدين الرازي في شرح المطالع:

فالعلم‏ إمّا ضروريٌّ أو نظريٌّ، والضروريُّ ما لا يحتاج في حصوله إلى النظر كتصوّر الوجود والشيء والتصديق بأنّ الكلّ أعظم من الجزء، والنظريُّ ما يحتاج في حصوله إلى النظر كتصوّر حقيقة الملك والرّوح والتّصديق بحدوث العالم‏، … والنظر ترتيبُ أمورٍ حاصلةٍ يُـتوصّل بها إلى تحصيل غير الحاصل.[1]

(138)

تعكس هذه العبارة تفسيرًا دقيقًا للبديهيّات، والحكماء والمنطقيّون دقيقو النظر لديهم هذا الفهمُ نفسُه عن «البديهي»،[1] ونحن كذلك نُريد من «البديهي» هذا المعنى نفسَه، ولكن بالطبع نرى أحيانًا تفاسير أخرى «للبديهي»، ولكنّها لا تتمتّع بالدقّة اللازمة، أو أنّ الذين يعرضون هذا النحو من التفاسير لـ «البداهة» لا يُنكرون المعنى الدقيق لـ «البديهي» أبدًا، ولكنّهم كانوا بصدد بيان أمرٍ آخرَ حول البديهيّات على نحو الاستطراد، وعلى سبيل المثال: لصدر المتألّهين بيانٌ حول «البديهي» بالنحو التالي:

البداهة وهي‏ المعرفة الحاصلة للنفس في أوّل الفطرة من المعارف العاميّة التي يشترك في إدراكها جميع الناس‏.

إنّ المفهوم من هذا الكلام هو أنّ «البديهي» عبارةٌ عن معرفةٍ شاملةٍ وجميع الناس واجدون له بنحوٍ فطريٍّ، وقد تمّ التأكيد في هذا البيان على «فطريّة البديهيّات» وعلى «شموليّتها»، ولكنّنا نعلم بأنّه لو أنّ شخصًا عدّ البديهيّات أمورًا فطريّةً، أو على أساس كونها مقبولةً من جميع الناس، فأخذها كمبادئَ للبرهان على أساس أنّ جميع الناس لديهم وحدة نظرٍ فيما يتعلّق بها، فسوف يُوبّخه المنطقيّون؛ لأنّنا إذا أوردنا أمورًا في القياس بكونها مقبولةً من العامّة، فحتّى لو كانت مقبولةً من جميع الناس، إلّا أنّ قياسنا سوف يخرج عن كونه برهانًا، وسيُعتبر من ضمن الجدل، وتوضيح ذلك: إنّ مبادئ الجدل هي عبارةٌ عن المشهورات والمُسلّمات، لا الأمور اليقينيّة بكونها يقينيّةً، إذًا فكذلك إذا استعمل شخصٌ البديهيّات في الجدل لكونها أمورًا يقينيّةً، فهذا الأمر لن يُقبل منه،[2] كذلك إذا استعمل المُستدلّ

(139)

في مقام إقامة البرهان أمرًا بديهيًّا ولكن لا لكونه حقيقةً يقينيّةً، بل من جهة كونه أمرًا فطريّاً أو مشتركًا بين الناس، فقطعًا لن يُقبل ذلك منه، وفي الواقع برهانه سيقع ضمن حيطة الجدل.

وبالتالي من الأفضل أن نُؤكّد في تعريف «البديهي» على عُنصرٍ، وهذا العُنصر يُمكنه أن يُميّز «المعرفة البديهيّة» عن «المعرفة النظريّة»، وهذا العنصر بالاستناد إلى ما ذكرناه سابقًا، هو نفس عدم الحاجة إلى عدم الفكر والنظر، أمّا الفكر والنظر فهما عبارةٌ عن ترتيب أمورٍ معلومةٍ للوصول إلى معرفةٍ مجهولةٍ، إذًا نحن نُريد بناءً على هذا أن يكون بإمكاننا أن نُقسّم العلم الحصولي ـ الأعمّ من التصوّر والتصديق ـ إلى قسمين أساسين:

1. العلم الحصولي البديهي.

2. العلم الحصولي النظري.

ومن هنا، فالجواب عن السؤال القائل: «ما هو البديهي؟» هو أنّ «البديهيَّ» علمٌ حصوليٌّ لا نحصل عليه عن طريق الفكر (ترتيب أمورٍ معلومةٍ للوصول إلى أمرٍ مجهولٍ)، فالبديهيّات التصوّريّة لا تحتاج إلى حدٍّ ورسمٍ، والبديهيّات التصديقيّة لا تحتاج إلى تجشّم عناء الاستدلال، يعني: لا نحتاج إلى أن نبذل الجهد في تشكيل القياس وترتيب الاستدلال.

ملاحظات: نصل من خلال التعريف المذكور عن البديهي إلى عددٍ من النقاط، وهي كالتالي:

1. مَقسَم التقسيم إلى البديهي والنظري هو «العلم»، إذًا كلام الأشخاص الذين يرون بأنّ «البديهي» يُرادف «المعلوم»، وبأنّ «النظري» يساوي «المجهول»، هو كلامٌ باطلٌ، فنحن نجد أنفسنا بالبداية واجدين

(140)

للعلم، ثمّ بعد ذلك نقوم بتحديد هل أنّ جميع علومنا بديهيّةٌ، أم أنّها بأجمعها نظريّةٌ، أم أنّ بعضها بديهيٌّ وبعضها نظريٌّ، وبالتالي، إذا أنكر شخصٌ أصل العلم، فلن تأتي النوبة إلى أن يُقسّم العلم إلى حضوريٍّ وحصوليٍّ، ثمّ الحصوليّ إلى بديهيٍّ ونظريٍّ.

وكلّ شخصٍ يرجع إلى نفسه، فسوف يجد معلوماتٍ في آلته الإدراكيّة، مثلًا: نحن نشعر بأنّنا فرحون، ووجدان هذا الانفعال النفساني علمٌ حضوريٌّ، ثمّ تستفيد آلة العلم الحصولي ـ يعني: الذهن ـ من هذه العمليّة، وتقوم ببناء قضيّة «أنا فرحٌ» أو «أنا أشعر بالفرح»، ثمّ يتحقّق تصديقٌ في ساحة النفس، وهو فهم صدق القضيّة أعلاه، كذلك نحن نعلم بأنّ «4 < 5»، وكذلك نعلم بأنّ «625 = 25 × 25» وكذلك نعلم بأنّ «2 = 25 Log(10)» و...، ومن هنا بعد أن أعرضنا عن المثاليّة المطلقة والشكوكيّة الشاملة، سنعمد إلى علومنا ومعارفنا ونُرتّبها في جدول البديهيّات والنظريّات.

وهنا قد يُطرح هذا السؤال: «هل يُمكن الإعراض بنحوٍ منطقيٍّ عن الشكوكيّة المطلقة؟»، وفي مقابل هذا السؤال هناك سؤالٌ آخرُ يُمكن أن يُطرح بهذا النحو: «هل يُمكن الدفاع عن الشكوكيّة المطلقة بنحوٍ منطقيٍّ؟».

باعتقادنا لا يُمكن الدفاع عن الشكوكيّة المطلقة بنحوٍ منطقيٍّ؛ لأنّه إذا قال شخصٌ: «أنا أدافع عن الشكوكيّة المطلقة» ـ يعني: أنا لديّ شكٌّ شاملٌ ـ وعندها يُمكن للطرف المقابل أن يقول: «هل قضيّة «أنا أدافع عن الشكوكيّة المطلقة» مشكوكةٌ بالنسبة لك أيضًا أم يقينيّةٌ؟»، فإذا كان جوابه: إنّ قضيّة «أنا أدافع عن الشكوكيّة المطلقة» يقينيّةٌ، ففي النتيجة يكون الخصم قد اعترف بعلمٍ ما، وبالتالي عليه أن يقوم ببحثٍ عن اليقين الموجود في القضيّة المتيقّنة المذكورة، ثمّ عليه أن يُحقّق في صدق القضايا الأخرى، وهنا يُمكنه أن يُقسّم علومه إلى بديهيّةٍ ونظريّةٍ، وأن يدرس وجوه

(141)

بداهة القضايا، ولكن إذا اعتبر الخصم بأنّ قضيّة «أنا أدافع عن الشكوكيّة المطلقة» مشكوكةٌ أيضًا، فإذًا هناك احتمال كبيرٌ أن يكون مُصابًا باضطرابٍ فكريٍّ، وينبغي عليه أن يستردّ سلامته من خلال التمرين الرياضي، يقول شيخ الإشراق في هذا الصدد ما يلي:

وإن قالوا: شككنا، فيُقال‏ لهم‏: هل تعلمون أنّكم شككتم أو أنّكم أنكرتم؟ وهل تفهمون من الأقاويل شيئًا معيّنًا؟ فإن قالوا: نعلم شكّنا وإنكارنا، وإنّا نفهم من الأقاويل شيئًا معيّنًا، فقد اعترفوا بعلمٍ ما وحقٍّ ما، وإن قالوا: لا نفهم أبدًا شيئًا ولا نعلم أنّا نشكّ أو نُنكر أو نحن موجودون أو معدومون، سقط الاحتجاج معهم ولا يُرجى منهم الاسترشاد، فليس إلّا أن يُكلّفوا بدخول النار: فإنّ النار واللّا نار واحدٌ، ويُضربوا: فإنّ الألم واللا ألم واحدٌ![1]

وبذلك بعد أن اعترفنا بعلمٍ ما في الجملة، نعمد بعدها إلى تعيين نوع هذا العلم، ونُشكّل جدولين؛ واحدًا لـ «العلوم البديهيّة» والآخر لـ «العلوم النظريّة».

2. إنّ مَقسَم العلم إلى «البديهي» و«النظري» هو العلم الحصولي، وليس العلم الحضوري؛ فنحن نُقسّم العلم في البداية إلى علمٍ حضوريٍّ وحصوليٍّ، ثمّ نُقسّم العلم الحصولي إلى بديهيٍّ ونظريٍّ[2].

3. إنّ مطلق العلم الحصولي سواءً أكان تصوّرًا أم تصديقًا يقبل التقسيم إلى البديهيّ والنظريّ.[3]

ولكن كما ذكرنا سابقًا، ينبغي الالتفات إلى أنّ عدم الحاجة إلى الفكر في

(142)

بداهة التصوّري معناه عدم الحاجة إلى المُعرِّف، وعدم الحاجة إلى الفكر في بداهة التصديقي معناه عدم الحاجة إلى الحجّة والاستدلال، وطبعًا نحن لدينا قضايا بديهيّةٌ بحيث إنّ بداهة القضيّة ترجع إلى بداهة التصديق بها؛ لأنّ «القضيّة البديهيّة» قضيّة يكون التصديق بها بديهيًّا، وكذلك «القضيّة النظريّة» هي قضيّةٌ يكون التصديق بها نظريًّا.

وبالتالي ينبغي أن نجعل في بالنا دائمًا الارتباط بين القضيّة والتصديق في مسألة بداهة كون التصديق بديهيًّا أو نظريًّا، وهذه العلاقة ثنائيّة الطرف، ومعنى ذلك أنّ البداهة والنظريّة هما وصفان للتصديق، ولكن ينبغي للقضيّة أن تكون أيضًا بحيث يكون التصديق البديهيّ أو النظريّ واجبًا، فعلى سبيل المثال: «الأوّليّات» هي قضايا يُؤدّي تصوّر طرفيها الجزم بالحكم، يعني: التصديق بالحكم يُصبح واجبًا، إذًا فبداهة هذه القضايا يرتبط في الأصل بـ «الجزم بالحكم» الذي هو نفس التصديق، ولكن يجب أن تكون القضيّة التي هي مُتعلّق التصديق ومحلّه بحيث يُكون هذا التصديق واجبًا.

4. ذكرنا بأنّ «البديهيّ» علمٌ حصوليٌّ «لا يحتاج إلى الفكر والنظر»، يقول الحكيم السبزواري ما يلي:

كلٌّ مِن التصوّر والتصديق قسمان: ضروريٌّ وكسبيٌّ، فالكسبيُّ ما يحتاج إلى فكرٍ ونظرٍ والضروريُّ ما لا يحتاج إليه، وإن احتاج إلى مُنبّهٍ أو إحساسٍ أو تجربةٍ أو غيرها.[1]

ولا بدّ من الانتباه إلى هذه النقطة، وهي أنّ القضايا التي تفتقد إلى القياس أو القضايا التي قياساتها معها ولكن هذا القياس لم يحصل عن طريق الاكتساب الفكري، فهي تُعتبر من ضمن البديهيّات، وبالتالي

(143)

فالقضايا الفطريّة، أي «القضايا التي قياساتها معها» على الرغم من أنّ القياس فيها يمتلك حدًّا أوسطً، ولكن لمّا كان الكسب والتحصيل الفكري للحدّ الأوسط تحصيلٌ للحاصل، لذا فهو مُحالٌ، ولذا ليس هناك كسبٌ وتحصيلٌ لها، إذًا فطبقًا للتعريف ينبغي أن تُعدّ من البديهيّات.

فعلى سبيل المثال: قضيّة «الأربعة زوجٌ» قضيّة فطريّةٌ، والواسطة التي تحملها هذه القضيّة معها هي «الانقسام إلى المتساويين»، فحينما نسمع قضيّة «الأربعة زوجٌ» يتشكّل في ذهننا هذا القياس بسرعةٍ: «الأربعة منقسمةٌ إلى متساويَيْن، وكلّ منقسمٍ إلى متساويين فهو زوجٌ» «فالأربعة زوجٌ»، وبذلك نصل إلى تصديقٍ يقينيٍّ في ما يتعلّق بزوجيّة الأربعة، وهذا التصديق هو تصديقٌ بديهيٌّ أيضًا؛ لأنّه ليس هناك في القضايا الفطريّة تجشّمٌ لعناء الاستدلال ولا عمليّةٌ فكريّةٌ بحيث يخرج العلم بها عن البداهة فنضعها في جدول النظريّات، ولو وجد قياسٌ فهو القياس الحاضر الذي لم نحصل عليه من خلال بذل الجهد الفكري.[1]

5. إنّ عنصر «عدم الحاجة إلى الفكر» هو من العناصر المُقوّمة لـ «البداهة»، فإذا كان التصوّر مُحتاجًا إلى «المُعرِّف»، أو كان التصديق محتاجًا للاستدلال، فلن يكون هذا التصوّر أو التصديق بديهيًّا.

إنّ شرط «عدم الحاجة إلى الفكر» أعمُّ من «إمكان الفكر والنظر» و«عدم إمكان الفكر والنظر»، وبعبارةٍ أخرى: التصديق البديهيّ هو التصديق الذي لا يحتاج إلى استدلالٍ، و«عدم الحاجة إلى الاستدلال» أعمّ من «إمكان الاستدلال» وعدم «إمكان الاستدلال»، وبالتالي، قد تكون هناك قضيّةٌ أو تصديقٌ بديهيٌّ، ومع ذلك يقبل الاستدلال عليه أيضًا، وهذا

(144)

الاستدلال يكون بحكم «المُنبّه» بالنسبة إلى الشخص الذي تجلّت له تلك القضيّة أو ذلك التصديق بالبداهة، أمّا بالنسبة للشخص الذي كانت هذه القضيّة نظريّةً بالنسبة له ـ يعني: طالما لم يُكن بجانبها استدلالٌ فلا يحصل له اليقين ـ فسيكون لها هويّةُ الاستدلال واقعًا، ومن هنا نستنتج بأنّ بعض الأمور البديهيّة نسبيّةٌ، يعني: هي بديهيّةٌ بالنسبة للبعض، ونظريّةٌ للبعض الآخر؛ لأنّ «البداهة» و«عدم البداهة» يرتبطان بنحو فهم الإنسان، والناس ليسوا متساوين في الفهم والذكاء.

طبعًا هناك بديهيّاتٌ أخرى أيضًا، وهي ليست نسبيّةً، وهي تلك البديهيّات التي لا يُمكن الاستدلال عليها أصلًا، فهذا النوع من البديهيّات هو ما نُسمّيه «البديهيّات المطلقة»، وهي إذا تحقّقت بعنوانها «علمًا» بالنسبة لأيّ شخصٍ، فهي تتحقّق بالتأكيد بنحوٍ «بديهيٍّ»، مثل: تصوّر «أنا» و«الوجود»، والتصديق بالقضايا التي من قبيل: «الواقعيّة موجودةٌ»، و«بعض التصديقات البديهيّة الأخرى»، وهكذا.

تحليل النصوص الواردة في تعريف البديهي: والآن، بعد أن عرّفنا «البديهي» بأنّه العلم الحصولي الذي لا يحتاج إلى فكرٍ ونظرٍ، سنعمد هنا إلى نقل وتحليل العبارات والنصوص التي كُتبت حول هذه المسألة.

النصّ1: قال ابن سينا في كتاب برهان الشفاء عن البديهي ما يلي:

والمقدّمة المُؤدّية إلى‏ الرأيين ـ وهي أنّ كلّ علمٍ إنّما يقع بالبرهان، وأنّه إمّا ألّا يكون علمٌ أو يكون ببرهانٍ ـ باطلةٌ؛ بل الحقّ أن يُقال: إمّا أن يكون كلّ شيءٍ مجهولًا، أو يكون شيء معلومًا، والمعلوم إمّا معلومٌ بذاته أو معلومٌ ببرهانٍ، و ليس كل شيءٍ مجهولًا؛ فإنّه لو كان كلّ شيءٍ مجهولًا لم‏ يكن قولنا: «كلّ شيءٍ مجهولٌ» بمعلومٍ، ولا كلّ شيءٍ معلومٌ ببرهانٍ‏: فإنّه لو كان كلّ شيءٍ يُعلم‏ ببرهانٍ، لكان كلّ برهانٍ يُعلم ببرهانٍ، وهذا محالٌ، فمن الأشياء ما يعلم بذاته.[1]

(145)

التحليل: لقد نظر ابن سينا في ما دُوّن أعلاه إلى جوانب المسألة وإلى أبعادها بدقّةٍ، ففي البداية يُذكّر بأنّه لا ينبغي أن نظنّ بأنّ كلّ علمٍ إنّما يحصل عن طريق البرهان، ومعنى ذلك أنّه إمّا ألّا يكون لدينا معرفةٌ أصلًا، وإمّا إذا كان لدينا معرفةٌ فسوف تكون معرفةً برهانيّةً، ونحن إذا أردنا أن نطرح الرسالة التي كتبها ابن سينا في فضاء نظريّة المعرفة في العصر الحاضر، فإنّنا نقول ما يلي: لا ينبغي أن نظنّ بأنّ كلّ شيءٍ إمّا أن يكون مُبرهنًا عليه أو افتراضًا مُسبقًا، بل نحن نمتلك أحيانًا حقائقَ من العلم ـ لا افتراضاتٍ للعلم ـ وهذه المعرفة لم تحصل عن طريق الدليل.

إنّ الشيخ الرئيس يقترح بأنّه يجب علينا أن نُنسّق البحث بشكلٍ منطقيٍّ بالنحو التالي: إمّا أن يكون كلّ شيءٍ مجهولًا، أو أنّ هناك أمرًا معلومًا، والأمر المعلوم إمّا أن يكون معلومًا بذاته ـ أيْ بديهيًّا ـ وإمّا أن يكون معلومًا بالبرهان، ولا «كلّ شيءٍ مجهولًا»؛ لأنّه إذا كان «كلّ شيءٍ مجهولًا»، فنفس هذه العبارة «كلّ شيءٍ مجهولٌ» هي الأخرى لن تكون معلومةً، في حين أنّنا نعلم بها بالوجدان، كذلك لا يكون كلّ شيءٍ معلومًا عن طريق البرهان؛ لأنّه لو كان كلّ شيءٍ معلومًا عن طريق البرهان، لوجب أن يكون كلّ برهانٍ معلومًا بالبرهان أيضًا، وهذا مُحالٌ ـ لأنّ الأمر سينجرّ إلى الدور والتسلسل، وسوف تكون النتيجة هي أنّنا لن نحصل على معرفةٍ من المعارف، في حين أنّنا نبحث في فرض العلم ـ إذًا ستُصبح النتيجة هي أنّه هناك حقائقُ معلومةٌ بالذات.

وبذلك يبدأ ابن سينا بفرض العلم والجهل، وبعد أن يدفع الجهل المُطلق من خلال تنبيهٍ، يُقسّم العلم إلى بديهيٍّ ونظريٍّ من خلال التعبير عنهما بـ «المعلوم بالذات» و«المعلوم بالبرهان» وذلك في ما يتعلّق بالمعلومات التصديقيّة، ثمّ يعمل على تدعيم هذا التقسيم من خلال بيانٍ آخرَ، وبالتالي يُصبح من الواضح هنا أنّ البرهان الذي أورده عند استمراره

(146)

في البحث عن طريق التسلسل ـ حيث قال: «وكيف يكون على كلّ شيءٍ بُرهانٌ، وقد علمتَ أنّ البراهين تكون بمتوسّطاتٍ بين حدّين، ولا يُمكن أن يكون على كلّ اثنين من المتوسّطات متوسّطاتٌ...»[1] ـ ليس برهانًا لإثبات العلم، وإنّما من أجل إثبات انقسام العلم إلى بديهيٍّ ونظريٍّ؛ أو بعبارةٍ أخرى: من أجل إثبات أنّه لا بدّ من أن نصل في السلسلة التي لا نهاية لها من المعارف إلى «معلومٍ بالذات» وهو نفس البديهي، وإلّا فسوف نعلق في دولاب الدور والتسلسل، وسوف نبقى محرومين من العلم، في حين أنّنا قَبِلنا بأصل العلم، والشاهد على هذا الأمر، هو أنّه يَستنتج في نهاية البحث النتيجة التالية:

فبيّنٌ إذًا أنّه ليس كلّ علمٍ ببرهانٍ، وأنّ بعض ما يُعلَم يُعلَم بذاته بلا واسطةٍ، فيكون عند النهاية في التحليل، ويكون هو وما يجري مجراه المبدأ الذي تنتهي إليه مقدّمات البراهين.[2]

النصّ 2: يرى متكلّمو المعتزلة في ما يتعلّق بالعلم البديهي والنظري ما يلي:

العلم‏ عند متكلّمي‏ المعتزلة على ضربين: ضروريٌّ ومكتسَبٌ، والضّروريُّ ينقسم إلى بديهيٍّ وغيره.

فالبديهيُّ عندهم: كالعلم بأنّ «النّفي والإثبات المتناقضين لا يجتمعان ولا يرتفعان»، والعلم بأنّ «الكلّ أعظم من الجزء» وأشباه ذلك ممّا يحصل عندهم للإنسان من فعل اللّه ـ تعالى ـ ابتداءً، ويُسمّى عندهم بديهيًّا، لأنّ البديهة عند أهل اللغة أوّل الشيء، فلمّا كان هذا العلم للإنسان أوّلًا من غير اطّلاعٍ على طريقٍ [طُرقٍ] يحصل منها سُمّي بديهيًّا.

(147)

وغير البديهيُّ من الضّروريّ: العلم بالمحسوسات، والعلم بالمجرّبات، والعلم بالمتوترات عند أكثرهم، ويدخل في العلم بالمحسوسات العلم بالوجدانيّات التي تُدرك بمحلّ الحياة، كالعلم باللّذة والألم، والعلم بالجوع والعطش، وغير ذلك من‏ الأحوال النّفسانيّة، ويدخل في الضّروريّات القصد بعلم المخاطبين، وتعلّق الفعل بالفاعلين، وحُسن كثيرٍ من المحسّنات، وقبح كثيرٍ من المقبّحات، وجملة هذه العلوم تسمّى عِللًا، وبها يصحّ اكتساب العلوم النّظريّة.

وأمّا المكتسب فعلى ضربين: استدلاليٌّ وغير استدلاليٍّ، فالاستدلاليُّ ما حصل من النّظر ابتداءً، والمكتسب الذي ليس باستدلاليٍّ ما حصل عن تكرّر النظر، فإنّه عندهم لا يسمّى استدلاليًّا.[1]

التحليل: بناءً لما هو مكتوبٌ أعلاه، يُقسّم متكلّمو المعتزلة العلمَ إلى «ضروريٍّ» و«اكتسابيٍّ»، ثمّ يُقسّمون العلم الضروري إلى بديهيٍّ وغير بديهيٍّ، والعلم الاكتسابيّ إلى علمٍ استدلاليٍّ وغير استدلاليٍّ.

وهناك مجموعةٌ من النقاط ينبغي الالتفات إليها: أوّلًا: يَستعمل الفلاسفة والمنطقيّون في العصر الحاضر كُلًّا من لفظَيِ «البديهيّ» و«الضروريّ» كمترادفين، لكنّ المعتزلة يستعملون «البديهي» بمعنى «الأوّلي» ـ وهي القضيّة التي يكفي كي يجزم الإنسان بصدقها مجرّد أن يتصوّر طرفيها ـ والشاهد على هذا الفكرة، هو تخصيص إطلاق البديهي في العبارة المذكورة بالقضايا التي من قبيل: «الكلّ أعظم من الجزء» التي تُعتبر من ضمن الأوليّات، وطبعًا إطلاق عنوان «البديهيّات» على خصوص «الأوّليّات» لا يختصّ بخصوص المعتزلة، بل يُمكن أن نجد أمرًا

(148)

كهذا في كتابات الآخرين، مثلًا: يُطلِق العلّامة الحلّي (رحمه الله) عنوان «البديهيّات» على «الأوليّات» بصراحةٍ، قال:

البديهيّات وهي قضايا يحكم بها العقل لذاته لا بسببٍ خارجيٍّ سوى تصوّر طرفيها… .[1]

إذًا فإطلاق كلمة البديهي عند الفلاسفة والمنطقيّين المتأخّرين أعمّ من «الأوّلي» و«غير الأوّلي»، ولكنّها خُصّصت في النصّ المنقول بالأوّلي فقط.

ثانيًا: إنّ ما ذكروه كـ «وجه التسمية» لمصطلح البديهي هو أنّ البديهي في اللغة بمعنى أوّل الشيء، والبديهيّات هي معارفنا الأولى التي لا نعرف حتّى كيف حصلت لنا، وبما أنّ هذا الكلام مُجرّد بيانٌ لوجه التسمية، ولا يُشترط في وجه التسمية الجامعيّة ولا المانعيّة، إذًا فلا منافاة بين ألّا يكون قسمًا من الأوّليّات فطريًّا أو خلقيًّا.

ثالثًا: إنّ كلمة اكتساب في عرف الفلاسفة والمنطقيّين تعني حصول العلم عن طريق الفكر والنظر، وهم يُعبّرون عن هذه العمليّة في التصوّرات بـ «التعريف»، وفي التصديقات بـ «الاستدلال»، وبذلك فإنّ كلمة «اكتساب» تُرادف في التصديقات كلمة «الاستدلال»، وبالتالي يتّضح من هنا بأنّ المتكلّمين المعتزلة كانوا يُريدون من الاكتساب عند تقسيمهم للعلم الاكتسابي إلى علمٍ استدلاليٍّ وغير استدلاليٍّ معنىً آخرَ، ومرادهم من الاكتساب هو معناه اللغوي والعرفي، ولم يُريدوا أبدًا معناه المصطلح الفعلي.

النص 3: كتب شيخ الإشراق في منطق التلويحات عن البديهي والنظري ما يلي:

اعلم أنّ العلم إمّا تصوّرٌ وهو حصول صورة الشيء في العقل

(149)

وإمّا تصديق وهو الحكم على تصوّرات إمّا بنفيٍّ أو إثباتٍ، ولا تصديق إلّا على تصوّرين فصاعدًا وكلٌّ منهما ينقسم إلى فطريٍّ وغير فطريٍّ، فأوّل الأول كتصوّر مفهوم الشيء والوجود، وثانيه كتصوّر العقل والملك، وقسما التصديق كحكمك بأنّ الكلّ أعظم من الجزء، وأنّ العالم ممكنُ الوجود وغير الفطريّ يقتنص بالفكر ونعني بالفكر هاهنا إجماع الإنسان على الانتقال من علمه الحاصل إلى علمه المُستحصل.[1]

التحليل: استعمل صاحب التلويحات في النصّ أعلاه عبارة «الفطري» بمعنى البديهي، وعبارة «غير الفطري» بمعنى النظري، وقد استعمل كذلك في كتبه الأخرى الفطري وغير الفطري كمرادفين للبديهي والنظري.[2]

النصّ 4: كتب المير السيّد الشريف الجرجاني ما يلي في توصيفه للبديهي والنظري:

اعلم أنّ التصوّر على قسمين، أحدهما: أن لا يكون محتاجًا في حصوله إلى نظرٍ وفكرٍ؛ لأنّ تصوّر «الحرارة» و«البرودة» و«السواد» و«البياض» وأمثال ذلك، وهذا القسم من التصوّر يُسمّى «ضروريٌّ» و«بديهيٌّ»، الثاني: أن يكون محتاجًا في حصوله إلى النظر والفكر، مثل: تصوّر «الروح» و«المَلَك» و«الجن»، وأمثال ذلك، وهذا القسم من التصوّر يُسمّى «نظريٌّ وكسبيٌّ»، وعلى هذا القياس ينقسم التصديق إلى قسمين: ضروري وهو الذي لا يحتاج في حصوله إلى فكرٍ ونظرٍ؛ مثل التصديق بأنّ «الشمس مضيئة» وبأنّ «النار حارّة» ونظائرها، الثاني: التصديق

(150)

النظري وهو الذي يحتاج إلى نظرٍ وفكرٍ، مثل التصديق بأنّ «الصانع موجودٌ» و«العالم حادثٌ» وغير ذلك.[1]

التحليل: إنّ العبارة المذكورة تُوصل المقصود، على الرغم من أنّه بالإمكان المناقشة في أمثلته، وحاصل بيان السيّد الشريف هو أنّ العلم الحصولي بما هو أعمّ من التصوّر والتصديق يقبل التقسيم إلى بديهيٍّ ونظريٍّ، و«البداهة» تعني عدم الحاجة إلى الفكر والنظر، وهي من هذه الجهة في تقابلٍ مع مفهوم «النظر» ـ كونه نظريًّا ـ وقال كذلك في كتاب التعريفات ما يلي:

البديهيُّ هو الذي‏ لا يتوقّف‏ حصوله‏ على‏ نظرٍ وكسبٍ سواءً أَحتاج إلى شيءٍ آخر من حدسٍ أو تجربةٍ أو غير ذلك أو لم يحتج فيُرادف الضروري، وقد يُراد به ما لا يحتاج بعد توجه العقل إلى شيءٍ أصلًا فيكون أخصَّ من الضروريّ كتصوّر الحرارة والبرودة وكالتصديق بأنّ النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان.[2]

النصّ 5: قال صدر المتألّهين ما يلي عن البديهي والنظري:

وكلٌّ‏ منهما [التصوّر والتصديق] فطريٌّ‏، وحدسيٌّ‏، ومكتسبٌ‏ يُمكن تحصيله من الأوَّليْن إن لم يحصل بإشراقٍ من القوّة القدسيّة، والكاسب من التصوّر حدٌّ ورسمٌ، وكلّ منهما تامٌّ وناقصٌّ. ومن التصديق قياسٌ واستقراءٌ وتمثيلٌ، يعمّها الحجّة، فلا سبيل إلى إدراكٍ غير حاصلٍ إلّا من حاصلٍ، ولكن مع التفطن للجهة التي صار لأجلها مؤدّيًا إلى المطلوب.[3]

(151)

التحليل: لقد استعمل صدر المتألّهين في هذا النصّ الفطري والحدسي بنحوٍ مساوٍ لـ «البديهي»، وجعله متقابلًا مع مفهوم «الاكتسابي»، وهو يعتقد بأنّ العلم الاكتسابي والفكري يحصل من العلم الفطري والحدسي، ومُراد صدر المتألّهين من «الحدس» وجدان الحدّ الأوسط بنحوٍ دفعيٍّ وبدون الحاجة إلى الحركات الفكريّة مثلما كتب بنفسه، حيث قال:

والنفس‏ حال‏ كونها جاهلةً، كأنّها واقعةٌ في ظلمةٍ ظلماء، فلا بدّ من قائدٍ يقودها أو روزنةٍ يُضي‏ء لها موضع قدمها، وذلك الموضع هو المُتوسّط بين الطرفين، وتلك الروزنة هي التحدّس بذلك دفعةً فاستعداد النفس لوجدان ذلك المتوسط بالتحدّس هو الحدس.[1]

النصّ 6: جاء في كتاب المنطق عن «البديهي» و«النظري» ما يلي:

إنّ بعض الأمور يحصل العلم بها من دون إمعان نظرٍ وفكرٍ، فيكفي في حصوله في الذهن أن تتوجّه النفس إلى الشيء ببعض أسباب التوجّه الآتية، من دون توسّط أيّ عمليّةٍ فكريّةٍ، سواءً أكان تصوّرًا أم تصديقًا، وبعضها لا يصل الإنسان إلى العلم بها بسهولةٍ، بل لا بدّ له من إمعان النظر، وإجراء عمليّاتٍ عقليّةٍ، ومعادلاتٍ فكريّةٍ، كالمعادلات الجبريّة، فيتوصّل بالمعلومات عنده إلى العلم بهذه الأمور (المجهولات)، ولا يستطيع أن يتّصل بالعلم بها رأساً من دون توسيط هذه المعلومات وتنظيمها على وجهٍ صحيحٍ، لينتقل الذهن منها إلى ما كانَ مجهولًا عنده، كما مثّلنا وهذا هو الذي يُسمّى بالنظري أو الكسبي، سواءً أكان تصوّرًا أم تصديقًا.[2]

(152)

التحليل: لقد ذكر الكاتب العبارة المذكورة بعد أن قام بتعريف «البديهي» بأنّه «ما لا يحتاج في حصوله إلى كسبٍ ونظرٍ وفكرٍ»، وتعريف «النظري» بأنّه «ما يحتاج حصوله إلى كسبٍ ونظرٍ وفكرٍ»، فإذًا هو يُؤيّد نفس هذا التعريف المشهور للبديهي والنظري، وقد تحدّث في الكتاب المذكور كذلك عن عمليّة التفكير والمعادلات الفكريّة، وقد شبّهها بالمعادلات الجبريّة.

النصّ 7: لقد تعرّض العلّامة الطباطبائي لتعريف البديهي والنظري في كلٍّ بداية الحكمة، ونهاية الحكمة، وأصول الفلسفة، وفي مؤلّفاته الأخرى[1]، وكنموذجٍ على ذلك قال في نهاية الحكمة ما يلي:

ينقسم‏ العلم‏ الحصولي‏ إلى‏ بديهيٍّ‏ ونظريٍّ: البديهي ـ ويُسمّى ضروريًّا أيضًا ـ ما لا يحتاج في حصوله إلى اكتسابٍ ونظرٍ، كتصوّر مفهوم الوجود والشيء والوحدة، والتصديق بأنّ الكلّ أعظم من جزئه وأن الأربعة زوجٌ، والنظري ما يحتاج في تصوّره ـ إن كان علمًا تصوّريًّا ـ أو في التصديق به ـ إن كان علمًا تصديقيًّا ـ إلى اكتسابٍ ونظرٍ كتصوّر ماهية الإنسان والفرس، والتصديق بأن الزوايا الثلاث من المثلث مساوية لقائمتين، وأن الإنسان ذو نفسٍ مجرّدةٍ.[2]

التحليل: في العبارة المذكورة، العلم الحصولي هو مَقسم الانقسام إلى البديهي والنظري، وقد اعتبر بأنّ العلم الحصولي مطلقًا ـ تصوريًّا كان أم تصديقيًّا ـ يقبل الانقسام إلى بديهي ونظريٍّ، كما أنّ التعريف الذي قدّمه للبديهي والنظري هو نفس التعريف المشهور للبديهي والنظري، والأمثلة التي اختارها العلّامة لكلّ واحدٍ من الأقسام تتمتّع بالدقّة اللازمة، ويُمكن

(153)

أن تكون مصونةً من المناقشة في المثال أيضًا، فالنماذج التي أوردها للتصوّر البديهي هي تصوّر «الوجود» و«الشيء» و«الوحدة» التي تُعدّ تصوّراتٍ بديهيّةً بخلاف تصوّر «الإنسان» و«الفرس»، وقد مثّل بـ «الكلّ أعظم من الجزء» و«الأربعة زوجٌ» كنموذجٍ على التصديقات البديهيّة، ولكن بالطبع نحن نعلم بأنّ قضيّة «الكلّ أعظم من الجزء» تمثّل نموذجًا للقضايا الأوليّة، وقضيّة «الأربعة زوجٌ» تمثّل مصداقًا للقضايا الفطريّة، وسرّ بداهة هذه القضايا هو كذلك أنّها لا يُمكن اكتسابها من خلال الفكر والنظر، وهذا الأمر من الوجدانيّات.

النصّ 8: كتب الأستاذ الشيخ المطهّري في تعريف البديهي والنظري ما يلي:

البديهي: عبارةٌ عن الإدراك الذي لا يحتاج إلى إعمال نظرٍ أو تفكيرٍ، والنظري: عبارةٌ عن الإدراك الذي يحتاج إلى إعمال نظرٍ وتفكيرٍ. وبعبارةٍ أخرى: البديهي هو المعلوم بلا واسطةٍ، والنظري هو ما لا يكون معلومًا بلا واسطة، بل يحتاج إلى شيءٍ آخرَ يُصيّره معلومًا. وبعبارةٍ ثالثةٍ: البديهي هو الذي لا يحتاج في صيرورته معلومًا إلى إعمال فكرٍ، أمّا النظري فهو الذي يحتاج في ذلك إلى إعمال الفكر…، وإنّ التصوّرات البديهيّة عبارةٌ عن التصوّرات الواضحة التي لا يوجد فيها أيُّ إبهامٍ، خلافًا للتصوّرات النظريّة التي تحتاج إلى شرحٍ وتوضيحٍ. أمّا التصديقات فإنّ الذهن في حكمه بين شيئين يحتاج أحيانًا إلى دليلٍ…[1]

التحليل: إنّ التعريف الذي قدّمه الأستاذ المُطهّري للبديهي والنظري، هو نفس التعريف المشهور لهذين المفهومين، والنقطة التي أكّد عليها هي

(154)

أنّ سرّ البداهة التصوّريّة هي البساطة المفهوميّة، فبرأي الأستاذ المطهّري هناك عناصرُ ذهنيّةٌ بسيطةٌ وواضحةٌ وبديهيّةٌ، وهناك عناصرُ ذهنيّةٌ مركّبةٌ ونظريّةٌ وتحتاج إلى تعريفٍ، والتصوّرات البديهيّة هي من قبيل: تصوّر الوجود والعدم والوجوب والإمكان؛ أمّا التصوّرات النظريّة، فهي من قبيل: تصوّر الإنسان والحيوان والحرارة والبرودة والمثلث والمربع وغيره.[1] ومن هنا فهو يرى بأنّ التصوّرات التي من قبيل تصوّر الحرارة والبرودة ـ التي كانت في القديم تُعدّ من التصوّرات البديهيّة[2] ـ تعدّ تصوّراتٍ نظريّةً، ولكنّنا نعتقد بأنّ هذا الكلام ـ وهو أنّ كلَّ بسيطٍ وغيرَ مُركّبٍ فهو بديهيٌّ وواضحٌ بالضرورة ـ قد يقبل النقاش، فمثلًا: مصطلح «الأصالة» في مبحث أصالة الوجود أو «الوحدة الحقّة» و...، كلّها من المفاهيم النظريّة على الرغم من أنّها مفاهيمُ بسيطةٌ.

النصّ 9: قال الأستاذ الشيخ المصباح ما يلي عن الإدراكات البديهيّة:

توجد ضمن المدركات الحصوليّة (غير الحضوريّة) للجمهور، سلسلةٌ من الإدراكات البديهيّة، وهي تُثبت حقيقتها بنفسها، كما تَثبُت حقيقة باقي الإدراكات (النظريّة = غير البديهيّة) بواسطتها… .

إنّ الإدراكات الحصوليّة البديهيّة عبارةٌ عن تحليلات الذهن المباشرة من النتائج الحضوريّة، وبما أنّ روح الإنسان محيطةٌ بكلٍّ من النتائج الحضوريّة وبتحليلاته الذهنيّة أيضًا، فهو يُدرك تطابقها، ولهذا السبب لا تحتاج لدليلٍ على حقيقيّة الإدراكات

(155)

البديهيّة، أمّا الإدراكات (غير البديهيّة) فبما أنّها لا تُؤخذ مباشرةً من النتائج الحضوريّة، لذا فهي تحتاج إلى دليلٍ، يعني: يجب إعادتها إلى الإدراكات البديهيّة، ومن خلال وساطتها تثبت كون الأفكار النظريّة حقيقيّةً.[1]

التحليل: إنّ النصّ أعلاه يجري في تعريف البديهي مجرى المشهور في تعريفه للبداهة، ويختلف عنها في أنّه يتضمّن إشارةً إلى سرّ البداهة أيضًا، والمُستفاد من هذا النصّ هو أنّ البديهي يُستقى من العلم الحضوري، ولهذا السبب لا يحتاج إلى دليلٍ، ولكن قد لا يكون بالإمكان الاعتماد على هذا المِلاك كسِرٍّ للبداهة في جميع المواطن؛ لأنّنا لا نعلم مصاديق المفاهيم العدميّة ومطابَقات القضايا العدميّة من خلال عِلمنا الحضوري.

النصّ 10: لقد جاء في كتاب شناخت شناسي در قرآن [=نظريّة المعرفة في القرآن] ما يلي حول تعريف البديهي والفرق بينه وبين الأوّلي:

وينبغي الالتفات إلى أنّ البداهة هي غير الأوّليّة؛ لأنّ البديهي عبارةٌ عن أمرٍ يَلتفتُ إليه الذهن بوضوحٍ، أمّا الأوّلي فهو ذلك الأمر الذي ـ إضافةً إلى بداهته ـ يمتلك هذه الخصوصيّة، وهي أنّه لا يقبل الشكّ والترديد أبدًا؛ وعلى فرض الشكّ فيه، وهو فرضٌ محالٌ، فلا يوجد أيُّ طريقٍ للاستدلال عليه، أي إنّ الشكّ فيه يُرادف الشكّ في إمكان حصول المعرفة اليقينيّة، وبالتالي السقوط في دوّامة السفسطة.[2]

كذلك جاء في مكانٍ آخرَ من الكتاب المذكور، وذلك بعد بيانٍ مُسهبٍ حول أقسام البديهي ما يلي:

(156)

ممّا ذُكر يُعلم أنّ جميع القضايا التي عُدّت كمبادئ للقياس البرهاني ليست أوّليّةً باستثناء قضيّة امتناع اجتماع النقيضين المنحصرة بفردٍ، وأنّ القضايا الأخرى إنّما عدّت بديهيّةً أو غير كسبيّةٍ من جهة أنّها تتضح أسرع من سائر القضايا، وإلّا فإنّ جميعها في الواقع نظريّةٌ وقابلةٌ للاستدلال.[1]

التحليل: إنّ ما قُدّم في النصّ المذكور أعلاه كبيانٍ للبديهي جاء ضمن خلفيّةٍ معيّنةٍ وسياقٍ معيّنٍ آخرَ، فهذا البيان للبديهي والأوّلي يستند إلى أمرين آخرين، وهما ما سنتعرّض له الآن:

أ. عدّ «الأوّليّ» في الكتاب المذكور بأنّه الأمر الواضح والذي لا يتطرّق إليه الشكّ والترديد ولا يقبل الاستدلال أيضًا، وبناءً على هذا التفسير للأوّلي، فالقضيّة الأوّليّة سوف تكون منحصرةً بفردٍ واحدٍ، وهو قضيّة امتناع اجتماع النقيضين، وثمّ يُصرّح تبعًا لهذا التحليل للأوّلي بأنّه من الآن فصاعدًا لا ينبغي عدّ قضيّة «الكلّ أعظم من الجزء» قضيّة أوّليّةً؛ لأنّ هذه القضيّة تقبل الاستدلال، والدليل على ذلك أنّه لو لم يكن الكلّ أعظم من الجزء للزم من ذلك اجتماع النقيضين؛ لأنّ «الكلّ» عبارةٌ عن الجزء والجزء الآخر، وإذا كان الكلّ مساويًا للجزء ولم يكن أكبر من منه، نعلم بأنّ وجود الجزء الآخر كعدمه، وبما أنّ الوجود ليس كالعدم؛ يعني: بما أنّ جمع الوجود والعدم مستحيلٌ، إذًا فيقينًا سوف يمتلك ذلك الجزء الآخر ـ الذي لم يكن في الجزء الأوّل والموجود في الكلّ ـ أثره، وبما أنّ الجزء الآخر مع الجزء الأوّل كلاهما ومع بعضهما البعض أعظم من الجزء الأوّل، فإنّ الكلّ أيضًا أعظم منه، ومن هنا فإنّ قضيّة «الكلّ أعظم من الجزء» خارجةٌ عن «الأوليّة»، وهي تُعدّ من ضمن الفطريّات.[2] وهذا هو نفس الاستدلال

(157)

الذي ذكره الفخر الرازي في المحصّل[1]، وقام الخواجة نصير الدين الطوسي بنقده في نقد المحصّل.[2]

نقدٌ: لـ «الأوّليّ» وكذلك «البديهي» تعريفٌ مشهورٌ ومتداولٌ، وقد جاء في آثار المنطق والفلسفة، حيث يُقال لـ «الأوّليّ» بأنّه القضيّة التي يكفي تصوّر طرفيها لحصول الجزم بصدقها، و«البديهي» معرفةٌ لا تحصل عن طريق الفكر والنظر.

بناءً على هذا، فالبيان المذكور حول الأوّلي، وأنّ الأوّليّ هو عبارةٌ عن قضيّةٍ لا يُمكن الاستدلال عليها، هو تعريفٌ بعيدٌ عن التعريف المتداول، وإذا كان المراد هو جعلُ اصطلاحٍ خاصٍّ بالأوّلي فلا مانع من ذلك، فلا مشاحّة في الاصطلاح، ولكن يبقى هذا الإشكال واردًا عليه، وهو أنّ الأوّليّ بهذا المعنى لا ينحصر كذلك بقضيّة استحالة اجتماع النقيضين؛ لأنّ قضيّة «الإنسان يمتلك علمًا» مثلًا، وقضيّة «كلّ شيءٍ هو هو» وأمثال ذلك، لا تقبل الاستدلال أيضًا؛ لأنّها تحاذي أصل عدم التناقض في الوضوح والخفاء.

ب. الأمر الآخر الذي يقوم عليه النصّ السابق يتعلّق بالمنزلة المعرفيّة لأصل استحالة اجتماع النقيضين في جدول البديهيّات، وقد تعرّض الفلاسفة والمنطقيّون للبحث عن هويّة العلاقة بين هذا الأصل وبين البديهيّات الأخرى، والسؤال الأساسي هنا هو أنّ موقع هذا الأصل هل يقع في جدول البديهيّات بنحوٍ يُسقِط بداهة البديهيّات الأخرى عن بداهتها؟ أم أنّ الأمر بنحوٍ آخرَ، إنّنا نجد بأنّهم سمّوا قضيّة «استحالة اجتماع النقيضين» بـ«أم القضايا»، وعدّوا باقي البديهيّات محتاجةً بنحوٍ من الأنحاء إلى هذا الأصل، ولكن تمّ بيان كيفيّة احتياج باقي البديهيّات لهذه القضيّة بصورٍ مختلفةٍ[3]،

(158)

والنظريّة المطروحة في كتاب شناخت شناسي در قرآن [= نظريّة المعرفة في القرآن] هي أنّ حاجة باقي البديهيّات لقضيّة استحالة اجتماع النقيضين بنحوٍ تُسقطها عن البداهة، وإذا أُطلق عليها اسم البديهي أيضًا، فبمعنى كونها سريعة التحصيل، وإلّا فإنّ جميع البديهيّات هي في الواقع نظريّةٌ ما عدا قضيّة استحالة اجتماع النقيضين! لكنّ العلّامة الطباطبائي والأستاذ الشيخ المطهّري، وكذلك الأستاذ الشيخ المصباح، لديهم رأيٌ مختلفٌ في ذلك، فالعلّامة الطباطبائي يرى بأنّ احتياج البديهيّات إلى قضيّة أولى الأوائل هو في العلم والحكم وحصول اليقين، وليس في المادّة والصورة، وذلك خلافًا للنظريّات التي تحتاج إلى البديهيّات حتّى في المادّة والصورة، ومن هنا فإنّ توقّف البديهيّات على قضيّة أولى الأوائل لن يُحوّلها إلى نظريّةٍ، وقد كتب ما يلي في كتاب أصول الفلسفة:

إنّ الفرق بين النظريّات وبين البديهيّات هو أنّ النظريّات تفتقر في كسب الصورة والمادّة إلى ما سواها، بينما تتوفّر البديهيّات بنفسها على المادّة والصورة، كما هو الحال في عالم الطبيعة، فكلّ تركيبٍ مفروضٍ يفتقر إلى مادّةٍ تحليليّةٍ، ولكن المادّة لا تتطلّب مادّةً أخرى، بل هي ذاتها مادّةٌ. إذًا فسِنخ حاجة كلّ قضيّةٍ إلى قضيّة استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما (أولى الأوائل حسب الاصطلاح الفلسفي) يختلف عن سنخ حاجة النظري إلى البديهي، الذي هو حاجةٌ ماديّةٌ وصوريّةٌ. … كما يتّضح من هذا البيان، فإنّ توقّف النظري على البديهي إمّا أن يكون في تولّد مادّةٍ من مادّةٍ، وإمّا أن يكون في تولّد صورةٍ من صورةٍ، ولا علاقة له بتوقّف حكمٍ على حكمٍ آخرَ، أمّا ما يُقال من توقّف جميع القضايا على قضيّة استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين فالمراد منه توقّف العلم والحكم، لا التوقّف المادّي والصوري.[1]

(159)

أمّا الأستاذ الشيخ مطهّري فقد بحث في هامش على النصّ أعلاه ثلاثة نظريّاتٍ حول منزلة أصل عدم التناقض بالنسبة إلى باقي البديهيّات، ومن خلال النقد والتحقيق دعّم الرأي المذكور في النصّ، وأمّا النظريّات الثلاثة التي تعرّض لها فهي ما يلي:

1. أنّ سائر القضايا ليست بديهيّةً، بل هي نظريّةٌ بحسب الواقع، ومعنى أولى الأوائل وأمّ القضايا هو أنّه تُستنتج من أصل امتناع التناقض جميع القضايا الأخرى.

لكنّ الأستاذ الشيخ مطهّري ينقد هذه النظريّة وذلك بأنّه أوّلًا: إنّها خلاف الوجدان الذي يشهده كلّ فردٍ. وثانيًا: أنّ ذلك يستلزم أن يتوقّف نظام البرهان والاستدلال؛ لأنّنا إذا كان لدينا أصلٌ بديهيٌّ واحدٌ فقط، فكيف استطعنا إذًا أن نُشكّل أوّل قياسٍ مُتشكّلٍ من الصغرى والكبرى، وأن نصل إلى المعرفة اليقينيّة!

إنّ بيان الأستاذ مطهّري في النظريّة أعلاه تامٌّ في قسمه الأوّل؛ لأنّنا بالوجدان لدينا وصول إلى البديهيّات الأخرى غير أصل عدم التناقض، ولكنّ نقده في القسم الثاني يبدو أنّه غير صحيحٍ؛ لأنّ أصل عدم التناقض عبارةٌ عن قانونٍ بديهيٍّ وسوف يكون له مصاديقُ كثيرةٌ، إذًا فعمليّة تشكيل القياس لن تتضرّر، أضف إلى ذلك أنّنا إذا استعملنا القياس الاستثنائي في الاستدلال، فلن نعود بحاجةٍ إلى أن يكون بين يدينا قضيّتان بعد ذلك لتشكيل عمليّة الاستدلال.

2. أنّ سائر المباديء البديهيّة ليست قوانينَ مستقلّةً، بل هي عين قانون امتناع التناقض، لكنّنا نستخدمها في مورد المقادير على شكل «قانون المساواة» وفي مورد العليّة على شكل «قانون امتناع الصدفة».

وقد نقد الأستاذ هذه النظريّة أيضًا، واستدلّ على ذلك بالنحو التالي:

(160)

بما أنّ اختلاف القضايا تابعٌ لاختلاف الأجزاء التي تُشكّلها، يعني الموضوع والمحمول، والموضوع والمحمول يختلفان في باقي البديهيّات عن الموضوع والمحمول في قضيّة أصل التناقض، إذًا فهي ليست عين أصل التناقض.

3. أنّ قانون امتناع التناقض وسائر البديهيّات الأخرى بديهيّاتٌ أوليّةٌ، ولكن سائر البديهيّات تحتاج إلى قانون امتناع التناقض في نفس الوقت الذي تكون فيه بديهيّاتٍ، غاية الأمر أن هناك فرقًا بين طبيعة حاجة البديهيّات الأوليّة إلى قانون امتناع التناقض وبين حاجة النظريّات للبديهيات، ويُمكن تقرير طبيعة حاجة البديهيّات الأوّليّة إلى أولى الأوائل بتقريرين، وذلك بالنحو التالي:

أ. أصل عدم التناقض يُفيد الجزم، أي هو إدراك مانعٌ عن الطرف المخالف، وهذا هو التقرير الذي بيّنه العلّامة الطباطبائي في نصّ أصول الفلسفة، وعلى الأساس هذا التقرير إذا رفعنا أصل عدم التناقض من الفكر البشري، سينهدم أساس «الجزم» و«اليقين»، وسوف يغرق الإنسان في الشكّ المطلق.

ب. التقرير الآخر عن نحو وطبيعة حاجة البديهيّات لأصل عدم التناقض هو أنّه لو أنّ أصل عدم التناقض لم يكن موجودًا، لحصل الجزم واليقين بكلا طرفي القضيّة، وهذا الأصل هو الذي ينفي اليقين عن جانبٍ ويُثبته في الجانب الآخر، وبذلك يتّضح أنّ احتياج البديهيّات إلى قانون عدم التناقض في الجزم والحكم، لا في المادّة والصورة.[1]

وبإمكاننا هنا أن نُضيف تقريرًا آخر يُبيّن أنّ طبيعة حاجة باقي البديهيّات لأصل وقانون عدم التناقض هو في الجزم والحكم، وقد يكون معبّرًا أكثر من التقريرين السابقين في بيانه لطبيعة حاجة البديهيّات لأصل

(161)

عدم التناقض، بحيث لا تكون هذه الحاجة منافيةً لبداهتها ولا لمنطقيّة اليقين بها أيضًا.

نحن نعلم بأنّ «الجزم» و«اليقين» يعنيان أنّ الإنسان يكون معتقدًا بأمرٍ بصورة مائة بالمائة، وهذا الجزم واليقين إذا بُني على أساسٍ مُحكمٍ يعني بمصطلح اليقين المنطقي، عندها لن يبرز أيُّ جهلٍ، ولن يحصل أيُّ جهلٍ مُركَّبٍ أصلًا، فإنّ اليقين إذا استقرّ في أحد أطراف القضيّة فحتّى لو كان اليقين منطقيًّا، مع ذلك سيبقى مرتبطًا بطرفٍ واحدٍ من القضيّة، وسيكون هناك يقينٌ آخرُ لازمٌ للطرف الآخر من القضيّة. وبعبارةٍ أخرى: لا يقتضي اليقين بنفسه أنّ تكون النسبة بين طرفَيِ القضيّة مستقرّاً، لكن بالطبع اليقين المركّب في الواقع من يقينين يتوفّر على اقتضاءٍ كهذا، ولكن هذا النوع من اليقين ليس ذلك اليقين الذي له ضرورةٌ في بداهة البديهي، فإنّ اليقين المشروط في البديهيّات هو اليقين البسيط المنطقي، لا النفسي، وبالتالي يكفي فقط في المعرفة التي لم نكتسبها عن طريق الفكر والنظر، أن يتحقّق اليقين، حتّى لو كان ذلك بالنسبة لطرفٍ واحدٍ من القضيّة، ولكنه مشروطٌ بأن يكون يقينًا منطقيًّا، يعني: أن يُكتسب على أساسٍ مُحكمٍ.

والأستاذ الشيخ المصباح يستصوب هذا النوع من التقرير لحاجة باقي البديهيّات لأصل عدم التناقض، وذلك عندما كتب ما يلي:

إنّ احتياج الاستدلالات الفلسفيّة للأصول المنطقيّة أو لأسس علم المعرفة ليس هو في الواقع من قبيل احتياج مسائل العلوم للأصول الموضوعة، بل هي حاجةٌ ثانويّةٌ، مثل حاجة قواعد هذه العلوم للعلوم أنفسها، أي لمضاعفة العلم وحصول تصديقٍ آخرَ يتعلّق بهذه التصديقات، كما يُقال أيضًا بالنسبة للبديهيّات الأوليّة أنّها محتاجةٌ إلى أصل استحالة التناقض، والمعنى الصحيح هو هذا، وذلك لأنّه من الواضح أنّ احتياج القضايا البديهيّة لهذا الأصل ليس 

(162)

من قبيل احتياج القضايا النظريّة للقضايا البديهيّة وإلّا لم يبقَ أيُّ فرقٍ بين القضايا البديهيّة والنظريّة، ولا بدّ حينئذٍ من اعتبار أصل استحالة التناقض هو الأصل البديهي كحدٍّ أقصى.[1]

وكذلك حيث كتب ما يلي:

هناك مباحثُ تتعلّق بقضيّة استحالة اجتماع النقيضين، وهي: هل أنّنا نحتاج واقعًا إلى قيد استحالة النقيضين في حصول العلم اليقيني، بحيث طالما لم نلتفت إلى هذه القضيّة لم يحصل لدينا علمٌ يقينيٌّ أم لا؟ قد يكون بالإمكان الإجابة بهذا الجواب هنا، وهو أنّنا لدينا مرحلتان من اليقين، ـ نظير العلم بالعلم ـ فيحصل لدينا في المرحلة الأولى يقينٌ منطقيٌّ، ثمّ من أجل أن نفهم بأنّ نقيض هذه القضيّة مُحالٌ، ينبغي علينا أن نقبل باستحالة اجتماع النقيضين، وهذا يقينٌ وعلمٌ آخرُ ناظرٌ لليقين الأوّل.[2]

وبذلك يتّضح بأنّنا نحتاج إلى أمّ القضايا بالنسبة للحكم بطرف الخلاف، وهذه الحاجة لا تؤثّر على بداهة البديهي؛ لأنّ البديهي يتوفّر على ذلك اليقين المنطقي الذي هو شرطٌ للبداهة، فاليقين الجزمي الذي هو شرطٌ في البداهة، ليس يقينًا مركّبًا، بل يقينًا مبنيًّا على أساسٍ مُحكمٍ، سواءً أكان بسيطًا أم مركَّبًا ومن هنا يُمكن القول: إنّ «البديهيّات» تحتاج إلى أمّ القضايا بالنسبة للحكم بالطرف المُخالف، كما أنّ النظريّات أيضًا تحتاج إلى أصل عدم التناقض للحكم في طرف الخلاف، وبالتالي يتّضح من خلال هذا البيان بأنّ موقع استحالة اجتماع النقيضين في جدول البديهيّات ليس على نحوٍ يُسقط جميع العلوم البديهيّة حتّى أصل امتناع ارتفاع النقيضين.

(163)

ومن الجدير بالذكر أنّ احتياج نفي الخلاف إلى أمّ القضايا لا يستلزم كونها نظريّةً لأنّ أمّ القضايا هي من المرتكزات الحاضرة على الدوام في الذهن البشري، وبالتالي لا تحتاج إلى فكرٍ، وفي النتيجة «نفي خلاف كلّ قضيّةٍ» بعد اليقين بأصل القضيّة هو من الفطريّات.

لقد قُمنا حتّى الآن بتعريف «البديهي» بشكلٍ عامٍّ، وذكرنا بأنّ البديهي هو المعرفة الحصوليّة التي لا تحصل من خلال الفكر والنظر، ولكنّنا لم نعبُر مرحلة التعريف بنحوٍ كاملٍ؛ لأنّ المطلوب في هذه المرحلة هو التعريف أو ذكر خصائص المعارف الأساسيّة التي تُشكّل أساس المعارف، وبما أنّ المعرفة تمتلك كيانًا تصديقيًّا، إذًا ينبغي أن نتعرّض لتعريف البديهيّات التصديقيّة وأن نُعدّدها وأن نذكر أنحاءها.

المعرفة والبديهيّات التصديقيّة: لقد ذكرنا سابقًا بأنّ حقيقة المعرفة هي حقيقةٌ تصديقيّةٌ، والآن ينبغي أن نُضيف هذه النقطة، وهي أنّ كلَّ واحدٍ من التصوّرات وكذلك القضايا يُمثّل شرطًا بنحوٍ من الأنحاء في تحقّق المعرفة والتصديق، والقضيّة هي محلّ التصديق، أمّا التصوّرات فهي أدواتٌ لازمةٌ لبناء محلٍّ كهذا للتصديق، وبالتالي في الوقت نفسه الذي لا ينبغي أن نغفل عن أهميّة التصوّرات وقيمتها وبداهتها، وكذلك عن القضايا وبداهة قضيّةٍ من القضايا، ولكن ينبغي على الدوام أن نُعطي الدور الأساسي والمحوري في مجال المعرفة للتصديق وللبداهة التصديقيّة.

«ما هي البداهة التصديقيّة؟» إنّ البداهة التصديقيّة أو التصديق البديهي، هو التصديق أو الفهم لصدق القضيّة الذي لا يحصل عن طريق الفكر والنظر.

جدول البديهيّات التصديقيّة: لقد حدّد الحكماء والمنطقيّون ـ عن طريق الاستقراء نوعًا ما ـ ستّة أنواعٍ من البديهيّات التصديقيّة أو أصول

(164)

اليقينيّات، وقدّموها كمبادئ للبرهان[1]، وهذه المبادئ هي عبارةٌ عن: 1. الأوّليّات. 2. المشاهدات الأعمّ من الحسيّات والوجدانيّات. 3. التجريبيّات. 4. الحدسيّات. 5. المتواترات. 6. الفطريّات.

وقد قال صاحب الحاشية على تهذيب المنطق حول هذا الأمر ما يلي:

البديهيّات ـ البديهيّات التصديقيّة ـ ستّة أقسامٍ بحكم الاستقراء، ووجه الضبط أن القضايا البديهيّة إمّا أن يكون تصوّر طرفيها مع النسبة كافيًا في الحكم والجزم أو لا يكون والأوّل هو الأوّليّات والثاني إمّا أن يتوقّف على واسطةٍ غير الحسّ الظاهر والباطن أو لا، والثاني المشاهدات وينقسم بالحسّ الظاهر وتُسمّى حِسيّاتٍ، وإلى مشاهداتٍ بالحسّ بالباطن، وتُسمّى وجدانيّاتٍ. والأوّل إمّا أن يكون تلك الواسطة بحيث لا تغيب عن الذهن عند تصوّر الأطراف أو لا تكون كذلك والأوّل هي الفطريّات، ويُسمّى القضايا قياساتها معها، والثاني: إمّا أن يُستعمل فيه الحدس وهو انتقال الذهن الدفعي من المبادي إلى المطالب أو لا يستعمل فيه؛ فالأوّل هو الحدسيّات، والثاني إن كان الحكم فيه حاصلًا بإخبار جماعةٍ يمتنع عند العقل تواطؤهم على الكذب فهي المتواترات، وإن لم يكن كذلك، بل حاصلًا من كثرة التجارب فهي التجريبيّات، وقد عُلم بذلك حدّ كلّ واحدٍ منها.[2]

وبذلك يكون وجه حصر البديهيّات التصديقيّة على أساس البيانات الاستقرائيّة في العناوين الستّة هو أنّ القضايا البديهيّة إمّا أن يكون مُجرّد

(165)

 

مراجعة الكتاب

 

تصوّر طرفي القضيّة كافيًّا للجزم بصدقها أو كذبها، وإمّا ألّا يكون كذلك؛ والقسم الأوّل يُطلق عليه الأوّليّات، والقسم الثاني على قسمين، إمّا أن لا تكون لديه واسطةٌ غير الحسّ الظاهر أو الباطن، أو تكون لديه؛ والقسم الأوّل من القسم الثاني سمّوه المشاهدات ـ بما هو أعمّ من الحسيّات والوجدانيّات ـ والقسم الآخر الذي لديه واسطةٌ غير الحسّ الظاهر أو الباطن، إمّا أن تكون واسطته بحيث تُحضِر أطراف القضيّة في الذهن، أو لا تكون كذلك، والقسم الأوّل هو الفطريّات، والقسم الثاني إذا استعمل فيه الحدس ـ وهو الانتقال الدفعي للذهن من المبادئ إلى المطالب ـ فهو الحدسيّات، وإذا كان مستندًا إلى إخبار أفرادٍ كثيرين بحيث كان اتفاقهم على الكذب مُحالًا عقلًا، فهو المتواترات، وإذا حصل عن طريق التجربة، أطلق عليه التجريبيّات.

وإذا أردتم أن تُرتّبوا هذه البديهيّات في جدولٍ، فبإمكاننا أن نُكوّن جدولًا من سبع خانات، ومن خلال تخصيص خانتين لقسمين من المشاهدات، أي الحسيّات والوجدانيّات، يُمكن أن نُقدّم الجدول التالي:

الأولويّات-الوجدانيّات - الفطريّات - الحسيّات - الحدسيّات - المتواترات - التجريبيّات

وقد أورد الخواجة نصير الدين الطوسي الأمثلة التالية للبديهيّات التصديقيّة:

أ. المحسوسات، مثل: الشمس مُنيرةٌ؛ ب. المُجرّبات، مثل: ضرب الخشب مؤلمٌ؛ ج. المتواترات، مثل: بغداد موجودةٌ بالنسبة لمن لم يذهب إليها، أو مثل: سُقراط كان موجودًا، والمعتبر في هذين الصنفين هو حصول اليقين، لا كثرة التجربة أو عدد الشهود؛ د. الأوّليّات، مثل: الكلّ أكبر من الجزء؛ هـ. الحدسيّات، مثل:

(166)

نور القمر من الشمس، وهذا بعد مشاهدة اختلاف تشكّلات القمر بحسب بعده وقربه من الشمس وبعد الوقوف على أحوال الخسوفات؛ و. القضايا التي تكون قياساتها مرتكزةٌ في الفطرة، مثل: التصديق بأنّ الاثنين نصف الأربعة.[1]

وأمّا الوجدانيّات التي أهمل الخواجة التعرّض لها، فيُمكن أن نُمثّل لها بالأمثلة التالية: «أنا جائع» «أنا فرحٌ» «أنا خائفٌ» «أنا حزينٌ» وغيره.

الجرح والتعديل في جدول البديهيّات التصديقيّة: كُنّا قد وضعنا جدولًا مكوّنًا من سبعة خاناتٍ، ووضعنا في كلّ خانةٍ من خانات الجدول نوعًا من البديهيّات التصديقيّة، وقد وصلنا إلى هذا العدد من البديهيّات من خلال الاستقراء، ولكنّ النقطة الدقيقة الموجودة هنا هي أنّنا إذا نظرنا إلى تركيب هذا الجدول بنظرةٍ عميقةٍ أكثرَ، فسوف لن يبقى على حاله، ووجه ذلك أنّ قسمًا من هذه البديهيّات المفروضة، ليست بديهيّة في الواقع، وبعضها لم يكن يقينيًّا حتّى، وصحّتها وسقمها يقع على عاتق البُرهان.[2] وباعتقادنا يُمكن إرجاع «الحسيّات» وكذلك «الحدسيّات» ـ التي تنتقل إلى الذهن عن طريق الانتقال الدفعي ـ بنحوٍ من الأنحاء إلى «القضايا الفطريّة»، وطبعًا ليس المراد من ذلك هو أنّ جميع «الحسيّات» و«الحدسيّات» يقينيّةٌ منطقًا، ولكن بشكلٍ عامٍّ طريق اليقين ليس مغلقًا بالنسبة إلى «الحسيّات» و«الحدسيّات»؛ لأنّه باعتقادنا في «الحسيّات الثانويّة» ـ يعني: الحسيّات التي توجد مع «الحسيّات الأوّليّة» ولكنّنا لا نعلم بها إلّا من خلال العقل، نظير: «الحركة» و«الجوهر» وغيره ـ يُمكننا الوصول إلى اليقين، كذلك على الأقل الطريق إلى اليقين في بعض «الحدسيّات» ليس مغلقًا، وكذلك بالنسبة لـ «المتواترات» التي يُعتمد فيها على إخبار مجموعةٍ، لم يحصل حتّى الآن

(167)

مراجعة الكتاب 

 

بيانٌ صحيحٌ ليقينيّتها، و«التجريبيّات» لها مشكلتها الخاصّة بها بحيث إنّ بداهتها وكذلك التيقّن بها مُضطربٌ، فالتجربة خلافًا للاستقراء تنطوي على قياسٍ خفيٍّ.[1] وينطوي هذا القياس العقلي ـ الذي فُرِض على أنّه من الأوّليّات ـ بحسب ما يراه البعض على قضيّة «الاتفاق الأكثري والقسر الدائمي محالٌ»، وينطوي برأي آخرين على قضيّة «حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحدٌ» أو غيرها من القضايا.

ولكن باعتقادنا هذه القياسات لا يُمكنها أن توصل التجريبيّات إلى اليقين، وأراد بعض المُعاصرين أن يُعيدوا منح الاعتبار والقيمة للتجربيّات من خلال التمسّك بقانون الاحتمالات[2]، ولكنّ هذا الطريق هو الآخر لا يستطيع أن يوصلنا إلى اليقين المنطقي؛ لأنّه على الرغم من أنّ عامل الاحتمال يُصبح ضعيفًا ولكن لا يصل إلى الصفر، إذًا قد يُقرّبنا قانون الاحتمال إلى آخر درجةٍ من احتمال الصدق، وقد ننفي نسبة احتمال الخلاف، ولكن مع ذلك يبقى احتمالٌ آخرُ في المسألة؛ لأنّنا في احتمال الخلاف اقتربنا من الصفر، ولكنّنا لم نصل إلى الصفر، إذًا من خلال هذا البيان خرجتْ التجربيّات من جدول البديهيّات بل من اليقينيّات، ووقعت في عِداد النظريّات غير اليقينيّة.

وبذلك، من خلال النقد المضغوط الذي نقوم به عادةً ـ على الرغم من لزوم عمل بحثٍ تفصيليٍّ آخرَ ـ ينبغي أن نُخرج أربعة أقسامٍ من البديهيّات من جدول البديهيّات التصديقيّة، وأن نضعها في زمرة النظريّات، وبذلك يُصبح لدينا جدولٌ من التصديقات البديهيّة مع ثلاث خاناتٍ:

الأوليّات - الوجدانيّات - الفطريّات

(168)

وقد أراد بعض الأعاظم أن يُقلّلوا جدول البديهيّات التصديقيّة إلى خانتين فقط من خلال حذف الفطريّات، ودليلهم على ذلك هو أنّ الفطريّات تحمل معها قياسًا، ولذلك فهي ليست بديهيّةً، بل هي «نظريّةٌ قريبةٌ من البديهيّة».[1] كذلك لم يعتبر الخواجة نصير الدين الطوسي في كتابيه أساس الاقتباس ومنطق التجريد أنّ «الفطريّات» من المبادئ الحقيقيّة للبرهان، على الرغم من أنّه يعترف بعدم كون القياس الذي في الفطريّات كسبيًّا، ويرى بأنّ هذا الأمر هو السبب في عدّه من قبل الحكماء والمنطقيّين واحدًا من المبادئ.[2]

وإذا أردنا أن نَحكُم في هذا الشأن، فلا بدّ أن نعترف بأنّه إذا كان البديهيُّ علمًا لم نحصل عليه عن طريق الفكر وتجشّم عناء التفكير والطلب، فإذًا فينبغي علينا أن نعدّ الفطريّات بديهيّةً أيضًا؛ لأنّ الفطريّات هي من ضمن العلوم التي لا تحصل عن طريق تجشّم عناء التحصيل ولا التعب في الكسب، وأمّا أنّه هل يُمكن أن تعدّ الفطريّات من ضمن المبادئ أم لا؟ فيتوقّف هذا الأمر على أنّنا من أيّ جانبٍ ننظر إلى مبادئ البرهان، وباعتقادنا إذا اعتبرنا مبادئ البرهان آخر نقطةٍ من نقاط التحليل والإرجاع، فإنّ «الفطريّات» لا يُمكن أن تكون ضمن المبادئ؛ لأنّ الفطريّات ليست بديهيّةً بالذات وهو ما كتبه العلّامة الطباطبائي حيث قال:

فنقول كما ذكروا: إنّ المقدّمات الفطريّة ليست بضروريّةٍ بالذات، إذ لو فرضنا ارتفاع القياسات المكتنفة بها أمكن وقوع الشكّ فيها، فليست بضروريّةٍ بالذات.[3]

(169)

وبكلّ الأحوال، سواءً أَعتبرنا الفطريّات من ضمن مبادئ البرهان أم لا، فلن يكون هناك اختلافٌ كبيرٌ، لأنّ الفطريّات تمتلك قياسًا من الأوّليّات، وبالتالي إذا أحكمنا الأوّليّات، فسوف تكون دعامةً للفطريّات أيضًا، ومن هنا فإنّ محور البحث والتحليل في البديهيّات التصديقيّة هو «الأوّليّات» و«الوجدانيّات» سواءً أعددنا «الفطريّات» من ضمن مباديء البرهان أم وضعناها في جدول النظريّات.

تعريف البديهيّات التصديقيّة الثلاثة: سوف نتعرّض الآن لتعريف الأنواع الثلاثة من البديهيّات التصديقيّة.

تعريف الأوّليّات: إنّ التعريف الذي لدى الفلاسفة والمنطقيّين عادةً في ما يتعلّق بالقضايا الأوّليّة، هو أنّ «الأوّليّات» قضايا يكفي مجرّد تصوّر طرفيها وتصوّر العلاقة بين الموضوع والمحمول أو بين المقدّم والتالي فيها حصول الجزم واليقين بها، وهذا الجزم يُمكن أن يكون جزمًا بصدق القضيّة مثل: قضيّة «كلّ شيءٍ هو هو»، أو الجزم بكذب القضيّة، مثل: قضيّة «ليس الأمر أنّ كلّ شيءٍ فهو هو».

إنّ القضيّة الأوّلى هي القضيّة التي يُعبّر عنها بـ «قانون الهويّة»[1]، وأمّا القضيّة الثانية فهي نقيض القضيّة الأولى والتي نجزم بكذبها، ويعتبر كلٌّ من «قانون امتناع اجتماع النقيضين»[2] و«قانون امتناع ارتفاع النقيضين»[3] من الأوّليّات كذلك.

إنّ القضايا الأوّليّة ليست منحصرةً بهذا المقدار من القضايا، ولو أنّنا بحثنا في كلّ تخصّصٍ من التخصّصات العلميّة، لاستطعنا أن نصل إلى عددٍ كبيرٍ ولا حدّ له من هذا النوع من القضايا.

(170)

والآن سوف نتعرّض لنموذجٍ من التعاريف التي تمّ تقديمها في تعريف الأوّليّات؛ لقد كتب ابن سينا ما يلي:

فأمّا الأوّليّات فهي القضايا التي يُوجبها العقل الصريح لذاته ولغريزته لا لسببٍ من الأسباب الخارجة عنه، فإنّه‌ كلّما وقع للعقل التصوّر لحدودها بالكُنه، وقع له التصديق، فلا يكون للتصديق فيه توقّفٌ إلّا على وقوع التصوّر والفطانة للتركيب ومن هذا ما هو جليٌّ للكلّ؛ لأنّه واضح تصوّر الحدود، ومنها ما ربّما خفي وافتقر إلى تأمّل لخفاءٍ في تصوّر حدوده فإنّه إذا التبس التصوّر التبس التصديق، وهذا القسم لا يتوعّر على الأذهان المشتعلة النافذة في التصوّر.[1]

لقد أكّد ابن سينا في الكتاب المذكور على هذه النقطة، وهي أنّ «الأوّليّات» قضايا توجب التصديق والجزم، وهذا الجزم يستند إلى تصوّر طرفَيِ القضيّة ـ الموضوع والمحمول في الحمليّات والمقدّم والتالي في الشرطيّات ـ والاطلاع على الهيئة التركيبيّة لهذه القضايا، والحكم في هذا النوع من القضايا يصدر من العقل المحض المنزّه من تأثير الأسباب والعوامل الخارجيّة، ولذا قال ما يلي في برهان الشفاء:

والذي عن مجرّد العقل فهو الأوّليّ الواجب قبوله، كقولنا: الكلّ أعظم من الجزء.[2]

طبعًا هذا الأمر لا يتنافى مع امتلاك «الأوّليّات» لشهرةٍ جمعيّةٍ كذلك، ولكن التصديق في الأوليّات التي تُستعمل في البرهان، يستند إلى العقل، لا إلى الشهرة؛ لأنّنا إذا فرضنا أنفسنا منزّهين عن جميع الإلقاءات الخارجيّة، فمع ذلك سوف نحكم بصدق هذا النوع من القضايا.[3] إذًا فعلى الرغم

(171)

من أنّ «الأوّليّات» تتمتّع بالشُهرة كما كتب ذلك ابن سينا حيث قال: «واعلم أنّ جميع الأوّليّات أيضًا مشهورةٌ ولا ينعكس»[1]، ويُمكن لها أيضًا أن تُستعمل كذلك في الجدل أيضًا، ولكن المبرهن منها يُستعمل كأمرٍ يقينيٍّ، والمُجادل منها يُستعمل كأمرٍ مشهورٍ.[2]

وقد قسّم الشيخ الرئيس الأوّليّات في العبارة المذكورة إلى قسمين: 1. الأوّليّات التي لها وضوحٌ جَمعيٌّ، وسرّ ذلك هو أنّ التصوّرات لها وضوحٌ؛ 2. الأوّليّات التي ليس لها وضوحٌ جمعيٌّ، وذلك لأنّ التصوّرات ليس لديها وضوحٌ ولأنّه يحصل الإبهام في التصوّر، فلذا لن يحصل التصديق أيضًا، ولكن في كلّ الأحوال لن يكون فهم القضايا الأوّليّة صعبًا بالنسبة للأشخاص الذين لديهم أذهانٌ حادّةٌ، ويحصل لديهم الفهم التصوّري بسرعةٍ.

ومن هنا يتّضح أنّ «الأوّليّات» يُمكن أن تمتلك تصوّراتٍ نظريّة، على الرغم من أنّ تصديقاتها بديهيّة، إذًا فالتصديق يُمكن أن يكون بديهيًّا، وفي الوقت نفسه تكون التصوّرات نظريّةً، وطبعًا هذا الأمر مبنيٌّ على أن نعتبر «التصديق» أمرًا بسيطًا، ولكن إذا اعتبرنا أنّ «التصديق» أمرٌ مركّبٌ، فسوف نقع هنا في مشكلةٍ، وقد بيّن قطب الدين الشيرازي هذه النقطة بالنحو التالي:

واتّفاقهم على أنّ الأوليّات رُبّما وقع التوقّف في التصديق بها لخفاءٍ في تصوّر حدودها يدلّ على أنّ التصديق عبارةٌ عن نفس الحكم لا عن التصوّرات الثلاثة، وإلّا لما كان بديهيًّا إلّا إذا كانت تلك التصوّرات بديهيّةً، وهذا بخلاف ما اعترفوا به في الأوّليّات، وإن كان بعضهم قد ناقض نفسه.[3]

ولا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ الفخر الرازي يعدّ التصديق مركّبًا[4]،

(172)

ولكنّه لا يقع هنا في المشكلة التي بيّنّاها؛ لأنّه يرى بأنّ جميع التصوّرات بديهيّةً[1]، وعلى الرغم من أنّ هذا يُعتبر خطأً آخرَ له[2]، ولكن هذا الخطأ جعله يتخلّص هنا من المشكلة المطروحة في مورد فرض تركّب التصديق مع فرض كون التصوّرات نظريّةً.

إذًا فـ «الأوّليّات» هي القضايا التي يكفي تصوّر طرفيها لحصول الجزم بصدقها أو كذبها، وهذا النوع من القضايا يُمكن أن يكون له مصاديقُ عديدةٌ، ومصداقه البارز هو أصل عدم التناقض.[3]

وقد أنشد الحكيم السبزواري الشعر التالي في هذا الموضوع:

فإن ثلاثة التصوّر كفت                    في حكمها فالأوّليّات بدت

النسبة بين الأوّليّات والقضايا التحليليّة لكانط: علمنا أنّ الأوّليّات هي القضايا التي يكفي فيها مجرّد تصوّر طرفيها للجزم بصدقها أو كذبها، وكذلك نحن نعلم بأنّ القضايا التحليليّة هي القضايا التي نحصل على محمولها إمّا تصريحًا أو تلويحًا من مفهوم موضوعها، وقد قسّم كانط القضايا إلى التحليليّة[4] والتركيبيّة[5] وكذلك إلى السابقة[6] واللاحقة[7]. وهو يرى بأنّ القضايا التحليليّة قضايا سابقةٌ، ويعتقد بأنّه لدينا قضايا تركيبيّةٌ

(173)

سابقةٌ، وقد مثّل كانط للقضيّة التحليليّة بهذه القضيّة: «لكلّ جسمٍ امتدادٌ»، فكان يعتقد بأنّ قضيّة «لكل جسمٍ وزنٌ» هي قضيّةٌ تركيبيّةٌ؛ لأنّ «امتلاك الوزن» ليس مأخوذًا في مفهوم الجسم، فكان يرى بأنّ قضيّة «لكلّ حادثٍ علّةٌ» قضيّةٌ تركيبيّةٌ سابقةٌ، وكان كانط يرى بأنّ قضيّة «الذهب معدنٌ أصفرُ اللون» قضيّةٌ تحليليّةٌ؛ لأنّنا لا نحتاج في معرفة صدق هذه القضيّة إلى أمرٍ آخرَ سوى تحليل مفهوم الذهب[1]، وبعبارةٍ أخرى: لو أنّنا عرّفنا الذهب بأنّه «معدنٌ أصفر اللون، متلألئٌ، طيّعٌ، لا يصدأ»، فإذًا المعدن يُشكّل أكبرَ دائرةٍ، ثمّ تبدأ الدائرة تصغر وتصغر أكثر إلى أن نصل إلى الذهب، ولذا سوف يكون لدينا أكثر من قضيّةٍ وهي بأجمعها قضايا تحليليّةٌ؛ 1. «الذهب معدنٌ»؛ 2. «الذهب لا يصدأ»؛ 3. «الذهب طيّعٌ»؛ 4. «الذهب متلألئٌ»؛ 5. «الذهب أصفر اللون»؛ 6. «الذهب معدنٌ لا يصدأ طيّعٌ متلألئٌ أصفر اللون».

وبهذا يتّضح أنّ القضيّة التحليليّة هي القضيّة التي يندرج فيها مفهوم المحمول في مفهوم الموضوع ـ في القضايا الحمليّة ـ وقضيّة التالي في قضيّة المقدّم ـ في القضايا الشرطيّة ـ إمّا تصريحًا، مثل: قضيّة «لكلّ زوجٍ زوجةٌ» أو تلويحًا مثل: قضيّة «كلّ زوجٌ فهو رجلٌ».[2] والقضايا التحليليّة لا تختصّ بذاتيّات باب إيساغوجي، بل هذا النوع من القضايا مطروحٌ في مطلق المفاهيم، ولا يختصّ بمفهومٍ خاصٍّ.

والآن يجب علينا أن نُفكّر في النسبة بين القضايا الأوّليّة والقضايا التحليليّة التي لكانط.

(174)

إذا دقّقنا النظر، نجد بأنّ القضايا التحليليّة مشمولةٌ بتعريف القضايا الأوّليّة أيضًا؛ لأنّ القضايا التحليليّة هي أيضًا بحيث إذا تصوّرنا طرفيها جزمنا بصدقها، وبالتالي يُمكن القول: إنّ النسبة بين «الأوّليّات» و«القضايا التحليليّة لكانط» هي العموم والخصوص المطلق؛ لأنّه كلّ قضيّة تحليليّةٍ هي قضيّةٌ أوّليّةٌ، ولكن العكس غيرُ صادقٍ، مثلًا: «الممكن محتاجٌ إلى العلّة» هي قضيّةٌ أوّليّةٌ، ولكنّها ليست قضيّةً تحليليّةً.

وقد قُدّم تعريفٌ آخرُ للقضايا التحليليّة، وهو أنّ القضايا التحليليّة هي القضايا التي يُؤدّي إنكارها إلى التناقض.[1]

وقد نسب استيفان كورنر تفسير القضيّة التحليليّة بهذا النحو إلى المنطقيّين المعاصرين، فقد كتب ما يلي:

نقول للحكم بأنّه تحليليٌّ بهذا الشرط وفقط بهذا الشرط وهو أن يؤدّي إنكاره إلى التناقض، أو بعبارةٍ أخرى: بهذا الشرط وهو أن يمتلك ضرورةً منطقيّةً، أو كذلك بعبارةٍ أخرى: بهذا الشرط وهو أن يكون نفيه مُحالًا من الناحية المنطقيّة، وكلّ حكمٍ إذا لم يكن تحليليًّا، فهو تركيبيٌّ، وهذا التعبير الجديد للفرق بين القضايا التحليليّة والتركيبيّة مقبولٌ تقريبًا عند جميع المنطقيّين المعاصرين، على الرغم من أنّه بالطبع لا يخلو من الإشكال تمامًا، أو أنّ الذي فرضته ليس بحيث لا يخلو من الإشكال.[2]

وباعتقادنا لو أنّنا قبلنا بهذا التعريف كتعريفٍ للقضايا التحليليّة منسلخًا عن الاندراج المفهومي، فليس فقط سنبتعد عن تعريف كانط

(175)

للتحليلي والتركيبي، بل سوف نكون قدّمنا تفسيرًا للتحليلي يشمل العديد من القضايا، ومن بينها القضايا الأوّليّة والفطريّة أيضًا؛ لأنّ إنكار القضيّة «الممكن محتاجٌ إلى العلّة» أو قضيّة «الواحد نصف الاثنين» و...، يؤدّي إلى التناقض أيضًا، ولكن في الوقت نفسه وعلى الرغم من الفرض المذكور تبقى النسبة كذلك بين الأوّليّات والقضايا التحليليّة بالتفسير الثاني هي العموم والخصوص المطلق أيضًا، مع هذا الفرق وهو أنّ العامّ يأخذ مكان الخاصّ.

لقد قدّم آيِر[1] تفسيرًا آخر لتعريف القضيّة التحليليّة وهو أنّ القضيّة التحليليّة هي القضيّة التي إحراز صدقها منوطٌ بتعريف المصطلحات والعلائم المستعملة فيها، فهو يضع هذه القضيّة في قبال القضيّة التجريبيّة، والتي نصل إلى صدقها أو كذبها من خلال التجربة، وقد كتب ما يلي في كتاب زبان، حقيقت ومنطق [= اللغة، الحقيقة والمنطق]:

القضيّة تكون تحليليّةً حينما تكون صحّتها منحصرةً بتعريفات العلائم التي تشملها، وتكون تركيبيّةً حينما يتمّ تحديد صحّتها بواسطة الأمور الواقعيّة التجريبيّة، فقضيّة «هناك نملٌ يعتمد نظام العبوديّة» هي قضيّة تركيبيّةٌ؛ لأنّ صدقها وكذبها لا يُمكن أن يُعرف من خلال ملاحظة تعريف العلائم التي تمنحها قوامها، بل ينبغي التعرّض بالمشاهدة لنحو التصرّف الواقعي للنمل، وخلافًا لها قضيّة «بعض النمل إمّا طفيليٌّ وإمّا ليس كذلك»، فهذه القضيّة تحليليّةٌ؛ لأنّه ليس هناك حاجةٌ إلى أن نستعين بالمشاهدة والتجربة حتّى نعلم أنّ بعض النمل طفيليٌّ أم لا، وإذا علم الشخص بمعنى الكلمات «إمّا» و «لا» ما هي، فسوف يعلم بأنّ كلّ قضيّةٍ تكون بنحوٍ «إمّا صادقةً أو ليست

(176)

صادقةً» فهي صحيحةٌ دون الحاجة للتجربة، ومن هنا فجميع هذا النوع من القضايا تحليليٌّ.[1]

وباعتقادنا فإنّ النسبة بين «القضايا التحليليّة» و«الأوّليّات» بناءً على هذا التعريف لـ «القضايا التحليليّة» هي التساوي؛ لأنّ صدق القضايا الأوّليّة إنّما يُحرز كذلك على أساس فهم تعريف مصطلحاتها ـ إذا انعقدت بصورةِ قضيّةٍ ملفوظةٍـ مثلًا: قضيّة «بعض النمل إمّا أن يكون طفيليًّا وإمّا لا يكون كذلك» هي مصداقٌ للقضايا الأوّليّة في الفلسفة الإسلاميّة التي عدّها آيِر قضيّةً تحليليّةً، ولكنّنا ملتفتون إلى أنّ بيان الفلاسفة الإسلاميّين حول القضايا الأوّليّة يتمتّع بدقّةٍ أعلى لأنّهم جعلوا محور تقسيم القضايا إلى أوّليّةٍ وغيرِ أوليّةٍ مبنيًّا على الحيثيّة الإدراكيّة والهويّة المفهوميّة للقضايا، لا على الأمور اللفظيّة والعلائم التي تقع في المرتبة الثانويّة، فصحيحٌ أنّنا عادةً ما نتعامل في تفكيرنا مع اللفظ، ولكن الحيثيّة المفهوميّة مقدّمةٌ بالأصالة على الجنبة اللفظيّة واللغويّة؛ لأنّه يُمكن أن يحصل لنا فهم أمرٍ ما على الرغم من أنّنا لم نضع له لفظًا بعدُ، إذًا بذلك نحن إذا امتلكنا «الأوليّات» يُمكن لنا أن نصبح بلا حاجةٍ لهذه القضيّة التحليليّة، أضف إلى ذلك أنّ تعريف آيِر لا ينسجم مع ما أورده كانط في تعريف القضيّة التحليليّة.

إذًا فقد ذكرنا حتّى الآن ثلاثة تعاريفَ للقضايا التحليليّة، كما تعرّضنا للنسبة بينها وبين الأوّليّات (القضايا الأوّليّة في الفلسفة الإسلاميّة)، وقلنا أنّ النسبة بين القضايا التحليليّة بحسب تعريف كانط (التعريف الأوّل) والقضايا الأوّليّة هي «العموم والخصوص المطلق»، فالقضايا الأوّليّة «عامّة» والقضايا التحليليّة «خاصّة»؛ يعني: كلُّ قضيّةٍ تحليليّةٍ هي قضيّةٌ أوّليّةٌ، ولكن عكسها غيرُ صادقٍ، كذلك قُلنا أنّ النسبة بين القضايا التحليليّة وبين القضايا الأوّليّة بالتعريف الثاني (تعريف استفان كورنر) كذلك «العموم

(177)

والخصوص المطلق» مع هذا الفرق، وهو أنّ القضايا الأوّليّة «خاصّةٌ» والقضايا التحليليّة «عامّةٌ»، وفي النهاية تعرّضنا للنسبة بين القضايا الأوّليّة والقضايا التحليليّة بالتعريف الثالث (تعريف آيِر)، وبيّنا أنّ النسبة بينهما هي التساوي.

النسبة بين الحمل الأوّلي والقضيّة الأوّليّة: مثلما عرفنا في الفصل الثاني، فإنّ الحكماء السابقين حتّى قبل الملّا صدرا كانوا يعرفون نوعين من الحمل؛ ويُسمّون القسم الأوّل من هذين القسمين «الحمل الأوّلي الذاتي»، والقسم الثاني «الحمل الشائع الصناعي»، والقسم الأوّل يُسمّونه «أوّليًّا» من جهة أنّه ضروريّ الصدق أو ضروريّ الكذب؛ لأنّ هذا النوع من الحَمل مصداقٌ للقضايا الأوّليّة (الأوّليّات) التي يكفي فيها مجرّد تصوّر طرفَيِ القضيّة للجزم بصدقها، مثلًا: إذا لاحظنا قضيّة «الجزئيُّ جزئيٌّ» وكان الحمل فيها أوّليًّا، فإذًا مفادها هو أنّ «مفهوم الجزئي هو نفس مفهوم الجزئيّ»، والعقل يجزم بصدقها، ولا يتوقّف ذلك على صدقها في الخارج للتصديق بها، ومن خلال هذا التحليل يتّضح أنّه لو أنّنا واجهنا قضيّة «الجزئيّ ليس جزئيًّا» فلن نشكّ في كذبها لحظةً واحدةً؛ لأنّنا نفهم بضرورة العقل أنّ الجزئيّ لا يُمكن ألّا يكون جزئيًّا.

إذًا اتّضح إلى هنا أنّ القضيّة التي تشكّلت بالحمل الأوّلي، هي مصداقٌ للأوّليّات، وهذا هو كذلك سبب تسميتها بـ «الحمل الأوّلي»؛ لأنّها كذلك إمّا ضروريّةُ الصدق أو ضروريّة الكذب.

والآن مع الالتفات إلى هذا الأمر الذي ذكرناه، نقول: النسبة بين الحمل الأوّلي والقضيّة الأوّليّة هي العموم والخصوص المطلق؛ لأنّ القضيّة الأوّليّة أعمّ مطلقًا من الحملّ الأوّلي؛ لأنّ الأوّليّات لا تنحصر بالقضايا التي يكون الحمل فيها حملًا أوّليًّا ومفهوميًّا، بل نحن لدينا كذلك العديد من القضايا التي يكون الحمل فيها حملًا شائعًا صناعيًّا، ومع ذلك تُعدّ من الأوّليّات،

(178)

مثل الحمل في قضيّة «الكلّ أعظم من الجزء»، فالحمل فيها شائعٌ، ولكنّ هذه القضيّة مصداقٌ للقضايا الأوّليّة.

تعريف الوجدانيّات: الوجدانيّات هي أساسٌ آخرُ من أُسس المعرفة، وهي قضايا تحكي بشكلٍ مُباشرٍ عن المُدرَكات الحُضوريّة، وهذا النوع من القضايا هو بنفسه علمٌ حصوليٌّ، ولكنّه يُعدّ من ذلك القسم من العلوم الحصوليّة التي تُكتسب من العلوم الحضوريّة، وكان القدماء يُعبّرون عن هذا النوع من الإدراكات بالحسّ الباطن، أو ينسبه البعض إلى الحسّ الباطن والبعض الآخر إلى نفس النفس، ولكن ليس من الواضح تمامًا ما هو مرادهم من الحسّ الباطن، هل هو نفس ذلك القسم من الذهن الذي يشمل «الحسّ المشترك» و«الخيال» و«الوهم» و«الحافظة» و«المتصرّفة» وهي الأمور التي بحثناها في الفصل الأوّل تحت عنوان «الذهن الواسع»، أمّ أنّ مرادهم من الحسّ الباطن هو نفس «النفس» التي تمتلك شهودًا حضوريًّا[1]، وما هو مُسلّمٌ هو أنّ الفلاسفة المشائيّين حصروا العلم الحضوري بعلم النفس بنفسها، فنسبوا في النتيجة الإدراكات الأخرى إلى «الحسّ الباطن»، وبكلّ التقادير، تُعدّ «الوجدانيّات» الآن في محافل الفلسفة قضايا ناشئةً من العلوم الحضوريّة، وتُمثّل حكايةً مباشرةً وبلا تفسيرٍ للإدراكات الشهوديّة، قال قطب الدين الشيرازي في درّة التاجّ ما يلي:

والوجدانيّات هي القضايا التي تُدركها النفس بوجدانها، أو بذاتها أو بواسطة الحسّ الباطن، مثل: علمنا بوجودنا وبأنّ لنا فكرةً ولذّةً.[2]

والحاصل هو أنّنا نُواجه في نطاق الوجدانيّات نوعين من العلم؛ 1.

(179)

العلم الحضوري؛ 2. العلم الحصولي؛ والوجدانيّات هي علومٌ حصوليّةٌ تحكي عن إدراكاتٍ حضوريّةٍ.[1]

تعريف الفطريّات: القضايا الفطريّة والتي تُسمّى كذلك «القضايا الفطريّة القياس» أو «القضايا التي قياساتها معها»، هي القضايا التي نصل فيها من خلال تصوّر طرفي القضيّة إلى قياسٍ، وهذا القياس يستوجب جزمنا بصدق القضيّة، ولا نحصل على هذا القياس الذي يتشكّل من الأوّليّات من خلال تجشّم عناء الاستدلال، أي من خلال بذل الجهد في ترتيب القياس وتنظيم الاستدلال.

فعلى سبيل المثال: قضيّة «الأربعة زوجٌ» هي قضيّةٌ فطريّةٌ؛ لأنّ حكمنا بصدقها يحصل من خلال هذا الاستدلال: «الأربعة يُمكن أن تنقسم إلى أمرين متساويين، وكلّ عددٍ يقبل الانقسام إلى عددين متساويين فهو زوجٌ، إذًا فالأربعة زوجٌ».

ومنه هنا يتّضح بأنّ الجزم بالصدق في القضايا الفطريّة يستند إلى قياسٍ حاضرٍ، ولا بدّ من الالتفات هنا إلى هذه النقطة، وهي أنّ بعض القضايا يُمكن أن تكون بحيث نحكم بصدقها بمجرّد تصوّر طرفَيْها، ولكنّها في الوقت نفسه تحمل قياسًا حاضرًا معها، وفي هذه الحالة إذا كان جزمنا مستندًا إلى قياسها، فسوف تُعتبر القضيّة فطريّةً، وأمّا إذا وصلنا إلى الجزم فقط على أساس تصوّراتها بدون ملاحظة القياس المقارن لها، فسوف تكون قضيّة أوّليّةً، وهذا النوع من القضايا الذي له وجهان، يُمكن أن يعتبر بالنسبة للبعض من «الأوّليّات» وللبعض الآخر من «الفطريّات»، مثلًا: عدّوا قضيّة «الكلّ أعظم من الجزء» قضيّةً أوّليّةً؛

(180)

لأنّنا نصل من تصوّر طرفيها إلى صدقها، وقد كتب ابن سينا ما يلي:

إذا علمتَ … بأنّ الكلّ ما هو؟ والجزء ما هو؟ والأقلّ ما هو؟ لم يكن بالإمكان أن لا تصدّق بأنّ الكلّ أعظمُ من الجزء.[1]

ولكن في الوقت نفسه يُمكن لهذا القياس أن يحضر في ذهننا، وهو أنّ «الكلّ مشتملٌ على الجزء، وكل ما هو كذلك فهو أعظم»، والشاهد على هذا الأمر، هو أنّ البعض عدّ قضيّة «الواحد نصف الاثنين» من الأوّليّات[2]، بينما عدّها البعض الآخر من الفطريّات[3]، ويُمكن لهذا الأمر أن يكون جوابًا على الكاتب الذي كتب ما يلي:

ولقائلٍ أن يقول: لا فرق بين قولنا: الأربعةُ زوجٌ، والكلّ أعظم من الجزء؛ لأنّ الثاني أيضًا موقوفٌ على القياس القائل بأنّ الكلّ مشتملٌ على الجزء، وكلّ ما هو كذلك فهو أعظمُ.[4]

بكلّ الأحوال، لقد قُدِّم عددٌ من التعاريف للقضايا الفطريّة، والآن سوف نُقدّم للقارئ عدّة نماذجَ[5] منها:

الفطريّات: قضايا يجزم العقل بها لا لمجرّد تصوّر طرفيها، بل بوسطٍ يتصوّره الذهن عند تصوّر طرفيها، مثل: الأربعة زوجٌ، فإنّ العقل جزم بأنّ الأربعة زوجٌ لا لمجرّد تصوّر طرفيها، بل بوسطٍ يتصوّره عند تصوّر الزوج والأربعة، وهو الانقسام بمتساويين، فحصل عند تصوّره قياسٌ، وهو

(181)

أنّ الأربعة منقسمةٌ بمتساويين وكلُّ منقسمٍ بمتساويين زوجٌ، وتُسمّى هذه قضايا قياساتها معها؛ لأنّه عند تصوّر الطرفين يكون الوسط متصوّرًا فيحصل القياس من تصوّر الطرفين والوسط.[1]

كلامٌ حول البديهي: والآن سوف نتعرّض لنقل كلامٍ يستلزم الاعتناء به من قبلنا طرحًا تفصيليًّا للمباحث الماضية حول البديهي:

كان قدماؤنا مختلفين في وجهات النظر ومتشتّتين بالنسبة لتعريف البديهي، فكان البعض يقول: إنّ القضايا البديهيّة هي القضايا المستغنية عن الاستدلال، والبعض الآخر يقول: الاستدلال عليها مُحالٌ، والبعض يقول كلا الأمرين معًا، فهي مستغنيةٌ عن الاستدلال، وكذلك لا يُمكن الاستدلال عليها أيضًا...، وبكلّ الأحوال هناك قائلٌ لكلّ واحدٍ من الأقوال الثلاثة، وفي نهاية المطاف انتهى أمرها إلى حيث أنّهم جعلوا القضايا البديهيّة مبنىً وركنًا لأنّها مُجمعٌ عليها، وفي الواقع نحن لدينا سلسلةٌ من القضايا الاجتماعيّة.

نقدٌ وتحقيقٌ: هذا الكلام حول البديهي ينطوي على دعويين:

أ. ادعاء تشتّت آراء القدماء حول تعريف البديهي؛ ب. بيان وجه الاعتماد على القضايا البديهيّة كأمرٍ إجماعيٍّ.

وسوف نتعرّض هنا للبحث والتحقيق في كلا الدعويَيْن، فأمّا بالنسبة للدعوى الأوّل (أ)، فنقول: على الأقل بالمقدار الذي بحثناه وحقّقناه، لم نجد من بين القدماء من الحكماء الإسلاميّين شخصًا عرّفَ «البديهي» بأمرٍ غير هذا التعريف وهو أنّ العلم الحصولي التصوّري أو التصديقي هو العلم الذي لا يحصل عن طريق الفكر والنظر، وقد بيّن القدماء بأنّ

(182)

مُرادهم من «البديهي» هو الذي لا يحتاج في حصوله إلى الفكر والنظر؛ أي لا يحتاج إلى «التعريف» ـ في التصوّرات ـ ولا إلى «الاستدلال» ـ في القضايا والتصديقات ـ بما هو أعمّ من أن يكون بالإمكان تعريفه والاستدلال عليه أو ألّا يكون ذلك ممكنًا، وقد كتب الفارابي ما يلي:

والأشياء التي تُعلم، منها ما يُعلم لا بالاستدلال ولا بالفكر ولا برويّةٍ ولا باستنباطٍ، ومنها ما يُعلم بفكرٍ ورويّةٍ واستنباطٍ.[1]

كذلك كتب ابن سينا ما يلي:

المعرفة على نحوين: أحدهما حصول المطلوب ويُسمّى بالعربيّة «التصوّر»...، والثاني ما يُصاحب المطلوب ويُسمّى بالعربيّة «تصديقًا» وكلاهما على نحوين: أحدهما هو الذي يُمكن الوصول إليه بالفكر...، والآخر الذي نجده في أنفسنا وليس من جهة الفكر...[2]

ولم نجد إلّا كلامًا لصدر المتألّهين فقط يخالف هذا الكلام بحسب الظاهر.

فهو يُقسّم المعلومات في مفاتيح الغيب ابتداءً بلحاظ إمكان الكسب واستحالته إلى ثلاثة أقسام:

1. المعلومات التي يستحيل طلبها؛ لأنّها واضحةٌ وحاصلةٌ وتحصيل الحاصل مُحالٌ.

2. المعلومات التي يستحيل طلبها؛ لأنّها خفيّةٌ وصعبةٌ.

3. المعلومات التي يُمكن طلبها ويُمكن حصولها.

(183)

ثمّ يعتبر «البديهيّات» من مصاديق المعلومات التي يستحيل طلبها، و«النظريّات» من القسم الثالث، وقد كتب في هذا الصدد ما يلي:

واعلم‏ أن‏ المعقولات‏ بحسب‏ إمكان الطلب والكسب واستحالته ثلاثة أقسامٍ: أحدها ما لا يمكن طلبه لحصوله وجلائه، وثانيها ما لا يمكن أيضًا لصعوبته وخفائه، وثالثها ما يمكن تحصيله من وجهٍ ويستحيل من وجهٍ آخر.

ووجه الحصر هو: أنّ الأمور إمّا أن كانت حاضرةً بالفعل والوجوب أو بالقوّة والإمكان، والثاني هو الكسبيّات، والأوّل … وهو البديهيّات لكونها أوائلَ غريزيّةً في فطرة الإنسان وهي ممّا لا يمكن تحصيلها لحضورها مغافصةً بلا اختيارٍ منه، وتحصيلُ الحاصل محالٌ إذ لا بدّ لِما لا يكتسب من نوع اختيارٍ.[1]

كما نُلاحظ فهذه العبارة التي تتكلم عن البديهي لها ظاهرٌ مختلفٌ، وفي البداية يعتقد الإنسان أنّ صدر المتألّهين كان بصدد تعريف «البديهي» على أنّه عِلمٌ لا يُمكن تعريفه أو الاستدلال عليه، وإذا كان الأمر كذلك، فسوف يكون هذا الكلام مُؤيّدًا للدعوى الأولى من الكلام المذكور، من أنّ البعض يُعرِّف البديهي أحيانًا بأنّه العلم الذي لا يُمكن الاستدلال عليه، ولكن إذا دقّقنا النظر في عبارة صدر المتألّهين، فسوف نرى بأنّه لم يكن بصدد تقديم تعريفٍ جديدٍ للبديهي، بل كان مُراده أنّ البديهي بما أنّه علمٌ حاصلٌ إذًا فتحصيله مُحالٌ؛ لأنّ تحصيل الحاصل مُحالٌ، وهذا الأمر أعمّ من أن يكون بالإمكان تقديم تعريفٍ له أو الاستدلال عليه، ومن أن يكون تعريفه والاستدلال عليه مستحيلًا.

وأمّا بالنسبة للدعوى الثانية (ب) فبالإمكان النقاش به بالنحو التالي: إنّ وجه الاعتماد على القضايا البديهيّة هو أنّ هذه القضايا «صادقةٌ»، لا

(184)

لأنّ هذه القضايا «مشهورةٌ»، وصحيحٌ أنّ «القضايا الأوّليّة» مشهورةٌ[1] ولكنّ المُبرهِن يعتمد في البرهان على صدقها، أمّا المُجادل فيعتمد في الجدل على شُهرتها.

ولم يكن أرسطو يرى بأنّ مبدأ البرهان هو الأمر الذي يقبل به الجميع من حيث إنّه مقبولٌ لدى الجميع، وقد كتب في هذا الصدد ما يلي:

إنّ ما يكون مقبولًا عند الجميع، لا يكون لدينا مبدأً، بل الجنس الأوّل الذي قُدّم البرهان على أساسه هو المبدأ.[2]

وقد كتب الفارابي حول ذلك ما يلي:

والمقدّمات اليقينيّة هي مبادي العلوم النظريّة … ويستعملها كلّ واحدٍ منّا من جهة يقينِ نفسه بمطابقتها للأمور، من غير أن يتّكل أحدٌ منّا على شهادة غيره له، ومن غير أن يستند فيها إلى ما يراه غيره، ولا يُبالي كان رأيُ غيره فيها مثل رأيه أو لا، فإذا اتّفق فيها أن كان رأيُ الجميع فيها رأيًا واحدًا يشهدون بصحّتها، لم يزدنا ذلك ثقةً بها ولا أيضًا يصير يقينُنا بها أشدّ، ولا أيضًا قبولنا لها ولا استعمالنا إياها من جهة أنّ الجميع رأوا فيها رأيًا واحدًا، ولا أنّهم شهدوا بصحّة ذلك الرأي، بل ببصائر أنفسنا.[3]

إنّ الفارابي يُبيّن في العبارة المذكورة أنّه ينبغي علينا أن نعتمد في مبادئ البرهان على فهمنا، سواءً أوافقنا الآخرون أم لم يُوافقونا، وهنا الاعتماد على آراء الآخرين يبقى مذمومًا ولو كانوا موافقين لنا، بل الموقف هنا ينبغي أن يُعتمد فيه على فهمنا الصحيح، سواءً أوافَقنا الآخرون فيه أم لا، ففي مبادئ

(185)

البرهان الاعتماد على آراء الآخرين يبقى مذمومًا ولو كانوا موافقين لنا، بل لا بد من الاعتماد هنا على «البصيرة الباطنيّة»؛ لأنّ الفهم واليقين عبارةٌ عن أمرٍ شخصيٍّ، ولكن بالطبع إذا فهم الجميع بشكلٍ صحيحٍ، فسوف يصلون إلى نتيجةٍ واحدةٍ أيضًا، ولن يحصل عند ذلك «هرجٌ ومرجٌ معرفيٌّ» أيضًا، فإذا فهم الجميع أمرًا واحدًا بنحوٍ صحيحٍ، فمع أنّ كلّ شخصٍ فهم هذا الأمر بشخصه بنحوٍ صحيحٍ، ولكن لن يحصل هرجٌ ومرجٌ، أضف إلى ذلك أنّ هذا الأمر يُمكن أن يعتبر سببًا من أسباب الشهرة أيضًا، وبذلك يتّضح أنّ «اليقين يكون شخصيًّا»، والاعتماد عليه لا يتلازم مع «الاتجاه النسبي»[1] ولا مع «الفوضويّة المعرفيّة»[2]، ولهذا البحث ذيلٌ طويلٌ، ونحن سنفتحه في المباحث الآتية لبعض المناسبات.

يرى ابن سينا مثل الفارابي بأنّ الوجه في الاعتماد على البديهيّات في عمليّة البرهان هو صدقها، وقد كتب في هذا الصدد ما يلي:

ونسبة المشهور إلى الصادق بلا وسطٍ ليس نسبة أمرٍ مقوِّمٍ. ولذلك إذا التفت الإنسان إلى الصادق بلا وسطٍ ـ من حيث هو صادقٌ بلا وسطٍ ـ ولم يلتفت إلى شهرته، بل فرض مثلًا أنّه غيرُ مشهورٍ، بل شنيعٌ، لمَا أوقع ذلك خللًا في التصديق به‏.[3]

بناءً على هذا فـ «الشهرة» ليست مقوّمةً لـ «البديهي»، حتّى لو كان البديهيُّ مشهورًا أيضًا؛ فعلى طالبي الحقّ والمُبرهنين أن يعتمدوا على صدق البديهيّات، حتّى لو كان المُجادل بما هو مُجادل يعتمد على شهرتها.[4]

(186)

ومع ذلك لصدر المتألهين عبارةٌ ظاهرها يبدو مُخالفًا لهذا الكلام، وذلك حيث قال:

البداهة وهي المعرفة الحاصلة للنفس في أوّل الفطرة من المعارف التي يشترك في إدراكها جميع الناس.[1]

ولكن هناك قرائنُ موجودةٌ تدلّ على أنّه لا يُريد هنا أن يُعرِّف «البديهي» بأنّه المعرفة العامّة والمشهورة، ولا أن يقول بأن الشهرة هي الوجه في الاعتماد على البديهيّات في نطاق البرهان.

وسنختم هنا «مرحلة التعريف» ـ المرحلة الأولى من المنزل الأوّل من الشكوكيّة ـ وسنكون بذلك قد وصلنا إلى «مرحلة الإثبات».

2. مرحلة الإثبات (المرحلة الثانية):

الآن، بعد أن تعرّضنا لتعريف «البديهي» ولحقيقة قضايا المبادئ، يعني: بعد أن وضّحنا كلًّا من «الأوّليّات» و«الوجدانيّات»، سنتعرّض للمرحلة الثانية من المنزل الرابع للشكوكيّة.

العبور من المرحلة الثانية من المنزل الرابع للشكوكيّة:

لقد عبرنا حتّى الآن من المرحلة الأولى من المنزل الرابع للشكوكيّة، يعني: «مرحلة التعريف»، والآن سوف نعبر من المرحلة الثانية من المنزل الرابع للشكوكيّة، والتي تُعرف بـ «مرحلة الإثبات».

إثبات البديهي: إنّ المراد من الإثبات هنا تنبيهيٌّ؛ لأنّ وجود البديهي من الوجدانيّات، ولكنْ للتنبيه على هذا الأمر البديهي يُمكن قول ما يلي:

أ. إنّ المعلومات التي نمتلكها إمّا أن تكون بأجمعها بديهيّةً، وإمّا

(187)

أن تكون بأجمعها نظريّةً، وإمّا أن يكون بعضها بديهيًّا وبعضها نظريًّا، وإذا كانت معلوماتنا بأجمعها بديهيّةً، فلن يبقى شيءٌ بعد ذلك مجهولًا، والتالي باطلٌ بالضرورة، إذًا فالمقدَّم باطلٌ أيضًا، وببيانٍ أدقَّ: لو أنّ جميع معلوماتنا كانت بديهيّةً، لمَا احتجنا إلى الفكر في تحصيل أيِّ معرفةٍ، والتالي باطلٌ بالضرورة، إذًا فالمُقدّم باطلٌ أيضًا.

ومن جهةٍ أخرى، لو أنّ جميع معلوماتنا كانت نظريّةً، فأصلًا لمَا كان بإمكاننا أن نكتسب علمًا من العلوم، والتالي باطلٌ بالضرورة، إذًا فالمُقدّم باطلٌ كذلك، وبيان المُلازمة: لو أنّ معلوماتنا كانت نظريّةً، فلا بدّ أن تعتمد على معرفةٍ معلومةٍ لنا، وبما أنّه ـ بناءً للفرض ـ جميع معلوماتنا نظريّةٌ، لذا في نهاية المطاف إمّا أن نقع في الدور أو في التسلسل، وعندها لن نصل إلى أيّ معرفةٍ مع أنّنا قبلنا أصل العلم بالوجدان، وبعبارةٍ أخرى: إذا كانت القضيّة «أ» نظريّةً، وكانت تُعلم من خلال القضيّة «ب»، فبما أنّ القضيّة «ب» نظريّةٌ، لذا فهي تُعلم من خلال «ج»، وبما أنّ القضيّة «ج» نظريّةٌ، إذًا إذا كانت تُعلم من خلال «أ» فسوف يلزم من ذلك الدور، وإذا استمرّت هذه السلسلة هكذا إلى ما لا نهاية، فسوف يلزم من ذلك التسلسل، وهذان الأمران مُخالفان لأصل تحقّق العلم، مع أنّ أصل وجود العلم من البديهيّات الوجدانيّة؛ وطبعًا كما بيّنا في المباحث السابقة فالبرهان المذكور ليس من أجل إثبات العلم، بل هو من أجل إثبات انقسام العلم إلى البديهي والنظري، إذًا فمن خلال هذا البرهان يتّضح أنّ معلوماتنا لا يُمكن أن تكون نظريّةً بأكملها، وأنّنا نتملك معلوماتٍ بديهيّةً أيضًا[1]، وهناك تقريرٌ لهذا البرهان بالنحو التالي: 

لو كان الكلّ نظريًّا يلزم الدور أو التسلسل عند التحصيل، واللازم باطلٌ لاستلزامه امتناع التحصيل مع أنّه واقعٌ فالملزوم مثله.[2]

(188)

ب. لقد وجد بعض المُفكّرين بأنّ الأمر البديهيّ أسهل من أن يعتمد على البرهان المذكور من أجل التنبيه عليه؛ وإنّما يعتقدون بأنّ «البديهي» عبارةٌ عن أمرٍ وجدانيٍّ، وإذا رجعنا إلى أنفسنا، ولاحظنا معلوماتنا فسوف نُحرز وجود البديهي بالنسبة لنا؛ لأنّ بعض معلوماتنا لا تحصل لنا عن طريق الفكر والنظر، والبديهي هكذا أيضًا بحيث أنّ مصداقه موجودٌ ومنطوٍ فينا، وإذا أنكره شخصٌ، فيكفي أن نُوصيه بأن ينظر إلى باطنه، وفي ما يلي نقرأ نموذجًا من هذا الاتّجاه:

إنّ هذه القسمة (انقسام العلم إلى البديهي والنظري) بديهيّةٌ لا تحتاج إلى تجشّم الاستدلال كما ارتكبه القوم، وذلك لأنّا إذا رجعنا إلى وجداننا وجدنا أنّ من التصوّرات ما هو حاصلٌ لنا بلا نظرٍ...، ومنها ما هو حاصلٌ لنا بالنظر والفكر...، وكذا من التصديقات ما يحصل لنا بلا نظرٍ...، ومنها ما يحصل لنا بالنظر.[1]

وبذلك، فمن خلال البيانين السابقين، لا يبقى مكانٌ للشكّ في أصل وجود «البديهي»، ويتّضح أنّ بعض معلوماتنا بديهيٌّ، وبناءً على البيان الثاني، يعني: الإرجاع إلى الوجدان، فنحن ليس بإمكاننا أن نُثبت أصل البديهي وحسب، بل كذلك بإمكاننا أن نُحدّد نوع البديهي، إذًا فلا يقتصر الأمر بالنسبة لنا على أنّنا نستطيع أن نُثبت أصل البديهيّات في أنفسنا وحسب، بل يُمكننا أن نُعيّن أنواعها كذلك، وبالتالي يُمكن إثبات مبادئ المعرفة بالاستناد إلى العلم الحضوري ووجدان النفس، يعني: «الوجدانيّات» و«الأوّليّات»، وهنا يُمكننا أن نعبر من «المرحلة الإثبات»، وأن نذهب نحو «مرحلة الصدق».

(189)

3. مرحلة الصدق (المرحلة الثالثة)

إنّ الشكّاك يُطالبنا في المرحلة الثالثة من المنزل الرابع للشكوكيّة أن نُثبت صدق قضايا المبادئ، ولذا سنقوم الآن بإثبات صدق قضايا المبادئ.

العبور من المرحلة الثالثة من المنزل الرابع للشكوكيّة

سوف نُحلّل هنا صدق قضايا «الوجدانيّات» وكذلك «الأوّليّات»، ويُمكن لهذين النوعين من القضايا أن يكون لهما مصاديُق عديدةٌ وأن تُعتبر من معايير المعرفة، وأن تُرجع المعارف اليقينيّة الأخرى إلى واحدٍ من هذين القسمين بنحوٍ من الأنحاء، ولذا سوف نقوم الآن بالبحث في صدق القضايا الوجدانيّة والأوّليّة، وبما أنّنا تعرّضنا لذلك في المباحث السابقة، لذا سوف نتعرّض لهما هنا بالإشارة فقط، وسنُحيل التفصيل على المباحث السابقة.

صدق الوجدانيّات: إنّ وجه صدق الوجدانيّات هو أنّ القضايا الوجدانيّة قضايا تحكي عن علومنا الحضوريّة، وبما أنّه في هذا النوع من القضايا، يكون طرفا الصدق فيه ـ يعني: «المُطابِق» و«المُطابَق» ـ تحت اختيارنا، وبالتالي يُمكننا أن نُحرز مُطابقتها وصدقها بالوجدان أيضًا، فالشخص الذي يكون حزينًا والذي تكون قضيّة «أنا حزينٌ» موجودةً في ذهنه أيضًا، لا يُمكن أن يحصل لديه شكٌّ في صدق هذه القضيّة الوجدانيّة التي تحكي عن علمه الحضوري؛ لأنّ القضيّة تقول أيضًا بأنّه يجد حقيقتها في نفسه بلا واسطةٍ من خلال علمه الحضوري.[1]

صدق الأوّليّات: إنّ وجه صدق القضايا الأوّليّة هو أنّ فهم صدق النسبة التي في هذه القضايا يعتمد على نفس هذه القضايا؛ لأنّنا إذا تصوّرنا طرفَيِ القضيّة بنحوٍ صحيحٍ، وكذلك اطّلعنا على مفاد هيئة القضيّة،

(190)

أو بتعبير ابن سينا كان لدينا «فطانةٌ بتركيب القضيّة»[1]، فسوف نحكم بصدق القضيّة؛ لأنّ جَزْمنا بصدق القضايا الأوّليّة يعتمد على نفس هذه القضايا، وبعبارةٍ أخرى: يفهم الذهن في القضايا الأوّليّة أنّ القضيّة صادقةٌ أم كاذبةٌ من خلال ملاحظته للطرفين وكذلك من خلال تحقيقه لمفاد الهيئة التركيبيّة، وهذا الامتياز هو امتيازٌ مختصٌّ بهذا النوع من القضايا فقط؛ لأنّ صدق القضايا الأخرى لا يُحرز من خلال الاطلاع على نفس القضيّة، طبعًا القضايا التحليليّة لكانط تتمتّع بنفس هذا الامتياز، حيث لا حاجة للتصديق بصدقها إلى الرجوع إلى العالم الخارجي، ولكن مثلما ذكرنا سابقًا القضايا التحليليّة لكانط بناءً لتفسير كانط نفسِه الذي قدّمه للتحليلي والتركيبي هي عبارةٌ عن مصاديق للقضايا الأوّليّة؛ لأنّ قضايا كانط التحليليّة هي الأخرى يُحرَز صدقها من خلال تصوّر طرفيها، أمّا القضيّة الأوّليّة فلها مصاديقُ أخرى أيضًا، لا تُعتبر تحليليّةً، وفي جميع الأحوال، القضايا الأوّليّة أو الأوّليّات سواءً أكانت تحليليّةً أم تركيبيّةً فهي ضروريّة الصدق؛ لأنّ المحمول أو التالي في هذا النوع من القضايا هو مقتضى نفس الموضوع أو المُقدّم؛ يعني: بما أنّ الموضوع أو المُقدّم هكذا، إذًا فهو واجدٌ للمحمول أو التالي الفلاني، والنفس لا تذهب إلى أبعد من نفسها في التصديق بهذه القضايا، والتصديق بهذه القضايا يستند إلى الطرفين والهيئة التركيبيّة للقضيّة، إذًا من هنا يُمكن لنا أن نستنتج صحّة القضايا الأوّليّة أيضًا؛ لأنّ التصديق في هذا النوع من القضايا يستند إلى أمورٍ جميعها تحت اختيارنا، إذًا إذا لم يكن لدينا مشكلةٌ تصوّريّةٌ، يعني: إذا فهمنا طرفَيِ القضيّة والهيئة التركيبيّة بنحوٍ صحيحٍ، عندها لن يبقى لدينا مشكلةٌ تصديقيّةٌ، وكما كتب ابن سينا:

(191)

إذا علمتَ بالحكم التصوّري في ذلك الوقت لمعنى الكلّ ما هو، ومعنى الجزء ما هو، ومعنى الأكبر ما هو، ومعنى الأصغر ما هو، فلا يُمكنك إلّا أن تُصدّق بأنّ الكلّ أعظم من الجزء، وكذلك لا يُمكنك أن تشكّ بأنّ كلّ الأشياء التي تُساوي شيئًا آخرَ، فهي تتساوى كذلك[1].

وبذلك يتّضح من خلال التحليل المذكور أنّ القضايا الأوّليّة ضروريّة الصدق؛ لأنّ المحمول أو التالي في القضايا الأوّليّة هما مقتضى نفس الموضوع أو المقدّم، وبحكم نفس هذا التحليل نستنتج بأنّ هذه القضايا ضروريّة الجهة أيضًا؛ لأنّ موضوعها أو مقدّمها واجدٌ بالضرورة للمحمول أو للتالي؛ لأنّ المحمول أو التالي في القضايا الأوّليّة هو مقتضى الموضوع أو المقدّم، سواءً أكان المحمول أو التالي مندرجًا في الموضوع أو المُقدّم تصريحًا أو تلويحًا، يعني: سواءً أكانت القضيّة من القضايا التحليليّة لكانط أم لم تكن، فالقضايا التحليليّة ليس لها امتيازٌ خاصٌّ هنا؛ لأنّ النفس بعد أن تتصوّر الطرفين لجميع القضايا الأوّليّة وتتفطّن لتركيبها، سوف تجزم بصدقها، ذلك الجزم الذي يركب على عاتق نفس القضيّة، وبما أنّها حُصّلت عن طريقٍ منطقيٍّ صحيحٍ، لذا فهي لا تقبل التشكيك من الناحية المنطقيّة، وهذا الأمر موجودٌ أيضًا في القضايا التحليليّة، وفي المصاديق الأخرى للقضايا الأوّليّة أيضًا، ولكن بالطبع القضايا التي تكون تحليليّةً بنحوٍ صريحٍ مثل: «الألف ألفٌ»، فبلحاظ الخصوصيّة التي تمتلكها، فحتّى لو لم يتمّ تصوّر موضوعها ومحمولها، وبدلًا من ذلك تمّ تصوّر عنوانها المشير، أو كانت من الأساس بلا معنًى، مع ذلك يُمكن أن يحصل الجزم بصدقها منطقيّاً، وهذه الخصوصيّة تختصّ فقط بالقضايا التي تكون تحليليّةً تصريحًا، وليس بالقضايا التحليليّة والأوّليّة الأخرى، ولكن في القضيّة التحليليّة بالصراحة، هناك مصداقٌ للقضايا الأوّليّة في الفلسفة الإسلاميّة التي تكون صادقةً بالضرورة.

والحاصل هو أنّ جميع القضايا الأوّليّة صادقةٌ، سواءً أكانت تحليليةً

(192)

أم لم تكن كذلك؛ لأنّ النفس عندما تنظر إلى نفس القضيّة، يعني: عندما تتصوّر طرفَيِ القضيّة مع الالتفات إلى مفاد الهيئة التركيبيّة للقضيّة، تفهم صدق القضيّة، فالنفس هنا سوف تُصدّق بأنّ هذه القضيّة صادقةٌ أو كاذبةٌ بالضرورة من خلال حضورها في جهاز الذهن ونظرها إلى القضيّة الأوّليّة، وهذه الخصوصيّة ليست موجودةً إلّا في القضايا الأوّليّة، ووجه ذلك هو أنّ علّة التصديق في القضايا الأوّليّة هو نفس أجزاء القضيّة، يعني: عندما يحصل لنا تصوّرٌ لأجزاء القضيّة، ولا يكون لدينا نقصٌ في الفهم أو انحرافٌ في الفكر، عندها لا بدّ أن يحصل لدينا تصديقٌ بصدق هذه القضايا بشكلٍ منطقيٍّ[1].

الصدق ومشكلة البنية الأخرى: هناك إشكالٌ قويٌّ نسبيًّا يُهدّد «صدق القضايا»، حيث يُطرح هذا الإشكال في مورد كلِّ قضيّةٍ يقينيّةٍ بما يعمّ البديهيّة منها والنظريّة، وهو أنّ اليقين بكلّ قضيّةٍ يستند إلى البُنية الحاليّة للشخص المُتيقِّن، وإذا ما تغيّرت البُنية الحاليّة للشخص المُتيقِّن، فربّما يحصل لديه إدراكٌ آخرُ بل حتّى مخالِفٌ للإدراك الفعلي، ومن هنا نستنتج بأنّ يقين الشخص الفعلي بالقضيّة أو بالقضايا التي لديه الآن هو يقينٌ بها الآن، وليس يقينًا منطقيًّا، وبالتالي لا تُعتبر «معرفةً».

عمليّة الجواب: قبل أن نُجيب على «مشكلة البنية الأخرى»، ينبغي أن نلفت النظر إلى أنّ هذه المشكلة تختلف في هويّتها عن إشكال «تفاعل الذهن والعين»، ولن نُرجعها إليها، ولو أنّها رجعت إليها، فسوف يكون جوابنا هو أنّنا بيّنا الجواب عليها في «العبور من المنزل الثالث للشكوكيّة».

وإذا دقّقنا النظر في صورة المسألة، فسوف نجد بأنّ «مشكلة البُنية الأخرى» هي في الواقع بصدد إلقاء هذه الشبهة، وهي أنّك صحيحٌ تمتلك

(193)

إدراكاتٍ وتدّعي بأنّ هذه الإدراكات مطابقةٌ للواقع، ولكنّك تُدرك هذه الإدراكات في هذه الوضعيّة ومن خلال هذه البُنية الروحيّة والفكريّة، ولكن كيف يكون لديك نفس هذه الإدراكات في بُنيةٍ أخرى؟ إذًا فأنت تُدرك هذه الإدراكات في هذه البُنية، ومن هنا نستنتج أنّ إدراككم تابعٌ لبُنيتكم الفعليّة، والقضايا التي تُصدّقون بها ليست واجبة الصدق، سواءً أكانت تلك القضايا التي صدّقتم بها بديهيّةً أم نظريّةً.

والآن حيث إنّنا عرفنا هويّة «مشكلة البُنية الأخرى»، سنسعى الآن لأن نُجيب عليها، وسوف نُجيب على هذه المُشكلة بنحوين من الإجابات؛ وطبعًا هاتان الإجابتان لهما هويّةٌ واحدةٌ، وفي الواقع تُعتبران كوجهين لعملةٍ واحدةٍ.

الإجابة الأولى: كما أشرنا سابقًا «مشكلة البُنية الأخرى» تشمل جميع الإدراكات بما يعمّ البديهيّة منها والنظريّة؛ يعني: هذه المشكلة لا تختصّ بالإدراكات البديهيّة، ولكنّنا هنا سوف نُدافع عن الإدراكات البديهيّة فقط في مواجهتها لـ «مشكلة البُنية الأخرى»؛ لأنّه أوّلًا: نحن هنا ـ في مرحلة الصدق ـ بصدد الدفاع عن مباني المعرفة، يعني عن البديهيّات. ثانيًا: إذا استطعنا أن نُنجّي «البديهيّات» من إرهاب «مشكلة البُنية الأخرى» فقهرًا سوف تكون النظريّات مصونةً من شظايا هذا الإشكال؛ لأنّ النظريّات إنّما تُصبح يقينيّةً من خلال الاستناد إلى البديهيّات. ثالثًا: التحقيق في هذه المشكلة في البديهيّات أبسط؛ لأنّ النظريّات تقترن بمُشكلاتٍ أكثر أيضًا، والتي ستُظهر نفسها بنحوٍ من الأنحاء خلال بحث المسألة، إذًا للأسباب المذكورة سوف نتعرّض الآن لجواب «مشكلة البُنية الأخرى» في ما يتعلّق بالقضايا البديهيّة.

وممّا ذكرنا سابقًا اتّضح بأنّ «البديهيّات» هي قضايا وتصديقاتٌ لا تحصل عن طريق الفكر والنظر، وأنّها لا «تحتمل الخطأ»، والآن بناءً على هذا الأساس وهو أنّ «عدم احتمال الخطأ» هو من الخواصّ الذاتيّة

(194)

للبديهيّات، وكون «البديهيّات» بنفسها لا تقبل «احتمال الخطأ»، بناءً على هذا سوف نُحاكم «مُشكلة البُنية الأخرى»، وسوف نُعرّض «عدم قبول البديهيّات للخطأ» للامتحان.

وسوف نبحث الجواب على «مشكلة البُنية الأخرى» من خلال التحقيق في «احتمالاتٍ ثلاثةٍ».

الاحتمال (أ): نحتمل الاحتمال التالي، وهو أنّنا مع حفظنا لليقين الفعلي بالقضيّة البديهيّة المفروضة، فحتّى لو أنّنا وقعنا في بُنيةٍ أخرى، فسوف يكون لدينا في تلك البُنية كذلك يقينٌ كاملٌ آخرُ مُشابهٌ لليقين الحالي، ومن الواضح هنا أنّ البُنية الأخرى المُحتملة لا تُشكّل لطمةً ليقيننا الفعلي بالقضايا البديهيّة؛ لأنّه في هذا الاحتمال (الاحتمال أ) مُقتضى البُنية الأخرى هو وجود يقينٍ مماثلٍ ليقيننا الحالي.

الاحتمال (ب): الاحتمال الآخر هو أنّه مع حفظ يقيننا الفعلي بالقضيّة اليقينيّة المفروضة، فلو أنّنا كان لدينا بُنية أخرى فسوف تحصل لنا حالةٌ مخالفةٌ ليقيننا الحالي، ولكننا الآن مع بُنيتنا الموجودة لدينا يقينٌ بعدم صحّة تلك الحالة، يعني: نحن الآن لدينا يقينٌ بأنّ «تلك الحالة المفروضة في البُنية الأخرى أعمّ من اليقين بالخلاف أو احتمال الخلاف» هي حالةٌ غير صحيحةٍ من الناحية المنطقيّة، إذًا فهنا أيضًا لن تحصل لدينا مشكلةٌ؛ يعني هذا الاحتمال (الاحتمال ب) كذلك لن يُحدث أيّ لطمةٍ ليقيننا الفعلي بالقضايا والتصديقات البديهيّة.

الاحتمال (ج): أن نفرض الآن بأنّه مع حفظ يقيننا الفعلي بالقضايا البديهيّة، إلّا أنّنا سنجد في «البُنية الأخرى» حالةً على خلاف يقيننا تمامًا، وسنعدّ تلك الحالة المفروضة في «البُنية الأخرى» إمّا «صادقةً» وإمّا «مُحتملة الصدق»، وهنا سوف تستقرّ «مُشكلة البنُية الأخرى»، ولكن هذا الاستقرار هو الآخر لن يدوم بشكلٍ منطقيٍّ أبدًا؛ وذلك لما يلي:

أوّلًا: أنّ «احتمال الخلاف» هذا هو احتمالٌ بدويٌّ ينحل بعد التأمّل

(195)

إلى «يقينٍ تفصيليٍّ» و«شكٍّ بدويٍّ»، ونعلم أنَّ اليقين البدوي بالخلاف أو الاحتمال البدوي بالخلاف في مسألةٍ ما لا يُسبّبان تعارضًا مع اليقين المنطقي بتلك المسألة، كما هو الأمر في مجموعة معلوماتنا (الأعم من البديهيّة والنظريّة) حيث يوجد «اليقين بالخلاف» أو «الاحتمال البدوي بالخلاف» في ما يتعلّق بالبعض منها، ولكن بعد التأمّل والبحث في المسألة لا تبقى هذه الحالة في البديهيّات؛ لأنّنا لا نحتمل الخطأ في معلوماتنا البديهيّة، ولدينا يقينٌ منطقيٌّ بها، ولكنّنا نحتمل الخطأ في نظريّاتنا بالجملة، ويجب علينا أن نتوسّل بالبديهيّات كي ننفي احتمال الخطأ في النظريّات.

وهذه المسألة شبيهةٌ مثلًا بمسألة الراعي الذي يمتلك قطيعًا مكوّنًا من أربعين رأسًا من الغنم، ويعلم بأنَّ واحدًا من هذه الأغنام غصبيٌّ، إذًا بكلّ الأحوال ستواجه أحد الأغنام الغصبيّة مع كلّ واحدٍ من هذه الأغنام، وتضع احتمال أنّ هذه هي الغنمة المغصوبة، ولكن إذا حصّلت سبيلًا بأيّ طريقةٍ من الطرق وعلمتَ بأنّ تلك الغنمة سوداء اللون، فهنا سيرتاح بال الراعي بالنسبة للأغنام بيضاء اللون؛ لأنَّه يمتلك الآن «يقينًا تفصيليًّا» أنَّ الأغنام البيضاء ليست مغصوبةً، ولكنّه يبقى على حالته السابقة من الشكّ في ما يتعلّق بالأغنام السوداء، و«معلوماتنا» على هذا النحو أيضًا؛ لأنَّ احتمال الخطأ يسري بصورةٍ بدويّةٍ إلى بعضها، ولكن بعد التأمّل والبحث يتبدّل هذا الاحتمال البدوي إلى «يقينٍ» و«شكٍّ»؛ لأنَّه في «البديهيّات» وفي تلك المجموعة من النظريّات التي تقوم على البديهيّات بصورةٍ صحيحةٍ يزول الشكّ، ولكن تبقى سائر النظريّات كما هي في موقف الشكّ، إذًا في فرض «البنية الأخرى» على الرغم من أنّنا نحتمل الخلاف في البداية، ولكن بالرجوع إلى القضايا البديهيّة يحصل لنا اليقين بعدم صحّة ذلك الاحتمال بالخلاف.

والنتيجة هي أنَّ «احتمال الخلاف» أو «اليقين بالخلاف» في «البنية الأخرى» هو يقينٌ واحتمالٌ بدويٌّ يزول بعد التأمل ويُعطي مكانه إلى «اليقين المستقرّ»؛ لأنَّنا أوّلًا: لا نتخّلى عن يقيننا بالبديهيّات مطلقًا.

(196)

مراجعة الكتاب 

 

وثانيًا: إذا ما دققنا النظر هنا، فإنَّ فرض اليقين بالخلاف أو احتمال الخلاف في الفرض (ج) هو فرضٌ متناقضٌ؛ لأنَّنا فرضنا من ناحيةٍ بأنَّنا لدينا الآن يقينٌ بالقضيّة البديهيّة، ولكن من ناحيةٍ أخرى اعتبرنا بأنَّ صحّة الخلاف المُتيقّن بالنسبة لنا في سائر الأبنية مُتيقّنٌ أو محتملٌ!

وعلى ما يبدو هذا «الفرض المتناقض» ناجمٌ عن نسياننا لحالتنا الأولى، وهذا هو نفس المنشأ والعامل الذي أوقعنا في مثل هذه المشكلة، ونحن يُمكننا أن نتجاوز هذه المشكلة إذا عدنا إلى وضعنا الأوّل وتأمّلنا وبحثنا في وجه صدق القضايا البديهيّة كما في السابق، وبالتالي رأينا عدم قابليتها للتشكيك مرّةً أخرى.

إجابةٌ أخرى: الآن وبهدف التدارك، سنعرض إجابةً أخرى لـ «مشكلة البُنية الأخرى»، وفي البداية سنُصوّر صورة المسألة ومن ثمَّ سنتناول الإجابة عليها.

تصوير صور المسألة: وهنا سنسمّي بنيتنا الحاليّة بـ «البنية أ» والبنية الأخرى المفترضة بـ «البنية ب»، ثمَّ سنصوّر أنواع حالاتنا الإدراكيّة بالنسبة إلى قضيّةٍ بديهيّةٍ مثلًا: «2+2 = 4» التي صورناها في البنية (أ) و(ب)، وبالطبع نحن سنذكر هنا الحالة الإدراكيّة لليقين بـ «الوفاق» أو «الخلاف»؛ لأنَّ حكم «الوهم» و«الشكّ» و«الظنّ» يُستفاد منهم أيضًا، إذًا الآن وبالالتفات إلى المطالب المذكورة سنصور المسألة بالطريقة التالية:

(197)

تحليل صور المسألة: الآن سنتطرّق إلى تحليل صور المسألة لنرى في ظلّ هذا التحليل أنّ «مشكلة البنية الأخرى» ستستقرّ في أيِّ صورةٍ من الصور المفترضة كي نقوم بالإجابة عليها بالتعاقب، ومن هذا المنطلق، سنقارن بهذه الطريقة هنا بين نوعَيِ الإدراك المرتبطين بـ «البنية أ» و«البنية ب».

وفرض المسألة كالتالي، لدينا يقينٌ بالقضيّة البديهيّة «2+2=4»، إذًا من خلال هذا الوجه، يُحذف الفرض (2) من البنية (أ) من محلّ الإشكال، وبالتالي سنقارن الآن بين يقيننا بالقضيّة البديهيّة «2+2 = 4» مع الحالتين الإدراكيّتين المفترضتين في البنية (ب)، وقد فرضنا في البنية المفترضة (ب) حالتين إدراكيتين:

1. «2 + 2 = 4» 2. «2 + 2 ≠ 4»، وبالطبع من الواضح هنا أنَّه لا يوجد تقابلٌ بين القضيّة (1) في البنية (أ) مع القضيّة (1) في البنية (ب)، إذًا هذا الفرض أيضًا يُحذف من مشكلتنا، وبالنتيجة يستقرّ الإشكال في النهاية في ما يتعلّق بتقابل الحالة الإدراكيّة (1) من البنية (أ) مع الحالة الإدراكيّة (2) من البنية (ب).

وبذلك يستقرّ الإشكال هنا، وذلك في أنّ يقينك في البنيّة (أ) ـ بنيتك الحاليّة ـ بالقضيّة «2+2=4» يتعارض مع يقينك في البنية (ب) ـ بنيتك المفترضة ـ بالقضيّة «2 +2≠4»، وهو يسلب يقينك الحالي بالقضيّة «2+2=4».

والآن بما أنّنا علمنا أين محلّ استقرار «مشكلة البنية الأخرى»، إذًا سنقوم الآن بالجواب على الإشكال.

حل المسألة: الآن نأتي ونواجه يقيننا في البنية (أ) ـ بنيتنا الحاليّة والحاضرة ـ وكذلك نواجه اليقين المفترض الآخر المتناقض تمامًا مع يقيننا الفعلي في البناء المفترض الآخر الذي فرضناه ممكنًا في فرضنا.

(198)

إذًا لأجل سهولة العمل، يمكننا أن نفترض أنفسنا مع إدراك شخصٍ آخرَ في البنية المفترضة (ب) مع الإدراك مثلًا: «2 + 2 ≠ 4».

ونحن ندّعي في بنيتنا الفعليّة ـ البنية (أ) ـ بأنّنا نمتلك يقينًا بأنَّ «2+2=4»؛ لأنَّنا حصّلنا هذه المعرفة البديهيّة مثلًا عن طريق التصوّر الدقيق للموضوع والمحمول من خلال التوجّه والاهتمام بمفاد تركيب القضيّة بشكلٍ منطقيٍّ، وبالتالي يقول الشكّاك الآن: فرض اليقين بالخلاف في بنيتك الأخرى المفترضة، يلحق الضرر بنحوٍ منطقيٍّ بيقينك الحالي بالقضيّة المذكورة!

والآن، نقول في التتمّة: إذا قارنّا بين اليقين (1) من البنية (أ) مع اليقين (2) من البنية (ب)، ستترتّب 3 صورٍ:

1) اليقين بكذب اليقين (2) من البنية (ب).

2) الاحتمال البدوي بصدق اليقين (2) من البنية (ب).

3) الاحتمال الاستمراري بصدق يقين (2) من البنية (ب).

والآن من خلال استبدال القضيّة «2+2≠4» مكان الرقم (2)، سيكون لدينا ما يلي:

1) اليقين بكذب اليقين بـ «2+2≠4» من البنية (ب).

2)  الاحتمال البدوي بصدق اليقين بـ «2+2≠4» من البنية (ب).

3) الاحتمال الاستمراري بصدق اليقين بـ «2+2≠4» من البنية (ب).

والآن بما أنّنا نعلم أين يستقرّ الشكوكي بإشكاله، لذا سنتوجّه نحو إشكاله، وسنسعى للإجابة عليه.

(199)

إذا دقّقنا النظر فسيصبح معلومًا لنا بأنَّ «الفرض الأوّل» من الافتراضات الثلاث، لا يُلحق الضرر باليقين الحالي بصدق القضيّة «2+2=4»، لأنّنا بناءً على فرض المسألة لدينا يقين بكذب اليقين بالقضيّة «2+2≠4».

ولكن في «الفرض الثاني» من الافتراضات الثلاث المذكورة فصحيحٌ أنّنا نحتمل احتمالًا بدويًّا بصدق اليقين بالقضيّة «2+2≠4»، ولكن هذا الاحتمال هو مجرّد احتمالٍ بدويٍّ؛ وبما أنّ القضيّة المفترضة بديهيّةٌ إذًا فاحتمال الخلاف سيزول من البين بالالتفات إلى نفس القضيّة أيضًا.

ولكن في «الفرض الثالث» حيث سيبقى احتمال صدق اليقين بالقضيّة «2+2≠4» مستمرًّا حتّى على الرغم من الالتفات إلى القضيّة البديهيّة المفترضة، فنقول: هذا الاحتمال مُجرّد احتمالٍ وهميٍّ، وليس منطقيًّا؛ لأنَّه إذا انتبهنا بدقّةٍ، فإنَّ صورة المسألة لوحدها وبدون أيِّ مؤونةٍ زائدةٍ فسوف تصل بنا إلى اليقين بكذب القضيّة «2+2≠4» بنحوٍ منقطيٍّ، وبما أنَّه لم يقع مثل هذا الأمر، إذًا نستنتج أنّنا لم نُدقّق بشكلٍ جيّدٍ أو أنَّ بنيتنا الإدراكيّة المفترضة قاصرةٌ بسبب عواملَ من قبيل الاختلال أو الابتلاء بشبهةٍ أو ... .

وبذلك، يُمكننا من هنا أن نستنتج بأنّه إذا حصل لنا في بنيةٍ أخرى مفترضةٍ ـ أو حصل لشخصٍ آخرَ في بنيته ـ الحكم بصدق القضيّة «2+2≠4» أو اعتبرناها محتملة الصدق بصورةٍ مستمرّةٍ، فتلك البنية المفترضة ـ بنيتنا أو بنية الآخرين ـ هي بنيةٌ قاصرةٌ أو مَعيبةٌ بالضرورة؛ لأنَّنا سوف نعرف صحّة عمل العقل من صحّة الفهم، وسنستنتج من عدم صحّة الفهم قصور الآلة الفكريّة وتلفها؛ لأنّنا لسنا حتّى مقلدي أنفسنا كي نقول: بما أنّ عقلنا يعمل بصورةٍ سليمةٍ فإنَّ كلّ فهمٍ له هو فهمٌ صحيحٌ، ونحن نقبل بأيّ عملٍ إدراكيٍّ يقوم به، بل الأمر على العكس تمامًا؛ لأنّنا نفهم بشكلٍ صحيحٍ، بدليل أنَّنا تأملنا مثلًا بموضوع ومحمول القضيّة «2+2=4» بصورةٍ دقيقةٍ، وحصّلنا يقينًا بصدقها، وبالتالي استنتجنا أنَّ آلتنا الإدراكيّة قد عملت بشكلٍ سليمٍ.

(200)

والنتيجة هي أنَّ «مشكلة البنية الأخرى» تقبل الردّ من خلال التحليل والتأمّل في صور المسألة بنحوٍ منطقيٍّ وذلك من خلال البيان الذي تمّ شرحه مفصلًا في السابق.

4. مرحلة النفق (الجسر) (المرحلة الرابعة)

يقول الشكوكي في المرحلة الرابعة من المنزل الرابع: أنت تريد أن تعبر النفق من «وضوح القضيّة» المرتبطة بنتيجة القضيّة إلى «صدق القضيّة» الناظر إلى محكيِّ القضيّة، ولكن كيف يُمكن العبور في الجسر من النسبة التي للقضيّة مع قائلها إلى العلاقة التي للقضيّة مع محكيِّها؟ وبأيّ دليلٍ تقولون: «كلُّ قضيّةٍ واضحةٍ لقائلها فهي مطابقةٌ للواقع»؟

العبور عن المرحلة الرابعة من المنزل الرابع للشكوكيّة

وهنا سنجيب على المرحلة الرابعة، المعروفة بمرحلة النفق (الجسر)، في البداية ينبغي أن نُشير إلى أنَّ هذه المرحلة من مراحل الشكوكيّة المهمّة التي أشير إليها أيضًا بنحوٍ ما في «عمليّة التبرير»، وقبل هذا كنّا قد قلنا ـ في الفصل الخامس ـ أنَّ آلستون يدّعي بأنَّه لا علاقةَ ضروريّةً بين «كون القضيّة مبرّرةً» وبين «صدق القضيّة» وهو يستند إلى هذا الدليل، وهو أنّ حقيقة التبرير تمتلك «خصلةً انطوائيّةً»[1] وهذا العامل هو الذي أوجب أن تكون القضيّة في عين كونها مبرّرةً غيرَ صادقةٍ بالضرورة.[2] وبناءً عليه، يبدو أنَّ «مرحلة النفق (الجسر)» ذات جذورٍ مشتركةٍ مع كلام آليستون حول التبرير، إذًا هنا إن تمكّنّا من العبور من «مرحلة النفق» نكون في الواقع قد أجبنا على إشكال آليستون.

(201)

وينبغي في البداية بالنسبة للعبور عن «مرحلة النفق» أن نلتفت إلى الفرق بين «القضيّة» و«التصديق»، وقد ذكرنا في السابق ـ في الفصل الثاني ـ أنَّ القضيّة تغاير التصديق، فالقضيّة في الواقع بمثابة المطار للتصديق، و«التصديق» على أصحّ تعبيرٍ هو نفس «فهم صدق القضيّة»، وقد بيّن الحكماء هذا المطلب بتعابيرَ مختلفةٍ أيضًا، مثلما كتب الفارابي حيث قال:

إنَّ التصديق في الجملة هو أن يعتقد الإنسان في أمرٍ حكمَ عليه بحكمٍ أنّه في وجوده خارج الذهن على ما هو معتقدٌ في الذهن[1].

وكتب ابن سهلان:

وحكمك بصدق قوله [القائل] أي مطابقته للأمر هو التصديق.[2]

ولكن في نفس الوقت إذا أردنا أن نطرح تعبيرًا دقيقًا يُؤدّي المعنى لـ «التصديق»، فمن الأفضل أن نقول: «التصديق= فهم صدق القضيّة».

والآن وقد علمنا أنَّ «التصديق» عبارةٌ عن «فهم صدق القضيّة» فلنعد الآن إلى «مرحلة النفق»؛ يقول الشكّوكي: «كيف تعبر من «وضوح القضيّة» المرتبط بقائل القضيّة إلى «صدق القضيّة» الناظرة إلى محكيّ القضيّة؟»، وهنا إذا أردنا توضيح متغيّر «الوضوح» في علاقته مع «التصديق»، يُمكننا أن نقول كما يلي: «القضيّة الواضحة» أو «القضيّة البديهيّة» هي قضيّةٌ ذات تصديقٍ واضحٍ وبديهيٍّ؛ أي أنّنا نفهم «صدق القضيّة» بالوضوح والبداهة، وفي البداية تتّصف القضيّة بالصدق باعتبار كونها مطابقةً للواقع، ثمَّ نفهم صدقها، وبالتالي تحصل هنا العمليّة التالية:

(202)

(فهم صدق القضيّة) ! (صدق القضيّة) ! (القضيّة) ! الواقع (نفس الأمر).

وبذلك نستنتج بأنّه صحيحٌ أنَّ «وضوح القضيّة» هو عبارةٌ عن العلاقة التي للقضيّة بقائلها، ولكن وضوح القضيّة عبارةٌ عن الوضوح أو بداهة التصديق بهذه القضيّة، ووضوح التصديق بالقضيّة في الواقع هو الفهم الواضح والجليّ والبديهي لصدق القضيّة، وبالتالي من الواضح هنا كيف يمكن عبور النفق من «وضوح القضيّة» إلى «صدقها»، ونحن في نظريّة المعرفة نسعى خلف الفهم الصحيح، وكلّما كان لدينا مثل هذا الفهم، كلّما أمكننا عبور النفق من «فهم صدق القضيّة» إلى «صدق القضيّة»، وإذا قلتَ: من أين علمت بصحّة فهمك؟ قلنا: لقد تناولنا هذا الإشكال في مرحلة الصدق (المرحلة الثالثة) وهو لا يرتبط بمرحلة النفق بنحوٍ مباشرٍ.

والنتيجة أنَّ الشكّاك في مرحلة النفق (الجسر) يُناقش بأنّه كيف يُمكن عبور النفق من «وضوح القضيّة» المرتبط بقائل القضيّة إلى «صدق القضيّة» وأنّ يبني بينهما جسرًا؟ وقد أجبنا نحن بدورنا كالتالي: إنَّ بداهة ووضوح القضيّة تعود إلى بداهة ووضوح التصديق بالقضيّة؛ ولأنَّ التصديق عبارةٌ عن فهم صدق القضيّة، إذًا بداهة ووضوح التصديق بمعنى بداهة ووضوح فهم صدق القضيّة، وكلّما كان لدينا مثل هذا الفهم فإنّنا في الواقع نكون قد وصلنا إلى فهم صدق القضيّة، وبناءً على ما ذكرناه في مرحلة الصدق في الوجدانيّات والأوّليات، فإنَّ هذا الفهم مصونٌ عن الخطأ، ويُمكننا من خلال إرجاع التصديقات الأخرى لها أن نصل إلى معارف أخرى تكون مصونةً عن الخطأ أيضًا، إذًا نلاحظ كيف أنَّ مرحلة النفق (الجسر) فقدت بريقها ورونقها بناءً على التحليل المذكور رويدًا رويدًا، واختفت فجأةً.

(203)

5. مرحلة الوجدانيّات (المرحلة الخامسة)

يطرح الشكوكيّ في هذه المرحلة إشكالاتٍ تختصّ بالقضيّة الوجدانيّة والتي نحسبها نحن من معايير المعرفة، وذلك بالنحو التالي: أ. متى أثبتنا بأنّ لنا علمًا حضوريًّا كي نُفرّع عليها قضايا وجدانيّةً؛ ب. القضايا الوجدانيّة مبنيّةٌ على «تعبيرٌ بلا تفسيرٍ» للعلم الحضوري ومثل هذا الأمر غير مُحرزٍ؛ ج. يطرح هذا الإشكال بنحوٍ مُتفرّعٍ عن الإشكال الثاني أيضًا، وهو أنّ عمليّة تأويل العلم الحضوري تقترن دائمًا بتفسيرٍ خاصٍّ يكون للذهن حصّةً منها، ففي الواقع يخيّل إليك أنَّك تناولت التعبير؛ لأنَّك كلّما تناولت التعبير تكون في الواقع قد تناولت التفسير؛ د. المشكلة الأخرى الموجودة هنا، هي أنَّ العلم الوجداني يكون مفيدًا إذا كان لك علمًا حضوريًّا، إذًا ماذا يمكن القيام به في حال فقدانه؛ هـ. بالأخير، إنَّ آخر إشكال يطرحه الشكوكي حول «الوجدانيّات» هو أنَّ القضايا الوجدانيّة هي قضايا شخصيّةٌ[1] لا عينيةٌ[2] وهي كالعلم الحضوري غيرُ قابلةٍ للنقل والانتقال للآخر.

العبور من المرحلة الخامسة من المنزل الخامس للشكوكيّة

سنجيب هنا باختصارٍ على الإشكالات التي طرحها الشكاك بخصوص القضايا الوجدانيّة.

الإجابة (أ) في الإجابة على الإشكال (أ) نقول: بلا شكّ نحن نجد في أنفسنا حالاتٍ مختلفةً من قبيل: الفرح والحزن والخوف والحبّ والقلق و...، ووجداننا لهذه الحالات هو اكتشافٌ مباشرٌ لا مفهوميٌّ، وهو ما نسمّيه العلم الحضوري، فإذًا لا ينبغي أن ندع سبيلًا للشكّ في أصل وجود العلم الحضوري إلى أنفسنا، وهنا ليس لدينا نزاعٌ لفظيٌّ بأنَّ اكتشاف

(204)

الحالات المذكورة هل يسمح لنا تسميتها بالعلم من ناحية الاستخدام اللغوي أم لا؟ بل إنَّ كلامنا هنا هو أنّنا نجد في أنفسنا مثل هذه الحالات وبالطبع لا مانع من الناحية المنطقيّة من تسمية مثل هذا الوجدان عِلمًا؛ لأنَّ العلم بحدّ نفسه ليس مشروطًا بأن يكون واقعًا عن طريق المفهوم والصور الحاكية، بل هناك نوعٌ آخرُ من العلم قابلٌ للتصوّر ومُمكنٌ أيضًا، بل هو واقعٌ، ودليلُ وقوعه هو عين الوجدان الداخلي.

الإجابة (ب) في الإجابة على النقاش عن «التعبير بلا تفسير للعلم الحضوري» نقول: إنّ التعبير بلا تفسير للعلم الحضوري ممكنٌ، ونحن يُمكننا أن نُحرز إمكانه ووقوعه في تلك الأثناء التي تكون لدينا فيها قضيّةٌ في الذهن وحالاتٍ في النفس من قبيل: الفرح و...، فنحن من ناحيةٍ لدينا إشرافٌ على ذهننا؛ لأنَّ الذهن مرتبةٌ وشأنٌ منّا، ولدينا أيضًا إطلاعٌ على الحالات الخاصّة به، فإذًا هنا يُمكننا استنتاج إذا ما كانت القضيّة التي في ذهننا تعبيرًا بلا تفسيٍر عن العلم الحضوري أم لا، مثلًا: لو شعرتَ بالجوع داخل نفسي وتشكّلت قضيّةٌ، فأقول: «أنا أشعر بالجوع» فهذا تعبيرٌ بلا تفسيرٍ عن العلم الحضوري بخلاف ما لو قلت: «معدتي خاليةٌ من الطعام».

الإجابة (ج) في الإجابة على إشكال «حصّة الذهن» في عمليّة التعبير عن العلم الحضوري، نقول: أوّلًا: كما فصّلنا في العبور عن المنزل الثالث للشكوكيّة، نفس حصّة الذهن لا تُلحق ضررًا بالقيمة المعرفيّة للإدراكات، وبالتالي يجب أن نرى هنا هل حصّة الذهن في التعبير عن العلم الحضوري تُلحق ضررًا بالتعبير بلا تفسير عنها أم لا؟ وهنا نقول: نحن، يمكن أن نُحرز في عددٍ من المواطن بأنّ تعبيرنا عن العلم الحصولي لا يقترن بتفسيرٍ خاصٍّ، كما وضّحنا في الجواب (ب).

الإجابة (د): النقاش الآخر حول الوجدانيّات كان بالنحو التالي: على فرض أنْ كانت القضايا الوجدانيّة معتبرةً، فإنّها سوف تكون مفيدةً فقط

(205)

إذا كان «العلم الحضوري» مقرونًا بـ «القضيّة الوجدانيّة» ولكنّ علمنا الحضوري ليس ثابتًاالثانيةًا، ومع زواله فلن يكون للعلم الحصولي الوجداني فعاليّةٌ أيضًا.

وهنا، نقول: أوّلًا: يُمكن إثبات تجرّد النفس، وتحليل القيمة المعرفيّة للقضايا الوجدانيّة في ساحة الذهن على أساسها ونحن قد أثبتنا قبلًا ـ في الفصل الأوّل ـ تجرّد الذهن؛ ثانيًا: في حال انقضاء العلم الحضوري، لا يختلّ العمل المعرفي؛ لأنّه يمكن لنا من الوجدان الحالي الذي نجده في أنفسنا، أن نبني قضايا وجدانيّةً، ومع ضمّ المُقدّمات الأخرى نكون قد سُقنا عمليّة المعرفة قدمًا.

الإجابة (هـ): في الختام كان آخرُ نقاشٍ حول الوجدانيّات، هو أنَّ القضايا الوجدانيّة قضايا شخصيّةٌ لا عينيّةٌ[1]، وهي مثل العلم الحضوري لا تقبل النقل والانتقال للآخر.

وفي الإجابة على هذا النقاش، نقول: أوّلًا: نحن نقبل بأنَّ القضايا الوجدانيّة شخصيّة، فقضيّة «أنا أخاف» أو «أنا أشعر بالخوف» ناظرتان إلى حالة الخوف لديّ، ويُمكنّني أن أحرز صدقها بناءً على مقارنتها مع الوجدان الداخلي، ولكن لا حجيّة لها بالنسبة للشخص الذي لا يخاف أصلًا أو أنّه لا خوف لديه الآن، ولكن بكلّ الأحوال لا يؤدّي كون القضايا شخصيّةً إلى حصول الضرر في صدقها، ويُمكن لأيّ شخصٍ أن يُلاحظ بداخله نموذجًا عن هذه القضايا، وبالطبع سيكون مُمكنًا له بالاستعانة باللغة المشتركة أن يُعبّر عن حالاته الداخليّة بصورة قضيّةٍ وجدانيّةٍ ملفوظةٍ للآخر على شكل قضيّةٍ.

ثانيًا: إذا كنّا نستطيع أن نعتبر القضايا المنطقيّة قضايا وجدانيّةً، وعلى

(206)

ما يبدو أنّنا نستطيع ذلك؛ لأنَّنا نجد نفس الأمر الذي لهذا النوع من القضايا بالعلم الحضوري في مرتبةٍ من أذهاننا بالوجدان، ونبني قضيّة بعدها في مرتبةِ ما بعد هذه المرتبة تعبّر عنها، إذًا في النتيجة استطعنا أن نعثر على نوعٍ من القضايا الوجدانية يُمكن أن تكون كليّةً وعموميّةً.

ثالثًا: على فرض أنَّ كلّ القضايا الوجدانيّة شخصيّةٌ، مع ذلك لن يُسبب ذلك إشكالًا؛ لأنَّ المعارف الأساسيّة غير مُنحصرةٍ بالوجدانيّات، فالقضايا الأوّلية كلُّها كليّةٌ، فإذًا يُمكننا الاعتماد عليها في تلك الموارد التي نبحث عنها في القضايا الكليّة، وما هو مهمٌّ، هو أنَّ «الوجدانيّات» جميعها قضايا صادقةٌ، ويمكن الاعتماد عليها أيضًا عند اللزوم.

6. مرحلة الأوّليات (المرحلة السادسة)

يطرح الشكوكيّ في المرحلة السادسة إشكالاتٍ تختصّ بالقضايا الأوّلية بالنحو التالي: إنّ هذه الإشكالات تتلخّص بما يلي: أ. إذا قلتم: «الأوّليات» هي قضايا يحصل للشخص الجزم بصدقها بمجرّد تصوّر الشخص لطرفَيْ هذا النوع من القضايا، نقول: من الممكن أن يتصوّر شخصٌ طرفَيْ هذا النوع من القضايا وأن يجزم بخلافها، وأمّا وصولك لمثل هذا الجزم بمثل هذا التصوّر فلا يُعتبر دليلًا على أنّ الآخرين[1] سيصلون إلى مثل هذا الجزم، إذًا فأنت استعملت هنا «التمثيل» من أجل إثبات مُدّعاك!

ب. إن كنتَ تعتبر الأوّليات قضايا لا يمكن الاستدلال عليها، نقول: كيف تسير من عدم إمكان الاستدلال على قضيّةٍ إلى صدق القضيّة؟ ج. كيف تأخذ عجزك على عدم التصديق بقضيّةٍ أوّليّةٍ بعد تصوّر طرفيها دليلًا على صدقها؟

(207)

العبور من المرحلة السادسة من المنزل الرابع للشكوكيّة

سنتناول هنا الجواب على الإشكالات المطروحة حول الأوّليات:

الإجابة (أ) نقول في الإجابة على الإشكال (أ): يجب أن نَفصِل البرهان ومبادئ البرهان بالتبع عن الجدل ومبادئه، فمبادئ البرهان والتي هي البديهيّات تنظر إلى الحقّ، خلافًا للجدل الذي يكون لمواجهة الخصم وللرفض والقبول، فنحن نتعامل في بحث المعرفة مع البداهة والبرهان، وينبغي أن نُدقّق من أجل أن نحصل على فهمٍ صحيحٍ للواقع، وبالتالي لو كان لدينا دقّةٌ كافيةٌ وحصّلنا معرفةً لا تقبل الشكّ من الناحية المنطقيّة، فإذا قبلها الآخر بعد ذلك أو لم يقبل بها، فلن يُلحق بنا ضررًا، ونحن منذ البداية لسنا في صدد رفض الآخر وقبوله، ولا نريد استعمال «التمثيل» فنقول: لأنّه لدينا مثل هذا الإدراك، فلا بدّ أن يكون لدى الآخرين مثل هذا الفهم، ومن الممكن أن يكون الآخرون فاقدين للإدراك من الأساس، أو لديهم إدراكٌ خاطئٌ، أو أنّهم يبحثون عن الحقّ مثلنا، بل في كلّ الأحوال لا علاقة لنا بالآخرين في مجال البرهان ومبادئه، وكلّ شخصٍ ينبغي أن يطوي مثل هذه العمليّة بنفسه، وبالطبع لو أنّنا كنّا كذلك بحيث نقع في الاضطراب من خلال رفض وقبول الآخرين بنحوٍ منطقيٍّ في صدق القضيّة التي صدقّنا بها، عندها ينبغي أن نجدّد النظر في كون تصديقنا أساسيًّا، يعني: علينا أن نُجدّد النظر في معرفة تصديقنا في الواقع، وقولنا: «منطقيًّا» هو من أجل أنَّه يمكننا أحيانًا أن نصل إلى اليقين «عقلًا»، وأمّا «وهمًا» فبسبب عدم تحمّل القوّة الواهمة أن نضع قدمنا هنا وهناك، ولكنّ الفيلسوف الطالب للحقّ، يجب أن يعطف كافّة توجهّه بناءً للمقتضى المنطقي لعمله، وألّا يلتفت إلى دفع القوّة الواهمة، وفي الختام يجب أن يكون توجهه بتمامه نحو الحقّ ونفس الأمر، لا إلى رفض وقبول الآخرين، وهل إنّ الآخرين يُفكّرون كذلك أم لا، وعلى هذا الأساس، نقول: نحن بعد تصوّر طرفَيِ القضيّة الأوّلية، والاطلاع على هيئتها التركيبيّة نفهم صدقها منطقيًا؛ لأنَّ

(208)

فهمنا يستند إلى مقتضى خصوصيّة نفس القضيّة، فإذًا من الناحية المنطقيّة يُمكن لنا أن نقول: لو أنّ الأفراد الآخرين طووا هذا الطريق أيضًا، فسوف يصلون إلى مثل هذه النتيجة بنحوٍ منطقيٍّ، على الرغم من أنَّ فهمنا لا يستند إلى رفض وقبول الآخرين، ولا ينبغي أن يكون كذلك.

الإجابة (ب) كانت المناقشة (ب) كالتالي: إذا كنتَ تعرّف «الأوّليات» بأنّها ما «يستحيل الاستدلال عليه»، إذن كيف تصل من «عدم إمكان الاستدلال على القضيّة» إلى «صدق القضيّة»؟

أمّا إجابتنا فهي: أوّلًا: نحن نُؤيد هذا التعريف السائد لـ «الأوّليات» وهو أنَّ « الأوّليات» هي القضايا التي نجزم بصدقها بمجرّد تصوّر طرفيها.

ثانيًا: على فرض أنَّ شخصًا يعتبر أنّ الأوّليات هي القضايا التي يستحيل الاستدلال عليها، لكن مع ذلك بالإمكان الوصول إلى صدقها من خلال التصديق بالصدق، يعني: فهم صدق القضايا الأوّلية، فإذًا لا ملازمة بين مثل هذا التعريف ومثل هذا الإشكال.

الإجابة (ج) كان النقاش (ج) كالتالي: بما أنّكم عاجزون عن عدم الجزم بصدقها بعد تصوّر طرفي القضايا، فإنّكم تستنتجون أنَّ هذه القضايا صادقةٌ، في حين أنَّه ليس هناك علاقةٌ منطقيّةٌ بينها؛ لأنَّه لا يمكن بأيّ حالٍ أن نأخذ «العجز» دليلًا على «الصدق».

ونقول ردّاً على هذا الإشكال: كما بيّنا مفصلًا في العبور عن مرحلة النفق (الجسر)، يمكن لنا أن نعبر من «فهم صدق القضيّة» والذي هو التصديق إلى «صدق القضيّة»؛ يعني: لأنّ فهمنا منزّهٌ من الجهل المركّب، فإذًا يمكن أن نستنتج بنحوٍ منطقيٍّ صدق القضيّة التي يتعلّق بها فهم الصدق. ولذلك، نحن لا نتّخذ «عجزنا» دليلًا على «صدق القضيّة» بل نحن نعبر الطريق من «الفهم ذي الجذور لصدق القضيّة» إلى «صدق القضيّة».

(209)

7. المرحلة الشرطيّة (المرحلة السابعة):

كانت المرحلة الشرطيّة هي أنّ «الأوّليات» لا يُمكنها أن تقوم بشيءٍ؛ لأنَّ القضايا الأوّلية هي قضايا حقيقيّةٌ، والقضايا الحقيقيّة هي قضايا شرطيةٌ لبًّا ولا تُبيّن كيفيّة «نظام الواقع».

العبور من المرحلة السابعة من المنزل الرابع للشكوكيّة:

في العبور من المرحلة السابعة، نقول: أوّلًا: نحن نوافق نوعًا ما؛ يعني غالبًا، على أنَّ «الأوّليات» تعتبر قضايا حقيقيّةً وهي شرطيّةٌ لٌبًّا، وقولنا: «نوعًا ما» فلأنَّه هناك بين الأوّليات قضايا أيضًا حقيقيّةٌ وفي النتيجة ليست شرطيّةً، وعلى سبيل المثال[1] «ديزٌ، هو ديزٌ» و«□○، هي□» و «□○،هو○ » و«أ هي أ» و...، وهذه كلّها قضايا أوّليةٌ ومن نوعها التحليلي، وفي الوقت نفسِه لا تعتبر قضيا حقيقيّة، وفي نهاية الأمر، لا تتحوّل إلى قضيّةٍ شرطيّةٍ.

ثانيًا: صحيحٌ أنَّ القضايا الأوّلية هي قضايا حقيقيّةٌ نوعًا ما وشرطيّةٌ لٌبًّا، ولكن هذا الكلام يقبل النقاش، وهو أنَّ القضايا الحقيقية لا تتحدّث حول «نظام الواقع»، ونحن في الفصل الثالث، فصلّنا نفس الأمر للقضايا المختلفة، وقلنا: كلّ قضيّةٍ ذات لسانٍ يحكي عن الواقع وذات الأمر، وبناءً عليه حدّدنا لكلّ قضيّةٍ من القضايا واقعًا ونفس أمرٍ يتناسب مع سنخ حكايتها، وبالطبع من الجليّ أنَّ كلّ قضيّةٍ لها واقعٌ يتناسب معها، وهي تحكي عنه بناءً على نوعها.

ثالثًا: إذا كان المراد، هو أنَّ القضايا الأوّلية بسبب أنّها تتحول بنوعها إلى قضايا شرطيّةٍ، إذًا فهي لا تحكي عن الواقع مثل ما تحكي القضيّة الحمليّة غير الحقيقيّة التي لا ترجع إلى القضيّة الشرطية، فهذا مطلبٌ صحيحٌ، ولا نتوقّع من «الأوّليات» أكثر من ذلك؛ وهو ما نقرأه في كتاب آموزش

(210)

فلسفه [= المنهج الجديد في تعليم الفلسفة] حول أصل العليّة باعتباره أحد مصاديق القضايا الأوّلية، حيث قال:

أصل العليّة عبارةٌ عن قضيّةٍ تدلّ على حاجة المعلول إلى علّةٍ، ويلزم منه أنَّ المعلول لا يتحقّق بلا علّةٍ، ويمكن بيان هذا المطلب على صورة قضيّةٍ حقيقيةٍ كالتالي: «كلّ معلولٍ يحتاج إلى علّةٍ»، ومفاد ذلك: كلّما تحقّق معلولٌ في الخارج فسيكون محتاجًا إلى علّةٍ، ولا موجود له وصف المعلوليّة ظهر بلا علّةٍ، فإذًا وجود المعلول كاشفٌ عن علّةٍ أوجدته، وهذه القضيّة من القضايا التحليليّة ومفهوم محمولها يتأتّى من مفهوم موضوعها؛ لأنَّ مفهوم «المعلول» كما تمّ توضيحه، عبارةٌ عن موجودٍ وجوده يتوقّف على موجودٍ آخرَ ومحتاجٌ إليه، فإذًا مفهوم الموضوع (المعلول) يشتمل على معنى الاحتياج المُتوقّف والحاجة إلى علّةٍ تُشكّل محمول القضيّة المذكورة، ومن هنا فهي من الأوّليات ولا تحتاج إلى أيّ دليلٍ أو برهانٍ ويكفي مجرّد تصوّر الموضوع والمحمول لأجل التصديق بها.

ولكن هذه القضيّة، لا دلالة لها على وجود المعلول في الخارج، وبالاستناد عليها لا يمكن إثبات أنَّه في عالم الوجود موجودٌ يحتاج إلى علّةٍ؛ لأنَّ القضيّة الحقيقيّة في حكم القضيّة الشرطيّة، ولا يمكن لها أن تُثبت بنفسها وجود موضوعها في الخارج، وأكثر من هذا، لا دلالة لها على أنَّه لو أنّ موجودًا تحقّق بوصف المعلوليّة فلا مناص من أن يكون له علّةٌ.[1]

(211)

والآن، وقد عرفنا أنَّ القضايا الأوّلية هي قضايا حقيقيّةٌ نوعًا ما، وشرطيّةٌ لٌبًّا، إذًا يُطرح هنا هذا الإشكال بشكلٍ جدِّيٍّ: كيف يُمكن لنا بناءُ قصر المعرفة على قضايا قلتم عنها بأنفسكم: هي قضايا شرطيّة لٌبًّا، وهي تحكي فقط عن التلازم بين المُقدم والتالي، ولا تُثبت إن كان المقدّم مُحقّقًا أم لا؟

وفي الإجابة نقول: صحيحٌ أنَّ «الأوّليات» قضايا حقيقيّةٌ نوعًا ما، وشرطيّةٌ لُبًّا، ولا تُبيّن إذا ما كان مُقدّمها وموضوعها محقَّقًا أم لا، ولكن هذا الأمر لن يكون مُوجبًا لاختلال عمل المعرفة وتنظيمها؛ لأنَّ مبادئ المعرفة غير منحصرةٍ بالأوّليات، ونحن لدينا أيضًا قضايا وجدانيّةٌ يمكن لها أن تُؤمّن موضوع الأوّليات، وكنموذجٍ، نحن من جهةٍ، لدينا القضيّة الأوّلية «كلّ معلولٍ يحتاج إلى علّةٍ» ومن ناحيةٍ أخرى، نشعر في داخلنا بالحرارة والاحتراق، وتنتقش هذه القضيّة الوجدانيّة «أنا أشعر بالحرارة» في أذهاننا، وبالتالي نستدلّ بناءً على ضمّ القضيتين الأوّليّة والوجدانيّة في الأعلى، بما يلي:

أنا أشعر بالحرارة، وهذه الظاهرة الإدراكيّة معلولةٌ، وبما أنَّ كلّ معلولٌ يحتاج إلى علّةٍ، إذًا هذه الظاهرة الإدراكيّة تحتاج إلى علّةٍ، وعلّتها إما أنا (= أنا المُدرِك) أو شيءٌ خارجٌ عنّي، ولكن أنا لم أُوجده بنفسي؛ لأنَّه لو أوجدته بنفسي، فسوف يكون فعلي إمّا إراديًّا وإمّا لا إراديًّا، إذًا هذا الاحتراق إمّا هو فعلٌ إراديٌّ أو غير إراديٌّ، ولكنّه فعلٌ لا إراديٌّ؛ لأنّني لا أريد أن أحرق نفسي، والآن أنا أحترق وليس هذا بفعلٍ إراديٍّ منّي؛ لأنّه لو كان الاحتراق أثرًا إيجابيًّا وضروريًّا للنفس لكان ينبغي أن أحوز على مثل هذا الاحتراقالثانيةًا، لكنّ الأمر ليس كذلك، فإذًا أستنتج، أنَّه موجودٌ ورائي (= أنا المُدرِك) وهو العامل وراء مثل هذه الظاهرة الإدراكيّة داخلي.

وبذلك، يتّضح بأنَّ المرحلة الشرطيّة أيضًا لا تستطيع أن تُخلّ بعمل المعرفة؛ لأنَّه يمكن تحصيل «الوجدانيّات» بالإستعانة «بالأوّليات»

(212)

وبمساعدتها يمكن تحصيل «عمليّة المعرفة» كذلك.

وهنا نختم «المنزل الرابع» من «المنازل السبعة للشكوكيّة» ونبدأ بـ «المنزل الخامس للشكوكيّة».

العبور من المنزل الخامس للشكوكيّة:

(ع. م. 5): إنّ الشكوكي في المنزل الخامس بصدد طرح إشكالٍ آخرَ حول المعارف الأساسيّة ـ البديهيّات في النظام المعرفي ـ من أجل أن يجعلنا نواجه مُشكلةً أخرى مُجدّدًا، وقد حرّرنا نتيجة نقاشه في الفصل السابق تحت عنوان: «ما وراء قضيّة البديهيّات»، وهي أنَّه لا ينبغي لمُدّعي المعرفة أن يظنوا بأنّهم عندما يقبلون بقضيّةٍ باعتبارها قضيّةً بديهيّةً فإنّهم قد أصبحوا مُنزّهين عن سائر المشكلات؛ لأنَّنا نستطيع أن نواجههم في «ما وراء قضيّة البديهيّات» فورًا بمشكلةٍ أخرى، وكمثالٍ، لو قبلتم بأنَّه («الكلّ أعظم من الجزء» بديهيّةٌ) فستواجه هذه القضيّة:

[إنّ قضيّة (قضيّةُ «الكل أعظم من الجزء» بديهيةٌ) نظريّة]

محاكمة حول ما وراء قضيّة البديهيّات

وهنا، سنعقد جلسةً لمحاكمة «ما وراء البديهيّات» وسنسير في البحث والمباحثة في هذا الباب في ثلاثةِ مقاماتٍ.

المقام الأوّل: سنطرح في البداية صورة الإشكال بهذه الصورة؛ إذا وافق شخصٌ أو علم مثلًا أنّ: «قضيّة الكلّ أعظم من الجزء بديهيّةٌ»، يعني: في الواقع إذا عبّر عن كافّة مراحل ومنازل البحث، يعني: إذا عبَر ـ كما اصطلحنا ـ كافّة المنازل والمراحل السابقة ووصل إلى هنا، وقال بأنَّنا لدينا قضيّةٌ بديهيّةٌ من قبيل «الكلّ أعظم من الجزء»؛ يعني: صدّق بأنَّ هذه القضيّة بديهيّةٌ، فهل سيصل عندها الدور إلى الشكّ في بداهة ما وراء قضيتها، ويُشكّل قضيّةً

(213)

مُختلفةً، ويقول: [إنّ قضيّة (قضيّة «الكلّ أعظم من الجزء» بديهيّةٌ) نظريّةٌ] من المسلَّم أنه لا؛ لأنَّ هذه المعادلة مختلفةٌ وفيها تناقضٌ؛ لأنَّ صدرها وذيلها أو ما بين معقوفيها وما بين قوسيها لا ينسجمان معًا.

ولكن بالطبع، يمكن تنسيق «ما وراء القضيّة» بهذه الصورة أيضًا ـ وهي الطريقة التي ذكرت في طرح الإشكال أيضًا ـ وهي أنَّ الفلاسفة مختلفون في الرأي حول تعداد أنواع البديهيّات، وقد قرّر ذلك تاريخ نظريّة المعرفة أيضًا، فمثلًا ابن سينا يعتبر[1] «الأوّليات» و«المحسوسات» و«التجريبيّات» و«المتواترات» و«الفطريّات» بديهيّةً، ولكن بعد ذلك، كما بينّا في المرحلة الأولى من المنزل الرابع للشكوكيّة، حدث تبديلٌ وتعديلٌ في جدول البديهيّات التصديقيّة وهذا التعديل والتبديل في جدول البديهيّات هو الذي أدّى إلى اضطراب هذه الفكرة في الذهن، وهي أنّ «كون البديهيّات بديهيّةً» هو أمرٌ نظريٌّ، إضافةً إلى أنَّه يمكن لنا أن نمرّ بهذه التجربة، وهي أنّنا نعتبر قضيّةً ما في بعض مراحل حياتنا قضيّةً بديهيّةً، ولكن بعدها نستنير ونتراجع عن اعتبارها بديهيّةً، وهذا كلّه شهادةٌ على أنَّ «بداهة البديهي» هي أمرٌ نظريٌّ!

وهذا ترتيبٌ آخرُ لـ «ما وراء القضيّة» الذي ذُكر ضمن كلام المستشكل، ولذا سنتناول الإجابة عليه الآن في المقام الثاني.

المقام الثاني: كما ذكرنا سابقًا ـ في المرحلة الأوّلى من المنزل الرابع للشكوكيّة ـ لا «الشهرة» ولا «الإجماع» هما المقوّم للبداهة ولا هما مستندها، وعلى هذا الأساس نقول:

أوّلًا: إذا كنّا قد حدّدنا ما هو البديهي بصورةٍ سليمةٍ وما هو مصداقه، فإذًا إذا وقع الآخرون أو كان سيقعون في مشكلةٍ خلال تحديد البديهيّات

(214)

فلن يسبب ذلك لنا مشكلةً؛ لأنَّه من المفترض أنّنا لا نشكّ في صحّة تشخيصنا من الناحية المنطقيّة، ومن ناحيةٍ أخرى «البداهة» غير مُتقوّمةٍ بـ «الشهرة» أو بـ «الإجماع العام» أيضًا كي نقع في مشكلةٍ من هذه الناحية في ما بعد قضيّة البديهيّات.

ثانيًا: من خلال الدراسة والتحليل يمكن الوصول إلى أنَّ الفلاسفة الذين يعتبرون المحسوسات والمجرّبات و... بديهيّاتٍ ويقينيّاتٍ، لم يُدقّقوا في جوانب المسألة، وإن كنّا علمنا نحن من خلال الدراسة والتحليل أنَّهم اشتبهوا، فمن هنا وصاعدًا لا ينبغي أن نُفكّر مثلهم أو حتّى أن نتوقّف في الطريق الذي وصلنا من خلاله إليها بشكلٍ منطقيٍّ.

ثالثًا: القضايا التي عددناها مستندًا للمعرفة ولمبادئها، يعني: «الوجدانيّات» و«الأوّليّات» هي القضايا التي انتصرت في صراع النقض والتعديل في جدول البديهيّات وبقيت في الجدول بل حتّى[1] فلاسفة الغرب يقبلون نوعًا ما بقضايا من قبيل « أنا أشعر بالخوف» ـ قضيّةً وجدانيّةً ـ و«الألف، هي ألفٌ» ـ قضيّة تحليليّةً أوّليّةً ـ وحتّى إذا لم يقبلوا أيضًا، فلن يوجدوا شكّاً في تصديقنا لبداهتها، والآن أيضًا حيث إنّهم ـ الفلاسفة الغربيّين، والفلاسفة الإسلاميين، و... ـ يوافقون على هذه القضايا، فتصديقنا ببداهة «الأوّليّات» و«الوجدانيّات» لا يستند إلى قبولهم منطقيًّا، ولا ينبغي أن يكون.

رابعًا: إذا أردنا الاستناد إلى «البديهي» في مباحثتنا مع الآخرين، فإذًا إذا واجهنا الخصم في بعض المَواطن بأنَّه لا يعتبر إحدى القضايا بديهيّةً، فإذًا بمقتضى المَواطن، يكون أمامنا ثلاث طرق:

(215)

1. في بعض المَواطن، يمكن لنا أن نبيّن ونوضّح له القضيّة ببيانٍ تنبيهيٍّ أو بالاستدلال، وبالطبع ترتبط هذه الحالة بتلك المجموعة من البديهيّات القابلة للاستدلال، وكما ذكرنا في المرحلة الأولى من المنزل الرابع للشكوكيّة، فإنّ «البديهيّات» على قسمين: بديهياتٌ قابلةٌ للاستدلال وبديهيات غير قابلة للاستدلال، وبالتالي نقول هنا: تلك المجموعة من البديهيّات القابلة للاستدلال يُمكن فرضها نظريّةً، ومن ثمَّ إثباتها للخصم.

2. هناك طريقٌ آخرُ يمكننا سلوكه، عندما تكون القضيّة من تلك المجموعة من القضايا التي لا يمكن الاستدلال عليها وهو طريق الجدل، وبالتالي في هذا الموقف يمكن الاستفادة من الجدل وتنبيه الخصم على بداهة البديهيّ، ونعلم بأنَّ الجدل أحيانًا يُستخدم لأجل إيصال شخصٍ إلى الحقّ، كما كتب ابن سينا حيث قال:

للجدل فوائدُ: إحداها هو أنّه إذا كان هناك مُتطفّلون يدّعون بأنّهم يمتلكون علمًا، أو كان هناك أشخاصٌ يمتلكون مذاهبَ باطلةً...، فمن خلال الجدل يُمكنك أن تكسرهم، والأخرى أنّه إذا كان هناك أشخاصٌ يطلبون الحقّ كي يعتقدوا به،... ولم يُمكن إثباته من خلال البرهان، فيُمكنك إقناعهم من خلال سبيل الجدل والمشهورات... [1].

3. ينبغي من خلال الاستعانة بالمنطق العملي حيثما لم يكن بديهيُّنا من البديهيّات التي يمكن الاستدلال عليها، وكان طريق الجدل مسدودًا أيضًا، القيام بتنبيه الخصم على بداهة البديهي، وقيد المنطق في «المنطق العملي» هو لأنّ مرادنا هنا ليس أذيّة خصمنا بل صديقنا، وإنّما نريد أن ننبّهه بشكلٍ منطقيٍّ عن طريق العمل، وقد كتب ابن سينا حول هذا الأمر ما يلي:

(216)

وأمّا المُتعنّت فينبغي أن يكلّف شروع النار [=دخول النار]، إذ النار واللا نار واحدٌ وأن يُؤلم ضربًا، إذ الوجع واللا وجع واحدٌ، وأن يُمنع الطعام والشراب، إذ الأكل والشرب وتركهما واحدٌ[1].

المقام الثالث: الآن وصل الدور إلى محاكمة أنّه هل واقعًا بداهة قضيّةٍ بديهيّةٍ هي أمرٌ بديهيٌّ أم نظريٌّ، وإذا كان بديهيًّا فمن أيّ أقسام البديهيّات هو؟

بناءً لما ذكرناه في المقام الأوّل، يتّضح بأنّه لا يُمكن لنا أن نعتبر قضيّةً من جهةٍ بديهيّةً، ثمّ نشكّ من جهةٍ أخرى في بداهتها، وحتّى لو أنّ شخصًا قَبِل ببداهتها على أساس الفرض، فعندها عَدُّها نظريّةً مرّةً أخرى مخالفٌ لفرضه الأوّل، والنتيجة هي أنّنا إذا فرضنا قضيّةً على أنّها بديهيّةٌ، فعلينا أن نفترض ما وراء القضيّة بديهيًّا أيضًا.

الآن وقد علمنا أنَّ «ما وراء قضيّة البديهيّات» هو قضيّةٌ بديهيّةٌ، إذًا وصل الدور إلى أن نحكم بأنّها من أيِّ أقسام البديهي هي؟ ولا بدّ من الإشارة إلى أنّنا قد ذكرنا في المرحلة الأولى من المنزل الرابع للشكوكيّة بأنَّ بداهة القضيّة ترجع إلى بداهة التصديق في نهاية الأمر؛ لأنَّ القضيّة تكون بديهيّةً بسبب كون التصديق بها بديهيًّا، وبالتالي لأنّنا نعلم أن بداهة القضيّة ستتبدّل إلى بداهة التصديق بالقضيّة (أي فهم صدق القضيّة)، لذا فإنّنا نقول الآن ما يلي: حيث إنّ «التصديق» أمرٌ ذهنيٌّ، و«البداهة» كذلك أمرٌ ذهنيٌّ، بالتالي إذا طرح أحدهم سؤالًا بهذا الأسلوب: [التصديق بـ (قضيّة p بديهيٌّ) كيف يكون تصديقًا؟] فسوف نجيب كالتالي: إنَّ التصديق، تصديقٌ وجدانيٌّ، وبالتالي ستكون النتيجة: إنَّ «ما وراء قضيّة البديهيّات» التي ترجع بالمآل إلى التصديق بالقضيّة البديهيّة، هي قضيّة بديهيّةٌ وجدانيّةٌ.

(217)

وقد تعرّض القدماء لهذا البحث جملةً وتفصيلًا[1]، فقال البعض: إذا قلنا: بداهة البديهيّ نظريّةٌ، فهذا الأمر مخالف لبداهته، «... وإلّا لصار البديهيّ نظريًّا»[2]، فإذًا يجب القول: بداهة البديهيّ كنفس البديهي هو من البديهيّات، والآن وقد عرفتم أنَّ «بداهة البديهي» هي من البديهيّات، يجب أن نرى مِن أيّ أقسام البديهيّات هي.

قال بعض القدماء: بداهة البديهي من الأوّليات: «بداهة البديهي كعلم العلم منها [ من الأوّليات] وهو الحقّ»[3]، ولكن الآخرون ناقشوا هذا الأمر، واعتبروا بداهة البديهي من «الوجدانيّات».[4] وقد كتب الحكيم السبزواري ما يلي:

علم الإنسان بعالِميته بديهيٌّ وجدانيٌّ، والعلم المطلق جزء هذا المقيّد، وجزء البديهيّ بديهيٌّ[5].

ونتيجة ذلك: أوّلًا: إنّ ما وراء قضيّة البديهيّات هو قضيّةٌ بديهيّةٌ لا نظريّةٌ، ثانيًا: ما وراء قضيّة البديهيّات كما فصّلنا من الوجدانيّات.

العبور عن المنزل السادس للشكوكيّة:

المعرفة وجرّة نوزيك[6]:

(ع. م ـ 6): إلى هنا تمّ العبور من المنازل الخمس للشكوكيّة، والآن وصلنا إلى «المنزل السادس» المعروف بـ «جرّة نوزيك»، وفي الفصل السابق

(218)

تطرّقنا لتقرير «جرّة نوزيك»، والآن سنسعى كي نعبر أيضًا هذا المنزل، لنراقب إمكان المعرفة في «جرّة نوزيك»، والجدير بالذكر هنا، أنَّ موقف «جرّة نوزيك» في ساحة نظريّة المعرفة المعاصرة هو بنحوٍ إذا أردنا دراسة كافّة أبعادها وجوانبها بصورةٍ موسَّعةٍ، فسوف يطول الحديث، وسيزول الاتساق والتناسب بين هذا المنزل وسائر منازل الشكوكيّة، ولهذا، سنطوي طريقًا مختصرًا في الإجابة على «جرّة نوزيك»؛ لأنَّ تفصيل البحث حول هذا الأمر يستحقّ رسالةً مستقلّةً، ولكن في الوقت نفسِه سنسعى إلى تحديد «نقطة القوّة في جرّة نوزيك»، وسنطرح إجابةً دقيقةً عليها نسبيًّا.

نظرةٌ مجدّدةٌ إلى جرّة نوزيك: قبل أن نبدأ بالإجابة على جرّة نوزيك، يجب أن نلقي مجدَّدًا نظرةً على تلك الجرّة وبهذه الرؤية يتمّ تحديد موقع النزاع وندرسه، كي نتمكّن من الإجابة بما يتناسب مع الإشكال.

وقد ذكرنا في الفصل السابق بأنّ روبرت نوزيك[1] تطرّق في كتاب التفسيرات الفلسفية[2] لتقرير نوعٍ من الشكوكيّة من أجل الدفاع عن «حقّ الشكاك»[3] وكان هذا التقرير محلّ اهتمامٍ كبيرٍ من قِبل علماء نظريّة المعرفة، وقد تحدّث العديد حوله نقدًا وتأييدًا، ثمَّ انبرى للإجابة على الشكوكيّة التي قرّرها بنفسه، ولكن بالطبع كان جوابه محلّ نقد علماء نظريّة المعرفة، وفي الواقع يمكن القول: كان نوزيك موفَّقًا في تقرير «شكوكيّة الجرّة»، ولكنّه أخفق في الإجابة عليها، فبقينا الآن نحن والجرّة، تلك الجرّة التي بناها نوزيك تبعًا لديكارت وآخرين، ثمَّ سقط هو نفسه فيها.

لقد استخدم نوزيك في تقرير الشكوكيّة «أصل الانحصار»[4] يعني

(219)

 

مراجعة الكتاب 

 

«أصل البقاء ضمن محدوديّة الملازمات المعلومة»[1] التي أسميناها اختصارًا «حلقة الملازمة» وقد بيّن «أصل الانحصار» أو «حلقة الملازمة» عبر المعادلة التالية:

1) [(kap " kaq) & kap] " kaq

2) ~kaq " [(kap " kaq)& kap]

3) ~kaq " [kap " kaq] v~ kap

وكما نلاحظ، الصورتان 2 و3 هي في الواقع معادلةٌ ومساويةٌ للمعادلة الأولى.

ورسالة هذه المعادلة هي: إذا بقيتَ محصورًا في «أصل الانحصار» وحوصرت في «حلقة الملازمة» فعليك أن تلتزم بلوازمها بالضرورة، وكمثالٍ على ذلك: أنتَ «تعلم» أنّك الآن تجلس في مكانٍ ما وتُطالع كتابًا فلسفيًّا، تعلم أنَّك في «جرّة نوزيك» لا تحلم، أو أنَّك لست في قبضة خدعة الشيطان، أو أنَّك لست بحاسوبٍ تشغل برنامجًا وفقًا للبرنامج المصممة مسبقًا الأعم من كونها صحيحةً أو باطلةً! ومن حيث إنّك لا تعلمها ـ بمقتضى حلقة الاستلزام ـ فإذًا لا تعلم أنّك الآن مشغولٌ أيضًا بقراءة كتابٍ فلسفيٍّ، كما أنَّك لا تعلم بأنّ «2+2=4»، وهكذا سائر القضايا.

وهنا، سنتناول تحليل «طبقات جرّة نوزيك» من أجل أن نتعرّض لنقد ودراسة «جرّة نوزيك» مع مزيدٍ من الاطلاع.

طبقات جرّة نوزيك: بالبحث والتأمل حول «جرّة نوزيك» يمكننا أن نُحدّد ثلاث طبقاتٍ لها:

1. طبقة الرؤيا: هذه الطبقة، في الواقع هي توضيح لـ «أصل

(220)

الانحصار»، يعني: «البقاء في محدوديّة الملازمات المعلومة» على أساس النوم والرؤيا، وهذه الطبقة تبيّن فرضيّة هويّة رؤيا إدراكات البشر، والبحث من الأساس حول العلاقة بين الرؤيا والمعرفة هو بحثٌ ذو جذورٍ كان القدماء يهتمّون به، وكما نقلنا في الفصل السابق، هناك نماذجَ من هذا الفرض للغزالي والفخر الرازي وديكارت، والآن كذلك يستمرّ هذا الفرض الذي يُمثّل مناقشةً حول المعرفة في محافل الفلسفة ونظريّة المعرفة تحت عنوان: «الرؤية والشكوكيّة»[1][2].

طبقة الرؤيا في جرّة نوزيك، هي في الواقع بصدد التشكيك في وثاقة الإدراكات على أساس احتمال كون الرؤيا هي الموقعيّة الإدراكيّة، يعني: لأنَّك لا تعلم أنَّك لست نائمًا، الآن إذًا لا تعلم أنَّ الوقت الآن نهارٌ أو أنَّ 2+2=4، وهكذا.

2. الطبقة الشيطانيّة: طبقة جرّة نوزيك عرفت بـ «طبقة الشيطان» لكونها مبنيّةً على خداع الشيطان والموجود المخادع الذي بصدد أن يُوقع الإنسان في إدراكاته بالخطأ، فأنت لا تعلم أنَّ الوقت الآن نهارٌ؛ لأنَّك لا تعلم إذا ما كان هذا الإدراك لم يُلقه إليك الشيطان أو أيّ موجودٍ شريرٍ مخادعٍ آخر، وكانت هذه الطبقة محل اهتمام السابقين أيضًا، والآن كذلك هي محلّ حديثٍ في محافل الفلسفة ونظريّة المعرفة.[3]

3. طبقة الحاسوب: هذه الطبقة من جرّة نوزيك هي في الواقع طبقةٌ مستحدثةٌ، أضافها «الشكّاكون المعاصرون» على الطبقات الأخرى بعد

(221)

صناعة «آلة تورنغ» و«الذكاء الصناعي» والحاسوب، ومفاد هذه الطبقة هو أنّه على سبيل المثال: إنّك لا تعلم إن كان الوقت نهارًا؛ لأنَّك لا تعلم أنَّك لست حاسوبًا تمّ برمجته على يد مُبرمجٍ.

فرعان: لطبقة الحاسوب لجرّة نوزيك فرعان:

أ. فرع الأداة: لو أنّك كنتَ حاسوبًا تمّ برمجته على يد مهندس برمجةٍ، إذًا فأنت لستَ أكثر من أداةٍ تُجري برنامجًا، فإذًا كيف يمكنك أن تمتلك «معرفةً»؟

ب. فرع الخداع: إذا كنت لا تعلم أنَّك لست من تصميم مهندسٍ مخادعٍ بالجبر، بحيث يلقي إليك خداعه في قالب برامجَ، فأنت من الناحية المنطقيّة لن تمتلك معرفةً.

وكما لاحظنا، يعتبر فرع الأداة من طبقة حاسوب جرّة نوزيك، أنّ فرض كون البشر أدواتٍ موجبًا لنفي المعرفة، ويعتبر فرع الخداع فيها (أي احتمال خداع المهندس المبرمج) باعثًا على المناقشة في وثاقة إدراكات البشر.

وبذلك، فمن أجل العبور عن هذا المنزل من الشكوكيّة، يعني: جرّة نوزيك، ينبغي العبور عن المراحل السابقة؛ أوّلًا: إثبات أنَّ الإنسان ليس مجرّد أداةٍ عمياءَ كجهاز الحاسوب تمّ تصميمها قهرًا بواسطة مهندسٍ مبرمجٍ؛ ثانيًا: البحث في العلاقة بين إدراكاته والرؤيا والحلم ما هي؛ ثالثًا: دراسة هذا الاحتمال، وهو هل يستطيع الإنسان أن يدّعي أنّ لديه إدراكاتٍ مصونةً عن أيِّ نوعٍ من الخداع، ويلازم الصدق ضرورة أم أنَّ مثل هذا الأمر محالٌ؟ ولكن قبل أن نتطرق للإجابة على «جرّة نوزيك»، سنلقي نظرةً سريعةً على بعض المحاولات المنجزة بهدف الخلاص من هذه الجرّة ومن ثمَّ سننظر إلى هذه الإجابات بعينٍ ناقدةٍ، وسنسعى بعد ذلك لنعبر هذه الجرّة.

(222)

جرّة نوزيك والإجابات المتنوعة: لقد عمد الفلاسفة وعلماء نظريّة المعرفة من أصحاب المشارب المختلفة إلى الإجابة على جرّة نوزيك بصورها الظاهريّة المتنوعة، وكانت هذه الإجابات في العصور السابقة مرتبطة بشكلٍ عامٍّ بطبقة الرؤيا والطبقة الشيطانيّة لجرّة نوزيك، ولكن علماء المعرفة المعاصرين يسعون للإجابة أيضًا على طبقة الحاسوب لجرّة نوزيك وهي طبقةٌ مستحدَثةٌ. وهنا سنتطرق لبعض النماذج من الإجابات المطروحة حول جرّة وزيك في صورها المختلفة.

لم يكن أبو حامد محمّد الغزالي الذي سقط يومًا في هذه الجرّة، قد عثر على إجابةٍ نظريّةٍ تُنجيه من هذه المشكلة، ولكن في نهاية المطاف خلّصه الله بهدايته من هذه الجرّة، حيث كتب عن ذلك ما يلي:

فلمّا خطرت لي هذه الخواطر، انقدحت في النفس، فحاولت لذلك علاجًا فلم يتيسّر إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يكن نصب دليل إلّا من تركيب العلوم الأوليّة، فإذا لم تكن مسلّمةً، لم يُمكن ترتيب الدليل... حتّى شفى الله تعالى عن ذلك المرض وعادت النفس إلى الصّحة والاعتدال ورجعت الضروريّات مقبولةً موثوقًا بها على أمنٍ ويقينٍ، ولم يكن ذلك بنظم دليلٍ وترتيب كلامٍ، بل بنورٍ يقذفه الله في الصدور، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف[1].

وبعد أن استعمل ديكارت «الشكّ المنهجي» في التأمل الأوّل من كتاب التأملات بهدف الوصول إلى اليقين ما وراء الطبيعة، يعني: اليقين المنطقي، ووقع هو نفسه في طبقة الرؤيا وطبقة الشيطان لحلقة الملازمات كان في التأملات التالية بصدد أن يحرّر نفسه من الشكّ الذي بناه بنفسه، وانطلق من قضيّة «أنا أفكر إذًا أنا موجودٌ» وجعلها نقطة قوّةٍ لفكره، فكتب:

(223)

كان أرخميدس يطالب بنقطة ثابتةٍ وباعثةٍ على الاطمئنان من أجل اقتلاع كرةٍ ترابيّةٍ ونقلها من مكانٍ إلى آخرَ؛ وأنا أيضًا إن حالفني الحظّ وحُزت على أمرٍ يقينيٍّ غير قابلٍ للشكّ، فلي كلّ الحقّ أن أمتلك أرقى أمل...، ولكن قبل هذا، أقنعتُ نفسي أنَّه لا شيءَ في الوجود: لا سماويًّا ولا أرضيًّا ولا نفسانيًّا ولا بدنيًّا، ولكن هل حصّلت اليقين بأنّي غيرُ موجودٍ؟ أبدًا! فلو حصّلت الاطمئنان تجاه شيءٍ أو مجرّد أن فكرت حول شيءٍ، فلا شكّ أنّي موجودٌ، ولكن لا أعلم أيّ مخادعٍ مقتدرٍ ومتلاعبٍ جدًّا يستخدم كافّة مهاراته لخداعي؛ في هذه الحال، عندما يخدعني هذا المخادع، فلا شكّ أنّي موجودٌ، ومهما سعى لخداعي فلن يتمكن من تحقيق شيءٍ، ففي حين أنّي أفكر أنّني شيءٌ موجودٌ أكون معدومًا...، وبالتالي يجب التوصل إلى هذه النتيجة وممّا لا شك فيه أنَّ قضيّة «أنا موجودٌ» صادقةٌ بالضرورة[1].

إذًا يبدأ ديكارت من قضيّة «أنا أفكر إذًا أنا موجودٌ» ليصل إلى قضيّة «أنا موجودٌ» التي لا ينفع بها حتّى خداع الشيطان، ثمّ يُحدّد معيار صدقها أيّ «الوضوح» و«الاختلاف»، ويبني آلته المعرفيّة على أساس هذين المعيارين الذين تمّ بيانهما مفصلًا في الفصل الخامس.

وبعد ديكارت تناول الفلاسفة وكثيرٌ من علماء المعرفة، وكلّ وفق مشربه الخاصّ وبمقتضى رأيه في «المعرفة» و«التبرير» الإجابة على «شكوكيّة الجرّة» خصوصًا في صورتيها الرؤيا والشيطانيّة أو يمكن اصطياد إجابةٍ بناءً على مبانيهم الفكريّة حيث سيطول الحديث إذا قمنا بنقلهم وبيانهم، ولذا سنكتفي بالإشارة إليهم فقط.

لو أنّنا عرفنا سبب تعرّض علماء المعرفة الغربيّين لمسألة الشكوكيّة من

(224)

ديكارت إلى كانط ومن كانط إلى زماننا هذا، لأمكننا الادعاء في الجملة بأنّ المذاهب التي مدّت عنقها نوعًا ما من أجل تبرير المعرفة كانت متورّطةً بطريقةٍ ما في «شكوكيّة الجرّة»، وكما لاحظنا في الفصل الخامس فإنّه لـ «التبرير» أنواعٌ متنوّعةٌ وشواكلُ مختلفةٌ، فعلى سبيل المثال: مدرسة «الحسّ العامّ»[1] التي صنعها توماس ريد[2] وجورج إدوارد مور[3]، تقابل «الشكوكيّة» بالأسلوب نفسِه الذي تتعرّض فيه لـ «تبرير المعرفة»، وقد تعرّفنا على مدرسةٍ أخرى كذلك في الفصل الخامس وهي مدرسة «الخارجيانيّة»[4]، وهذه المدرسة التي هي إحدى «شواكل التبرير»، وهي لا تتعرّض لتبرير المعرفة عن طريق الخارجيانيّة وحسب، بل هي بصدد التطرّق لمواجهة الشكوكيّة من خلال هذا الطريق وأرادت بمساعدة نوزيك نفسه مواجهة الشكوكيّة التي بناها هو بنفسه عن طريق تبرير الخارجيانيّة المبنيّة على نظريّة الشرطيّة، ولكن هذا الطريق لم يكن مقبولًا نوعًا ما لدى علماء المعرفة دقيقي النظر، ولم يجعل الشكوكيّين راضين،[5] فأسلوب الحلّ الذي انتهجه نوزيك لمواجهة الشكوكيّة، هو اليوم محلّ حديثٍ كبيرٍ في كتب نظريّات المعرفة، وقد أعدنا طرحه بإيجازٍ في الفصلين الخامس والتاسع.

وبالأساس مواجهة الشكوكيّة ومن جملتها شكوكيّة الجرّة، لها جوٌّ آخرُ، فقد دوّن جيلبرت هارمن في كتاب الشكوكيّة وتعريف المعرفة[6] (وهي رسالةٌ دُوّنت بمساعدةٍ من نوزيك) تقريراتٍ عن أساليب الحلّ

(225)

الحديثة لمواجهة الشكوكيّة، وبعض أساليب الحلّ لمواجهة الشكوكيّة تُبدي الشكوكيّة على أنَّها «بلا معنًى»، فمثلًا: كواين مؤسّس مدرسة «الكلانيّة»[1] والذي يُبرّر الصدق على أساس الشاكلة المفهوميّة، يعتقد بأنّ الشكوكيّة التي على أساس شاكلتنا المفهوميّة بلا معنًى وغيرُ معقولةٍ وحتّى «تهزم ذاتها بذاتها»[2]، كما أنّ بوتنم[3] مال إليها بصورةٍ مختلفةٍ.[4] ويعتقد هارمن تبعًا لنوزيك بأنّ الشكوكيّة معقولةٌ ولا يمكن نفيها بناءً على أصل «امتلاك المعنى»، ولكنّها ليست جديّةً إلى ذلك الحدّ؛ إضافة إلى أنّنا يُمكن أن نستدلّ أنَّ فرضَنا أفضلُ من فرض الشكوكيّ؛ لأنَّه أبسطُ ويحتاج لبيانٍ أقلَّ، ومن هذا المنطلق، يستنتج هارمن بأنّه على الرغم من أنَّ «الشكوكيّة» معقولةٌ في حدّ ذاتها ولكن حيث إنّ بيان أحداث العالم وفق نظريّة الشكوكيّة صعبٌ ويحتاج إلى بيانٍ أكثرَ، فإذًا ينبغي ألّا نأخذها بصورةٍ جديّةٍ وأن نضعها جانبًا ببساطةٍ، ثمَّ استخدم هارمن مثالًا لتوضيح مراده؛ افرضوا، أنّنا نقول: «ظهر الكون قبل ألفَيْ عام» ولكن على سبيل المثال الشكّاك يقول: «ظهر الكون قبل خمس دقائقَ» وهنا لو أخذنا «كافّة الحوادث التي حلّت في الكون» بعين الاعتبار، فهل من الممكن أن تكون قد وقعت كافّة هذه الحوادث في الخمس دقائق السابقة؟ ومن هنا يستنتج هارمن ما يلي: الشكوكيّة معقولةٌ ولكنْ غيرُ مبرّرةٍ بالنسبة إلى فرضيّتنا، فإذًا هي غيرُ جديّةٍ ولا ينبغي أن نأخذها على محمل الجدّ! ولا «شكوكيّة الجرّة» هي شكوكيّةٌ لا ينبغي أن نعتبرها جديّةً أيضًا[5].

(226)

كانت هذه نظرةً عامّةً على الإجابات، التي طرحها علماء المعرفة الغربيّون على «جرّة نوزيك»، وفي ما يلي سننظر إلى هذه الإجابات نظرةً نقديّةً بنحوٍ موجزٍ.

نقدٌ وتحقيقٌ: كما لاحظنا، لقد أُعطيت إجاباتٌ متنوّعةٌ منذ الأزمنة السابقة إلى اليوم على «جرّة نوزيك» أو على «شكوكيّة الجرّة»، وتنوّع الإجابات في الواقع يُبيّن نوع نظرة المُجيبين على مسألة «المعرفة» و«التبرير» وكذلك «أسلوب التعامل مع الشكوكيّة»، وكما أعدنا القول في الفصل الخامس بالتفصيل، ينظر علماء المعرفة المعاصرين الغربيّين إلى «المعرفة» وكذلك إلى «التبرير» بنوعٍ من التسامح، وهنا أيضًا رأينا كيف أشار هذا التسامح إلى نفسه في نوع المواجهة للشكوكيّة، ولكن كما بيّن في الفصل الخامس، «المعرفة» (أي المعرفة التصديقيّة بالمعنى الأخصّ) هي عبارةٌ عن «التصديق الجازم المطابق للواقع غير القابل للشكّ منطقيًّا» و«التبرير» كذلك هو تلك الطريق التي أوصلتنا لمثل هذه المعرفة بنحوٍ منطقيٍّ، إذًا نقول هنا: الإجابة المنطقيّة على الشكوكيّة أيضًا هي أن نشير إلى طريقٍ يدفع الشكوكيّة بنحوٍ منطقيٍّ، والآن إذا نظرنا إلى «المعرفة» و«التبرير» و«أسلوب مواجهة الشكوكيّة» بهذه النظرة، سنرى أنَّ أسلوب الحلول التي طرحت للإجابة على الشكوكيّة، لو كان الشكّاك شكاكًا منطقيًّا، لنظر إلى هذه الإجابات بسخريّةٍ، وبالطبع من الإنصاف القول بأنّ ديكارت سار بطريقةٍ منطقيّةٍ إلى حدٍّ ما، على الرغم من أنَّ هذا الطريق المنطقي لم ينته بنجاحٍ في آخر المطاف، وهكذا ينبغي أن نسعى خلف إجابةٍ تستطيع أن تجيب على «شكوكيّة الجرّة» بنحوٍ منطقيٍّ.

جرّة نوزيك وإجابتان من معاصرين: وهنا من المناسب أن نشير إلى إجابتين من فردين من الباحثين المسلمين التي طرحوها في الإجابة على جرّة نوزيك:

(227)

1. في كتاب الشكوكيّة (نقد على الأدلة) ذُكِرَ في الإجابة على جرّة نوزيك ما يلي:

هذا الاستدلال مبنيٌّ على أصل البقاء ضمن حدود الملازمات المعلومة، وعلى الأقل أن يكون لدينا علمٌ ومعرفةٌ بهذا الأصل... والمسألة التي تُطرح هنا هي أنّه: ما هي أهميّة أن يكون دماغنا في الجرّة أو لا يكون، فالمهم هو أن نعثر عليه في الواقع وأن تكون معلوماتي متطابقةً مع الواقع، سواءً أعثرتُ عليهم بشكلٍ مباشرٍ، أم أُلقيت عليّ إلقاءً،... ولذلك لا فرق بالنسبة لنا كيف تكون أوضاعنا وشروطنا الواقعيّة، فالشكوكيّ أيضًا لن يستطيع أن يحصل على نتيجةٍ مفيدةٍ له من هذا الاختلاف[1].

2. وأيضًا في كتاب نانمائي وشكاكيت ونسبيت گرائى [= عدم الظهور والشكوكيّة والنسبيّة]، طُرح نقدٌ دقيقٌ نسبيٌّ لردّ شبهة نوزيك:

تَرِدُ إشكالاتٌ على استدلال نوزيك على عدم إمكان المعرفة بالنحو التالي:

أ) في القضايا الشرطيّة التي نظم نوزيك استدلاله على أساسها، هناك مُقدّمٌ (شرطٌ) وتالٍ (جزاءٌ)، ومقدّمها مركّبٌ من معرفتين: المعرفة بالملازمة بين الوجود في المكان X وعدم الوجود في تلك الجرّة، والثاني المعرفة بالوجود في المكان X، وتاليها مشتملٌ على معرفةٍ واحدةٍ فقط، يعني: معرفة عدم الوجود في تلك الجرّة، وبناءً لقانون عكس النقيض في القضايا الشرطيّة، فنقيض التالي للقضيّة الشرطيّة

(228)

مُلازِمٌ لنقيض المُقدَّم، وبناءً على هذا، ففي القضايا الشرطيّة التي هي محل استناد السيّد نوزيك، عدم الاطلاع على تالي هذه القضيّة، يلازم عدم معرفة مقدَّمها؛ ولكن ـ كما ذُكر ـ مُقدَّم هذه القضيّة الشرطيّة مُركّبٌ من نقطتين: إحداهما المعرفة بالوجود في المكان X وعدمه في الجرّة والمعرفة بالوجود في المكان X؛ ولذلك عدم الاطلاع على التالي، ينفي المعرفة بهذا المركّب الشامل للنقطتين؛ وأمّا عدم الاطلاع على المجموعة المركبة من القسمين، هي تقبل الفرض في واحدةٍ من الحالات الثلاثة التالية: الأولى هي أن نكون مُدركين للنقطة الأولى ولكن غير مدركين للنقطة الثانية؛ والأخرى هي أن نكون مدركين للنقطة الثانية وغير مدركين للنقطة الأولى، والثالثة هي أن نكون غير مدركين لكلا النقطتين. وفي كلٍّ من هذه الحالات الثلاثة، نحن لا نكون مدركين لهذه المجموعات المركّبة من قسمين؛ لأنَّ إدراك مجموعةٍ يحصل نتيجةً لإدراك كافّة أجزائها، إذًا بما أنَّك لا تعلم أنَّك في الجرّة، لذا لا تستطيع أن تحصل على نتيجةٍ بأنّي لا أعلم أنّي موجودٌ في المكان X؛ لأنّك عندما لا تكون مدركًا باستقراره في الجرّة، يُمكنك أن تقول فقط بأنّه ليس الأمر أنّي مدرك لـ «الملازمة بين الوجود في المكان X وعدم الوجود في تلك الجرّة وكذلك الوجود في المكان X»، ولكن كي لا تكون مُدركًا لهذه المجموعة، لا يلزم أن تكون غير مدركٍ للوجود في المكان X أيضًا؛ لأنَّ عدم إدراك هذه المجموعة يُمكن أن يتحقّق مع عدم الإدراك في القسم الأوّل والإدراك في القسم الثاني، ولذلك مع عدم إدراك الوجود وعدم الوجود في تلك الجرّة لا يمكن استنتاج عدم إدراك التواجد في المكان X لزومًا.

ويمكن أن يقال: إنّنا نعلم بصورةٍ بديهيّةٍ أن وجودنا في المكان X يستلزم عدم وجودنا في تلك الجرّة، إذًا في هذه النقطة (وهي القسم الأوّل من تلك المجموعة المركّبة) الإدراك مُحقَّقٌ، ومن هنا،

(229)

كي نصبح مُدركين لتلك المجموعة لا يتبقّى سبيلٌ سوى أن نقول: إنّنا غير مدركين لأمر الوجود في المكان X، ولهذا استنتج السيّد نوزيك من عدم إدراك الوجود في تلك الجرّة عدم إدراك الوجود في المكان X.

وفي الإجابة على هذا الاحتمال نقول: في هذه الحالة، أوّلًا: أنتم والسيّد نوزيك قد اعترفتما على الأقل بوجود إدراكٍ واحدٍ وهو أنّنا نُدرك أنّ الوجود في المكان X يتلازم مع عدم الوجود في تلك الجرّة؛ وثانيًا: استدلال نوزيك على عدم الإدراك، يعود إلى أنّه يريد أن يُثبت بالاستناد إلى إدراكٍ واحدٍ أنّه لا وجود للإدراك، والذي هو في حدّ ذاته تناقضٌ؛ لأنَّه إذا كان لا وجود لأيّ إدراكٍ، إذًا كيف حصلت على إدراك يتعلّق بالتلازم بين الوجود في المكان X وعدم الوجود في تلك الجرّة؟ وإذا كان الإدراك موجودًا، فلِمَ نُنكره ونقيم الدليل على عدمه؟!

ب) على فرض أنّنا قبلنا أنَّه يلزم من عدم إدراك الوجود في تلك الجرّة، عدم إدراك الوجود في المكان X، فليست نتيجته عدم إدراك أمورٍ أخرى؛ لأنَّه يلزم من عدم إدراك الوجود في تلك الجرّة عدم إدراك الوجود في ذلك المكان X، وذلك لأجل الملازمة بين الوجود في المكان X وعدمه في تلك الجرّة (كما تمّت الإشارة إليه في استدلال نوزيك)؛ لذا عندما يعلم الإنسان أنَّه موجودٌ في المكان X، يستنتج فورًا أنَّه ليس في تلك الجرّة؛ لأنَّ الوجود في المكان X يستلزم عدم الوجود في تلك الجرّة؛ وأمّا لو لم تكن ملازمةٌ بين شيءٍ آخرَ وبين عدم الوجود في تلك الجرّة، لا يمکن استنتاج تحقّق ذلك الشيء من عدم الوجود في تلك الجرّة، فمثلًا: لو علمت أنّك أبيضُ البشرة، فلا يمكنك إستنتاج أنَّك لست في تلك الجرّة؛ لأنَّه لا ملازمة بين البشرة البيضاء وعدم الاستقرار في تلك الجرّة، وعندما لا تتوفّر مثل هذه الملازمة فلا تستطيع أن تستنتج من كونك لا تعلم أنَّك في تلك الجرّة أم لا، أنّك لا تدرك كونك أبيضَ البشرة.

(230)

وببيان آخر: لأنَّك تعلم عدم التناسب بين الاستقرار في المكان X والاستقرار في تلك الجرّة، لذا كلّما علمتَ أنَّك مستقرٌّ في المكان X، تستنج فورًا حكم عدم التناسب ذاك، وأنّك لست في الجرّة، وبالعكس إذا كنت لا تعلم أنّك لست في تلك الجرّة، لا تستطيع أن تمتلك إدراكًا يقينيًّا بالنسبة إلى الاستقرار في المكان X؛ لأنَّ كلّ مقدارٍ من الاحتمال تمنحه للوجود في تلك الجرّة، ينقص بالقدر نفسه من إدراكك وثقتك بالنسبة إلى الوجود في المكان X، وهذا ليس إلّا بسبب عدم التناسب بين الاستقرار في المكان X والاستقرار داخل الجرّة، وبناءً على عدم التناسب هذا، نجد أنّ احتمال الوجود في طرفٍ ما يُساوي احتمال عدم الوجود في الآخر؛ ولذلك عدم الإدراك اليقيني لطرفٍ يبعث على عدم الإدراك اليقيني للطرف الآخر أيضًا، ولذا يُمكن أن نستنتج من عدم إدراك الوجود في الجرّة عدم الإدراك بالنسبة إلى الاستقرار في المكان X؛ ولذلك ما يُعتبر سببًا لعدم الإدراك بالنسبة إلى الاستقرار في المكان X هو نفسه عدم التناسب بين هذين الأمرين، وفي النتيجة حيثما لا يوجد تناسبٌ بين واقعيّةٍ ما (مثل كون البشرة بيضاءَ) وبين الاستقرار في تلك الجرّة، لا يمكن القول بأنَّه يمكن الاستنتاج من عدم الإدراك بالنسبة للاستقرار في الجرّة عدم الإدراك بكون البشرة بيضاءَ؛ لأنَّ عدم إدراك الأولى (الحكم بعدم التناسب) يقبل الجمع مع الإدراك الثاني؛ ولذلك على فرض أنّ استدلال نوزيك كان تامًّا، عندها يمكن فقط إثبات أنّه كلّما كان الإنسان غير مدركٍ بالنسبة إلى الاستقرار في تلك الجرّة، سيكون غير مدركٍ أيضًا بالنسبة للأشياء التي لا تتناسب مع الاستقرار في تلك الجرّة، وهذا الأمر إنّما يُثبت فقط عدم الإدراك لبعض الواقعيات، لا عدم الإدراك المطلق.

ج) سيتم الإثبات لاحقًا أنَّه محالٌ أن يخلو إنسانٌ من مطلق

(231)

الإدراك والمعرفة، وهذا سيتعارض مع استدلال السيّد نوزيك.[1]

جرّة نوزيك وإجابةٌ أخرى: سنسعى الآن لتقديم إجابةٍ أخرى على «شكوكيّة الجرّة» وعلى أساسها، سنَفصِل «الطبقات الثلاثة لجرّة نوزيك» عن بعضها بنحوٍ منطقيٍّ.

في البداية نُؤكّد على هذه المسألة، وهي أنَّ كلَّ إنسانٍ إذا رجع إلى باطنه فسوف يعثر على بابٍ له القدرة على التشخيص والحكم، وقد أوضحنا هذا الأمر بنحوٍ مفصَّلٍ في الفصل الأوّل تحت عنوان «الحاسوب والذهن»، واستنتجنا أنَّ الإنسان واجدٌ لحقيقةٍ أرقى من الآلة والأداة، وبالطبع ينبغي فهم حقيقة هذا الأمر بواسطة الداخلانيّة؛ لأنَّ «الفهم» منّا، فإذًا ينبغي أن نرجع إلى باطننا، وبما أنّنا نعود إلى أنفسنا فقهرًا سنجد أنفسنا واجدةً لـ «قدرة التشخيص»، وبالتالي سنتناول تخريب طبقات جرّة نوزيك بمعونةٍ من هذا التشخيص.

هدم طبقات جرّة نوزيك: لقد علمنا سابقًا بأنَّ «جرّة نوزيك» ذات طبقاتٍ ثلاثةٍ؛ أ. طبقة الرؤيا؛ ب. الطبقة الشيطانيّة؛ ج. الطبقة الحاسوبيّة؛ والآن سنُهاجم هذه الطبقات الثلاث بالترتيب من مِتْراسَيِ المعرفة الأماميّيْن، يعني: الوجدانيّات والأوّليات، وبذلك سنهزم «جرّة الشكوكيّة» بنحوٍ منطقيٍّ.

1. هدم طبقة الرؤيا: كما أشرنا أعلاه، سندافع هنا انطلاقًا من المِتْراسَيْن الأماميّين للمعرفة (يعني: الوجدانيّات والأوّليات)؛ لأنَّ المعارف الأخرى تقترض يقينها منهما، وإذا تمكنّا من تخليصهما من «شكوكيّة الجرّة» فسوف تكون المعارف النظريّة الأخرى مصونةً من وصولها إليهم، وفي البداية نُشير إلى أنَّ «النوم» أمرٌ نسبيٌّ، كما أشار الغزالي إلى هذا الأمر من

(232)

خلال النقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال:

لعل تلك الحالة هي الموت، إذ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الناس نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا، فلعلّ الحياة الدنيا نومٌ بالإضافة إلى الآخرة، فإذا مات ظهرتْ له الأشياء على خلاف ما شاهده الآن، ويقال له عند ذلك: فكشفنا عنك غطاءَك فبصرُك اليوم حديدٌ[1].

وقد كتب الملا صدرا ما يلي:

إنَّك في هذا العالم نائمٌ وإن كنت عارفًا، فالناس كلّهم نيامٌ فإذا ماتوا وانتبهوا انكشف لهم عند الانتباه بالموت حقائقُ ما سمعوه بالأمثلة[2].

وبذلك إذا حلّلنا «النوم» نستنتج أنَّ بالإمكان أن نعتبر المرحلة الإدراكيّة الخاصّة مندرجةً تحت عنوان «الرؤيا» بالنسبة إلى المرحلة الأخرى من الإدراك، ومن هنا يمكن أن نحسب «الدنيا» بالنسبة إلى الآخرة «نومًا»، ولكن المسألة التي تستحقّ الانتباه، هي أنَّ كلّ مرحلةٍ إدراكيّةٍ وإن كانت تُعتبر بالنسبة إلى المرحلة الأخرى «رؤيًا»، لكنّ كونها رؤيًا لن يصيب «المعرفة» بضررٍ في تلك المرحلة، إذًا في كلّ مرحلةٍ إدراكيّةٍ ولو كانت تسمى «رؤيًا» بالنسبة إلى المرحلة الإدراكيّة الأخرى، لكن مع ذلك يُمكن أن تكون ذاتَ قضايا بديهيّةٍ ونظريّةٍ، ومن هنا، يمكن أن يكون لنا في النوم «قضايا وجدانيّةٌ» حاكيةٌ عن حالاتنا النفسيّة في عالم الرؤيا، وأن نجد قضايا أوّليةً أيضًا يكفي تصوّر طرفيْها للجزم بصدقها، وأن يكون لدينا بتبعها قضايا نظريّةٌ أيضًا تصل إلى اليقين بناءً على إرجاعها إلى البديهيّات؛ ولذلك على

(233)

فرض أنَّ المرحلة التي نحن بها الآن هي «النوم»، فكذلك لن يلحق ذلك أيَّ ضررٍ بمباني المعرفة من هذه الناحية، ولن يسدّ الطريق للوصول إلى المعرفة اليقينيّة، أضف إلى ذلك مسألةً أخرى، وهي أنَّ «الرؤيا» هي حقيقةٌ في حدّ ذاتها في «كونها رؤيًا»، فالرؤيا مرحلةٌ من الإدراك، تتجلّى فيها أحيانًا حقائق العالم بصورٍ خاصّةٍ، وبهذه الطريقة، قد يكون تفسير المنام ممكنًا؛ وهنا التأمل والدقّة في تفاسير ابن سيرين وكذلك دراسة تفسير النبي يعقوب عليه‌السلام لمنام ابنه يوسف عليه‌السلام وكذلك تفسير النبي يوسف عليه‌السلام لمنام عزيز مصر التي ذُكرت في القرآن المجيد[1] والفصل بين أنواع المنامات ـ أضغاث الأحلام و... ـ عن بعضها يُمكن أن يقلّل هذا الاستبعاد منّا، فنعلم أنَّ الحلم هو حقيقةٌ في كونه رؤيًا، بل أحيانًا تتجلّى لنا حقائق العالم بصورةٍ خاصّةٍ في عالم الرؤيا؛ وكما أنّه من الممكن للأفراد الذين وصلوا إلى مرحلة الكشف والشهود أن يُشاهدوا بواطن الأفراد والحوادث بصورةٍ خاصّةٍ في قالبٍ شهوديٍّ وراء الحواس، مثلًا: يرون «أكل مال اليتيم» بصورة «أكل النار» حيث في الواقع يُشاهد باطن الأولى، كما ورد في القرآن المجيد:

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرً)[2].

وعلى كلّ حالٍ، فإنَّ مسألة الرؤيا من المواضيع المهمّة التي جلبت اهتمام علماء النفس، وجلبت اهتمام تفكير الفلاسفة إليها أيضًا[3]، ولكن ليس لدينا فرصةٌ للتعرّض لها أكثرَ من ذلك.

وبالمحصلة، إنَّه مجرّد أن يقع في مرحلةٍ خاصّةٍ من الإدراك بالنسبة إلى

(234)

المراحل الأخرى من الإدراك يُعتبر «رؤيا»، ولكنّه لا يُوجِد مانعًا في طريق «المعرفة»؛ لأنَّ الإدراكات في الرؤيا يمكن أن تكون صادقةً أو كاذبةً، كما أنّ القضايا الوجدانيّة والأوّلية ضروريّة الصدق في كافّة المراحل الإدراكيّة كما تمّ بيانه مفصلًا في السابق.

2. هدم الطبقة الشيطانية: في البداية سنعيد بناء الطبقة الشيطانيّة ونقوّيها، ثمَّ سنقوم بتدميرها، إنّنا قبلنا بتحقّق موجودٍ أو موجوداتٍ شريرةٍ مخادعةٍ حتّى بناءً على المباني الدينيّة، وهي بصدد إلقاء البشر في الضلال، ولا ينحصر خداعهم في ميدان المهام اليوميّة المعاصرة، بل إنَّ الشيطان والشياطين من الجنّ والإنس تعمل على إضلالنا حتّى في الفكر، إذًا بهذا الفرض يُمكن تقوية «جرّة نوزيك» بناءً على المباني الدينيّة، ولكن المسألة المطروحة هي ما يلي: هل يمكن للشيطان أو لأيّ موجودٍ مخادعٍ آخرَ أن يوقعنا به في الخطأ من الناحية المنطقيّة في كافّة إدراكاتنا حتّى البديهيّات منها، أم لا؟ وهنا، ينبغي أن نختبر مبادئ المعرفة، يعني: الوجدانيّات والأوّليات في مختبر الطبقة الشيطانية.

والآن، على فرض أنّنا متيقنون أو أنّنا نعتبر أنّه من المحتمل أنّ موجودًا مخادعًا يعمل على خداعنا، فسنبحث في صدق القضايا الوجدانيّة وأيضًا في القضايا الأوّلية، فأنا أمامي القضيّة الوجدانية «أنا خائفٌ» وأيضًا الخوف (الحالة النفسانية الخاصّة)، والآن مع فرض احتمال وجود شيطانٍ أو موجودٍ مخادعٍ آخرَ بصدد إضلالي أو حتّى لو اعتبرتُ بأنّ هذا الأمر متيقنٌ، إذًا هل سيضلني أيضًا في هذه القضيّة الخاصّة الوجدانيّة؟ لا؛ لأنّه من حيث إنّي أمتلك قدرة التشخيص والحكم، أستطيع أن أصل إلى صدق قضيّة «أنا خائفٌ» حتّى مع فرض أنَّ الشيطان أراد أن يضلّني أيضًا في هذه القضيّة الخاصّة؛ لأنَّه مع مقارنة القضيّة الوجدانية أو نفس الأمر المعلوم بالعلم الحضوري، أستطيع أن أُحرز أنّي لم أقع في الخطأ في فهم صدق

(235)

القضيّة الوجدانيّة المذكورة على الرغم من مشيئة الشيطان.

والآن، نختبر القضايا الأوّلية بواسطة الطبقات الشيطانية لجرّة نوزيك، وهنا كذلك لنفرض أنَّ الشيطان احتمالًا أو يقينًا بصدد أن يُضِلَّنا أيضًا في الأوّليات، فينبغي أن نسأل الآن بشكلٍ منطقيٍّ: هل استطاع أو هل يستطيع أن يوقعنا في الخطأ في مثل هذه القضايا البديهيّة أو أنَّ مثل هذا الأمر غيرُ ممكنٍ؟ ولدراسة عدم فعاليّة خداع الشيطان أو أيّ موجودٍ مخادعٍ آخرَ في القضايا الأوّلية، يمكن وضع نموذجٍ من القضايا الأوّلية محورًا لعملنا من قبيل: «الكلّ أعظم من الجزء» على فرض أنّنا فرضنا أنَّ الشيطان يقينًا أو احتمالًا جالسٌ في مِتْراس الخداع في مواجهتنا. إنّنا نُصدّق أنَّ «الكلّ» أكبر من «الجزء» حتّى في هذه الوضعيّة أيضًا، ولم يستطع الشيطان أن يُضلّنا في التصديق بهذه القضيّة؛ لأنّنا نستطيع إحضار التصديق بالقضيّة الأوّليّة مجدَّدًا والتي ينبني على التصوّر السليم لطرفَيِ القضيّة أمام محكمة العقل، وأن نطمئن بأنّ الشيطان لم يخدعنا في هذه القضيّة الخاصّة؛ لأنَّ طريق الخداع مسدودٌ عليه هنا، وكما كتب صدر المتألّهين حول مواقف خداع الشيطان أو أيّ موجودٍ آخرَ مخادعٍ:

لكن الشيطان إنّما يدخل من مواقع الثُلَم، فمن سدّ الثُلَم وأحكمها، أمِن من مكر الشيطان وتلبيسه للباطل بصورة الحقّ وترويجه إيّاه[1].

نقاش: من الممكن أن يناقش شخصٌ ويقول: كلامك هو في مَوطن عدم فعاليّة خداع الشيطان أو أيّ موجودٍ مخادعٍ آخرَ بخصوص مبادئ المعرفة، يعني: الوجدانيّات والأوّليات وهي تامّةٌ في حال اعتبرنا قدرة خداع الشيطان محدودةً، ولكن لو كان الموجود المخادع الذي في «مِتْراس ما بعد الفهم» هو من أطلق عليك «سهم الخطأ»، في هذه الحالة سيكون جوابُك غيرَ تامٍّ؛ لأنَّه لو كان الشيطان هو من يلقي عليك كلّ الفهم (مثلًا:

(236)

القضيّة الوجدانيّة أو الأوّليّة) وكذلك فهم صدقها، فإذًا كيف يمكن التعرّض لإبطال هذا الفهم بمساعدة «الفهم الشيطاني»، يعني: الفهم الذي ألقاه عليك الشيطان أو الموجود المخادع الآخر حتّى لو كان ذلك الفهم قضيّةً وجدانيّةً أو أوّليّةً؟

الجواب: على ما يبدو إنَّ هذا النقاش ينبني كذلك على تلك الفكرة التي هي الأساس لـ «المنزل الثالث للشكوكيّة»، يعني: «تفاعل الذهن والعين»، وهذا يعني: أنَّ «قيمة المعرفة» تابعةٌ لـ «كيفيّة إيجاد الإدراك» في حين أنَّ هذا الكلام باطلٌ وقد تعرّضنا لإبطاله بالتفصيل في «العبور عن المنزل الثالث للشكوكيّة»، فـ «الإدراك الحصولي» أو «الصور الذهنيّة» بأيِّ كيفيّةٍ حصلت، سواءً أحصلت من نسج الذهن أم أنَّ الذهن أوجدها نتيجة تفاعله مع العين أم أنّ موجودًا أعلى ألهمنا إياها بمساعدة الذهن أو بشكلٍ مباشرٍ أم غرسها فينا موجودٌ أدنى مخادعٌ مثل الشيطان، أو...، لن يكون لكلّ ذلك تأثيرٌ في نحو حكايتها وصدقها كما مرَّ مفصَّلًا في «العبور عن المنزل الثالث للشكوكيّة»، ونحن مثّلنا هناك لفروض ظهور الصور الذهنيّة كالتالي:

1. الإدراك (الصور الذهنيّة)، هي انفعالٌ خالصٌ للخارج.

[(عين) ـ (ذهن)] ! الإدراك (الصور الذهنيّة)

2. الإدراك من نسج الذهن فقط.

[(الذهن) ـ (العين)] ! إدراك (الصور الذهنيّة)

3. الإدراك هو نتيجةٌ للتفاعل بين الذهن والعين.

[(عين) + (ذهن)] ! إدراك (الصور الذهنيّة)

4. الإدراك مستمدٌّ من المشاركة بين «قوى ما وراء الذهن» وعناصر الذهن والعين.

(237)

[ (ما وراء الذهن) + (الذهن والعين)] ! الإدراك (الصور الذهنيّة)

5. الإدراك من نسج «قوى ما وراء الذهن».

[(ما وراء الذهن) ـ (الذهن والعين)] ! الإدراك (الصور الذهنيّة)

وكما تلاحظون هذه عبارةٌ عن صُوَرٍ تمّ تخيّلها حول كيفيّة ظهور الصور الذهنيّة في ساحة النفس، ولكن المسألة التي يجدر التأمل فيها هنا، هي أنّ الصور الذهنيّة بأيّ كيفيّة حصلتْ، فلن يكون لها أثرٌ على حكايتها وبالنتيجة على صدقها؛ لأنَّه لو كانت صورنا الذهنيّة من قبيل الإدراكات التصوّريّة فهي تطرح مجرّد مصاديقَ لا بشرطٍ من جهة وجودها وعدمها، وتكون متطابقةً مع محكيّاتها على الدوام، وليس فيها سبيلٌ للخطأ من الناحية الموضوعيّة، ولا تلازم بين الصورة الذهنيّة للقضيّة وبين الصدق، لكن بالطبع القضايا البديهيّة كالقضايا الوجدانيّة والأوّليّة وكذلك النظريّة المنبنية عليها؛ لأنَّها سببٌ لظهور التصديقات الضروريّة الصدق لدينا، لذا فهي صادقةٌ بالضرورة وليس لكيفيّة ظهورها أثرٌ على عكسها للواقع أو على صدقها كما مرَّ مفصَّلًا في «العبور عن المنزل الثالث للشكوكيّة».

مثلًا: لو فرضنا أنَّ الشيطان غرس قضيّة «أنا مسرورٌ» في ذهننا بقصد الخداع أو القضيّة «2+2=4» أيضًا، إلّا أنّنا بسبب قدرة التشخيص التي نمتلكها، نستطيع الحكم بأنّه هل استطاع أن يخدعنا أم لا، ونحن بواسطة التأمّل والتحقيق نستنتج أنّ الشيطان أو أيّ موجودٍ مخادعٍ آخر لا قدرة له على الخداع في مجال معرفة البديهيّات وكذلك في مجال النظريّات المنبنية على البديهيّات بصورةٍ صحيحةٍ، على الرغم من أنَّه من الممكن أن يُلقي بنا في فخ اللوازم المعرفيّة لمعلوماتنا اليقينيّة، مثلًا: لا يستطيع الشيطان أن يخدع عالم الحساب في القضايا البديهيّة الحسابيّة أو القضايا النظريّة الحسابيّة المبنيّة على القضايا البديهيّة، ولكن يستطيع أن يبتليه بالغرور،

(238)

إذًا فعلماء الحساب الذين يفكرون بشكلٍ منقطيٍّ في صدق القضيّة «2 + 2 = 4» لن يقعوا في خداع الشيطان، ولكن عندها قد يقول بسبب التكبر: «أنا عالم القرن!» وهنا يكون قد وقع في شباك الشيطان.

3. هدم الطبقة الحاسوبية: لقد تطرّقنا حتّى الآن لتدمير طبقة الرؤيا والطبقة الشيطانية لجرّة نوزيك، أمّا الآن فسنتطرّق لتدمير الطبقة الحاسوبيّة لجرّة نوزيك، وكما أشرنا سابقًا، فإنَّ الطبقة الحاسوبيّة لجرّة نوزيك ذات فرعين؛ أ. فرع الأداة؛ ب. فرع الخداع. وبالتالي يبتني تدمير الطبقة الحاسوبيّة لجرّة نوزيك على كسر هذين الفرعين لهذه الطبقة من جرّة نوزيك.

وإذا عُدنا إلى المباحث السابقة، فسنستنتج أنَّ هذين الفرعين قابلان للهدم أيضًا؛ لأنَّه بناءً على ما ذكرناه في الفصل الأوّل تحت عنوان «الذهن والحاسوب» وبناءً على ما بيّناه بإيجازٍ حول قدرة البشر على التشخيص والحكم، يُصبح معلومًا لنا أنَّ «الإنسان» مغايرٌ لـ «الآلة»، إذ الإنسان ليس مجرّد آلةٍ لا قدرة له على التشخيص والحكم في ما يتعلّق بالإلقاءات التي تُلقى إليه، وبالتالي هدم فرع خداع طبقة الحاسوب هو أمرٌ ممكنٌ أيضًا وفق البيان الذي مرَّ مفصَّلًا في «هدم الطبقة الشيطانيّة لجرّة نوزيك».

هدم الجرّة واكتساب المعرفة: كما لاحظنا، فإنَّ جرّة نوزيك ذات ثلاث طبقاتٍ: 1. طبقة الرؤيا والتي كانت منذ قديم الزمان محلّ اهتمامٍ من قبل الشكوكيّين والمُفكّرين وحتّى يمكن لنا أن نعثر[1] على جذورها في رسالة الثئيتتس[2] لأفلاطون وفي كتب سيكستوس وقد اهتم بها آخرون كالغزالي والفخر الرازي ومونتني وديكارت ولايبنيتس و… ؛ 2. الطبقة الشيطانيّة

(239)

التي كانت منذ قديم الزمان محلًّا للاهتمام؛ 3. الطبقة الحاسوبيّة التي أضافها الشكوكيّون المعاصرون على «شكوكيّة الجرّة»، و«جرّة نوزيك» تحتوي على هذه الطبقات تحت سطحها بتصريح نوزيك نفسه[1]، وقد قُمنا في هذه السلسلة بهدم هذه الطبقات الثلاث بنحوٍ منطقيٍّ.

والآن يبدو أنَّ «جرّة الشكوكيّة» ـ جرّة نوزيك ـ قد انكسرت؛ لأنَّ هذه الجرّة لم تستطع أن تُبدي مقاومةً في قبال يقين القضايا البديهيّة، وبالتالي لم تصمد أمام صدق القضايا النظريّة المنبنية على القضايا البديهيّة، والآن حيث إنّ مبادئ المعرفة بقيت مصونةً من خطر شكوكيّة الجرّة، فالطريق مُعبَّدةٌ لإنقاذ القضايا النظريّة من شظايا شكوكيّة الجرّة، ومن المنطقيّ أنَّه ينبغي أن يُكشف عن أنّه في أيّ شاكلةٍ يمكن الاستفادة من القضايا البديهيّة؛ ولأيّ معلوماتٍ نظريّةٍ يقينيّةِ الصدق نصل، ونحن سنسعى في «العبور من المنزل السابع للشكوكيّة» لنُبيّن كيفيّة السير من البديهيّات في نموذجٍ تحت عنوان «نموذج الانبناء»، فإذًا «طريق المعرفة» غير مغلقٍ، ولكن كما كتب سبهري: توجد مدينةٌ خلف البحار، وينبغي بناء قاربٍ! ونحن إذا علمنا كيفيّة المشي في هذا الطريق، سوف نستطيع أن نصل إلى «إله الكون» بنحوٍ منطقيٍّ.

گرچه راهى است پر از بيم ز ما تا بر دوست

رفتن آسان بُوَد ار واقف منزل باشى

[يقول: حتّى لو كان الطريق بيننا وبين الحبيب مليئًا بالمخاوف

لكنّ الذهاب سوف يكون سهلًا إذا كنتَ تعرف طريق المنزل].

(240)

العبور من المنزل السابع للشكوكيّة

بيان نموذج الابتناء وكيفيّة تحويل النظري إلى بديهي

(ع. م ـ 7): إلى هنا انتهت سِتُّ منازلَ من المنازل السبعة للشكوكيّة، والآن نصل إلى المنزل السابع وهو آخرُ منزلٍ من منازل الشكوكيّة، وخلال العبور من هذا المنزل سنبحث حول «مشكلة الانبناء» وسنسعى للعبور عن هذا المنزل أيضًا، وسنُلقي الآن في البداية نظرةً على هذه المشكلة، ثمّ سنتعرّض لبيان «نموذج الانبناء» بعد بيان بعض المسائل حول «الانبناء»، يعني: ابتناء النظريّات على البديهيّات.

نظرةٌ على مشكلة الانبناء: لقد سقط الشكوكيّ بعد خلاصه من بئر «الشكوكيّة»

في حفرةٍ أخرى باسم «وحدة الأنا» وينبغي أن ينقذ نفسه من هذه الحفرة بعد تأملاته، و«مشكلة الانبناء» هي مشكلة مطروحةٌ بجديّةٍ ضمن هذا المجال، وبعد أن تقبّل الشكّاك منّا وجود قضايا بديهيّةٍ في الجملة وهي صادقةٌ بالضرورة، مثل: الوجدانيّات والأوّليّات؛ فأوّلًا: هذا السؤال يطرح نفسه عليه، وهو هل هناك قضايا بديهيّةٌ بحيث يمكن نظمها بنحوٍ، وبواسطة العثور على حدٍّ مشتركٍ بينها مثلًا فنبني على أساسها «نظام المعرفة» أم أنَّ مثل هذا الأمر غيرُ ممكنٍ؟ هذا السؤال الذي يطرح نفسه عليه ينبع من هنا، وهو أنّه تُطرح في كتب المنطق والفلسفة الكلاسيكيّة عادةً أمثلةٌ نادرةٌ من الأوّليات؛ من قبيل: «الكلّ أكبر من الجزء» «استحالة اجتماع النقيضين» و«إذا كان شيءٌ مساويًا لشيء ما وهذا الشيء يساوي شيئًا آخر، فالشيء الأوّل مساوٍ للشيء الثالث» وعددٌ محدودٌ من أمثال هذه القضايا، ومن هنا يطرأ هذا السؤال للشكّاك: «هل يمكن بناء نظام المعرفة على هذا العدد المحدود من القضايا البديهيّة؟».

ثانيًا: يقول الشكوكيّ: على فرض أنّك تسعى وتعثر على نماذجَ وافرةٍ للقضايا البديهيّة الأوّليّة، فسيطرأ الإشكال من ناحيةٍ أخرى؛ لأنَّك قد

(241)

وافقت على أنَّ القضايا الأوّليّة هي قضايا حقيقيّةٌ نوعًا وشرطيّةٌ لُبًّا، وهي لا تتحدّث بصورةٍ جازمةٍ عن «نظام الواقع» أو «نظام الخارج» (أي خارج كل مراتب الذهن)، إذًا في هذه الحال سنبقى نحن أنفسنا وسلسلةَ المعلومات البديهيّة التي لا قدرة لها على أن تسحبنا من أذهاننا إلى الخارج أو بتعبيرٍ آخرَ: لا قدرة لها على أن تخرجنا من ذواتنا، وهكذا نغرق في «وحدة الأنا»
 بنحوٍ منطقيٍّ بعد الغرق في «الشكوكيّة»!

وهنا يطالبنا الشكوكي بنحوٍ صادقٍ بشيئين: أ. أن نُثبت بأنّ البديهيّات بنحوٍ يُمكن أن يقام بينها «عمليّة تركيب» و«نظام المعرفة» يُمكن أن يُبنى بناءٌ على مبناها؛ ب. أن نُبيّن نموذجًا وصلنا من خلاله إلى قضيّةٍ يقينيّةٍ أخرى حول العالم الخارجي (أي خارج كلّ مراتب الذهن) بعد الاستعانة بالعمليّة التركيبيّة التي أجريناها في البديهيّات، وبذلك يتّضح أنَّ الشكّاك يُطالبنا بشيئين في «المنزل السابع» المعروف بـ «منزل الانبناء»:

أ. إثبات إمكانية بناء منظومة من البديهيّات.

ب. تقديم نموذج لبناء المنظومة من البديهيّات.

ولكن قبل أن نقدّم «نموذج الانبناء»، سنقوم بتقديم رسمٍ بيانيٍّ للانبناء، ومن ثمَّ سنُقدّم مطالب حول «مبنى الوحدة» و«عمليّة الانبناء» باختصار.

رسمٌ بيانيٌّ للانبناء: سنتطرق هنا لتمثيل عمليّة الانبناء بصورة رسمٍ بيانيٍّ مقتبسِين ذلك من بولاك[1]

«المعتقدات الأساسيّة» = «Basic beliefs»

(242)

مراجعة الكتاب 

 

نرى في الرسم البياني، إذا اعتبرنا «المعرفة» مثل «بناءٍ» فسيُشكّل قسمٌ منه «أسس المعرفة» وسيشكّل قسمٌ منه «البنية الفوقيّة» أيضًا، وفي الرسم البياني الذي رسمناه يُمثّل P قضيّةً نظريّةً وهي معرفةٌ عاليةٌ ذاتُ بنيةٍ فوقيّةٍ ونصل إليها من خلال سلسلةٍ من الاستدلالات المنبنية على المعارف البديهيّة والأساسيّة.

العبور إلى البنية التحتيّة للانبناء: لمّا كان الفلاسفة وعلماء المعرفة دقيقي النظر يُفكّرون بنحوٍ منطقيٍّ، وينظرون إلى الأمور مستندين إلى المباني المنطقيّة، ومن الأساس آلاتهم الفكريّة ذاتُ أسسٍ ومترابطةٌ، ومن هنا يمكن القول: إنّ أفرادًا كأرسطو والفارابي وأبي علي بن سينا و… قد كان لهم ميلٌ نحو «الانبناء»، رغم أنَّهم بالطبع قد تناولوا هذا البحث بنحوٍ مباشرٍ بشكلٍ أقلَّ، ولكن يُمكننا الآن الإشارة إلى عدّة نماذجَ من المفكّرين الذين تناولوا «الأصل الموضوعي لبناء العلوم» أو بتعبيرٍ أدّقَ «الانبناء المنطقي للعلوم»، والآن سوف نشير إلى بعض الأفراد منهم:

(243)

إقليدس[1] والنظام الهندسي: قبل 300 سنة تقريبًا من ميلاد المسيح عليه‌السلام ، كتب إقليدس كتابه المعروف الأصول، وجمع فيه اكتشافاته الهندسيّة ونظمه وعالجه باستخدام «المنهج الصحيح»، وهذا الكتاب هو أحد أهمّ المؤلّفات التي تركت أثرًا على الفكر الغربي واستمر تدريسه ككتابٍ درسيٍّ إلى أواسط القرن التاسع عشر.[2] وكان هذا الكتاب محلّ اهتمامٍ في العالم الإسلامي أيضًا، بحيث إنّ الخواجة نصير الدين الطوسي دوّن عددًا من المؤلفات لتوضيح وشرح وبيان هذا الكتاب، مثل: كتاب تحرير إقليدس ـ أو تحرير أصول الهندسة ـ وكتاب معطيات في هندسة إقليدس وكذلك كتاب البلاغ[3]، وبكلّ الأحوال، فإنَّ تعاليم إقليدس في كتاب الأصول أدى إلى تغيّرات في الفكر البشري.[4] وقد جعل الهندسة في كتابه الأصول على شكل منظومةٍ منطقيّةٍ بهذا النحو حيث بدأ من «التعاريف» و«الحدود الأوّلية» ثمَّ تطرق إلى بيان «الأصول المسلم بها» وانطلق منها ليصل إلى «الأصول الموضوعة».

والآن سنشير إلى بعض التعاريف التي وردت في بداية المقالة الأولى من كتاب الأصول[5]:

1. النقطة: شيءٌ ليس لها أيّ جزءٍ؛ 2. الخطّ: طولٌ بلا عرضٍ؛ 3. الخطّ المستقيم: هو الخطّ الممتدّ بلا تغييرٍ وتوجد عليه النقاط؛ 4. السطح: هو الشيء الذي يمتلك طولًا وعرضًا فقط؛ 5. الشكل: هو الشيء المحدود بحدٍّ أو بعدّة حدودٍ؛ 6. الخطان المتوازيان: هما الخطان الواقعان على صفحةٍ

(244)

واحدةٍ واللذان لا يتقاطعان مع بعضهما البعض مهما قمنا بمدّهما.

كانت هذه مجموعةٌ من التعاريف التي استفاد منها إقليدس للمنظومة الهندسيّة، أمّا الأصول المتعارفة لإقليدس فهي كالتالي:

1. الأشياء المساوية لشيءٍ واحدٍ مساويةٌ لبعضها البعض؛ 2. نتاج جمع المقادير المتساوية متساويةٌ؛ 3. ناتج طرح مقدارٍ متساوٍ من المقادير المتساوية متساوٍ؛ 4. الأشياء التي تتطابق مع بعضها، متساويةٌ؛ 5. الكل أكبر من الجزء.

والآن سنشير إلى خمسة من الأصول الموضوعة[1] لأقليدس:

1. يمكن رسم خطٍ من أيّ نقطةٍ إلى أيّ نقطةٍ أخرى؛ 2. كلّ خطٍّ مستقيمٍ محدودٍ يمكن أن يمتدّ مستقيمًا بشكلٍ لا محدودٍ؛ 3. من كلِّ نقطةٍ وطولٍ، يمكن رسم دائرة تكون تلك النقطة مركزها، وذلك الطول شعاعها؛ 4. جميع الزوايا القائمة متساويةٌ مع بعضها؛ 5. لو تقاطع خطٌّ مستقيمٌ مع خطّين متساوين آخرين سيكون مجموع الزاويتين اللتين تشكلتا في أحد أطرافهما أقل من زاويتين قائمتين، لأنّنا لو مددنا الخطين المستقيمين بالمقدار الكافي في ذات الطرف حيث الزاويتين فسوف يتقاطعان. وهذا هو نفس الأصل المشهور المسمى بـ «مسلمة التوازي لإقليدس»[2] والذي خلق أزمةً في الهندسة[3] في ما بعد. وقد بدأ إقليدس بمثل هذه المنطلقات في عمليّة الانبناء والمنظومة الهندسيّة وقد استعمل أسلوبه الفلاسفة من بعده في الفلسفة أمثال ديكارت وسبينوزا وهو ما سنُشير إليه الآن.

ديكارت وتنظيم المعرفة بنحوٍ رياضيٍّ: كان ديكارت نفسه عالمَ

(245)

رياضيّاتٍ، وكان يُقدّس ويقدّر على الدوام إحكام وإتقان الرياضيّات، وكان يعتقد بأنَّه يجب أن تكون للفلسفة مثل هذا النظام، ومن هنا، بما أنّه كان يُفكّر ويُنمّي فكر «الرياضيّات العامّة»، وكان يعتقد بأنَّ الفلسفة ينبغي أن تمتلك أيضًا «نظامًا رياضيًّا»[1]، لذا كان بصدد أن يُؤسّس للفلسفة أساسًا ذا قواعدَ محكمةٍ، وأن يكون هناك نظْمٌ رياضيٌّ بين الأصول المسلّم بها وبين مسائلها، ومن هنا نجد أنّ ديكارت الذي بدأ فلسفته بالشكّ القانوني، بدأ في البداية بالقضيّة اليقينيّة «أنا أفكّر إذًا أنا موجودٌ»، وبعد ذلك اعتبر سبب صدق هذه القضيّة هو «الوضوح» و«التمايز»؛ ومن هنا، حدّد هاتين الخاصيّتين كمعيارٍ لصدق القضايا الصادقة، وهكذا سعى تدريجيًّا لأن يمنح نظامه المعرفيّ نظامًا رياضيًّا[2]. وعلى سبيل المثال:

أنا الآن أصدق أن الشيء الموجود أمامي هو ورقةٌ.

تصديقي الحالي هو واضحٌ ومتمايزٌ.

الأفكار الواضحة والمتمايزة صادقةٌ.

النتيجة: الآن أمامي ورقةٌ.

سبينوزا والنظام المعرفي: كما لاحظنا، فقد طرح ديكارت فكرة الرياضيّات العامّة ومال إلى «النظام الرياضي» أو «النظام الهندسي»[3]، ولكنّ ديكارت لم يُوفّق في جعل هذه الفكرة عمليّة إلّا أنّ سبينوزا أكمل طريق ديكارت بل تقدّم بخطوةٍ على ديكارت أيضًا، وسعى إلى تدوين كتبه ورسائله الفلسفيّة بأسلوبٍ رياضيٍّ أو بـ «أسلوب الكتابة الهندسيّة»[4]،

(246)

ومن هذا المنطلق، دوّن كتابه الأخلاق بـ «نظامٍ رياضيٍّ» وبواسطة «طريقة الكتابة الرياضيّة»؛ بمعنى أنَّه نظّم هذا الكتاب من خلال طرح تعاريفَ وحدودٍ أوّليةٍ ومبادئَ مسلّمٍ بها وأصولٍ موضوعةٍ، على نمط الكتب الرياضيّة والهندسيّة وعلى أساسها قام بإثبات القضايا.

وكنموذجٍ على ذلك:

الأصل المسلّم به: في الطبيعة لا شيءَ جزئيًّا بحيث لا يكون هناك شيءٌ آخرُ أقوى وأكثرُ قدرةً منه، بل في مقابل كلّ شيءٍ مفترضٍ هناك شيءٌ مفترضٌ آخرُ أقوى منه يستطيع إزالة الشيء الأوّل.

القضيّة 1: إنّ الشيء المُثبت الموجود في تصوّرٍ غيرِ صحيحٍ بواسطة حضور شيءٍ صحيحٍ من حيث هو صحيحٌ، فهو لا يزول. البرهان: عدم صحّة الشيء ليس إلّا فقدان المعرفة التي تلازم التصوّرات الناقصة (القضيّة 35 القسم2)، وهذه التصوّرات ليس فيها شيءٌ مثبتٌ بحيث بموجبها تقرأ غير صحيحةٍ (القضيّة 33 القسم 2)، وبعكس هذا الحيث عندما تكون مرتبطةً بالله فهي صحيحةٌ (القضيّة 32، القسم 2)، بناءً على هذا فالشيء المثبت الموجود في تصوّرٍ غير صحيحٍ، إذا زال بواسطة حضور أمرٍ صحيحٍ من حيث هو صحيحٌ، فسيلزم من ذلك أنّ التصوّر الصحيح يزول بواسطة نفسه، وهو (القضيّة 4 القسم 3) غير المعقولة، وبالتالي فالشيء المثبت هو الذي يُثبت المطلوب إلى الآخر.[1]

أزمة الانبناء: لقد تعرّفنا حتّى الآن على ثلاثة نماذجَ من المساعي تمّ بذلها في خصوص عمليّة أصل جعل العلوم موضوعيّةً أو بتعبيرٍ أدّق: «الانبناء المنطقي للعلوم» ولكن كلّ واحدٍ من هذه الأنظمة المعرفيّة واجه أزمةً خاصّةً به.

(247)

فقد وقعت المنظومة الهندسيّة لإقليدس المبنيّة على «مسلّمة التوازي» في القرن الثامن عشر الميلادي في أزمةٍ[1] مع ظهور «الهندسة الريمانيّة»[2] و«الهندسة الزائدية»[3]، كما أنّ الإشكالات الواردة على آراء ديكارت وبالأخصّ في ما يتعلّق بالتصوّرات الفطريّة، أوقعت المنظومة المعرفيّة لديكارت في الاضطراب، وكذلك النقاشات التي دارت حول البنية التحتيّة لأفكار سبينوزا، جعلت نظامه المعرفي يواجه أزمةً أيضًا، وبالتدريج، ظهر هذا التوهّم إلى الوجود، وهو أنَّ ما كان ديكارت وأتباعه يسعون خلفه غير ممكنٍ، ومن هنا، انقسم مخالفو الانبناء إلى قسمين: فرقة منهم أعرضت عن «مبنائيّة العقلانيّة» واتّجهت نحو «مبنائيّة التجريبيّة» الذي يتسامح في أسس المعرفة، أو بتعبير إرنست سوسا لقد اتجهوا إلى العمل الليبرالي.[4]

أمّا الفرقة الأخرى فقد رفضت تمامًا تبعًا لكواين[5] القبول بالمبنائيّة[6] الأعمّ من التجريبيّة والعقلانيّة واتبعت «الكليّة»[7] والتي تمّ بحثها في الفصل الخامس، وليس لدينا المجال الآن كي نصل إلى كافّة أبعاد وجوانب هذه الأزمة، ولكنّ في هذا البحث الدقيق جدًّا والذي له تشعّباتٌ ينبغي الالتفات إلى عدّة نقاطٍ أساسيّةٍ:

1. ينبغيالثانيةًا في عمليّة الانبناء أن يكون في البال أنّنا نسعى خلف أيّ

(248)

نوعٍ من المعرفة؟ إذا كنّا نسعى للحصول على «التصديق الجازم المطابق للواقع الذي لا يقبل الشكّ»، إذًا ينبغي أن نختار ذلك الانبناء ذو الأسس المنطقيّة الدقيقة والذي لم يتمّ اختيار مبانيه بالتسامح.

2. على فرض أنَّ أفرادًا مثل ديكارت وسبينوزا لم يُوفَّقوا في عملهم، لكنّ ذلك ليس دليلًا على جرّ الآخرين إلى اليأس؛ لأنَّ انهزامهم يدلّ فقط على صعوبة الطريق، ولا يدلّ بأي وجهٍ من الوجوه على أنَّ «الانبناء المنطقي» غير ممكنٍ.

3. باعتقادنا في النقاشات التي جرت حول «مسلّمة التوازي لإقليدس»[1] لم يكن بالإمكان فصل حيثيات البحث عن بعضها؛ لأنَّه أوّلًا: يجب التفريق[2] بين «الهندسة المحضة»[3] وبين «الهندسة العمليّة»[4]؛ ثانيًا: البحث في أصل التوازي لإقليدس الذي هو عبارةٌ عن أنَّه في السطح المستوي ـ خلافًا للسطح الكروي والسطح المائل ـ يُمكن أن يرسم خطٌّ واحدٌ فقط وفقط ينطلق من نقطةٍ واحدةٍ خارجةٍ عن إحدى الخطوط يكون موازيًا له؛ فهل هذا الأصل يرتبط بـ «الهندسة المحضة» أم «الهندسة العمليّة»؟ وهل هذه القضيّة «خارجيّةٌ» أم «حقيقيّةٌ»؟

أنواع الانبناء: سنشير هنا إلى أنواع الانبناء، ثمّ سنختار من بينها النوع المقصود، ومن أجل تحديد أنواع الانبناء يحب أن نتأمّل في أنواع المبنائيّة في توجيه المعرفة، فكما بيّنا في الفصل الخامس بنحوٍ مفصّلٍ هناك أنواعٌ مختلفةٌ من «المبنائيّة»[5]:

(249)

1. المبنائيّة الضعيفة[1]؛ 2. المبنائيّة القوّية؛ 3. المبنائيّة العقلانيّة[2]؛ 4. المبنائيّة التجريبيّة[3]؛ وفي العصر الحاضر تُسمّى المبنائيّة العقلانيّة بالمبنائيّة الكلاسيكيّة[4]، أمّا المبنائيّة التجريبيّة فتسمّى بالعقلانيّة الحديثة[5]، وهذه هي التقسيمات الرائجة للمبنائيّة، ولكنّنا نُواجه أحيانًا تفكيكين آخرين أيضًا:[6]

1. التفكيك بين «المبنائيّة الماديّة» و«المبنائيّة الصوريّة»؛ 2. التفكيك بين «المبنائيّة المعرفيّة» وبين «المبنائيّة التي وراء المعرفة».

وهذه التفكيكات والفروقات طُرحت في ما يتعلّق بأنواع المبنائيّة، أمّا الآن فسنتعرّض لأنواع الانبناء.

أ. الانبناء القوي: الانبناء القوي هو ذلك البناء المبني على أُسسٍ معتبرةٍ وصادقةٍ بالضرورة، والتي نُظّمت بواسطة أساليبَ دقيقةٍ ومنطقيّةٍ.

ب. الانبناء الضعيف: يُوصف الانبناء بالضعيف إذا ما كان له مبانٍ غير صادقة بالضرورة أو كانت ذات عيبٍ من الناحية الصوريّة.

ج. الانبناء العقلاني: هذا النوع من الانبناء هو نوعٌ من النظام المعرفي، الذي تشكل مبادئه قضايا مُعتبرة عقلًا.

د. الانبناء التجريبي: هذا النوع من الانبناء مبنيٌّ على القضايا التي نحصل عليها عن طريق الحسّ والتجربة، حيث إنّ هذا النوع من الانبناء

(250)

في الواقع مبنيٌّ على هذه النظريّة، وهي أنّه يجب تبرير «المعرفة» على أساس الحسّ والتجربة.

ومن بين أنواع الانبناء المذكورة، سنختار ذلك الانبناء الذي يصل بنا إلى «المعرفة التي لا تقبل الشك» وهو «الانبناء القوي العقلاني» والذي سنُطلق عليه من الآن فصاعدًا «الانبناء المنطقي» وقد بيّنا علّة اختياره في الفصل الخامس.

خطوةٌ في منظومة المعرفة: إنّ فكر منظومة المعرفة هو موضوعٌ يتطلّب خوض غماره إلى فرصةٍ أخرى، ولكن هنا من أجل العبور عن المنزل السابع للشكوكيّة المعروف بمنزل الانبناء، ومن أجل إتمام عمل هذه الرسالة سنتعرّض لعمل نظام المعرفة في «نظام العقل» وسنترك التعرّض للمعرفة في نظامٍ أوسعَ إلى فرصةٍ أخرى، وبالتالي سوف نتعرّض الآن في هذه المجال لطلب الشكوكيّ والإجابة على كلامه من خلال تقديم «نموذج الانبناء»، فسنتعرّض هنا بمساعدة أحد النماذج لـ «نمذجة المعرفة» على أساس البديهيّات التي أثبتناها في المباحث السابقة وخصوصًا في مرحلة الصدق، وسنُبيّن كيف يمكن الوصول من القضايا والتصديقات ضروريّة الصدق إلى القضايا والتصديقات النظريّة والتي هي أيضًا ضروريّة الصدق أيضًا، وفي هذا النموذج سنستخدم نماذجَ بديهيّةً لا تقبل التبدّل وضروريّة الصدق لا تقبل الخطأ وكما حدّدنا مسبقًا فالوجدانيّات والأوّليات هي من مصاديق مثل هذه القضايا.

فإذا عدنا إلى السؤال الأساسي للشكّاك في «المنزل السابع»، سنرى أنَّ الشكاك يُطالبنا بأمرين في منزل الانبناء:

 1. إثبات إمكانيّة الانبناء.

2. تقديم نموذجٍ للانبناء. وليس لدينا الفرصة هنا كي نتعرّض بالتفصيل

(251)

للبحث حول إمكانيّة الانبناء، ولكن سنتعرّض فقط للتذكير بهذه النقطة، وهي التي عرّفناها تحت عنوان «الوجدانيّات» و«الأوّليات»، والتي عرّفناها بأمثلة من قبيل: «أنا سعيدٌ» و«الكل أكبر من الجزء» و...، ولكن لا نعتقد بأنَّ أمثلتها منحصرةٌ بهذه النماذج من الأمثلة فقط، بل إنَّ كل واحدٍ من هذه العناوين يمكن أن يكون له مصاديقُ كثيرةٌ وهذه وظيفة كلّ باحثٍ ومحقّقٍ في أيّ فئةٍ علميّةٍ تبحث في مثل هذه القضايا اليقينيّة ضروريّة الصدق.

وباعتقادنا إذا كان لدى المحقّق قلقٌ حول الصدق، وكان يبحث عن قضايا ضروريّة الصدق بجدٍ، فسيتمكّن من الوصول إلى مصاديقَ مختلفةٍ للوجدانيّات والأوّليّات، وإذا استعملها في البرهان فسوف يصل إلى قضايا نظريّةٍ متنوّعةٍ ضروريّةِ الصدق.

وبذلك إذا سعى الباحث سيتمكن من جمع العديد من القضايا التي هي من مصاديق الوجدانيّات والأوّليّات؛ والآن إن أراد الباحث أن يتبع عمليّة الانبناء عن طريق تشكيل القياس الاقتراني، إذًا يجب أن يبحث على حدٍّ أوسطَ مُشتركٍ بينها، وإن كان هذا الأمر صعبًا بالنسبة له، فسيتمكّن من أن يسوق عمليّة الانبناء قدمًا عبر تشكيل قياسٍ استثنائيٍّ ولن يكون لديه قلقٌ من ناحية وجود الحدّ الوسط المشترك أيضًا، وإن أراد أن يتابع عمليّة الانبناء من خلال دمج الوجدانيّات والأوّليّات فسيكون قد عثر لنفسه على سبيل خلاص من مشكلة وجود أو عدم وجود حدٍّ وسطٍ مشتركٍ؛ لأنَّه من خلال دمج الوجدانيّات والأوّليات سيستطيع العثور على حدٍّ وسطٍ مشتركٍ.

تقديم نموذج الانبناء: سنطرح هنا نموذجًا يُرينا «كيفيّة انبناء النظريّات على البديهيّات». وهذا النموذج في الواقع هو نموذجٌ من القضايا النظريّة التي تصل إلى اليقين بالاستناد على البديهيّات.

(252)

بيان المسألة: إنّ المسألة التي نحن بصدد إثباتها هنا الآن من خلال الاستناد إلى «الوجدانيّات» و«الأوّليّات» هي قضيّةٌ نظريّةٌ تتعلّق بإثبات «واجب الوجود»، يعني: الموجود الذي لا يكتسب وجوده من الغير وليس معلولًا لعلّةٍ والموجود بالضرورة؛ يعني: ليس ممكنًا، ويشغل وجوده العدم.

القضيّة: «واجب الوجود، موجودٌ». (قضيّةٌ نظريّةٌ)

البرهان: أنا موجودٌ، إذًا غير معدومٍ ولا ممتنعٍ؛ لأنَّ الشيء إذا كان موجودًا فهو ليس ممكنًا ولا ممتنعًا؛ لأنَّ الشيء إذا كان موجودًا وكان معدومًا وممتنعًا، لزم منه اجتماع النقيضين، واجتماع النقيضين باطلٌ بالضرورة. والآن إذا كنتُ أنا موجودًا فإذًا إمّا أن أكون معلولًا للغير، أو لستُ معلولًا للغير، فإذا كنتُ غير معلولٍ للغير، إذًا تمّ إثبات واجب الوجود، وإذا لم أكن معلولًا للغير فالآن نجعل ذلك الغير نقطة البوصلة للبحث، فذلك الغير الذي هو فرضًا علّةٌ لوجودي إمّا أن يكون واجب الوجوب وإمّا أن يكون معلولًا؛ فإذا كان واجب الوجود إذًا ثبت واجب الوجود وإذا كان معلولًا، لزم منه الدور أو التسلسل ولأنَّ الدور والتسلسل باطلان، إذًا تمّ إثبات وجود واجب الوجود.

والدور باطلٌ؛ لأنَّه إذا كان «أ» متوقفًا على «ب»، وكان «ب» متوقفًا على «أ» بمعنى أنَّ كلًّا من «أ» و«ب» أيضًا كانا موجودين قبل أن يكونا موجودين، فهذا باطلٌ بالضرورة؛ لأنَّه بما أنّ «أ» معلولٌ فلا بدّ أن يكون موجودًا بعد «ب» وبما أنَّه علّةٌ فيجب أن يكون موجودًا قبل «ب»، وكذلك «ب» بما أنَّها من جهةٍ علّةُ «أ» فيجب أن تكون موجودةً قبل «أ»، ولأنَّها فرضًا معلولةٌ لـ «أ» أيضًا فيجب أن تكون موجودةً بعدها، وهذه العمليّة تستلزم وجود موجودٍ قبل وجوده، وهذا باطلٌ بالضرورة. وبذلك يكون قد تمّ إثبات بطلان الدور.

(253)

والتسلسل باطلٌ أيضًا؛ لأنَّ تسلسل العلّة والمعلول يعني وجود سلسلةٍ لا متناهيةٍ من الموجودات الموجودة بالفعل وجميعها علّةٌ ومعلولةٌ أيضًا، والشيء الذي يكون علّةً ومعلولًا هو وسطٌ، وكلّ وسطٍ يحتاجُ إلى طرفٍ، فإذًا السلسلة المفترضة باطلةٌ؛ لأنَّها مصداقٌ للوسط وبمقتضى القضيّة البديهيّة «كلّ وسطٍ يحتاج إلى طرفٍ» فيجب أن يكون لها طرفٌ؛ ولأنَّها يجب أن يكون لها طرفٌ لزومًا لم تعُد لا متناهيةً، فإذًا التسلسل باطلٌ.

النتيجة: فإذًا أُثبت «واجب الوجود» بالاعتماد على القضايا البديهيّة والنظريّة المستندة إلى البديهيّات.

إعادة بناء وتحليل البرهان: سنقوم الآن بإعادة بناء البرهان المذكور أو «نموذج الانبناء» من خلال تحليل مبادئه، فقد استعملت في هذا البرهان مقدّماتٌ وهي إمّا من «الوجدانيّات» أو من «الأوّليّات»، أو ممّا يتمّ إرجاعها لهما بنحوٍ ما، وسينصبّ سعينا على تسليط الضوء على هذه المبادئ والمقدمات على الرغم من خفائها بسبب ارتكازهم أو لشدّة وضوحها بسبب ضرورتها، فعلى سبيل المثال: «أصل عدم التناقض» هو مبدأٌ عامٌّ لا يصرّح به عادةً في البراهين؛ وكما ذكر الخواجة نصير الدين الطوسي في أساس الاقتباس:

والمبادئ العامة إمّا تُستعمل بالقوّة وإمّا بالفعل، والأوّل مثل: السلب والإيجاب، فلا يُصرّح بهما في كافّة العلوم لشدّة وضوحهما.[1]

ولكن خلافًا للسنّة المعمول بها، نحن هنا بصدد أن نُصرّح بمثل هذه المبادئ أيضًا، وبالتالي مع الالتفات إلى المطالب المذكورة، فسوف نعيد بناء «نموذج الانبناء» الذي تجلّى في «برهان إثبات الواجب تعالى» بالنحو التالي:

(254)

القضيّة النظرية: «واجب الوجود موجود»

البرهان:

1- أنا موجودٌ. (قضيّةٌ وجدانيّةٌ)

2- اجتماع النقيضين وارتفاعهما محالٌ. (قضيّةٌ بديهيّةٌ أوّليّةٌ)

3- الوجود إمّا من الغير وإمّا ليس من الغير. (قضيّةٌ بديهيّةٌ أوّليّةٌ)

4- إذا كان وجودي ـ باعتباري موجودًا ـ ليس من الغير، إذًا فأنا واجب الوجود. (قضيّةٌ بديهيّةٌ أوليّةٌ)

5- إذا كان وجودي ـ باعتباري موجودًا ـ من الغير، فذلك الغير موجودٌ بدليل ضرورة وجود العلّة عند وجود المعلول. (بديهيّةٌ أوّليّةٌ)

6- ذلك الغيرـ باعتباره موجودًا ـ إمّا معلولٌ للغير وإمّا غير معلولٍ للغير. (بديهيّةٌ أوليّةٌ)

7- إذا كان وجود ذلك الغير ـ باعتباره موجودًا ـ ليس من الغير، إذًا فهو واجب الوجوب. (بديهيّةٌ أوليّةٌ)

8- إذا كان ذلك الغير ـ باعتباره موجودًا ـ معلولًا للغير، فيلزم منه الدور والتسلسل. (بديهيّةٌ أوّليّةٌ)

9- الدور باطلٌ. (قضيّة نظريّةٌ) ووجه بطلانها هو أنَّ الدور يُوجب تحقّق موجودٍ قبل تحقّقه ـ وبتقريبٍ نقول: لأنَّ «أ» معلولٌ لـ «ب» فإذًا ينبغي أن يكون موجودًا بعد «ب»، ولأنَّه علّةٌ لـ «ب» فيجب أن يكون موجودًا قبل «ب» ـ وتحقّق موجودٍ قبل تحقّقه باطلٌ بالضرورة. (بديهيّةٌ أوليّةٌ)؛ إذًا الدور باطلٌ.

(255)

10- التسلسل باطلٌ أيضًا. (قضيّةٌ نظريّةٌ) ووجه بطلانه، هو أنَّ التسلسل المصطلح عبارةٌ عن سلسلةٍ لا متناهيةٍ من الموجودات الموجودة بالفعل وجميعها علّةٌ ومعلولةٌ أيضًا، والأشياء التي هي علّةٌ وكذلك معلولةٌ أيضًا فهي وسطٌ، وكلّ وسطٍ يحتاج إلى طرفٍ، فإذًا السلسلة المفترضة التي بلا نهايةٍ ولا طرفٍ لها، هي محالةٌ قهرًا.

النتيجة: إذًا ثبت أنَّ واجب الوجود يعني الموجود الذي ليس معلولًا لعلّةٍ وموجودٌ بالضرورة، متحقّقٌ.

وكما لاحظتم، فإنّ مبادئ البرهان الذي قدّمناه بعنوان «نموذج الانبناء» هي من «الوجدانيّات» و«الأوّليّات»، وهذا البرهان تحريرٌ للبرهان الذي قرّره الخواجة الطوسي في تجريد الاعتقاد، حيث قال: «والموجود إن كان واجبًا فهو المطلوب، وإلّا استلزمه لاستحالة الدور والتسلسل».[1] ونحن لم نبتعد في طرح هذا النموذج عن «الوجدانيّات» و«الأوّليات» التي أثبتنا صدقها من قبل، وحتّى صورة قياس الشكل الأوّل الذي استعملناه في البرهان من الأوّليات أيضًا، ويمكن إكمال هذا البرهان وإثبات وحدة الواجب تعالى...، ولكن ما نحن نسعى له هو طرح «نموذج الانبناء» الذي أمّن البرهان إلى هنا أيضًا؛ لأنَّه يمكن اختياره باعتباره «عينةً» وعلى أساسه يمكن بناء براهينَ أخرى أيضًا حول مواضيعَ متنوّعةٍ.

تحدّيات الانبناء: سنشير هنا إلى بعض الإشكالات التي يمكن طرحها على البرهان الذي طرحناه تحت عنوان «الانبناء»، ثمّ سنقوم بالإجابة عليها، وهدفنا من طرح هذه الإشكالات والإجابات عليها هو أن نُبيّن كيفيّة العبور عن المشاكل التصوّريّة والتصديقيّة لعمليّة الانبناء، وكيفيّة الخلاص من مثل هذا النحو من التحدّيات التي تنجرّ أحيانًا إلى الشكوكيّة، والتحديّات التي سيتمّ طرحها هنا ترتبط بالترتيب بكلٍّ من مفهوم

(256)

«الوجود» ومفهوم «العليّة» و«قانون العليّة» و«برهان الوسط والطرف»؛ لأنَّه قد جرى الحديث في «نموذج الانبناء» بنحوٍ ما عن هذه الأمور التصوّريّة والتصديقيّة.

[1] ـ 1): لقد استعملت في «نموذج الانبناء» أو في البرهان المذكور ألفاظ «الوجود» وما يرادفها بشكلٍ مُتكرّرٍ، والسؤال الآن هو أنّ «مفهوم الوجود، أيّ نوعٍ من المفاهيم هو؟» فإذا كان بديهيًّا، فما سرّ بداهته؟ وإذا كان نظريًّا، فما هو مُعرّفه؟

الإجابة: مفهوم «الوجود» مفهومٌ بديهيٌّ وسر بداهته هو أنَّ هذا المفهوم علم حصوليٌّ تصوريٌّ مأخوذٌ من العلم الحضوري؛ لأنّنا نشهد أنفسنا أو حالاتنا النفسيّة بالوجدان ولهذا الشهود النفساني شأنيّةٌ وهو أن يستمدّ منه العلم الحصولي التصوري والتصديقي، ومفهوم «الوجود» علمٌ تصوّريٌّ مفردٌ مأخوذٌ من الشهود النفسانيّ؛ لأنّنا نواجهه في داخلنا بمصاديقه المختلفة.

(ت ـ 2): أحيانًا يُقال: «الإنسان وجودٌ»، وأحيانًا يقولون: «الإنسان موجودٌ» وأحيانًا يقولون: «الله وجودٌ»، وأحيانًا يُقال: «الله موجودٌ»، فكيف يمكن تفسير هذا النوع من الحمل (حمل هو هو، وحمل ذو هو)؟

الإجابة: إنّ التنوع في الحمل هنا يعود إلى تنوّع اللحاظ وكثرة الاعتبارات الذهنيّة؛ لأنّ الذهن يلحظ أحيانًا لحاظ الوحدة بين الموضوع والمحمول، فيقول عندها: «الله وجودٌ» ويلحظ أحيانًا التغاير الاعتباري فيقول حينها: «الله موجودٌ»، وما ذكرناه من «التغايرُ اعتباريٌّ» فهو لأنَّه لو كان التغاير حقيقيًّا لما بقي للحمل معنًى.

(ت ـ 3): كيف تجيب على إشكال كانط حول نفي الوجود المحمولي؟

(257)

ألم يجعل كانط برهان ديكارت ـ المتعلّق بإثبات وجود أي شيءٍ ومن جملتها وجود الله ـ بلا موضوعٍ بواسطة هذا الإشكال؟ حيث كان كانط يعتقد أنّ المحمول الحقيقي هو ذلك الذي لا يضفي شيئًا على الموضوع ولكن مفهوم الوجود ليس كذلك.[1]

الإجابة: لقد أخطأ كانط في هذا الحديث بأنَّ الحمل الواقعي هو ذلك المحمول الذي لا يضفي شيئًا على الموضوع؛ لأنَّ المراد من «إضفاء» إمّا الإضفاء في مقام الثبوت أو في مقام الإثبات، وإذا كان المراد الإضافة في مقام الثبوت، فهذا الفرض يستلزم أن يكون المحمولالثانيةًا كمال الموضوع في حين أنَّ الأمر ليس كذلك دائمًا، والمراد من «الكمال» الإضافة الوجوديّة والتي لها اسم «الكمال الفلسفي»، ولكن لو كان المراد الإضافة في مقام الإثبات، فنقول أوّلًا: مثل هذا المُدّعى يُنقض في بعض الموارد، مثل: المَواطن التي يكون يُحمل فيها الشيء على نفسه؛ لأنَّه لا مانع منطقيًّا من أن نقول: «الإنسان إنسانٌ» وهذا الحمل أيضًا هو حملٌ واقعيٌّ؛ ثانيًا: إذا كان الفرض أنَّ الحمل الواقعي هو الحمل الذي يضيف المحمول فيه على الموضوع شيئًا في مقام الإثبات، وهذا المِلاك يتحقّق في مورد القضايا التي يكون المحمول فيها هو «الوجود» أيضًا، فمثلًا: قضيّة «الله موجودٌ» تُفيد شيئًا إلى الموضوع في مقام الإثبات، فلِمَ إذًا لا يكون حملًا واقعيًّا؟

وتوضيح الأمر: إنَّ الموضوع في القضيّة الحمليّة يحكي فقط عن نفس الأمر لا بشرطٍ عن التحقّق وعدم التحقّق؛ يعني: لا يُبيّن إذا كان له

(258)

مصاديقُ متحقّقةٌ أم لا، ولكن إذا شكلتَ قضيّةً وحملتَ عليها المحمول «موجود»، فإنَّ الهيئة التركيبيّة للقضيّة في مقام الإثبات سوف تكون تفيد أنَّ الموضوع له مصاديقُ متحقّقةٌ، وهنا يمكن القول: قد أضاف المحمول على الموضوع شيئًا في مقام الإثبات والإخبار؛ لأنَّ المخاطب قبل تشكيل القضيّة لا يعلم أن موضوع القضيّة ذو مصداقٍ في نفس الأمر، ولكن الآن وقد سمعَ القضيّة، فإنّه يعلم بأنَّ الموضوع له مصداقٌ متحقّقٌ، وبالطبع، هذه الإضافة في عالم الإثبات ليست بمعنى أنّ مصداق الموضوع ومصداق المحمول متعدّدان في وعاء نفس الأمر، بل لهما مصداقٌ واحدٌ أو لهما نفس أمرٍ واحدٍ، وهذا ما ذكرناه في الفصل الثالث من أنَّ نفس الأمر لكل قضيّةٍ حمليّةٍ موجبةٍ صادقةٍ وحدةٌ مصداقيّةٌ بين الموضوع والمحمول، وبذلك، اتّضح أنَّ محمول الوجود يُفيد شيئًا في مقام الإثبات، وبالتالي فالمحمول حقيقيٌّ وكلام كانط في هذا الإطار غير تامٍّ.
(ت ـ 4): جاء في البند 3 من نموذج الانبناء بأنَّ «الوجود إمّا من الغير أو ليس من الغير»، ولكن هذا المُدعى تامٌّ في حال كان «الوجود» أو «الموجود» من الأوصاف التي يحتاج الشيء فيها إلى الغير في اتصافه بها، وفي حال لم تُثبتوا حتّى الآن بأنَّ «الوجود» من الأوصاف التي يحتاج الشيء في اتصافه بها إلى الغير، فعلى سبيل المثال: افرض عصفورًا يغرّد في أعلى الشجرة، وهذا العصفور يمكن أن يوصف بصفاتٍ من قبيل: «حيوان» «طائر» «جميل الصوت» «جميل» «نحيف» «ممكن» «معلول» «موجود» «واحد» «بالفعل» وهكذا الأوصاف الأخرى، وبكلّ الأحوال فالسؤال هو: «هل الموصوف يحتاج إلى الغير في كافّة أوصافه أم في بعضها؟ وإذا كان مُحتاجًا إلى الغير في بعض هذه الأوصاف، فما هو نوع تلك الأوصاف؟» فبهذا الأسلوب طالما لم يُعلم أنَّ «الوجود» أو «الموجود» من الأوصاف التي 

(259)

يكون الموصوف محتاجًا في اتصافه بها للغير، فلا يمكن أن نكتب «الوجود إمّا معلولٌ للغير وإمّا ليس معلولًا للغير»!

الإجابة: للإجابة على الإشكال سنشير إلى أنواع الصفات والمباني المتوفّرة في هذا الخصوص، ثمّ سنتناول الإجابة على الإشكال.

تنقسم الصفات وفقًا لأحد التقسيمات إلى صفاتٍ ثبوتيّةٍ ووجوديّةٍ، وصفاتٍ عدميّةٍ وسلبيّةٍ. وقسّم الحكماء الصفات الثبوتيّة أيضًا إلى قسمين:

1. صفة اتحاديّة، وتسمّى «خارج المحمول»؛ لأنَّها تستخرج من صميم الموضوع وتحمل عليه.

2. صفة انضماميّة، وتسمّى «محمول بالضميمة».

ورأي الفلاسفة المشهور هو أنَّ الصفة الاتحاديّة الخارج المحمول تختلف عن الصفة الانضماميّة أو المحمول بالضميمة بهذا الفارق، وهو أنّ الصفة الاتحاديّة واحدةٌ مع الموصوف وجودًا، ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الصفة الانضماميّة والمحمول بالضميمة، بل لهما تركيبٌ انضماميٌّ في الخارج، وفي قبال الرأي المشهور عند الفلاسفة، هناك رأيٌ آخرُ أيضًا مبنيٌّ على أنَّ تركيب الجوهر والعرض أو تركيب نفس الأمر الموضوع والمحمول هو تركيبٌ اتحاديٌّ أو هو على سبيل الوحدة؛ لأنَّه لو حلّلنا العرض بصورةٍ دقيقةٍ سنصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّ العرض ـ سواءً في الموارد التي تُسمّى اصطلاحًا «خارج المحمول»، مثل: «الوحدة» و«الكثرة» «الوجود» و...، والتي هي برأي البعض من المعقولات الثانية الفلسفيّة، وسواءً في المواطن التي تسمّى «محمولًا بالضميمة»، مثل: «الأبيض» و«الأسود» و... ـ فهو شأنٌ من وجود الجوهر والموضوع، وليس وجودًا منحازًا من وجود الموضوع؛ لأنَّ ما هو موجودٌ حقيقةً هو في الواقع مصداقٌ واحدٌ يُؤخذ منه نوعان من المفهوم، أو يصدق عليه نوعان من المفهوم.

(260)

والآن سنبدأ الإجابة على الإشكال بعد أن علمنا مباني البحث، وكان السؤال هو أنّ الشيء يحتاج إلى الغير في أيّ الصفات؟ في كافّة الصفات أم في بعضها؟ وهل «الوجود» من الصفات التي يحتاج الموصوف في الاتصاف بها إلى الغير؟ وبأيِّ دليلٍ؟

وللإجابة عن هذا السؤال، سنتطرق إلى نوعين من الإجابة: إجابةٌ وفق مبنى النظريّة الرائجة في الفصل بين الصفات الاتحاديّة والانضماميّة، وإجابةٌ أخرى على أساس عدم الفصل بين الصفات الاتحاديّة والانضماميّة، وإرجاع كافّة الصفات الثبوتيّة إلى الشؤون الوجوديّة للموصوف التي أوجدتها تلك الصفات.

وإجابة أغلب الفلاسفة على حول الصفات الانضماميّة يمكن أن تكون هكذا: إذا كان موصوفها ممكنًا ومعلولًا، إذًا فهذه الصفات حتّى لو كانت بحسب الفرض وجودًا منحازًا عن الموضوع، تحتاج في اتصافها بصفة ـ صفة الوجود ـ إلى الموضوع، وكلّ محتاجٍ ممكنٌ، إذًا بالأخير الصفات الانضماميّة أيضًا ستكون ممكنةً ومعلولةً، وبالطبع يعتبر أغلب الفلاسفة «الوجود» من الصفات الاتحاديّة التي ليس لها وجودٌ منحازٌ عن الموصوف، وتتبع موصوفها في العليّة والمعلوليّة، وهذه الإجابة على الإشكال على مبنى النظريّة الغالبة.

وأما الإجابة على الإشكال على مبنى إرجاع كافّة الصفات الثبوتيّة إلى الشؤون الوجوديّة للموصوف، فهي أقومُ؛ لأنَّنا هنا لن نسير في الأرض الصغريّة للصفات الاتحاديّة والانضماميّة أو المحمولات بالضميمة، بل نقول: الصفات إمّا وجوديّةٌ وإما عدميّةٌ، والصفات العدميّة بما أنَّها تنتزع من نقص الشيء وعجزه، فهي دون المعلوليّة ولا تقع ضمن مدار قانون العليّة وأمّا الصفات الوجوديّة في الموجودات فإنَّ إمكانيّتها في المعلوليّة

(261)

تابعةٌ لموصوفها؛ لأنَّ كافّة الصفات الوجوديّة التي ليس لها مصداقٌ سوى هذا المصداق الموصوف ستكون معلولةً، وأحيانًا يمكن لتعابير من قبيل: «الذاتي لا يعلَّل» و«ذاتي الشيء لم يكن معلَّلًا» أو «ما جعل الله المشمشة مشمشة ولكن أوجدها» أن يوجد مثل هذا التوهم، وهو أنَّ الصفات الذاتيّة لشيءٍ من الأشياء خارجٌ عن محمول المعلوليّة، في حين أنَّ المراد الأساسي من أمثال هذه التعابير هو أنَّ ذاتيات الشيء ليس لها جعلٌ آخرُ سوى جعل الشيء، بل إنَّ تحققها هو بجعل الشيء هذا؛ إذًا الصفات الذاتيّة هي الأخرى معلولةٌ وأن يكون الشيء معلولًا في الواقع فمعناه أن تكون صفاته الذاتيّة معلولةً أيضًا، وعلى كلّ حال، الوجود من الأوصاف التي يكون الشيء الممكن محتاج في اتصافه بها إلى الغير، أمّا الواجب فلا يحتاج في اتصافه بها إلى الغير.

(ت ـ 5): تتجلّى ركيزة برهانكم في «نموذج الانبناء» في أنّ «الموجود إمّا علّةٌ أو معلولٌ»، ولكن هنا يمكن طرح هذا السؤال، وهو أنّه في حين أنَّه يمكن أن يكون لديك مثل هذه القضيّة المنفصلة، وقد أثبتنا سابقًا شأنيّة الموصوف للاتصاف بأحد طرفَيِ المنفصلة، في حين أنَّك لم تلتمس حتّى لآن مثل هذا الاثبات ـ إثبات الشأنيّة للاتصاف بالعليّة أو المعلوليّة ـ إذًا برهانك غيرُ تامٍّ.

الإجابة: بما أنّه يمكن بيان كلّ قضيّةٍ بصورة نفيٍ وإثباتٍ أو إيجابٍ وسلبٍ بالقوّة، وأنَّ كلّ أمرٍ يُمكن أن يقع في طرفٍ من طرفَيْه بالضرورة، إذًا يمكننا ألّا نوقع أنفسنا في تحدّي الشأنيّة ونعبر من جواره بيسرٍ.

(ت ـ 6): لقد استفدتم في برهانكم من مفهوم «الوجود»، ونحن لدينا هذا الطلب منكم، وهو أن تبينوا «مفهوم الوجود» من أيّ أنواع المفاهيم هو؟ إذا كنتم تقبلون بهذا الرأي وهو أنّ مفهوم الوجود هو

(262)

مفهومٌ فلسفيٌّ من بناء الذهن، فيجب أن تبينوا كيف يمكن أن يكون مفهومًا جعليّاً مصنوعًا مشيئًا للأشياء وأن يجد التشكيك إليه سبيلًا، وأن يكون قابلًا للأخذ والردّ، ويمكن أن يقع في مدار العلية، وأن يكون دعيًّا للعلّة والمعلول؟

الإجابة: كما أشرنا في الفصل الثاني، فإنَّ مفهوم الوجود يجب أن يُعدّ من المعقولات الأوّلية، وفي هذه الحال لن ينحصر «المعقول الأوّل» بالمفاهيم الماهويّة، ووجه ذلك أنّنا في الخارج نتعامل مع المصداق العيني للوجود، وإذا كنّا نقول بأصالة الوجود، إذًا كيف يمكننا أن نشيح الوجه عن مصداقه؟ وعادةً ما يُصرّح مؤيدو أصالة الماهيّة من أمثال شيخ الإشراق والحكيم اللاهيجي و... باعتباريّة مفهوم الوجود وكونه معقولًا ثانيًا،[1] ولكن تمّ تحييد هذا الاتجاه تقريبًا بمساعي صدر المتألهين، فالملا صدرا المنظّر لنظريّة أصالة الوجود انتقد في مواطنَ كثيرةٍ التوهم بأن يكون مفهوم الوجود معقولًا ثانيًا.[2] وبالطبع هو يُصرّح بأنَّ المراد من مفهوم الوجود الذي له مصداقٌ عينيٌّ هو الوجود بمعنى اسم مصدر، لا الوجود بالمعنى المصدري، وقد كتب ما يلي:

إن لمفهوم الوجود الذي من أجلي البديهيّات الأوّلية مصداقًا في الخارج وحقيقةً وذاتًا في الأعيان وإنّ حقيقتها نفس الفعليّة والحصول والوقوع، لا بالمعنى المصدري كما ظنّه المتأخّرون كلّهم، بل بمعنى أنّها نفس حقيقة الوقوع وما به الوقوع سواءً كان الوقوع وقوع نفسه أي نفس الوجود أو وقوع شيءٍ آخرَ هو الماهيّة[3].

(263)

وبذلك يتّضح أنَّه لا ينبغي الوقوع في الشكّ في امتلاك الوجود لمصداقٍ عينيٍّ وبأنَّ الوجود هو المعقول الأوّل بعد القول بأصالة الوجود، إذ إنَّ بعض القائلين بأصالة الوجود تحدّثوا حول مفهوم الوجود بنحوٍ لا يتناسب مع أصالة الوجود، وعلى كلّ حالٍ مفهوم الوجود خلافًا لرأي القائلين بأصالة الماهيّة، ليس مجرّد مفهومٍ جعليٍّ ومنسوجٍ، بل نستمدّه من المصداق العيني ـ الداخلي والخارجي ـ وهو هذا المفهوم الحاكي عن «نفس التحقق».

(ت ـ 7): هناك إشكالٌ آخر يُمكن أن يُطرح هنا، وهو يرتبط بالبند 4 من «نموذج الانبناء» التي جاء فيه: «إذا كان وجودي ـ باعتباري أحد الموجودات ـ ليس من الغير، إذًا أنا واجبُ الوجود» ونتيجة الإشكال هي كيف يمكنك أن تنتقل من «وجود موجودٍ ما ليس من الغير» إلى «وجوب وجوده»؟

الإجابة: إنّ الإشكال والنقاش المذكور في الواقع هو سؤالٌ حول كيف يمكن الانتقال من «أن لا يكون الموجود من الغير» إلى «وجوب وجود ذلك الوجود»؟ وجوابه، لو فرضنا أنَّ موجوديّة الموجود ليست من الغير، إذًا من المعلوم أن ذلك الموجود غير ممكنٍ؛ لأنَّ قانون العليّة بديهيٌّ أوّليٌّ، وهو يقول: «كلّ ممكنٍ معلولٌ للغير»، إذًا طبق قانون عكس النقيض إذا كان الشيء ليس معلولًا للغير، فلن يكون ممكن الوجود، وإذا لم يكن الشيء ممكن الوجود، فسوف يكون واجب الوجود؛ لأنَّ هذه القضيّة «الموجود إمّا واجبٌ أو ممكنٌ» والتي هي في الحقيقة تعبيرٌ آخرُ عن القضيّة المنفصلة الحقيقيّة «الموجود إما أن يكون ضروري الوجود بذاته أو لا يكون ضروري الوجود بذاته» هي من البديهيّات الأوّلية؛ لذلك، إذا أذعنّا بـ «عدم معلوليّة الشيء» نكون في الواقع قد أذعنّا بـ «كون واجب الوجود» وهو نفس ما بيناه في البند 4 من «نموذج الانبناء» بهذه الصورة:

(264)

«إذا كان وجودي ـ باعتباري موجودًا ـ ليس من الغير، إذًا فأنا واجب الوجود».

(ت ـ 8): استعمل مفهوم العليّة في البرهان المذكور وكذلك قانون «العليّة»، ومن هذا المنطلق، هناك أسئلةٌ تُطرح حول جوانب مفهوم العليّة وقانون العليّة، وسنشير إلى بعض النماذج منها:

أ. «ما هو مرادكَ من العليّة؟» فماذا تعني عندما تقول: «أ» علّة «ب»، و«ب» معلول «أ»؟ وما هو نوع العلاقة بين «أ» و«ب» كي يُعبّر عنها بـ «العليّة»؟ هل المراد الشرط اللازم أو الشرط الكافي أو الشرط اللازم والكافي أم أمرٌ آخرُ؟ وفي الختام ما هو مرادك من «العليّة»؟ فإذا كان هذا المفهوم «بديهيًّا» فما هو سرّ بداهته؟ وإذا كان «نظريًّا»، فما هو معرّفه؟ وإذا قال شخص: «أنا لا أفهم شيئًا من العلية» فكيف ستتعامل معه؟

ب. «ما هي الأمور التي تتّصف بالعليّة والمعلوليّة؟» وهل ما يتّصف بالعليّة جوهرٌ أم غير جوهرٍ؟ وإذا كانت من القسم الأوّل فهل هو جوهرٌ فرديٌّ وخاصٌّ بالعلّة أم جوهرٌ نوعيٌّ للعلّة؟ وإذا لم يكن ما يتّصف بالعليّة جوهرًا، فهل الخواص والعوارض التي من قبيل: الاصفرار والاحمرار و… علّةٌ؟ وهل الظواهر التي من قبيل: الضرب والنجاح والذكاء علّة؟ أم هل ما هو موصوف بالعليّة والمعلوليّة أمرٌ آخر؟

ج. «كيف يمكن إثبات العليّة؟» فهل الحاكم بوجود عليّة بين «أ» و«ب» هو الحسّ أم العقل؟ فإذا قلت: الحسّ، فإذن سنواجه إشكال هيوم الذي قال: «الحسّ لا يشير إلّا إلى تعاقب الأحداث»، فالحس لا يقول إذا كان «ب» خلف «أ» دائمًا، إذًا «أ» أوجد «ب»، وبرأي هيوم يشير الحسّ إلى تعاقب الحوادث والظواهر فقط، لا إلى العليّة بينها، إضافةً إلى أنَّه

(265)

برأي شخصٍ مثلالثانيةييت[1] لا يُمكن للحسّ إثبات هذا المقدار أيضًا، وإذا قلتَ بأنّ العقل هو الذي يُثبت العليّة، فسنقول: بأيّ أصلٍ عقليٍّ تُثبت العليّة بين شيئين؟

د. «كيف ننسق قانون العليّة؟» إذا بيّنَته على صورة القضيّة التحليليّة التالية: «إذا كان شيءٌ معلولًا، فإذًا له علّةٌ»، فإنّنا لا ننكره، ولكن هذه القضيّة لا تُثبت شيئًا؛ وأمّا إذا بيّنتَ قانون العليّة على صورة القضيّة الشرطيّة المنفصلة التالية: «كلّ موجودٍ إمّا معلولٌ وإمّا غير معلولٍ» فمضافًا إلى أنَّها لا تُبيّن أيّ شيءٍ هو العلّة وأيّ شيءٍ هو المعلول، سيواجهك هذا الإشكال أيضًا، وهو أنّ الأمر الذي وضعته في حلقة العليّة والمعلوليّة لم تثبت شأنيّة اتصافه بالعليّة والمعلوليّة إلى الآن، وإذَا أردت إثبات شأنيّته من أجل مثل هذا الاتصاف، فبما أنّ المقدّمات هي علّة النتيجة، إذًا سيتمّ وضعها في دوامة البحث أيضًا؛ لأنَّك تستعمل قانون العليّة في عمليّة الاستدلال!

الإجابة: الإشكال المذكور يتشكّل من ثلاث فقراتٍ سنجيب عليها بالترتيب:

الإجابة (أ) في البند «أ» كان السؤال: «ما هي العليّة؟» وجوابنا هو أنَّ العليّة عبارةٌ عن «أن يكون لشيءٍ أثرٌ في وجود شيءٍ آخر»، فالعليّة بناءً للمعنى المذكور تشمل كلّ شيءٍ له أثرٌ على وجود شيءٍ آخر بنحو ما، ومن هنا، سيشمل الشرط الكافي والشرط اللازم، ومفهوم العليّة مفهومٌ بديهيٌّ؛ لأنَّه يُمكن تحصيله من العلاقة التي بين النفس مع إرادتها ومن خلال العلم الحضوري المشهود للنفس، وفي المحسوسات نُدرك مفهوم العليّة بمساعدة العقل، وليس هناك من حاجةٍ إلى عمليّةٍ فكريّةٍ لتحصيله، هذا على الرغم

(266)

من أنّ الإحساس الخاصّ لازمٌ كي يكون العقل مهيّأً لأخذ مثل هذا المفهوم، وبكلّ الأحوال كلّ شخصٍ يراجع نفسه سيجد نفسه واجدًا لمفهوم العليّة، حتّى لو كان من الممكن أن يكون تحت عناوينَ أخرى، وإذا قال شخصٌ بأنَّه لم يجد شيئًا من مفهوم العليّة في نفسه، فيجب تنبيهه بواسطة المُنبّهات.

الإجابة ب) في البند «ب» كان السؤال «ما هو سبب العليّة؟» وإجابتنا هنا هي أنَّ سبب العليّة هو «الوجود»؛ لأنَّ كلّ شيءٍ متحقّقٌ إنّما يرجع إلى «الوجود»؛ لأنَّ «الوجود» هو نفس التحقّق والوقوع، وإذا نسبنا العليّة إلى أمورٍ أخرى، فوسف تكون بالتبع.

الإجابة (ج) في البند (ج) كان السؤال: «ما هو الحاكم على العليّة؟» وجوابنا كذلك هو أنّ الحاكم على العليّة هو العقل؛ لأنَّ العقل يُصدّق القضيّة البديهيّة الأوّليّة القائلة: «كلّ ممكنِ الوجود يحتاجُ إلى علّةٍ»؛ لأنَّ العقل يذعن بعد ملاحظة طرفَي القضيّة بأنّه لو كان هناك شيءٌ ممكنُ الوجود فهو قطعًا سيحتاج إلى علّةٍ، والشيء الممكن إنّما يكون وجوده من ناحية الغير، كما بيّنا في الإجابة (ت ـ 7).

الإجابة (د) كان السؤال في البند (د) كالتالي: «كيف تتمّ صياغة قانون العليّة؟»، والإجابة هي أنَّ قانون العليّة هو التالي: «كلّ ممكنِ الوجود يحتاج إلى علّةٍ»، وبالطبع بما أنَّ هذه القضيّة هي قضيّةٌ حقيقيّةٌ، لذا يُمكن صياغتها بهذه الصورة: «إذا كان هناك شيءٌ ممكنُ الوجود، فإنَّ تحقّقه يحتاج إلى موجودٍ آخرَ يُسمّى علّته» وفي هذه الصورة، يتّضح أنَّ كلّ شيءٍ ممكنُ الوجود بناءً على الفرض، فجميع شأنه هو أنَّ وجوده من الغير.

(ت ـ 9): تبعًا للإجابات التي طُرحت على الإشكالات المطروحة حول «العليّة»، يُمكن أن تُطرح هذه الإشكالات أيضًا:

(267)

أ. بالنسبة للتعريف الذي طُرح حول العليّة، وهو أنَّ «العليّة» عبارةٌ عن «دور شيءٍ في وجود شيءٍ» بناءً على هذا التعريف يُطرح هنا هذا السؤال: «ماذا يعني دَور؟» إذا كان الدور بمعنى التأثير، بالتالي بعد التدقيق سنجد أنّه يصاحبه بنحوٍ ما دورٌ مكشوفٌ، أمّا إذا كان مرادك من «وجود دورٍ» المعنى الأعمّ، فإذًا لِمَ لا تكون «العلّة المعدّة» داخلةً بهذا المعنى؟

ب. أنتَ قلتَ من ناحيةٍ: «العليّة» تعني «دور شيءٍ في وجود شيءٍ آخر» ومن ناحيةٍ أخرى عرّفت «الوجود» باعتباره سبب العليّة، إذًا سيكون تعريفك للعليّة كالتالي؛ «العليّة عبارةٌ عن الدور الوجودي لشيءٍ في وجود وجودٍ آخر؟»

الإجابة: في التحدي التاسع تطرح إشكالات في بندين، وسنتعرّض الآن الإجابة عليهما هنا.

الإجابة (أ) لا بدّ من الالتفات إلى نقطتين كتمهيدٍ للإجابة على المناقشة الأولى (أ)، وهما كالتالي:

1. صحيح أنّنا عرّفنا «العليّة» بـأنّها «دورُ شيءٍ في وجود شيءٍ»، ولكن هذا التعريف للعليّة ونظائره لا يجب اعتباره تعريفًا حقيقيًّا للعليّة؛ لأنَّ «العليّة» ليست أمرًا مجهولًا لنا كي نكون في صدد البحث عن تعاريفَ له، إنّ «العليّة» حقيقةٌ يدركها البشر، على الرغم من أنّهم لا يعرفونها عادةً تحت عنوان «العليّة»، بل غالبًا تحصل معرفتهم لها عبر مظاهرَ وعناوينَ أخرى، فالعليّة تبرز للأطفال بهذه الصورة، وهي أنّهم يفهمون مثلًا بأنَّ ألعابهم بعيدةٌ عن متناول أيديهم الآن، وقد وقعت في الحديقة ويمكن استعادتها في حال عزمٍ وجزمٍ بالسفر إلى الحديقة، فيُعمل الطفل إرادته وبعد ذلك يُحرّك عضلاته وبهذه الطريقة يُحقّق الطفل هدفه، إذًا الأطفال يعرفون العليّة أيضًا، ولكن يبحثون عنها تحت مسميّاتٍ أخرى، والشباب

(268)

كذلك يعرفون العليّة في مظاهرَ متعدّدةٍ، فلاعب كرة القدم الذي ستخرج كرته إلى خارج الحدود، فيجتهد ويسعى ليتجنّب ذلك، فهو يفهم أنَّه لأجل الفوز ونيل الهدف يجب أن يركض بطريقةٍ خاصّةٍ يمينًا ويسارًا، إذًا فهو يعلم أيضًا مفهوم «العليّة»، وليس البالغون بلا نصيبٍ من فهم العليّة. فالمسنّ الذي يعجز بسبب المرض فلا يتمكن من النهوض عن الأرض يفهم أنَّه ينبغي أن يتوكّأ على العصا من أجل أن يقف.

ومع هذا التوضيح، يتّضح أنَّ العليّة معلومةٌ من الناحية التصوّريّة، إذًا فهي ليست مفهومًا مجهولًا كي نُوفّر تعريفًا حقيقيًّا لها، والآن في الإجابة على إشكال الدور نقول: تعريف العليّة بأنّها «دور شيءٍ في وجود شيءٍ» فمع الالتزام بأنَّ «دور» بمعنى «تأثير» فهذا ممّا لا يلزم منه الدور؛ لأنَّ الدور يقع عندما نلتزم بأنَّ التعريف المذكور للعليّة هو التعريف الحقيقي في حين أنّنا عرضناه بعنوان تعريفٍ لفظيٍّ للعليّة.

2. «دور شيءٍ في وجود شيءٍ» يمكن أن يكون ذا معنَيَيْن، معَنى فلسفيٍّ دقيقٍ، ومعنًى عُرفيٍّ بسيطٍ، ونحن إنّما استخدمنا مفهوم «دور» بالمعنى الفلسفي الدقيق، وأصلًا لم يكن مرادنا هنا معناه العرفي، وتوضيح ذلك: إنَّ العرف يقول على نحو المسامحة بدور وعليّة أمورٍ بالنسبة إلى أمورٍ أخرى، وأمّا الفيلسوف فيُدقّق في الفهم العرفي، وهكذا يقول: يمكن أن يكون للدور معنًى حقيقيٌّ عندما يكون لشيءٍ دورٌ في وجود شيءٍ، فالفيلسوف لا يعتبر العلّة المُعِدّة علّةً حقيقيّةً؛ لأنَّه في العلّة المعدّة لا دور لوجود شيءٍ في وجود شيءٍ آخر، بل لعدم وجود شيءٍ دورٌ في وجود شيءٍ، وليس «العدم» شيئًا، مثلًا: اعتُبرت الحركة علّةً مُعدّةً لـ «الوصول»، ولكن هل يمكن اعتبارها علّةً حقيقةً؟ وكيف يمكن اعتبار «الحركة» علّة «الوصول» حقيقةً في حين أنَّ زوال ذلك الشيء هو شرط تحقّق المعلول؟

(269)

وعليه، فإنَّ تعريف العليّة بـ «دور شيءٍ في وجود شيءٍ» ليس تعريفًا حقيقيًّا حتّى نريد بواسطته أن نعلم أمرًا مجهولًا، بل نحن نمتلك أصل هذا المفهوم، على الرغم من أنّنا أحيانًا لا نلتفت إليه بعنوان العليّة.

وفي عمليّة العليّة، الدور الذي للعلّة هو أنّه لو زال سيزول المعلول أيضًا، وهذا الأمر في العلل المنحصرة في أنّه لو زالت العلّة المعيّنة، فسوف يزول المعلول أيضًا؛ لأنَّه في العليّة المنحصرة، العلّة تكون علّةً على نحو التعيّن، خلافًا للعلل غير المنحصرة حيث العلّة تكون في الواقع في كلّ واحدٍ منها على نحو البدل، كما قالوا في الواجب التخييري أنّ الواجب هو «كلّ واحدٍ» على نحو البدل، ومن هذا المنطلق، يُمكن القول: إنّ الفيلسوف لا يعتبر العلّة الإعداديّة علّةً حقيقيّةً لأنّها تفتقد للخاصيّة المذكورة، ولذلك يُدقّق ويُصحّح الفهم العرفي بواسطة الدقّة الفلسفيّة، وإذا أردنا أن نُبرز هذه الدقّة أيضًا في بيان العليّة، فيجب أن نقول هكذا: «العليّة، هي دور شيءٍ في وجود شيء آخر، بحيث إذا زال ذلك الوجود يزول ذلك الشيء الآخر أيضًا».

الإجابة (ب) في المناقشة الثانية (ب) كان الكلام كالتالي: إنّ تعريف العليّة بأنّها «دور شيءٍ في وجود شيءٍ» فإنّه مع الالتفات إلى أنَّه سبب العلية هو الوجود أيضًا، سيتحوّل إلى ما يلي: «دور شيءٍ في وجود وجودٍ»، وتبعًا ذلك، طُرحت إشكالاتٌ.

والآن قبل الإجابة على الإشكالات المطروحة في هذا الباب، لا بدّ أن نُشير إلى أنَّه مع الالتفات إلى أنَّ العليّة في مدار الوجود فإنَّ كافّة التقارير المتنوعة حول امتلاك الدور تتبدل أيضًا إلى الوجود؛ وتوضيح ذلك: العليّة وهي بمعنى امتلاك الدور في المفهوم الفلسفي الدقيق يمكن بيانها بعدّة صورٍ والتي لها بأجمعها في الواقع مفادٌ واحدٌ: 1. دورُ شيءٍ في شيءٍ؛ 2.

(270)

دور وجودٍ ما في وجودٍ؛ 3. دور وجود شيءٍ في وجود شيءٍ؛ 4. دور شيءٍ في وجود شيءٍ؛ 5. دور وجود شيءٍ في شيءٍ. فهذه الصور المتنوعة للعليّة ترجع جميعها إلى الدور الوجودي، أضف إلى ذلك أنّ الإضافة في «وجودُ شيءٍ» هي إضافةٌ بيانيّةٌ، ولو قلنا أنّها إضافةٌ مِلكيّةٌ من ذلك النوع من إضافة الملكيّة التي يكون فيها المالك والمملوك فيهما واحدٌ؛ أي أنّ المالك ليس غير المملوك، مثلما يُبيّنون الفَرْق بين العبد والحرّ بهذا النحو، حيث إنّ العبد ليس مالكًا لنفسه ولكن الحرّ مالكٌ لنفسه، إذًا عندما نقول: «وجودُ شيءٍ» فهذا بمعنى أن الشيء مصداقُ الوجود ومصداق الشيء أيضًا، وهذا القلم الذي أكتب به الآن هو مصداق الوجود وكذلك مصداق ماهيّة القلم، ولكن هذه الحقيقة هي مصداق الوجود بالأصالة وهي مصداق ماهيّة القلم بالتبع أيضًا؛ لأنَّ الماهيّة في حد ذاتها ليس لها مقتضى التحقّق ولا تحكي عن التحقّق أيضًا، وبهذا الوصف يُمكننا أن ننسب العليّة إلى الوجود وإلى الماهية أيضًا، مثلًا: يمكن أن نقول: «النار علّة الاحتراق» ولكن من الجليّ أنَّ النار في حدّ ذاتها ليست علّةً، بل النار الموجودة علّةٌ، والنار الموجودة عبارةٌ عن وجودٍ متعيّنٍ، ومن الواضح، أنَّ الوجود المتعيّن هو الوجود؛ إذًا عندما نقول: «النّار علة الاحتراق» فمعنى ذلك: «الوجود الذي هو النار، علّةٌ لأجل الوجود الذي هو الاحتراق»، وبذلك فلا مانع من أن نقول: «النار علّة الاحتراق»، ولكن لا ينبغي أن نغفل عن هذه النقطة وهي أنّ النار الموجودة والاحتراق الموجود هما العلّة والمعلول؛ لأنَّه من المسلم أنَّ النار المعدومة والاحتراق المعدوم لن يكونا علّةً ومعلولًا. وكذلك في الحقيقة ماهيّة النار وماهيّة الاحتراق خارجان عن محور العليّة أيضًا؛ لأنَّ الماهيّة لا تأبى العدم في حدّ نفسها، إذًا فكيف يُمكن أن ننسب العليّة إلى ذاتٍ لا ترفض العدم.

والمحصِّلة هي أنّنا يُمكن أن ننسب العليّة إلى غير الوجود أيضًا، ولكن

(271)

في الواقع هذا الوصف متعلّقٌ بحال الموصوف. إذًا لو قلنا: «الجسم أبيضُ» ففي واقع معنى ذلك: «بياض الجسم أبيضُ»، كذلك لو قلنا: «النار علّةٌ» فستتبدّل إلى «وجود النار علّةٌ»، والآن مع الالتفات إلى المسائل التي بينّاها حول المفاهيم الماهويّة وعلاقتها بالعليّة، يُمكن قياس المفاهيم الأخرى بها أيضًا، مثلًا: يُمكن أن نقول: «الواحد هو العلّة» ولكن من الواضح، أنَّ الواحد الموجود علّةٌ، لا الواحد المعدوم؛ وعليه، فما هو علّةٌ حقيقةً هو الوجود، أمّا الأمور الأخرى فهي تصل إلى العليّة في ظلّ الوجود أيضًا، وبذلك اتّضح أنَّ العليّة تُفسّرَ على أساس الوجود؛ لأنَّ العليّة تحصل في إطار الوجود؛ لأنَّ الوجود فقط هو الحاكي عن الوقوع والتحقّق، وهذا هو النطاق المفهومي للوجود، ومقتضى ذلك هو أنّه هو الواجد للدور المحوري في عمليّة العليّة وينحصر به الدور الأساسي والانحصاري للعليّة، وكلّما نسبنا العليّة إلى مفاهيمَ أخرى، ففي نهاية المطاف ستتبدّل إلى الوجود الحاكي عن التحقق والفعليّة، وكما أشرنا سابقًا: إنَّ مفهوم الوجود بمعنى الاسم مصدري هو من المعقولات الأولى وهو يحكي عن التحقّق والفعليّة.

(ت ـ 10): إنّ الإشكالات التي ستطُرح من الآن فصاعدًا حول «نموذج الانبناء»، ترتبط بـ «برهان الوسط والطرف» الذي تمّ الاعتماد عليه في نموذج الانبناء بهدف إبطال التسلسل، وهذه المجموعة من الإشكالات لها أهميّةٌ كبيرةٌ، وبالإجابة عليها تكون هذه السلسلة من التحديات قد وصلت إلى خواتيمها.

وكما يبدو فإنَّ برهان الوسط والطرف من أجل إبطال التسلسل، استعمل كلًّا من «التمثيل المنطقي» أو «القياس الأصولي»؛ لأنَّه في هذا البرهان من خلال استخدام تشبيه مجموعاتٍ لا متناهيةٍ بمجموعةٍ

(272)

متناهيةٍ جرى الحديث بالنحو التالي: بما أنّ لكلّ مجموعةٍ طرفَيْن، وبما أنّ تسلسلنا يصل بنا إلى مجموعةٍ ذات طرفٍ واحدٍ، إذًا فهذا التسلسل باطلٌ ويجب اعتباره مُحالًا، ولكن يُمكن المناقشة في ذلك بأنّه إذا كانت المجموعة متناهيةً فسيكون لها طرفان، أمّا المجموعات اللا متناهية فليس لها مثل هذه الخاصيّة، يعني: إذا أصبحت المجموعة متناهيةً، سيضاف عددٌ من الأوساط فقط أمّا الطرفان فسيبقيان ثابتين، ولكن عندما تصبح المجموعة بلا نهايةٍ، سيُصبح عدد أطرافها واحدًا لا اثنين، وأساسًا المجموعة اللامتناهية ـ المجموعة اللا متناهية فُرضت على أنَّها من طرفٍ غير متناهٍ ـ هي الأخرى كذلك لها طرفٌ واحدٌ لا طرفان، خلافًا للمجموعة المتناهية التي سيكون لها طرفان، وهنا حيث يقول المستشكل: نحن في مقام البحث أردنا من الخصم أن يُثبت أنَّه لا وجود لمجموعةٍ لا متناهية، ولكنّ أثبت بأنّه إذا كانت مجموعة لا متناهيةً، فعندها ستكون تلك المجموعة لا متناهيةً. ونحن نريد منك أن تثبت أنَّ المجموعة اللا متناهية يعني المجموعة التي لها طرفٌ واحدٌ فقط لا وجود لها، ولكن أنت قلت: لو كان هناك وجودٌ للمجموعة اللامتناهية، فعند ذلك تلك المجموعة لا طرف لها، وهذا مثل لو طلبنا من شخصٍ أن يثبت أن «لا وجود للكلب ذي القرن» وسيقول هو: «لو كان هناك وجودٌ للكلب ذي القرن عندها سيكون ذلك الكلب ذا قرنٍ»! إذًا على كلّ حالٍ هو لم يثبت أنَّه «لا وجود للكلب ذي القرن» وقد أثبت كانتور للمرّة الأوّلى بأنَّ حكم المجموعات اللامتناهية لا تقبل التعميم إلى مجموعاتٍ متناهيةٍ أو بالعكس، ونحن سنقول أيضًا: لا يمكن تعميم حكم المجموعة المتناهية ذات الطرفين إلى مجموعةٍ لا متناهيةٍ لا طرف لها، ويبدو أنَّه قد استعمل في برهان الوسط والطرف مثل هذا التعميم غير المبرّر من أجل إبطال التسلسل!

الإجابة: للإجابة على النقاش المطروح حول برهان الوسط والطرف،

(273)

فسنقوم في البداية بطرح بعض النقاط، ثمَّ سنتناول الإجابة على الإشكال.

1. للحكماء عدّةُ اتجاهاتٍ في ما يتعلّق ببرهان الوسط والطرف، والبعض ناقشوا في هذا البرهان مثل جلال الدين الدوّاني[1]، والبعض مثل الحكيم السبزواري قرّروا البرهان بنحوٍ ـ  من خلال الإرجاع إلى المجموعة الاعتباريّة ـ أسقطه عن إحكامه[2]، والبعض مثل الأستاذ مطهري سعوا لإحياء هذا البرهان ولكنّهم أرجعوه بطريقةٍ ما إلى برهان الربط الذي للعلامة [الطباطبائي]، والذي أسقط البرهان في الواقع عن أصالته[3]، والبعض أيضًا بدّل هذا البرهان إلى برهان العليّة فأسقطوه عن استقلاله[4]، ولكنّ مسارنا هنا هو بصدد إحياء هذا البرهان باعتباره برهانًا مستقلًّا؛ لأنَّ كبرى هذا البرهان هو أنَّ كلَّ شيءٍ وسطٍ يحتاج إلى طرفين، هذا على الرغم من أنّنا سنصل من خلال العلم بأنَّ أعضاء هذه السلسة علّة ومعلول أيضًا.

2. إنّ حكم العقل البديهي هو أنّه إذا كان لدينا ثلاثة عناصرَ «أ» و«ب» و«ج»، فإذا فرضنا أنَّ «ب» وسطٌ، فإذًا يلزم أن يكون له طرفين، وهما في الفرض المذكور نفس «أ» و«ج»، وكذلك، إذا فرضنا أنَّه لدينا عدّة أشياء بحيث كان هناك عنصران منهما وسطًا، فإذًا من الضروري أن يكون لها طرفان، مثلًا: لو فرضنا أنَّه لدينا العناصر الأربعة {أ، ب، ج، د} بحيث وقع (ب و ج) في وسط هذه المجموعة، بالتالي لو استمرّت هذه المجموعة إلى ما لا نهاية، فبما أنّ أعضاءها أمورٌ وسطٌ إذًا لا بدّ من أن يكون لها طرفين أيضًا؛ لأنَّ العقل حاكم بأنَّه لو كان هناك أمرٌ أو أمورٌ وهي وسطٌ، فلا بدّ من أن يكون لها طرفان بالضرورة.

(274)

3. ونحن نقبل بأنّه لو كانت هناك مجموعةٌ لا متناهيةٌ فلا طرف لها؛ لأنَّ معنى «عدم التناهي» هو أنَّه «لا نهاية لها» و«النهاية» هي عين «الطرف»، إذًا فنحن في برهان الوسط والطرف نبحث على أساس هذه المعنى الرائج لغير المتناهي، ولا نغير الفرض.

4. نحن نعلم أنَّه في موطن النزاع في بحث التسلسل ليست المجموعة اللا متناهية فقط، بل محور البحث والنزاع في بحث التسلسل هو تلك المجموعة اللامتناهية ذات الشروط الثلاث «الفعلية» و«الاجتماع في الوجود» و«الترتّب علّيٌّ»[1]، ولذلك محلّ الكلام هو التسلسل في العلل التي من المفترض أنّها سوف تستمرّ إلى ما لا نهاية.

وفي التسلسل العلّي يقوم المُدّعى على وجود سلسلةٍ من العلل والمعلولات التي تستمرّ كذلك إلى ما لا نهاية ولا تصل إلى طرفٍ، يعني: لا تصل إلى علّةٍ ليست معلولةً أو معلولٍ ليس علّةً، ويقول مخالفو المدّعى المذكور: إنّ مثل هذا الأمر غير ممكنٍ، ويثبتون ذلك بطرقٍ مختلفةٍ، وبرهان الوسط والطرف هو أحد طرق إبطال التسلسل.

5. لقد تمّ التأكيد في برهان الوسط والطرف على هذا المطلب، وهو أنَّ كلّ عضوٍ يقع في سلسلة العلّة والمعلول، إذا كان علّةً ومعلولًا معًا كما هو المفروض، فهو «وسطٌ» قهرًا، لأنّه من البديهي أنَّ ما هو علّةٌ

(275)

ومعلولٌ فهو واقعٌ بين شيئين بالضرورة، وأيضًا قد تمّ البرهان على أنّ الشيء الذي هو علّة ومعلولٌ معًا، إذا لم يكن وسطًا فلن يخرج عن حالةٍ من ثلاث حالاتٍ:

1) الفرض أنَّه أساسًا ليس لديه طرفان، وهذا الفرض باطلٌ؛ لأنَّ هذا الفرض يستلزم أن يكون الشيء علّةً ومعلولًا، ولهذا السبب بما أنَّ الفرض أنَّ هذا الشيء علّةٌ ومعلولٌ، فإذا لم يكن له طرفان، نظرًا لأنَّه لا طرفَ عِلّيًّا له، فسيستلزم أنّه مع فرض كونه معلولًا كونه نفسه علّةً لنفسه، وهذا يستلزم تقدّم الشيء على نفسه وهو باطلٌ بالضرورة، ومن ناحيةٍ أخرى بالنظر إلى أنَّ الطرف ليس له معلولٌ، فإذًا لازم ذلك هو أنَّه هو معلولُ نفسه وهذا يستلزم تأخّر الشيء عن نفسه وكلّ هذا محالٌ، لأنّ الفرضين كلاهما يلزم منهما التناقض؛ لأنَّه يستلزم أن يكون الشيء في رتبةٍ سابقةٍ وألّا يكون، وكذلك أن يكون الشيء في رتبةٍ لاحقةٍ وألّا يكون، وهذا تناقضٌ والتناقض باطلٌ بالضرورة، إذًا هذا الفرض باطلٌ أيضًا.

2) أن يكون الطرف علّةً فقط، وهذا الاحتمال باطلٌ بالضرورة أيضًا؛ لأنَّه لو افترضنا أنَّ شيئًا كان علّةً ومعلولًا معًا، ولم يكن له طرفٌ معلولٌ، فهذا يستلزم أنَّ هذا الشيء إمّا أن يكون علّة نفسه أو علّةً لعلّة نفسه، وإذا كان علّة نفسه فيلزم منه تأخّر الشيء عن نفسه، وهذا باطلٌ بالضرورة، وإذا كان علّةً لعلّة نفسه، فيلزم منه الدور، وهو بدوره يلزم منه توقّف الشيء على نفسه، وبالنتيجة يوجب تقدّم الشيء على نفسه وهو باطلٌ بالضرورة.

3) احتمال أن يكون له طرفٌ معلولٌ فقط بدون أن يكون له طرفٌ علّةٌ، وهذا الفرض باطلٌ أيضًا؛ لأنَّه لو فرضنا أنَّ شيئًا كان علّةً ومعلولًا معًا، فليس له طرفٌ علِّيٌّ، إذًا فإمّا هو نفسه علّةٌ لنفسه ولازمه تقدّم الشيء

(276)

على نفسه، وإمّا أنَّه معلولٌ لمعلول نفسه ويلزم منه الدور وهو ما سيكون مستحيلًا بسبب تقدّم الشيء على نفسه.

فإذًا إلى هنا تمّ إثبات أنّ الشيء الذي هو علّةٌ ومعلولٌ معًا ينبغي أن يكون وسطًا، ومن هنا نستطيعُ أن نتعرّف على ما يقع وسطًا في سلسلة العليّة، فالوسط هو الشيء الذي يكون علّةً ومعلولًا معًا، والموجود الذي هو وسطٌ في سلسلة العليّة ـ يعني: الذي يكون له هذه الخاصيّة، وهي أن يكون علّةً ومعلولًا معًا ـ يُمكن أن يكون واحدًا كما يُمكن أن يكون مُتعدّدًا.

6. النقطة الأخر، هي أنَّ التسلسل العِلِّيّ إذا كان غير متناهٍ من الطرفين، فمعنى الطرفين هو أن يكون هناك «طرفٌ معلولٌ» واحدٌ فقط و»طرف ليس له علّة» واحدٌ فقط؛ لأنَّه بما أنّ السلسلة التي تمّ فرضها هي سلسلةٌ لا متناهيةٌ، فلا طرف لها، وبما أنّ عدم التناهي هذا قد فُرِض في سلسلة العلّة والمعلول، إذًا مصداق طرفيها سيكون معلولًا واحدًا فقط وعلّةً واحدةً فقط.

والآن مع الأخذ بعين الاعتبار هذه النقاط الستّة المذكورة، سنتعرّض للإجابة على المناقشة المذكورة حول برهان الوسط والطرف، وفي البداية سنتعرّض لبيان سرّ هذه النقطة، وهي أنّه لماذا على الرغم من أنَّ الحكماء يقبلون بأنَّ المجموعة اللامتناهية لا طرف لها، وحتّى ابن سينا ذكر صراحةً أنّنا نبحث عن طرفٍ وقيدٍ للامتناهي[1]، ولكن في الوقتِ نفسِه يقول: إذا

(277)

كانت مجموعة العلّة والمعلول لا متناهيةً، فمثل هذا الأمر غير ممكنٍ، وإذا دقّقنا فسنلتفت إلى أنَّ سبب عدم اعتبارهم كون التسلسل في العلل جائزًا لا يعود فقط إلى أنَّ مثل هذه المجموعة لامتناهيةٌ، كي يَرِد عليهم النقاش بأنَّهم لم يُفرّقوا بين المجموعات المتناهية واللامتناهية، وإنّما أفتوا باستحالة التسلسل في العلل من جهة أنّ المجموعة اللامتناهية تتشكّل من علّةٍ ومعلولٍ يمتلكان خصائصَ خاصّةً من بين كافّة المجموعات اللامتناهيّة، ومن الممكن أن يُطرح هذا السؤال: أيّ خاصيّة تلك التي فصلت المجموعة اللامتناهية من العلل عن باقي المجموعات المتشكّلة؟

والإجابة هي أنَّ السلسلة اللا متناهية من العلّل والمعاليل تمتلك هذه الخاصيّة، وهي أنَّه يُوجد بين حلقات سلسلتها ارتباطٌ وجوديٌّ، وهي ليست بحيث يُوجد عضوٌ إلى جوار عضوٍ آخر وحسب.

فما هي العليّة؟ هي التوقف الوجودي، إذًا المعلول يتوقّف في وجوده على العلّة، والعلّة هي ملاذه الوجودي، وفي التسلسل يفرض أنَّ السلسلة لا متناهيةٌ من جانبين؛ ولأجل هذا التسلسل في العلل، فإذًا كلّ عضوٍ من هذه السلسلة هو علّةٌ ومعلولٌ أيضًا، وكما بينّا سابقًا، كلّ ما كان علّةً ومعلولًا معًا فهو وسطٌ، ولأنَّه وسطٌ فهو يحتاج إلى طرفين، وقد ذكرنا سابقًا أنَّ الطرفين في التسلسل العِلِّيِّ هو عبارةٌ عن «معلولٍ ليس علّةً» و«علّةً ليس معلولًا»؛ ولأنَّ التسلسل اللا متناهي في العلل يوجب أن يكون ما هو وسطٌ بلا طرفين، إذًا فهو باطلٌ بالضرورة؛ لأنَّ العقل يحكم بأنَّ كل وسطٍ يحتاج إلى طرفين، والآن السلسلة اللامتناهية من العلل والمعلول هي أوساطٌ ليس لها طرفان، وهذا تناقضٌ؛ لأنَّ الشيء الذي هو وسطٌ بما أنّه بلا طرفين، لذا لن يحتاج إلى وسطٍ، وهذا خلفٌ.

من الممكن أن تقولوا: «كونه وسطًا» يقتضي أن يحيط به شيئان،

(278)

ولكن لا يمكن أن يُستنتج كيف يكون هذان الطرفان من كبراكَ القائلة: «كلّ وسطٍ يحتاج إلى طرفين»، ونحن نقبل أنّ كلّ ما هو علّةٌ ومعلولٌ معًا فهو وسطٌ، وكلّ وسطٍ يحتاج إلى طرفين، إذًا هل تكون النتيجة هي أن طرفيها يجب أن يكون أحدهما «معلولًا لا علّةً» والآخر «علّةً لا معلولًا»؟

والإجابة هي أنّه إذا وضعتَ يدك على أيّ عنصرٍ من هذه السلسلة، سنسألُك: هل هذا العنصر هو علّةٌ ومعلولٌ معًا؟ وإجابتك بناءً للفرض هي الإيجاب، وبالتالي سنقول نحن: كلّ ما يكون كذلك، فهو وسطٌ، ومصداقٌ للكبرى الكليّة التي هي: كل وسطٍ يحتاج إلى طرفٍ، فإذًا عَمَلُنا يرتبط بمصاديقَ كلٌّ منها هو وسطٌ دائمًا وليس له طرفان؛ لأنَّ الطرفين المزعومين بسبب العليّة والمعلوليّة يعتبران وسطًا أيضًا؛ إذًا في النتيجة نحن أمامنا طريقان: 1. قبول إمكان التناقض من خلال القبول بالسلسلة اللامتناهية من العلّة والمعلول؛ 2. نفي التناقض من خلال قبول الطرفين ـ العلّة غير المعلولة والمعلول الذي ليس بعلّة ـ في سلسة العليّة، يعني: عدم القبول بإمكان التسلسل اللامتناهي من العلّة والمعلول؛ لأنَّ ما يواجهنا في المجموعة هو أنَّ أعضاءَها عبارةٌ عن أوساطٍ بناءً للفرض ولكن كلٌّ منها بلا طرفين، وهو باطلٌ بالضرورة أيضًا.

والآن لو تأملنا لماذا كان يقتضي احتمال السلسلة اللا متناهية من العلّة والمعلول طرفين بمعنى أن يكونا معلولًا ليس علّةً وعلةً ليس معلولًا، فسنصل إلى النتيجة التالية: إنّ هذا الأمر ناجمٌ عن أنَّ المجموعة اللامتناهية لها عناصرُ بينها توقّفٌ وجوديٌّ، أيّ بينها عليّةٌ؛ لأنَّه لو لم يكن لهذه المجموعة مثل هذه الخاصيّة لما وقعت مثل هذه الاستحالة.

وسنوضّح المطلب بالاستعانة بمبحث «المتواليات» في الرياضيات،

(279)

وذلك بالنحو التالي: بحكم قانون المتواليات في الرياضيات يمكننا تشكيل سلسلةٍ لا متناهيةٍ من الأعداد تتوالى، فتنتج لدينا إّما «متواليةٌ حسابيّةٌ» أو «متواليةٌ هندسيّةٌ» بحيث يكون كلُّ عددٍ في هذا المجال ـ إذا كان التوالي من الطرفين لا متناهيًا ـ واقعًا بين عددين، ويتوالى بـ «مقدار نسبةٍ» ثابتةٍ.

{...+،…، 6، 4، 2، 0، -2، -4، …، -....} متواليةٌ حسابيّةٌ لا متناهيةٌ.

{...+،…،،،،،، }: متواليةٌ هندسيّةٌ لا متناهيةٌ.

وكما نلاحظ في هذا النوع من المتواليات التي هي في الواقع لا متناهيةٌ لا تقف، ولأنَّه ليس هناك علاقةُ عليّةٍ ومعلوليّةٍ بين عناصر السلسلة، لذا لا تقع الاستحالة، ولكن في السلسلة اللامتناهية من العلّة والمعلول نصل إلى الاستحالة؛ لأنّه مع الفرض كون عناصر هذه السلسلة علّةً ومعلولًا معًا وهو فرض هذه المسألة، فعناصر السلسلة سوف تكون أوساطًا ليس لكلِّ منها طرفان؛ لأنَّه مع فرض عدم تناهي سلسلة العلّة والمعلول فسوف تتحوّل كافّة أعضاء السلسلة إلى أوساط كثيرةٍ بسبب أنّ كافّة عناصر هذه السلسة هي «علّةٌ ومعلولٌ معًا»، إذًا لهم خاصيّة «الوسطية» وبالنتيجة يحتاج كلٌّ منها إلى «الطرفين»، وكلّ من هذين الطرفين ينبغي أن يكون «معلولًا ليس علّةً» و«علّةً ليس معلولًا»؛ لأنَّ مقتضى القانون هو أنّ «كلّ وسطٍ يحتاج إلى طرفٍ» في سلسلة العليّة، فنصل إلى «علّةٍ ليس معلولًا» و«معلولٍ ليس علّةً» وإلّا سنصل إلى تناقضٍ.

مثال: سنفصّل الفكرة عبر ذكر مثالٍ: لو فرضنا قطارًا، وكان في البداية ذا ثلاث مقطوراتٍ، وزُيّنت هذه المقطورات بألوانٍ ثلاثٍ: «الأخضر» و«الأبيض» و«الأحمر»، ولنفرض أنَّ موقع المقطورة البيضاء في الوسط، إذًا من الواضح أنَّ المقطورتَيْن الخضراء والحمراء ستكونان على الطرفين، والآن قرّرنا أن نُضيف عددًا من المقطورات البيضاء إلى المقطورة البيضاء،

(280)

مراجعة الكتاب 

 

بحيث إنّ المقطورات البيضاء تكون في الوسط، فهنا مع هذا الفرض، وهو أنّ المقطورات البيضاء تكون في الوسط ولكلٍّ منها طرفان، لن تُوجد أيُّ مشكلةٍ، ومُجدّدًا سندّعي أنَّنا أضفنا مقطوراتٍ بيضاءَ إلى القطار إلى ما لا نهاية وهذه المقطورات البيضاء إلى الآن كلٍّ منها بحكم الوسط وليس له طرفٌ! فهل مثل هذا الأمر ممكنٌ؟ من المسلّم أنّه في الفرضيّة المذكورة حيث تمّ فرض المقطورات البيضاء الموجودة أوساطًا، لا يمكن بعد ذلك تسمية المقطورات البيضاء اللا متناهية، أوساطًا؛ إذ لو أصررنا على هذا المسمّى فلا بد أن يكون لكلٍّ منها طرفٌ.

والآن بالعودة إلى المثال السابق، نقول: إذا كانت المعلولات في سلسلة العلل أوساطًا، فكيف يمكن أن لا يكون لكلٍّ منها طرفٌ، فكون مثل هذه المعلولات أوساطًا قبلناه بالبداهة وبناءً للفرض، وكلّ الأشياء الأخرى واحدةً واحدةً ممّا يقع ضمن هذه السلسلة هي بنفسها مصداقٌ للوسط، وسيجري حولها مثل هذا السؤال؛ لأنَّنا أجرينا الفرض على جميع المعلولات، وبالطبع ليس الكلّ بعنوانه أمرًا انتزاعيًّا، بل المراد هو أنَّ كافّة مصاديق هذه السلسلة، يعني كلّ فردٍ فردٍ من هذه المجموعة يشتمل على خاصيّة الوسط، والكبرى القائلة «كلّ وسطٍ يحتاج إلى طرفٍ» يكون شاملًا لها بالضرورة، فهي مثل مقطورات القطار البيضاء التي لأنّها أوساطٌ فهي كلٌّ منها تحتاج إلى طرفٍ.

ويُمكن تصوير برهان الوسط والطرف الذي اُستعمل كواحدٍ من العناصر التصديقيّة في نموذج الانبناء، بالرسم البياني التالي:

(281)

مراجعة الكتاب 

 

 

وقد قرّر ابن سينا البرهان المذكور ـ برهان الوسط والطرف ـ ملتفتًا إلى كافّة جوانب المسألة بحيث لا يرد عليها مثل[1] هذه الإشكالات.[2] وبالطبع يتقدّم الفارابي في تقرير هذا البرهان على الشيخ الرئيس، إذ أنَّه تناول تقرير برهان الوسط والطرف في عددٍ رسائله.[3] هذا على الرغم من أنَّه يمكن العثور على جذور التفطن لمثل هذا البرهان في آثار أرسطو أيضًا.[4] وكان هذا البرهان محل اهتمام الحكماء بحيث إنّ صدر المتألهين ذكره في الأسفار بدون توضيحٍ أو تتمّةٍ وأسماه[5] «أسد البراهين»، كما عدّه العلامة الطباطبائي بين البراهين المحكمة.[6]

تتمّة الإشكال: تبعًا للنقاشات التي طُرحت حول برهان الوسط والطرف، يمكن طرح نقاشاتٍ أخرى بهذه الصورة.

أ. إنّكم في الجانب النزولي تقبلون بأنَّه من الممكن ألّا تنتهي العلّة

(282)

والمعلول، وأنّ هذه السلسلة تستمرّ من ناحية المعلول، إذًا لِمَ لا تقبلون باستمرار مثل هذا الأمر في الناحية الصعوديّة؟ وبتعبيرٍ آخرَ: أنتم تعتبرون مثل هذا الفرض معقولًا في سلسلة العلّة والمعلول التي ليس فيها طرفٌ معلولٌ، يعني موجودٌ هو فقط معلولٌ، فلِمَ إذًا تستبعدون قبول مثل هذا الأمر في طرف العليّة؟ ألم تصبحوا متورطين برأيين في أمرٍ واحدٍ في برهان الوسط والطرف؟! ولكن إذا كنتم تعتبرون الطرف النزولي، يعني: الطرف الذي هو طرف المعلول فقط لازمًا لسلسلة العلل والمعلول أيضًا، فسنقول: هذا الأمر يعني إنكار مساوقة الوجود للعليّة، وإنكاره يتنافى مع قبول أنَّ العليّة من الأمور العامّة الفلسفيّة؛ أضف إلى ذلك أنَّك فقط افترضت الطرف المعلول، يعني الموجود الذي هو معلولٌ فقط، ولم تُقِم برهانًا عليه!

ب. أساسًا ما هو المراد من أنّه في سلسلة العلل والمعلول لدينا طرفٌ أم ليس لدينا طرفٌ؟ وهل وجود الطرف بمعنى وجود الطرف الزماني بحيث قبل وجود «أ» تكون «ب» موجودةً، وقبل وجود «ب» تكون «ج» موجودةً؟ أم أنَّ المراد أمرٌ آخرُ؟ فعلى ما يبدو ليس المراد في بحث التسلسل «التعاقب الزمني»؛ لأنَّه أوّلًا: المفترض أنَّه في سلسلة العلّة والمعلول هناك أمورٌ موجودةٌ أيضًا ولكنّها ليست زمانيّةً، مثل: المجرّدات، وبالطبع هذا الأمر مبنيٌّ على افتراض أنَّ التجرّد لا يتناسب كون الشيء زمانيًّا؛ ثانيًا: إذا كانت العليّة في مقام البحث بهذا المعنى التي أرادها القدماء، وعلى ما يبدو أنَّ الأمر كذلك، فإذًا يلزم من كلامهم أنَّ الانفصال الزماني بين العلّة والمعلول غيرُ جائزٍ؛ يعني: لا بدّ ألّا يكون التعاقب الزماني مقبولًا لديهم، وعليهم أن يلتزموا بأنّه إذا كان لدينا سلسلةٌ من المعلولات، إذًا بسبب عدم انفصال المعلول عن العلّة، يجب أن تتحقّق كافّة هذه المعلولات في آنٍ واحدٍ، والآن نقول: مع الالتفات إلى المطالب المذكورة، يلزم من القول بإبطال التسلسل في الواقع الالتزام بأنَّ لدينا مجموعةً بلا نهايةٍ من العلل

(283)

والمعلولات التي تتحقّق بأجمعها في آنٍ واحدٍ. فهل مثل هذا الأمر ممكنٌ؟

ج. باعتقادنا هناك مغالطةٌ قد وقعت دون انتباهٍ بسبب التمسّك بالمصطلحات المُبهمة في برهان الوسط والطرف؛ لأنَّك في مكانٍ ما تسحب منّا اعترافًا بأنَّ الوسط في سلسلة العلّة والمعلول أمرٌ هو علّةٌ ومعلولٌ معًا، ومن هنا تريد أن تُلِزمنا بأن نقبل بما أنّنا اعترفنا بكونه وسطًا، إذًا يجب أن نقبل بالضرورة أنّ كلّ وسطٍ يحتاج إلى طرفين، وهذان الطرفان هما «المعلول الذي ليس علّةً» ـ في الجانب النزولي ـ و«العلّة الذي ليس معلولًا» ـ في الجانب الصعودي ـ والمغالطة هنا، إذ لو قبلنا بأنَّ كلّ شيءٍ واقعٌ في السلسلة هو وسطٌ ويحتاج إلى طرفين، فهذان الطرفان اللذان عنيناهما، لم يكونا مشروطين بأن يكونا معلولًا فقط أو علّةً فقط، بل كلا الطرفين اللذين اعتبرنا ضرورتهما للوسط في السلسلة أمرًا لازمًا، لا يلزم أن يكون إمّا معلولًا فقط أو علّةً فقط؛ لأنّهما بناءً على الفرض أيضًا علّةٌ ومعلولٌ معًا، ولكنك الآن تريد بالطرف معنىً آخرَ، وتعتبر أنّنا ملزمين بالاعتراف به، في حين أنَّ هذا الشيء لن يكون سوى مغالطةً ناشئةً عن الاشتراك اللفظي وعن الاختباء خلف الاصطلاحات المُبهمة بدلًا من الاستدلال! فإذا كان الأمر غير ذلك فكيف يكون؟

تتميم الإجابة: سنتعرّض هنا لإجابٍة أخرى على الإشكالات المطروحة حول برهان الوسط والطرف.

الإجابة (أ) بناءً لمقتضى برهان الوسط والطرف، لا يجب التوقّف فقط في المكان الذي من الجانب الصعودي في سلسلة العلّة والمعلول، بل ينبغي التوقّف في الجانب النزولي منه أيضًا، يعني: الجانب المعلولي الذي له ينبغي أن يصل بناءً على حكم برهان الوسط والطرف إلى معلولٍ ليس علّةً؛ وبناءً عليه، كما أنّنا ننفي التسلسل الصعودي، فإنّنا كذلك نرى

(284)

بأنّ التسلسل النزولي منتفٍ؛ لأنَّ برهان الوسط والطرف يتعامل معهما بالمثابة نفسِها، وعلى هذا الأساس لم يقبل الحكماء كلام الميرداماد الذي قال: إنّ براهين التسلسل تغطّي الجانب الصعودي فقط، ولذلك انتقدوا كلام المير[1]، ويعتقد البعض أيضًا بأنَّ الميرداماد مال أخيرًا في الأفق المبين إلى شمول براهين التسلسل للجانب النزولي أيضًا.[2]

لكن بالطبع، صحيحٌ أنَّ الحكماء اعتنوا أكثر بالجانب الصعودي عند إقامة البراهين؛ لأنَّ النزاع لم يكن يجري عادةً في تناهي الجانب النزولي، ولكن إذا أراد شخصٌ إنكار الجانب النزولي، سيطلب برهان ذلك، ونعلم أنَّ قبول الطرف النزولي، سيكون بمعنى قبول معلولٍ ليس علّةً في الجانب النزولي.

ومن الممكن أن يقول شخصٌ: إنَّ قبول مثل هذا الأمر بلا دليلٍ، ويتنافى مع قبول هذا الأمر حيث إنّ العليّة من الأمور العامّة الفلسفيّة!

فنقول في الإجابة: إنّ قبول المعلول الذي ليس علّةً في سلسلة العلّة والمعلول يستند إلى براهين التسلسل ومن جملتها برهان الوسط والطرف، وهذا الأمر لا يتنافى بأيّ وجهٍ من الوجوه مع الأمور العامة الفلسفيّة للعليّة؛ لأنَّه حتّى يكون قانون العليّة أمرًا عامّاً فلسفيًّا يكفي هذا المقدار، وهو أن يكون الشيء إمّا علّةً أو معلولًا، ولا يلزم أن يكون كلّ موجودٍ علّةً حتمًا، وإلى حدِّ ما نعلمه لم يقل أيُّ فيلسوفٍ بأنّ تساوق الوجود مع العليّة معناه أن يكون علّةً، وإذا ادّعى شخصٌ ذلك، فيمكن إبطال كلامه بواسطة براهين التسلسل ومن جملتها برهان الوسط والطرف، ومن هذا المنطلق نقول: نحن لم نفترض مجرّد معلولٍ ليس علّةً، بل نحن وصلنا إليه من خلال حكم البرهان.

(285)

الإجابة (ب) الوسط والطرف تابعان لنوع التقدّم والتأخّر، بمعنى أنَّه كلّما كان هناك تقدّمٌ وتأخُّرٌ، فيتصوّر هناك طرفٌ وواسطةٌ، ونوع هذه الواسطة والطرف تابعٌ لنوع التقدّم والتأخّر الذي استعمل فيهما الوسط والطرف.

ونعلم أنَّ الحكماء عدّدوا أقسامًا للتقدّم والتأخّر، وهي كالتالي:[1] 1. التقدّم والتأخّر بالرتبة؛ 2. التقدّم والتأخّر بالشرف؛ 3. التقدّم والتأخّر بالزمان؛ 4. التقدّم والتأخّر بالطبع؛ 5. التقدّم والتأخّر بالعليّة؛ 6. التقدّم والتأخّر بالجوهر؛ 7. التقدّم والتأخّر بالدهر؛ 8. التقدّم والتأخّر بالحقيقة والمجاز؛ 9. التقدّم والتأخّر بالحقّ.

والمُراد من التقدّم والتأخّر في بحث التسلسل، هو التقدّم والتأخّر بالعليّة، ومن هذا المنطلق، فكذلك الوسط والطرف اللذان في مقام البحث ينبغي أن يُفسرا بناءً على هذا الأساس، وإذا قلنا: «أ» أشرف من «ج» إذًا «ب» في الشرافة في الوسط بين «أ» و«ج»، و«أ» متقدّمٌ بالشرف و«ج» متأخّرٌ في الشرف، وسيكون «ب» وسطًا بالشرف، وكذلك إذا قلنا: «أ» علّةُ «ج» و«ب» وسطٌ بينهما، والمراد أنَّ «أ» متقدّمٌ بالعليّة و«ج» متأخّرٌ بالعليّة و«ب» وسطٌ بالعليّة فبهذا المعنى: إنَّ «أ» علّةٌ مع الواسطة لـ «ج» و«ج» معلولٌ مع الواسطة لـ «أ» و«ب» بدليل كونه وسطًا بالعليّة، فيجب أن يكون علّةً ومعلولًا أيضًا؛ ولذلك إذا كان بين المعلول والعلّة واسطةٌ؛ يعني: إذا كان المعلول معلولًا مع الواسطة والعلّة علّةٌ مع الواسطة، فإذًا يلزم أن تكون الواسطة علّةً ومعلولًا أيضًا؛ لأنَّه توجد هنا قاعدتان حاكمتان: «علّة العلّة علةٌ» و«معلول المعلول معلولٌ»، وبذلك يُمكن القول: الوسط في التقدّم والتأخّر بالعليّة أمرٌ هو علّةٌ ومعلولٌ، وهذا المصداق للوسط

(286)

سيكون هو المراد في بحث التسلسل. وفي تسلسل العلل، وحيث إنّ عناصرَ هذه المجموعة مفروضةٌ بالفعل، فينبغي أن تكون عناصرُ هذه السلسلة موجودةً في آنٍ واحدٍ، وإلّا سيكون ذلك خروجًا عن البحث؛ لأنَّ هذا الأمر مقتضى أصل فرض المسألة، يعني: التسلسل العلّي الذي يحوز على شروطٍ ثلاثة: «الفعليّة» و«الاجتماع في الوجود» و«الترتب العلّي».

الإجابة (ج): نقول في بيان المراد من الوسط والطرف: للطرف والوسط نفس معناهما العرفي، ولكن مصاديقهما تختلف على أساس نوع التقدّم والتأخّر، فـ «الوسط» هو الشيء الواقع بين شيئين، و«الطرف» أيضًا هو الشيء الواقع إلى جوار شيءٍ، ومصداق الوسط في التقدّم والتأخّر بالعليّة هو الأمر الذي هو علّةٌ ومعلولٌ، وبالتالي مصداق الطرف في التقدّم والتأخّر بالعليّة من جهة المعلوليّة هو «المعلول الذي ليس علّةً» وفي جانب العلّية هو «العلّة التي ليست معلولًا».

والملاحظة التي تحظى بأهميّةٍ في هذا البحث، هي أنَّ زيادة عدد أرقام الوسط يعني أنّ الشيء الذي هو علّةٌ ومعلولٌ لن يكون موجبًا لتبدّل رتبتها من «كونها وسطًا» إلى «كونها طرفًا»، فإذا كان شيءٌ أو أشياءُ وسطًا في العليّة، فيجب أن يكونا علّةً ومعلولًا بالضرورة، سواءً؛ لأنّنا في التقدّم والتأخّر بالعليّة نسمي الشيء وسطًا حينما يكون علّةً ومعلولًا معًا، سواءً أكان أمرًا واحدًا أم ألْفًا أم آلافًا أم كان بلا نهايةٍ، وفي السلسلة المفروضة من العلل والمعلولات بالفعل، جميع عناصر السلسلة لها هذه الخاصيّة بحيث تكون علّةً ومعلولًا معًا، وهذا نفس كونها وسطًا بالعليّة وهنا، نقول: ينبغي بالضرورة أن تكون هذه المجموعة متناهيةً؛ لأنَّها لو كانت غير متناهيةٍ، فلن يحيط طرفيها «معلولٌ ليس علّةً» و«علّةٌ ليست معلولًا»، وسنقع في محذور أنّنا لدينا أوساط كلٌّ منها بلا طرفين، وهذا تناقضٌ؛ لأنَّ

(287)

هذا الأمر خلاف كونها أوساطًا بالعليّة، ونقرأ في هذا السياق ما يلي:

ولا يجوز أن تكون عللٌ ممكنةٌ لا نهايةَ لها لأنّ لكلّ واحدةٍ منها خاصيّةَ الوسط فتكون معلولةً باعتبارٍ وعلّةً باعتبارٍ وكلّ ما له خاصيّة الوسط فله بالضرورة طرفٌ والطرف نهايةٌ... .[1]

ويتطلّب برهان الوسط والطرف من هذه الناحية أن تكون عناصر سلسلة العلّة والمعلول وسطًا، يعني: علّةً ومعلولًا معًا، فسينتج من ذلك أنَّه يجب أن يتوفّر في هذه السلسلة «معلولٌ ليس علّةً» و«علةٌ ليست معلولًا» بالضرورة، وبما أنَّه كذلك، فلن تكون بالتالي هذه السلسلة لا متناهيةً؛ لأنَّه يقع في الجانب النزولي منها معلولٌ ليس علّةً وفي الجانب الصعودي منها علّةٌ ليست معلولًا، وسرّ ذلك، أنَّ السلسلة تتشكّل من العلّة والمعلول مع شروط التسلسل الثلاث ـ الترتّب العلّي، الفعليّة، الاجتماع في الوجود ـ حيث بحكم أنَّها علّةٌ ومعلولٌ معًا لذا فهي أوساطٌ بالعليّة؛ ولأنَّ وصف كونها أوساطًا بالعليّة لذا فهو لها بالفعل، إذًا كيف يمكن ألّا يكون لكلِّ منها طرفان (معلولٌ ليس علّةً وعلّةٌ ليست معلولًا)؟

فإذا قلت: حيث إنّ كلَّ عنصرٍ من هذه السلسلة له قبل وبعد، إذًا المشكلة ممكنة الحلّ من هذه الناحية، فسنقول: اتفاقًا من هنا يبدأ الكلام، فنحن ندّعي أنّه بحكم العقل إذا كان لك القدرة على حساب عناصر هذه المجموعة إلى ما لا نهاية، فلن تعثر على طرفين لهذه السلسلة التي تتشكّل من عناصر هي علّةٌ ومعلولٌ معًا!

فإذا قلت: لقد فرضنا هذه السلسلة إلى ما لا نهاية، إذًا بحكم الفرض لا يمكننا أن نعثر بين هذه السلسلة على طرفٍ من هذا السنخ، فسنقول في الإجابة:

(288)

أوّلًا: إن مجرّد الفرض لا يستلزم أن يكون له مصداقٌ.

ثانيًا: إذا التزمت بالدور، وجعلت عناصر هذه السلسلة متوقّفةً على بعضها، فستحل مشكلتك ولكن الدور أيضًا سيكون محالًا بسبب توقّف الشيء على نفسه.

ثالثًا: ذلك المقدار الذي هو قبل وبعد والذي قد أبديته لنا في هذه المجموعة، هو عددٌ محدودٌ، وإذا ما كان كلامنا حول كافّة عناصر هذه المجموعة، والتي هي بناءً على الفرض موجودةٌ بالفعل، ونحن ندّعي أنَّ السلسلة التي تتشكل من عناصر لها بأجمعها وصف العلّة والمعلول هي أوساطٌ، والوسط يحتاج إلى طرفٍ، وهذا البرهان هو مقتضى أنَّ مثل هذه المجموعة متناهيةٌ، فسيكون هذا الكلام، أيْ أنَّ هذه السلسلة لا متناهيةٌ ولا طرف لها، هو مجرّد فرضٍ أيضًا.

وفي توضيح المطلب نقول: إذا ادّعيت بأنَّ موجودًا ما موجودٌ في العالم، وهو علّةٌ ومعلولٌ وفقط هذا الموجود موجودٌ في العالم وأساسًا لا وجود إلّا لموجودٍ واحدٍ يمتلك هذه الخاصيّة، فأنت في الواقع إنّما نطقت بمتناقضٍ! لأنَّك من جهةٍ قد ادّعيت أنَّ هذا الموجود هو علّةٌ ومعلولٌ يعني أنّه وسطٌ، ونحن نعلم أنَّ كلّ وسطٍ يحتاج إلى طرفين، ولكن من ناحيةٍ أخرى ادّعيت مع الادعاء بأنَّ ذلك الموجود له وصف العلّة والمعلول بأنّه هو فقط وفقط الموجود المتحقّق في عالم الوجود، وفي الواقع أنتَ قصصت طرفيه، وانتفاء الطرفين بالنسبة إلى هذا الموجود يوجب انتفاء وصفه بأن يكون وسطًا، وهذه الأمر هو بمثابة التناقض؛ لأنَّ لازم ادّعائك هو أنَّ الشيء الذي هو وسط ليس بوسطٍ! وهذا خلفٌ.

إذًا يجب أن تلتزم بالضرورة أنَّه من غير الممكن أن يكون في العالم موجودٌ واحدٌ يمتلك خاصيّة العليّة والمعلوليّة، ولا يوجد إلى جوار هذا

(289)

الموجود طرفٌ نزوليٌّ ـ معلولٌ ليس علّةً ـ ولا طرفٌ صعوديٌّ ـ علّةٌ ليست معلولًا ـ وبذلك نلاحظ، أنّنا بالضرورة عثرنا على موجودين آخرين من الموجودات هما العلّة والمعلول أيضًا، وهما معلولٌ ليس علةً وعلّةٌ ليست معلولًا؛ لأنَّ الموجود الذي فرضناه، عبارةٌ عن وسطٍ، وكلَّ وسطٍ يحتاج إلى طرفين.

والآن نقول: هل يمكننا أن نفرض أنَّ هناك في عالم الوجود موجودَيْن فقط هما علّةٌ ومعلولٌ معًا؟ من المسلَّم أنّه لا؛ لأنَّ خاصيّة هذين الموجودين تقتضي كونهما وسطًا، وكلّ وسطٍ يحتاج إلى طرفٍ، ولكنّ الادعاء قائمٌ على انحصار الوجود في هذين الموجودين وعدم الالتزام بمعلول ليس علّةً وعلّة ليست معلولًا، وهذا يوجب تناقض الفرض المذكور؛ لأنَّ لازمه هو أنّ الوسط ليس بوسطٍ وهذا تناقضٌ.

والآن لو زدت عدد الأفراد مثلًا إلى ما يقرب من اللا نهاية وادعيت أنَّه لدينا موجوداتٌ هي علّةٌ ومعلولٌ ولا يوجد في عالم الوجود إلّا هذه الموجودات التي عددنا خاصيّتها، فهل مثل هذا الأمر ممكنٌ؟ من المسلَّم أنّه لا؛ لأنَّه أيضًا هذا الادعاء المذكور هو تناقضٌ وهو يعني أنَّ الشيء الذي هو وسطٌ، ليس بوسطٍ وهذا تناقضٌ واضحٌ.

والآن بالالتفات إلى المطالب المذكورة نقول: في التسلسل يقع مثل هذا التناقض؛ لأنَّه من ناحية العناصر الواقعة في سلسلة العليّة كلٌّ منها هو علّةٌ ومعلولٌ معًا وبالنتيجة هو وسطٌ، وهذه الأعضاء التي هي أوساط هي مفروضةٌ بأنّها بلا نهايةٍ، ولكن من ناحيةٍ أخرى، يقوم الفرض على أنَّه في عالم الوجود لا وجود إلّا لهذه الموجودات التي هي أوساطٌ، وهذا تناقضٌ؛ لأنَّ هذا الادعاء يستلزم أنَّ الشيء الذي هو وسطٌ ليس بوسطٍ، وهذا تناقضٌ.

(290)

إذًا يجب بالضرورة أن نلتزم بأنَّه إذا كان في عالم الوجود موجودٌ أو موجوداتٌ كلٌّ منها هو علّةٌ ومعلولٌ معًا، فستكون أوساطًا، وكلّ وسطٍ يحتاج إلى طرفين، والطرفان محلّ البحث يعني في التسلسل العلّي هما المعلول الذي ليس علّةً في جانب النزول، والعلّة التي ليست معلولًا في جانب الصعود، والالتزام بهذا الأمر يستلزم أنَّ السلسلة المذكورة لن تكون لامتناهيةً مع خاصيّة كونها علّةً ومعلولًا معًا، وهذا هو المراد.

 فإذا قلت: نُركّز نظرنا في عناصر السلسلة، ولا ننظر إلى سماء «الجميع»، فسنقول: مرادنا من «الجميع» أيضًا هو هذه العناصر التي ركّزت نظرك فيها، فلن تكون المجموعة أمرًا سوى هذه العناصر، إذًا حُكْمُها أيضًا هو عين حُكْم العناصر، وعليه يمكن القول: بما أنّ كلّ عنصرٍ من عناصر هذه المجموعة أو السلسلة المفروضة على أنّها بلا نهايةٍ هو علّةٌ ومعلولٌ معًا، إذًا المجموعة المتكوّنة من مثل هذه العناصر هي «علّةٌ ومعلولٌ معًا»؛ لأنَّ المجموعة لن تكون شيئًا سوى هذه الأعضاء، فالمجموعة غير المركّب، إذ المركّب يُمكن أن يكون له حكمٌ يختلف عن حكم ما يتألّف منه، كما أنَّ الماء المركّبٌ من الأوكسجين والهيدروجين له حكمٌ يختلف عن حكم ما يتألّف منه؛ وعلى هذ الأساس نقول: من حيث إنّ المجموعة متكوّنةٌ من عناصرَ جميعها علّة ومعلول أيضًا، وهي وسطٌ تمامًا، فلن تكون شيئًا سوى هذه العناصر، إذًا فحكمها أيضًا سيكون عين حكم هذه الأعضاء؛ ولأنَّ كلّ عضوٍ عضوٍ مفروضٍ في السلسلة التي بلا نهاية هو وسطٌ، إذًا نحن أمام أوساطٍ لا طرف لها، وهذا محالٌ.

فإذا قلتَ: لقد خلطتَ بين الطرف النسبي والطرف المطلق؛ لأنَّ الوسط إنّما يقتضي وجود الطرف، ولكن كيف يكون هذا الطرف؟ يعني: لا يمكن أن نستنتج من استدلالك بأنّهما ـ مثلًا ـ معلولٌ ليس علّةً أو علّةٌ ليست معلولًا بحيث يكونان طرفين مطلقين.

(291)

فإذًا نقول في الإجابة: أساسًا فرض الكلام هنا أنّنا إستمدَدْنا كلّ ما يمكن أن تكونَ قد استخدمتَه أنتَ بعنوان طرفٍ نسبيٍّ؛ لأنّ بحثنا هو حول كافّة الموجودات الموجودة بالفعل التي لها هذه الخاصيّة وهي أنَّها علّةٌ ومعلولٌ معًا، إذًا لا يمكنك أن تعود إلى هذه المجموعة وأن تختار من بينها عنصرًا باعتباره طرفًا، وإذا أردتَ أن تُوقف عناصر هذه المجموعة على بعضها فسيوجب ذلك الدور، وسيكون هو بنفسه أيضًا مستحيلًا بسبب استحالة «توقف الشيء على نفسه»؛ إذًا نصل إلى هذه النتيجة: بحكم البرهان المتوفّر في سلسلة العلّة والمعلول، هناك وجودٌ هو «علة ليس معلولًا» بالضرورة، وهو الواجب تعالى.

جمال يار ندارد حجاب وپرده ولى     غبار ره بنشان تا نظر توانى كرد

[يقول: جمالُ الحبيب ليس دُونَه حجابٌ وستارٌ، ولكن نظِّفِ الغبار عن عينيك كي تتمكّن من المشاهدة.

ختام التحدي: وهنا نختم تحدّيات الانبناء التي انتهت في «المنزل السابع»، وكما لاحظتم في هذه السلسلة من الأبحاث، يُمكن تقديم نموذجٍ بواسطة المبادئ البديهيّة وبالاستعانة بقواعد المنطق يُفيدنا في المعرفة المتعلّقة بعالم الخارج (أي الخارج عن جميع مراتب الذهن) وهذه المعرفة مصونةٌ عن إرهاب الشكوكيّة أيضًا، وعلى الرغم من أنّ ذلك يُوجب تحمّل الصعوبات والعبور من الانحناءات والالتواءات بهدف الوصول إلى «مدينة المعرفة»، إلّا أنّ الحكيم الذي يتحرّك بواسطة سيّارة البرهان يسعى دائمًا إلى إتقان عمله، وعلى الرغم من أنَّ الأمر يحتاج إلى إقامة برهانٍ يتوفر على ألف مقدّمةٍ، وأن يسعى لأيّامٍ وأشهرٍ خلف تحصيل هذه المقدّمات في الانحناءات وحسب الطاقة؛ كما كتب الشيخ الرئيس:

(292)

والقيَاس البرهاني فلا يرى بأسًا في أن يكون مطلوبه إنّما يتوصّل إليه بألف وسطٍ وفي مدّةٍ طويلةٍ، فهو يُمعن في التركيب على الاستقامة ولا يرى بأسًا في العدول أيضًا عن أوساطٍ وحدودٍ صغرى إلى غيرها؛ لأنّ له مدّةَ فراغٍ وقد وطّن نفسّه على التَعَب.[1]

وهكذا، نستنتج أنَّ «المعرفة» تحتاج إلى فكرٍ حادٍّ كالسيف، وقريحةٍ بلطافة النسيم، وقلبٍ برقّة فقاعة الصابون، لعلّه يتمكّن من الخروج من الشكوكيّة والوصول إلى اليقين الصادق.

وهنا، في هذ الفصل وهو آخر فصول هذه الرسالة، نختم بدعاء الخواجة الطوسي (رحمه الله):

إلهي، أيّد متعلّمِي الحكمة بإلهام الحقّ وتلقين الصدق والتوفيق إلى الخير، واصرف طاقتهم إلى طلب الكمال وتحرّي الصواب واقتناء الفضيلة كي يصلوا إلى الحقّ ويحترزوا عن الفساد ويطمئنوا إلى اليقين وينفروا من الشك…، كي يصلوا إلى نهاية مقصدهم الذي ليس سوى الحلول إلى جوار الحضرة الأحديّة والوصول إلى جناب السرمديّة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء[2].

(293)
(294)

فهرس المصادر والمراجع

1- ابن سينا، حسين بن عبد الله. 1383ه.ش. دانشنامه علائي. رساله منطق. تصحيح محمد معين و سيد محمد مشكوة. الطبعة الثانية. طهران: انتشارات انجمن آثار و مفاخر فرهنگى.

2- ابن سينا، حسين بن عبد الله. 1466ه.ش. تعريفات [كتاب الحدود]. الطبعة الثانية. طهران: انتشارات سروش.

3- الشنوائي، احمد محمود 1990م. كتب غيّرت الفكر الانساني. مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

4- أرسطو. 1980م. منطق أرسطو. مع تحقيق عبد الرحمن بَدوَي. بيروت: دار العلم.

5- العلامة الحلي، حسن بن يوسف. 1410ه.ق. الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد. الطبعة الثالثة. قم: انتشارات بيدار.

6- السبزواري، ملا هادي. لا تا. شرح المنظومة. قم: انتشارات مصطفوي.

7- مصباح اليزدي، محمد تقي. 1361ه.ش. باسدارى از سنگرهاى ايدئولوژيك. الطبعةالثانية. قم: مؤسسة در راه حق.

8- مصباح اليزدي، محمد تقي. 1361ه.ش. ايدئولوژى تطبيقى. قم: مؤسسه در راه حق.

9- مصباح اليزدي، محمد تقي. 1405ه.ق. تعليقة على نهاية الحكمة. قم: مؤسسه در راه حق.

10- مطهرى، مرتضى. 1366ه.ش. آشنايى با علوم اسلامى منطق وفلسفه جاب سوم. قم: انتشارات صدرا.

11- ملكيان، مصطفى، 1375ه.ش. "نگريستن از ناكجا به هر كجا"، ترجمة و

(295)

تلخيص كتاب توماس نيكل، مجله حوزه و دانشگاه، ش 7.

12- كورتر، اشتفان. 1367ه.ش. فلسفه كانط. ترجمة عزت الله فولادوند. طهران: انتشارات خوارزمى.

13- الغزالى، ابو حامد محمد. 1378ه.ق. المنقذ من الضلال. تحقيق جميل ابراهيم حبيب. بغداد: دار القادسية للطباعة.

14- مصباح اليزدي، محمد تقي. 1368ه.ش. آموزش فلسفه. الطبعة الثالثةذ. طهران: سازمان تبليغات اسلامى.

15- الصدر، سيد محمد باقر. 1402ه.ق. الأسس المنطقية للاستقراء. الطبعة الرابعة. بيروت: دار التعارف.

16- الصدر، سيد محمد باقر. 1395ه.ق. المعالم الجديدة للأصول. الطبعة الثانية. طهران: مكتبة النجاح.

17- جوادي آملي، عبد الله. 1374ه.ش. معرفت شناسى در قرآن. ويراسته حميد بارسانيا. الطبعةالثانية. قم: دفتر انتشارات اسلامى.

18- حسن زاده، حسن. 1361ه.ش. معرفت نفس. طهران: انتشارات علمى و فرهنگى.

19- اسبينوزا، باروخ. 1364ه.ش. اخلاق. ترجمة محسن جهانگيرى، تنقيح اسماعيل سعادت. طهران: مركز نشر دانشگاهى.

20- الطباطبائي، سيد محمد حسين. 1364ه.ش. بداية الحكمة. قم: مؤسسة النشر الاسلامى التابعة لجماعة المدرسين.

21- فوليكه، بول. 1366ه.ش. فلسفه عمومى يا مابعد الطبيعه. ترجمة يحيى مهدوى. طهران: انتشارات دانشگاه طهران.

22- اليزدي، عبد الله بن شهاب الدين الحسين 1912ه.ق. الحاشية على

(296)

تهذيب المنطق. الطبعة الثامنة. قم: مؤسسة النشر الاسلامي. 

23- عشاقى، حسين. 1375ه.ش. "تأملى بر نگريستن از ناكجا". مجله حوزه و دانشگاه" ش8.

24- عشاقي، حسين. 1384ه.ش. نانمايى شكاكيت و نسبيت گرايى. قم: انتشارات مركز مديريت حوزة علميه.

25- سبزوارى، ملاهادى. لا تا. شرح المنظومة. قم: انتشارات مصطفوى.

26- الطوسي، نصير الدين. 1367ه.ش. اساس الاقتباس. تصحيح مدرس رضوى. طهران: انتشارات دانشگاه طهران.

27- الطوسي، نصير الدين. 1359ه.ش. تلخيص المحصل (نقد المحصل). طهران: انتشارات دانشگاه طهران.

28- دكارت، رنه. 1361ه.ش. تأملات در فلسفه اولى. ترجمة احمد أحمدي و يراسته اسماعيل سعادت. طهران: مركز نشر دانشگاهى.

29- كاتري، دبليو. كي، سي. 1375ه.ش. تاريخ فلسفة يونان. ترجمة حسن فتحي. طهران: انتشارات فكر روز.

30- باركر، استيفن. 1369ه.ش. فلسفه رياضى. ترجمة احمد بيرشكد. طهران: شركت انتشارات سهامى.

31- علوي عاملي، سيد احمد 1376ه.ش. شرح القبسات. تصحيح حامد ناجى اصفهانى. طهران: مؤسسة مطالعات اسلامى دانشگاه طهران. با همكارى دفتر نشر ميراث مكتوب.

32- فروغي، محمد علي. 1375ه.ش. سير حكمت در اروبا. طهران: نشر البرز.

33- الطوسي، نصير الدين 1403ه.ق. شرح الاشارات و التنبيهات. الطبعة الثانية. طهران: دفتر نشر كتاب.

(297)

34- الرازي، قطب الدين. لا تا. شرح المطالع في المنطق. قم: انتشارات نجفي.

35- الشيرازي، صدر الدين. 1313ه.ق. شرح الهداية الأثيرية. طهران: مكتبة ميرزا محمد على كتايفروش.

36- الشيرازي، قطب الدين. لا تا. شرح حكمة الاشراق. قم: انتشارات بيدار.

37- العلامة الحلي، حسن بن يوسف. 1412ه.ق. القواعد الجلية في شرح الرسالة الشمسية. تحقيق الشيخ فارس حسّون تبريزيان. قم: مؤسسة النشر الاسلامي.

38- سهروردي، شهاب الدين يحيى. 1332ه.ش. منطق التلويحات. تصحيح علي اكبر فياض. طهران: انتشارات دانشگاه طهران.

39- العلامة الحلي، حسن بن يوسف. لا تا. كشف المراد فى شرح تجريد الاعتقاد. قم: انتشارات مصطفوي.

40- ابن سينا، حسين بن عبد الله، 1375ه.ق. الشفاء. كتاب البرهان. مصر: وزارة التربية والتعليم.

41- عسكري يزدي، علي. 1381ه.ش. شكاكيت (نقدى بر ادله). تنقيح علي اكبر زاده. قم: انتشارات دفتر تبليغات اسلامي.

42- الرازي، فخر الدين. 1411ه.ق. المباحث المشرقية. الطبعة الثانية. قم: انتشارات بيدار.

43- الرازي، فخر الدين. 1992م. مُحصَّل أفكار المتقدمين و المتأخرين من العلماء و الحكماء و المتكلمين. بيروت: دار الفكر اللبناني للطباعة والنشر.

44- كايلستون، فردريک. 1362ه.ش. فيلسوفان انگليسى. ترجمة امير جلال الدين اعلم. طهران: انتشارات سروش.

45- الشيرازي، قطب الدين. لا تا. شرح حكمة الاشراق. قم: انتشارات بيدار.

(298)

46- حائري، مهدى. 1361ه.ش. كاوش هاى عقل نظري. الطبعةالثانية. طهران: انتشارات امير كبير.

47- الشيرازي، صدر الدين. 1362ه.ش. منطق نوين (اللمعات المشرقية في الفنون المنطقية). طهران: مؤسسه انتشارات آگاه.

48- سهروردي، شهاب الدين يحيى. 1396ه.ق. مجموعه مصنفات شيخ اشراق. تصحيح هنري كوربان. طهران: انجمن حكمت و فلسفه.

49- بهاري، محب الله. معروف به فاضل خان. سلّم العلوم (الطبعة الحجرية).

50- المظفر، محمد رضا. 1400ه.ق. المنطق. بيروت: دار التعارف.

51- فرصت حسيني شيرازي، محمد نصير. 1373ه.ش. أشكال الميزان. قم: انتشارات زاهدي.

52- ملكيان، مصطفى، 1379 ه.ش. تاريخ فلسفة غرب، تنقيح سعيد عدالت نژاد قم، دفتر همكارى حوزه و دانشگاه.

53- اصفهاني، شمس الدين. 1305ه.ق. مطالع الانظار على طوالع الانوار. هند: شركت علميه.

54- الفارابي، ابو نصر. 1408ه.ق. المنطقيات للفارابى. تصحيح محمد تقي دانش پژوه. قم: مكتبة آية الله النجفي.

55- ملاحسن، 1383ه.ق. شرح السلّم. أو حاشيه عبد الحكيم لكهنوي، دهلي: مكتبة رشيدية.

56- جرجاني، مير سيد شريف. 1369ه.ش. الكبرى في المنطق. قم: دفتر نشر معارف اسلامي.

57- مينار، 1370 ه.ش. شناسايى و هستى، ترجمة علي مراد داودي الطبعة سوم طهران: انتشارات دهخدا.

(299)

58- مصباح اليزدي، محمد تقي وآخرون. هم انديشى معرفت شناسي (جزوء).

59- مهدوىي يحيي، 1376 ه.ش. شكاكان يونان: طهران: انتشارات خوارزمى.

المصادر الأجنبية

1- Alan H، Goldman، «Nozick on Knowledge: Finding The Right connection«، Ibid،.

2- Benson Mates، Translator، The Skeptic way: Sextus Empiricus s Outlines of Pyrrhonism، (Oxford: Oxford University Press 1996). 

3- Benson Mates، Translator، The Skeptic Way: Sextus Empiricus’s outlines of Pyrrhonism.

4- Cloin McGinn، The Character of Mind، (Oxford: Oxford University press، 1982).

5- David Shatz. « Nozick Conception of Skepicism«، Ibid.

6-  Elliot Sober, Core questions in philosophy: A text with reading, (New gersey: Prentice - Hall, Inc., 1995).

7- Ernest Sosa. Knowledge in Perspective,.

8- Ernest sosa، «Offtrack Bets Against The Skeptic«، Ibid.

9- Ernest Sosa، Ed.، Knowledge and Justification.

10- Frederick Copleston، S. J. A History of Philosophy، (New York: Doubleday Dell Publishing Group، Inc.، 1985)، Book one.

(300)

11- George S.Pappas، «Suddenely He Knows«، Ibid.

12- Gilbert Harman، Skepticism and the Definition of Knowledge، (NewYork: Carilad Publishing، 1990).

13- Hilary Putnam، Reason Truth And History، (Cambridge: : Cambridge University Press، 1993).

14- Jonathan Dancy، Ed.، A Companion to Epistemology.

15- Jonathan Dancy، Introduction to Contemporary Epistemology.

16- Jonathan Vogel، «Tracking clousure، And Inductive Knowledge«، Ibid،.

17- Laurence Bonjour، «Nozick Externalism، And Skepticism«، Ibid، .

18- Lewis Edwinn Hahn، Ed.، The Philosphy of Roderick M.Chisholm.    

19- Louis P.Pojman، ED.، The Theory of Knowledge: Classical and Contemporary readings،.

20- Louis P.Pojman، ED.، The Theory of Knowledge.

21- Michael Williams، Unnatural Doubts: Epistemic realism and The basis of Sceptisism، (Oxford: Blackwell، 1991).

22 - Norman Malcolm، Wittgestein: Nothing is Hidden، (London: Blackwell، 1989)، p. 201 – 235. & A. PHILIPS، Eds، Geiffith،

(301)

Eds.، Wingestein Centenary Essays، (Cambridge: Cambridge University Press، 1992).

23- Paul Edwards، Ed.، The Encyclopedia of Philosophy، Vol. 8.

24- Peter Clerk and Bob Hale، Eds.، Reading Putnam، (Oxford: Blackwell، 1994)، « Hilary Putnam. Reason، Truth and History.

25- Peter Klein، « On Behalf of The Skeptic«، Ibid.

26- Peter Unger، Ignorance: A case for Scepticism، (Oxford: Clarendon، 1995).

27- Puth Weintraud, The Sceptical Challenge، (London: Routledge، 1997).

28- Richard A. Fumerton، »Nozick’s Epistemology«، Ibid.

29- Richard Foley، «Evidence As A Tracking Relation«، Ibid.

30- Robert J. Fogelin، Pyrrhonian Reflections on Knowledge and Justification، (Oxford: Oxford University Press,1994).

31- Robert Nozick, Philosophical Explanations.

32- Robert Nozick، Philosophical Explanations، (Cambridge: Belknap، 1983

33- See: Mortimer J، Adier، Editor in Chief، Great Books، (London: Encyclopedia Britannica، Inc، 1993) Vol. 23 P. 51 – 597. « Paul Edwards، Ed.، The Encyclopedia of Philosophy، Vol. 8.

(302)

34- Stephen F. Barker، «Conditional And Skepticism«، Ibid.

35- Steven Luper – Foy، Ed.، The possibility of Knowledge، Nozick and iris critics، (U. S. A: Rowaman & littlefied publishers، 1987).

36- Thomas D.Paxon، Jr.، »Evidence And The Case of Professor Robert Nozick«. Ibid.

37- Thomas Nagel، The View from Nowhere، (Oxford: Oxford. University Press، 1986)، xii + chs 4، 5.

38- W. K. C. Guthrie، The Sophists، (Cambridge: Cambridge University Press، 1988).

39- W.P.Alston، Epistemic Justification، P.، 8 & Ernest Sosa، Ed.، Knowledge and Justification، Vol.2.

(303)
المؤلف في سطور عباس عارفي عضو الهيئة العلمية بلجنة الفلسفة مؤسسة الامام الخميني للتعليم والأبحاث الدراسة خارج الفقه والأصول - حوزة قم العلمية دكتوراه في الفلسفة - مؤسسة الامام الخميني للتعليم والأبحاث . الأعمال والمؤلفات : الكتب 1- مطابقة اصور الذهنية مع الخارج ، طهران : پزوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی (أكاديمية الثقافة والفكر الاسلامي) ، 1388 (اختير كتاب العام في معرض كتاب حوزة قم العلمية بدورته العاشرة) . 2- البديهية ودورها في الإيبستمولوجيا ، قم مؤسسة آموزشي و پزوهشی امام خمینی (ره) (مؤسسة الامام الخميني للتعليم والأبحاث) 1389 . (اختير كتاب العام في معرض كتاب حوزة قم العلمية بدورته الثالثة عشر) 3- مدرستا شيراز واصفهان الفلسفيتان الفصل الثاني عشر : مدخل لتاريخ الفلسفة الإسلامية ، تنقيح محمد فنايي اشكوري ، طهران : انتشارات سمت ، 1394 . الجوائز : كسب عنوان دوازدهمين جشنواره جايزه كتاب سال حوزه براي كتاب مطابقت صور ذهني با خارج واثر برگزیده سيزدهمين جشنواره جايزه كتاب سال حوزه براي كتاب بديهي ونقش آن در معرفت شناسي نال جائزة أفضل عمل عن كتاب مطابقت صور ذهني با خارج مطابقت اصور الذهنية مع الخارج بمرهجان كتاب العام لحوزة قم العلمية بدورته العاشرة ، وكذلك جائزة أفضل عمل عن كتاب بديهي ونقش آن در معرفت شناسي البديهية ودورها في الايبستمولوجيا بمهرجان كتاب العام لحوزة قم العلمية بدورته الثالثة عشر .
هذا الكتاب الشكوكية يتناول هذا الكتاب مفهوم الشكوكية كمصطلح وهوية فلسفية ، والمكانة التي حظي بها في الفلسفة الحديثة . كما يدرس مؤلفه و على نحو متقابل وتظهير عنصر من العناصر المقومة ل ويعرض الكتاب للمدارس والتيارات الفلسفية الشكوكية القديمة والمعاصرة ولا سيما منها تلك التي أقامت نظامها المعرفي على قواعد الشك كمقدمات لتحصيل المعارف اليقينية . المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف