فهرس المحتويات

المدخل | 9

الفصل الأول: تأصيل المفهوم- دلالة المصطلح وجذره التاريخي | 15

معنى ما بعد العلمانية | 16

محاولات لشرح المفهوم وتأويله | 20

العلمانية وما بعدها: وحدة المفهوم وتمايزه | 37

الإشكال المعرفي والتاريخي للعلمانية | 39

الفصل الثاني: منظِّرو ما بعد العلمانية | 49

هابرماس ونظرية المجتمع ما بعد العلماني | 51

تشارلز تايلور ممهِّداً لـ «ما بعد علمانية» | 65

كازانوفا منظِّراً للعصر الما بعد علماني | 78

بيتر بيرغر ونظرية إزالة العلمنة عن العالم | 93

الفصل الثالث: مكانة الدين في تظهير نظرية «ما بعد العلمانية» | 103

حاضرية الدين في الزمن الما بعد علماني | 105

نقد الحداثة العلمانية الملحدة | 114

الإنسان بوصفه كائناً دينياً | 119

الفصل الرابع: ما بعد العلمانية في مقام التجربة التاريخية131

أوروبا – أميركا بين علمانيتين | 132

حالة أميركا بما هي نموذج ما بعد علماني | 136

تغريبة كولومبوس: الديني متحداً بالعلماني | 150

الفصل الخامس: نقد ما بعد العلمانية | 175

مشكلة المنهج في قراءة المفهوم | 179

الإلحاد كهاجس ما بعد علماني | 185

التنظير الإيماني للزمان الما بعد علماني | 192

العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية سلسلة مصطلحات معاصرة 30 ما بعد العلمانية مقاربة تحليلية نقدية لمنشأ المفهوم ومآلاته محمود حيدر
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها ، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار ، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظمة الفكرية المختلفة. ثانيا:إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لا سيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقة. ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ، ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية
(4)

الفهرس

 المدخل9

الفصل الأول: تأصيل المفهوم- دلالة المصطلح وجذره التاريخي

معنى ما بعد العلمانية16

محاولات لشرح المفهوم وتأويله20

العلمانية وما بعدها: وحدة المفهوم وتمايزه37

الإشكال المعرفي والتاريخي للعلمانية39

الفصل الثاني: منظِّرو ما بعد العلمانية

هابرماس ونظرية المجتمع ما بعد العلماني51

تشارلز تايلور ممهِّداً لـ «ما بعد علمانية»65

كازانوفا منظِّراً للعصر الما بعد علماني78

بيتر بيرغر ونظرية إزالة العلمنة عن العالم93

الفصل الثالث: مكانة الدين في تظهير نظرية «ما بعد العلمانية»

حاضرية الدين في الزمن الما بعد علماني105

نقد الحداثة العلمانية الملحدة114

الإنسان بوصفه كائناً دينياً.119

(5)

الفهرس

الفصل الرابع: ما بعد العلمانية في مقام التجربة التاريخية

 أوروبا – أميركا بين علمانيتين.132

حالة أميركا بما هي نموذج ما بعد علماني 136

تغريبة كولومبوس: الديني متحداً بالعلماني150

الفصل الخامس: نقد ما بعد العلمانية

مشكلة المنهج في قراءة المفهوم179

الإلحاد كهاجس ما بعد علماني185

التنظير الإيماني للزمان الما بعد علماني192

(6)

مقدمة المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية في سياق منظومةٍ معرفيّةٍ يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً إلى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الاجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحوالتالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورةٍ للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجةٌ من اضطراب

(7)

الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثارٍ سلبيةٍ بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعملٍ موسوعيٍّ جديدٍ يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص المركز على أن يشارك في إنجازه نخبةٌ من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

* * *

تسعى هذه الدراسة إلى محاكاة أطروحة ما بعد العلمانية، كما ظهرت في مناظرات عددٍ من المفكرين وعلماء الاجتماع المعاصرين في الغرب. وتعميقاً للمباني المعرفية التي تفترضها هذه الأطروحة، تعتمد الدراسة منهجيّة التحليل والنقد لأسباب نشأتها وغموض دلالاتها الاصطلاحية والآثار الفكرية والتاريخية والمجتمعية المترتبة على ولادتها.

(8)

المدخل

تشير عبارة «ما بعد العلمانية» إلى مصطلح حديث الولادة في المجتمع الثقافي الغربي. وتلقاء المطارحات التي جرت حوله في خلال العقد الأول من القرن الجاري، بدا أن هذا المصطلح لا يزال في طوره الابتدائي. بل يجوز القول، أن جلَّ ما حفلت بها حلقات التفكير حول خصائص وسمات منظومة ما بعد الحداثة، كانت شهدت غياباً لافتاً لهذه العبارة. ربما لهذا السبب ـ وأسباب أخرى سنأتي إليها في سياق هذه الدراسة - لم تتحول «ما بعد العلمانية» إلى مفهومٍ تامِّ القوام.

من المستحسن أول الأمر، أن نتنبَّه إلى مشكلةٍ صارت مألوفةً في التعامل مع المفاهيم المستحدثة. فالذي حصل في الغالب الأعم كان أشبه بانزلاقاتٍ عجولةٍ من طرف النخب شرقاً وغرباً خصوصاً أولئك الذين أخذوا بناصية المفاهيم على غير هدى. في محاذاة «ما بعد العلمانية» ومحاكاتها نرانا أمام شائعة نبتت على حين فجأةٍ وسط زمنٍ مكتظٍّ بالالتباسات، لذا سنكون على شيءٍ من حذرٍ بإزاء «مركَّبٍ معرفيٍّ» لم تكتمل عناصره النظرية بعد. ناهيك عن أنّنا حيال أطروحةٍ أطلَّت علينا من بيئتها الغربية وهي مثقلةٌ بأحمالٍ شتّى، ومحمولةٌ في الوقت نفسه على أفهامٍ وتأويلاتٍ لم تستقر على حال.

*     *    *

شأن سواها من المفاهيم التي أدخلتها الحداثة الفائضة في سجل «المابعديات»، فقد وقعت ما بعد العلمانية في مأزقٍ دلاليٍّ

(9)

مصحوبٍ بارتباكٍ اصطلاحيٍّ شديدٍ. لقد جرى حملُها كنظائرها السابقات على غير محملٍ وشرحٍ وقصدٍ. تارةً على مستوى دلالة اللفظ، وطوراً على مستوى دلالاة المعنى والمحتوى. ولكن في أغلب الأحيان شاع حملُها على محمل النهايات؛ أيْ نهاية ظاهرةٍ ثقافيةٍ وولادة أخرى على أنقاضها. وهذا ليس بمستغربٍ ما دام الحديث عن أفول وقيامة المفاهيم هو أدنى إلى تقليدٍ راسخٍ في حياة الغرب وثقافته. وتلك حالةٌ لم يتوقف سَيْلُها منذ أول نقدٍ لعصر الأنوار جرت وقائعه مع المنعطف الميتافيزيقي، الذي قاده إيمانويل كانط قبل نحو قرنين كاملين. غير أن شغف العقل الحداثي بختم المفاهيم لم يكن لرغبةٍ جموحةٍ ببدءٍ جديدٍ، بقدر ما افترضته تطورات الحضارة الغربية الحديثة وتحولاتها. هذا يعني أن ما بعد العلمانية -كمثل ما بعد الحداثة من قبلها- تومئ نحو انعطافٍ جديدٍ في مشاغل الفكر. ولأنّ التاريخ امتدادٌ جوهريٌّ من الماضي إلى الحاضر المستمر، فكلّ إعلانٍ عن نهاية حقبةٍ ما، هو في الواقع إنباءٌ عن بَدءٍ لأحقابٍ تاليةٍ ليس بالضرورة أن يُحكم عما سبقها بالبطلان. ربما لذلك جاء تنظير هايدغر حول نهاية الميتافيزيقا لا ليطيح بها، وإنما ليؤكد ضرورتها ووجوبها. فالانسحاب والحضور- كما يقول- هما فعلٌ واحدٌ وليسا فعلين متناقضين يميتُ أحدهما الآخر. ذلك بأن المسرى الامتدادي بين الماقبل والمابعد لا ينشط على سياقٍ آليٍّ من النقطة ألف إلى النقطة ياء، بل هو فعاليّةٌ ساريةٌ في جوهر الحركة التاريخية التي تتأبى الانقطاع وترفض الفراغ.

*     *    *

حال الأحداث في التاريخ كحال المفاهيم. هي منه وهو منها،

(10)

بل ويغتذيان من إناءٍ واحدٍ. ذلك بأنّ كلّ مفهومٍ ينشأ، لن يكون خارج الحدث والشروط الحاكمة على الفكر الذي ينتجه. المفاهيم أدوات معيارية للتعرف على الأحداث وفهمها. الحدث والفكر متلازمان، ولا ينفك عقدهما أبداً. ينشئان للمفهوم محرابه في عالم الفكر، ثم يعود التفكير من بعد أن أضحى في قلب الحدث ليقيمه على نشأةٍ أخرى. لهذا السبب راح الفيلسوف الألماني فرانز فون بادر (1765-1841) يركِّز على الوقائع الحية في التاريخ الإنساني، ويَطمْئِن معاصريه من الذين يقولون بضرورة النظام المعرفي الجاهز، أن المصطلحات والتعاريف لا تتخذ مسارها على خطٍّ مستقيمٍ، بل تشكل دائرةً تروح فيها وتجيء على نحو التكرار والتفاعل والتجدّد. فليس المهم بالنسبة إليه من أين يبدأ المرء، بل كيف يصل عبر أدواته المعرفية إلى مركز الجاذبية.. أي إلى الغاية الجوهرية المقصودة...

*     *    *

تبعاً لما مرَّ معنا تتبين لنا المنهجية التي يمكن أن يُقارب فيها مفهوم مستحدث كمفهوم ما بعد العلمانية. فالمقصد العميق من هذه المقاربة، هو إدراك المنزلة التي يحتلها في معترك الأحداث والأفكار من خلال التعرف على ماهيته والأسباب التي دفعت به إلى حقل المداولة.

تبين المعطيات الحديثة أن المراجع التأسيسية لمصطلح «ما بعد العلمانية» تنحصر في أعمالٍ بحثيةٍ صدرت بعد العام 2010. وهذه الأعمال هي حصيلة مؤتمراتٍ خُصِّصت لتظهير هذه القضية. في

(11)

مقدم الأفكار والنظريات التي استندت إليها تلك الأعمال هي ما اشتغل عليه عددٌ وازنٌ من المفكرين وعلماء الاجتماع في مقدمهم: الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، والكندي تشارلز تايلور، وعالم الاجتماع الأميركي بيتر بيرغر، وعالم الانثروبولوجيا من أصل إسباني خوسيه كازانوفا.. إلى هؤلاء جمعٌ آخر من الباحثين في الفلسفة وعلم الاجتماع السياسي ممن أسهموا بصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ في تسييل الكلام على فكرة «ما بعد العلمانية». كان للألماني هابرماس ورفيقه الكندي تايلور على وجه الخصوص مجهودٌ مميّزٌ في التأسيس لنقاشٍ جدّيٍّ بصددها. ومن الأفكار التي شكلت إحدى أبرز خطوط الجاذبية في هذا النقاش، حديثهما عن عالم ما بعد علماني أخذت معالمه تظهر في المجتمعات الحديثة. وهو الأمر الذي ولَّد احتداماً فكريّاً غير مألوفٍ مؤدَّاه: أن العصر العلماني قد بلغ منتهاه، وأن العالم الأوروبي المعاصر دخل في واقعٍ جديدٍ لم يعد فيه الكلام على العلمانية بمعناها الكلاسيكي أمراً جائزاً.

بعد فرضية هابرماس القائلة «إن العالم الأوروبي بات يعيش في مجتمع بعد علماني» نُظِّمَت الكثير من المؤتمرات والمنتديات تمحورت حول جدوى الاستمرار في التنظير للعلمانية باعتبارها الحل الأمثل للمجتمعات الغربية المعاصرة. ففي الثالث والرابع من نيسان (أبريل) 2009 عقد مؤتمر في جامعة هارفرد تحت عنوان «استكشاف الما بعد علماني». وبعد سنة واحدة، أي في التاسع والعاشر من نيسان (أبريل) 2010، جرى عقد مؤتمر آخر في كلية العلوم الدينية في جامعة واشنطن سانت لويس (ميسوري) تحت عنوان «النقاش حول العلمانية في عالم ما بعد علماني»،

(12)

هذا بالاضافة إلى مؤتمر ثالث انعقد في جامعة بولونيا بعنوان «السياسة والثقافة في المجتمع الما بعد علماني» بتاريخ 12-13 أيار (مايو) 2011.

في خلال المؤتمرات المذكورة لم يقتصر النقاش على الجانب الاصطلاحي كما هو الشائع في منهج عمل المدوَّنات المعجمية. فلقد جرت متاخمة ما بعد العلمانية تبعاً لظهوراتها وتداعياتها الفكرية والسوسيولوجية في عدد من المجتمعات العلمانية الحديثة في أوروبا والأميركيتين. ولأننا لم نجد سوى الندرة من المطالعات المعاصرة حيال الظهورات المشار إليها، فقد ارتأينا أن نركز مسعانا في هذه الدراسة على استقراء ظاهرة ما بعد العلمانية من خمس زوايا:

الأولى: تعرض إلى ما تقدّم به عدد من علماء الاجتماع من مقترحات وتصورات لتعريف المفهوم، ولا سيما لجهة التأصيل اللغوي والاصطلاحي، وطبيعة المساجلات الدائرة حوله بين النخب الغربية.

الثانية: تتناول رابطة النَّسَبِ السُلالي بين العلمانية وما بعد العلمانية. وقد آثرنا لجلاء تلك العلاقة الرابطة أن نتميّز الوضعيتين تبعاً لخصوصيتهما النظرية والمعرفية، ناهيك عن الشروط الزمانية والمكانية لكلٍّ منهما.

الثالثة: تتحرَّى ما يمكن وصفه بـ «الثنائيّة الضديّة» بين العلمنة والدين. إذ لم يكن للعلمانية أن تتحول إلى سلطةٍ تاريخيّةٍ صارمةٍ، لو لم تجعل من الدين نقيضاً وجودياً لها. وعليه يستحيل الكلام على

(13)

العلمنة في التجربة التاريخية لحداثة الغرب بمعزلٍ عن حاضريّة الدين، بالتالي فإن الحديث اليوم عن عودته كمنظومة قيمٍ إيمانيةٍ ومجتمعيةٍ إنما يعكس مكانته الجوهرية في إعادة تشكيل الحضارة المعاصرة.

الرابعة: تعاين اختبارات ما بعد العلمانية في المجتمعات الغربية، ولا سيما في أوروبا والأميركيتين حيث شهدت أرض هاتين القارتين انتقالات شديدة التعقيد والتداخل بين القيم الدينية وقيم العلمنة.

الخامسة: تسعى إلى متاخمة المفهوم بعين النقد. ولأن فكرة ما بعد العلمانيّة لمّا تزل بعد في طور التكوين، فإن الإسهام النقدي حول هذه القضية الإشكالية، تفترضه ضرورات معرفيّة وحضاريّة لا تنحصر مقاصدها بمجرد تظهير الفكرة، وإنما أيضاً وأساساً في تعيين التحديات الفكرية المفترضة وأثرها على مجتمعاتنا العربية والإسلامية راهناً وآتياً.

 

محمود حيدر

شتاء 2019

(14)

 

 

 

 

 

الفصل الأول

تأصيل المفهوم

دلالة المصطلح وجذره التاريخي

(15)

* يسعى هذا الفصل إلى تأصيل مصطلح ما بعد العلمانية من خلال مبحثين متلازمين: المبحث الأول يتناول المعنى اللغوي والدلالات الاصطلاحية للمصطلح. المبحث الثاني: يتناول وحدة المفهوم والمصدر بين العلمانية وما بعد العلمانية.

المبحث الأول: معنى ما بعد العلمانية

1-1 إشكاليّة التعريف وغموض المصطلح

على الرغم من حداثة ولادته، وتنوع تعريفاته، والتأويلات التي أحاطت به من كلّ صوب، فقد صار مصطلح «ما بعد العلمانية» مدار تفكير بيئاتٍ ثقافيةٍ وأكاديميةٍ وازنةٍ في الغرب. في حين غدت مصطلحات مثل «بعد العلماني» (Postsecular) أو «بعد العلمانية» (Postsecularism) شعاراً رائجاً في المناقشات السوسيولوجية والفلسفية الحديثة. ففي حقليْ السياسة النظرية والسوسيولوجيا، استخدم مصطلح «بعد العلماني» على نطاق واسع. ويمكن القول بوجه عام، أن طائفةً من المفكرين العلمانيين عكفوا على الاعتناء بهذا الشعار بغية إظهار انفتاحهم على المسائل الدينية. ولكن على الرغم من الحيوية التي اتسمت بها المناقشات الدائرة حوله فقط ظل تعريف هذا المصطلح في غاية الغموض والإبهام.

أبرز التعاريف المتداولة حول «ما بعد العلمانية» ذاك الذي

(16)

يعني وصول العلمانية إلى نهايتها أو اقترابها من حتفها على أقل تقدير. وهذا المدعى يثير مشكلة القطع بمدى قربه من الصواب. مع ذلك فإن السؤال الذي يعنينا الجواب عليه في هذا الفصل هو التعرّف على ما تدل عليه عبارة ما بعد العلمانية في ظاهرها اللفظي ومضمونها المعنوي؟.

يستفاد من قراءة أولية لبعض تنظيرات عدد من علماء الاجتماع المعاصرين في أوروبا والولايات المتحدة المَيْل إلى ترجيح معنى التواصل بين طورين تاريخيين للعلمانية: طورٌ بلغ ذروته وخُتِم، وطورٌ يتهيَّأ للبدء. فالختم هنا يدلّ على نهاية حقبةٍ أدت العلمنة في خلالها مجمل إجراءاتها، وصار عليها أن تتكيّف مع ما يناسب شروط الزمن الذي حلّت فيه. وأما البدء فيدل على حركةٍ نشطةٍ من المراجعات والنقد التي سادت الوسط الفكري العلماني، ودعت إلى رؤيةٍ جديدةٍ تتجاوز التناقض الحاد بين الشأنين الديني والدنيوي. والنتيجة التي تنتهي إليها مثل هذه القراءة هي أنّ التوصل إلى تعريفٍ دقيقٍ لعبارة «بعد العلماني» تفترض إلغاء صور التتالي (قبل – بعد) أو (تغيير النظام السائد وإنشاء نظامٍ بديلٍ للحياة). غير أن عالم الاجتماع الأميركي بيتر بيرغر (Peter Berger) ذهب إلى تعريف المصطلح بوصفه حالة وعيٍ معاصرٍ تتعايش فيه الرؤى الكونيّة للدين مع الرؤى العلمانيّة للكون. ورأى أنّ تعايش الرؤى الكونيّة الدينيّة والعلمانيّة، والتطلعات الدينيّة والعلمانية في المجتمع والسياسة، وصِيَغ فهم الديني والعلماني لحياة الفرد يولد توتراتٍ ناجمةٍ من اجتماع النقائض. وحاصل ما توصل إليه بيرغر

(17)

أن السمة المميزة لفكرة ما بعد العلمانية هي أنّها تعبيرٌ عن حالةٍ من التوتر المستمر[1].

استناداً إلى هذا التعريف الأولي لا تعود ما بعد العلمانية نفياً للعلمانية، وإنما توسيعاً لآفاقها بوسائط وشرائط وأنساقٍ مختلفةٍ. فمن البديهي وفقاً لهذا الفهم، أن تكون الحالة «ما بعد علمانية» حالة استئنافٍ واستمرارٍ أكثر مما تعبر عن قطيعةٍ وانفصالٍ بين شكلين لنظام الحياة في الغرب الحديث. مثل هذه الرؤية يؤيدها الاعتقاد الشائع أن التاريخ الإنساني متكامل الأطوار ولا ينسلخ ما قبله عما يليه انسلاخاً قطعياً. لأن الماقبل امتدادٌ للما بعد وتأسيسٌ له. وعليه فلن تكتسب حقبة ما بعد العلمانية واقعيتها التاريخيّة ما لم تقرّ بنَسَبِها الشرعي للأصل الذي أخرجها إلى الملأ. فلو لم تكن العلمانيّة حاضرةً في التاريخ الحي لحداثة الغرب، ما كان بالإمكان الكلام على ما بعدها. وهذا يدلّ على أنّ ثمة ضرباً من جدليّة الحمل والولادة؛ وأنّ «ما بعد العلمانية» ليست سوى حاصل هذه الجدلية. غير أنّ ما تجدر إليه الملاحظة، أنّ النقاش على فكرة ما بعد العلمانية ما كان لينطلق على النحو الذي تشهده منتديات التفكير لولا أن بلغت العلمنة مشكلات بنيويّة في منظومتها التكوينية. لذا سيكون من البديهي القول أن من سمات ما بعد العلمانية مجاوزة ما قبلها من خلال استحداث قيمٍ جديدةٍ تقتضيها ضرورات الزمان والمكان. ومن صفات المجاوزة وأفعالها أن القائلين بهذه الفكرة يؤسسون

(18)

رؤاهم على مبدأ الوصل والفصل بين «الما قبل» و«المابعد». فالفصل ضروريٌّ للتجاوز، والوصل ضروريٌّ للاستمرار والدوام. وإذاً، فالمابعد العلماني فضلاً عن أنه موصولٌ بما قبله فهو يفيد من اختبارات العلمنة ومعاثرها حتى يتسنى الانتقال إلى طورٍ جديدٍ. ومهما تكن طبيعة الاتجاهات التأويلية الناشطة حول المصطلح، فإن تأطيره وبلورته يبقى متعذراً ما لم يتم تعيين محل النزاع.

وهكذا تفترض حالة ما بعد العلمانية نشوء أسئلةٍ غير مسبوقةٍ في معرض الكلام على الأخطاء التي اقترفتها العلمنة على مدى ثلاثة قرون من اختباراتها في المجتمعات الغربية. وسنلاحظ استناداً إلى هذه الفرضية أن التجربة التاريخية للحداثة الغربية أفرزت معادلة تقول: مثلما استهلت العلمنة رحلتها التاريخية بمقولتها المشهورة «إزالة السحر عن العالم»، افتتحت ما بعد العلمانية مسارها بمقولةٍ معاكسةٍ هي: «إزالة العلمنة عن العالم»[1]. وبصرف النظر عما إذا كان بيرغر رفع شعار الإزالة كاستراتيجية للتطبيق، أو كتوصيف لواقع بلغته مجتمعات ما بعد الحداثة في الغرب، يبقى مآل التنظير واحداً.

هذا هو بالتحديد ما يفيد معنى «إزالة العلمنة» كما استعمله بيتر بيرغر للمرة الأولى في تسعينيات القرن العشرين. فقد دخل إلى ميدان التنظير لفكرته في إطار سلسلة مراجعاتٍ فكريةٍ لتاريخ العلمنة وعلاقتها بالإيمان الديني. والجدير ذكره هنا أنه لم يكن فقط مدافعاً قوياً عن أطروحة العلمنة؛ بل كان أول من أقرّ بأنه كان

(19)

مخطئاً عندما لم يعترف بأن «العالم ما زال شديد التديّن كما كان في السابق»[1]. إلا أن الدين الذي يتحدث عنه بيرغر في دراسته للحركات الدينية، هو دينٌ أصوليٌّ أولاً وآخراً. فلقد كان قلقاً من هجمة الأصوليين على النظام الحديث، ومما يسميه عودة ما قبل الحداثة إلى عالمنا المعاصر[2].

2-1 محاولات لشرح المفهوم وتأويله

في تعليقها على أطروحة بيرغر، تقدم الباحثة النمساوية في علم اجتماع الدين كريستينا شتوكل[3] تعريفاً لمصطلح «بعد العلماني» عبر مدخلين اثنين لفهمه:

الأول أن «بعد العلماني» يعني إزالة العلمانية (de-secularization)، أو أنه ما يلي العلمنة أو ينقلب عليها. وبمعنى أبعد أن تغيّراً في النظام يعيد المجتمع إلى الدين.

أما الثاني فيقوم على أن «بعد العلماني» هو شرطٌ للعصرنة والتعايش بين العلماني والديني، وهذا ما يمكن فهمه ـ حسب شتوكل ـ في أبعادٍ ثلاثةٍ: 1 ـ معياري، 2 ـ اجتماعي وسياسي وتاريخي، 3 ـ وفينومينولوجي. وأن لكل من هذه الأبعاد توتّره الخاص. أي إن الكلّ يُعدّ متصلاً بنظيره ويكمله من دون أيّ تناقضٍ. وهو ما سيتبّين لنا من جملة مقترحاتٍ جرى انتزاعها من خصوصيّة

(20)

المجتمع الأوروبي الذي وصل فيه التخاصم بين العلمنة والإيمان الديني درجة الاكتمال. ولأجل بلورة صيغةٍ مكتملةٍ للمفهوم تذهب شتوكل إلى التمييز بين كلمتي «بعد العلمانية» و«إزالة العلمانية» في مسعىً منها إلى توضيح التباين في معنى الكلمتين سعياً منها لفهم مصطلح «ما بعد العلماني» تقول في هذا الصدد: إنّ السابقة «بعد» (post) تدل على هندسةٍ مختلفةٍ كلياً عن كلمة «إزالة»، وبهذا المعنى تدل كلمة «بعد» على المحور الأفقي والعامودي معاً. فالدين في مجتمع «بعد علماني» ليس هو ذاته في مجتمع قبل علماني. وعودة الدين ليست رجوعاً إلى شيءٍ كان من قبل. من هنا، نستنتج التمييز الحاصل بين كلمة «إزالة» وكلمة «بعد»: فالأولى تفهم الدين والحداثة كنقيضين، والثانية تفهمهما كفضاءين منسجمين. من أجل ذلك تقرر شتوكل أنّ نجاح مصطلح «بعد العلماني» في الخطاب العام كما في الخطاب الأكاديمي يبدو مرتبطاً في هذا التمييز نفسه.

واستكمالاً لمسعاها في تأويل المصطلح وتوضيحه تقترح شتوكل اعتماد الواصلة في كتابة المصطلح بحيث تصبح هكذا: «بعد-العلماني». فالواصلة هنا تقيم فرقاً دلالياً (semantic) يفيد بفهم المعنى. فكلمة «بعد – العلماني» الموصولة بواصلةٍ تشير إلى أن «بعد-» تعني بالحقيقة ذاك الذي يلي. أي إنه تالٍ للعلماني، وبهذا المسعى التأويلي تشير الباحثة إلى نوعٍ من التعاقب الزمني. كما لو أراد المرء أن يقول: كان المجتمع في ما مضى علمانياً، والآن لم يعد علمانياً. والأمثلة التي توردها لتوكيد مقصدها هي تجربة تركيا التي كانت في ما مضى علمانيّةً أتاتوركيّةً، بينما الآن

(21)

دولة يحكمها حزبٌ دينيٌّ أعادها إلى مشهدٍ مختلفٍ عن السابق. في السياق نفسه تضيف شتوكل التجربة الروسية. وتحديداً روسيا السوفيتية التي فعلت كلّ شيءٍ لاستئصال الدين. ولكن بعد سقوط الشيوعية، عاد الدين ليتصدر المشهد. تشير هذه الأمثلة إلى تعاقبٍ منظّمٍ من العلماني إلى بعد–العلماني، أي العلماني كتغيير نظام. وتبعاً لهذا الفهم يشتمل تعريف مصطلحَ بعد العلماني على ثلاثة موضوعات متمّمة كما سبق وأشرنا:» بعد العلماني المعياري»، «بعد العلماني ـ السوسيولوجي»، «التاريخي والسياسي»، و«بعد العلماني الفينومينولوجي». لكن الشيء المهم هو أن معنى بعد العلماني يكمن في معرفة الاختلاف والتمايز والتكامل بين هذه الأبعاد الثلاثة نفسها.

اللافت في هذه المقاربة هو ما يفصح عنه شرح الأبعاد الثلاثة المذكورة. ذلك بأن مثل هذه الشروح تنطوي على أهميّةٍ معرفيّةٍ وعلميّةٍ وازنةٍ في سياق تأصيل وتوزيع النقاش حول مفهوم ما بعد العلمانية. وعليه فقد شارك عدد من كبار الباحثين إلى جانب شتوكل في نقاش وشرح الأبعاد الثلاثة لمفهوم ما بعد العلمانية على الوجه التالي:

أولاً: «ما بعد العلماني» المعياري: وهو بُعدٌ يخص أحد أبرز تأسيسات الفلسفة الحديثة. فلو أحلنا فهم البعد المعياري من وجهة نظرٍ فلسفيّةٍ سنرى أنّ هناك من يضع التراث الكانطي مقابل التراث الهيغلي. وعليه ينبغي تسمية «بعد العلماني المعياري» «ما بعد علماني»، لأنه يصف موقفاً فلسفياً معيارياً، وهو موقفٌ يقرّ أنّ

(22)

العلمانيّة ذاتها يمكن أن تكون أيديولوجيا[1]. الممثَّلون الأساسيون لهذا المعيار هم يورغن هابرماس (Jurgen Habermas) وويليام كونولي (William Connolly)، وجون راولز (John Rawls)[2]. وما يهمّنا لفت الانتباه إليه بالنسبة للتيّار التفكيري بعد العلماني المعياري هو تيارٌ سياسيٌّ، وليبراليٌّ، ينتمي إلى تراثٍ كانطيٍّ في الفلسفة السياسية. يتفق هؤلاء على المكانة الشرعية للدين في الفضاء العام، إمّا لأنهم مقتنعون بتفوّق وجهة النظر الدينية، أو لأنهم هم أنفسهم متديّنون. فهم يقدمون حجةً منطقيّةً بسيطةً مؤداها: إن الفضاء العام الذي يمِيز الخطاب العلماني من الخطاب الديني يجازف باستبعاد المواطنين المتدينين، وهذا ليس عملاً ديموقراطياً. ومثل هذا التصور لموضوع الدين يبدو مختلفاً كلياً عمّا نجده في الفلسفة المحافظة أو المجتمعية التي تميل للدفاع عن أهمية الدين على أسسٍ أخلاقيّةٍ. ومن أجل التبسيط، يمكننا اعتبار هذه المقاربة الأخلاقية منتميةً إلى التراث الهيغلي. لكنّنا نجد في الفلسفة السياسيّة المعاصرة من يمثل هذه الطريقة في فهم الدين والسياسة، مثل مايكل ولتزر (Michael Walzer)، ومايكل ساندل (Michael Sandel)، وشارل  تايلور (Charlrs Taylor)[3]. يبيّن هؤلاء ـ أي

(23)

الذين يميلون إلى الفضاء الهيغلي- أن للدين صوتاً شرعياً في الفضاء العام. لكن، سبب موقفهم هذا ليس لأن الدين يجب ألا يستبعد عن الحوار الديمقراطي، بل لأنهم يعتبرون أن الدين هو مقوّمٌ ضروريٌّ للخطاب العام. ومن جهةٍ أخرى يمكن أن يُضاف شيءٌ يحتمل ضياعه. وهو الجانب الأخلاقي[1].

على هذا الأساس سنجد أنّ بين هذين المسلكين توتّرٌ غير محدّدٍ بوضوح في النقاشات المعاصرة. فلو نظرنا إلى «بعد العلماني» في بعده الليبرالي والكانطي فقط، يصير كامل المشروع الفلسفي لفلسفة «بعد العلماني» إلى حد ما هزيلاً جداً، وإجرائياً. حتى هابرماس ذاته لم يتوقف عند هذا الحد، ففي إحدى النقاط يفترض أن الأصوات المتديّنة تحمل محتويات مهمة للحوارات العامة. لذا يبدو أن التحدي الحقيقي أمام الفلسفة السياسية حيال أطروحة «بعد العلماني» يكمن في النظر إليه بصيغته الهيغلية، وما ذاك إلا لإعطائه وصفاً أكثر قوّةً، وللمجازفة في الانخراط في فلسفة الأخلاق.

باختصار، إنّ لتعريف «بعد العلماني» المعياري بعدين في فلسفة الحداثة: بعدٌ كانطيٌّ وبعدٌ هيغليٌّ، وبين البعدين علاقةٌ متوترةٌ. وهكذا لا يمكن اختصار ما بعد العلماني المعياري بأيّ منهما، لأنه يكمن في التوتر نفسه.

البعد الثاني: ما بعد العلماني السوسيولوجي ـ التاريخي ـ السياسي. وهو يُعنى بالفاعلين وبالمؤسسات. حيث يدرس العلماء

(24)

في هذه الحقول عودة الدين إلى المجتمع العلماني من خلال النظر إلى العوامل الدينية والعلاقات بين المؤسسات العلمانية والدينية، وغالباً على نحو المقارنة.

أما البعد الثالث: أي “ما بعد العلماني الفينومينولوجي”: فهو يتصل بالتجربة الفردية مقابل التجربة الجماعية. وفي هذا السياق يعدُّ الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور.(Charles Taylor)[1] أحد الفلاسفة المعاصرين الذين لفت انتباه الفلسفة السياسية إلى التجربة الدينية. ففي كتابه (A Secular Age) بيّن كيف تخلت العلوم الإنسانية في بداية الحداثة عن التكامل في الإطار المرجعي الديني. فهو يقول أن العيش في عصر علماني يعني العيش في مجتمعٍ يُفهم فيه الإيمان بالله «كخيار من بين خيارات أخرى، ولا يكون عادة أسهلها اعتناقاً» غير أن العيش في إطارٍ محايثٍ لا يعني توقف البشر عن البحث عن الكمال أو التماميّة وفقاً لتعبير تايلور. إنّ ما علينا تقديره في حجة تايلور هو أنّه يقلب النقاش كله حول العلمانية ومجتمع بعد العلماني رأساً على عقب. فبدل الحديث عن «عودة الدين»، يوضح أنّ الدين وقابليّة الإنسان للتجارب الدينية المختلفة من الأمور البديهية. ثم يمضي أبعد من ذلك ليبين أن الدين لم يفارقنا مطلقاً، فالكنائس استمرت في شغل مساحة محددة في المجتمع. أما الذي تغير فهو أن عدداً كبيراً من البشر يبحثون عن تجربة الاكتمال خارج إطارهم المحايث أو عن طريق الأديان المنظمة[2].

(25)

بناء على ما ذهب إليه تايلور لجهة حضورية الدين الراسخة في المجتمعات الغربية، نجدنا أمام قضيتين مثيرتين للجدل:

-الأولى تتمثل في الإقرار بأن المجتمعات الغربية عموماً تعيش عصراً ما بعد علماني، والدين خيار من بين خياراتٍ متعددةٍ على مستوى التجربة الفردية.

-القضية الثانية، ترتبط بتعريف التجربة الدينية: فالتجارب الدينية كما يزعم تايلور فردية جداً وعفوية وشخصية؛ أي إنها أحداثٌ معزولةٌ وغير اجتماعيةٍ. في تركيزه أحادي النظرة على البعد الفردي يعبّر تايلور عن نصف الحقيقة فقط حول التجربة الدينية. إلا أن ما يعدُّ ناقصاً في تفسير تايلور هو التفكير بالبعد العملي العام للتجربة المتعالية.

 3-1 التباسات إضافية للمصطلح

الباحث في علم الاجتماع والأستاذ المحاضر في جامعة كيبك الكندية جان ـ مارك لاروش، يضيف المزيد من الالتباسات المعرفية المتصلة بمصطلح ما بعد العلمانية وما بعد العلماني[1].

   حول معنى ما بعد العلمانية ومشكلة فهمها، يلاحظ لاروش مشكلةً لغويّةً ومعرفيّةً مركّبةً. فهو يرى أنّ إضافة اللاحقة « ـيّة»

(26)

(isme) هو إشارةٌ إلى تيّارٍ فكريٍّ، وحينئذٍ تكون العملية معروفة، فذلك يتمّ بغية إعطائه معنى محدّدًا وإبراز بعدٍ أيديولوجيٍّ فيه. أما إذا كان التعبير (postsécularisme / postséculariste) [ما بعد العلمانيّة/ ما بعد العلمانيّ] فهو يلائم ما يذهب إليه التيار الأصولي في المسيحية الإنجيليّة على وجه التحديد. وهو التيار الذي يطالب برفع كلّ القيود الضيّقة عن استخدامهم العام للعقل الدينيّ. إنّ استخدام مصطلح «ما بعد العلمانيّة» للدلالة على المسلك الذي ينتهجه هؤلاء الفاعلون الدينيّون ومسلك يورغن هابرماس وشركائه، يتعلّق ببلاغة في الاختيار، إسناد معنى محدّد (restrictif) لفكرته بضمّه إلى فكرة أخرى[1].

 بين « العلماني» و «العلماني النزعة»..

يميز هابرماس بين مصطلحين يجري تداولهما من غير تحديد الآثار المعرفية والعملية الناجمة عن كلٍّ منهما. والتمييز هنا بين مصطلح «علماني» (secular) و«علماني النزعة» (secularist)، عدا الموقف غير المكترث لشخصٍ علمانيٍّ أو غير مؤمنٍ قد يرتبط بشكل «لا أدري» بزعم الأديان كونَها حقائقَ صحيحة، يميل الشخص «العلماني النزعة» إلى اعتماد موقفٍ انفعاليٍّ معادٍ وواضحٍ حيال العقائد الدينية التي تؤثر على عموم الناس رغم عدم إمكانية تبريرها علميّاً. في يومنا هذا تنبني العلمانية على نزعة طبائعية شديدة، أي على افتراضات علمية فحسب، وبخلاف الحال في النسبوية الثقافية

(27)

ليس علي أن أعلق على الخلفية الفلسفية[1]. ما يهمني في السياق الحالي هو السؤال عما إذا لو كُتِبَ لتقليل «العلماني النزعة» لقيمة الدين أن ينتشر على نطاقٍ واسعٍ بين المواطنين، هل سيكون ذلك متوافقاً بأيّ شكلٍ من الأشكال مع التوازن ما بعد العلماني، بين المواطنة المشتركة والفروقات الثقافية.. وبالتالي عما إذا عقلية «العلماني النزعة» ستكون في عددٍ كبيرٍ من المواطنين فاتحة لشهية تحديد معايير فهم النفس في المجتمع الما بعد علماني كما هو الحال في الأصولية بالنسبة للجماهير المتدينة؟ يطال هذا السؤال جذوراً أعمق للشعور الحالي بالضيق من تلك التي تصل إليها الدراما «التعددية». ما هو نوع المشكلة التي نواجهها؟

من النقاط التي تسجل لصالح «العلمانيِيّي النزعة» أنهم يصرون على أنه لا غنى عن شمول كلّ المواطنين كمتساوين في مجتمع مدني. ولأن النظام الديموقراطي لا يمكن فرضه ببساطةٍ على أناسٍ هم في الواقع يشكلون المرجعيات فيه، فإن الدولة الدستورية تواجه مواطنيها بتوقعاتٍ تتطلب منهم أخلاقيات مواطنة تذهب أبعد من مجرد اتباع القانون. المواطنون والمجتمعات المرتبطة بالدين لا يجب أن يتكيفوا بشكلٍ سطحيٍّ مع النظام الدستوري، بل ينتظر منهم زرع مبادئ التشريع العلماني في القواعد المؤسسة لعقيدتهم[*]. من

(28)

المعلوم أن الكنيسة الكاثوليكية علقت أعلامها على صارية الليبرالية والديموقراطية في المجمع الفاتيكاني الثان[1] عام 1965، وفي ألمانيا لم تتصرف الكنائس البروتستانتية بشكلٍ مختلف. لا يزال أمام الكثير من المجتمعات الإسلامية عملية تعلّم، وبكلّ تأكيدٍ فهناك في العالم الإسلامي تنامٍ للنظرة القائلة أن مُقاربةً تفسيريّةً ـ تاريخيّةً للقرآن مطلوبة. ولكن النقاش حول الإسلام الأوروبي يجعلنا نعي مرةً أخرى حقيقة أن المجتمعات الدينية هي التي يجب أن تقرّر ما الذي يقبلون في عقيدتهم المصححة باعتباره «العقيدة الحقّة»[2].

عندما نفكر في التحول من الشكل التقليدي للوعي الديني، إلى شكل أكثر مرونةً، فما يبرز للتفكير هو نموذج ما بعد الإصلاح البروتستانتي من حيث التغير في طرق التعامل المعرفية الذي جرى في المجتمعات المسيحية في الغرب. ولكن لا توجد «وصفة» للتغير في العقلية، ولا يمكن التلاعب بها سياسيّاً، أو أن تُفرض بالقانون ولا تكون في أفضل تطبيق لها إلا نتيجة عملية تعلّم، ولا تظهر كعملية تعلّم إلا من وجهة نظر فهمٍ علمانيٍّ للنفس في إطار الحداثة. من حيث ما تتطلبه أخلاقيات المواطنة الديموقراطية في إطار العقليات نواجه الحدود القصوى للنظرية السياسية المعيارية التي مُكِّن لها فقط أن تبرر الحقوق

(29)

والواجبات. لا يمكننا سوى رعاية عمليات التعلم لا فرضها أخلاقيّاً أو قانونيّاً[1].

ولكن هل علينا أن ننظر إلى طريقٍ مسدودةٍ من الجانب الآخر أيضاً؟ هل عملية التعلم هذه ضرورية فقط في جانب التقليدية الدينية وليس من جانب العلمانية أيضاً؟ ألا تفرض التوقعات المعيارية نفسُها التي تحكم مجتمعاً مدنيّاً شموليّاً تحريماً على ما يقوم بها «علمانيو النزعة» من تقليل لقيمة الدين كما تحرِّم مثلاً الرفض الديني لحقوق مساوية للمرأة؟ إن عملية تعلم مكملة مطلوبة بكل تأكيد من الجانب العلماني، إلا إذا خلطنا بين حيادية علمانية الدولة أمام نظرات دينية متنافسة للعالم وبين تطهير المحيط العام السياسي من جميع المساهمات الدينية.

لا شك بأن مجال الدولة التي تتحكم بكل وسائل الإكراه القانوني يجب أن يفتح أمام الصراع بين المجتمعات الدينية المختلفة، وإلا ستصبح الحكومة الذراع التنفيذية لغالبيّةٍ دينيّةٍ تفرض إرادتها على معارضيها. في دولة دستورية جميع المقاييس التي يمكن فرضها بالقانون يجب أن تتشكل وتبرر بشكل عام بلغة يفهمها جميع المواطنين. لكن حيادية الدولة لا تمنع التعبير الديني في المحيط السياسي العام طالما تظل عملية اتخاذ القرارات على المستويات البرلمانية والقانونية والحكومية والإدارية منفصلة

(30)

بشكلٍ واضح ٍعن التدفق غير الرسمي للتواصل السياسي، وتشكيل الآراء في الإطار العريض الأوسع للمواطنين. يدعو «فصل الكنيسة عن الدولة» إلى فلترةٍ بين هذين الميدانين ـ أي مصفاة لا تسمح إلا بمرور المساهمات «المترجمة» إلى العلمانية من بين ضجيج الأصوات المختلفة في الميدان العام فضلاً عن الأجندات الرسمية لمؤسسات الدولة.

ثمة سببان لصالح الممارسة الليبرالية هذه: الأول أنه يجب إتاحة المجال أمام الأشخاص غير الراغبين في ولا القادرين على تقسيم قناعاتهم الأخلاقية ومصطلحاتهم بين الخطوط الدينية واللادينية للمشاركة في تشكيل الإرادات السياسية حتى لو استخدموا في ذلك لغة دينية. الثاني أنه يجب على الدولة الديموقراطية أن لا تقلل بشكل استباقي تعقيد وتعدد أصواتها العامة لأنها لا تعلم حينئذ ما إذا كانت تقطع عن المجتمع مصادر نادرة لتوليد المعاني وتشكيل الهويات. خصوصاً حين يتعلق الأمر بالعلاقات الاجتماعية المعرضة للخطر، فالتقاليد الدينية لديها القوة لتشكيل الحساسيات الأخلاقية والمدارك الحدسية المتشددة.

إن ما يُعرّض العلمانية للضغط، هو التوقع أنّ المواطنين العلمانيين في مجتمعٍ مدنيٍّ وفي المحيط السياسي العام، يجب أن يكونوا قادرين على مواجهة إخوتهم في المواطنة كمساوين لهم. ولكن إذا حدثت هذه المواجهة مع المواطنين المتدينين ـ مع التحفظ على أن هؤلاء الأخيرين يجب أن لا ينظر إليهم بجديّةٍ على أنّهم من أهل هذا العصر بسبب عقليتهم المتدينة ـ فسوف نرجع إلى

(31)

مستوى التسوية المؤقتة. وبذلك ننهي أسس التقدير المتبادل التي لا غنى للمواطنة المشتركة عنها. يتوقع من المواطنين العلمانيين من باب أولى أن لا يستبعدوا أنهم قد يكتشفون في العبارات الدينيّة محتويات لغويّة وحدساً شخصيّاً مستتراً يمكن ترجمته إلى الخطاب العلماني العام. فإذا استمر الأمر على ما يرام من الجانبين فإنّ على كلٍّ منهما ومن حيث وجهة نظره، أن يتقبل تفسيراً للعلاقة بين الإيمان والمعرفة تمكن الجميع من العيش سويّةً بطريقةٍ يعكس فيها الجميع قيم الجميع.

عندما يستخدم هابرماس مصطلح (sécularisme/séculariste) أو بالألمانية (säkularistische)، العلمنانيّ/العلماني، فهو يقيده بمعنى محدّد. ذلك يشير إلى أنّ لمصطلح العلمانية/العلماني (sécularisme/séculariste ) دلالة خاصّة بالنسبة إليه. وهي في الحقيقة ذات مقاصد مختلفةٍ عن دلالة العلمانيّ (séculier /sakular) وعن الاسم المشتق منه «المُعلْمَن» (sécularisé säkularisierte) المستخدمَيْن كلاهما للدلالة على الشرط الحديث لعقلٍ مستقلٍّ متحرّرٍ من الدين والذي يتولّى مهمّة الفصل بين الإيمان والمعرفة.

مؤدى دلالة هابرماس في هذا المحل بالذات يوردها في كتابه «خلاف غير المؤمنين الذين يحتفظون بموقفٍ لا أدريّ (agnostique) مقابل المزاعم بصحّة الأديان [المواطنون المـُعَلْمَنون]، يتبنّى العلمانيّون [säkularist] موقفًا مثيرًا للجدل ويرفضون أيّ تأثيرٍ عام للعقائد الدينيّة. في العالم الأنجلوسكسونيّ،

(32)

تستند العلمانية اليوم إلى طَبعِيّة (نزعة طبيعيّة/ naturalisme) طُلْبَة، تمنح علوم الطبيعة حصريّة المعرفة المعترف بها اجتماعيًّا. أنا أرى أنّ مثل هذه العِلْمَويّة تعسفيّة. إنها لا تتّفق مع فكر ما بعد ميتافيزيقيّ، يُمدِّد القوّة الخطابيّة لعقلٍ علمانيٍّ، ولكن غير مشوَّهٍ، لتطال القضايا المعنويّة والأخلاقيّة والجماليّة، من دون أن تمحو بأيّ شكلٍ من الأشكال الحدودَ بين الاعتقاد والمعرفة»[1].

بالنسبة إلى هذا الفكر العلمانيّ فإنّ «المعتقدات الدينيّة – حسب هابرماس-  هي في حدّ ذاتها غير حقيقيّةٍ، ووهميّةٍ أو لا معنى لها»[2] والمظاهر والتعابير الدينيّة يُنظرُ إليها، نوعاً ما كبقايا قديمة، والحريّة الدينيّة مفهومة فيها كحقٍّ أساسيّ، أقلّ منها كـ «إجراء لحماية الثقافة لمصلحة أنواع آيلة للانقراض». ومن الواضح جيّدًا أنّ معنى الكلمات يختلف من مفهومٍ إلى آخر. تبعًا لهذه الاعتبارات، هل يمكننا أن نعزو علامة [تسمية] (ما بعد العلمانيّة) ليورغن هابرماس؟ ليس بالمعنى القوي الذي نسبَه جوان ستافوـ ديبوج للعلمانيّة، كانفتاح من دون تحفّظ على المعتقدات الدينيّة؛ نعم يمكننا أن نعزو ذلك بالمعنى الذي تأخذه كلمة العلمانيّة لدى يورغن هابرماس آخذين بالاعتبار أنّ هذا الأخير يدين العلمانيّة، يدين ستاره العلمويّ المعادي للدين والذي ينادي منه بتجاوزه، إذًا، إلى  (ما بعد العلمانيّة).

(33)

لكن هابرماس لا يستخدم شخصيًّا هذا المصطلح «ما بعد العلمانيّة/ ما بعد العلمانيّ». أما ما يشكّل جزءًا من معجمه اللغويّ فهو تحديداً عبارة «مجتمع ما بعد علمانيّ» (Postsarularen Gesselshaft) كشرطٍ (موضوعي) وأفق (معياري). وعلى وجه التحديد، يتناول هابرماس المجتمعَ ما بعد العلمانيّ بوصفه مفهوماً تجريبيّاً: «وصفُ المجتمعاتِ الحديثة كـ (مابعد علمانيّة) يُحيلُ على تغيير الوعي» الذي يُرجعه إلى ثلاث ظواهر وثّقها علم الاجتماع:

أولاً: لم يعد وعي العيش في مجتمع علمانيّ مرتبطًا باليقين بأنّ التحديث الثقافيّ والاجتماعيّ يتمّ على حساب المعنى الشخصيّ والعامّ للدين».

ثانياً: «حقيقة أنّ الجماعات (groupes) الدينيّة تأخذ على نحو متزايد دورَ التجمّعات (communautés) التفسيريّة في الحياة السياسيّة للمجتمعات (sociétés) العلمانيّة»، هذا ما يُجبر «غير المؤمنين على الأخذ بالاعتبار بشكل أكثر وضوحًا ظاهرةَ دينٍ مرئيٍّ على المستوى العامّ».

 ثالثاً: التعدديّة الدينية تتضاعف «بالتعدديّة في أشكال الحياة» الناجمة عن الهجرة والتدفّق السكّانيّ المكوّن من أناس يتحدّرون من «ثقافات ذات طابع تقليدي قويّ»[1].

يُظهر المجتمع العلمانيّ بالنسبة إلى يورغن هابرماس أفقًا معياريًّا للمجتمع السياسيّ حيث تكون شروط الإمكان ضروريّة.

(34)

بالنسبة إليه فإن للمجتمع العلمانيّ أربع عتبات معياريّة: 1) أولويّة دولة القانون الدستوريّ (هذا ما يستلزم ويشمل الفصل بين الكنيسة والدولة)، حياد الدولة في المسألة الدينيّة؛ الاعتراف بالحقوق الأساسيّة. 2) أولويّة العقول العلمانيّة (غير الدينيّة) في الاستخدام العامّ للعقل كمصدر للمعياريّة الاجتماعية والسياسيّة والقانونيّة. 3) أولويّة العلم (الإجرائيّ والفهميّ والنقديّ) كأداة رافعة لجميع المعارف. 4) تعدديّة دينيّة مسالمة[1].

إذا كانت العتبات الثلاث الأولى تُميّز جيّدًا ما نفهمه عادةً من مجتمعٍ علمانيٍّ أو مُعَلمَن، فإنّ العتبة الرابعة، الناجمة عن الأخذ بعين الاعتبار استمرار الدين ليس واقعاً فقط، ولكن بوصفه تحدّيًا للفكر العلمانيّ والتعايش معًا، تشير إلى العبور نحو المجتمع «ما بعد العلمانيّ». كيف نعيش في مثل هذا المجتمع؟ ما التحدّيات المعرفيّة والعمليّة أيضًا (المزايا المدنيّة والسياسيّة) التي يجب على المواطنين المؤمنين والمواطنين العلمانيين مواجهتها؟ هذه الأسئلة ترفض الأفق المعياريّ الذي ينص يورغن هابرماس عليه على النحو التالي:

«المجتمعات العلمانيّة توجب الاعتراف بأنّ تحديث الوعي العام يسوق ويغيّر بطريقة تأمليّة في المراحل المتعاقبة، الذهنيّات الدينيّة والدنيويّة. يمكننا من الجهتين، شرطَ أن نعتبر معًا التعلمنَ عمليّةَ تعلّمٍ تكامليّة، أن نأخذ على محمل الجدّ، بالتبادل ولأسبابٍ معرفيّة، إسهامات كلّ منها حول الموضوعات المثيرة للجدل في المجال العام». والعقل العلمانيّ، مع بقائه على الإلحاد، يمكنه

(35)

حسب هابرماس أن ينفتح على التقاليد الدينيّة ويعترف بمضمونها المعرفيّ والبديهيات الأخلاقيّة ذات الصلة، وهذا ما يرفضه العقل العلمانيّ. يَذكر أنّ العقل الحديث سبق أن نجح في ترجمة الكثير منها بلغةٍ علمانيّةٍ (مفاهيم الاستقلاليّة الذاتيّة، الفردانية، التحرّر والتضامن: فئات التشييء والاستعباد ـ الناتج من حظر صورة الإله وعن الخطيئة الأصليّة - كفئات للنظرة الناقدة حول الأمراض الاجتماعية في عصرنا الحاضر). هذا الانفتاح يعني أنّه ينبغي على المواطنين غير المؤمنين أن يواجهوا هم أيضاً تحدّيًا معرفيًّا. في هذا الصدد، المجتمع العلمانيّ متطلِّبٌ سواء تجاه الوعي الدينيّ أم تجاه الوعي العلمانيّ. إنّه يتطلّب من هذا الأخير أن يفهم «عدم اندماجه بالمعتقدات الدينيّة بوصفها معارضة من المعقول توقّعها» وأن يفهم أنه يمكن أن يتعلّم منها[1].

بالنسبة إلى هابرماس، هذا الانفتاح على الأديان ليس إذًا من دون تحفّظ، بل على العكس من ذلك، يصرّ في كتاباته كلها على العتبات التي ينبغي على الجماعات المؤمنة والمواطنين الدينيين أن يجتازوها تمامًا بطريقةٍ انعكاسيّةٍ ذاتيّةٍ في مجتمعٍ تعدّديٍّ وديمقراطيٍّ: الاعتراف بأولويّة دولة القانون الدستوريّ؛ أولويّة العقول العلمانيّة/ الدنيوية في الاستخدام العام للعقل كمصدرٍ  للمعياريّة الاجتماعية والسياسيّة والقانونيّة؛ أولويّة العلم بوصفه سلطةً إبستمولوجيّة [معرفيّة]؛ أخيرًا، التعدّديّة الدينيّة مسالمة من خلال التغلب على التنافر المعرفي الذي لا يخفق لقاءٌ مع بقيّة

(36)

الطوائف والأديان الأخرى أبدًا في إظهاره. فضلًا عن ذلك، يتطلّب المجتمع العلمانيّ وعياً علمانيًّا ـ وبشكل خاصّ إذا كان يقدّم نفسه كأغلبيّة ـ وعدم استغلال «قوة التعريف المكتسبة تاريخيًّا لتعرّف نفسها وفقًا لمعاييرها الخاصّة، بما يجب أن تكون عليه الثقافة السياسيّة الإلزاميّة للمجتمع التعدّديّ»[1].

المبحث الثاني: العلمانية وما بعدها: وحدة المفهوم وتمايزه

يضيء هذا المبحث على العلاقة الجينولوجية بين العلمانية وما بعد العلمانية باعتبارهما بنيةً مفهوميّةً مشتركةً. ذلك بأنهما يؤلفان معاً مثنىً مفهومي يعود إلى سلالةٍ واحدةٍ، مع اختلافٍ في المهمة والدور وخصوصيّة كلٍّ منهما تبعاً لمنزلة كلٍّ منهما في أزمنة الحداثة.

وعلى ما سبق ولفتنا إليه في مستهلّ هذه الدراسة، فإنّ أيّ مقاربةٍ لمفهوم ما بعد العلمانية لا تصح منطقياً ومعرفياً وتاريخياً من دون وصلها بما قبلها؛ أي بالعلمانيّة كمفهومٍ أنتجته الحداثة الغربية وأقامت حضارتها السياسية والاجتماعية على منظومته. وتأسيساً على هذه الفرضية المركبة يصير ضرورياً تظهير العلمانية كمبدأٍ فلسفيٍّ وعلى تاريخية لظهور أطروحة ما بعد العلمانية.

مثلما ولدت «ما بعد الحداثة» من فضاء المراجعات التي عصفت بالحداثة الأولى وأنوارها، كذلك وُلدت «ما بعد العلمانية» كمجاوزةٍ لما اقترفته العلمنة من معايب ظهرت قرائِنُها صورة إثر صورةٍ وحدثاً إثر حدثٍ.

(37)

لم تتحول «مابعد العلمانية» إلى مقالةٍ ساريةٍ في الزمن إلا بعدما أُشْبِعَت العلمنةُ جدلًا واختبارًا، حتى أوشكت أن تُهجر أو تُرمى في النسيان. والعلمانية شأن نظائرها الأخرى [كالأيديولوجيا والديمقراطية والحداثة والرأسمالية الليبرالية وسواها..] راحت تحفر السبيل إلى المابعد قصد التجدّد والديمومة. وما كان ليتسنّى لها هذا لولا أن كفّت عن الاستمرار في أداء وظائفها الكبرى. لكنّ القول بوصول العلمانية إلى خاتمتها، لا يعني في واقع الحال الحكم بموتها. فالختم هنا يدل على نهاية جيلٍ تاريخيٍّ أدت العلمنة في خلاله مجمل إجراءاتها، وصار عليها أن تتهيَّأ لتغيير مهمتها بما يناسب الزمن الذي حلّت فيه.

من أجل ذلك سينبري بعض علماء الاجتماع، بعدما أضناهم البحث عن تعريف مطابق لماهيتها، أن ينظروا إلى ما بعد العلمانية كحلقة مستأنَفة تتصل بما سبقها، وتنفصل عنه في الآن عينه.

بهذا المعنى ليست «ما بعد العلمانية» نفيًا للعلمانية، وإنما استئنافًا لها بوسائط وشرائط وأنساق مختلفة. فلا يصح أن ينسلخ التاريخ عما قبله وعمّا يليه انسلاخًا قطعيًا. فهذا محال، لأن الماقبل امتدادٌ للما بعد وتأسيسٌ له. فلن تكتسب حقبةُ ما بعد العلمانية واقعيتَها التاريخية ما لم تُقِرَّ بنَسَبِها الشرعي لميلادها الأول. فلو لم تكن العلمانية حاضرة في التاريخ الحي لحداثة الغرب، ما كان بالإمكان الكلام على ما بعدها. الحاصل أن ثمة ضربًا من جدلية استتارٍ وكمونٍ وانقشاعٍ، تظهر فيها «ما بعد العلمانية» كمحصولٍ لتلك الجدلية المركبة[1].

(38)
1-2- الإشكال المعرفي والتاريخي للعلمانية:

يشير الباحثون إلى أنّ أول من طرح العلمانية كنظريّةٍ رسميّةٍ هو جورج جي. هاليواك في نحو سنة 1846م في بريطانيا. ومع أن رفض تدخل الدين في مجالات الحياة المختلفة يعود إلى عصر النهضة وعصر التنوير «القرنين الخامس عشر والسادس عشر للميلاد» نتيجة النزاعات التي نشبت بين العلم والدين من جهةٍ وبين العقل والدين من جهةٍ ثانية، فإنّ من المفيد عدم الخلط بين حالةٍ تاريخيّةٍ حدثت تلقائياً، ونظريّة أيديولوجية عرضها عددٌ من المفكرين كأطروحةٍ بديلةٍ لإدارة حياة البشر وتحقيق سعادة الإنسان.

منذ القرون الوسطى، وفي نهاية هذه القرون على وجه التخصيص، تعالت نداءاتٌ تدعو إلى رفض تدخل الدين في ميادين الحياة البشرية المختلفة، وفكر البعض في إحلال العقل الذاتي المحور والعلوم الاجتماعية. بعبارة ثانية: تارة تكون الأخلاق العلمانية ثمرة طبيعية للعلمنة ولها طابع لاإرادي، وتارة تعتبر لازماً حتمياً ضرورياً لعلمنة المجتمعات الدينية على أساس الرؤية العلمانية المفروضة.

على الرغم من الكم الهائل من الكتابات حول مصطلح العلمانية، لا يزال الغموض يكتنف هذا المصطلح (لفظاً ومعنى). ولجلاء هذا الغموض، كثيراً ما كانت تجري الدعوة إلى استعادة النص التاريخي الذي يحكي قصة العلمنة من خلال تجاربها. بل غالباً ما عكف الباحثون على تناول هذا الموضوع الحيوي ومراجعته

(39)

انطلاقاً من التجربة الفرنسية بالذات. وسبب ذلك عائد إلى أن الجغرافيا الحضارية لفرنسا كانت ساحة الاختبار الحية للمفهوم، خصوصاً عندما تم إبعاد الكنيسة عن ممارسة السلطة السياسية والادارية، وبخاصة في مجال التعليم، وبالتالي إعادة كل ما يتعلق بعالم السياسة والاجتماع إلى العالم الدنيوي.

يعرض المفكر الألماني لاري شاينر ستة تعريفاتٍ للعلمانية، هي: أفول الدين، والتناغم مع هذه الدنيا، وتحرر المجتمع من قيود الدين، وتحول المعتقدات والمؤسسات الدينية، وسلخ القدسية عن العالم، والسير من المجتمع القدسي إلى المجتمع العلماني[1]. لكن في ضوء الجذر اللغوي والمسيرة التاريخية للعلمنة، يبدو تعريفها بـ «التناغم مع الدنيا» و«أصالة الشؤون الدنيوية» تعريفاً عاماً ودقيقاً للعلمانية. ذلك أن «التحول إلى الدنيوي» في الأدبيات الفلسفية والعقلانية الغربية يعني التحول إلى الـ «هنا»، وإلى الحال، وإلى الأرضي، أي إن الوجود في علم الوجود (الأنطولوجيا) ينحصر في العالم المادي المحسوس، بينما تترك عوالم ما وراء الطبيعة، والآخرة، والله للنسيان. من الناحية الأنثروبولوجية تختزل الأبعاد المعنوية وغير المادية للإنسان إلى مستوياتها الدنيا والمادية، ومن الناحية الإبستيمولوجية لا يقبل سوى العلم الوضعي كمعرفة، ويصار إلى إنكار الدور المعرفي لمصادر أخرى من قبيل الوحي، والعرفان، والفلسفة[2].

(40)

العلمنة بهذا المعنى هي في الحقيقة العقلنة نفسها. وهي التي تؤمن بالعقل المكتفي بذاته، وتقصي في جانبها السلبي القدسية عن الحياة. فالعلمنة في الوهلة الأولى تركِّز على دور الإنسان في الوجود واستقلال تفكيره في المجالات التي يستخدم فيها عقله. والأهم من كل شيء دور الإنسان في الوجود بما في ذلك اكتشاف الأهداف الجديرة بالتحقيق في هذا العالم وأساليب هذه الأهداف، بصورة مستقلة عن الدين. لكن عملية العلمنة بهذا المعنى تقف في مواجهة الدين، ذلك أن العلمنة في الأساس بمعنى استقلال العقلانية، تفضي إلى عدم الثقة بالدين وزعزعة القوانين الدينية في الحياة البشرية عن طريق تكريس محورية العقل. وبناءً على هذا النوع من الفهم تصبح شرعية القوانين البشرية وكذلك الأخلاق قائمة على العقل لا على الدين. وحجة أصحاب هذا الرأي تقول: إذا كان الله قد أمرنا في موضع ما بإطاعة القوانين البشرية الوضعية فلأن هذه القوانين متلائمة مع الأخلاق والعقل[1].

أما على مستوى التمييز بين مفاهيم شائعة ومتصلة بعضها ببعض مثل العلمنة والعلمانية والعلماني، فمن الضروري الانتباه ـ كما يقول برايان ويلسون ـ إلى أن مفهوم الأولى يدل على العملية، والثانية على التوقف، والثالثة على البنية، بمعنى أن العلمنة تشير إلى عمليّةٍ عينيّةٍ تصبح فيها الأشياء والأمور علمانيّة، وهي عمليّةٌ ترتبط بتقليص الأنشطة الدينية والمعتقدات وأساليب التفكير

(41)

الدينية وبالتالي زوالها، وتتلازم عادة مع سائر عمليات التحول في البُنى الاجتماعية أو تظهر كنتيجة غير إرادية أو غير واعية لتلك العمليات[1].

العلمانية إذاً، مفهومٌ كليٌّ منه تصدر المفاهيم الجزئيّة المتفرعة عنه. وهي كما يقول الباحث الانكليزي برايان ويلسون شيءٌ فوق الإيديولوجيا، لأنها تدعو إلى رؤيةٍ كونيةٍ محدّدةٍ، وهي في الآن عينه تعاضد عمليات العلمنة في الواقع الخارجي من خلال توظيفها وتكييفها في إطار خصوصيّة كل بيئة أو مجتمع. من هنا كانت العلمانية متعارضةً مع الدين دوماً، لأن كليهما يطالب بنوعٍ من الإيمان والالتزام والطاعة، ويتنازعان دوماً ومباشرةً للسيطرة على أرضٍ واحدةٍ. لا نقاش في أساس النزاع بين الدين والإيديولوجيا العلمانية، بيد أنّ ثمة نظرتين في إطار هذا النزاع: العلمانية المتطرفة والإلحادية التي ترفض كافة أشكال الاعتقاد بالأمور الماورائية والأعمال ذات الصلة بها، وتدعم المبادئ غير الدينية والمعارضة للدين باعتبارها ركائز الأخلاق الشخصية والنظام الاجتماعي في مختلف ميادين الحياة الإنسانية، أما العلمانية الاجتماعية وخصوصاً تلك التي تسود الميدان السياسي، فهي تختزل الدين إلى مؤسّسةٍ مختصّةٍ بالحياة الفردية للإنسان[2] .

في ضوء ذلك يبدو حسب البعض أن المراد من المجتمع

(42)

العلماني هو المجتمع الذي تكتسب فيه العلمنة حالة واقعية، والنموذج الكامل للمجتمع العلماني هو ذاك المجتمع الحديث القائم حالياً في العالم الغربي، والذي يمكن أن يساعدنا في معرفة خصائص المجتمع العلماني.

أما بصدد المصطلح في إشكالياته المعرفية وتنوع النظر إليه فقد شابه اضطرابٌ في الفهم. إذ لم يستوِ تعريف «العلمنة» أو «العلمانية» على خط واحد، محدّدٍ وواضح. وهذا المفهوم، هو كالديمقراطية والعقلانية، والتنوير والحداثة إلخ.. فضلاً عن مفاهيم مشابهة أخرى يبدو ضبطها وتحديدها أمراً متعذراً طالما بقيت في دائرة التجريد. أي بمعزل من تحيُّزها في الزمان وحقول التجربة. إذ إن المفهوم في إطاره النظري المجرد يبقى ماهية بلا هويّة. فقط عندما يتحيّز في مجال الاختبار والتجربة يغدو المفهوم قابلاً لإجراءات النقد أو الحكم عليه.

ثمة سببٌ آخر لاضطراب التعريف، عائد إلى صدوره من منطقة تداول تمازجت فيها الرؤية الإبستمولوجيّة كمجالٍ لـ «قوننة» المفاهيم، بالتجربة الإنسانية والسياسية التي أطلقت المفاهيم وتعاملت معها وفقاً لشروطها الزمانية والمكانية الخاصة.

في ما يتصل بالجذور اللغوية والاستعمالات التاريخية فإنّ العلمانية والعلمنة هما مفردتين متأتيتين من الجذر اللاتيني (Saeculum)، وهو ترجمةٌ للمفردة اليونانيّة «آيون» أو «آيوناس» بمعنى الأيام أو القرن أو الاهتمام بالحال. ومفردة العلمانية في

(43)

الكتاب المقدس هي ترجمة لـ «Aion» اليونانية، وقد استخدمها هومر بمعنى طاقة الحياة، والحياة، وطول الزمن. في البداية كان هذا المصطلح يعبّر عن طول عمر الإنسان، أو الجيل، ثم شاع عند أفلاطون ومعاصريه بمعنى العمر الخالد، والخلود، والأزلية، لمفردة (aion)، جذور هندو ـ أوروبية، وهي مشتقة من (ai-o) بمعنى مدة العمر أو قوة الحياة، وفي السنسكريتية نواجه مفردات: (ayn)، (ayuni)، (ayus)، (ayuh)، اللاتينية، وبما أن كلمة «يوم» استخدمت في العربية بمعنى اليوم الواحد، والنهار، والأيام، والدهر، والعصور، والعصر، والعهد، وطول الحياة، والعالم، يمكن القول أن «يوم» له بهذا المعنى نفسه جذور مشتركة مع المصطلح الهند ـ أوروبي.

وهكذا يمكن تفسير العلمنة باعتبارها التطابق مع القرن، والزمن، والأيام، وهذه الدنيا، أو بمعنى التكيّف مع العصر، و «هذا العالمي»، و «الأيّامي» و «الدنيوي»، وأخيراً بمعنى «العالمية» أو «العولمية»[1].

يذهب علماء الاجتماع إلى أن مفهوم العلمانية استخدم تاريخياً على الصعيد التطبيقي ضمن طرق وصُوَرٍ شتى. في هذا المجال يشير باحثون إلى أربع صُوَر على الشكل التالي:

الصورة الأولى: ترك المناصب الكنسية: في نهاية القرن الثالث أطلقت العلمنة على عملية ترك القس مناصبه وأدواره الكنسية،

(44)

وميله نحو الـ «Soeculom» (القرن، الزمن، الأيام، أو الدنيا)، هنا وكذلك في علم المصطلحات المسيحية يقابل «القرن» كلمة «القاعدة»، الحياة في «القرن» أو في «هذا العالم» تقع على الضد من الحياة في القواعد وحسب القواعد، وهي الحياة الخاصة برجال الدين (Clerc) ثمة نوعان من الحياة، ونوعان من الواجبات والتكاليف، ونوعان من الإنسان المسيحي، من جهة يوجد رجال الدين المبتعدون عن المشاغل الدنيوية والذين يقفون حياتهم كلها لشؤون الكنيسة والرب، ومن جهة ثانية توجد «مخلوقات الله» التي تعيش في «هذا العصر» وتشكل مجتمع المؤمنين، وكما كانت العملية تسمى العلمنة، كان رجال الدين الذين يتخلون عن مناصبهم الكنيسة يسمون رجال دين علمانيين.

الصورة الثانية: جعل أملاك الكنيسة دنيوية: بمعنى لاحق أطلقت العلمنة على عملية نقل ممتلكات الكنيسة ورجال الدين إلى السلطة والدولة، تميّز مفردتا «Sacred»، و«Secular»، على العموم الشؤون الماورائية عن شؤون هذا العالم، ومع أن بعضاً يعتبرون سلب ملكية الكنيسة الجوهر التاريخي والمعنى الأصلي للعلمنة، بيد أن العلمنة في الحقيقة تفتقد جوهراً تاريخياً ومضموناً اقتصادياً واحداً، وتظهر في الأزمنة والأمكنة المختلفة بأزياء وأشكال متنوعة.

الصورة الثالثة: تحرر الإنسان من الدين: العلمنة في الثقافة العقلانية (التنويرية) والحركات السياسية والاجتماعية المناهضة لرجال الدين، تعبّر عن عملية يزاح فيها الدين عن المجالات العامة كالنظام السياسي والاجتماعي والثقافي ليدفع إلى المجال الشخصي للإنسان، ويدير الإنسان مجالاته العامة اعتماداً على عقله بصورةٍ مستقلةٍ عن الدين.

(45)

الصورة الرابعة: إعادة التفكير في أسس اللاهوت المسيحي: أدت العلمنة في اللاهوت المسيحي إلى إعادة التفكير والتغيير في الأسس اللاهوتية الخاصة بالعلاقة بين الدين والدنيا. لم تكن المسيحية الأولى دين الدنيا، ولذلك لم تستطع كدين «قدسي» وشامل الاهتمام بالدنيا بنحوٍ مستقلٍّ وفي إطار تعاطيها مع الآخرة، وكان من تبعات الافتقار للمساحة الدنيوية وعدم الموازنة الإيجابية بين الدنيا والآخرة ظهور «التاريخ القدسي» في الحضارة المسيحية. لكن التكوين العلماني في المسيحية كان بحاجةٍ إلى تحولٍ في الركائز النظرية للاهوت المسيحي، ذلك أن هذا اللاهوت لا يعترف بمكان خارج المساحة «القدسية»، وهو ما دفع الكنيسة المسيحية في القرون المتأخرة إلى أن تقوم بمراجعةٍ فعليةٍ في أسس فهمها وتعيد بذلك قراءة العلاقة بين الدين والدنيا، وهو ما أطلق عليه اسم العلمنة. على هذا الأساس ووفق تصورٍ خاطئٍ للعلمانيّة، يعتبر بعض المفكرين المسلمين المعاصرين أنّ التحول إلى النزعة الدنيوية في الإسلام سالباً بانتفاء الموضوع، لأن الإسلام بسبب اهتمامه بالدنيا علماني في ذاته[1].

2-2- غموض المفهوم وتأويلاته

سبق وأشرنا إلى أن العلمانية لم تتحول إلى مفهومٍ يركن إلى قاعدةٍ معرفيّةٍ موحّدةٍ ومتّفقٍ عليها في الفكر السياسي الحديث. وهذا يعود إلى كون المصطلح من أكثر المصطلحات غموضاً وإبهاماً بين المفاهيم التي رافقت أزمنة الحداثة في أوروبا والغرب. كان المؤرخ والمفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري أحد

(46)

أبرز المفكرين العرب المتأخرين الذين تصدوا لهذه المشكلة المعرفية. حول هذا المشكِل يضع المسيري مجموعة من الأسباب توضح مصدر ضبابية المصطلح[1]:

الأول: إن مصطلح «علمانية» هو مصطلحٌ منقولٌ من المعجم الأجنبي، ومن التشكيل الحضاري الغربي. لذلك فإن دلالته الحقيقية تتحدد بالإشارة إلى هذا المعجم وكذلك إلى هذا التشكيل الحضاري بحيث يكتسب مضمونه الحقيقي منهما.

الثاني: تُوجَد داخل التشكيل الحضاري الغربي عدة تشكيلاتٍ فرعيةٍ: التشكيل الفرنسي (الكاثوليكي) ـ التشكيل الحضاري الإنجليزي ـ التشكيل الألماني (البروتستانتي) والتشكيل الروسي (الأرثوذكسي)، وقد عرَّف كلّ تشكيل هذا المصطلح بطريقة مختلفة إلى حدٍّ ما من خلال تجربته الخاصة.

الثالث: خاضت هذه التشكيلات الحضارية تحولات مختلفة، وتزايدت فيها معدلات العلمنة واختلفت المواقف من العلمانية باختلاف المرحلة التاريخية وباختلاف الجماعة التي تقوم بعملية التعريف.

الرابع: مع انتقال المصطلح إلى العالم العربي الإسلامي، فإن المجال الدلالي المضطرب للكلمة ازداد اضطراباً واختلالاً للأسباب التالية:

أ)- حينما ينتقل مصطلحٌ مثل «علمانية» من معجمٍ حضاريٍّ إلى معجمٍ حضاريٍّ آخر وتتمّ «ترجمة» المصطلح، فإنّه يبقى يحمل آثاراً

(47)

قويّةً من سياقه الحضاري السابق الذي يظلّ مرجعيّةً صامتةً له.

ب)- تجربة العرب والمسلمين مع متتالية العلمنة مختلفة؛ فعمليات العلمنة لم تولد في واقعهم التاريخي والاجتماعي «رغم وجود عناصر علمنة مختلفة فيه» وإنما أتى بها الاستعمار الغربي.

وهكذا أُختُزلت مناقشة المصطلح في العالم العربي إلى مجرد طريقة ترجمته، ولم تَعُد القضية وصف الظاهرة العلمانية وتحليلها وتسميتها حسبما نراها نحن «من خلال تجربتنا وسعادتنا أو شقائنا بها» بل انصب الجهد الفكري والبحثي على مناقشة أحسن الترجمات لكلمة «علمانية» وأقربها إلى المعجم الغربي وأكثرها دقة. وهكذا سقطنا في شرك  الموضوعية المتلقية[1].

وهنا يشير المسيري إلى أنّ المعجم العربي يزخر بترجمات مختلفة لكلمة «سكيولار» و«لائيك» مثال ذلك:

1 ـ  «العِلْمانية» (بكسر العين) نسبة إلى «العِلْم».

2 ـ  «العَلْمانية» (بفتح العين) نسبة إلى «العَلْم» بمعنى «العالم».

3 ـ  «الدنيوية» أي الإيمان بأنها هي «الحياة الدنيا» ولا يوجد سواها.

4 ـ  «الزمنية» بمعنى أنّ كلّ الظواهر مرتبطةٌ بالزمان وبالدنيا ولا علاقة لها بأيّ ماورائيات.

5 ـ  وتُستخدَم أحياناً كلمة «لائيك» (لائيكي ولائيكية)، خصوصا في المغرب ولبنان من دون تغيير[2].

(48)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

منظِّرو ما بعد العلمانيّة

 

(49)

* يعرض هذا الفصل إلى أفكار واجتهادات أربعةٍ من كبار منّظري ما بعد العلمانية وهم: الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس، الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، عالم الأنثروبولوجيا الإسباني خوسيه كازانوفا، والسوسيولوجي الأميركي بيتر بيرغر. ويمكن القول أن مجمل السجالات التي تشهدها المؤتمرات وحلقات التفكير والمحاضرات التخصصية في معاهد وجامعات ومراكز البحث العلمي في الغرب، تتمحور في الغالب حول أفكار هؤلاء.

ولسوف يتبين لنا في ما يأتي ان الشخصيات المذكورة، وإن تباينت في طرق مقارباتها للنظرية الما بعد علمانية، إلا انها تتقاطع عند همّ واحد، وهو ضرورة إحداث منعطف معرفي في وعي الانتلجنسيا الأوروبية حيال الدين. وقد بدت تنظيرات هؤلاء أدنى إلى موقف مدفوع بمسؤولية الاحتجاج على تهافت البناء العلماني، منه إلى مجرد تنظير محايد لمآلات الحداثة الفائضة. وبهذا المعنى يبدو ان التنظير للمابعد العلماني ينحصر في الأفق الحضاري والتاريخي للحضارة الغربية المعاصرة. وهو ما يدل على الفجوة الانطولوجية التي أصابت الفكر الفلسفي الغربي، والتي سبق لمارتن هايدغر ان نبّه إليها لما تحدث عما أسماه بـ»نسيان الكينونة». أي الاعراض عن السؤال التأسيسي للوجود بما يترتب على هذه الإعراض من نشوء فلسفة بتراء لا تقيم أي اعتبار لما لا يقع تحت مرمى الحواس ومعايير العقل العملي.

(50)

هابرماس ونظرية المجتمع ما بعد العلماني

بدا الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس[*]في متاخمته لمصطلح ما بعد العلمانية مفكراً سياسياً أنثربولوجياً أكثر مما كان أنطولوجياً. أي إنه نحا نحو التجربة الواقعية للمجتمعات الأوروبية الحديثة أكثر ممّا راهن على الأحكام النظرية. لذلك سوف نجده ينأى بنفسه عن التأصيل النظري المجرد، ليدخل في مقارباتٍ سوسيو-تاريخيّة من أجل التوصل إلى تنظيرٍ يكون حاصل تجارب واقعيّةٍ. وقد دلت تنظيراته الأولية حول مقترح ما بعد العلمانية على معيارية المعاينة لأوضاع عدد من المجتمعات في أوروبا وأميركا الشمالية. الفكرة التي أوردها هابرماس في محاضرةٍ له حول المجتمع ما بعد العلماني[2] يمكن اختصارها بسؤالٍ طرحه على الشكل التالي: لماذا لا يمكننا بعدُ أن نسمي المجتمعات

(51)

التي تحولت إلى العلمانية «ما بعد علمانية» ؟ ثم يجيب: في هذه المجتمعات لا يزال الدين يحتل حيزاً كبيراً من التأثير على الرأي العام، بينما بدأت حالة اليقين العلمانية القائلة بأن الدين سيختفي في العالم مع تسارع وتيرة الحداثة بفقدان «يقينيتها». والأهم من كل شيء أن ثلاث ظواهر تلاقت لتصنع انطباعاً عالميّاً بعودة ظهور الدين في الغرب وهي: توسع العمل التبشيري، والتحول إلى الراديكالية الأصولية، والاستغلال السياسي للعنف المتأصل في كثير من أديان العالم.

حسب هابرماس يفترض أن يكون المجتمع «ما بعد العلماني» في وقت ما ضمن دولة «علمانية». ولذا فإن هذا المصطلح المثير للجدل لا ينطبق إلا على بعض المجتمعات الأوروبية الثرية، أو على بلدان مثل كندا وأوستراليا ونيوزيلندا، حيث استمر اختفاء الروابط الدينية بين الناس بشكل دراماتيكي ولا سيما في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد شهدت هذه المناطق وعياً متزايداً بأن المواطنين يعيشون في مجتمعات علمانية. لكن من حيث المؤشرات العلم ـ إجتماعيّة فإن السلوكيات والقناعات الدينية لدى غالبية السكان المحليين لم تتغير، إلى درجة يمكننا معها القول أن هذه المجتمعات أصبحت مجتمعات «ما بعد علمانية». إن الاتجاه نحو أشكال جديدة من التدين  أكثر روحانية، وغير مرتبطةٍ بالمؤسسات لم يعوّض الخسائر الملموسة التي عانت منها المجموعات الدينية الكبرى»[1].

(52)

التسويغ الذي يقدمه هابرماس لنظرية المجتمع ما بعد العلماني. يتخذ سياقاً مركباً من التحليل والنقد في الآن عينه.

إذ على الرغم مما قيل ذكره من قبل، يلاحظ أنّ التغيرات العالمية والنزاعات الظاهرة للعيان ولا سيما تلك المتصلة بقضايا دينية تثير الشكوك حول ما إذا كانت أهمية الدين قد اضمحلت بالفعل. ويبيِّن في هذا المجال أنّه لم يعد هناك إلا أقليّة يتناقص عددها باستمرارٍ من علماء الاجتماع تدعم الفرضية القائلة بأن هناك رابطةً وثيقةً بين تحديث المجتمع وميل سكانه إلى العلمانية[1]. ويشير هابرماس إلى أن هذه الفرضية تأسست على ثلاثة اعتبارات تبدو مقبولة للعقل للوهلة الأولى. وهذه الاعتبارات هي التالية:

ـ الاعتبار الأول: أن التقدم في العلم والتكنولوجيا لا بد وأن يروِّج لفهم إنساني ـ محوري (anthropocentric) «للعالم المنزوع السحر» (disenchanted)؛ ذلك لأن مجموع الأحداث والأحوال التجريبية يمكن أن تجد تفسيراً عابراً دون عناء. والعقل «المتنور علميّاً» لا يمكن أن يقبل بسهولةٍ نظرةً كهنوتيةً ـ محوريّة (Theocentric) وميتافيزيقية للعالم.

ـ الاعتبار الثاني: انتقاد الكنيسة وغيرها من المؤسسات الدينية سيطرتها على القانون والسياسة والرعاية العامة والتربية والتعليم والعلوم، ولذلك حددت نفسها في دورها الصحيح المتعلق بالإشراف على وسائل الخلاص الأخروي.

(53)

ـ الاعتبار الثالث والأخير هو أن التقدم من مجتمعٍ زراعيٍّ إلى صناعي إلى ما بعد صناعي يؤدي إلى درجةٍ أعلى من الرعاية والأمن الاجتماعيين ما يفضي إلى انخفاض في الحاجة الشخصية إلى ممارسة تَعِدُ بمواجهة الحوادث غير المسيطر عليها من خلال الإيمان بقوة «أعلى» أو كونيّة.

هذه إذاً الأسباب الرئيسيّة التي يطرحها هابرماس، والتي تكمن وراء الحجة القائلة بتوجه المجتمعات نحو العلمنة، بالنسبة لخبراء علم الاجتماع ظل هذا موضوعاً مثيراً للجدل لأكثر من عقدين من الزمن.[1] ومؤخراً، وبعد الانتقادات - التي لا أساس لها- حول وجهة النظر الضيقة المتمركزة على أوروبا، بدأ الحديث يدور حول «نهاية نظرية العلمنة»[2] فالولايات المتحدة مع حيوية مجتمعاتها الدينية الراسخة، والنسبة التي لم تكد تتغير من مواطنيها الملتزمين والناشطين دينياً تظل هي رأس حربة الحداثة. وقد ظلت النظرة إليها ولفترة طويلة على أنها هي الاستثناء الكبير للاتجاه العلماني، ولكنها الآن وبامتداد وجهة النظر العالمية فيها إلى ثقافات وأديان عالمية أخرى فقد أصبحت الولايات المتحدة الآن تمثل الحالة المعيارية الطبيعيّة[3].

من وجهة النظر الرجعية هذه فإن التطور الأوروبي الذي كان يفترض لـ»عقلانيته الغربية» أن تشكل نموذجاً لباقي العالم هو

(54)

الاستثناء لا القاعدة الطبيعية ـ أي إنه يسير في دربٍ منحرفٍ عن الطبيعي، إنّنا نحن من يلاحق «الطريق المخالف» وليس هم[1]. والأهم من كلّ ذلك فقد تلاقت – كما يبيِّن هابرماس - ثلاث ظواهر متداخلةٍ لتصنع انطباعاً بوجود «طفرة دينية عالمية جديدة» وهي:

 أ) تمدد العمل التبشيري.

ب) التحول إلى الراديكالية الأصولية.

 ج) تحويل إمكانية المَيل إلى كوامن العنف المتأصلة في الكثير من أديان العالم إلى أداةٍ سياسيةٍ.

(أ) العلامة الأولى لحيويّة هذا العمل تكمن في حقيقة أن المجموعات المتطرفة ـ أو على الأقل المحافظة ـ  ضمن المؤسسات الدينية الموجودة، هي التي تتقدم في كلّ مكان. وهذا ينطبق على أديانٍ مثل الهندوسيّة والبوذيّة كما ينطبق على الأديان التوحيدية. المدهش حقّاً هو امتداد هذه الديانات المؤسسة إلى أفريقيا وبلاد جنوب شرق آسيا. من الأشياء التي تعتمد عليها نشاطات نشر الديانات على ما يبدو هو مرونة الأشكال المماثلة من المنظمات، فالكنيسة الرومانية الكاثوليكية تبدو أكثر قدرةً على التكيف مع اتجاهات العولمة من الكنائس البروتستانتية المنظمة على مستوى وطني فقط، والتي هي الخاسر الأكبر العابرة للحدود والثقافات في هذا الاتجاه. أما أكثر أشكال الامتداد الديني حركية فهو الشبكات

(55)

اللامركزية التي تدعو إلى الإسلام (وأكثر نشاطاتها في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى) والإنجيليون (وخاصة في أميركا اللاتينية)، تتميز هذه الشبكات بشكل من التدين يثير النشوة يلهمه قادة أصحاب كاريزما عالية.

 (ب) بالنسبة للأصوليّة، يمكن أن نذكر أسرع الحركات الدينية نمواً، كالحركة الخمسينية (البنتيكوستال) والإسلاميين المتطرفين. ما تفعله هذه الحركات هي إما أن تحارب العالم الحديث أو تنسحب منه وتعتزله جامعة في أشكال تعبدها بين الروحانية من ناحية وتصورات أخلاقية متزمتة، واتباع حرفي للنصوص المقدسة من ناحية أخرى. على العكس من ذلك نجد حركات «العصر الجديد» التي انتشرت منذ سبعينيات القرن الماضي لتظهر نزعةً تلفيقيّةً على طريقة «كاليفورنيا». تشترك هذه الحركات مع الإنجيليين في كونها غير مرتبطة بمؤسسة دينية. في اليابان وحدها ثمة ما يقارب الأربعمائة طائفة تجمع عناصر من البوذية مع النزعات الدينية الشعبية، مع عقائد شبه علميّةٍ وباطنيّةٍ. في جمهورية الصين الشعبية كشف القمع السياسي لطائفة فالون غونغ العدد الكبير لأتباع «الديانات الجديدة» التي يعتقد أنه يصل إلى حوالي 70 مليون نسمة[1].

(ج) وأخيراً فإنّ ما يمارسه أشخاصٌ مسلمون من أعمالٍ إرهابيّةٍ هي مجرد أدلةٍ دراماتيكيةٍ على الاستغلال السياسي لإمكانيّة اللجوء إلى العنف الكامنة في الدين. فكثيراً ما تندلع أكثر الصراعات نارية ـ والتي كثيراً ما تكون «دنسة» في خلفيتها الحقيقية ـ عندما

(56)

تعاد صياغتها بحيثياتٍ دينيةٍ. ينطبق هذا على «إزالة العلمانية» من الصراع في الشرق الأوسط، وعلى النزعة الوطنية الهندوسية وعلى الصراع الدائم بين الهند وباكستان[1] وعلى احتشاد اليمين الديني في الولايات المتحدة قبل غزو العراق وخلاله.

يمكننا اليوم وصف الوعي العام في أوروبا من خلال حيثيات «المجتمع ما بعد العلماني» إلى درجة أنّه في الوقت الحاضر لا يزال عليه «أن يكيف نفسه مع الوجود المستمر لمجتمعاتٍ دينيةٍ في بيئةٍ تتجه إلى العلمانية بشكل متزايد»[2]. لا تتعلق القراءة الجديدة لفرضيّة العلمنة بجوهرها بقدر ما تتعلق بتنبؤاتها عن الدور المستقبلي لـ «الدين». إن وصف المجتمعات الحديثة باعتبارها مجتمعات ما بعد دينيّةٍ، يرجع إلى تغير في الإدراك أنسبه أنا إلى ثلاث ظواهر:

ـ الأولى: أن الإدراك الواسع للصراعات العالمية التي كثيراً ما تقدم وكأنها ترتكز على نزاعاتٍ دينيةٍ، يغير الوعي العام. إن غالبية المواطنين الأوروبيين ليست بحاجة إلى وجود حركاتٍ أصوليةٍ عدوانيةٍ أو الخوف من العمليات الإرهابية المعرفة بحيثياتٍ دينيةٍ حتى تدرك نسبيتهم ضمن الأفق العالمي. إن هذا ينسف الاعتقاد العلماني بالاختفاء القريب للدين ويحرم الفهم العلماني للعالم من أي نشوةٍ بالانتصار.

(57)

ـ الثانية: أن الدين لا ينال المزيد من التأثير على المستوى العالمي فحسب، بل وفي المحيط الوطني العام أيضاً. يشير هابرماس إلى الدور المتزايد الذي تلعبه الكنائس والمؤسسات الدينية كـ»مجتمعات للتفسير» في الساحة العامة للمجتمعات العلمانية[1].

الثالثة: هي أنّ العامل المحفّز لتغيير الوعي بين السكان هو هجرة «العمال الضيوف» واللاجئين خصوصاً القادمين من بلادٍ لها خلفيّةٌ ثقافيّةٌ تقليديّةٌ. منذ القرن السادس عشر كان على أوروبا أن تمرّ عبر انشقاقاتٍ دينيّةٍ عميقةٍ في ثقافتها ومجتمعاتها وعلى أثر حركات الهجرة الأخيرة هذه ارتبط التنافر بين الأديان المختلفة مع تحديات التعدديّة في طرق الحياة التي تواجهها المجتمعات المهاجرة. يتغذى هذا الأمر بشكلٍ أكبر من تعدّد الطوائف، ففي مجتمعاتٍ كمجتمعاتنا التي لا تزال عالقةً في عملية التحول المؤلمة إلى مجتمعات ما بعد استعمارية وتحتوي على عددٍ كبيرٍ من المهاجرين، تصبح مسألة التعايش بين المجتمعات الدينية المختلفة أكثر صعوبةً بسبب مشكلة كيفية الوصول إلى ضمان تكامل الثقافات المهاجرة اجتماعيّاً. وتحت صغط أسواق العمالة العالميّة على التكامل الاجتماعي أن ينجح حتى تحت الشروط غير الكريمة للامساواة الاجتماعية.  ولكن هذه قصة أخرى.

(58)

العيش في عصر ما بعد علماني

ليس من شك في أن أطروحة «نحن نعيش في مجتمع ما بعد علماني» التي تقدم بها هابرماس قد تسببت في تحفيز نقاشٍ جديٍّ حول فَرَضية نهاية العلمنة وبدء فترةٍ جديدةٍ من الصحوة الدينية. لقد قيل أن أوروبا قد أصبحت أكثر علمانيةً عبر السنين، كما قيل أن العلمانية وصلت إلى نهايتها وأن مرحلة ما بعد العلمانية قد بدأت، فبحسب رأي يورغن هابرماس يلعب تأثير الدين دوراً أكبر في حياة الناس، كما أنه قد عاد إلى صلب المجتمع الحديث.

فإذاً، ما بعد العلمنة مفهومٌ يقوم على فكرةٍ مركزيةٍ مفادها أنّ العلمانية قد تكون قد وصلت إلى نهايتها، وكما يجادل هابرماس فإن مصطلح «المجتمع الما بعد العلماني»: «لا يشير فقط إلى حقيقة أن الدين يستمر في توكيد وجوده في بيئاتٍ تزداد في علمانيتها بل أيضاً إلى أن المجتمع في الوقت الحاضر لا يزال يحتوي على نسبٍ كبيرةٍ من المجموعات الدينية ضمنه»[1].

فالما بعد العلماني كما يبين هابرماس يشير إلى تغيير في الوعي يرجع إلى ثلاثة ظواهر:

إدراك أن النزاع الديني له أثرٌ على الصراعات الدولية.

اعتقاد أن المؤسسات الدينية تلعب بشكلٍ متزايدٍ دور «مجتمعات تفسيرية» في الساحة العامة للمجتمعات العلمانية.

(59)

واقع هجرة «العمال الزوار» واللاجئين خاصة أولئك القادمين من بلاد لها خلفيات ثقافية تقليدية[1].

ولذلك فهابرماس يدعم فكرة أن الدول الإسلامية وحتى الدول الأوروبية الشرقية لا يمكن أن تكون تواجه فترة ما بعد علمانية، أو بتعبيرٍ أدقّ يستثني هابرماس الدول الإسلاميّة من ملاحظاته نظراً لطبيعة الإسلام كدينٍ لا يتيح المجال للتحول السهل إلى الدولة العلمانية رغم تزايد أصوات المثقفين الليبراليين الذين يدعون إلى تجديد الشريعة بحيث يسهل الفصل بين الدين والدولة. بالإضافة إلى ذلك فهو يستثني الدول الأوروبية الشرقية من ملاحظاته، ويقول أنه في المجتمع الما بعد العلماني لا بد من وجود بعض الشروط مثل دعوة المجتمعات الدينية إلى المشاركة في العملية الديموقراطية على أساس أن هذه المجتمعات عليها أن تحترم القيم الديموقراطية، وأن تعي حقيقة أنها تعيش في مجتمع عام تعددي. وهكذا فإن السمة الأساسية للعصر «الما بعد العلماني الهابرماسي» هو التعددية الثقافية، التي تتيح المجال أمام تعايش مختلف الأديان والتقاليد والأفكار الفلسفية في مرحلةٍ زمنيةٍ واحدةٍ، وفي أغلب الأحيان هذه الفترة الزمنية تكون في إطار مجتمعٍ غربيٍّ. يذكر عالم الاجتماع الإيطالي ومحلل فكر هابرماس ماسيمو روزاتي أن «مجتمعاً ما بعد

(60)

علماني حقيقي هو مجتمع متعدد الأديان، حيث توضع التقاليد الأصيلة في البلاد مع المجتمعات الدينية المهاجرة إليها. بكلمات أخرى فإن التعددية الدينية جزءٌ من الظروف الاجتماعية للمجتمع الما بعد العلماني»[1]. في الواقع يحاول هابرماس أن يفتح حواراً بين الدين والعلمانية محاولاً حل النزاع بين التعددية الراديكالية والعلمانية الراديكالية، مقترحاً إقامة حوارٍ يتعلق باشتمال الأقليات الأجنبية في المجتمع المدني، وبذلك تشجيع أعضاء المجتمع على المشاركة الفعالة في الحياة السياسية»[2].

إحدى أوجه سوء فهم الفكر الهابرماسي هو حقيقة أنه حين يستخدم مصطلحات الما بعد العلمانية لا يشير إلى المجتمع نفسه على أنه ما بعد علماني، ولكنه يشير إلى التغيرات المقابلة في الوعي فيه[3].. ولهذا فهو يشير إلى ثلاث ظواهر تتسبب في تغيّراتٍ في الوعي المتعلق بما أسماه «الما بعد العلماني». الأولى: الطريقة التي تسم فيها وسائل الإعلام العالمية المواضيع الدولية بسمةٍ دينيةٍ في ما يتعلق في توليد الصراعات والمصالحات. الثانية: الوعي

(61)

المتزايد للكيفية التي تشكل وتوجه المعتقدات الدينية الرأي العام من خلال تدخلاتها في المحيط العام. والثالثة: هي الطريقة التي لم تقم بها «المجتمعات الأوروبية بنقلتها المؤلمة إلى مجتمعاتٍ ما بعد استعماريّةٍ تحوي عدداً كبيراً من المهاجرين»[1].

يشدّد إدواردو ميندييتا على كيف تننج المجتمعات الحديثة أشكالاً متعدّدةً أكثر وأكثر في تجربة الدين من خلال التحول التدريجي إلى العلمانية، ولذلك فإنّ العصر العلماني بالضرورة «ديني» بشكلٍ عميقٍ والحماسة الدينية مع حرية العقيدة والقناعات الشخصية هي العلامة الفارقة لهذه العلمانية. يحاول الكثير من الدارسين تحليل أفكار هابرماس عن العلمنة والدين لفهم مصطلح «الما بعد العلماني». يشير مندييتا إلى أن هابرماس يواجه ويتحدى صحة خمسة أوجه موهومة عن العلمنة: الأول هو أن امتداد الدين كآليّةٍ إجتماعيّةٍ لمواجهة عدم الأمان قد تناقص. الثاني أنّ التفاضل الوظيفي للمجتمعات الفرعيّة قد أبعد الدين إلى محيطاتٍ محصورةٍ في التعامل الاجتماعي. الثالث أن التقدم والتطور العلمي والتقني قد أدّيا إلى «خيبة أمل» متزايدةٍ لا عودة عنها بالعالم، جاعلةً التوجه إلى الدين أقل إلحاحاً أو قابلاً للتصديق. الرابع أن التفاضلات الهيكلية في الحياة-العالم مع التفاضل الوظيفي في النظام الاجتماعي قد أدّيا إلى تحرير الفرد من الأنماط السلوكيّة التحريميّة. الخامس أنّ الحقيقة الظاهرة للتعدديّة الدينيّة جعلت العقائد الدينية الشاملة أقل

(62)

قبولاً في الإطار الاجتماعي الأعم والأكبر. حتى هذه النقطة يركز ميندييتا على حقيقة أن «المجتمع قد مرّ بعملياتٍ من العلمنة وقد أصبح الدين نفسه متحولاً نحو الحداثة لجعله أكثر معاصرةً لـ«البيئة العلمانية» المتنامية. بالنتيجة لم يكن المجتمع هو وحده الذي تم تحديثه ولكن الدين أيضاً. وكما أنه لدينا عقلٌ حداثيٌّ ما بعد ميتافيزيقي فلدينا دينٌ ما بعد علماني للمجتمع العالمي[1].

يجادل الكثير حول إذا ما كان مصطلح «ما بعد العلماني» يماثل التوجه الروحي المسمى «العصر الجديد»، فمن المقبول بشكل عام أن استخدام عبارة «ما بعد» تشير إلى وصف وضعٍ جديدٍ أو إشكاليةٍ جديدةٍ. كما يبرز سؤالٌ آخر وهو: أي العالمين تغير: العالم الحقيقي أم العالم الأكاديمي/  الثقافي؟ في عملٍ نُشر مؤخراً هو «السؤال عن الما بعد العلماني: الدين في المجتمع المعاصر» (Post secular in Question: Religion in Contemporary Society) من الواضح أن الما بعد العلماني يطرح خطين من الأسئلة: على المستوى الأول حول تحديد وضع التدين في العالم، وعلى المستوى الثاني فهم الطرق الجديدة التي ينتبه فيها ولا ينتبه فيها علماء الاجتماع والفلاسفة والمؤرخين والدارسين من مختلف فروع العلوم الإنسانية إلى الدين[2].

(63)

إذا دخلنا في جانبٍ تحليليٍّ بشكلٍ أكبر، فمن ناحيةٍ يفهم علماء الاجتماع «ما بعد العلمانية» على أنّها ظاهرةٌ في عودة الدين إلى المجتمعات العلمانية. أثار إعلان خوزيه كازانوفا سنة 1994 عن أن «الدين عاد إلى الحياة العامة» أسئلة عن المجتمعات العلمانية الغربية وأكد قوة الدين في السياسة[1]. تساءل كازانوفا وبيتر بيرغر عما إذا كان التفاضل المؤسساتي سيؤدي بالضرورة إلى تحويل الدين إلى مسألةٍ خاصةٍ. أما ماكس فيبر وهابرماس وستيف بروس من ناحيةٍ أخرى فيتساءلون عن دور الدين في المجتمعات الحديثة داعمين وجهة النظر القائلة أنه بسبب التطور في التفاضل في المجتمعات الحديثة فلا يمكن للدين أن يقدم الشرعية لكامل المجمتع.

بالإضافة إلى ذلك فعلماء السياسة يميزون ضرورة إعادة تقييم حاكميّة الدين في نظريّة الما بعد العلمانية وتعديلها إلى متطلبات مجتمع متعدّد دينياً. كثيراً ما يفهم الفلاسفة السياسيون من أمثال يورغن هابرماس «ما بعد الحداثة» على أنها التحدي المعياري لتعريف مكان وجهة النظر الدينية في المحيط الديموقراطي العام، ولتشكيل أخلاقياتٍ سياسيةٍ صالحةٍ لكلّ المواطنين بغض النظر عن انتمائهم لعقائد مختلفة أو كونهم متدينين أو غير متدينين. فما بعد العلمانية لهم هو استجابة للعلمانية الأيديولوجية. أما علماء اللاهوت فينظرون إلى ما بعد العلمانية على أنه وضعٌ خاصٌّ تحتاج

(64)

الكنيسة معه إلى تعريف مكانها ودورها بالعلاقة مع الدولة ومجتمع مدني لم تعد المتطلبات العلمانية وحدها تحدّده. وأخيراً يضع المؤرخون ما بعد العلمانية في السياق التاريخي الأعم للحداثة والتاريخ الثقافي ويطالبون بعملياتٍ وظروفٍ تاريخيةٍ تحدّد العلمنة.

تشارلز تايلور ممهِّداً لـ"ما بعد علمانية"

بقدر ما ينظر إلى الفيلسوف الكندي المعاصر «تشارلز تايلور»[*] باعتباره أحد أبرز المشتغلين في الفلسفة السياسية والأخلاقية، فهو يُعتبر أحد أبرز منظّري ما بعد العلمانية. وقد مهّد لهذه الفكرة من خلال تنظيراته النقدية المعمّقة للعلمانية، ولا سيما في كتابيه «العلمانية وحرية الضمير» و«العصر العلماني». قد أسهم بصورةٍ أساسيّةٍ في التمهيد للنقاشات المعمّقة حول فكرة ما بعد العلمانية. وإذا كان لنا أن نتبيّن المفاصل الرئيسة لنظرياته في هذا الصدد، فلا بد من التوقف لدى أبرزها:

تعبرّ فكرة العلمانية لدى تايلور عن حالةٍ خاصةٍ للدين على نحو ما يوحي بذلك تاريخ انبثاقها في الغرب، ويشير تايلور في هذا الصدد إلى نوعين من السياقات التأسيسية الهامة لهذا النوع من النظام؛ ويتعلق الأمر بالنموذجين الأميركي والفرنسي. بالنسبة

(65)

للنموذج الأميركي، نجد مجموعةً كاملةً من الرؤى الشاملة أو الأسباب العميقة التي كانت في الأصل عبارة عن متغيراتٍ في الحالة الأصلية للمسيحية (البروتستانتية)، والتي تعتمد في الغالب على نفر من الديّانيين (Deists). وفي تاريخ لاحق سيتسع وعاء وجهات النظر ليمتد إلى أبعد من المسيحية وأبعد من الدين مع أن المواقف القائمة في الحالة الأصلية تستوجب من الدولة أن تكون في حياد تام عن كل الأديان. ومن هنا نجد أن التعديل الدستوري الأول الذي عرفته أميركا ينص على ما يلي: لا يجوز للكونغرس أن يمرّر أي قانونٍ يقضي بتأسيس الدين أو يحدّ من حرّية ممارسته.

أما بالنسبة لحالة فرنسا، فقد انبثقت العلمانية في سياق النضال المرير ضد الكنيسة النافذة جداً. لقد كان النزوع يحذو الدولة نفسها بشكلٍ قويٍّ لكي تقف بشكلٍ راسخٍ على أساسٍ أخلاقيٍّ مستقلٍّ تمام الاستقلال عن الدين. لقد بيَّن مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet) كيف وضع شارل رِنُوفيي (Charles Renouvier) الأسس المستقبلية التي تعين راديكاليي الجمهورية الثالثة على معركتهم ضد الكنيسة. يتوجب على الدولة أن تضطلع بمهمة «أخلاقية و تعليمية»، كما عليها أن «تتولى صون الأنفس مثلها في ذلك مثل ما تقوم به كل كنيسة أو جماعة، ولكن على نطاق كوني»، إنمّا الأخلاق هي المعيار الرئيسي. ولكي لا تظل الدولة ترزح تحت نير الكنيسة، يتوجب أن يكون للدولة استقلالٌ أخلاقيٌّ عن الدين، وتتمتع بالتفوق الأخلاقي بالمقارنة مع كلّ الأديان، وليس أساس هذه الحرية شيئا أخر غير الحرية. ومن أجل أن تُرسّخ وجودها بمعزلٍ عن الدين، فلا يجب

(66)

أن تتوقف الأخلاقية التي تنشدها الدولة على مجرد أداة منفعة أو إحساس، بقدر ما هي في حاجة إلى «ثيولوجية عقلانية»، مثل التي نظّر لها كانط. لقد كان لفضل حكمة «جول فيري» (Jules Ferry)، ولاحقاً «أرستيد بريان» (Aristide Briand) و«جان جوريس» (Jean Jaurès) أثرٌ لا ينكر على إنقاذ فرنسا في زمن إعلان الفصل (1905) من مثل هذا النظام المختّل، مع ذلك ظل الاعتقاد راسخا آنذاك بأن مفهوم العلمانية يرتبط أيّما ارتباطٍ بمراقبة الدين وتدبيره. ومع ذلك، فإذا أجلنا نظرنا بعيدا عن هذه السياقات الناشئة، وتمعنّا في أصناف المجتمعات التي نعيش في كنفها في الغرب توّا، لوجدنا أول خاصية تربك أفهامنا تتجلى في الثراء الواسع في وجهات النظر بشكل لم يعد يقتصر وفقط على الرؤى الدينية، وإنما يتعدّى الأمر ليشمل أيضا تلك التي ليست بمتديّنة، دون الحديث عن تلك التي تنضوي تحت هذه القسمة. مع أن هذه الأسباب الثلاثة تتطلب منا أن نفحصها جملة وتفصيلا[1].

نظرية الدولة المحايدة

انصب اهتمام الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور في التنظير للمنفسح التدبيري في نظرية ما بعد العلمانية. ففي اعتقاده -على ما يتبين من مناقشاته في هذا الصدد– أن أيّ تغيّرٍ جوهريٍّ في بنية القوانين الصارمة للدولة العلمانية حيال الدين، لا يتم إلا بصيغة ما يسميه بالدولة المحايدة التي ترعى الدين والعلمنة على نحو التكافؤ

(67)

والمساواة.

بعض أهل الاختصاص الذين تابعوا أعمال الفيلسوف الكندي اعتبروا كتابه المشترك مع عضو الهيئة الخاصة بدراسة التنوع الثقافي والعرقي في مقاطعة كيبك بكندا جوسلين ماكلور، من أبرز الأعمال الجديدة التي صدرت في ميدان الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع. أما التنظير المحوري في الكتاب الذي صدر تحت عنوان: «العلمانية وحرية الضمير»[1] فيتركز على حل المشكلة المستعصية بين تنظيم مؤسسات الدولة العلمانية والقيم التي تعبر عنها المؤسسات الدينية. وانطلاقاً من هذا المحور يدعو الكاتبان إلى إعادة نظرٍ جذريةٍ في أسس بناء الدولة العلمانية بنموذجها الغربي. حيث تشكل عودة الممارسة الدينية إلى المجتمعات الأوروبية ظاهرةً تحتاج إلى دراسةٍ عميقةٍ لمعرفة الأسباب الموجبة لها.

يُؤسس تايلور وماكلور أطروحتهما بصدد المجتمع السياسي المابعد علماني على فكرة الدولة المحايدة. وهذه الفكرة كان سبق أن اتخذت سبيلها إلى الجدل في دوائر التفكير الغربي حول ما يمكن أن نسميه نهاية زمن الإقصاء المتبادل بين العلمنة والدين[2].

الكتاب نتاج معلوماتٍ وأحصائياتٍ ميدانيّةٍ للأحداث والتحولات التي كانت نتيجة مشكلاتٍ لم تجد لها الأنظمة الثابتة

(68)

في أوروبا وأميركا حلولاً ناجعة. ويرى الكاتبان أن هذه المشكلات بحاجةٍ إلى تفكيرٍ فلسفيٍّ وسياسيٍّ من شأنه طرح حلولٍ جديدةٍ لواقعٍ جديدٍ، وتطوير نظام الحكم. يترك الكاتبان التعريفات الكلاسيكية المتمثلة بحصر العلمانية في فصل الدولة عن الدين، حيث يتناولان العلمانية كنظامٍ سياسيٍّ وقانونيٍّ يستند إلى فضاءاتٍ من القيم والأهداف والإجراءات بين الدين والدولة. فالوقت حان برأيهما للحديث عن تلك العلاقة التي تفصل وتربط الدين بالدولة بشكلٍ أوضح ومختلف. من جملة تلك النقاط التي يتناولها تايلور وماكلور، هي الفضاء العام والفضاء الخاص والعمل على ترميم العلاقة بين الدين والفضاء الخاص، أي قطاعات الدولة. لا تعني العلمانية بالنسبة لهما، فصل الدين عن الدولة، بل حياد الدولة «Neutralté de l’ةtat» المتمثل بفهم تنوعٍ قيميٍّ يجمع المواطنين في دائرةٍ واحدةٍ. وهذا لا يعني بطبيعة الحال جعل الدين وقيم الغالبية في المجتمع هوية الدولة ووضع المجموعات الاجتماعية والدينية الأخرى كمواطنين من الدرجة الثانية. فلو حدث مثل هذا الشيء، فقد تختل العدالة الاجتماعية والوحدة السياسية في مجتمعٍ متنوعٍ في الهوية والدين والثقافة، وسيكون عبئه ثقيلاً على الجميع. وبالتالي على الدولة ليس فقط الحفاظ على الحيادية حيال الدين، بل حماية التنوع الديني والثقافي أيضاً، ذلك أن التنوع الثقافي، حاجة أخلاقيّة، يمارس من خلالها المواطنون الحياة وفقاً لمعتقداتهم وقيمهم المختلفة.

إنّ تنوع الأخلاقيات في المجتمع إذ يحتل مساحةً مهمةً في

(69)

الفلسفة المعاصرة، يقترب من الفروقات الجوهرية والمعقدة بين المواطنين، مثل التطور العلمي في مجال الجينالوجيا والتعليم الديني في المدارس وتحليل الدولة للاقتصاد...إلخ. يعود الكاتبان هنا إلى وجهة نظرٍ فلسفيةٍ للمفكر في نظرية العدالة الاجتماعية الأميركي جون راولز (1921 ـ 2002)، مفادها أن «التنوع المعقول» إذ يعتمد مصادر عقلانية للاعتراف به حول الوجود وطبيعة التطور الإنساني ومعاني الحياة الناجحة. وهذا المفهوم إذ يستلزم استقلالية الأفراد والأخلاق لإدراك العالم، لا ينمو بحياد الدولة، إذ إن الأفراد والمجتمع في هذه الحالة، بحاجة إلى التنوع وآليات التنمية وحماية حريات التعبير والضمير، إذ تلعب الدولة الدور الرئيسي في توفيرها، إنما لا يعني ذلك في جميع الأحوال تدخل الدولة في شؤون المواطنين ومساحات حرياتهم وقيمهم الثقافية والدينية. 

وفي معرض الحديث عن «العلمانية وحرية الضمير»، يرى كل من تايلور وماكلور، بأن حياد الدولة حيال القيم المغايرة والإيمان هو جزء من الأجوبة التي يقتضيها بحثهما. وهذا الحياد واحد من أسس الدولة الليبرالية الديمقراطية بعيداً عن سياسات التضييق على الكرامة وحقوق الإنسان والاستقلال المجتمعي. وتلك قيم تسمح للأفراد بحياة مشتركة من خلال رؤى مختلفة واحترام التنوع، كما أنها تجعل منهم مستقلين في قراراتهم، وكل ذلك في إطار «إجماع في التداخل» كما يسميانه.. 

أما في سياق تبرير دعوتهما آنفة الذكر، فإن المؤلفين يقرران أن على الدولة الحفاظ على الحياد وعدم إعطاء الأولوية لرؤيةٍ مثاليةٍ

(70)

من شأنها تغيير حياة الأفراد على حساب قيمهم المختلفة. تالياً، على الدولة الحفاظ على حيادها حيال قناعات وتمسك الأفراد بقيمهم وثقافاتهم المتنوعة، ولا يشمل هذا فقط الحياد الديني، بل أيضاً القناعات الفلسفية والفكرية. أي إن الفلسفة التي تجعلها الدولة أساساً لسياساتها على حساب فلسفةٍ أخرى، لا تختلف عن جعل الـدين مصدراً لتشريعاتها على حساب دينٍ آخر. اقتضاباً. وهكذا يقف كلٌّ من تايلور وماكلور، ضد صناعة دين أو فلسفة من الدرجة الثانية، ويعودان في هذا الإطار لتحديد وتوضيح فكرتهما إلى تسمية أو إصطلاح «دين مدني» وهو إصطلاح يرجع أمره للمفكر الفرنسي جاك جاك روسو. 

في المجال نفسه يؤكد صاحبا الكتاب على فصل مفهومي العلمانية والمدنية، أي فصل نظام سياسي علماني عن مجتمع مدني. في الحالة الأولى تكون الدولة حيادية تجاه الأديان والفلسفات والأفكار، أما في الحالة الثانية فيمتزج الدور الديني بالممارسات الاجتماعية وحياة الأفراد. إذا كانت العلمانية عمليةً سياسيةً وتتجه إيجاباً في مسارها، فإن المدنية هي ظاهرةٌ اجتماعيةٌ تجسد رؤى وأساليب حياة الأفراد، أي إن الدولة تتجه نحو العلمانية دون فرضها على المواطنين ورؤاهم وقناعاتهم. 

 

 

جدلية العلماني/ الديني

(71)

لا بد من التنبيه هنا إلى أن من أهم ما يعالجه تايلور في مجمل أعماله حول العلمانية ـ وخصوصاً في هذا الكتاب المشترك مع ماكلور ـ هي مسألة الإرث التاريخي الديني. فهل يجب أن تُنزع من المؤسّسات والأماكن العامة كلّ الآثار الدينية التي تعود بالدرجة الأولى إلى ثقافة الأكثرية التاريخية؟ أفلا يعني نزع الرموز الدينية من الأماكن العامة، بحسب تايلور، نزعاً يعمد إلى محو الماضي وإلى قطع الروابط التاريخية بين الماضي والحاضر؟ يعتبر تايلور أنّه ينبغي للعلمانيّة أن تميّز بين الأنماط الدينية التي تفعل في المؤسّسات العمومية والإرث التاريخي الذي يطبع بنية المجتمع. فالصليب الذي يوجد في مون رويال (Mont Royal) في مونتريال، على سبيل المثال، لا يعني أنّ مدينة مونتريال تطابق بين توجّهاتها السياسيّة والمعتقد الكاثوليكي، ومن ثمّ لا يفرض ذلك أيّ التزام أخلاقي أو سياسي على غير الكاثوليك. فالصليب هذا لا يعدو كونه يمثّل رمزًا يشهد على حقبة زمنية من تاريخ كيبك. ولذلك لا يجوز افتراض التناقض بين الرموز الدينية في الأماكن العامة وحرص المجتمع على العلمانيّة، ولاسيّما حين تتجلى هذه الرموز كمعلم أثري يذكّر فقط بالماضي، ولا يعبّر البتة عن نيّة المؤسّسات العمومية إلى تطابقها عضويا وهذه الرموز التراثية. حتى اليوم ما زال الصليب موجوداً على سطح كنيسة جامعة السوربون المغلقة في باريس، إذ إن وجوده لا يعبّر سوى عن كونه رمزاً أثريًّا قديمًا خاصًّا بحقبة قضت من تاريخ هذه الجامعة وتاريخ فرنسا الكاثوليكي[1].

(72)

في مقابل ذلك ثمة من رأى أنّ مطالب التكيّف الدينيّة تتناقض ومبادئ العدالة الاجتماعية التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطيّة الليبراليّة. ولا يقتصر رفض هذه المطالب على فئة القانونيين والمثقّفين، بل تعدّاه إلى عامة الشعب. ومن الأسباب التي تبرّر رفض مطالب التكيّف أنّ هذه المطالب تخالف المعايير والمؤسّسات العمومية المتعارف عليها في فلسفة العقد الاجتماعي. وهي معاييرٌ تعتمد المساواة سبيلاً منصفاً لاحترام الجميع من دون تمييز. أما مصطلح التكيّف فتراه على «المساواة في الاختلاف. وبواسطة بعض الترتيبات، يقوم التكيّف على معالجة أشكال التمييز الناجمة أحيانا عن تطبيق معيار أو قانون عام هو بالأصل شرعي. ففي بعض الحالات، يؤدي تطبيقُ قانون أو معيار عام إلى ضرر بحق خصوصية شخص أو فئة من الأشخاص لم يكن القانون أو المعيار لينظر في شأنها. ذلك أنّ المجتمع يرمي عادة إلى التشريع خدمةً للأكثرية. وهو ما يعني أنّ القانون ليس أبدا محايدا بالكامل. لذلك، والكلام لتايلور، «يقتضي واجب التكيّف اعتمادَ التمييز، وهو ما يجب أن تحددّه شرعات حقوق الإنسان».

بالنسبة إلى تايلور وصاحبه فإن فوائد التكيُّف كثيرة، وأهمها استقامة التعاون الاجتماعي على قاعدة الإنصاف ومن ثم تحفيز الاندماج السياسي. ورأس الكلام في ذلك، هو أنّ طرح الاعتراف بالتنوع الثقافي وبمطالب التكيّف التي تتصل به هو طرحٌ يستند إلى العدالة الاجتماعية والقانون العام. كما أن فكرة التعددية الثقافية والاعتراف سياسيًّا بالاختلافات العرقية والدينية، بالنسبة إلى الفلسفة

(73)

الأخلاقية، تستمد أصولها القانونية من تأويل الحقوق والحريات الأساسية التي تأبى الإرجاع إلى النسبية. فمطالب التكيّف هي إذاً مطالبٌ تنبثق من الحق الأساسي (fondamental droit) ولا من التسويات السياسية. ولا تعُدّ المطالب هذه ظرفيّة تستهدف على سبيل المثال عملية الانثقاف، إذ إنها تستمد شرعيتها على وجه الحصر من قوانين الدستور. ولا يختلف منظور الفلسفة السياسية عن المنظور القانوني في التأكيد على أحقية التكيّف وضرورته الإنسانية. كما أنّ أمام المعنيين بمطالب التكيّف، بالنسبة إلى تايلور، سبيلان لا ثالث لهما. فإمّا أن يسلك التكيّفُ سبيل القضاء الذي يفرض حكما قهريًّا يُناسب فريقا ويغبن الآخر. وتكون نتيجة ذلك وجود خاسر ورابح. وإمّا أن يستند التكيّف إلى روحٍ عاليةٍ من المواطنة المسؤولة التي تقتضي التفاعل والتداول. ويؤيّد تايلور بشدّةٍ هذا النوع من المواطنة التي تتوسّل بحلول قوامها «تسوية تداولية» (concerté Ajustement) بين الجهتين المتنازعتين على قاعدة «الصدق والاحترام المتبادل والمُرونة والروح الخلاّق»[1].

والواضح أن الفيلسوفين يركزان على الوجهة الأخلاقية الناجمة من اصطدام القيم الدينية مع قيم الدولة الليبرالية العلمانية. ويلاحظ الكاتبان في هذا الصدد أن من أبرزِ المشاكلِ التي تعترض موقف الليبرالية السياسية والذاتية هو الاستعمالُ الأداتي لمعتقدات الضمير ولحقّ التكيّف القانوني. فكيف يمكن للدولة أن تقي نفسها من المخاطر الممكنة في استعمال الحرية الدينية على نحو

(74)

«انتهازي» و«احتيالي»؟ فيمكن لموظف، على سبيل المثال، أن يستعمل حريتَه الدينية على نحو «استراتيجي» للحصول على أيام عطلٍ إضافيةٍ مدفوعة الأجر كما المطالبة بترتيب دوام العمل على نحو يفضله ويتناسب ونشاطاتِه الخاصة. فمن الطبيعي أنّ تكاثر المعتقدات والالتزامات الجوهرية التي لا تستند إلى عمارةٍ لاهوتيّةٍ أو فلسفيّةٍ شاملةٍ هو ما سيفتح الباب أمام تنامي مطالب التكيّف ومن ثمّ استعمال هذا الحق كوسيلةٍ أداتيّةٍ لأهدافٍ مشبوهةٍ. لذا يجب على المحاكم ـ كما يقول تايلور وماكلور ـ أن تتهيَّأ أيضاً لمفاعيل التكيّف المحتملة على حقوق الآخرين، وأن تنظر في قدرة المؤسّسة المعنية على تلبية مثل هذه الأهداف وتحقيقها. وهذا ما يحيلنا إلى ما يسمى في لغة المحاكم القانونية «الضغط المفرط» (excessives contraintes) أو المصلحة التشريعية العليا (intérêt preponderant législatif). وهو ما يعني أنّ المحاكم لا تلزم مؤسّسةً ما بقَبول طلب للتكيّف لا يتوافق وحق الآخر والتشريعات العامة. وبتعبير آخر، والكلام لتايلور، «يُقوّم واجب قبول التكيّف انطلاقاً من حمل الأعباء التي يفرضها». وتُرفض مطالبُ التكيّف عندما تمثّل ضغطا مفرِطًا في حال «أ. كانت تعارض على نحوٍ كبيرٍ تحقيق أهداف المؤسّسة المعنيّة (التربية والاستشفاء وتقديم الخدمات العامة وجني الأرباح...إلخ). ب. وفي حال كانت كلفتُها عاليةً ومفرطةً أو تؤثر بشكلٍ جديٍّ على عمل المؤسّسة وسيرها الطبيعي. ج. وفي حال كانت تنتهك حقوق الآخرين وحرياتهم»[1].

(75)

فكرة التعالي والمحايثة

على الرغم من التوافق حول الأفكار الرئيسية الواردة في كتاب «العلمانية وحرية الضمير» يذهب تايلور في كتابه «العصر العلماني» مسلكاً مختلفاً نلاحظ ذلك من خلال بحثٍ نظريٍّ توثيقيٍّ كثيفٍ حول الانتقال من عالمٍ دينيٍّ لا مكان فيه لغير الإيمان إلى عالمٍ أصبح فيه الإيمان إمكانيّةً من بين إمكانياتٍ أخرى سمته الأساسية ما يدعوه بالإنسانية «الحصرية».

يرصد تايلور هنا عملية الانتقال من الأنساق التقليدية القائمة على فكرة التعالي بالكشف عن التصورات الكونية والوجودية المعبرة عن العصر الحديث القائم على فكرة المحايثة. وهي التصورات التي تنعكس في علمنة مؤسسات الشأن العام وخصخصة الاعتقاد الديني. بيد أن «تايلور» يرفض نظرية العلمنة كانفصامٍ وتحررٍ تدريجيٍّ من قيود الاعتقاد الديني، بل العلمنة بما هي تحويلٌ وتعديلٌ مطردٌ للتراث الديني. لا تعني العلمنة بالنسبة له نهاية الإيمان الديني، وإنما فسح المجال لتجارب وخياراتٍ كثيفةٍ ومتنوعةٍ إزاء التجربة الدينية، التي تستند حسب «تايلور» للرغبة البشرية الثابتة في «الرضا»(بمعنى الانشراح والتمام). والرضا هو تلك اللحظات التي من دونها لا تستحق الحياة أن تعاش، وهو شعورٌ يشترك فيه المؤمن وغير المؤمن؛ بيد أنّه شعورٌ دينيٌّ في عمقه.

تعبر الأطروحات الواردة في الكتاب عن الاتجاهات الجديدة لفلسفة الدين في الغرب، والتي تتمحور حول إشكاليتين رئيستين

(76)

هما: علاقة العقل بالإيمان بعد انتكاسة وتراجع العقلانيات الوضعية والتاريخانية التي أرادت تقويض الدين معرفياً ونظرياً، ومنزلة الدين في الشأن العام في المجتمعات الراهنة التي أطلق عليها «هابرماس» عبارة «المجتمعات ما بعد العلمانية»، أي تلك التي أعيد فيها طرح مكانة الدين في الشأن العام.

لا ينظر التقليدُ الليبرالي إلى الحقوق والحريات الفردية الأساسية على أنّها مطلقة ولا يمكن المساسُ بها. فالحريةُ الفردية لها حدودٌ، وحدودها هي حرية الآخرين وسير عمل المؤسّسات (العامة والخاصة) المنتظم وحفظ القوانين والمصلحة العامة.

مع ذلك تبقى حركة الجدل مستمرة في هذا الميدان، ومن المحتمل كما تدل الوقائع الراهنة، أن تتصاعد في ظل الإحباطات المتلاحقة التي تتعرض لها المؤسسات العلمانية في خلال مواجهتها لأسئلة ما بعد الحداثة وبخاصة سؤال الإيمان وانتشار التيارات الأصولية المسيحية في الغرب. ناهيك عن الآثار المترتبة على وجود الجاليات المسلمة في أوروبا وأميركا.

الجانب المهم في هذا الكتاب أنّه يتزامن مع نقاشٍ يملأ قاعات الجامعات ومراكز الدراسات وحتى الإدارات الحكومية في البلدان الأوروبية التي تعاني مشكلة تنظيم العلاقة بين المنظومة العلمانية وصعود التيارات الدينية. بعض المعلقين يقولون أن النقاش الحاصل على هذا النحو لا يقتصر على الجانب الحقوقي والاجتماعي، بل يشتمل أيضاً على قضيّة الديمقراطية وطريقة إدارتها للحريات

(77)

السياسية ومشاكل تمثيل الأقليات الدينية والعرقية في مجتمعات الحداثة.

من المفيد الإشارة إلى أنّ  أحد أبرز الأسس التي استند إليها هابرماس في تنظيره لفكرة ما بعد العلمانية هي الدراسة التي أجراها السوسيولوجي المعروف خوسيه كازانوفا في دراسته (الأديان العامة في العالم الحديث). لقد ابتنى هابرماس على ما قدمه كازانوفا من فرضيات، إذ اعتبرها دليلاً يثبت أن انحسار دور التعاليم الدينية وتنامي الرغبة في الخصخصة الاجتماعية عبر علمنة المجتمعات، لا يدلان بالضرورة على كون الدين قد افتقد قابليته على إدارة المجتمعات البشرية في مختلف المجالات السياسية والثقافية أو أنه أصبح عقيماً وليس من شأنه تفعيل الحياة الشخصية لكل فردٍ في المجتمع[1].

كازانوفا منظِّراً للعصر الما بعد علماني

قد يكون البروفسور خوسيه كازانوفا[*] من أبرز الذين تصدّوا لمشكلات العلاقة بين العلمانية والدين وتطوراتهما في المجتمعات الغربية المعاصرة.

في بداية تسعينيات القرن العشرين تقدم كازانوفا برؤية للنقاش شكل محور كتابه المعروف «الأديان العامة في العالم الحديث».

(78)

وقد أجمل هذه الرؤية بالمقترح التالي: إذا كان لنا أن نجري أي حديث ذي معنى حول «العلمنة»، فإن علينا أن نميز بين ثلاثة مضامين متباينة[1]:

أولاً: العلمنة بما هي انحسار في الاعتقاد الديني والممارسة القائمة عليه في المجتمعات الحديثة. وهي القضية التي كثيراً ما تُطرح على أنّها عمليّةٌ شاملةٌ إنسانيّةٌ تطوريّةٌ؛ ولا بد من الإشارة بدءاً إلى أن هذا الاستخدام للمصطلح هو الأحدث والأوسع انتشاراً في دوائر الجدل الأكاديمي المعاصرة حول العلمنة. نقول ذلك مع أن هذا المصطلح لم يعتمد إلى الآن في معظم قواميس اللغات الأوروبية!

ثانياً: العلمنة بما هي ناتج تحول الدين إلى شأنٍ فرديٍّ خاصٍّ كما يفهم الكثير من الناس هذه الفكرة سواءً كتوجهٍ حداثيٍّ عامٍّ أم كحالةٍ معياريّةٍ.. وبكلّ تأكيدٍ كشرطٍ مسبقٍ في معظم السياسات الليبرالية الحديثة.

ثالثاً: العلمنة باعتبارها معيار التمايز بين المجالات العلمانية (أي الدولة والاقتصاد والعلوم) والتي عادة ما تفهم على أنها «التحرر» من المؤسسات والمعايير الدينية. وهذا هو المكون الجوهري في النظريات الكلاسيكية حول العلمنة، والذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً باشتقاق الكلمة اللغوي وسياق تطورها التاريخي ضمن العالم المسيحي في القرون الوسطى. وكما يشير كل قاموس للغات

(79)

الأوروبية الغربية، فهذه الكلمة تعني تحول الأشخاص والأشياء والمعاني إلخ من الاستخدام والملكية والسيطرة الدينية إلى تلك المدنية أو العامية.

لكن الجدل بين علماء الاجتماع الديني الأميركيين ونظرائهم الأوروبيين لم يهدأ قط. بالنسبة إلى المدافعين الأوروبيين عن النظرية التقليدية، تعتبر علمنة المجتمعات الأوروبية الغربية أمراً واقعاً يستحيل نفيه تجريبياً[1]؛ لكن الأوروبيين يميلون إلى التذبذب بين معنى العلمنة التقليدي وبين معناها الأحدث أي –ما بعد العلمنة - الذي يشير إلى عملية تتطور باستمرار منذ ستينيات القرن الماضي، وتحديداً مع انحسار المعتقد والممارسة الدينيين في المجتمعات الأوروبية، ويفترض أن تكون هذه العملية أحادية الاتجاه لا رجعة عنها؛ فعلماء الاجتماع الأوروبيين إجمالاً يميلون إلى اعتبار هذين المعنيين مترابطين بطبيعتهما لأنهما ينظران إلى كل من الواقعين اللذين يشيران إليهما أي: انحسار سلطة وأهمية المؤسسات الدينية اجتماعياً، وانحسار المعتقد والممارسة الدينيين بين الأفراد، كمكونين مترابطين بنيوياً في عملية الحداثة العامة.

النموذج الما بعد علماني

لقد قلب النموذج الفكري الأميركي الجديد نموذج العلمانية الأوروبي رأساً على عقب؛ وفي النسخة «المتطرفة» من «جانب العرض» من نظرية الخيار العقلاني ضمن الأسواق الدينية استخدم

(80)

علماء الاجتماع الأدلة الأميركية ليطرحوا فرضية وجود علاقة بنيوية عامة بين «إزالة المؤسسات الرسمية» أو حل رقابة الدولة من ناحية، وبين نشأة أسواقٍ دينيةٍ حرةٍ ومفتوحةٍ وتنافسيةٍ وتعدديةٍ من ناحيةٍ ثانيةٍ، وبين المستوى العالي من التدين الفردي من ناحيةٍ ثالثة. وبناءً على هذه النظرية تحول ما كان يعتبر «الاستثناء الأميركي» إلى الحالة القياسية بحيث فسرت مستويات التدين المتدنية في أوروبا إما عبر استمرار المؤسسات الدينية الرسمية في بعض الدول أو كون أسواق أوروبا الدينية إجمالاً احتكارية أو تفرديّة. لكن الأدلة الداخلية المقارنة التي تظهر من دراسة المجتمعات الأوروبية لا تساند الأسس التي تقوم عليها النظرية الأميركية؛ فالحالات الاحتكارية في أوروبا مثل بولندا وإيرلندا ترتبط باستمرار مع مستويات عالية من التدين، أما الدول التي تتمتع بتحررية أكبر وعدم رقابة من الدولة فتشهد نسباً ثابتة من مستويات التراجع في التدين[1].

غير أن حصيلة الجدل بين النخب الأميركية والأوروبية اصطدمت بعد فترةٍ قليلةٍ من المنّ بجدارٍ سميكٍ. إذ إن نظرية العلمنة الكلاسيكية تنطبق بشكلٍ جيّدٍ على أوروبا لا على الولايات المتحدة. أما النموذج الفكري الأميركي فينطبق بشكلٍ جيدٍ نسبياً على الولايات المتحدة لا على أوروبا؛ لكن لا يمكن أي منهما أن يقدم تفسيراً مقبولاً للتنوع الداخلي في أوروبا، والأهم من ذلك كله أن كلاً منهما لا ينطبق على الأديان العالمية الأخرى، وعلى بقية أرجاء العالم.

(81)

بالمقابل، فإن النمط الأميركي المحدد القائم على الفصل بين الكنيسة والدولة الذي يتضمنه البند المزدوج من التعديل الأول على الدستور أدى إلى تكوُّن نمطٍ فريدٍ من نوعه من التنوع الديني في الولايات المتحدة، فلم يكن للدولة هناك كنيسة قومية قط، وفي نهاية الأمر تحولت جميع الأديان في الولايات المتحدة بكنائسها وطوائفها وبغض النظر عن أصلها ومزاعمها العقائدية وهوياتها الكنسية إلى «تسميات طائفية» (denominations) تتساوى رسمياً تحت غطاء الدستور وتتنافس في سوق ديني حرة وتعددية واختيارية قائمة على النسبية. يشكل هذا التصنيف كـ»تسميات طائفية» –الذي يعتبر الشكل التنظيمي الأساس لنظام ديني كذاك الموجود في الولايات المتحدة-، إحدى أعظم إبداعات أميركا الدينية[1]؛ وبالترافق مع كل «تسمية طائفية» –وبشكلٍ منفصلٍ عنها- يعمل الدين المدني الأميركي بوصف كونه «الطائفة المجتمعية» للأمة.

في مستهل الأمر، تحولت نظرية التنوع والمساواة الجوهرية إلى مؤسساتٍ كتعدديّةٍ دينيةٍ طائفيةٍ داخل البروتستانتية الأميركية، فقد كانت الولايات المتحدة تعرَّف على أنها أمة «مسيحية»، وما كانت تعتنيه المسيحية بالنسبة إليها كان «بروتستانتية» حصراً؛ لكن في نهاية الأمر وبعد فترةٍ مطولةٍ من انفجارات «السكان الأصليين»

(82)

البروتستانت ضد المهاجرين الكاثوليك بالدرجة الأولى. أفسح النمط الأميركي المجال أمام الاشتمال على أصحاب الديانات الأخرى ـ أي الكاثوليكيين وإليهود ـ ضمن نظام التعددية الدينية الأميركي، وقد نجم عن ذلك عملية ملائمة مزدوجة تحولت فيها الكاثوليكية واليهودية إلى دياناتٍ أميركيةٍ بينما تغير الدين والدولة في أميركا الدرجة ذاتها أثناء تلك العملية، فأصبحت أمة «مسيحية- يهودية» تسود فيها الديانات الثلاث: البروتستانتية والكاثولويكية واليهودية كـ»التسميات الطائفية» في الدين الأميركي المدني.

لقد وثق الدور المركزي الذي لعبته المؤسسات والهويات الدينية في دمج المهاجرين الأوروبيين جيداً، ويشكل ذلك التوثيق جوهر أطروحة ويل هيربرغ المعروفة[1]؛ وقد تكرر زعم هربرغ حول ازدياد تدين المهاجرين حين أصبحوا أميركيين في معظم الدراسات الحديثة حول الديانات المهاجرة إلى الولايات المتحدة[2]. لذلك من المهم لنا أن ندرك هنا أن تديُّن المهاجرين لم يكن مجرد «رواسب تقليدية»، أو «بقايا العالم القديم» التي ستتلاشى مع التكيف مع السياق الجديد، بل كانت استجابةً تكيُّفيةً مع العالم الجديد. لا تنحصر مضامين هذه الأطروحة في أن المهاجرين يميلون إلى التديُّن بسبب ضغطٍ اجتماعيٍّ معيّنٍ للتكيف مع معايير التدين الطبيعية في

(83)

أميركا –وهو أمرٌ واقعٌ دون شك- بل الأهم من ذلك أن الهويّات الدينيّة الجماعيّة كانت دائماً إحدى الطرائق الأولية لهيكلة التعددية الاجتماعية الداخلية في التاريخ الأميركي[1]. برأيي الشخصي، تقدم هذه الأطروحة أيضاً تفسيراً أقرب إلى التصديق بالحيويّة الدينيّة الأميركية من نظريات «الاختيار العقلاني لطرف العرض» ضمن أسواق الدين التنافسية.

إذاً، ثمة «طريقة ما» تجعل كلاً من التطور العلماني الأوروبي والتطور الديني الأميركي أمرين فريدين واستثنائيين؛ وبهذا المعنى يمكننا بكل تأكيد أن نتحدث (كما فعل الأوروبيون لعقود طويلة) عن «الاستثنائية الأميركية»، أو (كما أصبح رائجاً اليوم) عن «الاستثنائية الأوروبية». إلا أن كلاً من التوصيفين يحمل في ثناياه الكثير من الإشكالات سواء أقلنا –كما حدث في الماضي- أنّ أميركا استثناءٌ للقاعدة الأميركية حول العلمنة، أم –وكما يحدث اليوم- قلنا أن أوروبا العلمانية استثناءٌ للتوجه العالمي إلى الصحوات الدينية[2]. بالعلاقة مع الدين، ليس هناك قاعدةٌ عالميّةٌ تنطبق على الجميع، فجميع أديان العالم تتحول بشكلٍ كبيرٍ اليوم من خلال عملية التحديث والعولمة كما كانت تتحول خلال فترة التوسع الاستعماري

(84)

الأوروبي؛ ولكن هذه الأديان تتحول بطرائق كثيرةٍ ومختلفةٍ.

لربما كان توكيفيل عالم الاجتماع الحديث الوحيد الذي تمكن من التوسع في شرح هذه القضايا بوضوح نسبي متحرر من التحيُّز العلماني؛ فقد شكك في الفرضيتين الأساسيتين التي قام عليهما النقد التنويري للدين، أي إن تقدم التعليم والعقل وتطور الحريات الديموقراطية سيجعل الدين يوماً ما غير ذي أهمية سياسياً. وقد كان رؤيوياً حين توقع بأن التحول إلى الديموقراطية سياسياً ودخول الناس العاديين إلى الحلبة السياسية سيزيد من أهمية الدين في المجال العام بدلاً من أن يقلل منه. وقد وجد تأكيداً تجريبياً لطرحه في تجربة الولايات المتحدة الديموقراطية التي كانت في ذلك الوقت أكثر المجتمعات الحديثة ديموقراطية وأعلاها نسبة في التعليم[1].

يبيِّن كازانوفا أن تاريخ السياسة الديموقراطية في العالم كله يؤكد صحة افتراضات توكيفيل؛ فالقضايا الدينية والمصادر الدينية والنزاعات بين «التسميات الطائفية» والهوة بين الديني والعلماني لعبت جميعها أدواراً مركزيةً في السياسات الانتخابية الديموقراطية وفي سياسة المجتمع المدني خلال تاريخ الديموقراطية برمته. حتى في أوروبا العلمانيّة التي تأخذ فيها النخب السياسية وعامة الشعب طرح الخصخصة على أنّه من المسلمات، فقد شهدت عودةً غير متوقعةٍ للجدل حول القضايا الدينية إلى مركز السياسات

(85)

الأوروبية[1]. لذلك فمن غير المفاجئ أن نرى ذلك بدرجةٍ أكبر حتى في الولايات المتحدة، حيث ظلّ الدين تاريخياً في مركز جميع النزاعات السياسية الكبرى وحركات الإصلاح الاجتماعي؛ فمن الاستقلال إلى إلغاء العبودية، ومن الأهلانية (Nativism) إلى حقوق المرأة في الانتخاب، ومن حظر الخمور إلى حركة الحقوق المدنية، كان الدين دائماً يشكل محور جميع هذه النزاعات. الأمر الوحيد المستجد خلال العقود الأخيرة هو أننا وللمرة الأولى في تاريخ أميركا السياسي نشهد حروباً ثقافيةً معاصرةً بدأت تشبه التصدعات العلمانية الدينية التي استوطن مرضها في سياسة أوروبا القارية في الماضي، فقد أصبح الدين نفسه الآن قضية عامة للنقاش.

تأصيل المفهوم انثروبولوجيّاً

لعل أكثر من ذهب من فلاسفة التاريخ الحديث إلى تأصيل فكرة العلمنة ومقاربتها نقدياً هو المفكر خوسيه كازانوفا في كتابه المعروف: «الأديان العامة في العصر الحديث[2]. يدعو كازانوفا في مقاربته إلى التمييز بين مفهوم العلمنة من جهةٍ ونظرياتها من جهةٍ أخرى. في ما يتصل بالعلمنة بوصفها مفهوماً يرى أن التمييز بين مفهوم «علماني» أو اشتقاقه «علمنة» من جهة، والنظرية

(86)

السوسيولوجية للعلمنة نفسها من جهةٍ أخرى، هو تمييزٌ جوهريٌّ. ذلك لأن المفهوم نفسه متعدّد الأبعاد للغاية، ومتقلبٌ بشكلٍ ساخرٍ في دلالاته الضمنية المتناقضة، وبالتالي، فهو مفهومٌ مثقلٌ بدلالاتٍ متنوعةٍ تراكمت عبر مساره التاريخي.

وللخروج من هذا الغموض والتعقيد يقترح كازانوفا قاعدةً نظريةً لتأصيل المفهوم تقوم على ملاحظة ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: لو عدنا إلى الأصل اللغوي لهذا المفهوم، لوجدنا بحسب منظورية كازانوفا ـ أن الكلمة اللاتينية القروسية (saeculum) تتضمن ثلاث دلالات لا تتميز الواحدة منها عن الأخرى. (secolo, siglo, siècle). فكلمة (siglo)، كما وردت في معجم كاسيل للغة الإسبانية، تعني: «قرن، زمن، عالم». غير أن الدلالة الأولى «قرن» دون غيرها من الدلالات الأخرى ظلت متداولة في «الزمن» العلماني المعاصر و«العالم» العلماني المعاصر، بما أن تمييز الزمان والمكان إلى حقيقتين مختلفتين، الأولى مقدسة والثانية دنيوية، أصبح فارغاً حقاً من أي معنى منذ عهد بعيد، حتى في إسبانيا الكاثوليكية.

المرحلة الثانية: وهي ذات صلةٍ بالمرحلة السابقة بالرغم من اختلافها عنها من خلال القوانين الكنيسة، حيث تشير العلمنة إلى ما قد يسمى «فعلاً قانونا» تترتب عليه نتائج قانونية حقيقية بالنسبة إلى الفرد، فالعلمنة تدل على السيرورة الشرعية (القانونية) التي يترك بموجبها الشخص «الديني» الدير من أجل العودة إلى «الدنيا»

(87)

وإغواءاتها، فيصبح بالتالي شخصاً «زمنيا». ومن الناحية القانونية، يمكن للكهنة أن يكونوا «دينيين» و«زمنيين» معاً. والكهنة الذين قرروا الانسحاب من الدنيا (saculum) وتكريس أنفسهم لحياة مثالية شكلوا الأكليروس الديني. أما الكهنة الذين عاشوا في الدنيا فقد شكلوا الأكليروس الدنيوي. وحين يصف ماكس فيبر العلمنة بأنها العملية التي يتحرك بواسطتها مفهوم «الدعوة»، أو ينتقل من النطاق الديني إلى النطاق الدنيوي تعبيراً، وللمرة الأولى في هذا السياق، عن ممارسة الأنشطة الزمنية في الدنيا، فهو يلجأ إلى المعنى الشرعي للمفهوم على سبيل المقارنة.

المرحلة الثالثة: وبالإشارة إلى السيرورة التاريخيّة الفعليّة، استعمل مصطلح «علمنة» للمرة الأولى للدلالة على قيام الدولة عادة، وعلى نطاقٍ واسعٍ، بمصادرة الأديرة والأراضي والأوقاف التابعة للكنيسة، واستملاكها عقب الإصلاح البروتستانتي والحروب الدينية التي نجمت عن هذا الإصلاح. ومنذ ذلك الحين، أصبحت العلمنة تعني «الممرّ»، والانتقال، [أو نقل الأشخاص والأشياء والوظائف والمعاني، وهكذا دواليك]، من موقعها التقليدي في النطاق الديني إلى النطاقات الزمنية. وعلى هذا النحو، أصبح من المتعارف عليه الإشارة إلى العلمنة باعتبارها استيلاء المؤسسات الزمنية، قسراً أو بحكم الأمر الواقع، على الوظائف التي كانت المؤسسات الكنسية تسيطر عليها تقليدياً[1].

غير أن النقطة التي تحتاج إلى عناية مضاعفة في سياق رؤية كازانوفا للمراحل الثلاث التي بنى عليها تأصيله للعلمانية، هو

(88)

الاختبار التاريخي الذي خضع له مفهوم العلمانية. وبهذه الملاحظة يمكن القول أن المراحل المشار إليها لا تجد بياناتها ومصاديقها ما لم تسلِّم بحقيقة أن الواقع التاريخي لأوروبا خلال القرون الوسطى، وفي كثير من جوانبه، كان يقوم فعلياً على نظامٍ تصنيفيٍّ يقسِّم الدنيا إلى مملكتين أو نطاقين متباينين: «ديني» و«زمني». والفصل بين هاتين المملكتين ضمن هذا النوع من التقسيم الخاص غير المألوف تاريخياً بين المقدس والدنيوي لم يكن بالتأكيد مطلق التباين كما إعتقد دوركهايم دائماً. فقد شابَهُ الكثير من الغموض والمرونة والخلط، وغالباً الالتباس الصريح بين حدوده الفاصلة. ولعل الأنظمة العسكرية هي مثالٌ واضحٌ على ذلك. أما ما يجب إدراكه فهو أن الثنائية قد تمأسست في أنحاء المجتمع كله بحيث تهيكل الحيّز الاجتماعي بحدّ ذاته بصورةٍ ثنائيةٍ[1].

نظرية العلمنة في العلوم الاجتماعية

لعل نظرية العلمنة هي النظرية الوحيدة التي استطاعت الارتقاء إلى وضعيةٍ نموذجيةٍ حقيقيةٍ ضمن العلوم الاجتماعية الحديثة، فبشكل أو بآخر، وربما باستثناء ألكسيس دي توكفيل وفيلفريدو باريتو ووليم جيمس، أجمع كل الآباء المؤسسين لهذه العلوم على مقولة العلمنة: من كارل ماركس إلى جون ستيوارت ميل، ومن أوغوست كونت إلى هربرت سبنسر، ومن إ.ب. تايلور إلى جيمس فريزر، ومن فريدناند تونيس إلى جورج سيمل، ومن اميل دوركهايم

(89)

إلى ماكس فيبر، ثم ليتواصل الإجماع مع فيلهلم فوندت وسيغموند فرويد، وليستر وارد ووليم ج. سامنر، إلى روبير بارك وجورج هـ. ميد. وفي الواقع، فقد بلغ هذا الإجماع مبلغاً إلى الحد الذي لم تعد تتعرض فيه هذه النظرية للتشكيك، حيث لم تبرز الحاجة على ما يبدو إلى اختبارها لأن الجميع سلموا بها، ما يعني أن هذه النظرية، أو بالأحرى مقولة العلمنة، بالرغم من كونها المقدمة المنطقية غير المعلنة للكثير من نظريات الآباء المؤسسين، لم تخضع إطلاقاً لدراسةٍ رصينةٍ، بل ولم يحدث أن صيغت صياغةً صريحةً ومنهجيةً.

ونظرية العلمنة، بالمعنى الضيق للكلمة، مجرد نظريةٍ فرعيةٍ لنظريات تمايز عامة، إما من النوع التطوري الشامل كما اقترحه دوركهايم، أو من النوع المتسم بخصوصيته التاريخية في نظرية التحديث الغربي كما وضعه فيبر. وفي الواقع، تتداخل نظرية العلمنة تداخلاً عضوياً مع كل نظريات العالم الحديث. ومع الإدراك الذاتي للحداثة لا يسع المرء إغفال هذه النظرية ببساطة من دون التشكيك بالنسيج كله، وبالكثير من الإدراك الذاتي للعلوم الاجتماعية.

تتمثَّل المغالطة الأساسية في نظرية العلمنة عند كازانوفا في الالتباس الحاصل بين السيرورات التاريخية للعلمنة نفسها، والنتائج المزعومة التي يفترض بهذه السيرورات أن تمارسها على الدين. وكما ذُكِرَ آنفا، فنواة نظرية العلمنة ومقولتها الأساسية هي مفهمة سيرورة التحديث المجتمعي كسيرورة تمايزٍ وظيفيٍّ وتحررٍ للنطاقات الزمنية ـ وخاصة الدولة، والاقتصاد، والعلم ـ من النطاق الديني وتمايز الدين وتخصصه المتزامنين ضمن نطاقه الديني المستحدث. وغالباً ما ترتبط بهذه المقولة الأساسية التي يمكن أن

(90)

ندعوها مقولة التمايز، مقولتان فرعيتان تشرحان افتراضاً ما سيؤول إليه الدين جراء سيرورة العلمنة تلك:

المقولة الفرعية الأولى، مقولة أفول الدين، وهي مقولة تفترض أنّ العلمنة سوف تجرُّ في أعقابها الانحسار التدريجي للدين، ثم أفوله، فاندثاره أخيراً كما تضيف بعض الآراء المتطرفة.

المقولة الفرعية الثانية، وهي مقولة الخصخصة، وهي ترى أنّ سيرورة العلمنة سوف تؤدي إلى خصخصة الدين، وإلى تهميشه كما يضيف بعضهم، في العالم الحديث. وليس بوسعنا أن ندرك تعقيد الواقع التاريخي الحديث إدراكاً تاماً إلا إذا فصلنا هاتين المقولتين تحليلياً[1].

هنا يلاحظ كازانوفا ثلاث مراحل تاريخية يمكن مقاربة العلمانية على أساسها[2]:

أولاً: دراسة التحولات التاريخية الحديثة من منظور العلمنة يعني، إلى حد كبير، دراسة الواقع من منظور الدين. أي إن الزمني، بوصفه مفهوماً، لا يتضح إلا بالنسبة إلى نظيره الديني.

ثانياً: إن الادعاء المعلن، أو المضمر بأن الدين ينحسر في العالم الحديث ويستمر في انحساره حتى اندثاره، هو ادعاءٌ يحتاج إلى دراسةٍ معمّقةٍ قبل إصدار الأحكام حول بطلانه أو صوابيته.

ثالثاً: يتعلق هذا الأمر بما يُسمى «خصخصة المقولة الدينية. وتعني مقولة الخصخصة في منطلقها وسيرورتها الأساسية ـ حسب

(91)

كازانوفا ـ أن سيرورة العلمنة قد أخذت مجراها إلى حد كبير، وأن هذه السيرورة لا عودة عنها على الأرجح، وأن نتائجها بالنسبة إلى الدين المسيحي أو أي دين ٍآخر هي تلك التي لخّصها فولفغانغ سلوشتر ضمن مقولتين:

الأولى: في ما يتعلق بالمواقف الفكرية السائدة، تعني العلمانية المكتملة كلياً أن المعتقدات الدينية أصبحت ذاتيةً جراء ظهور التأويلات البديلة للحياة، ولم يعد بالإمكان مبدئياً إدراج ذلك في نظرةٍ دينيّةٍ شاملةٍ.

الثانية: في ما يتعلق بالمؤسسات، تعني العلمنة المكتملة كلياً أن الدين المتماسس قد تجرّد من طابعه السياسي جراء تمايزٍ وظيفيٍّ للمجتمع، ولم يعد بالإمكان مبدئيًّا إدراج ذلك من خلال «الدين المتمأسس»[1].

لقد كان لوكمان أول من وضع إطاراً منهجياً لهاتين المقولتين المترابطتين. في كتاب «الدين غير المرئي»، قام لوكمان بتجذير مقولة العلمنة، فرأى أن المؤسسات الدينية التقليدية أصبحت، على نحو متعاظم، غير ضروريةٍ وهامشيةٍ للآليّة التي يعمل بها العالم الحديث، وبأن موقع الدين نفسه لم يعد داخل الكنائس[2]. إلى ذلك فقد تراجع البحث في الأزمنة الحديثة عن الخلاص والمغزى

(92)

الشخصي للوجود لينحصر في النطاق الخاص للذات. ويحاجج لوكمان، مستبقاً التحليلات اللاحقة للنرجسية و «الوعي الديني الجديد»، بأن «التعبير عن الذات» و«تحقيق الذات» أصبحا «الدين غير المرئي» للحداثة.

بيتر بيرغر ونظرية إزالة العلمنة عن العالم

إحدى ردّات الفعل التي أثرت في هؤلاء العلماء والدارسين كانت العبارة التي أطلقها عالم الاجتماع الأميركي من أصل نمساوي بيتر بيرغر[*] عام 1999 وهي «إزالة العلمنة من العالم». لاحظ بيرغر في معرض تحليله لهذه العبارة أن للجماعات والمعتقدات «المحافظة» و«التقليدية» و«الأصولية» تأثيراً كبيراً على الأنظمة الاجتماعية والسياسية. تصاعد ظاهرة التدين، ونمو الكثير من الحركات الدينية، والحفاظ على الدين من خلال الميول الأصولية هي التي حملته إلى القول بأن العالم لم يعد علمانياً. غير أن بيرغر في نظريته عن «العالم غير المعلْمَن» يستثني أوروبا وربما الولايات المتحدة من ملاحظاته، في حين استخدم بيرغر نظريته في تفسير تصاعد الحركات الدينية الأصولية خاصة في إطار الدين الإسلامي، ولكنّه لا يصف في الواقع حقيقة الوضع في العالم الحديث. فباعتراف الكثير من الدارسين حافظ الدين، بل وجدّد من تواجده في النقاشات العامة حتى في الغرب وليس فقط في العالم الإسلامي.

قد لا تكمن المشكلة الحقيقية لمجتمعات الزمن ما بعد العلماني في الفصل بين الدين والدولة مثلما صار في النموذج

(93)

الفرنسي، بل في التعددية. وجلَّ المشتغلين على المصطلح يرون أن الحديث عن «بعد العلماني» منطقي بقدر ما يدخل في الحسبان موضوع التعددية، ووجود الأديان الأخرى - الإسلام والأرثوذوكسية، واليهودية وغيرها... بهذا المعنى، تتغير أوروبا فعلا، وبسبب الهجرة هنالك حضور كبير للإسلام، ومنذ سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية، صار أيضاً للمسيحية الأرثوذوكسية دورٌ كبيرٌ. والبلدان الأوروبية تتحول إلى التعددية الدينية.

  من أبرز الملاحظات التي أكد عليها بيرغر في مشروعه تقوم على دحض فرضية أننا نعيش في عالمٍ مُعَلْمَن، فالعالم اليوم ـ مع وجود استثناءاتٍ قليلةٍ ـ لا يزال يتّقد بالعاطفة الدينية، وفي بعض الأماكن لربما تضاعف اشتعال هذه العاطفة. وهذا يعني أن معظم ما كتبه علماء الاجتماع والتاريخ حول ما سمي بـ «نظرية العلمنة» هو خاطئٌ في جوهره. هذا يعود في وجهٍ أساسيٍّ من وجوهه إلى غموض فكرة العلمانية كمفهومٍ وكحدثٍ تاريخيٍّ.. فعلى مستوى التنظير للمفهوم كان ثمة خلط بين «الدنيوة» (Secularism) و«العلمنة» (Laïcité) ولقد ترتبت على مثل هذا الخلط مؤثراتٌ معرفيةٌ ستظهر بقوةٍ في مسرح السجال المتجدّد بين العلمنة والإيمان الديني.

وعلى الرغم من الالتباس الجاري في الفهم بين الدنيوي (Secularism) والعلمنة (Laïcité) تظل إمكان التمييز بينهما حاصلاً. فمصطلح اللائيكية (العلمنة) له صفتان في الثقافة الفرنسية:

- على المستوى السياسي يشير إلى مبدأ يقوم على الحيادية تجاه

(94)

نظام المعتقدات، ويشمل مبدأ الفصل بين الدولة والدين.

- على المستوى الفلسفي يشير إلى رؤيةٍ علمانيةٍ غير دينيةٍ تجاه العالم كما ينظر إليها أصحابها كبديلٍ عن المعتقدات الدينية.

أما في القاموس الإنكليزي (قاموس أكسفورد) فمصطلح العلمانية يشير إلى محتوى نشطٍ يعبر عن صناعةٍ فلسفيةٍ تبرّر علمنة الحياة وتعطيها بعداً وضعياً وأخلاقياً. ويعتقد الإنكليزي أن مفهوم العلمانية هو مفهومٌ أقل شمولاً من مفهوم اللائيكية. بينما يمكن للعلمانية أن تذهب أبعد من اللائيكية.

وعلى أي حالٍ يبقى المفهوم الأصلي الذي شاع في عصور التنوير، هو أن مصطلح العلمانية (الدنيوي) (Secularism) ترسخ في صميم نظريات خيبة الأمل بسبب من انهيار النظم الاجتماعية ورضوخها تحت السلطة الكنسية والدينية. بل أكثر من هذا فإن ظاهرة الاستلاب التي انتهت إليها الحداثة في المجتمعات الغربية المعلمنة ستقود إلى مأزقٍ أنطولوجيٍّ للإنسانية المعاصرة.

مع أن «نظرية العلمنة» (Securalization theory) دخلت ضمن أعمال تعود إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فإن تتبع الجذور الأصلية لفكرتها الأساسية متصلٌ بعصر التنوير الأوروبي. هذه الفكرة هي في غاية البساطة: إن التوجه نحو الحداثة يؤدي بالضرورة إلى تراجع، أو حتى انهيار في الدين سواء في المجتمع أم في عقول الأفراد. وقد كانت هذه الفكرة تحديداً هي ما ثبت خطؤها. فلا شك أن الحداثة ترافقت مع توجهات واضحة

(95)

نحو العلمنة (Securalization)، وفي أماكن معينة أكثر من غيرها، ولكنها أيضاً استفزت حركات قوية مضادة للعلمنة. بالإضافة إلى ذلك فإن العلمنة على مستوى المجتمع لا تعني بالضرورة العلمنة على مستوى الإدراك الفردي. لقد خسرت بعض المؤسسات الدينية قوتها وتأثيرها في الكثير من المجتمعات، ولكن في المقابل استمرت معتقداتٌ قديمةٌ، وبرزت معتقداتٌ جديدةٌ لتلعب دورها في حياة الأفراد، متخذةً أشكالاً مؤسساتيّة في بعض الأحيان، ومؤديةً إلى تفجُرّاتٍ كبيرةٍ في الحماس الديني. وحسب بيرغر فإنّ بإمكان المؤسسات المعرفيّة الدينية أن تلعب أدواراً اجتماعيةً أو سياسيةً حتى لو كان عدد الناس المؤمنين أو الممارسين للدين الذي تمثله قليلاً جدّاً. وهو ما يفضي إلى الاستنتاج بأن علاقة الدين بالحداثة هي علاقةٌ معقدةٌ[1].

أزمة الإنسيّة في الواقع، تتصل بالتقنية الحديثة، لأنها ترتبط ببلوغ الميتافيزيقا أوجها ونهايتها كما يقرر هايدغر. والحديث في أيامنا عن أزمة الإنسيّة يرتبط تحديداً بالتقنية، فالمناخ النقدي الذي تميزت به الفلسفة الأوروبية وثقافتها في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، لا ترى في أزمة الإنسيّة سوى مسار انحطاطٍ عمليٍّ لقيمةٍ، هي الإنسانية، التي تبقى محددة، نظرياً، بالملامح نفسها التي اتسمت بها في التقليد. وعبّرت عنها المناقشات التي دارت بين التاسع عشر والعشرين حول التمييز بين «علوم الطبيعة» و«علوم الروح».

(96)

هذا الجانب اهتم به ادموند هوسرل في عرضه لأزمة الإنسيّة: ترتبط أزمة الإنسيّة هنا بضياع الذاتية الإنسانية في آليات الموضوعية العلمية ومن ثم التكنولوجية، ولن يكون الخروج من الأزمة العامة للحضارة التي تطورت على هذا النحو إلا من خلال استعادة وظيفة الذات المركزية، التي لا تساورها، في العمق، شكوك حول حقيقة طبيعتها، المهددة خارجياً فقط من مجموعة آليات أطلقتها هي نفسها، غير أنها تستطيع الاستحواذ عليها مجدداً. لا شك في أن إطلاق آليات نزع الإنسانية تلك قد يشير إلى أن شيئاً ما لا يعمل في بنية الذات عينها. فالفينومينولوجيا اللاحقة، خصوصاً الفرنسية، شددت في الإرث الهوسرلي، على مواقف تبدو أنها تتملص من الطرح الإنسي هذا، لأنها متنبهةٌ أولاً إلى إعادة بناء علاقة الفكر، على نحوٍ غير إيديولوجيٍّ، بالإدراك، بالجسدية، بالحياة الانفعالية؛ لكنه يصعب القول إلى أيّ حدٍّ يتفلت موضوع الفينومينولوجيا «الطبيعي» من أفقٍ إنسيٍّ، خصوصاً إذا كان صحيحاً أن ما يتم البحث عنه، من خلال استدعاء هذه الأبعاد التي «أزالتها» تقليدياً الفلسفة الميتافيزيقية الطابع، هو إعادة تكوين إنسانيّة (Humanitas) أكمل، سيادةٌ أوسع وأضمن للوعي الذاتي الذي، من خلال وعي تام لجميع أبعاده، يقيم دائماً وبشكلٍ أمتن «عند ذاته» – حسب معنى للفينومينولوجيا ينتهي بالعودة إلى هيغل[1].

(97)

أما الفرضية القائلة بأن الحداثة تؤدي بالضرورة إلى تراجع دور الدين فهي فرضيةٌ «خالية من القيم» من حيث المبدأ كما يقرر بيرغر. فلقد مال معظم مفكري عصر التنوير، ومعظم الناس ذوي العقلية التقدمية إلى فكرة أن التحول إلى العلمنة (Securalization) أمرٌ جيدٌ بما أنه يتخلص من الظواهر الدينية «المتخلفة» و«الخرافية» و«الرجعية» ـ ولكن المتدينين بما في ذلك الذين يحملون أفكاراً تقليدية أو متشددة للغاية أكدوا أيضاً على وجود هذه الرابطة بين الحداثة والعلمانية (noderity securality) مع أنهم اعترضوا عليها أشد الاعتراض. من بعد ذلك ارتأى بعض أولئك الأخيرين أن الحداثة هي العدو الذي تجب محاربته عند كل فرصةٍ ممكنةٍ، بينما تعامل غيرهم مع الحداثة على العكس تماماً رائياً فيها وجهة نظرٍ نحو العالم لا تقهر، وما على المعتقدات والممارسات الدينية إلا أن تتكيف معها. أو بكلماتٍ أخرى كانت الاستراتيجيتان المفتوحتان أمام المجتمعات الدينية في عالم يعتبر علمانيّاً هما: الرفض أو التكيف. وكما هو الحال في مجمل الاستراتيجيات المبنية على إدراكٍ خاطئٍ للمحيط الاجتماعي والسياسي، فقد كان للاستراتيجيتين اللتين لا بد من الأخذ بإحداهما نتائج تثير الشك في صحة توجههما:

الأولى، هي الثورة الدينية التي تحاول فيها حركة دينية السيطرة على المجتمع ككل، وجعل نظرتها الدينية المعادية للحداثة واجبة على الجميع ـ وهو مشروعٌ صعبٌ في معظم بلدان عالمنا المعاصر. أما صعوبة مثل هذا المشروع فتعود بالدرجة الأولى إلى الحداثة التي تؤدي إلى نشأة مجتمعاتٍ غير متجانسةٍ، وإلى حدوث قفزةٍ

(98)

كميةٍ في التواصل بين الثقافات. وهذان عاملان يفضلان التعددية، لا إنشاء (أو إعادة إنشاء) نوع من الاحتكار الديني[1].

أما الثانية، أو الطريقة الممكنة الأخرى لجعل الناس يرفضون الأفكار والقيم الحداثية فهي صنع ثقافات فرعية دينية مصممة، لإبقاء تأثيرات المجتمع الخارجي بعيدة. وهذه ممارسة تبشر بنتائج أفضل من الثورة الدينية ولكنها محفوفة بالمصاعب أيضاً. فالثقافة الحديثة قوة لا يستهان بها، ولذا يتطلب الحفاظ على هذه المجتمعات ضمن نظام دفاع شديد الإحكام، جهوداً هائلة. من المثير للاهتمام أيضاً، تبيُّن خطأ نظرية العلمنة (Securalization) من خلال نتائج استراتيجيات التكيّف التي اتبعتها المؤسسات الدينية؛ فلو كنا نعيش في عالمٍ علمانيٍّ حقاً لكنّا قادرين على أن نتوقع من المؤسسات الدينيّة أن تحافظ على بقائها بالدرجة الكافية حتى تتمكن من التكيّف مع العلمانية (Securality). وقد كانت هذه هي الفرضية التجريبية لاستراتيجيات التكيَّف. إن ما حصل بالفعل هو أن المجتمعات الدينية بشكلٍ عامٍّ استمرت في الوجود، بل ازدهرت إلى درجة لم تعد تجد نفسها مضطرة إلى التكيّف مع متطلبات العالم العلماني المزعومة. وحتى نعبر عن هذه النقطة ببساطة نقول: لقد فشلت على الإجمال التجارب مع الدين المُعَلْمَن، بينما نجحت حركاتٌ دينيةٌ مشبعةٌ بعقائد وممارساتٍ ميتافيزيقيةٍ «رجعية» لدرجة أكبر مما قد يحتمله أساتذتنا الجامعيون من الذين ذكرناهم من قبل[2]!

(99)

استثناءات لفرضية زوال العلمنة

يرى بيرغر أن: «العالم اليوم متدين بشكل هائل، وهو أبعد ما يكون عن العالم العلماني الذي تكهن الكثير من محللي الحداثة بحصوله (سواءً أكان ذلك بسعادة أم بإحباط). لكن يوجد استثناءان لهذه الفرضية إحداهما ليس واضحاً تمام الوضوح، والثاني واضح للغاية[1].

- الاستثناء الأول الواضح هو أوروبا، أو بشكلٍ أدق غرب أوروبا، أو ما كان يعرف بالستار الحديدي (مع أن التطورات الدينية في البلدان الشيوعية سابقاً أمر لا يزال ينقصه الكثير من البحث وبالتالي لا يزال غير واضح). إذا كانت نظرية العلمنة القديمة قد تزعزعت في أماكن أخرى في العالم، فهي لا تزال راسخةً في أوروبا الغربية. ومع ازدياد التحديث كان هناك ازديادٌ في مؤشرات العلمنة سواءً على مستوى المعتقدات كما يعبر عنها الأفراد (خاصة في ما يمكن أن تسمى المعتقدات الأصولية البروتستانتية أو الكاثوليكية) وبشكلٍ دراماتيكيٍّ على المستوى المتعلق بالكنيسة –حضور الطقوس التعبدية والالتزام بالسلوكيات التي تمليها الكنيسة (خاصة في ما يتعلق بالأمور الجنسية والإنجاب والزواج)، وأعداد الناس الراغبين في دخول سلك الكهنوت. لقد رصدت هذه الظواهر في بلدان شمال أوروبا منذ زمنٍ بعيدٍ، ولكنها عمَّت حتى في بلدان الجنوب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ وهكذا نرى أن إيطاليا وإسبانيا مثلاً قد مرَّتا بتراجعٍ كبيرٍ في الدين المرتبط بالكنيسة؛ كذلك

(100)

الحال في اليونان –وهو أمرٌ يدحض حجة المحافظين الكاثوليكيين القائلين بأن تنازلات مجمع الفاتيكان الثاني هي التي أدت إلى هذا التراجع. توجد الآن ثقافةٌ علمانيةٌ أوروبيةٌ هائلة الحجم والانتشار، ويمكننا وصف ما حصل في دول الجنوب (ولكن لا يمكن تفسيره) على أنه غزو هذه الثقافة لهذه البلدان، وليس من ضرب الخيال أن نتصور أن تطورات مماثلة ستحصل في أوروبا الشرقية بحسب الدرجة التي تندمج فيها هذه البلدان مع أوروبا الجديدة[1].

رغم أنه لا يوجد جدلٌ حول صحة هذه الحقائق، إلا أن عدداً من الأبحاث الصادرة مؤخراً في مجال علم الاجتماع الديني وخاصة في فرنسا وبريطانيا وإسكندنافيا، عادت لتتساءل حول صحة تطبيق مصطلح «العلمنة» على هذه التطورات؛ إذ إن مجموعةً كبيرةً من البيانات تدل على استمرار وجود الدين وبقوة في أشكال معظمها مسيحية رغم بعد الناس العام على الارتباط بالكنائس المنظمة؛ فإذاً الوصف الأدق لما يحصل في أوروبا هو أنه تحولٌ في موقع الدين المؤسساتي وليس تحولاً كاملاً إلى العلمانية. بالرغم من كل ما قيل تظل أوروبا متميزةً عن أي مكانٍ آخر في العالم، وبكل تأكيد عن الولايات المتحدة الأميركية، وتظل إحدى أكثر أحاجي علم الاجتماع الدين إثارةً للاهتمام هو معرفة سبب كون الأميركيين إجمالاً أكثر تديناً وأشد حرصاً بكثير على المؤسسات الكنسية من الأوروبيين.

الاستثناء الثاني لقاعدة زوال العلمنة هو أقل غموضاً؛ إذ توجد

(101)

شبكة ثقافة فرعية دولية من أناس تلقوا تعليماً غربي السمة خاصة في مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وهي شبكةٌ علمانيةٌ بالفعل. هذه الشبكة هي نفسها شبكة الثقافة الفرعية والحامل الأساسي للمعتقدات والقيم التقدمية التنويرية. وعلى الرغم من أن عدد المنتمين إلى هذه الشبكة قليل على الأرض، إلا أن تأثيرهم يبدو كبيراً جداً نظراً لسيطرتهم على المؤسسات التي تقدم التعريفات «الرسمية» للحقيقة، خاصة في النظام التعليمي ووسائل الإعلام الجماهيري وبعض أعلى طبقات النظام القانوني. من المثير للدهشة التشابه الكبير بين الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الشبكة في شتى أنحاء العالم. مع أن هذه «الثقافة الفرعية» شهدت من تخلى عنها خاصة في العالم الإسلامي. يقول بيرغر أخيراً: «مرة أخرى وللأسف لا يمكنني التكهن بسبب كون أناس من هذا النوع معرضين لهذه الدرجة للعلمنة. إلا أن ما يمكنني الإشارة إليه هو أن ما لدينا هنا هو ثقافة نخبة عالمية».

(102)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

مكانة الدين

في تظهير نظريّة (ما بعد العلمانيّة)

(103)

* مهمة هذا الفصل معاينة التحولات المعرفية التي تشهدها المجتمعات الغربية المعاصرة لجهة عودة سؤال الدين ليتخذ مساره المستأنف في ما نسميه زمن الحداثة الفائضة[1]. وما من ريب في أن معاينة كهذه ترتِّب متاخمة نظريات العلمنة بطوريها الما قبلي والما بعدي في صلتها بالحالة الدينية في الغرب. فلقد ظهرت العلمنة كحاصل احتدامٍ مريرٍ مع المسألة الدينية. وتبعاً لهذا الحال، ما كان لينفسح الضباب عن ماهية العلمانية، بمنأى من هذه المسألة. بل ثمة من يمضي إلى مطارح أبعد ليبيِّن أن العلمنة الغربية ولدت من الرحم الحار للديانتين اليهودية والمسيحية؛ ولهذا لم يستطع نظّار العلمانية ومفكروها أن يعربوا عن منجزهم المعرفي على نحوٍ بيِّن، إلا ضمن حكايةٍ كان للديانتين المذكورتين مكانة محوريّة في نسج خيوطها.

يفترض بحثنا في سياق اشتغاله على إشكاليّة رجوع الديني إلى محراب الغرب أن العقل الذي ابتنت عليه الحداثة منجزاتها الكبرى ما عاد قادراً وبأدواته المعرفية المألوفة، على مواجهة عالم ممتلئ بالخشية واللاّيقين. كذلك ما عادت العلمنة التي «قدَّست» مسالكها

(104)

وقيمها بقادرة على مواصلة مشروعها التاريخي إلا عبر استئناف المناظرة مع النمو المتعاظم لسؤال الدين.

حاصل هذه الفرضية المركبة، نشوء مطارح تفكيرٍ مستحدثةٍ لا تكتفي بنقد الأنوار على ما فعل إيمانويل كانط، وإنما انصرفت إلى نقدٍ جذريٍّ عميقٍ لمجمل الموروث الميتافيزيقي الذي قامت عليه الحداثة منذ أفلاطون وإلى يومنا هذا. حتى ليجوز القول أن اللحظة التي انعطف فيها العالم نحو القرن الحادي والعشرين هي لحظةٌ توفرت على تربةٍ خصبةٍ لاستنبات مراجعاتٍ جذريةٍ مع حداثاتٍ فاضت عن حاجتها، وجاوزت مبادئها الأولى.

من هذه المقدمات الإجمالية يصير الحديث من أطروحة ما بعد العلمانية سارياً في قلب حركة الحداثة المعاصرة والمآلات التي تنتظرها.

1 -حاضرية الدين في الزمن الما بعد علماني

مرَّ تاريخٌ كاملٌ استحلَّت فيه عبارةُ «إزالة السحر عن العالم» (désenchantement) عقلَ الحداثة الغربية برمته. كان الدين على وجه الحصر هو المقصود من العبارة التي تحولت مع تقادم الزمن إلى ما يشبه الأيقونة الإيديولوجية. وفي خلال قرونٍ متواترةٍ من اختبارات الحداثة لم يفارق الدين - بجناحيه اللاهوتي المؤسسي أو الإيماني الفردي- التساؤل الذي يسري بخفر في حقول التفكير. وإذا كانت أيقونة «إزالة السحر» قد آلت إلى مخزن الذاكرة الغربية، فإنّ آثارها وتداعياتها لا تزال محايثةً للفضاء النخبوي العربي الإسلامي

(105)

عبر استظهاراتٍ شتّى. تارة بالدعوة إلى الإصلاح الديني، وطوراً بفصل الدين عن الدولة، وثالثة عبر التنظير إلى العلمنة الشاملة والتحديث وتوطين التقنية.

سوى أن منقلباً في عالم المفاهيم سيقيم الجدل حول العلمنة والدين على منشأ آخر. فلم يكد القرن العشرون يطوي سجله المكتظَّ بالأفكار والأحداث والحروب الكبرى، حتى قَفَل الغرب عائداً إلى أسئلةٍ بَدئيةٍ كان طواها سحر الحداثة وضجيجها. من أظهر تلك الأسئلة، ما عكسته مناخات الجدل المستحدث في ما أسموه «رجوع الدينيّ» ليتبوَّأ مكانته في فضاءات التفكير الغربي. وعلى غالب التقدير فقد بدا الكلام على حضور المسألة الدينية في ثقافة الغرب المثقلة بعَلمانيتها الحادة قضية معرفية وحضارية تحظى بعنايةٍ وازنةٍ. لكن هذا السؤال لم يفارق أرض الحداثة سحابة القرون الخمسة من عمرها المديد. كذلك لم يغادر الدينيُّ هواجس الغرب وتعقُّلاته، لا في حداثته الأولى، ولا في أطواره ما بعد حداثية. كأنما قدرٌ قضى أن يظلّ الدين باعث الحراك في الفلسفة والفكر والثقافة والاجتماع.. حتى لقد بدا أشبه بمرآة صقيلةٍ يَظهر على صفحتها الملساء حُسنُ الحداثة المزعوم. فالدين ـ على ما يبين فلاسفة التنويرـ لم يكُف عن كونه وظيفة أبدية للروح الإنساني. لهذا راحوا يُنبِّهون إلى ضرورة ألاَّ تتنازل الفلسفة يوماً عن حقّها في بحث المشكلات الدينية الأساسية وحلِّها. هكذا سيرى فيلسوف الدين الروسي نيقولا برديائيف، ثم يمضي ليبيِّن أن لليقظات الفلسفية

(106)

دائماً مصدراً دينيّاً[1]. ولقد نال من كلامه هذا الكثير من النعوت المذمومة ممن جايَلَهم من علماء الماركسية وفلاسفتها. لكنه رغم سَيْلِ الانتقادات التي انهمرت عليه، ظل على قناعته بأن جهلاً مطبقاً ضرب العقل الأوروبي حيال الدين. كان برديائيف يدعو على الدوام إلى التبصر بالإيمان الديني بما هو حالة فوق تاريخية، ولا يستطيع العقل العلماني أن يقاربها بيسر. بل إنّه سيمضي في مطارح كثيرةٍ من مساجلاته إلى ما هو أبعد من ذلك. فقد أعرب عن اعتقاده بأن الفلسفة الحديثة عموماً، والألمانية خصوصاً، هي أشدّ مسيحيّةً في جوهرها من فلسفة العصر الوسيط. حيث نفذت المسيحية ـ برأيه ـ إلى ماهية الفكر نفسه ابتداءً من فجر عصور الحداثة.

لم تكن التنظيرات التي استهدفت تظهير الدين كحاضرٍ أصيلٍ في التاريخ سوى أحد تعبيرات الملحمة النقدية التي واجهتها الحداثة تلقاء موقفها من الإيمان الديني. صحيح أنّ العلمنة الحديثة لم تقدر على استئصال البعد الروحاني للإنسان، لكنها تمكنت -نظير ذلك- من استنزاله إلى أدنى مراتب الاهتمام الأخلاقي. وما ذاك إلا لشغفها بليبرالية المجتمع المفتوح، واستغراقها في تعظيم الذات الفردية، وسعيها إلى الاستقلال المفرط عن أي معيارية أخلاقية تنظم الاجتماع البشري على مبدإ الرحمانية والعدل. أما النتيجة التي أدّت إليها أفعال العلمنة، فكانت فقدان العقل دوره في تحكيم الجدالات الأخلاقية، وعدم قبول أي شيء معياري خارج التحكيم الشخصي.

(107)

وهذا هو الحال الذي يصفه الفيلسوف الكندي المعاصر تشارلز تايلور[1] بـ «إيديولوجية انشراح الذات» (épannouissement de soi) الشديدة القوة في الثقافة الغربية الحديثة. وللبيان فإن هذه الإيديولوجية التي استمدت قوتها من عصر الأنوار وآمنت بمحورية الإنسان في الكون، سوف تتمدّد في التاريخ لتصير الفردانية معها عقيدةً صمَّاء لحداثةٍ فالتةٍ من عقالها.

فالفردانية (INDIVIDUALISME) -في ثقافة الحداثة- تعني – كما هو شائع عنها - إنكار أي مبدأ يعلو على القيم الفردية (individualite)، ولذا فلن يعود مستغرباً ذاك المشهد الذي تختزل فيه الحضارة الغربية في مجالاتها كلها، بالعناصر الإنسانية المحضة. ولأن الفردانية امتدادٌ للمفاهيم السابقة عليها، فهي أيضاً تدل في جوهرها على الشيء نفسه الذي كانت تدل عليه، كلمة «إنسانوية» (humanism)  في عصر النهضة، وهو ما يسميه المفكر الفرنسي رينيه غينون بـ»وجهة النظر الدنيوية» التي أسست برأيه، للانحطاط الراهن للغرب. يذهب غينون إلى أن الإنسانوية والفردانية نزعتان شكلتا محرك التطور الحصري للإمكانيات السفلى للإنسانية، والتي لا يتطلب توسعهما تدخل أي عنصرٍ فوق بشري؛ لأنهما يتموضعان على الطرف النقيض لأي روحانيةٍ وأي عقلانيةٍ حقيقيةٍ. فإنها في مرتكزها الميتافيزيقي تنكر الحدس العقلي، لكون هذا الأخير ملكة فوق – فردية. (supra-individuelle)، يضاف إلى ما تقدم

(108)

إنكارها مرتبة المعرفة التي هي المجال الخاص بهذا الحدس، أي الميتافيزيقا بمعناها الحقيقي. لذلك، فإن كل ما يقصده الفلاسفة المُحدَثون بهذه التسمية نفسها «للميتافيزيقا»، ليس بينه وبين الميتافيزيقا الحقيقية أي قاسمٍ مشتركٍ، بل هي مجرد بناءاتٍ عقليةٍ أو فرضياتٍ خياليةٍ، وبالتالي، تصورات فردية محضة، ويتعلق أغلبها، بكل بساطة، بالمجال الفيزيائي الطبيعي للحياة البشرية[1].

لم تلبث العلمانية – وهي على هذه الحال - حتى تحولت إلى «لاهوت أرضي» أو على الأبين، أيديولوجيا تلهم الدولة والمجتمع والمؤسسات. من أجل هذا لم تستطع مجتمعات الحداثة أن تجد ما يطمْئنها إلى علمنة تحولت في قليلٍ من الوقت إلى سلطةٍ لاهوتيّةٍ قهريّةٍ تصدر أحكامها بلا هوادة. حتى إذا آنت ثورة النقد تهافت يقينها، وآل كلّ شيءٍ لديها إلى حضرة الشك. حتى قال الذين اكتووا برمضاء الخيبة: «علمانية التنوير ماتت، الماركسية ماتت، وكذلك حركة الطبقة العاملة. وأما المثقف فقد بات لا يشعر بأنّه على ما يرام أو أنه أوشك على الموت». تبدو الصورة على أتمِّها حين تُنقد العلمنة من أهلها. ولسوف نجد أنّ فلاسفة التنوير المستحدث هم أول من افتتح مغامرة النقد ونزع الغطاء عن معايب الحداثة ومعاثرها.

فرويد سينبَّه إلى هذه العقدة وهو يستطلع اللوحة السايكولوجية الأخلاقية للغرب إثر الحرب العالمية الأولى ورأى أنّ «المسألة ليست في أنّنا سقطنا إلى أدنى المستويات (عبر قتل بعضنا البعض)،

(109)

بل إنّنا لم نرتقِ إلى المستوى الذي كنا نظن». من بعد ذلك تمدَّدَ الزمن ليظهرَ عالمٌ جيوسياسيٌّ ثقافيٌّ جديدٌ أمام الملأ. تحت ظلّ هذا العالم الجديد ما عاد بمقدور التسمية القديمة للغرب أن تلبي تعريفه البدئي عن نفسه. فقد ذوى التنوير تحت سطوة التمدّد الكولونيالي. انتهى حادث الأنوار إلى حداثةٍ مكتظةٍ بالعيوب، غاب مع الحداثة الفائضة عن مرآة الفكر والقلب.

مارتن هايدغر سيمضي إلى حيث لم يقدر عليه الأولون من قبله. عنده الحداثة لم تفلح في إنتاج ما يتجاوز ميتافيزيقا الإغريق، وأن اليونان مذ حدَّدوا الخطوط الأساسية لفهم الوجود، لم تتحقق خطوةٌ جديدةٌ من خارج الفضاء الذي ولجوه للمرة الأولى. وعلى غالب الظن لم يكن هايدغر لينحو هذا النحو، لولا أن بلغ نقده للحداثة حدّاً بات معه على درايةٍ بما انتهى إليه مشروعها من صدوع لا ينفع معها نقدٌ ذاتيٌّ، أو تبريرٌ إيديولوجيٌّ. سيذهب هايدغر أبعد من هذا ليحكم على ميتافيزيقا الحداثة بعدم قدرتها على إحداث تغييرٍ مباشرٍ لحالة العالم الراهنة. وهذا – برأيه - لا يصدق على الفلسفة فحسب، بل على كل المحاولات والتأملات الإنسانية. الأمر الذي حدا به في سنواته الأخيرة إلى القول «بأن الله وحده ما زال بإمكانه إنقاذنا». ويضيف: أعتقد أن الإمكانية الأولى الباقية للخلاص هي التحضير للجهوزية، أي التفكير من أجل ظهور الإله. فنحن ببساطةٍ لا نموت ميتات بلا معنى، لكننا عندما ننحدر فإننا ننحدر بسببٍ من غياب الإله»[1].

(110)

   سوف ينطلق هايدغر ليتواجه مع السؤال الأكثر بداهةً وحضوراً وبساطةً والأعمق غوراً في الآن عينه: «لماذا كان وجود الموجودات بدلاً من العدم؟»..  إنه سؤال الأسئلة كلها كما سمَّاه. وهو سؤالٌ يمرّ عبر الفضاء اللاهوتي ليصل إلى جوهر الإيمان بالخلاص الإلهي.

من أجل ذلك دعا إلى التهيؤ لتحصيل النشاط العقلي الكافي من أجل تحويل السؤال كله إلى نقطة الارتكاز التي ابتدأ بها، وهي «اللماذا». تلك الكلمة الدهريّة المسكونة بظمأٍ آدميٍّ إلى الحقيقة المتوازية خلف الانسحار بالحداثة وتقنياتها. راهن هايدغر على كلمة «لماذا» لتؤدي مهمّة لا يقدر عليها أحدٌ سواها. إذ من خلال أداء هذه المهمة يتم اكتشاف كيف أنّ هذا السؤال المميز يمتلك أساسه في ما يُسمّى «النقلة المفاجئة». حين يتوغل المرء بعيداً في تفاصيل الأحكام المسبقة لحياته سواءً أكانت حقيقيّةً أم متخيَّلةً.

ما كان هايدغر وهو ينقد الميتافيزيقيا الحديثة وينعتها بـ «نسيان الوجود» بغافلٍ عما اقترفته العلمنة حيال البعد المتعالي في الكائن الإنساني. فإذا كانت مهمة هايدغر الأولى مجاوزة الميتافيزيقا بداعي انئخاذها بالموجود، وغفلتها عن الحقيقة الأصلية لوجوده، فمثل هذه المهمة لا تلبث حتى تتضاعف تحيُّراً حين تعلم أن تلك «الغافلة عن أصلها» أي الحداثة المغمورة بعلمانيتها الصماء لمَّا تزل تحتل مساحة العالم وتقرّر مصائر أهله. ذاك أن نقد الميتافيزيقا الكلاسيكية والدعوة إلى مجاوزتها نحو المتسامي، كان يتم بصوتٍ خفيضٍ أمام ضوضاء التقنية وسيطرتها المطلقة. يعلن عن نفسه عبر استشعاره للخطر. وهذا الإنسان هو نفسه الذي سيطلق عليه هايدغر

(111)

اسم «الدازاين» أو«الكائن الإنساني الباحث عن سر حضوره في العالم». وهو ما حاول هايدغر التفكير فيه تفكيراً خاصاً عبر ما سمَّاه (الإيرأيغنيس Ereignis). أو «الانبثاق الكبير»...

في «الكينونة والزمان» أشار هايدغر إلى الغفلة التامة عن الوجود، ولاحظ أن الإنسان يغفل عن وجوده لأنه ينظر دائماً إلى الموجود. وللوصول إلى حقيقة الوجود لا بد من الخروج من الدائرة الموجودانية والتعالي عنها. إلا أن هذا التعالي لا يبدو أنه يتحقق إلا على أساس الرهبة والحيرة: في الرهبة يخرج الإنسان من الغفلة عن وجوده، وفي الحيرة يبدأ التفكُّر. وبين هاتين الحالتين تناظر وتشابه وامتداد، لكن الفرق بينهما أن العدم سبب الرهبة، والوجود أساس الحيرة... وبناء عليه، فالرهبة وحدها التي تجعل الإنسان ينعتق من إسار الموجودات... ومتى تكشَّف لنا فقر الموجودات استيقظنا من غمِّ العدميّة، ثم لا نلبث حتى نقع مجدداً في الحيرة، التي بفضلها وحدها؛ وبعد انكشاف العدم، ينطلق لساننا بالسؤال «لماذا»[1]...

لقد أوشك هايدغر وهو يجوب النقد الأنطولوجي لفينومينولوجيا العلمنة، أن يتعرض إلى الحادث العرفاني. إذ بعدما أرهقته مشقة السؤال حول حقيقة الكينونة بدا كما لو أنه يستعد لسفرٍ تعرُّفيٍّ لم يألفه من قبل. سفرٌ هو أقرب إلى هجرةٍ لا تقبل العودة إلى الوراء، وغايتها الوصول إلى فكرٍ يتعدى السؤال عن الأشياء التي يدركها

(112)

العقل الأداتي. لقد قصد هايدغر ما يدعو فكر الفكر الذي جعله أرسطو فكراً خاصاً بالله. والذي يقود إلى الأصل.. إلى الشيء الذي هو محطُّ السؤال. ربما هذا الذي حدا به أن يعلن عام 1973 أنه مستمرٌ في تعريف فكره بأنه «فينومينولوجيا ما لا يظهر». أي الفكر الذي يحيل دائماً إلى عمليّة الظهور، وإلى الانوِهاب التي يتلقاها الإنسان في الحضرة الإلهية. ولو أنّنا تأوَّلنا التعريف المنصرم، لتناهى إلينا صدى الحادث الانبثاقي الموعود الذي ينتظره هايدغر. في مفهوم «الإرأيغنيس» (Ereignis) الذي سيوظفه هايدغر في انتقالاته المفارقة، ما يفصح عن دخوله في التحدِّي الأعظم: السفر بسؤال حقيقة الوجود ومعه إلى آخره، مع ما يترتب على ذلك من هجران ما اقترفته ميتافيزيقا الكثرة من نسيانٍ وغفلةٍ وحجب. ربما توخّى هايدغر من هذا المفهوم المنحوت ببراعة أن يقارب من خلاله الدفق الإلهي على الكائن، بخاصة حين يكون هذا الكائن في ذروة انجذابه إلى الغيب. «الإرأيغنيس» كما انتسجه هايدغر هو الحادث السرّي الخاطف الذي تُقبِلُ فيه الكينونة بطهارتها وقدسيتها على الإنسان، ولا غاية لها سوى الإنفاق بلا حساب[1].

من طرفه سيمضي الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1926-1984) إلى التساؤل عما إذا كانت الحداثة لا تزال تشكل امتداداً لعصر الأنوار، أو أنها أحدثت قطيعة أو انحرافاً عن المبادئ الأساسية للقرن الثامن عشر. وبشيءٍ من المرارة، والسخرية يضيف:

(113)

«لا أعرف إن كنّا سنصبح راشدين ذات يوم.. أشياء كثيرة في تجربتنا تؤكِّد لنا أن حادث «الأنوار» لم يجعل منّا راشدين، وأننا لم نصبح كذلك بعد»[1]... وما من ريبٍ أن منشأ كلام فوكو مردُّه إلى استشعارٍ عميقٍ للمآل الذي بلغته مسارات الحداثة، وبما ينبئ عن تهافتٍ أخلاقيٍّ بيِّنٍ لقيم التنوير ومبادئه الكبرى.

نقد الحداثة العلمانية الملحدة

في أحقابٍ متأخرةٍ، تطورت الموجة النقدية لتطاول قيم الحداثة ومعارفها على الجملة. من العلامات الفارقة التي ميّزت حركة النقد، الكلام على أنّ الثقافة العلمانية السائدة في الغرب تعرضت لهزّةٍ حاسمةٍ في «بنية المشاعر». ما يعني تضاؤل الثقة بالعلمنة كنمط عيش، أو كمنظومةٍ قادرةٍ على التعامل الإيجابي مع نمو الظاهرة الدينية. لقد حدث ضربٌ من تحوّلٍ دراميٍّ ليس فقط في المزاج العام لدى إنسان الزمن العلماني، وإنما أيضاً وأساساً في طرق إيمانه ومناهج تفكيره، ناهيك عن أنماط نشاطه العام في السياسة والاقتصاد والاجتماع والسلوك الفردي. أما في مقام التفكير الفلسفي جرت وقائع النقد على نحو شديد الوقع: إدانة عارمة للعقل المجرد، وكرهٍ عميقٍ لأيّ مشروعٍ يستهدف تحرير الإنسان. الماركسية والعلمانية الليبرالية اللتان حملتا مشاريع بديلةٍ للرأسمالية التقليدية لم تنجوا من سوط النقد. فقد انبرى كثيرون من صنّاع الثقافة الغربية المعاصرة إلى النظر إليهما بوصفهما فلسفتين رجعيتين فقدتا رونقهما وعفا

(114)

عليهما الزمن. ولا شك بأنّ حكماً كهذا مردُّه إلى الأزمة الأخلاقية التي وَسَمت علمنة عصر التنوير ولمّا تنته تداعياتها وآثارها في زمن الحداثة الفائضة. فإذا كان صحيحاً أن العصر المشار إليه قد أتاح للإنسان تحرير ذاته من تقاليد العصور الوسطى، إلا أنّ إصرار علمانيِّيه على إحلال «الذات الفردية محل المتعالي» سيقود إلى تناقضٍ ذاتيٍّ، حيث تُرك العقل مجرداً من الحقيقة الإلهية، ليتحول من ثمة إلى مجرد أداةٍ للتصنيع وإدارة السوق، ومن دون هدفٍ روحيٍّ أو أخلاقيٍّ. من هذه الزاوية على الوجه الأخص، لم يرَ جمع من فلاسفة ونقَّاد ما بعد الحداثة إلا أن علمانيةً بهذه الصفات، لا ترقى لتكون قيمةً أخلاقيةً متساميةً. ذاك على الرغم من أنّها شكلت في وجهٍ من وجوهها إحدى قيم العدالة لجهة دعوتها إلى حرية الاعتقاد ورعاية التنوع.

مع الظهورات الأولى للحداثة الفائضة (ختام القرن العشرين ومبتدأ القرن الحالي) سيأخذ النقاش حول الدين وحضوره في الزمن العالمي الجديد منفسحاتٍ غير متوقعةٍ. ولقد كان من البيِّن أن توضع نظريات العلمنة وتجاربها التاريخية في فضاء النقد تلقاء الكلام على الدين. ذلك ما يشير إليه المفكر الأميركي من أصلٍ إسبانيٍّ خوسيه كازانوفا حين يفتتح كتابه المعروف «الأديان العامة في العالم الحديث» بالتساؤل المثير عما إذا كان ثمة من يؤمن بعد بأسطورة العلمنة!؟.. كما يلفت كازانوفا إلى أن السجالات التي يشهدها علم اجتماع الدين في الآونة الأخيرة تدل على أن تساؤله ـ سالف الذكر ـ هو الأكثر ملاءمة لمباشرة أيّ نقاشٍ يجري حاليّاً حول

(115)

نظرية العلمنة. ولكن، رغم إصرار بعض من يسميهم بـ «المؤمنين القدامى» على أن نظرية العلمنة تتمتع حتى الساعة بقيمةٍ تأويليةٍ لدراسة السيرورات التاريخية الحديثة، فإن السواد الأعظم من علماء اجتماع الدين لن يعيروا هذا الرأي آذاناً صاغية، لأنهم تخلوا عن هذا النموذج، مثلما تبنّوه من قبل[1].

هكذا يعود السؤال في الغرب اليوم ليتجدد حول مآلات العلمنة، بما لها وما عليها. وهو سؤالٌ يبدأ من النقطة التي انتهى إليها وكان مسبوقاً بها. أي من المنطقة المعرفية التي وضعت فيها العلمانية على الطرف النقيض من القيم الدينية.

كان نيتشه - وهو يمضي في مسراه الانتقادي لحركة الحداثة يقول: «بالمعرفة الكاملة بالأصل يزداد الأصل تفاهة». ومراده في هذا أن الأصل عندما يصير معروفاً من خلال اختباراته العملية واعتلانه للملأ يقل سحره وتتلاشى جاذبيته. ربما لخصَّت هذه الحكمة النيتشوية حال العلمنة التي اختُبِرت فعُرِفَت ثم انكشف سَترُها بعدما بلغت غاياتها وانتهت إلى العدم.

امتداداً لتأويليّة نيتشه النقدية سوف تأتي سلالات الحداثة اللاحقة، بما لا حصر له من «نقود» تقيم الحد على الأصل رغم انتسابها إليه. فالمسيحية – على سبيل المثال - التي أخرجت الحداثة من كمونها وكانت إحدى أبرز ضحاياها في الآن عينه، ستعود لتحاكم الحداثة البَعدية بأسئلتها البَدئية. كما لو أنها تسائلها

(116)

أن كان بمقدورها الاستمرار في الحياة من دون العودة إلى الإيمان المسيحي، والاغتذاء من آفاقه الأنطولوجية المتعالية.

ومما له دلالة، أن الإيمان المسيحي لم يرَ إلى العلمنة كخصمٍ أنطولوجيٍّ ينبغي محاسبته عما اقترفت يداه بحق المؤسسة اللاهوتية، بل ذهبت إلى استيعابها وإجراء سلسلةٍ من الإصلاحات الجوهرية تتلاءم مع روح الحداثة.

ومن البيِّن، أنّ كل ما جاءت به الموجة الإلحادية الغربية من محاجَّات، فإنما من تضخم الذات التي أسلمت نفسها لعَلْمنةٍ دارت جلُّ أسئلتها مدار «الطبيعانيّة» الصمّاء. ولسوف يجد مثل هذا التضخم حقله الخصيب عند منعطفات الانزياح التام إلى العقل الخالص والعلم المكتفي بذاته. ها هنا سنشهد على الإلحاد كحادثٍ تاريخيٍّ تمثّل بـ: العِلموية والهيمنة.. وهما الفرضيتان اللتان لاَزَمتا حركة الحداثة الغربية سحابة سبعة قرونٍ متصلةٍ، ولا تزالان تستحكمان بمقالتها الفلسفية ومسلكها الحضاري إلى يومنا هذا:

- فَرضَية العِلْموية، ترى أنّ العلم والتفكير العلمي قادران لوحدهما أن يحدِّدا كلّ ما علينا أن نتقبله على أنّه حقيقيٌّ. فرضيةٌ تقرّر أنّ كلّ شيءٍ يجب أن يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، أو أيّ فرعٍ آخر من فروع العلم، أما الروحانيات وحتى الشعور بالجمال والحدس والعاطفة والأخلاقيات، فقد اختزلتها النظرة العقلانيّة إلى مجرد متغيراتٍ في كيمياء الدماغ تتفاعل مع مجموعةٍ من القوانين الميكرو ـ بيولوجية المرتبطة بتطوّر الإنسان.

(117)

نتصور نبؤاته عن الانحدارات المنتظرة التي ستصيب حداثة فقدت معناها ونزلت إلى العدم. لذا كان عليه أن يمضي إلى نقد الميتافيزيقا الناقصة إلى حد الإعلان عن موت الإله. وما ذاك الإعلان الذي ستوظفه العلمانية تضليلاً وبهتاناً لترسيخ الانفصال عن المتسامي في الشخصية الإنسانية. كان بالنسبة إلى نيتشه بحثاً عن هذا المتسامي نفسه. أي عن البعد الإلهي المغيَّب عن دنيا الحداثة.

- فرضيّة الهيمنة والاستحواذ، تقرّر أنّ الهدف من العلم – حسب فرانسيس بيكون - هو التحكم بالعالم الخارجي واستغلال الطبيعة، والسعي الحثيث إلى جلب المنافع أنَّى وُجِدَت...

كان التأثير الباهر للثورة الكوبرنيكية جلياً على مجالي العلم والفلسفة، إلا أنّ هذا التأثير سينتهي إلى حدٍّ وجد فيه الغرب نفسه كما لو يقطن في كونٍ باردٍ لا هدف له ولا غاية، وأن الوجود الإنساني فيه ليس إلا ظاهرةً عارضةً للمادة نتجت عن مصادفةٍ كونيةٍ، لا عن وجودٍ ينتظمه تقديرٌ إلهي. من أجل ذلك سيكشف مسار الحداثة الفائضة عن خرابٍ مبينٍ في اليقين الجمعي سيُعرِّفُهُ عالم الاجتماع الألماني دوركهايم بـ «هيكل الشرك الحديث». وهذا هو في الواقع، ما تستجليه عقيدة الفرد وشخصانيته المطلقة. فالشكل العبادي للشرك الحديث ـ كما ألمحَ دوركهايم ـ ليس الوثنية بل النرجسية البشرية، لمّا بلغ تضخم الذات لديها منزلة الذروة في زمن العلمنة المطلقة.. حتى لقد أمست عبادة الفرد إذّاك، دين الحداثة الفائضة وديدنها[1].

(118)

الإنسان بوصفه كائناً دينياً

جرى التأسيس الفلسفي لحضارة الفرد مجرى الحداثة بأطوارها المتعاقبة. ولنا ـ على سبيل التمثيل لا الحصر ـ أن نتأمل ما جاء في شهادات بعض النظّار من الذين انصرفوا إلى دحض النظام الرسمي للكنيسة والتنظير لـ «لدين الفرد»: «إن دين الإنسان لا يعرف الهياكل والمذابح والطقوس»(روسو)..، «أنا بحد ذاتي فرقة دينية»(توماس جيفرسون) «فكري هو كنيستي»(توماس باين).. مثل هذه الشهادات شكلت تعبيرات مقتضبة عمّا اصطلح على تسميته بـ «التديُّن الفردي». من هذا النحو إلى غيره من أنحاء، ستظهر معالم الأطروحة الإلحادية في تفكير الغرب الحديث. ومؤداها على الإجمال نسيان الله عن طريق حجب كل ما يتوارى خلف فيزياء الحواس الخمس. فالذي أنتجته «الحداثة العِلْمَوية»، في العلوم المختلفة لم يفعل سوى ان ضاعف من تشيوُّء الكائن الإنساني، وحَكَم ببطلان بعده الروحاني وأُفقِهِ الغيبي.

لقد ظهر في اختبارات الحداثة وامتداداتها المعاصرة أن ليس للمقدس لدى «العِلْموية» بصيغتها الإلحادية من محل. وهنا على وجه الضبط تكمن إحدى أهم خاصِّيات التهافت في الفكرة الإلحادية. نعني بذلك نظرها إلى الإنسان كشيءٍ زائلٍ ككلّ الموجودات الزائلة، حيث لا يعود المتعالي الإلهي بالنسبة إليها غير وهم محض.

كان عالم الأنتروبولوجيا ومؤرخ الأديان ميرسيا إلياد، ينفي أن

(119)

يكون المقدس مجرد مرحلةٍ من مراحل الوعي البشري، بل يعتبره عنصراً مكوِّناً لبنية هذا الوعي. وأكثر من هذا فإنه يعتبر وجود العالم كله حصيلة جدلية لتجليِّ المقدس وظهوره. وكان يلاحظ أن أقدم صورةٍ لعلاقة الإنسان بعالمه هي تلك العلاقة المشبعة بالمقدس الذي يفيض بمعانيه على كينونة الإنسان، وتكون ممارسته له في حد ذاته عملاً دينياً[1].

إن هذا التأصيل الجوهري لمكانة المقدس في الحياة البشرية، يفضي إلى حقيقة أن الإنسان ـ بوصفه إنساناً ـ هو كائنٌ دينيٌّ. والتنظير الفلسفي منذ بداياته الأولى كان ممتلئاً بسيلٍ وافرٍ من الدلالات والرموز والمعاني ذات المغزى الديني. وإذا كان الإنسان لا يستطيع العيش إلا في عالمٍ ذي معنى، فالإنسان المتدِّين على وجه الخصوص، هو الأكثر توقاً إلى العيش في محاريب القدسي، أو إلى الهجرة نحوها بلا كلل. وما ذاك إلا لأن هذا العالم المتسامي، الذي يستمد جاذبيته من الغيب، هو بالنسبة إلى المتديِّن عالمه الواقعي والحقيقي. وهو الذي يمنحه الأمل بالآتي، وبالسعادة التي ينتظرها وإن لم تأتِه بعد. ولأن المتديِّن لا يجد نفسه إلاّ في محل ممتلئ بجلال المقدس وجماله، فمن أجل أن يفتتح بهذه الإقامة “البرزخية” سبيلاً إلى السكن في عالم الألوهية الفائض باللطف والأمن ولذة القرب. أي إنّه يرجو الخاتمة في المكان الأعلى طهراً وتقدسُّاً، مثلما كان من قبل كائناً طهرانياً في علم الله وحضرته المقدسة[2].

(120)

قد يكون الادعاء الأكثر رواجاً في الاحتجاج الإلحادي، كامناً في شُبهة التناقض بين الإيمان والعقل. وهذا عين ما صوَّبت عليه العلمنة على مدار أزمنة الحداثة بغية إقصاء الدين، وإحلال التصوُّر العِلْمويِّ المحض كمعيارٍ نهائيٍّ لفهم الكون، إنساناً وطبيعةً.

 تلقاء هذه الشبهة يُطرح السؤال حول المعنى الذي تُستعمل فيه كلمة «عقل» حين تُواجَه بالإيمان؟ هل المقصود بها - كما هو الحال في الغالب اليوم - أن تُقال بمعنى المنهج العلمي والصرامة المنطقية والحساب التقني.. أم إنّها تُستعَمل، كما كان الحال في كثير من الحضارات البشرية ولا سيما الحضارة الغربية، بمعنى منبع المعنى والبنية والمعايير والمبادئ؟

جاءت أطروحة التناقض بين العقل والإيمان الديني كتمثيلٍ بيِّنٍ على مشروع التنوير الذي افتتحته الحداثة في مقتبل عمرها. وسيأتي من فضاء الغرب نفسه من يُساجل أهل الأطروحة ليُبيِّن أن الإيمان لو كان نقيضاً للعقل لكان يميل إلى نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان. فالإيمان الذي يدمِّر العقل يدمر في المقابل نفسه ويدمر إنسانية الإنسان. إذ لا يقدر سوى كائن يمتلك بنية العقل على أن يكون لديه هماً أقصى. أي أن يكون شغوفاً بالله والإنسان في آنٍ، وذلك إلى الدرجة التي يؤول به هذا الشغف إلى تخطي الثنائية السلبية التي تصنع القطيعة بين طرفيها. وحدُه من يمتلك ملكة «العقل الخلاَّق» ـ أي العقل الجامع بين الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية ـ هو الذي يفلح بفتح منفذٍ فسيحٍ يصل بين الواقع الفيزيائي للإنسان وحضـور المقـدس في حياته. وما نعنيــه بالعقل الخلاَّق هـو العقــل الذي

(121)

يشكل البنية المعنويــة للذهن والواقع، لا العقل بوصفه أداة تقنية بحتة. وبهذا المعنى يصير العقل شرطاً تأسيسياً للإيمان: ذلك لأن الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الإنجذابية إلى ما وراء ذاته. أي إلى ما بعد أنانيته التي يتجاوزها بالإيثار والعطاء والجود والغيرية. بتوضيح آخر، أن عقل الإنسان متناهٍ ومحدود، ويتحرك داخل علاقاتٍ متناهيةٍ ومحددةٍ حين يهتم بالعالم وبالإنسان نفسه. ولجميع الفعاليات الثقافية التي يتلقى فيها الإنسان عالمه هذه الخاصية في التناهي والمحدودية. لكن العقل ليس مقيداً بتناهيه، بل هو يعيه، وبهذا الوعي يرتفع فوقه وعندها يجرب الإنسان انتماءً إلى اللاَّمتناهي الذي هو مع ذلك ليس جزءاً منه ولا يقع في متناوله، ولكن لا بد له من الاستحواذ عليه. وحين يستحوذ على الإنسان يصير بالنسبة إليه هماً لا متناهياً أي مقدساً ونبيلاً. وحين يكون العقل ـ بهذه الصيرورة ـ مسلّمة للإيمان، يكون بهذا المعنى تحققاً للعقل. ومقام الإيمان بوصفه حالة هم أقصى هو نفسه مقام العقل في طور نشوته الانجذابية. والنتيجة أن لا تناقض بين طبيعة الإيمان وطبيعة العقل بل يقع كلٌّ منهما في داخل الآخر[1].

رجوع الديني.. تراجع العلماني

هل يعني عودة القضية الدينية إلى المجتمعات العالمية، والمجتمعات الغربية على وجه الخصوص، غياب العلمانية أو انكفاءها عن حضورها التاريخي؟

(122)

الجواب الابتدائي كما تشير إليه صورة النقاش بين النخب الغربية نفسها لا تقر بمثل هذه المعادلة. لذا ستأخذ حلقات التفكير مساراً آخر لا يقوم على قانون النفي والإثبات، وإنما على سعيٍ للعثور على منطقةٍ وسطى تؤسس لتسوية المشكلة.

لا ريب بأن «رجوع الديني»، هو عنوانٌ إشكاليٌّ سيكون له آثاره البيِّنة على المفاهيم والأفكار والقيم التي تجتاح المجتمعات الغربية اليوم. من بين تلك الآثار ما ينبري إلى تداوله جمعٌ من فلاسفة ومفكري الغرب سعياً للعثور على منظورٍ معرفيٍّ يُنهي الاختصام المديد بين الدين والعلمنة. والذي تسالَمَ عليه الجمعُ في ما عرف بنظرية «ما بعد العلمانية»، هو أحد أكثر النوافذ المقترحة حساسية في هذا الاتجاه. ما يعزز آمال القائلين بهذه النظرية أن أوروبا الغنية بالميراثين العلماني والديني قادرة على إبداع صيغة تناظر تجمع الميراثين معاً بعد فِرقة طال أمدها. ربما هذا هو السبب الذي لأجله ذهب بعض منظِّري «ما بعد العلمانية» ـ ومنهم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ـ إلى وجوب تخصيص إطارٍ مرجعيٍّ يحضن أهل الديانات وأتباع العلمنة سواءً بسواءٍ بغية العيش المتناغم في أوروبا تعددية.

شغف التساؤل حول صيرورة الاحتدام الديني العلماني ومآلاته، لم يتوقف عند هذا المفرق.. كان ثمة منحى آخر تترجمه المحاورات الهادئة بين اللاَّهوت والفلسفة. واللقاء المثير الذي جمع قبل بضعة أعوام اللاهوتي جوزيف رايستنغر (الذي سيصبح البابا بينيدكتوس السادس عشر) إلى الفيلسوف يورغن هابرماس[1]، شكَّل في العمق

(123)

أحد أبرز منعطفات التحاور الخلاّق بين الإيمان الديني والعلمنة في أوروبا. ومع أن اللقاء لم يسفر يومئذٍ عما يمكن اعتباره ميثاقاً أوليّاً للمصالحة بين التفكير اللاهوتي والتفكير العلماني، إلا أنه أطلق جدلاً قد لا ينتهي إلى مستقر في الأمد المنظور.

اللقاء الفريد بين الرجلين، ظَهَّرَ المسلَّمات التي ينبغي الأخذ بها لتحصين كرامة الإنسان في زمن بلغت فيه اختبارات الحداثة حدَّ التهافت. وجد هابرماس في العقل العملي لـ»الفكر ما بعد الميتافيزيقي العلماني» نافذة نجاة.. بينما وجده البابا بنيديكتوس في الإنسان كمخلوق إلهي. يومها اعترف هابرماس باستعداد الفلسفة التعلُّم من الدين. كان لسان حاله يقول: ما دام العقل لم يستطع القضاء على الوحي في فضاء علماني، فليهتم الفيلسوف بالإيمان عوض الاستمرار في الحرب معه. ثم أصرَّ على ضرورة أن توليَ الدولة المشرِّعة للقوانين كل الثقافات والتمثُّلات الدينية عنايتها، وأن تعترفَ لها بفضاء خاص في إطار ما سماه بالوعي «ما بعد العلمانيّ» للمجتمع. أما إجمالي ما ذهب إليه البابا فهو دعوته إلى تحصين الحضارة الغربية المعاصرة عبر خمس ركائز: التعاون بين العقل والإيمان ـ مواجهة التحديات الجديدة التي تواجه الإنسان ـ فكرة الحق الطبيعي كحق عقلي ـ  التعدد الثقافي كفضاء لارتباط العقل والإيمان ـ العقل والإيمان مدعوان لتنظيف وإشفاء بعضهما البعض[1]...

في ما يتعلّق بالنتائج العملية للمحاورة يعرب رايستنغر عن

(124)

تضامنه مع ما قاله هابرماس حول المجتمع ما بعد العلماني وخصوصاً في ما يتعلّق بالتعلّم المتبادل من بعضنا البعض. ثم يلخص وجهة نظره بأطروحتين:

الأولى- أنّ هناك نوعًا من المرض في الدين، وهو مرضٌ جدّ خطيرٍ، يدفع بالضرورة إلى استعمال الضوء الإلهي للعقل كهيئة مراقبة يتطهر على هذا الضوء باستمرار ويموضع نفسه في المكان المخصّص له، وقد كان هذا تصور آباء الكنيسة كذلك. في المقابل فإن العقل نفسه –حسب رايستنغر– مصاب بداء الغرور والاعتزاز بالنفس وهو لا يقل خطورة عن نظيره في الدين، بل يمكن اعتباره أخطر بكثير: السلاح النووي، صنع البشر. لهذا السبب يجب على العقل كذلك أن يقاد من جديد إلى حدوده ويكون مستعدًّا للإنصات اتّجاه الوحي الديني للإنسانية. وإذا استقل العقل نهائيًّا ورفض هذا الإنصات، فإنه يصبح هدّامًا[1].

الثانية- لا بدَّ من تطبيق هذه القاعدة الأساسية في ميدان تعدّد الثقافات في وقتنا الحاضر. ليس هناك شكّ في أن الشريكين الرئيسيين لهذه العلاقة المتبادلة هما الإيمان المسيحي والعقل الغربي العلماني. لا بدَّ للمرء أن يؤكّد على هذا دون نزعةٍ مركزيةٍ أوروبيةٍ. فكلاهما يؤثر في الثقافة العالمية أكثر من أي ثقافةٍ أخرى. لكن هذا لا يعني بأنه يجب على المرء أن يضع الثقافات الأخرى «ككمية غير نافعة» «quantité négligeable» جانبًا. سيكون هذا اعتزازٌ غربيٌّ بالنفس سندفع ثمنه غاليًا وندفع هذا الثمن الآن على كل حال. من الأهمية بمكان بالنسبة لهذين العنصرين للثقافة

(125)

الغربية الذهاب قدمًا في ما بينهما وفي علاقتهما بالثقافات الأخرى في طريق الإنصات المتبادل والعلاقة المتبادلة. ومن الأهمية بمكان كذلك توسيع هذه العلاقة الثنائية بين الدين والعقل في الغرب إلى علاقاتٍ متعدّدةٍ مع ثقافاتٍ أخرى متفتحةٍ على هذه العلاقة الثنائية بين العقل والدين في الغرب، وبهذا يكون من الممكن أن يقوم نوع من الصيرورة التطهيري الكوني، يمكن من خلاله للمعايير والقيم الغربية المعروفة من طرف الجميع أن تستمد قوةً جديدةً والوصول عن طريق هذا إلى قوةٍ إنسانيّةٍ جديدةٍ يمكنها أن توحّد العالم[1].

لو كان لنا من عبرةٍ تُستخلَصُ مما دار بين اللاهوتي والفيلسوف، لقلنا أن ما حصل هو أشبه بإجراءٍ ينبئ عن انصرام تاريخٍ غربيٍّ كاملٍ من الجدل المزمن حول «بِدعة» الاختصام بين الوحي والعقل. لكنّ هذا الفهم لعودة الدين في مجال العلوم الاجتماعية والسياسية المعاصرة، يبدو محدودًا جدًّا. وهو يترجم على الإجمال حالات تنتسب إلى «رجعيات علمانية» لم تستطع التكيّف مع التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع الغربي. فلقد تبيّن من معظم الدراسات الحديثة أن لا تعارض بين المسيحية الغربية والحداثة، بل يمكن القول أن المسيحيةَ جزءٌ من تراث الحداثة، وأن الحداثةَ وليدٌ شرعيٌّ للفلسفة المسيحية الحديثة. لذا يذهب التنظير «الما بعد علماني» إلى أن وضعية الدين في مجتمع «بعد علماني» ليس هو ذاته في مجتمع «قبل علماني». وعودة الدين ليست رجوعًا إلى شيءٍ كان من قبل، وإنما هو حضورٌ جديدٌ اتخذ سبيله إثر رحلةٍ

(126)

شاقةٍ ومديدةٍ بدأت مع الإصلاح البروتستانتي ولم تنته مع الانعطافة الكاثوليكية التي أجراها المجمع الفاتيكاني الثاني في ستينيات القرن الماضي[1].

المشكلة الحقيقية لمجتمعات ما بعد العلمانية لا تكمن في الفصل بين الدين والدولة، ولا في الثنائيات المتضادة بين المقرَّر اللاهوتي والقوانين الوضعية، بل في التعددية التي يعترف فيها الكل بحاضرية الكل. لهذا رأى المشتغلون على المصطلح أن الحديث عن ما بعد العلماني منطقيٌّ بقدر ما يُدخلُ في الحسبان موضوع التعددية، وعلى وجه التعيين، حضور الأديان الأخرى - الإسلام والأرثوذوكسية، واليهودية وغيرها ـ لتكون سواء بسواء ـ إلى جانب البروتستانتية والكاثوليكية... بهذا المعنى، تتغير أوروبا فعلاً: هنالك حضور كبير للإسلام، ومنذ سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية، صار أيضًا للمسيحية الأرثوذوكسية دور كبير. أما في الغرب الأوروبي فهناك تطوّر مطرد نحو قبول النظام التعددي.

5 - ما بعد العلمانية كنقدٍ للحداثة الفائضة

ضمن دائرة الجدل المستحدث حول العلمانية في الزمن ما بعد العلماني يميز علماء الاجتماع بين ثلاثة مفاهيم حول العلمانية:

الأول: العلمانية كحياد بالنسبة لجميع الأديان ووجهات النظر حول العالم.

الثاني: العلمانية كمنظور «علماني» بديل عن المعتقدات الدينية.

(127)

الثالث: العلمانية كنقد أو حتى معارضة ونقض للأديان.

إنّ معاينة هذه المفاهيم الثلاثة، والتمييز في ما بينها سوف يسهم في ضبط وتظهير السمات المميزة للمجتمعات ما بعد العلمانية.

لقد كان لنقد الدين في عصر التنوير ثلاثة أبعادٍ متمايزةٍ بوضوح: بعدٌ معرفيٌّ موجّهٌ ضدّ الأفكار السائدة الميتافيزيقية وفوق الطبيعية؛ وبعدٌ عمليٌّ – سياسيٌّ موجّهٌ ضدّ المؤسسات الكنسيّة؛ وبعدٌ ذاتيٌّ تعبيريٌّ – جمالي – أخلاقي موجهٌ ضدّ فكرة الله نفسها. وهذه الثلاثية النقدية شكلت الأركان الأساسية لنظرية المعرفة التي اعتمدها خطاب العلمنة حيال الدين سحابة قرون متعاقبة.

في زمن الحداثة الفائضة لم تتبدّد هذه الثلاثية، لكنها فقدت الكثير من جاذبيتها العلمية ووظائفها الأيديولوجية. الآن لم تعد نظرية كوبرنيكس ـ على سبيل المثال ـ ذات أثرٍ في مسيحيّة ما بعد الحداثة. مع ذلك فإن الصدام الحقيقي بين العلم والدين ما برح يكمن في مكانٍ آخر. ذلك أنّ المعتقدات الجزئيّة التي كان على الكنيسة التخلي عنها ليس منها ما هو ضروريٌّ للدين. بل إن ما هو ضروريٌّ هو موقفٌ معيّنٌ يطلق عليه فيلسوف الأخلاق الأميركي والتر ستيس (Waltter Stace) النظرة الدينية للعالم. ولقد عبرت هذه النظرة عن نفسها في العالم الغربي بثلاثة اعتقادات:

   -إن هناك موجوداً إلهياً خلق العالم.

   -إن هناك خطةً كونيةً أو غرضاً كونياً.

   -إن العالم يمثل نظاماً أخلاقياً.

(128)

هذه الاعتقادات - حسب ستيس - لا تتناقض مع المعتقدات الدينية: لا علم الفلك عند كوبرنيكس، ولا أيّ مكتشفاتٍ علميةٍ أخرى مبكرة، ولا حتى أيّ مكتشفاتٍ علميةٍ قد تظهر على شكل أعاجيب تدهش الألباب في المقبل المنظور وغير المنظور[1].

حتى أكثر الفلاسفة تشدداً في دنيويته كالفيلسوف الهولندي سبينوزا سيعود في لحظة صفاءٍ وتأملٍ إلى الإقرار بحقيقة التلازم بين الدنيا والدين. فلطالما خَبِرَ سبينوزا العالم كمقدس. كانت رؤيا الله ملازمة للواقع الدنيوي الذي مَلأهُ بالرهبةِ والعجب. وكان يحس أن الفلسفة والفكر هما شكلان من أشكال الصلاة.

أما فيلسوف التاريخ الإيطالي جانباتيستا فيكو (Giambattista Vico) (1668 -1744) الذي شكلت أفكاره حالة انعطافية في مسار الحداثة، فقد استشعر بكشوفاته المعمقَّة العالم الما بعد علماني منذ ثلاثة قرون خلت.

بدا فيكو ناقداً في الصميم للمنطق المادي المحض في استقراء العملية التاريخية. لقد حرص على التمييز بين شأن الخالق وشأن المخلوق، من دون ان يفصل بينهما فصلاً مطلقاً. كثيراً ما كان يؤكد على دور العناية الإلهية كحقيقة تاريخية. وعند هذه النقطة المفصلية بالذات سوف نراه يميز بين نوعين من الاعتناء الإلهي بالتاريخ البشري:

النوع الأول: العناية الإلهية المتعالية المباشرة التي عبرت عن نفسها في أعمال تاريخية خاصة وفريدة. مشيراً إلى ما قام به الأنبياء

(129)

والرسل حيث خصّهم الله بعطاءات وقدرات وأفعال لا تمنح لسواهم من البشر.

النوع الثاني:  العناية الإلهية الباطنية، أو تلك الكامنة في التاريخ التي تعمل وفق قوانين موحدة وتستخدم وسائل طبيعيةٍ وبسيطةٍ، مثل العادات البشرية نفسها وهي ما كانت تمتلكه كل الأمم[1].

لا تنأى فلسفة فيكو لجهة الاعتناء الإلهي بتاريخ الإنسان عما أخذت بها الفلسفة المسيحية عبر القديسين أوغسطين وتوما الأكويني في حديثهما عن المدائن الإلهية، حيث تتعايش فيها الكثرة والاختلاف على نصاب الانسجام والخيرية. ومثل هذه الرؤية سيكون لها الأثر اللاحق على ظهور رؤى جديدةٍ تمهد لـ»علمنة بَعدية» متحررةً من واحديتها، ومتجهةً نحو تعدديةٍ ينفسح فيها التلاقي بين البعدين المادي والمعنوي لحضور الإنسان في الكون.

وما من شك أنّ الشواهد المقتضبة التي مرّت، كانت حاضرةً في الولادات الأولى للحداثة. بل هي التي أسست لـ «المابعد» وإن احتجبت طويلاً في ردهة الانتظار. أما وقد برز الكلام على ما بعد العلمانية كسبيل لإخراج الحضارة الغربية من أسر الاختصام المديد بين الديني والدنيوي، فسنكون كمن يطل على بدء جديد أو التعرف على حقل ما بعد ـ ميتافيزيقي يتآخى فيه العقل والوحي لينتجا معاً حقائق واحدة. ذلك بأن العقل والوحي يؤديان الحقائق نفسها أنّى اختلفت تجليّاتها، وعلى هذا الأساس يصح القول أن الحقيقة لا تناقض الحقيقة.

(130)

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

ما بعد العلمانيّة

في مقام التجربة التاريخيّة

(131)

* في هذا الفصل سوف نقارب نظرية ما بعد العلمانية في إطار التجربة التاريخية في الغرب. ومن أجل تحديد حقل نموذجي للمقاربة سيجري التركيز على الحالة الأميركية تأسيساً على فَرَضية تقول أن النظرية «ما بعد العلمانية» من قبل أن تجد سبيلها إلى المداولة مع بدايات القرن الحادي والعشرين، كانت حاضرةً بالفعل في الولادة العسيرة والمعقدة لأميركا في القرن السابع عشر. ومثل هذه الفرضية تبتدئ من التساؤل الذي أثاره عالم اللاهوت الأميركي رينهولد نيبوهر قبل نحو نصف قرن، ويدور حول السبب الذي يجعل الأميركيين أكثر الشعوب تديناً وأكثرهم علمانية في الوقت عينه.

أوروبا – أميركا بين علمانيتين

شهد الغرب حالات علمنة متنوعة، ومقرونة بعمليات تحول متباينة نحو الحداثة ترتبط بغالبيتها مع الفروقات التاريخية الجذرية بين أطياف المسيحية المختلفة من كاثوليكية وبروتستانتية وبيزنطية، وكذلك بين البروتستانتية اللوثرية والكالفينية. وكما أظهر ديفيد مارتن، فإن المنطقة التي تسودها الثقافة اللاَّتينية الكاثوليكية –وإلى حدٍّ ما في كلّ أراضي أوروبا القارية- شهدت جميعها صداماً بين الدين والدوائر العلمانية المنفصلة – أي بين المسيحية الكاثوليكية والعلوم الحديثة، والرأسمالية الحديثة، والدولة الحديثة[1]. كان من

(132)

نتيجة ذلك امتداد ذلك الصدام أن وجد النقد التنويري للدين صدىً عالياً هناك؛ لقد بنت سلسلة النسب التي تربط العلمانية بالحداثة تحرراً منتصراً للعقل والحرية والانفلات الدنيوي من قيود الدين. وإلى ذلك، فقد ظلت كلّ حركةٍ أوروبيةٍ «تقدميةٍ» منذ الثورة الفرنسية حتى وقتنا الحاضر تسترشد بالنزعة العلمانية. تأسست رؤيا الرواية التي حاكتها العلمانية حول نفسها –والتي غذت جميع النظريات الوظيفية حول التفرقة بين السلطات والعلمنة- عملية من التحرّر وتوسعة الدوائر العلمانية على حساب دائرةٍ دينيّةٍ متقلصةٍ ومحدودةٍ تلقت بدورها تمييزاً وفصلاً خاصاً بها عن بقية دوائر الدولة والحياة العامة. لقد حوفظ على هذه الحدود بعناية، إلا أنها أعادت تموضعها، دافعةً الدين إلى الهامش حتى ينحصر في دائرة الفرد.

أما المنطقة التي تسودها الثقافة الأنغلو- بروتستانتية، فهي بخلاف ذلك، وخاصة في الولايات المتحدة. لقد شهدت هذه المنطقة «تواطؤاً» بين الدين والدوائر المتميزة المنفصلة علمانياً؛ فلا يذكر لنا التاريخ أي توتر بين البروتستانتية الأميركية والرأسمالية، أو أيّ توترٍ ظاهرٍ بين العلم والدين في الولايات المتحدة قبل أزمة الداروينية عند نهاية القرن التاسع عشر. وهكذا لم يكن التنوير الأميركي يعاني من أيّ مكوّنٍ معادٍ للدين. حتى «الفصل بين الدين والدولة» الذي أقره الدستور وتعهد بالحفاظ عليه في بند تعديله الأول المزدوج فقد هدف إلى «حماية حرية الممارسة الدينية» من تدخل الدولة بقدر ما سعى إلى حماية الدولة الفدرالية من أيّ علائق دينيّةٍ. حتى زمنٍ قريب للغاية، كان من النادر جداً لنا أن نجد أيّ حركةٍ اجتماعيةٍ

(133)

«تقدمية» في أميركا تنشد «القيم العلمانية»، وبالمقابل فمن الشائع جداً في تاريخ الحركات الاجتماعية الأميركية أن نجد الاقتباس من الإنجيل ومناشدة «القيم المسيحية»، والأمر ذاته ينطبق على خُطَبِ الرؤساء الأميركيين.

لا تهدف هذه المقارنة إلى إعادة تأكيد حقيقة أصبحت معلومةً جيداً حول كون الأميركيين أكثر «تديناً» وبالتالي أقل «علمانية» من المجتمعات الأوروبية؛ قد يكون الشق الأول من العبارة صحيحاً إلا أن الشق الثاني لا يترتب عليه، بل على العكس تماماً: فقد ظلت الولايات المتحدة تشكل نموذجاً فكرياً للمجتمع العلماني الحديث الذي يتمتع بالفصل بين الدين والدولة. لكن في حالة أميركا كان انتصار «العلماني» مؤيَّداً بالدين بدلاً من أن يكون على حساب الدين، وتداخلت حدود الاثنين إلى درجة أنه لم يعد يمكننا –بمقاييس المؤسسات الدينية الأوروبية على الأقل- أن نستوضح عن نهاية العلماني وبداية الديني؛ وقد أبدى الكسيس دو توكيفيل الملاحظة التالية في هذا الصدد: «لا يمارس الأميركيون ديانتهم من باب المصلحة الشخصية فحسب، بل كثيراً ما يضعون المصلحة التي يمارسون الدين لأجلها ضمن هذه الدنيا»[1]. لكن بالمقابل سيكون من المستهجن لنا أن ندعي أن مجتمع الولايات المتحدة يتمتع بفصل وظيفي أقل –وبالتالي فهو أقل حداثة، وبالتالي فهو أقل علمانية- من فرنسا أو السويد؛ بل العكس هو الصحيح، إذ

(134)

يمكننا القول بأن فرنسا الدولائية تعاني من فصل وظيفي أقل في دولتها واقتصادها وعلومها إلخ من الولايات المتحدة، ولكن ذلك لا يجعل فرنسا أقل حداثة أو علمانية من الولايات المتحدة.

حين يرى علماء الاجتماع الديني في الولايات المتحدة بأن العلمنة هي مجرد أسطورة أوروبية، فلا شك أنهم محقون في ذلك. بمعنى أن الولايات المتحدة ولدت في الأصل كدولة علمانية حديثة، ولم تعانِ قط من المؤسسات الكنسية التي أحكمت قبضتها على الدولة الأوربية القيصرية-البابوية المطلقة السلطة، وبالتالي لم تحتج إلى المرور بعملية التفرقة الوظيفية العلمانية قبل التحول إلى مجتمع علماني حديث كما فعلت أوروبا. لكن إذا كان المفهوم الأوروبي حول العلمنة ليس توصيفاً ذا أهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة «المسيحية»، فمن باب أولى ألا يقبل التطبيق المباشر على حضارات محورية أخرى ذات أوجه بنيوية مختلفة تمام الاختلاف في تقسيمها بين الديني والعلماني. العلمنة كتصور وتحليل لعملية تاريخية، هو تصنيف وتوصيف منطقي ضمن سياق ديناميات داخلية وخارجية محددة حدثت في أوروبا الغربية المسيحية بين القرون الوسطى وزماننا الحاضر؛ لكن هذا التوصيف والتصنيف يصبح مشكلاً متى ما عُمِّم كعمليةٍ شاملةٍ لجميع أنواع التطور المجتمعي، ونُقِلَ بالتالي إلى دياناتٍ عالميةٍ أخرى ومناطق حضاريةٍ أخرى تمتلك دينامياتها الخاصة في تحديد بنية العلاقات والتوترات بين الدين والعالم، وبين التعالي الكوني والظهور الدنيوي[1].

(135)

حالة أميركا بما هي نموذج ما بعد علماني  

 تتراءى التجربة التاريخية الأميركية بوصفها أول إجراء عَمَلاني غير معلن لما يجري التنظير له اليوم حول ما سمي «المجتمع ما بعد العلماني». هذه الفَرَضية تبدو مستغربة بعد انصرام نحو ثلاثة قرون على ولادة أميركا. على صعيد نظري ربما تشير هذه المفارقة إلى أن من طبائع المفاهيم كمونها واستتارها في جوف التاريخ من قبل أن تطفو على السطح لتدخل مدارات التنظير. من يعاين حكاية «الولادة الرسمية» لأميركا سوف يتبين له أن تلك الولادة ما كانت لتتخذ مسارها المفارق لولا تميزها من ولادات الدول الحديثة في أوروبا. ولمَّا لاحظ عالم الاجتماع الأميركي بيتر بيرغر (P. Berger)  ولو متأخراً، أن العالم لم يعد علمانياً، فهو لم يكن بمنأى عن استقراء البيئة الثقافية الأميركية التي ينتمي إليها. نومئ إلى أهمية هذه اللاَّفتة لدى بيرغر على الرغم من المسحة الإيديولوجية التي طبعت نظريته حين استثنى أوروبا والولايات المتحدة من دائرة  «العالم غير المعلمن» وحَصَرَها في إطار المجتمعات الإسلامية. ولعلنا نهتدي إلى هذا العيب في رؤية بيتر بيرغر حين نعرف أن الغرب بجناحيه الأوروبي والأميركي دخلا على حين غرة في العالم غير المعلمن. فالاتحاد الأوروبي علمانيٌّ على المستوى الرسمي (الدستوري)  بينما مجتمعاته تحيا في محيطٍ عامٍّ للدين فيه أثر كبير ووازن في أنظمتها الإيمانية والأخلاقية. وغالباً ما يظهر ذلك بطرق مختلفة من خلال دين الدولة الرسمي أو الدين المدني أو القومية الدينية أو الدين العام. وهذا يفضي إلى حقيقة أن الأسس التي تقوم

(136)

عليها مباني الدول الحديثة ترتبط بشكل وثيق ببعض الأديان التي تتمتع بوضع قانوني وسياسي واجتماعي متميز، كما تترافق مع الدعم المادي لهذه الأديان.

في المختبر التاريخي الأميركي لا تبدو الصورة على ما هي عليه في التعقيد الأوروبي. بل يمكن القول أن حاصل هذا المختبر هو ضربٌ من التكامل بين وجهين يبدوان في الظاهر على تناقض عنينا بهما الوجه الديني والوجه العلماني.

هل هو الاستثناء الأميركي الذي اعتاد العمل خارج السرديات الكبرى للحداثة، ثم يعود ليدخل على الحداثة نفسها بمباغتات لا تلبث أن تتحول إلى مفاهيم لا مهرب لأحدٍ من سطوتها؟

إذا كانت «الاستثنائية» هي الركن الذي يُنظر من خلاله لتمييز أميركا عن المسار الأوروبي، فإن هذه الاستثنائية لا تنحصر فقط بالبعد الميتافيزيقي للأطروحة الأميركية، بل كذلك وبصورة أكثر عمقاً ودلالة في التآلف العجيب بين الديني والعلماني على مستوى السلطة والمجتمع.

كان الكاتب والفيلسوف الأميركي «إمرسون» (1882-1802)،  يحصر تعريف مصطلح الاستثنائية بالقول: «إن أميركا هي «أكبر هبة من الله إلى هذا العالم»،  تفكير إمرسون  يُظهر الذاكرة العميقة لعقدة التفوق التي تشعر بها الولايات المتحدة تجاه الأمم الأخرى. إلا أنه على الرغم من ذلك، لم يكن ليغيب عن تفكير إمرسون أن الشأن التدبيري في السياسة والاقتصاد ونظام المؤسسات هو شأن

(137)

متضمِّن في الفضاء الميتافيزيقي الأميركي ومكوِّن أساسي فيه.

ولكي نتعرَّف اليوم جذور هذا الموقف تجاه الأمم الأخرى نقرأ ما ورد عن عالم الاجتماع الأميركي «نوربير بيلا» ما يسميه «الديانة المدنية» في الولايات المتحدة، وهو التعبير إياه الذي استخدمه جان جاك روسّو في كتاب «العقد الاجتماعي» وإن كان وظَّفه هذا الأخير لمقصدٍ آخر. بحسب بيلا، فإن الديانة المدنية تقوم على الإيمان بوجود الله ووجود حياة أخرى، ومن وجهٍ دنيويٍّ تقوم على الفضائل الأخلاقية ودرء المفاسد والتسامح الديني. ولذا فلا شك في أن عصر الأنوار كان له تأثيره في الفكر الأميركي. ففكرة «الديانة المدنية» سوف يتبناها الرؤساء الأميركيون الأوائل، ثم لتنغرس عميقاً في الضمير الأميركي[1].

من أهم الآثار المترتبة على مفهوم الدين المدني هو جمعه الشأن الدنيوي إلى الديني بصورةٍ غير مسبوقةٍ في الحضارة الغربية الحديثة.

هذا الجمع هو ـ على وجه التعيين ـ أحد أكثر مقومات الاستثناء الأميركي مدعاة للغرابة. ذلك إلى حد أن أياً من فلاسفة التاريخ أو علماء الاجتماع لم يكن يتوقع أن تولد أول جمهورية ما بعد علمانية في التاريخ على يد نخبةٍ دينيةٍ كانت العلمنة ركناً كامناً في لاهوتها السياسي. حتى هيغل الذي كان شغوفاً باستشعار البعد الميتافيزيقي لنشوء الدولة الحديثة في أوروبا، سيغيب عن باله

(138)

ذلك المكوّن الجيني للمولود الأميركي. والذين مضوا في تأويل الجواب الهيغلي وجدوا أنّ أميركا قامت على حكمٍ قيميٍّ حضاريٍّ وميتافيزيقيٍّ يقضي بتفوق الإنسان الأوروبي على الإنسان الهندي والأفريقي[1]... غير أن ما هو مفارقٌ في منطق النشأة الأميركية، أنها قامت أيضاً وأساساً على الانسلاخ عن أصلها، والبدء بأصلٍ جديدٍ. كما لو كانت ميتافيزيقا التأسيس محمولة على محو تاريخ غير جدير بالذكر، وإثبات تاريخ ممتلئ بالجدوى.

ذلك ما سوف يُمنح من جانب الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عناية فلسفية خاصة. لقد رأى أن العالم الأنكلوساكسوني للأمركة قرر تدمير أوروبا. ما يعني برأيه، تدمير الوطن. أي تدمير البدء الخاص بالعنصر الغربي. وهذا ما يفسره كلام ارنست رينان (1823-1892) حول ضرورة نسيان ما يمكن تسميته بالأخطاء التاريخية، باعتبار أن هذا النسيان هو أمرٌ جوهريٌّ لولادة الأمم الحديثة.

هل يعني هذا أن الجذرية التي حكمت لاهوت التأسيس هي العصب الذي يرفد ويغذي الشعور العميق بالفرادة والاستثناء؟

لم تشهد القيامة الأميركية، لا في أزمنتها الابتدائية، ولا في تطوراتها اللاَّحقة، أي إنفصال بين الديني والدنيوي. كان ثمة تركيبٌ وتداخلٌ وتناسجٌ في غاية التعقيد بين النزعات المتنوعة التي تؤلف الشعور الإجمالي لساكني الأرض الجديدة. فالإيمان الديني الذي

(139)

أخرجه الطهرانيون الانكليز على صورة منظومةٍ لاهوتيةٍ تستجيب لحاجات السكان الروحية والمعنوية، لم ينفصل في حركته عن الشعور القومي الذي أخذ يتشكّل مع تقادم الوقت. وأما الكلام على الميتافيزيقا السياسية التي تسِمُ النشأة الأميركية فهو كلامٌ ينتسب إلى الرؤية الماهوية لأميركا. ذلك هو الشيء الذي حدا بالعلاَّمة «الكسيس دو توكفيل» لكي يستنتج من وحدة الدين والسياسة ظهور إحدى أكثر ركائز الديموقراطية غرابة في التاريخ السياسي الحديث.

3 ـ خاصّية العلمانية المتساهلة

إذا كان من مزايا الحداثة أنها أطلقت فضاءات النقد، إلا أن نزعتها الانتقادية لم تتوقف عند حد. حتى اليقينيات ـ التي كان لا بد منها لضبط أزمنتها الحضارية ـ لم تنجُ من المراجعة والتفكيك وإعادة تشكيل مقاصدها وغايتها. ولئن كانت علمنة المجتمعات الحديثة قد ارتقت إلى رتبة المقدس في التجربة التاريخية لأوروبا، فقد جاءت السيرة الأميركية لتعيد مَوْضَعة هذا المقدس في غرف العناية الفائقة. عند هذه النقطة بالذات سيلاحظ البروفسور الأميركي في علم الاجتماع باري كوزمان كيف أن النخبة الأميركية المؤسِّسة أدركت هذه الحقيقة وسعت إلى تكييف مشروعها على نحو يجعله مفارقاً للأبوة الأوروبية. ولذلك اتبع الدستور الأميركي عقلانية سياسية شقت السبيل إلى هذا التوجه في المسار الجديد. وهذه السياسة تقدم مثالاً على الكيفية التي يمكن للمبادرات السياسية أن تنشئ علمانية متساهلة على المستوى الاجتماعي من المؤسسات

(140)

من جهة، وتترك مسائل الضمير لخيارات الفرد الشخصية من جهة ثانية. فللسياسة في مفهومها العلماني الحديث الآن مبادؤها وقيمها الملازمة لها. وصار على المبادئ والقيم الدينية أن تتميز بشكل أو بآخر عن تلك السياسية. هذا لا يعني البتة أن المبادئ والقيم الدينية لا دور لها في السياسة والحياة العامة في الديموقراطية الأميركية، وإنما ثمة تمايز بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة من زاوية الدستور والقانون. وأما المصطلح الفلسفي الذي يشير إلى هذه الحالة فهو «التعددية» وأما نقيضه فـ «الأحادية» أو (الحكم الديني والشمولي)[1].

الأميركيون الذين يصفون أنفسهم بأنهم لا ينتمون إلى أيّ ديانةٍ هم في غالبيتهم ينتمون إلى معايير «العلمانية المتساهلة». هذا النوع من العلمانية يظهر من خلال إعراضهم على أن يكونوا ملحدين متشددين أو حتى لا أدريِّين. إذ لا يشكل أتباع هذين المذهبين أكثر من 1 % من مجموع السكان ـ ولكن وبالمقابل فإنّ نسبة 67 % من غير المنتمين إلى أي ديانة يؤمنون بوجود إله للكون؛ و%56 منهم يؤمنون أن هذا الإله يتدخل شخصيّاً في حياتهم لمساعدتهم؛ و5 7% يعتقدون أن الإله يخلق المعجزات. أما حاصل هذه الواقع فهو ما تشير إليه الاستنتاجات من أن غالبية العلمانيين في الولايات المتحدة هم في حقيقتهم متدينون بطريقة أو بأخرى؛ وحتى هؤلاء الذين لا ينتمون إلى مؤسسات دينية، أو لا يعتبرون أنفسهم جزءاً

(141)

من مجتمعات دينية فهم يحملون معتقدات واهتمامات تقليدية في الألوهية؛ ولذلك فعلى الرغم من تزايد عدد الناس الذين يصفون أنفسهم بأنهم علمانيون في الولايات المتحدة منذ سنة 1990  إلا أن هذا لا يعني أبداً أن المجتمع الأميركي قد أصبح أكثر لا دينية أو معادياً للدين، بل فقط يعني أن هناك انتماء أقل للجماعات الدينية المنظمة في حد ذاتها[1].

في ما يتصل بالشأن الديني، تتخذ العلمانية أشكالاً كثيرة في الولايات المتحدة؛ ومثلما هي الحال في الدين تختلف العلمانية في شدتها مع مسارات الانتماء والاعتقاد والسلوك. كثيرون من علماء الاجتماع سجَّلوا مشاعر مشتركة حول طبائع المجتمع الأميركي، وتوصلوا إلى نتيجة تقول إن الجمهور الأميركي لا يتبع نظاماً ثنائياً. أي الاختيار الحادّ بين أمرين مع بالمطلق أو ضد بالمطلق، وهو الأمر الذي كان حاصلاً مع حكاية العلمنة في فرنسا بوجه خاص لما أخذ بها بوصفها بديلاً من الدين. فالعلمانية في الولايات المتحدة هي خيار من ضمن الكثير من الخيارات في مجتمع قائم على فكرة السوق الحرّة كما ينبّه عدد من علماء الاجتماع. ثم إنّ الحدود الفاصلة بين الدين والعلمانية، وحتى بين الأديان المختلفة، ليست مرسومة بدقة وثبات. لذا يمكننا توقع هذا الارتباك بسبب أن العلمانية تطورت بأشكال مختلفة وعلى مستويات مختلفة وفي مجالات متنوعة. في هذا الصدد يتحدث رينهولد نيبوهر ـ وهو أحد أكبر علماء اللاهوت الأميركيين في القرن العشرين عما يعتبره

(142)

تناقضاً عجيباً في الشخصية الأميركية. إذ كيف للأميركيين أن يكونوا أكثر الشعوب تديناً وأكثرها علمانية في الوقت نفسه؛ ثم يسأل: «هل يمكن أن يكون أحد أسباب كون الأميركيين هم الأكثر تديناً أنهم أكثر الثقافات الكونية علمانية؟»[1].

بالطبع لم يأتِ الجواب عن مثل هذا التساؤل المحيِّر بيِّناً وصريحاً، بل غالباً ما نجده منطوياً في البحوث العلمية على نحو المقاربة والاكتمال. وهذا ما فعله عالم الاجتماع الاميركي ويل هيربرغ لمَّا بحث في هذا التناقض العجيب بين «العلمانية السائدة والتديُّن المتزايد في بلاده». فقد رأى أن ذلك يحتاج إلى عقلية تتطلب التفكير والعيش ضمن إطار واسع من الواقع الذي يتجاوز بكثير عقيدة الشخص التي يؤمن بها في نفسه. وهذا التناقض لا يزال موجوداً حتى يومنا هذا لأنه جزء من التراث الثقافي الأميركي[2].

يرغب الأميركيون ـ كما يشير باحثوهم ـ بمؤسسات حكم تستوعب السلوكيات الدينية حتى ضمن الحكومة العلمانية نفسها؛ وهذا مظهر من المظاهر المتعددة لبراغماتية المجتمع الأميركي الذي صنَّع علمانيته المخصوصة من غير تنظير مسبق. فمثلاً تجد أن الأميركيين يتقبلون أن يحضر شخص ينتمي إلى مؤسسة دينية أو عسكرية طقوساً دينية، أو أن يتلقى إرشاداً وقيادة دينية، وأن تدفع النذور لهذا الأمر ـ كما هي الحال في الجيش أو في كنائس السجن. كذلك لم يكن من اعتراض حين سمح القانون لمتدينين معادين

(143)

للحرب مثل طوائف الكويكرز أو المينوناتية باعتبارهم معارضين وأصحاب ضمائر حية. وفي التقليد الأميركي «الما بعد علماني» يصير من المهم في المجتمع الحر أن يحترم عقائد جميع مواطنيه، ومن المهم لنظام سياسيٍّ تعدديٍّ ومتمايزٍ وعلمانيٍّ أن يتيح مساحةً من الحرية الدينية، وأن يُبقي هذا المجال مستقلاًّ عن الضغوط الحكومية إلى أقصى درجةٍ ممكنةٍ[1].

2ـ الإصلاح البروتستانتي كمنتجٍ لزمن ما بعد علماني

دأبت البروتستانتية وهي تفتتح مسار الإصلاح الديني في المسيحية على القيام بدور مركب جاءت حصيلته العامة أقرب إلى التأسيس لزمن ما بعد علماني ذي بواعث دينية.

ولقد بدا هذا الدور المركب ضمن المعادلة التالية: من وجهٍ استمرت الكتلة البروتستانتية ذات الغالبية في أميركا على موقفها الحاد المناهض للبابوية الكاثوليكية. ومن وجهٍ آخر كان على البروتستانتية أن تنشئ نظاماً سياسياً اجتماعياً وأخلاقياً غير مبنيٍّ على الانفصال بين الدنيوي والديني.

تلازماً والمهمة التاريخية المركبة هذه أخذت تتشكل نواة العقيدة الأميركية أو ما يسمى «الاستثناء الأميركي». الوجه التطبيقي لهذا التشكل سَلَكَ مساراً دراماتيكياً تمثّل بحملات صليبية بروتستانتية لتنصير أميركا كما يبين عالم الأنثروبولوجيا خوسيه كازانوفا[2].

(144)

في سنة 1830 –وهي السنة التي ظهرت فيها أول صحيفة معادية للكاثوليكية في نيويورك– افتتح ليمان بيتشر، وهو مرشد «المدرسة الجديدة» لكالفينية نيو انجلند، سلسلة عظات معادية للكاثوليكية، رابطاً ما بين الكاثوليكية والاستبداد بوصفهما عدوين للمبادئ الجمهورية الأميركية. ومع تسارع وتيرة الهجرة الإيرلندية، اكتست البروتستانتية أشكالاً اجتماعيةً وسياسيةً تجسدت في الحزب الأميركي الجمهوري في أربعينيات القرن التاسع عشر، وحركة «اللاَّأدرية» في خمسينيات القرن التاسع عشر. وكان القس هوراس بوشنيل وهو أبو اللاهوت الأميركي الليبرالي، حذَّر البروتستانت في أميركا قائلا: «إن الخطر الأول على مستقبلنا هو البربرية وبعدها تأتي الكاثوليكية»[1].

لم يكن التناظر المحتوم مع الكاثوليكية مجرد خصومةٍ لاهوتيةٍ تبتدئ وتنتهي داخل فضاء الخلاف على منظومة القوانين الإيمانية. لقد كان هذا التناظر أكثر شمولاً حيث تعددت آفاقه وتوسعت ميادينه تبعاً للغاية العليا التي رمى إليها رواد الإصلاح البروتستانتي وعلى رأسها مارتن لوثر وجون كالفن. لقد كان ضرورياً للمشروع البروتستانتي المتكيِّف إلى أقصى حدوده مع مقتضيات الحداثة، أن يزعزع أركان اليوتوبيا الكاثوليكية لكي يشق السبيل نحو إنجاز مهمته الإصلاحية المنشودة. فقد أفلحت البروتستانتية في حمل الكاثوليكية على مجاراة ثورتها إلى الدرجة التي باتت معها الأخيرة راضية بما سمي بـ«الدين المدني» الأميركي. لكن عدة عوامل

(145)

سوف تسهم في رسم ملامح الكاثوليكية الأميركية وهي تمضي قدماً طريق التكيف مع النمط المابعد علماني. أما هذه العوامل فهي:

1 ـ على الصعيد الداخلي، تشكلت الكاثوليكية الأميركية عبر موجات الهجرة المتعاقبة من مختلف الأمم الأوروبية. وقد حافظت أغلب الجماعات الكاثوليكية المهاجرة، التي تنتظم وفق التجمعات الأبرشية، على ولاءٍ كاثوليكيٍّ، وكذلك على التشكّل ضمن جماعةٍ إثنيةٍ كاثوليكيةٍ أميركيةٍ موحدةٍ.

2 ـ طالما كان على الكاثوليكية في الولايات المتحدة أن تتعايش مع التوتر الديناميكي الناتج من كونها أميركية ورومانية في الوقت نفسه. يعني ذلك ـ ، في ما يخص بنيتها العقائدية الطقسية والتنظيمية ـ أن الكنيسة الكاثوليكية الأميركية، كانت دوماً عضواً في الكنيسة الكاثوليكية الكونية المتجاوزة للحدود الوطنية. ونتيجة لذلك، كان على الكاثوليكيين دائماً أن يبرهنوا على ولائهم المطلق للدين المدني الأميركي لكي يتم قبولهم في الميثاق الوطني، ولكن من دون أن يكون ولاؤهم المطلق نفسه لروما موضع تساؤل. فلا عجب إذاً في أن تصبح الكنيسة الكاثوليكية أكثر طوائف أميركا أمريكية؛ أي وطنية، وأكثر الكنائس الكاثوليكية القومية رومانية.

هذا التركيب في الهوية الكاثوليكية هو من أظهر المفارقات التي وسمت الاختبارات الدينية في أميركا. فلا شيء يبقى خارج «البراكسيس» (فلسفة العمل) البروتستانتية. حتى السؤال الذي كان مشتعلاً لدى الأقلية الكاثوليكية وحول هويتها الملتبسة راح يتبدد

(146)

شيئاً فشيئاً بعدما حُتِمَ الجدل حول ثنائية أن تكون كاثوليكيًّا وأميركياً في الآن عينه؟

من البيِّن تاريخياً أنه في اللحظة التي أصبحت فيها الكاثوليكية ظاهرةً أميركيةً، أعاد الفاتيكان فتح النقاش حول مشكلة العلاقة بين الهويتين الأميركية والكاثوليكية. إلا أن الأمر لم يعد ذا جدوى حيث أُجبرت الكاثوليكية الأميركية لأول مرةٍ على مواجهة الحداثة. ولم تعد المسألة أن يكون المرء كاثوليكياً تقليدياً وأميركياً حداثياً في آن. لقد أصبحت المسألة الآن هي كيفية تحديث الكاثوليكية القديمة وتجديدها بعدما زال التناقض بين الإيمان والأمركة إلى غير رجعةٍ.

لكن حقيقة أن الكاثوليكية استطاعت أن تتأقلم بشكلٍ لافتٍ مع الشروط الأميركية من غير أن تواجه الحداثة أبداً لهو أمرٌ لافت حقاً. وهو ما أفرد له ألكسيس دو توكفيل تفسيراً معقولاً بالقول: لقد «قسم الكهنة الكاثوليك في أميركا العالم الفكري إلى قسمين: في القسم الأول، وضعوا عقائد الدين المنزَّل التي سلموا بها من غير جدال؛ ووضعوا في القسم الثاني الحقائق السياسية التي اعتقدوا أن الألوهية قد تركتها مفتوحة للمساءلة الحرة. هكذا يكون الكاثوليك في الولايات المتحدة أكثر المؤمنين طاعة أكثرهم استقلالاً في الآن نفسه»[1].

قد يكون هذا التحوّل الذي أحدثه التكيف الكاثوليكي مع الأمركة الأنكلوساكسونية من أهم المحطات التي تأسس عليها الاستثناء

(147)

الأميركي ما بعد العلماني. كان الرواد الأوائل يتباهون في الإعلان عن تفوقهم الخلقي على الانجليز، في الوقت الذي كانوا يعترفون فيه بدونيتهم تجاههم من حيث الملبس والثقافة. وفي هذا الخصوص يرى الأنثروبولوجي شارل سانفورد أن البحث في نشاطات مبشِّري التخوم هو الذي يساعد على فهم أصول عقدة التفوق الأميركي، سواء ظهرت هذه العقيدة في مجال السياسة الخارجية، أم في ذلك الجهد المحموم لنشر طريقة العيش الأميركية على امتداد الكرة الارضية». لقد ازدهرت حول «التخوم» طائفة كاملة من الرموز الدينية، ما جعل عقائد الرواد الأوائل الغارقة بطوباوياتها تمتد حتى القرن التاسع عشر. لكن هذا كله لا يُظهر إلا جانباً واحداً من التجربة الإيمانية المنفردة التي عاشها الرواد الأوائل. ثمة مهاجرون آخرون كثيرون، لم يروا إلى العالم الجديد إلا كصحراء مأهولة بالكائنات الشيطانية. لكن ذلك لم يقلل من حماستهم الأخروية، إذ إن المواعظ الدينية التي كانوا يسمعونها يومياً كانت تقول لهم إن آلام الإبحار وعذاباته ليست سوى امتحان أخلاقي وروحي لابد منه قبل الوصول إلى الفردوس الأرضي الذي وعدوا به. كان الرواد الأوائل يعتبرون أنفسهم في وضع مماثل لوضع «الإسرائيليين» بعد عبورهم البحر الأحمر، تماماً مثلما كانوا ينظرون إلى حياتهم السابقة في إنجلترا وأوروبا، على أنها ضرب من العبودية المصرية. فكان لابد بعد الابتلاء الرهيب في الصحراء أن يدخلوا أرض كنعان. هكذا عبَّر كوتون ماذر بالقول: «إن البرية التي نجتازها من أجل الوصول إلى أرض الميعاد مليئة بالأفاعي النارية الطائرة».

(148)

وما من ريب، فإن اهتمام العلماء الغربيين بالطوباويات يكتسي دلالات عميقة في التجربة المشار إليها. يبدو ذلك مهماً إلى الحد الذي يمكننا معه القول أن هذا الاهتمام يشكل إحدى السمات المائزة للثقافة الأميركية المعاصرة. بالطبع ثمة أسباب عديدة لهذا الاهتمام. فهناك الفضول الذي تثيره المذاهب المسيحانية التي عصفت بالمجتمعات «البدائية» في العقود الأخيرة من العصر الاستعماري. ثم هناك الأبحاث الجديدة التي تناولت الحركات النبوئية في أوروبا القرون الوسطى. وهنالك بنحو خاص، التحليل الصارم للمضامين الدينية التي تكشفت عند استعمار أميركا. ذلك أن اكتشاف العالم الجديد واستعماره حصلا – كما سنرى لاحقاً – تحت ظلال العقائد الدينية الأخروية. والحال، أن متابعة مثل هذه الأبحاث وإثارة مثل هذه المسائل ينم على توجه فكري يقول لنا الشيء الكثير في ما يخص الوضع الروحي للإنسان الغربي المعاصر. ولنا أن نلاحظ منذ البداية أنه خلافاً للمنظومات التي تفسر الأحداث بحتمية تاريخية مادية ثمة شغف بيِّن في الغرب اليوم بأهمية العامل الديني كما قدمته النظريات الأميركية حول الدين المدني.  لكن ما هو أعمق من ذلك من حيث المغزى ـ كما يرى عالم الأنتروبولوجيا المعاصر ميرسيا إلياد ـ هو الاهتمام «بأصول» العالم الغربي الراهن؛ أي بأصول الولايات المتحدة وشعوب أميركا اللاتينية – الأمر الذي يكشف عن غربة جامحة لدى مثقفي هذه القارة في العودة إلى الوراء بغية اكتشاف «تاريخهم الأولاني»، و«بداياتهم المطلقة». والحال، أن هذه الرغبة في العودة إلى الاصول وفي استعادة وضع أوَّلاني،

(149)

ينم أيضاً على الرغبة في استئناف البدء من جديد، وعلى الحنين إلى استعادة الجنة الأرضية التي كان أجداد الشعوب الأميركية قد قطعوا أهوال المحيط الأطلسي بحثاً عنها[1].

4 ـ تغريبة كولومبوس: الديني متحداً بالعلماني

حين كان يتهيَّأ لبلوغ ما يعتقد أنّه أرض المسيح المخلص لم يكن ينتاب كريستوف كولومبس أي شكٍّ في أنه قارب الوصول إلى الفردوس الأرضي. كان يعتقد أن التيارات المائية العذبة التي لقيها في خليج باريا إنما تنبع من الأنهار الأربعة التي تروي جنة عدن. لم يكن البحث عن الفردوس الأرضي، عند كولومبس، وهماً أو خيالاً، بينما كان هذا البحار الكبير يسبغ معانيَ ودلالات أخروية على اكتشافاته الجغرافية. كان العالم الجديد بالنسبة إليه أكثر من قارة جديدة تنفتح أمام نشر البشارة المسيحية. فاكتشاف القارة الأميركية الجديدة عنده هو في حد ذاته يحمل بعداً أخروياً.

آمن كولومبس أن النبوءة المتعلقة بنشر الإنجيل في كل بقاع الأرض، لا بد أن تتحقق قبل نهاية العالم الذي لم يكن يومه ببعيد. وها هو يؤكد في كتاب النبوءات (Book of Propheciès) أن هذا الحدث – أي نهاية العالم – سيكون مسبوقاً بافتتاح القارة الجديدة، وباعتناق الوثنيين المسيحية، وبالقضاء على المسيح المزيَّف. وكان الرجل قد ألزم نفسه القيام بدور رئيس في هذه الدراما الكبرى ذات الطابع التاريخي والكوني في آن[2].

(150)

في هذا الجو المفعم بالمسيحانية جرت البعثات العابرة للمحيطات، والاكتشافات الجغرافية التي خضَّت أوروبا الغربية وغيّرتها تغييراً جذرياً. ففي كل مكان من أوروبا اعتقد الناس بولادة جديدة وشيكة للعالم على الرغم من أن أسباب هذه الولادة الجديدة كانت متعددة وأحياناً متضاربة.

وللدلالة على التواصل الوطيد بين دنيوية التجربة الأميركية وبعدها اللاهوتي والميتافيزيقي تجدر الإحالة إلى حقبة التأسيس الأولى. فقد بدأ استعمار الأميركيتين تحت شعارات حملت رموزاً أخروية: كان الناس يرون أنه قد آن الأوان لتجديد العالم المسيحي، وأن التجديد الحقيقي إنما يكون في العودة إلى الفردوس الأرضي، أو على على الأقل، في استئناف بدايات التاريخ المقدس واستعادة الأحداث المذهلة التي يتحدث عنها الكتاب المقدس. لذا كانت أدبيات ذلك العصر، فضلاً عن المواعظ التي تلقى، والمراسلات التي تكتب، تزخر بالإشارات الفردوسية والآخروية. فالانكليز، مثلاً، كانوا ينظرون إلى استعمار أميركا على أنه استعمار يستكمل ـ بحسب مدَّعاهم ـ ويتمِّمُ تاريخاً مقدساً كان قد بدأ مع عهد الإصلاح الديني. كما أن اندفاع الرواد الأوائل نحو الغرب كان يستكمل مسيرة الحكمة والدين الحقيقي التي كانت قد اندفعت من الشرق إلى الغرب.

من هذا النحو يكتب اللاهوتي الأنغليكاني، وليم كراشاو يقول «إن إله إسرائيل هو.. إله إنكلترا». الشيء نفسه عبر عنه أيضاً الشاعر الأنغليكاني جورج هبرت في ديوانه «الكنيسة المكافحة»

(151)

بالقول: إن «الدين عندنا يقف على رؤوس أصابعه مستعداً للقفز نحو الشاطئ الأميركي»[1].

كانت الولايات المتحدة، أكثر من أي أمة أخرى، نتاجاً من نواتج الإصلاح البروتستانتي الذي كان يبحث عن فردوس أرضي ويستكمل فيه إصلاح الكنيسة. وكانت الصلات القائمة بين الإصلاح واستعادة الفردوس الأرضي أمراً صدم عدداً كبيراً من الكتاب، ابتداء من هاينريخ بولينجر، وانتهاء بشارل ديمولان. فهؤلاء اللاهوتيون كانوا يرون أن الإصلاح من شأنه أن يعجل بحلول العصر الكبير: عصر الغبطة الفردوسية. لذلك لم يكن مستغرباً ملاحظة أن المعتقد الديني الشعبي الذي ساد في المستعمرات، كان يذهب في زعمه حد القول أن أميركا اختيرت من دون سائر أمم الأرض لتكون موئل المجيء الثاني للمسيح، وأن الألفية، على الرغم من طابعها الروحي في الأساس، ستكون مصحوبة بتحول الأرض تحولاً فردوسياً، باعتبارها علامة خارجية على اتمام الكمال الداخلي. هكذا كان للطهراني الأميركي المعروف «انكريز ماذر» الذي ظل رئيسا لجامعة هارفرد من 1685 إلى 1701، أن يقول: «حين يتسنى لمملكة المسيح أن تملأ الأرض قاطبة، سيكون لهذه الأرض أن تعود إلى حالتها الفردوسية»[2].

كما سبق أن أشرنا، فقد خضع المذهب الألفي الأخروي ومسألة انتظار الفردوس الأرضي إلى علمنةٍ دهريةٍ جذريةٍ. وكانت أسطورة

(152)

التقدم وعبادة كل ما هو جديد أهم ما أسفر عن ذلك من نتائج. وعلى الرغم من الصورة العلمانية الدهرية القاسية التي ظهرت بها هذه النتائج، فإننا نستشف من خلالها تلك الحمية الدينية وذلك الانتصار الأخروي اللذين كانا يلهمان الأجداد. وباختصار، فإن ما جمع بين الرواد الأوائل، والمهاجرين الذين أتوا في ما بعد من أوروبا، هو مسيرهم صوب أميركا على أنها البلاد التي سيتسنى لهم أن يولدوا فيها من جديد، ثم يستأنفوا فيها بدء حياة جديدة. لهذا فإن «الجدة» التي ما زالت تبهر الأميركيين حتى اليوم، إنما هي رغبة ذات أساسات ودعائم دينية. ففي الجدة يتطلع المرء إلى ولادة ثانية، ويبحث عن حياةٍ جديدةٍ. ولو نظرنا إلى مسمّيات الأماكن والمدن لتوضّح لنا مدى شغف الأميركيين بكل ما هو جديدٌ ومفارقٌ للمألوف. لنستعرض اللوحة التالية:

نيو إنجلاند (إنكلترا الجديدة) نيويورك (يورك الجديدة) نيوهافن (هافن الجديدة، أي السماء أو الجنة)، هذه الأسماء كلها لا تعبر فقط عن حنين المرء إلى مسقط رأسه الذي خلفه وراءه، بل تعبر أيضاً وبشكلٍ خاص عن الرجاء في أن تكون الحياة على هذه الأراضي الجديدة، وفي هذه المدن الجديدة ذات آفاقٍ جديدةٍ. وليست الحياة هي المعنية هنا وحسب: بل كلّ شيءٍ، في هذه القارة التي اعتبرت بمنزلة الفردوس الأرضي، يجب أن يكون أعظم وأجمل وأشد بأساً. في إنكلترا –الجديدة التي وصفت بأنها «شبيهة بحدائق عدن»، كان يقال أن طيور الحجل هي من السمنة بحيث إنها لم تكن تستطيع

(153)

الطيران، وأنّ الديكة الروميّة تصل في عظمها إلى حجم النعاج[1]. وهذا المنزع الأميركي نحو الأبّهة والتفخيم الديني أيضاً من حيث جذوره، نجده أيضاً حتى عند أصحاب العقول النيرة.

إن الرجاء بولادةٍ ثانيةٍ في حياةٍ جديدةٍ، والتطلع نحو مستقبلٍ ملؤه الغبطة والحبور، يتضحان أيضاً في عبادة الأميركيين لكل ما هو شباب. وبحسب شارل ل. سانفورد فإن الأميركيين أخذوا منذ بداية التصنيع، يبحثون أكثر فأكثر، عن براءتهم المفقودة عبر أبنائهم. كما يرى المؤلف نفسه أن تمجيد كلّ ما هو جديد، والذي رافق الرواد الأوائل حتى «الغرب الأقصى»، قد عزز النزعة الفردية ورسخها في وجه السلطان، لكنه أسهم كذلك في بلورة قلة احترام الأميركيين للتراث والتاريخ[2].

لقد رأينا كيف كان الإيمان الديني حاضراً بقوة لدى المستكشفين الأوائل وهم يبحثون عن الفردوس الأرضي عبر المحيط. كانوا يعتقدون بأنهم يقومون بدورٍ خطيرٍ في تاريخ الخلاص، وأن أميركا صارت بعد تماهيها مع الفردوس الأرضي، أفضل مكان لاستكمال الإصلاح الذي يُفترض أن ينجزوه بعد فشله المزعوم في أوروبا. وقد رأينا كذلك إلى أيّ حدٍّ كانت ولادة أميركا الحديثة نتيجة هذه الرجاءات المسيحانية وهذه الثقة بإمكانية تحقيق جنة الفردوس على الأرض.

(154)

5 ـ التأويل البروتستانتي للزمن «الما بعد علماني».

بقدر ما شكل الإصلاح البروتستانتي عبر لوثر وكالفن، حالة تماهٍ مع الحداثة، أطلق في الوقت عينه أزمنةً من النزاعات المتمادية مع الكنيسة الكاثوليكية. كانت الإجراءات التأويلية على الكتاب المقدس محور هذه النزاعات، وإحدى أبرز تجلياتها. ولأن العملية التأويلية للنصوص الإنجيلية لم تكن لتأخذ مداها إلا في إطار التفاعل مع الواقع التاريخي لغرب الحداثة، فقد جاءت حصائِدُها متأثرةً على نحوٍ بيّنٍ بالعوامل السياسية، والثقافية، والإيديولوجية، والاقتصادية، الناجمة عن الصراعات التي شهدتها المجتمعات الغربية الداخلة للتو في فضاء التحديث[1]. فلقد بدا بوضوحٍ أن التحولات في الهرمينوطيقا الدينية ترافقت مع التطورات في التكنولوجيا بما لها من أثر بيِّن في إحداث التحولات في أنماط العيش والكيفية التي ينظر فيها إلى العالم. أما النتيجة من كل ذلك، فهي انتشار التعليم، حتى بين الناس ذوي الوسائل المتواضعة والمعرفة المحدودة، وهكذا بدأ تعلّم الإنجيل باللغات الأم كالإنكليزية، والألمانية، والفرنسية، وغيرها. وحسب التأويلية اللوثرية فقد أصبح الإنجيل بعد الثورة التكنولوجية ملك كلّ إنسان، حتى في وظيفته العامة. لقد صار بإمكانه الابتعاد عن تعقيدات الدراسة، وتقييدات الكهنوت. ومع ذلك يبقى الاستعجال في إصدار حكمٍ ما أمراً غير جائز. فلوثر كان عالماً قروسطياً بذات القدر الذي كان فيه مصلحاً. بل أكثر من ذلك

(155)

فثمة من وجد لوثر لاهوتياً قروسطياً بامتياز، حين رفض تدريجياً القراءات الرمزية، والتشبيهية، معلناً أنها «ليست سوى قُمامة». علماً أنه لم تكن أي من أغراض لوثر تشبه أغراض توما الأكويني، ذلك أن اهتمامات رائد الإصلاح الحديث في المسيحية كانت منصبّة على إطلاق الحرية للإنجيل في التفاعل مع تجربة القارىء الذاتية، لا على تثبيت لاهوت الكنيسة وترسيخه كما فعل توما[1].

وبحسب فلسفة التأويل عند لوثر، يواجه القارىء النص وحده من دون تدخّل الكنيسة أو لاهوتها. كما يسعى لتجنب تعدد المعاني في النص. وفي محاضراته في جامعة وتنبرغ (1513-1514) أصرّ لوثر على أن يكون لكلّ تلميذٍ نسخةٌ عن الإنجيل كمرجعٍ خاصٍّ به. وكانت نصيحته لتلاميذه هي التالية: «التجربة ضرورية لفهم الكلمة، التي لا تتحصل بمجرد تكرارها أو معرفتها، بل بأن تعاش أو تُحسّ. وإذاً، فالكلمة المفتاح -عند لوثر كما يبيّن مؤِّولوه- هي التجربة، لا معرفة اللّاهوت أو تعاليم الكنيسة. ولذا فهو لم يقرأ الإنجيل كوقائع تاريخيّةٍ، وإنما كانت قراءته كريستولوجية وذاتية. أي تلك القراءة التي تنتمي إلى ذلك النوع من اللّاهوت الذي يختص بيسوع المسيح من حيث هو إله وإنسان. ولذا فقد نحا لوثر نحواً استقرائياً يتغيّا من ورائه فهم ماهية الله بالنسبة للإنسان.

بعد لوثر سوف تبدأ مرحلةٌ تاليةٌ من حركة الإصلاح البروتستانتي مع جون كالفن. سوى أن ما يتبدى من القراءة التاريخية لهذا الأخير،

(156)

أنه لم يفارق لوثر في جوهر التعامل مع النص المقدس. بل عمد إلى استئناف الهرمينوطيقا الدينية تبعاً لمعطيات وشروط تطورات الحداثة..

يُعتبر كالفن شخصية الإصلاح الثانية بعد لوثر. ولكونه متمرساً بوصفه محامياً، فقد كان ذهنه أكثر تنظيماً من لوثر كما يزعم بعضهم. ومع قطع النظر عن مزايا تيَّاره الأصولي الذي عُرف في ما بعد بالكالفينية، فقد كان كالفن أكثر تكيُّفاً مع التعاليم الإنسانوية كالتي وجدناها عند إيراسموس. كانت قراءة كالفن للإنجيل تقوم على أرضية الانعكاس العقلاني والفهم الذاتي، والحس المشترك، وقد أكد ذلك بقوله: «بدون معرفة أنفسنا، فإن معرفة الله لن يكون لها مكان».

لم تبقَ أفكار جون كالفن محصورةً في قلاعٍ مغلقةٍ. بل هي ستجد لها من علماء الاجتماع من يتولى تسييلها في مجال التفاعل السياسي والاقتصادي. ولعل أبرز من سيتولى هذه المهمة هو عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864 1920-). الذي يُنظر إليه كأحد أبرز وارثي الهرمينوطيقا الكالفينية. لكن أهمية الأفكار التي وضعها فيبر تعود إلى أنّه مضى بعيداً في تأويل مذهب كالفن، ليبيّن أن الأخلاق البروتستانتية المرتكزة على لاهوت القضاء والقدر، سيكون لها الأثر الكبير في ولادة الرأسمالية. لا سيما لجهة ما ينطوي عليه مخزونها العَقَدي والإيماني من قدرة على تربية كائنٍ بشريٍّ من نوعيةٍ خاصةٍ، صفاته الزهد، والتوفير، والاستثمار. وعند هذه النقطة المفصلية بالذات يشير الفيلسوف الفرنسي ريمون آرون، في ما كان

(157)

يدرس أفكار ثلاثة من علماء الاجتماع الذين ظهروا في نهاية القرن التاسع (دوركهايم وباريتو وماكس فيبر) إلى أن الأفكار التي قدّمها هؤلاء، تنطوي على آراءٍ حول العلاقات بين العلم والدين، وبين الفكر العقلاني والشعور، وفي الوقت نفسه، تبعاً لما يقتضيه الفكر العلمي العلماني، ولما تقتضيه الناحية الاجتماعية من ثباتٍ ووفاقٍ.

والحقيقة أن جميع كتابات فيبر العديدة والعميقة والواسعة حول الدين، بوجهٍ عام، والمسيحية بوجهٍ خاص، إنما كانت محاولاتٌ لتقعيد الرأسمالية على أسسٍ علميةٍ وكاملةٍ إلى أقصى حدٍّ ممكنٍ. ففي كتابه « الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» يسعى فيبر لإثبات أخلاقٍ خاصةٍ بالبروتستانتية الزهدية. فقد كان ذلك، عنده، ضرورياً لأجل تأمين قدرة الرأسمالية الغربية على النمو. أما في كتابه «الخلق الاقتصادي في الأديان العالمية»، فإنه يبحث عن الكيفيات التي شكلت من خلالها أديانً عالميةً، كالكونفوشيوسية، والطاوية، والهندوسية، والبوذية حواجز أمام ظهور رأسماليةٍ عقلانيةٍ شبيهةٍ برأسمالية الغرب، وكيف أن اليهودية القديمة كانت، على العكس من ذلك، نقطة انطلاق عملية العقلنة التي ستبلغ ذروتها في الرأسمالية الحديثة.

ومهما يكن من أمر فإذا كان فيبر معروفاً على الأخصّ في دراسته المشهورة حول «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» (1905). فإن هذا العمل يقع في إطار مجموعة تحليلاتٍ مطوّرةٍ حول الروابط بين الاقتصاد والدين. وهي تحليلاتٌ يُظهر فيبر من خلالها، أهمية ما للمعتقدات الدينية من تأثيراتٍ اقتصاديةٍ، سواءً أكانت تلك

(158)

المعتقدات متأتِّيةً من الكونفوشيوسية، أم الطاوية، أم الهندوسية، أم البوذية، أم اليهودية القديمة.

لم تبقَ العقيدة والإيمان الدينيان في التجربة التاريخية الأميركية ضمن علياء التجريد. كان على المؤسسين الأوائل ومن خَلَفَهُم في ما بعد، أن يبذلوا جهوداً استثنائيةً من أجل تسييل الاعتقاد في ثنايا الزمن السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ولعل هذا الجانب هو أحد أبرز المزايا التي أسست للاختلاف بين الأطروحتين الأميركية والأوروبية. إن هذا الربط الوثيق بين العقيدة والسياسة سوف يُنتج ما يمكن وصفه بالميتافيزيقا السياسية للولايات المتحدة، حيث تظهر الإيديولوجيا هنا تجلياً فريداً للتجربة التاريخية في ما وراء المحيطات.

6 ـ العلمانية المتديِّنة

قد تكون المفارقة في المشهد التاريخي لحضورية الدين في القيامة الأميركية هو ـ على وجه التعيين ـ الزواج العجيب بين الدين والعلمانية. لقد لفت دانييل بيل الانتباه إلى ضرورة وجود علاقةٍ متعاليةٍ تربط بين الأفراد بما فيه الكفاية، ليصبحوا قادرين، في حال الضرورة على تقديم التضحيات الضرورية بأنانيتهم. تلك «العلاقة المتعالية» أي الدينية يجب أن تحتل الموقع المخصّص للعقلانية، وهي ستعطي الشعوب معنى التضحيات التي ستطلبها منهم الليبرالية الجديدة. في حين يُظهر كثيرون حماسة، ليس فوقها حماسة لدى الحديث عن موقع الدين في النضال خلال المرحلة

(159)

الليبرالية الجديدة. وفي حين يرى بعضهم في الدين «اليهودي المسيحي» مصدر «الرأسمالية الليبرالية» بالذات، ويبدون أسفهم لأن الكنائس تحولت اليوم إلى ما يشبه المؤسسات الخاصة والطوعية ما أفقدها الدعم العام، وجعلها عاجزةً عن مواجهة خصومها. يذهب آخرون إلى أبعد من ذلك مثل مايكل نوفال ليصوغوا لاهوتاً حقيقياً للرأسمالية الديمقراطية هو، كالثالوث المقدَّس: ثلاثة نظمٍ في نظامٍ واحدٍ: اقتصادٌ تسيطر عليه السوق، وتنظيمٌ سياسيٌّ يحترم الحقوق الفردية في الحياة، ومجموعةٌ من المؤسسات الثقافية التي تحركها مُثُل الحرية والعدالة للجميع. وإذ تنطلق «الرأسمالية الديمقراطية» من أعالي الثالوث على ما يبيِّن أيديولوجيو اللقاء الحميم بين الدين والليبرالية العلمانية - فإنها تعود وتنزل نحو التواضع والتجسد، وتصبح واقعيّةً لأنها تعلم أنّه «إذا كان الله قد أحبّ إلى أبعد الحدود أن يتعذَب ابنه الحبيب، فلماذا يجنبنا نحن العذاب؟ وإذا كان الله لم يرسل فيالق الملائكة لتغيير العالم من أجل ابنه، فلماذا نحلم بتغييرٍ مفاجئٍ. لذا فالرجاء المسيحي - بحسب هؤلاء ـ هو رجاءٌ واقعيٌّ، ومستعدٌّ لمواجهة القسوة والظلام، ومتيقِّظٌ تجاه قوى الضلال والخطيئة، وبشكلٍ مشابهٍ فإن دياسبورا الشعب اليهودي، معسكرات الإبادة في القرن العشرين مَنَحَا هذا الشعب غريزةً واقعيةً عميقةً، وجعلاه مستعداً لما هو أسوأ، لأن غياب الأوهام هو شكلٌ راقٍ من أشكال الوعي اليهودي والمسيحي[1].

(160)

يجد هذا التصدير الفلسفي - اللّاهوتي حجته في التأويل المسيحاني لجدلية الألم والتجسد. ويندرج ذلك في ما يقوله مفكرو البروتستانتية الكالفينية، من أن الحجة المتمثّلة في التجسد تكمن في احترام العالم كما هو، والاعتراف بحدوده ونواحي ضعفه، وكذلك جوانبه اللاعقلانية، وقواه الشريرة، ورفض الاعتقاد بالوعد القائل أن العالم سيتحول الآن، أو في المستقبل إلى جنة الله على الأرض. حتى الصراع الشرس الذي يخوضه الجميع في السوق الرأسمالية التي تودي بشكل مستمر بحياة ما لا يحصى من البشر، يجد تسويغه اللّاهوتي الكامل في الأمثال الإنجيلية الذكية. أفلم يسبق القديس بولس «الرأسمالية الديمقراطية» بقرون طويلة، حينما دعا المؤمنين إلى التنافس، وإلى أن يكونوا متنافسين»؟

وهكذا يخلص هذا النوع من التفكير الذي يشكل أحد الأسس الكبرى لخصوصية فهم الدين في أميركا، إلى النتيجة التالية: إذا كان التراكم يتطلب في البداية زهاداً ومستثمرين تربُّوا بشكل منهجي على اللّاهوت والدين الكالفيني - كما يييَّن ماكس فيبر - فإننا نحتاج اليوم إلى أشخاص أنانيين إلى أقصى حد، وقادرين على خوض «حرب الكل ضد الكل» لتحل جميع العذابات التي تفرضها الذات الأنانية. وهؤلاء الأشخاص هم الذين يتم تشكيلهم بواسطة هذا النوع من اللّاهوت[1].

إن هذه المفاهيم التي تحولت إلى ضربٍ من الاعتقاد الديني،

(161)

سوف تفضي إلى مفارقاتٍ ذات دلالةٍ عميقةٍ في التأسيس للجمهورية الأميركية. وهو ما تشير إليه الباحثة كارين آرمسترونغ وهي تعرض لحضور الدين في العملية السياسية والدستورية لأميركا الأولى. وحسب آرمسترونغ فقد أدّى الدين دوراً رئيساً في ولادة أول جمهوريةٍ علمانيةٍ حديثةٍ. ولكن بعد أن وضعت الولايات المستقلة دساتيرها سوف يظهر نوعٌ من التناقض. إذ لم يرد فيها ذكر الله إلا عَرَضاً. ففي عام 1986 نقض توماس جيفرسون الاعتراف بالكنيسة الأنغليكانية في فرجينيا، وصرّح إلى الإعلام أن الإكراه في مسائل الدين كان «خطيئةً واستبداداً»، وأن الحقيقة سوف تسود إذا ما سُمح للناس بالاحتفاظ بآرائهم.. مثل على ذلك: المعمدانيون والطرائقيون والبريسبيتيريانز في فرجينيا، الذين كانوا يكرهون موقع الامتياز لكنيسة إنجلترا في الولاية ساندوا الإعلان. وفي مرحلةٍ تاليةٍ حذت الولايات المتحدة حذو فرجينيا، وسحبت الاعتراف بكنائسها. وعندما وُضعت مسودة الدستور الفيدرالي في معاهدة فيلادلفيا في عام 1787 لم يرد ذكر الله فيه إطلاقاً. وفي إعلان الحقوق عام (1789) التعديل الأول للدستور، فُصل الدين عن الدولة رسمياً: لن يسن الكونغرس قوانين تحترم مؤسسة الدين، أو تمنع حرية ممارسة الدين، فمن الآن فصاعداً سيكون الدين مسألةً خاصةً طوعيةً في الولايات المتحدة. كانت هذه خطوةً ثوريةً، وتمت مباركتها من جانب التيارات العلمانية الليبرالية بوصفها إحدى إنجازات العقل. كانت هذه الخطوة مستمدةً فعلاً من فلسفة التنوير المتسامحة، لكن الآباء المؤسسين كانت تحركهم اعتباراتٌ براغماتيةٌ أكثر. كانوا يعرفون أن

(162)

الدستور الفيدرالي أساسيٌّ من أجل الحفاظ على وحدة الولايات. لكنهم كانوا يعلمون أيضاً، أنه إذا ما أرست الحكومة الفيدرالية أياً من «الدينومينشن البروتستانتية «، وجعلته الدين الرسمي للولايات المتحدة فلن تتم الموافقة على الدستور. فعلى سبيل المثال ما كان مندوب الكونغرس  ماساتشوشتس ليصادق على دستورٍ يرسخ الكنيسة الأنغليكانية. لهذا السبب ألغت المادة السادسة من الباب الثالث من الدستور الامتحانات الدينية عند طلب الحصول على وظيفةٍ في الحكومة الفيدرالية. كانت هناك نزعةٌ مثاليّةٌ في قرار المؤسسين للتخلي عن الاعتراف بالدين، وعلمنة السياسة، لكن لم يكن في وسع الأمة الجديدة أن تبني هويتها على أيٍّ من الخيارات الطائفية، والاحتفاظ بولاء جميع رعاياها في وقتٍ واحدٍ. لقد تطلبت احتياجات الدول الحديثة ذلك: أن تكون متسامحةً، وعلمانيةً. لكن بحلول منتصف القرن التاسع عشر أصبحت الولايات المتحدة العلمانية أمةً مسيحيةً متحمسةً، وهذه مفارقةٌ كبيرةٌ. ففي خلال 1780-1790 شهدت جميع الكنائس نمواً جديداً، وبدأت تناهض أيديولوجيا التنوير التي نادى بها الآباء المؤسسون. لقد قدسوا الاستقلال الأميركي، وقالوا مدافعين: إن الجمهورية الجديدة كانت إنجاز الله. وقالوا: إن المعركة الثورية جعلت السماء ضد الجحيم. وإن إسرائيل القديمة فقط عرفت تدخلاً إلهياً مباشراً كهذا في الدستور. لكن تيموثي دوايت راح يحث طلابه، أن «تمحَّصوا تاريخ بلادكم، فسوف تجدون براهين ونِعَمَاً للخلاص الإلهي، ليس أقل مما أُظهر لبني إسرائيل في مصر». لقد تنبأ رجال الدين ـ بحسب

(163)

أصحاب هذه الحكاية ـ أن الشعب الأميركي سيصبح أكثر تقوى، واعتبروا اتساع الحدود دلالةً على الملكوت الآتي. فالديمقراطية جعلت الشعب سيداً، لذلك يجب أن يصبح ساكنو الأرض الجديدة أكثر تقوى إذا ما أريد للولايات المتحدة أن تتجنب المخاطر التي ينطوي عليها حكم الشعب. كما يجب إنقاذ الأميركيين من التإليهية الموجودة عند قادتهم السياسيين. لقد اعتبر رجال الكنيسة أن النزعة التأليهية هي العدو الشيطاني الجديد، وجعلوها كبش فداء لجميع الإخفاقات الحتمية التي تلم بالأمة الناشئة. فالتأليهية - كما رأوها - سوف تؤدي إلى تصاعد الإلحاد والنزعة المادية، لأن التأليهية كانت تعبد الطبيعة والعقل بدلاً من عبادة المسيح. لقد انتشر خوف من مؤامرة فصامية، أصحابُها كانوا ملحدين وماسونيين يتآمرون لقلب المسيحية في الولايات المتحدة. وعندما أصبح جيفرسون رئيساً عام 1800 كان هناك حملة معادية للإلحاد و«للثورة الفرنسية التي لا رب لها» حسب قولهم[1].

لقد تعاون الآباء المؤسسون ورجال الدين في خط سياسي لخلق جمهوريةٍ علمانيةٍ حديثةٍ، لكن كلا الفريقين كان لا يزال ينتمي إلى العالم المحافظ القديم من نواحٍ عدةٍ. كانوا أرستقراطيين ونخبويين. وكانوا يعتقدون أن مهمتهم - بصفتهم رجالات دولة - أن يقودوا الأمة من فوق، ولم يكن لديهم تصورٌ أنّ إمكانيّة التغيير كانت آتيةً من تحت. كانوا يعتقدون أيضاً أن التحول التاريخي يتأثر بالشخصيات العظيمة التي يشبه دورها دور أنبياء الماضي: يدفع إلى الأمام

(164)

بسيروراتٍ غير شخصيةٍ، وبيئيةٍ، واقتصاديةٍ، وقوى اجتماعيةٍ تحبط مخططات مشاريع أقوى القادة. فبين عام 1780 و 1790م حصل نقاشٌ كثيرٌ حول طبيعة الديمقراطية، ومقدار السلطة التي سوف تعطى إلى الشعب. فجون دامز - الرئيس الثاني للولايات المتحدة - راح يشكّك بأيّ حكومةٍ قد تؤدي إلى حكم الرعاع وإفقار الأغنياء. لكن أنصار جيفرسون الأكثر راديكاليةً تساءلوا كيف أن بوسع القلة أن تتكلم بالنيابة عن الأكثرية. لقد احتجوا على «استبداد» حكومة آدامز، ونادوا بأن صوت الشعب يجب أن يكون مسموعاً. فلقد أمدّ نجاح الثورة إحساساً بشحنة القوة، وأوضحت لهم أن السلطة المستقرة هي عرضة للوقوع في الخطأ، وليست سلطة لا تُقهر بأي شكل من الأشكال. لقد اعتقد أنصار جيفرسون أن الناس العاديين يجب أن ينعموا بالحرية والحكم الذاتي الذي بشّر به المتفلسفون. كانت السخرية من الأطباء والمحامين ورجال الدين وأخصائيين آخرين تنبسط على صفحات الصحف. لا أحد يجب أن يصدق من يسميهم الناس «خبراء» القانون، والطب، والدين، يجب أن تكون لمصلحة الإدراك السليم، وضمن متناول الجميع.

فالدين والسياسة ـ في حقبة التأسيس ـ كانا جزءاً من رؤيا واحدة. وتذكر الروايات التاريخية التي تنقلها الباحثة كارين آرمسترونغ أن لويرنزو داو (dow) بشعره المسترسل الأشعث، وعينيه البراقتين بدا مثل يوحنا المعمدان العصري كان يرى أن العاصفة هي عملٌ مباشرٌ من الله، واعتمد على الأحلام والرؤى من أجل بصيرته. وقد يكون التغير في أحوال الطقس برأيه دليلاً على نهاية الأيام القادمة. وادعى

(165)

المقدرة على التنبؤ بالمستقبل. لقد بدا لويرنزو كما لو كان النقيض لعالم الحداثة الجديد. مع ذلك كان يستهل موعظته باستشهاد من أقوال جيفرسون أو توماس باين. وأحياناً كان يقوم بدورٍ حداثيٍّ حقاً: حث الناس أن يرموا عن كواهلهم قيود الخرافة والجهل، وأن يُنحُّوا جانباً سلطة مؤسسة المتعلمين، وأن يفكروا بأنفسهم. ففي الولايات المتحدة الجديدة بدا الدين والسياسة وكأنهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، ثم لينسَكبا بعضهما في بعض بسهولة، مهما كان قول الدستور[1].

7 ـ ما بعد العلماني كملاءمةٍ لتاريخٍ أتٍ

إذا كانت إحدى أبرز سمات الظاهرة التاريخية الأميركية هي القدرة على التلاؤم مع تقلُّب الأزمنة، فهذه السِمَة هي وليدة حالةٍ دينيةٍ على أبعد تقدير. ولعل قابلية الزمان والمكان الأميركيين للانسجام والتجانس مع التعددية الهائلة للفرق والمذاهب المتفرعة من المسيحية البروتستانتية يقدم المصاديق الجدية على مثل هذه القدرة.

فلو اتخذنا من الاختبارات الدينية الأميركية المعاصرة مجالاً للكلام على سَيْريَّة التكيُّف مع تقلّب الأحوال الأزمنة، لبدت لنا البروتستانتية الإنجيلية نموذجاً استثنائياً لتلك المصاديق. ذلك أن هذه الطبقة الدينية التي وصلت إلى مركز صناعة القرار الأمبراطوري العالمي، جاءت حصيلة تداخلٍ، وتركيبٍ، وتواصلٍ مع الأطوار الدينية المديدة في التاريخ الأميركي. وهكذا فمن دينٍ مدنيٍّ، إلى

(166)

فرقةٍ دينيةٍ أصوليةٍ، إلى يمينٍ مسيحيٍّ جديدٍ، تطرح عودة البروتستانتية الإنجيلية منذ ثمانينيات القرن العشرين، ثلاثة أسئلة رئيسة:

الأول: لماذا هنا (أي في أميركا) وليس في مكان آخر؟ وهذا السؤال يعود إلى أن الولايات المتحدة هي البلد الوحيد بين المجتمعات الصناعية الغربية الذي ظهرت فيه حركةٌ دينيةٌ أصوليةٌ ذات أهميةٍ مجتمعيّةٍ.

الثاني: لماذا (هذه العودة) الآن؟ ومرد هذا السؤال عائدٌ إلى أن الجناح الأصولي للبروتستانتية الإنجيلية بين ثلاثينيات القرن العشرين، وسبعينياته، كان تَقَويّاً، منطوياً على ذاته نسبياً، ويكاد يكون قطاعاً مجهولاً من البروتستانتية الأميركية.

الثالث: ما المضاعفات والنتائج المحتملة لدخول الأصولية الدينية النطاق العام في المتجمع المعاصر؟[1]

ومهما يكن من أمر، يجب النظر إلى الطابع الفريد والاستثنائي لظاهرة الأصولية الدينية الأميركية من زاوية الهشاشة التاريخية التي اتسمت بها مسيرة العلمنة في أميركا. فمنذ عهد الاستقلال إلى الآن، عرفت البروتستانتية الأميركية ثلاث هزّاتٍ قلّصت دورها في الحياة العامة: الهزة الأولى، التي تمثلت في سحب اعتراف الدستور بالدين، وأدّت إلى إقامة «جدار الفصل» بين الكنائس البروتستانتية والدول الأميركية وهي مسألةٌ لا تزال موضع نقاشٍ. وقد تسبب هذا الأمر بفصل الدولة عن المؤسسات الكنسية،

(167)

وإلى تفكك المجتمع السياسي الذي يضم مواطنين من الأديان كافة. غير أن علمنة الدولة لم تؤدِّ في بدايتها إلى انحسار الدين أو خصخصته، بل خلاف ذلك، وكما هو معلومٌ بشكلٍ عامٍ اليوم، شكّلت الحماية الدستورية لممارسة الدين بحرية، الإطار البنيوي لظهور وانتشار غير مسبوقين لما سمّاه مارتن مارتي «اللحاف المجنون للمذهبية البروتستانتية». ففي الوقت الذي كانت فيه المسيحية في القارة الأوروبية في انحسارٍ وغير قادرةٍ على مواجهة الثورات الصناعية والسياسية والثقافية، كانت المسيحية الأميركية «غارقة في بحر الإيمان». من هذا المنطلق، باتت النزعة الإحيائية الإنجيلية هي المبدأ التنظيمي والجامع المشترك بين جميع الفرق الدينية التي تتنافس في مجال المنظومة الدينية البروتستانتية المذهبية. وبحلول العام 1830، كانت البروتستانتية الإنجيلية قد أثبتت أنها هي الدين الأميركي العام للمجتمع المدني الأميركي. وقد سمح تناغم المذاهب البروتستانتية وتشابهها بإطلاق حملةٍ إنجيليةٍ كبرى تتخطى الفروق المذهبية البروتستانتية، وهدفها تنصير الشعب، والنظام الاجتماعي، والجمهورية[1].

نظراً لهذا التطور التاريخي، ظَهَرَ مبدأ الحرية الدينية الذي كرّسه «النظام الأساسي لولاية فرجينيا حول الحرية الدينية» (Virginia Statute on Religious Liberty) ثم التعديل الأول للدستور الأميركي على صورة أكثر وضوحاً. فتأسيس كنيسة على الصعيد

(168)

الوطني كان يعوقه من غير شك التوزُّع المناطقي من جهة، والقوة المتساوية نسبياً التي تمتعت بها كنائس الاستعمار الثلاث في زمن الاستقلال من جهة أخرى. وهي: الكنيسة المجمعية، والكنيسة المشيخية، والكنيسة الأنغليكانية. ولكن النتيجة أوشكت أن تقضي إما إلى نشوء مؤسسات دينية متعددة، وإما إلى ولادة دين مسيحي عام (أي بروتستانتي) لو لم يحصل التعاون الفاعل بين جفرسون، وماديسون، والمعمدانيين المعارضين في فرجينيا. هذه «الحقبة الجفرسونية» التي جمعت بين الربوبية الجمهورية والبروتستانتية الأصولية - التَقَوية كانت هشة ووجيزة. ولكنها استطاعت أن توجد واقعاً دستورياً نجح، بفضل التقديس التدريجي للدستور، في التصدي للهّوة الكبيرة التي تفصل بين البلد الدستوري والبلد الفعلي، وبالتالي الحملات البروتستانتية المتكررة لإدراج الله أو المسيح في الدستور، وتعريف أميركا بأنها دولةٌ مسيحيةٌ، وحماية الديانة المسيحية بوصفها قانون البلاد المشترك.

ولئن كان العامل الديني عنصراً فعالاً في المكونات السياسية الأميركية منذ بداية نظام الأحزاب، فإن الدين العام في أميركا لم يكن يعمل على صعيد المجتمع المعبّأ سياسياً. فعلى الرغم من أن الانصهار بين الولاء للحزب والولاء للمذهب الديني كان مهماً، فإن النظام الحزبي الأميركي لم يكن منظماً وفق منطق التقسيمات المذهبية أو العلمانية - الدينية، كما كانت الحال في الكثير من البلدان الأوروبية. وإذا كان الأمر كما جاء على لسان توكفيل من أن «الدين في أميركا يجب النظر إليه على أنه أول مؤسسةٍ سياسيّةٍ لدى

(169)

الأميركيين»، فهذا مرده إلى الدور الذي اضطلع به الدين في النطاق العام للمجتمع المدني. فالسلطة الدينية القائمة التي كان يتمتع بها نظام نيو انجلند، لم تتمكن من الحيلولة دون انتخاب جيفرسون رئيساً، كما فشلت في أن تحول دون نشوء الديمقراطية الجاكسونية. إلا أن هجومها ضد الإيمان بالله، والخيانة، والمؤامرات التي تحاك في الخارج، إضافة إلى الحماس الإحيائي الذي أثارته الصحوة الكبرى الثانية، كان لها أثرٌ فاعلٌ جداً في إخراج حركة التنوير الأميركية عن مسارها، ومن ثم في تنصير الجمهورية.

مهما يكن من أمر، فإن مفهوم العلمنة في الواقع التاريخي الأميركي مشوبٌ بالغموض، بل يمكن القول أنه مفهومٌ غير مفكرٍ فيه بنحوٍ كافٍ في علم الاجتماع المعاصر. فإذا كان مفهوم الدولة الذي تبلور في أزمنة التنوير الأوروبية قام على مبدأ التوحيد الصارم تحت ظل العلمنة التامّة، ظهر المفهوم عينه على نشأةٍ معاكسةٍ في التجربة التاريخية الأميركية. في هذه الأخيرة برزت الدولة كمثالٍ يحتذى به للقاء الأضداد. من القراءات للحالة الأميركية السوسيو–تاريخية التي جاءت بالفكرة الحديثة للفصل بين الدولة والكنيسة، أنّه لم يتضمن مفهوم الدولة العلمانية (Secular State) ما يقصد بعبارة (Secularisation) «الدنيوة» الفرنسية. فالتعديلان الدستوريان الأول والرابع عشر يحددان مبادئ الفصل والحريات، على الرغم من عدم علمنة المجتمع في مجال الاخلاق والإيمان والآداب العامة. في هذا الصدد يرى الباحث الأميركي في علم اجتماع الأديان تالكوت بارسونز في العام 1957 ضرورة التمييز بين

(170)

علمنة القيم وعلمنة مؤسسات الدولة. فقد سمح التطبيق الأميركي بتعريف المستوى الثاني (علمنة الدولة) بشكلٍ لا يمكن الخلط بينه وبين المستوى الأول (علمنة القيم) ومن دون هذا التمييز وكان سيقع الالتباس والغموض والفوضى في تعريف العلمنة (Laïcisation) على أنها جزءٌ من الدنيوة (Sécularisation)[1].

البيِّن أن المختبر التاريخي الأميركي أفلح وإن بدرجاتٍ متفاوتةٍ في تميز دلالتي «العلمنة» و«الدنيوة». وذلك من خلال ايجاد منفسح لهدنة تمهِّد لإجراء المصالحة واللقاء الإيجابي بين علمنة الدولة و«ديننة المجتمع». ولذا يصير الكلام على نموذج لا هو بعلمانيٍّ ولا هو بدينيٍّ، كلاماً جائزاً لوصف الحالة الأميركية التي اصطلح عليها بـ الدين المدني. لهذا يبدو التمييز بين مفهومي العلمنة والدنيوة أكثر وضوحاً من وجهة نظرٍ تحليليّةٍ عندما يتعلق الأمر بدراسة العلاقة بين السياسة والدنيا والآثار القانونية والأخلاقية المترتبة على هذه العلاقة. فإذا كان يُقصد بالدنيوة الفقدان التدرجي للأهمية الثقافية والاجتماعية للدين باعتباره إطاراً معيارياً بوجه الأدب والأخلاق وطرق ممارسة الإيمان، فالعلمنة تقوم على فصل المؤسسات عن الدين وسلطة الكنيسة. وبالتالي فإن العلمنة تُظهر بشكلٍ أوضح من مفهوم الدنيوة إرادة الدولة في إضفاء الشرعية على أفعالها بغض النظر عن المفاهيم الإيمانية والأخلاقية والدينية المحددة، فضلاً عن أنها تسمح

(171)

بتحديد مبادئ القانون والعدالة التي على النظام السياسي تنفيذها في إطار ديمقراطيةٍ ليبراليةٍ ذات سياقٍ تعدديٍّ[1].

لقد تزامنت «دمقرطة» الجمهورية الأرستقراطية، مع «دمقرطة» المسيحية، وتآزرتا؛ وكان لهما أثرٌ مشابهٌ في الثقافة السياسية والدينية. فعلى الرغم من كون أندرو جاكسون انفصالياً متشدداً، كان في الوقت نفسه أول رئيس أميركي (من الطائفة الإنجيلية). وسرعان ما اكتسبت البروتستانتية الإنجيلية قدرة التحكم بالخطاب العام المتداول في المجتمع المدني الأميركي. وباسثناء ليبرالية هارفارد الوحدوية، بدأ توليف جديد بين الإيمان الكالفيني، والواقعية التفاهمية الاسكتلندية، والدين الإنجيلي القلبي حيث راح ينتشر في الكليات البروتستانتية على التوالي. وقد نجح هذا التوليف في فرض همينته الثقافية على حياة الفكر» حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر. لكن هذه الهيمنة الثقافية لم تقتصر على الكُتل النخبوية، بل شملت، من خلال المدارس الحكومية والمدارس المشتركة وحركات مدارس الأحد، حيّز التربية والتعليم الديني بأكمله. ثم توسعت حتى شملت وسائل الإعلام، والجمعيات، وحركات الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي. هكذا أرست المجتمعات الإنجيلية البنية التحتية لجميع أنواع الجمعيات التطوعية، وأصبحت الإحيائية البروتستانتية مهد الحركات الاجتماعية الأميركية. أما في مطالع القرن الحادي والعشرين فقد تمكَّنت الإحيائية البروتستانتية

(172)

بأحيازها اللاّهوتية وشرائحها الفكرية المتعددة أن تلقي بظلالها على ثقافة أميركا وسلوكها.

لقد بات معلوماً أن العصر الأعظم للقومية الأميركية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسماتٍ مفصليةٍ أخرى «للاستثناء» الأميركي. لقد ورثت المستعمرات في أميركا الشمالية من بريطانيا عوامل قويّةً للهوية الوطنية الثقافية الجاهزة تتركز على مزيجٍ من الديانة البروتستانتية والإيمان بمؤسسات القانون والحرية والحكومة التمثيلية[1]. تجسدت هذه الهوية في مؤسساتهم الخاصة، وفي ما بعد بالدستور الأميركي[2].

في أوائل القرن العشرين كتب هربرت كرولي، أول رئيس تحرير نيوريببليك New Republic عام 1909: إيمان الأميركان ببلادهم هو إيمان ديني، إن لم يكن بالعمق ذاته الذي للإيمان الديني، وإنما إلى حد كبير، سلطته المطلقة والشاملة. إنه يتخلل الهواء الذي نتنفسه. في طفولتنا سمعنا توكيده أو الإيحاء به في حوارات كبارنا. في كل مرحلة من مراحل تعليمنا أضيفت شهادات إضافية لتثبيته. الصحف وكتاب الروايات، الخطباء وكتاب المسرحيات، حتى لو كان عطاؤهم ضعيفاً في أمور أخرى إلا أنهم على الأقل كانوا واعظين

(173)

أمناء عن الحقيقة المطلقة. من كان ينزع للشك لا يجادله أحد بل يُهمل. إن هذا الأمر هو من نوع الإيمان الذي يصبح التزاماً أكثر من كونه مصدراً للأفكار؛ وسواء بالوعي أم باللاوعي، فإنه يدخل بشكل واسع النطاق في حياتنا الشخصيّة بوصفه تأثيراً تكوينياً[1].

من علماء الاجتماع اليوم، من يبيِّن الحاجة إلى تأملٍ لاهوتيٍّ منهجيٍّ عميقٍ يقدر على تخطي النفعية بوصفها عقيدةً أميركيةً صافيةً، بهذا المعنى يبدو لافتاً ما أومأ إليه صائغ مانيفستو العلمنة الأميركية هارفي كوكس في العام 1965، ولا سيما لجهة إلحاحه لا على ضرورة الدين وحسب، بل على أطروحة كون المجتمع ككل هو ظاهرةٌ دينيّةٌ..

(174)

 

 

 

 

 

 

الفصل الخامس

نقد ما بعد العلمانيّة

 

(175)

* من أظهر السمات التي يمكن استخلاصها من اختبارات العقل الغربي، أنه صنع مدائن الحداثة ثم ما لبث حتى وقع في أسرها. كما لو أنه آنَسَ إلى صنعته حتى صارت له أدنى إلى كهوفٍ ميتافيزيقيةٍ مغلقةٍ. ومع أن مساءلة الذات في التجربة التاريخية للحداثة أنتجت تقليداً نقدياً طاول مجمل مواريثها الفكرية وأنماط حياتها، إلا أن هذه المساءلة- على وزنها في تنشيط الفكر وبث الحيوية في أوصاله- لم تتعدَ الخطوط الكبرى التي رسمتها المنظومة الصارمة للعلمنة.

بسبب من ذلك، سنلاحظ أنّ جلَّ المنعطفات التي حدثت في حقل المفاهيم والنظريات والأفكار جاءت  مطابقةً لمعايير الفلسفة السياسية للدولة الأمة، ولمقتضيات الثورة العلمية. لاحقاً، سوف يتبيَّن لنا أن هذه الفرضية لم تستثنِ فكرة ما بعد العلمانية من معاييرها. وإنّما تعاملت معها كأطروحةٍ مستحدثةٍ أوجبتها حاجة المجتمعات الغربية إلى احتواء تحديات الحداثة الفائضة في مستهل القرن الحادي والعشرين.

أول ما يطالعنا في صدد هذه الأطروحة هو النقص الذي يشوب تعريفها ويحول دون التعامل معها كمفهومٍ ناجزٍ. غير

(176)

أنّ هذا النقص ليس مردُّه محدوديّة العقل الغربي أو قصوره عن نحت المفاهيم، وإنّما يعود إلى صدمةٍ طاولت اختبارات الحداثة بأبعادها الأنطولوجية والمعرفية والتاريخية. ذلك يشير بما لا يدع فرصةً للشكّ أنّ فتح أفق الكلام على «ما بعد العلمانية» يدخل دخولاً بيِّناً في السجال الممتد حول أزمة الحداثة كمنظومة حياةٍ شاملةٍ للحضارة الغربية المعاصرة. ولئن كان الأمر متعلقاً هنا بالعلمانية وتطبيقاتها التاريخية على وجه التعيين، فلأنّها تؤلف نقطة الارتكاز التي تمحورت حولها مجمل البنية الغربية بأحقابها المختلفة. من هنا يمكن أن نفهم الخلفيات التي حفزت عدداً من الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع على المبادرة إلى التنظير لضرورة تجاوز العلمنة في صيغتها الكلاسيكية. ولو كان لنا أن نستظهر دوافع هؤلاء من وراء فكرة «ما بعد العلمانية» لأجملناها في ثلاثة:

الدافع الأول: يعكسه استشعارهم للمآلات التي قد ينتهي إليها المأزق التكويني للحضارة الحديثة. لا سيما لجهة استغراق الانتلجنسيا الغربية في التماهي مع سؤال التقنية، وإعراضها عن متاخمة الأبعاد الروحية والأخلاقية والمعنوية للإنسان المعاصر.

(177)

الدافع الثاني: تعكسه خيبة الأمل الكبرى مما انتهت إليه اختبارات العلمنة في الدول والمجتمعات الأوروبية. أظهر هذه الاختبارات تمثلت في إقصاء الدين بذريعة تمكين العقل بعد «إزالة السحر عن العالم». ومن هذه الناحية على وجه التحديد تأتي فكرة ما بعد العلمانية كانفعالٍ بهذه الخيبة وبالنتائج المترتبة عليها.

الدافع الثالث: يترجمه رهان أصحاب الأطروحة على ولادة أفقٍ معرفيٍّ جديدٍ يعيد تشكيل منظومة المجتمعات الغربية، ويرمِّم ما تصدع في بنيتها. أما السبيل إلى أفقٍ كهذا فهو الشروع في استراتيجية تفكير تحتل فيها فكرة ما بعد العلمانية رأس أولوياتها.

تدخل الدوافع الثلاثة التي مرَّ ذكرها، في صميم المنهج الذي يمكن الأخذ به بغية ترتيب آلية فهمٍ لفكرةٍ لا تزال قيد المعاينة والدرس. لأجل هذا رأينا كيف أن جل المناقشات الدائرة حول المفهوم كانت أقرب إلى التخمين والاحتمال، منها إلى الأحكام النهائية والتقريرات الدقيقة. حتى هابرماس نفسه الذي يُعدُّ في طليعة المبادرين إلى تفعيل هذا المفهوم، سينبري إلى متاخمته بشيءٍ من الحذر والخشية. ما يدل على

(178)

احترازهِ من إشكالية الخلط الحاصل بين التفكير في مجاوزة أزمات الحداثة المعاصرة، وواقع المجتمعات الحديثة التي باتت عصيةً على قبول تغييراتٍ جذريةٍ في نظامها القيمي وأنماطها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية[1].

مشكلة المنهج في قراءة المفهوم

من المعاثر التكوينية في الفكر التنويري الغربي، انه ألزَم نفسه بمنهجين صارمين (فينومينولوجي وتاريخاني) واكتفى بهما لمقاربة شأن الدين. كانت العلمانية بحقولها المعرفية المختلفة قيمةً حاكمةً على بنية هذا الفكر، سواءً في رؤيته للوجود، أو في هندسته المعرفية للنظام السياسي والاجتماعي والأخلاقي.

وتبعاً لفرضيتنا من أن «ما بعد العلمانية» ليست سوى إحدى التداعيات المترتبة على ما اقترفته العلمانية من عثراتٍ في النظر والعمل، يصير ضرورياً التعرُّف على مدى تأثرها بالمبدأ المؤسس لنظرية العلمنة.

تفضي القراءات الإجمالية إلى استنتاجٍ أوليٍّ مؤداه: أن

(179)

هابرماس وصحبه من المنظِّرين لم يغادروا المنهج التاريخاني في النظر إلى الدين بوصفه ظاهرةً سوسيو-تاريخية. يعود هذا في الواقع إلى الأثر الكبير الذي تركته المادية التاريخية على جمعٍ وازنٍ من الفلاسفة وعلماء الاجتماع المعاصرين، خصوصاً أولئك المحتَسبين على مدرسة فرانكفورت التي كان هابرماس من أبرز روادها المتأخرين. ربما لهذا يصح القول أن عناية هؤلاء بالشأن الديني كانت محكومةً بالمنهج العلماني لعلم اجتماع الدين. ومع أن الرأي المناهض للعلمانية بدا الأكثر رواجاً بين علماء الاجتماع حيث يؤكد أصحابه على ضرورة إحياء الحياة الدينية وينقدون النظريات والأسس العلمانية، فقد فعلوا ذلك بأدواتٍ ومناهج نظرٍ علمانيةٍ واضحة المعالم. بل حتى أولئك الذين ذهبوا أبعد من ذلك، وأعربوا عن اعتقادهم بقدرة الدين على قيادة المجتمعات البشرية لم يفارقوا المنطق المادي التاريخي لعلم اجتماع الدين[1]. وعلى الرغم من أنّ هابرماس قد تناول النظرية العلمانية بالشرح والتحليل في إطار رؤيةٍ محدودةٍ تقتصر على العالم الأوروبي، إلا أنّ السبب الأساسي لشكّه في جدوى النظرية

(180)

العلمانية يكمن في اعتقاده بعدم قدرتها على علمنة العالم،[1] واللاّفت في هذا المضمار أن نزعته الإيجابية نحو الدين عائدةٌ من جهةٍ إلى كونها موضوعاً فلسفياً مستقلاً، ومن جهةٍ ثانيةٍ إلى أنّها نشأت لديه إثر انتعاش الحياة الدينية، وتوسُّع الظاهرة المعنوية في مختلف النواحي الاجتماعية والسياسية في جميع أرجاء العالم. وبقطع النظر عما ذهب إليه هابرماس في حصر المقترح «المابعد علماني» بالغرب الأوروبي، واستثنائه لمجتمعات العالم الإسلامي، - وهذا بالطبع يستلزم نقاشاً معمّقاً في مورد آخر -  فإن السمة الأساسية للعصر «ما بعد العلماني الهابرماسي» هو التعددية الثقافية التي تتيح المجال أمام تعايش مختلف الأديان والتقاليد والأفكار الفلسفية في مرحلةٍ زمنيةٍ واحدةٍ وفي أغلب الأحيان هذه الفترة الزمنية تكون في إطار مجتمع غربي.

لا شك بأن مصطلح «ما بعد العلمانية» يومئ إلى اعترافٍ ولو متأخرٍ بدور الدين كمؤثرٍ في الشخصية الإنسانية في أغلب العالم. ومن البيِّن أنّ مثل هذا الاعتراف يشي بتخلٍ واضحٍ وصريحٍ عن محاولة العلمانية الإقصائية فرض نموذجٍ عدائيٍّ

(181)

تجاه الدين باعتباره منافساً لها في إطار ما تسميه سعيها لتحرير الوعي الإنساني. غير أنّ ما يجدر لفت الانتباه إليه هو أنّ هذا الإقرار ينطلق من ذهنيّةٍ علمانيّةٍ أولاً وآخراً. وهو ما تعبر عنه عبارة «لا أحد ينتصر على أحد» التي يقول بها المؤيدون لعودة الدين إلى المجال العام. الأمر الذي يدل على أن هذه المعادلة صيغت تحت رعاية الدولة العلمانية، بحيث يكون الدين جزءاً من التنظيم العلماني للمجتمع ما بعد العلماني.

مثل هذه النتيجة سوف تضاعف من العناصر المساعدة على التحكم بالمجتمع الديني بحجة منع الدين مجدداً من التحكم بالمجتمعات المعاصرة. وما استعادة ثنائية «ما لقيصر لقيصر وما لله لله». إلا من قبيل عودة العلمانية من الباب الخلفي إلى مجتمعات الحداثة. وكما يرى بعض نقاد أطروحات ما بعد العلمانية.. فإن العلمنة في مثل هذه الوضعية سوف تستمر بروحها وفرضياتها في الحكم على الدين. في معظم البلدان الأوروبيّة تسود في الواقع علمنةُ الاعتراف بالدينيّ، أي إن العلمنة التي- إلى احترامها استقلاليّة كل من الدولة والأديان، ومع ضمانها للمبادئ الأساسيّة للحريّات- تعترف بمساهمات الأديان اجتماعيًّا وثقافيًّا ومدنيًّا، إلا أنها تدعو إلى إدماجها في

(182)

الدائرة العامّة[1]. تلقاء هذا ثمة وجهة نظر أكثر تقدماً حيال الدين تقول التالي: إذا كان الاتحاد الأوروبيّ مختبرًا على المستوى الاجتماعي السياسيّ، فإنّه كذلك أيضًا على مستوى العلمنة: إنّه يخترع علمنةً، هي مع احترامها لامتيازات الدول الأعضاء حول علاقات الكنيسة والدولة، تروح تضمن استقلاليّة السياسة والحريّة الفرديّة في وجه كلّ السلطات الدينيّة. المسألة تتعلّق هنا تحديداً بمخططٍ علمانيٍّ يمنح المشروعية لـ «الما بعد علماني». هذا ما يكشف عنه كما يرى الباحث الفرنسي في علم الاجتماع ب. ماسّينيون، حين يتحدث عن «مختبرٍ حقيقيٍّ لإدارة التعدّديّة الدينيّة والفلسفيّة»، «حيث يتمّ ابتكار أشكالٍ جديدةٍ للعلاقات بين المنظّمات التي تحمل إحساسًا وتطلّعات سياسيّة-إداريّة» في إطار إعادة تنظيم وظائف الدولة والديمقراطيّة. هذه العلمنة الأوروبيّة المتجددة، تَدخل تمامًا ضمن التطوّر الدينيّ العام للمجتمعات الأوروبيّة، ويبين ماسينيون مثل هذا التطور أنّه سوف يقودُ هذه المجتمعات نحو ما يسمى بـ «العلمانيّة التعدّديّة»، وهو «الأنموذج الذي

(183)

لا ينبغي فيه للدين ممارسة السيطرة على الحياة الاجتماعية، ولكن يمكنه لعب دوره تمامًا كمورد روحيّ، أخلاقيّ، ثقافيّ أو حتّى سياسيّ بالمعنى الواسع جدًّا، في احترام استقلاليّة الأشخاص والتعدّديّة الديمقراطيّة»[1].

هذا الموقف لدى ماسينيون يعكس بلا أدنى شك وجهة نظرٍ تنتسب إلى الفضاء الفكري ما بعد علماني، إلا أنه يفصح عن توجُّسٍ وخشيةٍ من رجوع الدين ليتبوَّأ دوره في العالم الأوروبي. وهو ما تعبِّر عنه الدعوة إلى «علمانية تعددية» يبقى الأصل الحاكم فيها للعلمانية نفسها. حتى ليبدو الأمر كما لو أن السؤال عن وضعية الدين والإيمان يعود في هذه الحالة إلى سيرته الأولى. أي إلى اللحظة التي تأسست فيها الدول الديمقراطية تحت ظلال الشعار الشهير «أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله». وهو شعار ما لبث أن تحول إلى أيقونةٍ إيديولوجيةٍ تستعملها السلطة الديمقراطية متى تشاء.

بإزاء ذلك يُطرح السؤال الاعتراضي التالي: كيف ستتصدى الدولة ما بعد العلمانية لظاهرة الانهيار المعنوي والأخلاقي التي تعصف بمجتمعات الغرب المعاصر، وعلى وجه

(184)

الخصوص كيف ستواجه الإلحاد كظاهرة ساعية إلى إنتاج علمنة تقيم الحد على أي عودة للإيمان الديني؟

الإلحاد كهاجس ما بعد علماني

قد لا يكون منطقياً الكلام على موقعية الدين والإيمان الديني في المجتمعات ما بعد علمانية، من دون النظر إلى تحديات الإلحاد. فلقد أفصح تاريخ العلمانية عن استشراء واسع النطاق للحالة الإلحادية لم تقتصر أسبابها على الإقصاء الذي مارسته الدولة العلمانية (فرنسا مثالاً) وإنما أيضاً وأساساً بسبب منظومة القيم الفلسفية للعقلانية الحادة. ربما لهذا لم يكن ثمة عبارة أبلغ من توصيف مآلات العلمنة في الغرب بأنها حداثة ضد الله[1].. ومثل هذه العبارة ستدخل في صميم مشاغل الفكر الناشط حول الأطروحة الما بعد علمانية. فليس من شك في أن النقاش المعمَّق حول ثنائية الإيمان الديني والعلمنة، مرده إلى استشعار خطرين داهمين يحدقان بحاضر الغرب ومقبله: الأول: ضمور جاذبية العلمنة كتجربة ونظرية. والثاني: عودة سؤال الإيمان كرد على الفراغ واستشراء الإلحاد.

(185)

هنالك، بلا شك، رابط وطيد بين الخطرين المشار إليهما، بل وينتجان بعضهما بعضاً. لذا تعدُّ الظاهرة الإلحادية من أبرز البيِّنات على تهافت العلمنة وهي تخوض معاركها الفاصلة مع الإيمان الديني. فالإلحاد ما صار ظاهرة غربية إلا مع حداثة حرصت على نزع الإيمان حتى يتسنى لها الاستحواذ على دنيا الإنسان بلا أدنى منازعة.

سواء قرأنا الإلحاد كـ «منزع ميتافيزيقي» حيال الوجود، أو كردة فعل على إجراءات الحداثة المعلمنة سوف ينتهي بنا المسعى إلى منطقة إشكالية لا يسع منظرو ما بعد العلمانية إلا محاكاة أسئلتها وتحدياتها. وأنّى كان الأمر، لم نشهد في التراث العلماني على تنظيرٍ ذي بال يُسدِّدُ مرمى الظاهرة الإلحادية أو يسوغ مدّعاها.. حتى لقد بدا لنا في حمى الجدل حول ماهية الإلحاد وهويته، أن التعريف الأكثر قرباً منه وانطباقاً عليه هو السلب والإعراض. حيث يركن المُلحد من أول أمره إلى تلك الجملة الاعتراضية: لن أؤمن بما يؤمن به المؤمن ما دمت لا أرى الدليل على هذا الإيمان عيناً وواقعاً حسيِّاً.. وبهذه المنزلة تصير المقولة الإلحادية رؤية ذات طابع إيذائي؛ تُنكر على المؤمن إيمانه بوجود صانع ومدبِّر للكون، وتزعم

(186)

إمكان الفهم التام للعالم والسيطرة عليه. ومن المفارقات التي لا تخلو من إفراط، ان الذين يلحدون (بدراية أو من دونها) كثيراً ما يخلعون على إلحادهم رداء العقلانية. وما يفعلون هذا إلا لظنٍ منهم بقدرة «العقل العلمي» على الكشف عن أعمق حقائق الكون والتعبير عنها، من آلية شروق الشمس إلى منشأ الطبيعة البشرية ومصيرها النهائي.

كل ما جاء به الإلحاد الغربي من محاجَّات، فإنما من تضخم الذات التي أسلمت نفسها لعَلْمنةٍ دارت جلُّ أسئلتها مدار فرضيتين مركزيتين حكمتا فكر الغرب الحديث سحابة أربعة قرون خلت.

1 - فَرضَية «العِلْموية»، لمَّا قرَّرت أن العلم والتفكير العلمي قادران لوحدهما أن يحدِّدا كل ما علينا أن نتقبله على أنه حقيقيٌّ. وأنّ كلّ شيءٍ يجب أن يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، أو أيّ فرعٍ آخر من فروع العلم، أما الروحانيات وحتى الشعور بالجمال والحدس والعاطفة والأخلاقيات، فقد اختزلتها النظرة العقلانية إلى مجرد متغيراتٍ في كيمياء الدماغ تتفاعل مع مجموعةٍ من القوانين الميكرو ـ بيولوجية المرتبطة بتطوّر الإنسان.

(187)

2 - فرضيّة الهيمنة والاستحواذ، لمَّا رأت أنّ الهدف من العلم – كما يقول فرانسيس بيكون - هو التحكم بالعالم الخارجي واستغلال الطبيعة، والسعي الحثيث إلى جلب المنافع أنَّى وُجِدَت...

من أجل ذلك سيكشف مسار الحداثة الفائضة عن خرابٍ مبينٍ في اليقين الجمعي سيُعرِّفُهُ عالم الاجتماع الألماني دوركهايم بـ «هيكل الشرك الحديث». وهذا هو في الواقع، ما تستجليه عقيدة الفرد وشخصانيته المطلقة. فالشكل العبادي للشرك الحديث ـ كما ألمحَ دوركهايم ـ ليس الوثنية بل النرجسية البشرية، حيث بلغ تضخم الذات لديها منزلة الذروة في زمن العلمنة المطلقة..

لقد ظهر في اختبارات الحداثة وامتداداتها المعاصرة أن ليس للمقدس لدى «العِلْموية» بصيغتها الإلحادية من محل. وهنا على وجه الضبط تكمن إحدى أهم خاصِّيات التهافت في الفكرة الإلحادية. نعني بذلك نظرها إلى الإنسان كشيءٍ زائلٍ ككلّ الموجودات الزائلة، حيث لا يعود المتعالي الإلهي بالنسبة إليها غير وهم محض.

(188)

العلمانية منقودةٌ من أهلها

لو كان ثمة من فضيلةٍ تُسجَّل في النقاش الجاري حول ما بعد العلمانية، فهي فضيلة النقد. صحيحٌ أن الأطروحة التي نحن بصددها ولدت كاحتجاجٍ على ما اقترفته العلمنة من معاثر وعيوبٍ في الثقافة والحياة العامة للمجتمعات الغربية، إلا أن المراجعات النقدية من جانب عددٍ من فلاسفة ما بعد الحداثة سيكون لها أثرٌ عميقٌ في استظهار وتحفيز التفكير المابعد علماني.

تبدو الصورة على جلائها حين تُنقد العلمانية من أهلها. ذلك بأن عدداً من فلاسفة التنوير هم أول من افتتح مغامرة النقد ونزع الغطاء عن معايب الحداثة... ولنا في هذا الجانب بعض الأمثلة المقتضبة:

أ- أدموند هوسرل سيمهِّد إلى مثل هذه المغامرة ويقول: «إن من دواعي التفلسف أن تكون مع التراث وضده في الآن عينه». وكان يتساءل: كيف يمكنني أن أهتدي إلى منهجٍ يمنحني الخيط الذي أسير عليه لكي أبلغ العلم اليقين. ومع أنه كان من وَرثَة ديكارت إلا أنه أُخذ عليه قصور منهجه الرياضي في الكوجيتو. ودليله أن التفلسف فضاءٌ لا متناهٍ ولا تحده حدود المعادلات الصمَّاء.

(189)

ب-  مارتن هايدغر سيمضي إلى حيث لم يقدر عليه الأولون من قبله. عنده الحداثة لم تفلح في إنتاج ما يتجاوز ميتافيزيقا الإغريق، وأن اليونان مذ حدَّدوا الخطوط الأساسية لفهم الوجود، لم تتحقق خطوة جديدة من خارج الفضاء الذي ولجوه للمرة الأولى. لم يكن هايدغر لينحو هذا النحو، لولا أن بلغ نقده للحداثة حدّاً بات معه على درايةٍ بما انتهى إليه مشروعها من صدوعٍ لا ينفع معها نقدٌ ذاتيٌّ، أو تبريرٌ إيديولوجيٌّ.

 ج- في أحقابٍ متأخرةٍ، تطورت الموجة النقدية لتطاول الحداثة ومعارفها على الجملة. من العلامات الفارقة التي ميّزت حركة النقد، أنّ الثقافة العلمانية السائدة في الغرب قد تعرضت لهزّةٍ حاسمةٍ في «بنية المشاعر». لقد حدث ضربٌ من تحوّلٍ دراميٍّ ليس فقط في المزاج العام لدى إنسان الزمن العلماني، وإنما أيضاً وأساساً في طرق إيمانه ومناهج تفكيره، ناهيك عن أنماط نشاطه العام في السياسة والاقتصاد والاجتماع والسلوك الفردي.

 د-  في مقام التفكير الفلسفي جرت وقائع النقد على نحو شديد الوقع: إدانة عارمة للعقل المجرد، وكرهٍ عميقٍ لأيّ

(190)

مشروعٍ يستهدف تحرير الإنسان. حتى الماركسية والعلمانية الليبرالية اللتين حملتا مشاريع بديلة للرأسمالية التقليدية لم تنجوا من سوط النقد. فقد ذهب كثيرون من صنّاع الثقافة الغربية المعاصرة إلى النظر إليهما بوصفهما فلسفتين رجعيتين فقدتا رونقهما وعفا عليهما الزمن. ومبعث حكم كهذا من الأزمة الأخلاقية التي وَسَمت علمنة عصر التنوير ولمّا تنته إلى يومنا هذا. فإذا كان صحيحاً أن العصر المشار إليه قد أتاح للإنسان تحرير ذاته من تقاليد العصور الوسطى، إلا أن إصرار علمانيِّيه على إحلال تلك «الذات الفردية محل المتعالي» سيقود إلى تناقضٍ ذاتيٍّ، حيث تُرك العقل مجرداً من الحقيقة الإلهية، ثم يتحول إلى مجرد أداةٍ للتصنيع وإدارة السوق ومن دون هدفٍ روحيٍّ أو أخلاقيٍّ.

  هـ-  من هذه الزاوية لم يرَ جمعٌ من فلاسفة ونقاد ما بعد الحداثة إلى أن علمانيةً بهذه الصفات، لا ترقى لتكون قيمةً أخلاقيّةً متساميةً. وهو ما بيَّنه الفيلسوف الأميركي جون راولز وكان حاسماً، لمّا رأى أن العلمانية ليست قيمةً أخلاقيّةً أو مفهوماً للخير، على الرغم من أنّها شكلت في وجهٍ من وجوهها إحدى قيم العدالة لجهة دعوتها إلى حريّة الاعتقاد لدى الأفراد.

(191)

التنظير الإيماني للزمان الما بعد علماني

لا ينحصر التنظير للفكرة الـ «ما بعد علمانية» بالفلاسفة وعلماء الاجتماع، إذ إنّ ثمة بيئةً وازنةً تتضافر فيها الرؤيتان الفلسفية واللاَّهوتية، لتنتجا معاً سياقاً معرفياً ينطوي على مقدماتٍ تأسيسيّةٍ لتكاملٍ مفترضٍ بين هموم الإنسان المعاصر المادية والروحية. من البيِّن أنّ أطروحة التناقض بين العقل والإيمان الديني كتعبيرٍ عن مشروع التنوير الذي افتتحته الحداثة في مقتبل عمرها. ولكن من فضاء الغرب نفسه من يُساجل أهل الأطروحة ليُبيِّن أن الإيمان لو كان نقيضاً للعقل لكان يميل إلى نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان. فالإيمان الذي يدمِّر العقل يدمر في المقابل نفسه ويدمر إنسانية الإنسان. إذ لا يقدر سوى كائن يمتلك بنية العقل على أن يكون لديه هماً أقصى. أي أنْ يكون شغوفاً بالله والإنسان في آنٍ، وذلك إلى الدرجة التي يؤول به هذا الشغف إلى تخطي الثنائية السلبية التي تصنع القطيعة بين طرفيها. وحدُه من يمتلك ملكة «العقل الخلاَّق» ـ أي العقل الجامع بين الإيمان بالله والإيمان بالإنسانيّة ـ هو الذي يفلح بفتح منفذٍ فسيحٍ يصل بين

(192)

الواقع الفيزيائي للإنسان وحضـور المقـدس في حياته[1].

صحيحٌ أن المجتمعات العلمانية لم تستأصل البعد الروحاني للإنسان، لكنها استنزلته إلى أدنى مراتب الاهتمام الأخلاقي. وما ذاك إلا لشغفها بليبرالية الاقتصاد والسياسة، واستغراقها في تعظيم الذات الفردية، وسعيها إلى الاستقلال المفرط عن أيّ معياريّةٍ أخلاقيّةٍ تنظم الاجتماع البشري على مبدإ الرحمانيّة والعدل. أما النتيجة التي أدّت إليها أفعال العلمنة، فكانت فقدان العقل دوره في تحكيم الجدالات الأخلاقية، وعدم قبول أي شيءٍ معياريٍّ خارج التحكيم الشخصي. وهذا ما يسميه تشارلز تايلور «إيديولوجية إنشراح الذات» (épannouissement de soi) الشديدة القوة في الثقافة الغربية المعاصرة. تلك التي استمدت قوتها من عصر الأنوار ونالت دعماً لا سابق له من الليبرالية الجديدة، وكل ذلك بذريعة الاعتقاد أن الكائن هو محور الكون. إلا أن هذا الكائن لم يفتأ برهة حتى استحال رقماً سليبّاً في منظومة رأس المال وجوعها الضاري إلى التكاثر.

لو دلَّ كلّ ما مرَّ معنا على شيء، فعلى تحولٍ غير مسبوقٍ

(193)

في التفكير «الما بعد حداثي» بجناحيه الديني والدنيوي. مثلما يدل على وجود منفسحاتٍ معرفيةٍ ذات وزن داخل البيئة الغربية، كانت ولا تزال ترى بهدوءٍ إلى موقعيّة الإيمان الحاسمة في وجدان الأفراد والحضارات. لقد أسفرت هذه المنفسحات عن أمرٍ ذي دلالةٍ جوهريّةٍ في التحول المشار إليه منها ما لاحظه اللاّهوتي والفيلسوف الألماني بول تيليتش بقوله: إن ليس ثمة من تضادٍّ بين الإيمان في طبيعته الحقيقية، والعقل في طبيعته الحقيقية. وإن ليس ثمة صراعٌ جوهريٌّ بين الإيمان بالوحي والوظيفة الإدراكية للعقل. ومتى فُهِمَ ذلك على النحو الأتمّ، ظهرت الصراعات السابقة بين الإيمان والعلم في ضوءٍ مختلفٍ تماماً. فالصراع في حقيقته لم يكن بين الإيمان والعلم، بل بين إيمانٍ وعلمٍ لا يعي كلٌّ منهما بعده الحقيقي. من قبيل المثال غير الحصري: لم يكن الصراع الشهير بين نظريّة التطور الداروينية، ولاهوت بعض الطوائف المسيحية صراعاً بين العلم والإيمان، بل صراعاً بين علمٍ يجرد إيمان الإنسان من إنسانيته، وإيمانٍ حوّله لاهوت السلطة إلى أيديولوجيا، ومن ثَمَّ إلى حربٍ مفتوحةٍ على العقل[1].

(194)

صحيح أن الحداثة انتصرت على اللاّهوت، لكن رحلة الاستيقاظ بدأت وإن ببطءٍ شديدٍ. ولعلّ العودة إلى سؤال الدين والإيمان الديني سواءً على مستوى النخب أو على مستوى الوجدان العام هو تجلٍ من تجليات تلك الرحلة. وليس ما يدل على تلك العودة سوى ما يسري اليوم من جدل مضنٍ لتظهير صيغة الوئام المأمول بين شأن العالم وشأن الغيب. فهل يتخذ النقاش حول «ما بعد العلمانية» مساراً أكثر تحرراً من عقدة ماضويات الحداثة وأوثانها الثقافية. لتحصيل اليقين المتشظي في زمن الحداثة الفائضة.

يبقى السؤال الأكثر مدعاة للنقاش المقبل، والذي لا بد من طرحه في نهاية هذه الخاتمة هو التالي:

ماذا «ما بعد العلمانية»؟.. وهل يكون ثمة سياقٌ تاريخيٌّ حضاريٌّ آخر تستثيره مثل هذه الأطروحة، ويستوي فيه شأن العالم مع شأن الروح على نصاب التكافؤ الخلاّق؟[1]

هو سؤالٌ يستأهل الخوض في رحابه على الرغم من طابعه الاستباقي. ذلك بأنه يستدرج إلى منفسحٍ تنظيريٍّ لا يقتصر على الغرب الأوروبي وحسب، وإنّما أيضاً على بقية

(195)

العالم. ولا مناص من الإشارة هنا بوجهٍ خاصٍ إلى ما يتوقع من تنظيراتٍ في مجتمعاتنا العربية والإسلاميّة. فعلى الرغم من أن الدخول إلى فكرة ما بعد العلمانيّة والسفر في عوالمها، لا يزال ينطوي على حذرٍ لافتٍ بين مفكري وفلاسفة الغرب، فلا ينفك التعامل مع هذه الفكرة وما قبلها في البلاد العربية والإسلامية بمنهج نظرٍ يشوبه التبسيط والاختزال، مثلما يحكمه الاندهاش والاستغراب...

 

 

(196)

المؤلف في سطور

ـ محمود حيدر

مفكّر وباحث في الفلسفة السياسية والإلهيات، لبنان.

4 -المؤلفات: 

1 - لغة التماس - دراسات في النقد الأدبي والشعر/ دار الكتاب الحديث – بيروت 1995.

2 - تحولات المشروع الاسرائيلي في لبنان. منشورات المجلس الثقافي للبنان الجنوبي- بيروت. 1994

3 - اللاّيقين السلمي - أحوال لبنان بعد الحرب (فكر سياسي) دار الفارابي - بيروت 1997.

4 - نهاية الجدار الطيب – (فكر استراتيجي) (2001-1976). / دار رياض الريس للكتب والنشر- بيروت (2001)

5 - الأرض المغلولة - دراسة حول مزارع شبعا المحتلة – دار رياض الريس للكتب والنشر- بيروت -2002

6 - الدولة المستباحة- من نهاية التاريخ إلى بداية الجغرافيا (فلسفة سياسية). دار رياض الريس للكتب والنشر- بيروت 2004

7 - نهاية الجدار الطيب، مترجم إلى الانكليزية والفارسية (مركز الدراسات الاستراتيجية للشرق الأوسط – طهران). 2003

(197)

8 - الإعلام و الأخلاق – إصدار خاص - بالعربية والإنكليزية  . 1996

9 - لاهوت الغَلَبَة – التأسيس الديني للفلسفة السياسية الأميركية- دار الفارابي ومركز دلتا للأبحاث المعمقة- بيروت- 2009.

10 - فلسفة المتحيِّز- حضورات الأيديولوجيا في الدين والعلم والاجتماع السياسي- تحت الطبع.

11 - فقه التعرُّف- لقاء المسيحية بالإسلام- تحت الطبع.

12 - الفقيه الأعلى – ماهية العارف الكامل وهويته / تصوف- معهد المعارف الحكمية – بيروت 2014.

13 - الحكمة البالغة في الحكمة المتعالية – القرآن في فلسفة ملا صدرا – مركز دلتا للأبحاث المعمّقة – بيروت – 2017.

14 - مفهوم الدولة – المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية – بيروت – 2017.

15 - نقد المواطنة الطائفية – دار أبعاد – مركز دلتا – (تحت الطبع).

16 - ما بعد العلمانية –  هذا الكتاب ـ المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية- بيروت – 2019.

- مؤلفات بالانكليزية والفرنسية

18- La théologie du rapprochement : Le christianisme Catholique contemporainet le dialogue avec l’Islam- Delta center-2011-

(198)

morale dans L’expérience de la résistance-  Delta center- 2011.

20-The Active Rôle of the Iranian Geo-strategy.  - The Gulf,an area of raging valent- Delta center- 2011

21- sadradine al shirazi’s approach to the Quran the perfect wisdom in the transdent philosophy – delta center – Beirut - 2014.

5  - كتب مشاركة:

1 - الديمقراطية والمشروع النهضوي- المجلس الثقافي للبنان الجنوبي 1994

2 – تاريخ الاحتلال الاسرائيلي للبنان- المجلس الثقافي للبنان الجنوبي 1993

3 - الإعلام ونظام القيم - مؤسسة الصدر للدراسات-  2003

4 - ثقافة الإقتدار- معهد المعارف الحكمية- بيروت- 2007

5 - إشكالية المواطنة في العالم العربي- جامعة الكويت- 2008

6 - موقعية القرآن في الحكمة المتعالية- جامعة الروح القدس- لبنان 2010

7 - واحدية العالم- العارف-  المؤتمرات - جمعية الامام الصادق لإحياء التراث- بيروت 2010.

(199)

8 - نظير المتصوف- جدلية الأنا والآخر والله في نهج البلاغة/ الجزائر- وزارة الثقافة 2013.

9 - ثورات قلقة- تنظير سوسيوثقافي للتحول العربي - مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي- بيروت- 2012

10 - الإسلام النائم- قراءة في الحركات الصوفية في بلاد الشام: مركز المسبار- أبوظبي- 2012

11 - التصوف في مقام السياسة- دراسات في فكر الأمير عبد القادر الجزائري- مؤتمر فقه التحرر - وزارة الثقافة الجزائرية- 2012.

12 ـ هيرمنوطيقا الوحي ـ في إطار المؤتمر الدولي تحت عنوان "فلسفة التأويل، آفاقها واتجاهاتها" ـ تحرير وتقديم: سعيد توفيق، المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ 2017.

13 - نحن وأزمنة الاستعمار – إشراف وتحرير- أربعة مجلدات- المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية – بيروت – بغداد- 2018.

14 - نحن وتراثنا الأخلاقي – تأليف جماعي – إعداد: عامر عبد زيد الوائلي- المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية- بيروت – النجف الأشرف- 2018.

(200)
هذا الكتاب ما بعد العلمانية على الرغم من حداثة ولادته ، وتنوع تعريفاته ، والتأويلات التي أحاطت به من كل صوب ، فقد صار مصطلح ما "بعد العلمانية" مدار تفكير بيئات ثقافية وأكاديمية وازنة في الغرب . *** أبرز التعاريف المتداولة حول "ما بعد العلمانية" ذلك الذي يعني وصول العلمانية إلى نهايتها أو اقترابها من حتفها على أقل تقدير وهذا المدعى يثير مشكلة القطع بمدى قربه من الصواب مع ذلك فغن السؤال الذي يعنينا الجواب عليه في هذا الفصل هو التعرف على ما تدل عليه عبارة ما بعد العلمانية في ظاهرها اللفظي ومضمونها المعنوي ؟ *** تسعى هذه الدراسة إلى محاكاة أطروحة ما بعد العلمانية كما ظهرت في مناظرات عدد من المفكرين وعلماء الاجتماع المعاصرين في الغرب ، وتعميقا للمباني المعرفية التي نفترضها هذه الأطروحة تعتمد الدراسة منهجية التحليل والنقد لأسباب نشأتها وغموض دلالاتها الاصطلاحية والآثار الفكرية والتاريخية والمجتمعية المترتبة على ولادتها من المقدمة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف