فهرس المحتويات

ـ مقدمة المركز | 7

ـ تمهيد | 9

ـ الفصل الأول: بنية المفهوم | 13

ـ المبحث الأول: الدلالة اللغويَّة والاصطلاحية | 14

ـ الميديولوجيا أو علم الإعلام | 17

ـ  ثلاثة عصور ميديولوجية | 25

ـ مقومات المفهوم | 28

ـ الميديا.. أو ثورة إتصالات | 28

ـ السمات العامة لتكنولوجيا الميديا | 29

ـ أنواع الميديا | 32

ـ المبحث الثاني: العلامات الرمزية للميديا | 34

ـ مفردات ومفاهيم مفتاحية | 40

ـ هندسة مثلثة الأبعاد للميديا | 46

ـ النظام المنهجي لعمل الميديا | 49

ـ الإنفورغات ( Inforgs) | 64

ـ تكنولوجيات التحسين والازدياد وإعادة الهندسة | 67

الفصل الثاني:  بين الميديا والإعلام الكلاسيكي | 71

ـ المبحث الأول: تاريخ الإعلام | 72

ـ الإعلام في الحضارات القديمة | 76

ـ صفات الإعلام وأفعاله | 84

ـ  مبادئ تأسيسية  للإعلام | 85

ـ ثانياً: الإعلام التفاعليInteractiv media | 99

ـ التفاعل في اللغة | 99

ـ أنـــواع الإعــلام التفاعلــي | 100

ـ خامساً: الهاتف الذكي ومميزاته | 105

ـ المبحث الثالث: نظريات الميديا العلمية والأخلاقية | 109

ـ أولاً: نظرية ترتيب الأولويات | 109

ـ ثانياً: نظرية «ثراء وسائل الإعلام | 112

ـ ثالثاً: نظريات كلاجي لانج (Glady Lang) | 118

ـ رابعاً: النظريات العلمية الحديثة | 119

ـ نظرية المجتمع الجماهيري | 120

ـ نظرية فرانكفورت | 120

ـ نظرية الأثر المحدود لوسائل الاتصال الجماهيري | 121

ـ نظرية الماركسية الجديدة | 122

ـ مدرسة الدراسات الثقافية الانكليزية | 123

ـ الاتجاهات النظرية الحالية | 123

ـ النظريات الأخلاقية | 124

ـ المشكلة الأخلاقية للإنترنت | 130

الفصل الثالث: مواقع التواصل الإجتماعي (Social Media) رموزها ووظائفها ومخاطرها |  137

1 - فايس بوك ( Face Book) | 140

2 -»فايس بوك ماسنجر | 142

3 - تويتر( Twitter) | 145

4 - هاشتاغ: خاصية تويتر | 146

5 - واتس آب ( WhatsApp) | 148

6 - سناب شات ( Snapchat) | 151

7 -  يوتيوب ( YouTub) | 156

8 - البريد الإلكتروني (EMAIL ) | 156

الفصل الرابع: الميديا والسياسة | 163

ـ  الميديا في خدمة المصالح السياسية | 164

ـ نظريات التحشيد السياسي | 166

ـ من الميديولوجيا إلى الإيديولوجيا | 169

ـ نظرتان متناقضتان للتلفزة الفضائية | 171

ـ نظرية صناعة الخوف | 181

ـ ثقافة الترهيب الإعلامية | 181

الخاتمة: نقد الميديا إستعمار الصورة والصوت | 187

إعصار الفضائيات | 196

العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية سلسلة مصطلحات معاصرة 18 الميديا مفهومها المعاصر وعلاقتها بالإعلام الكلاسيكي خضر إبراهيم حيدر
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها ، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار ، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظمة الفكرية المختلفة. ثانيا:إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لا سيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقة. ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ، ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية
(1)
(2)
(3)

الفهرس

ـ مقدمة المركز7

ـ تمهيد9

ـ الفصل الأول: بنية المفهوم13

ـ المبحث الأول: الدلالة اللغويَّة والاصطلاحية14

ـ الميديولوجيا أو علم الإعلام17

ـ  ثلاثة عصور ميديولوجية25

ـ مقومات المفهوم28

ـ الميديا.. أو ثورة إتصالات28

ـ السمات العامة لتكنولوجيا الميديا29

ـ أنواع الميديا32

ـ المبحث الثاني: العلامات الرمزية للميديا34

ـ مفردات ومفاهيم مفتاحية40

ـ هندسة مثلثة الأبعاد للميديا46

ـ النظام المنهجي لعمل الميديا49

ـ الإنفورغات(Inforgs)64

ـ تكنولوجيات التحسين والازدياد وإعادة الهندسة67

الفصل الثاني:  بين الميديا والإعلام الكلاسيكي71

ـ المبحث الأول: تاريخ الإعلام72

ـ الإعلام في الحضارات القديمة76

(4)

الفهرس

ـ صفات الإعلام وأفعاله84

ـ  مبادئ تأسيسية  للإعلام85

ـ ثانياً: الإعلام التفاعلي Interactiv media 99

ـ التفاعل في اللغة99

ـ أنـــواع الإعــلام التفاعلــي100

ـ خامساً: الهاتف الذكي ومميزاته105

ـ المبحث الثالث: نظريات الميديا العلمية والأخلاقية109

ـ أولاً: نظرية ترتيب الأولويات109

ـ ثانياً: نظرية «ثراء وسائل الإعلام»112

ـ ثالثاً: نظريات كلاجي لانج(Glady Lang)118

ـ رابعاً: النظريات العلمية الحديثة119

ـ نظرية المجتمع الجماهيري120

ـ نظرية فرانكفورت120

ـ نظرية الأثر المحدود لوسائل الاتصال الجماهيري121

ـ نظرية الماركسية الجديدة122

ـ مدرسة الدراسات الثقافية الانكليزية123

ـ الاتجاهات النظرية الحالية123

ـ النظريات الأخلاقية124

ـ المشكلة الأخلاقية للإنترنت130

(5)

الفهرس

الفصل الثالث: مواقع التواصل الإجتماعي (Social Media)

رموزها ووظائفها ومخاطرها137

1 - فايس بوك (Face Book)140

2 -»فايس بوك ماسنجر»142

3 - تويتر(Twitter)145

4 - هاشتاغ: خاصية تويتر146

5 - واتس آب (WhatsApp)148

6 - سناب شات (Snapchat)151

7 -  يوتيوب ( YouTub)156

8 - البريد الإلكتروني (EMAIL )156

الفصل الرابع: الميديا والسياسة163

ـ الميديا في خدمة المصالح السياسية164

ـ نظريات التحشيد السياسي166

ـ من الميديولوجيا إلى الإيديولوجيا169

ـ نظرتان متناقضتان للتلفزة الفضائية171

ـ نظرية صناعة الخوف181

ـ ثقافة الترهيب الإعلامية181

الخاتمة: نقد الميديا إستعمار الصورة والصوت187

إعصار الفضائيات196

(6)

مقدمة المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً إلى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحوالتالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أويجري تفسيرها على خلاف المراد

(7)

منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

***

تتناول هذه الحلقة في سلسلة "مصطلحات معاصرة" مفهوم الميديا ويعرض له في دلالاته الاصطلاحية والمعنوية وطرائق الاستخدام، فضلاً عن نشأته التاريخية وعلاقته بالإعلام الكلاسيكي.

تبرز أهميّة هذه الدراسة في أنها تلقي الضوء على المقدمات التي أسست لما سُمي بثورة المعلوماتية والآثار الاجتماعية والسياسية والثقافية التي ولّدتها على اتجاهات الحضارة العالمية المعاصرة.

والله ولي التوفيق

(8)

تمهيد

مع ختام القرن العشرين، إنتقل العالم الحديث إلى زمن جديد اصطُلح على تسميته بـ «زمن العولمة». وقد ساد مناخ ثقافي عارم عنوانه الطاغي: تحول العالم إلى قرية كونية لم تعد الحواجز التقليدية للمجتمعات ولا الحدود الجغرافية للدول تشكل عائقاً أمام التواصل بين مواطنيها. لكن العامل الأساسي الذي يقف وراء هذه النقلة الكبرى التي شهدتها الحضارة المعاصرة هو ثورة الاتصالات التي  سمُيت اختصاراً وتكثيفاً بـ «ثورة الميديا». 

وإذا كان لكل زمان ظواهره غير العادية فلا ريب أن الميديا هي ظاهرة استثنائية تحمل الكثير من الميزات والخصائص التي تختصر أمداء الزمان والمكان في آن. فلا يقوم تواصل فعّال بدونها، ولا تُرسم سياسات أو تُبنى اقتصادات وحتى أن تنشب حروب وثورات للتغيير الاجتماعي إن لم تُلقِ عليها تقنيات الصورة والصوت لمساتها الأثيرية، وتمدها بما ينبغي لها أن تبلغه من غايات.

إنها الميديا، ذلك التعبير السهل اللفظ، الممتنع الاستيعاب إن لم نسبر به غور الحياة بأدق تفاصيلها. بل هي كما وصفها الخبراء تلك الشبكة العنكبوتية التي جعلت العالم شبه خالٍ من صناديق الأسرار، وأصبحت المعلومات تتدفق بكل اللغات كأمواج البحر في كل أنحاء المعمورة. 

(9)

من هذه النظرة الإجمالية والمكثفة لظاهرة الميديا ينطلق هذا البحث  ليضيء فضاء أثيرياً رحباً، يعرض إلى تطوره على مر التاريخ، ويستوضح مفهومه بجوانبه اللغوية والاصطلاحية والمعرفية. كما ينظر في الأسباب التي جعلت الميديا أمبراطورية للسيطرة الناعمة على المجتمعات والدول، وصولاً إلى زمن بات الفرد فيه قادراً على صناعة عالمه المعلوماتي الخاص يُنشئه أنَّى شاء ومتى أراد.

يتوزع هذا البحث على اربعة فصول وخاتمة نقدية:

- الفصل الأول: جاء بعنوان مفهوم الميديا، وقد جرى فيه تحليل الدلالة اللغوية والاصطلاحية ، وعلم الإعلام (الميديولوجي)، حيث تم تحديد ثلاثة عصور ميديولوجية هي: الانتاج الخطي، الانتاج المطبوع، والانتاج السمعي ـ البصري، كما تطرَّق إلى أنواع الميديا، وعلاقتها بثورة الاتصالات، والنظام المنهجي لعملها، ومستوياتها، وتحديد مفهومي وسائل الإعلام ووسائط الإعلام.

- الفصل الثاني: يبيّن الفروق الوظيفية بين الميديا والإعلام الكلاسيكي، وفيه عودة إلى تاريخ الإعلام، ووظيفته، وصفاته، وموقعه في الحضارات القديمة، ثم ينتقل إلى الظروف المعاصرة ليشير إلى الإعلام التفاعلي، وأنواع التلفزيون، ودور الأقمار الصناعية، والهواتف الذكية، والمدوّنات الإلكترونية، كما يتناول أبرز النظريات المتعلقة بالميديا، على المستويات السياسية والأخلاقية.

- الفصل الثالث: يتناول ظاهرة مواقع التواصل الإجتماعي (social media)، وتحليل رموزها ووظائفها ومخاطرها، مع جولة

(10)

على كل موقع، وتبيان المغزى من تأسيسه، وتزاحم الحكومات وكبريات الشركات العالمية على تملّك هذه المواقع، لما لها من تأثير في سيرورة الحياة، وما تدرّه من أرباح في نطاق ما سمِّي بأمبراطوريات المال الإعلامية.

- الفصل الرابع: وهو بعنوان «الميديا والسياسة»، ويضيء على دور الميديا في خدمة المصالح السياسية، والنظريات المعتمدة في هذا المجال، وثقافة الترهيب الإعلامية، وتأثير التلفزة الفضائية، والتحول من الميديولوجيا إلى الأيديدولوجيا.

- الخاتمة النقدية، جاءت تحت عنوان «نقد الميديا ـ استعمار الصورة والصوت»، وفي سياقها توضيح للكيفية التي استثمرت فيها الدول الكبرى تقنيات الصورة والصوت في السيطرة على مقدرات الدول والشعوب، والتحكم بمختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا سيما، على سبيل المثال، ما فعلته الأمبراطوريات الإعلامية في الغرب حيث يتّضح بجلاء الوجه الإعلامي للاستعمار المعاصر.

 

والله الموفِّق

خضر ا. حيدر

(11)
(12)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

بنية المفهوم

(13)

المبحث الأول:

الدلالة اللغويَّة والاصطلاحية:

 شاعت كلمة ميديا (Media) بزخم لافت في الثقافة العالمية المعاصرة. وقد حفلت السنوات الأخيرة من القرن العشرين وبدايات القرن الجاري بهذه الكلمة حتى بدت إحدى أبرز الكلمات المعبِّرة عن العالم الجديد الذي بدأ بالتشكُّل في ما عُرف بـ»عصر العولمة». إلَّا أن كتابات الباحثين حول ما سمِّي بـ «الميديا الجديدة»، أشارت إلى أن المصطلحات التي تتداولها دراسات الاتصال عربياً، هي مصطلحات وافدة على اللغة العربية، وتشكلت في سياقات معرفية وثقافية مختلفة. وحسب هذه الكتابات، فإن مصطلح «الإعلام الجديد» ليس ترجمة للمصطلح الإنكليزي  ((New media، أو المصطلح الفرنسي ((Nouveaux Media، فالعالم المعاصر الذي دخل بقوة غير مسبوقة في ثورة الإتصالات يمتلئ بكمٍّ هائل من المصطلحات والمفاهيم المتداخلة والمركبة، ولا سيما تلك التي تُعنى بالميديا أو ما يسمَّى بـ«ثورة الإتصالات». فإذا لم يكن هناك اختلاف في ترجمة كلمة (New)، رغم أنها تعبير غير محايد وذو حمولة ثقافية، فإن كلمة الإعلام ليست الحل الأمثل لترجمة (Media). وسبب ذلك، أن مصطلح الإعلام يرتبط بمؤسسات (التلفزة والإذاعة والصحافة)، وهذه المؤسسات تتمثل وظيفتها في

(14)

إنتاج مضامين موجهة للجمهور، بينما تحيل التقنيات الحديثة إلى الوسائل التقنية الرقمية كالحاسوب والهاتف التي تقوم بعمليات التوصيل والنقل والتواصل. ذلك على الرغم من أن هذه التقنيات باتت تؤدي وظيفة الصحيفة والتلفزيون والإذاعة والكتاب معاً، ما أدى إلى تداخل واندماج بين وسائل الإعلام الكلاسيكية والتقنية الحديثة، كما أدى إلى تنوع وظائفهما وتنافسهما وتفاعلهما[1].

غير أن «الميديا الجديدة» التي برزت بقوة هائلة في زمن العولمة، لا يمكن اختزالها في عملية إدماج وإدراج للتقنية في العملية التواصلية والإعلامية، بل هي تدمج الأنظمة التقنية (أجهزة الاستقبال الرقمي والترتيبات الاجتماعية (الأسرة والحملات السياسية، والأنشطة الدينية). كما أنها لم تنشأ من فراغ، وهي كذلك ليست وليدة قطيعة جذرية ومطلقة تفصل بين تراث ثقافي غابر مرشح للاندثار، ووضع راهن يقوم على التجديد الجذري.. وإنما هي حركة للجمع والتوفيق والتجاوز في آن واحد[2].

في «قاموس الميديا المفيد» الذي نشر تحت إدارة «فرنسيس بال» ورد تعريف لـ «الميديا» بأنها «تقنية يستخدمها فرد أو جماعة ليبلّغوا فرداً آخر أو جماعة أخرى عبر لقاء غير مباشر وعلى مسافة معينة». و«إذ تتأرجح كلمة «ميديا» بين التعريف الضيِّق والتعريف الشديد

(15)

الاتساع، فذلك لأنها تحيل إلى حقائق متمايزة غالباً، ولكن ليست مرتبطة ببعضها البعض دائماً: فهي تكون إما تقنية أو استخداماً أو جمهوراً أو مؤسسة أو في النهاية نوعاً أو شكلاً من التعبير»[1].

في المجال نفسه، يوضح الباحثون ﻓﻲ علم ﺍﻹﻋﻼﻡ المعاصر ﺃﻥ ﻋﺒﺎﺭﺓ «ﺍﻹﻋﻼﻡ الجديد»، ﺍﻟﺘﻲ شاعت خلال العقود الثلاثة الماضية جاءت نتيجة انتقال ﺍﻹﻋﻼﻡ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺩﻱ، بروافده ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ المكتوبة والمسموعة والمرئية، ﺇﻟﻰ مرحلة جديدة من مراحل تطوره، بحكم الطفرة التكنولوجية ﺍﻟﺘﻲ طالت ميادين ﺍﻹﻋﻼﻡ والمعلومات والاتصال كافة، وانفجار ﺍﻟﺸﺒﻜﺎﺕ ﺍﻟﺭﻗﻤﻴﺔ، ﻭﻓﻲ مقدمتها شبكة الإنترنت، كذلك القنوات الفضائية ﺍﻟﺘﻲ تبث ﻋﺒﺭ ﺍﻷﻗﻤﺎﺭ ﺍﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ، ﺃﻭ تكنولوجيا كوابل ﺍﻷﻟﻴﺎﻑ البصرية، والملتقطة بالحواسيب، وبالهواتف ﺍﻟﻨﻘﺎﻟﺔ. لذلك، فإن التسمية تستحضر البعد التكنولوجي، خصوصاً تقنية الإنترنت على وجه التحديد. يضاف إلى ذلك، أن الإعلام الجديد يجري تعريفه على أنه تسخير التكنولوجيا ﻓﻲ نشر الأخبار والمعلومات ﻭﺍﻟﻤﻌﺎﺭﻑ من خلال ﻋﻤﻠﻴﺔ دمج وسائل ﺍﻹﻋﻼﻡ القديمة مع ﺍﻷﺩﻭﺍﺕ ﺍﻟﺭﻗﻤﻴﺔ وشبكة المعلومات ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ بما يحقق الاتصال ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻲ بين المرسِل والمستقبِل بسرعة فائقة، وذلك ﻋﺒﺭ تكنولوجيا الإنترنت ومواقع ﺍﻟﺸﺒﻜﺎﺕ الاجتماعية ﺍﻟﺘﻲ تستخدم تقنية الويب[2].

(16)

الميديولوجيا أو علم الإعلام

لم يولد مصطلح «الميديا» مع الطفرة الكبرى لثورة الإتصالات التي عاصرها العالم في نهاية القرن العشرين، والتي عرفت بعصر العولمة. ونستطيع القول أن البدايات الأولى لتداول المصطلح بدأت في سبعينيات القرن العشرين من خلال النقاش الثقافي الذي جرى في أوروبا، وفي فرنسا على وجه الخصوص، في ذلك الحين. وقد شاع آنذاك مصطلح «الميديولوجيا» للتعبير عن الوسائل الإعلامية التي تحوِّل الأفكار إلى أحداث. والمقصود بالميديولوجيا (La médiologie)، أو علم الوسائط الإعلامية، هي تلك النظرية التي تعنى بالوسائط التقنية والآلية والمؤسساتية التي يشغلها الفعل الثقافي. وقد ظهر المصطلح أول مرة سنة 1979م، مع جهود المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه (Régis Debray) (1940م) التي أوردها في كتابه (السلطة الثقافية في فرنسا)[1]. وهو يعني بنوع خاص الوسيط الذي بواسطته تتحول الفكرة إلى قوة مادية. واستناداً إلى هذا التعريف الكلي يتكون المصطلح من كلمتين : الوسيط (Medio) مجموع وسائل نقل ونشر كل ماهو رمزي من المعلومات. أما اللاحقة «علم» (Logie) فدالَّة على الاختصاص.

مع ذلك، ليست الوسائطية (وهو الاسم الذي خص به ريجيس دوبري «نظريته») بحثاً في الصورة حصراً، ولا في السمعي البصري أو الوسائط الجماهيرية الإعلامية فحسب. إنها بحث في الوساطات

(17)

التي تتكفل بإرسال وتناقل وتواتر المعلومات والكائنات والحالات المادية والذهنية. وهي بهذا المعنى ليست تصوراً فكرياً في التواصل لغوياً كان أم غير لغوي، ذلك أن التواصل حالة (ساكرونية بلغة اللسانيين)، في حين أن الارسالات والتناقلات والتواترات قد تأخذ البعدين معاً: الزمني والتاريخي. لهذا يلح ريجيس دوبري على هذا المنحى معتبراً أن الوسائطية ليست نظرية ولا مبحثاً علمياً( ) ولا منهجاً للدراسة، إنها في الحقيقة حقل للتفكير تتقاطع فيه المناهج وتتواشج فيه المعطيات[1].

بهذا المعنى تغدو الوسائطية منظوراً جديداً لمعطيات الحياة والوجود، يتخذ من تراكم الاهتمام بالوساطات مركزاً منهجياً له. ويمكن أن نعثر في تاريخ الفكر العالمي على وسائطيين سابقين على ولادة المصطلح، ذلك أن كل المفكرين الذين اهتموا بالعلاقات والانتقالات قد ساهموا بهذا القدر أو ذاك في منح قيمة للوسائط. وإذا كانت الوسائطية كذلك، فإنه من المنتظر أن يكون تطورها رهيناً بنماء الدراسات المهتمة بالوساطات( )، سواء كانت تلك الوساطات ذات طابع مفاهيمي كاللغة، أم كانت ذات طابع مادي كالصورة أو الدراجة أو القطار أو غيرها. والحقيقة  أن هذا الاهتمام بالوسيط ( ) إن لم يكن وليد اليوم، فهو مع ذلك ظل توجهاً فكرياً أكثر منه تصوراً فكرياً أو فلسفياً. وقد كان من اللازم انتظار أواخر هذا القرن كي يتبلور هذا الاهتمام ويتخذ في الآن نفسه منحى

(18)

تنظيرياً. لذلك، لم يلبث الوسائطيون الفرنسيون أن تجمعوا في إطار جمعية متخصصة في الوسائطية تصدر مجلة متميزة ذات ملفات جديدة كل الجدة عن القضايا الوسائطية. وقد عملت هذه المجلة على منح الممارسة الوسائطية بعداً أوسع، وانتزاعها من الطابع النظري التحليلي للزج بها في غمار الاكتشاف والبحث[1].

وفقاً لهذه الآليات، تقوم التصاوير الرقمية الجديدة بإنتاج معرفة وسلطة لا حدّ لإغرائها. فبعد المسبار والمكروسكوب والتصوير بالأشعة، جاءت المعالجات المعلومية لتوسع بشكل هائل من تحكمنا في المسافات وفي الأعضاء وأمراضها، ومن أبنيتنا عبر التصاميم والرسوم، ومن فرضياتنا الفكرية نفسها، وذلك بتمكيننا من الترجمة البصرية للنماذج النظرية المجردة. فأجهزة الرؤية الجديدة، تمكننا، عبر مضاعفة معلوماتنا، من مضاعفة قدراتنا على التدخل في محيطنا ومساحة تواصلنا مع الكون. ولأننا غدونا من الآن فصاعداً مجهزين برؤية متكاملة (Omniscope) فقد غدا بإمكاننا اكتشاف ما يتجاوز مدانا من دون أن نرتاده، وبرمجة المستقبل قبل الوصول إليه. يصل المكروسكوب الآن إلى 10000/1 من المليمتر، كما أن المسابر الكبرى قد ربحت الكثير من العوامل عبر أقمار الرصد الاصطناعية[2].

في السابق، جاءت الأشعة السينية، والأشعة ما تحت الحمراء، وأشعة غاما لتدفعنا إلى تجاوز المسافات الأثيرية للمرئي. أما

(19)

المبصارات الإلكترونية والكاميرات الحرارية فقد مكَّنت سائق الدبابة وربان الطائرة ومستعمل مدافع البازوكا من الرؤية ليلاً، فيما يظلون هم في الخفاء. كما مكَّنت الأشعة بالصدى وبالأصوات القصوى من النظر إلى الجمجمة أو إلى حوض بشري في أبعاده الثلاثة. إن الرؤية تعوِّض السمع واللمس في التشخيص الطبي. وتمكن التصاوير المعتمدة على الرجع المغناطيسي من اختراق الأنسجة والخلايا والأعصاب. كما أن الأشعة الانعكاسية ما تحت الحمراء تخترق، بواسطة  كاميرا فيديكون، المواد الأصلب. وتستطيع الصورة النيوترونية تصوير الأشياء والإمساك بها عبر المواد المعدنية، كما تمكن الصورة الرقمية من التحكم الآلي في الروبوتات. وثمة الصورة المكبرة الملتقطة عبر الأقمار الإصطناعية من دائرة علوها 800 كيلومتر، وهي صورة ذات دقة عالية وتسبر،عن بعد وببعد ثلاثي، فيضانات الأنهار وتقدم الرمال أو المجلدات والهيكل الجيولوجي للأرض والترسبات البحرية في الأنهار الكبرى، وهذه الصور تتم معالجتها بالِألوان الكلية (Panchromatique) أو بالشبحيات المتعددة (multispectral). بل إن  العالم شانجو يؤكد لنا أنه لم يعد أبداً ضرباً من الطوباوية تصور قدرة الكاميرات ذات البوزيترون على إظهار صورة الأشياء الذهنية على الشاشة في يوم من الأيام. وقد كانت المهمة الرسمية التي قام بها ميشيل سير، والمتمثلة في إعادة بناء المجتمع التربوي عبر التعليم عن بُعد، في أصل صياغة الوسائل المعلوماتية بجعل توزيع المعارف داخل مجموعة بشرية ما مرئية: إنه دماغ المجموعة على شاشة منيتيل.

(20)

لكن، هل هذه التطورات التقنية بدون مقابل؟ «ليس ثمة من شيء بالمجان». فثمن هذا الفائض من الفعالية الموجهة نحو الخارج يكمن في خلق عاهة رمزية في الداخل. منذ عشرات السنين، تم دفع ثمن التوسع في الفضاءات القابلة للملاحظة والمراقبة بالاقتطاع من أراضي اليوتوبيا. فحين كان شبح الإشعاع الإلكتروني محصوراً في النور الذي تراه شبكية العين، كان اللاَّمرئي يملك واقعية لانهائية الكبر. مثلاً الحرية والمساواة والأخوة (يمكن لأي نظام كتابة تصويرية ترميزها فيما سيعجز أي ميكروسكوب إلكتروني عن جعلنا نراها مباشرة)[1].

بعد كتابه السابق الذكر تابع دوبريه نشاطه الابستمولوجي حول مفهوم الميديا. وبعد كتابه (محاضرات في الميديولوجيا العامة) الذي ظهر سنة 1991م أول كتاب يعرِّف بالدرس الوسائطي للميديا[2]. بيد أن هذا الكتاب يعتمد على مجموعة من الخلفيات المعرفية التي تحيل على كتابات عدد من كبار المفكرين والأدباء الأوروبيين أمثال: فيكتور هيجو (Victor Hugo)[3]، ووالتر بنجامين (Walter Benjamin)، وبول فاليري (Paul Valéry)، ومارشال ماكلوهان (Marshall McLuhan)، ووالتر أونج (Walter J. Ong)، وأندري لوروا

(21)

غوران (André Leroi-Gourhan)، وجيلبير سيموندون (Gilbert Simondon)، وفرانسوا داغونيي (François Dagognet،)، وبيرنار شتايغلر (Bernard Stiegler)، وبيير ليفي (Pierre Lévy)، وجاك ديريدا (Jacques Derrida.)... وقد نشرت أهم كتابات ريجيس دوبريه حول الميديولوجيا في (دفاتر الميديولوجيا / Cahiers de médiologie) ما بين 1996و2004م، ومجلة الوسيط (ميديوم /MediuM) سنة 2005م، ومازالت مستمرة إلى يومنا هذا.

ومن هنا، فالميديولوجيا هي عبارة عن نظرية علمية تجمع بين الثقافة والتقنية. وتحيل الكلمة على علم الوسائط. وبالتالي، يهتم هذا العلم بمختلف الوسائط التي تعنى بنقل الرسائل من ذات إلى أخرى، إنها من ذات إلى آلة، أو من آلة إلى أخرى.أي: تدرس وسائل الإتصال والإعلام التي تعتمد عليها الثقافة بصفة عامة، والأدب بصفة خاصة. ومن ثم، يحاول هذا العلم أن يفكك العلامات الرمزية والسيميائية في سياقها الزماني والمكاني والفني والجمالي والبصري. وليس هذا العلم مستقلاً، بل يتكئ على الفلسفة، وعلوم الإعلام، ونظريات التواصل[1].

تستند الميديولوجيا إلى مفاهيم عدة، مثل: مفهوم الأكوان الوسائطية (Les médiasphères) الذي يهتم بدراسة مجموعة من أنظمة الإرسال والتواصل التي تشتغل عليها الثقافة في فترة زمنية محددة.ويعني هذا أن الكون الوسائطي يحدد المكان الذي يحضر فيه

(22)

البعد التقني إلى جوار البعد الرمزي والفني والجمالي. ومن هنا، يمكن الحديث عن الكون اللغوي (la logosphère) الذي يعنى بالوسيط الشفوي، والكون الكتابي (la graphosphère) الذي يهتم بالوسيط الكتابي أو الطباعي أو البصري، والكون القرصي، أو ما يسمَّى أيضاً بكون الفيديو (la vidéosphère)، ويستند إلى فعل الذاكرة التقنية كالصور، والفيديو...؛ والكون الشبكي أو الكون المتشعب والمترابط (l’hypersphère) الذي يقوم على الشبكات الرقمية. وهكذا تخضع هذه الأكوان الوسائطية المختلفة لمنطق التتابع في الزمان من جهة، ولمنطق البرمجة من جهة أخرى. ولكن لا يصيبها العدم، بل تحضر وتغيب بحسب رغبة المشغل وميوله الشعورية واللاَّشعورية.

وبهذا، يكون ريجيس دوبريه سبَّاقاً إلى الحديث عن نظرية العوالم الممكنة من الوجهة الإعلامية أو الوسائطية أو الميديولوجية. والدليل على ذلك قوله بتعدد الوسائط الرقمية ، وتعدد عوالمها الافتراضية والإعلامية والوسائطية. من جانب آخر تستند الوسائطية إلى وجهين أساسيين: الوجه التقني ، والوجه التنظيمي أو السياسي أو المؤسساتي. ويضم الوجه الأول كل الوسائل والأدوات والمستندات (الكتاب، الطريق، الدراجة...). في حين يقوم الوجه الثاني على المؤسسات والأمكنة وما هو قانوني وشرعي (البريد، المكتبة، المدرسة، المؤسسة الدينية...). مع كل ذلك، لا يعني الأمر أن الميديولوجيا خاضعة للحتمية التكنولوجية، بل تهتم بماهو ثقافي أكثر مماهو تقني وآلي (L’effet-jogging)[1].

(23)

وتقوم المقاربة الميديولوجية أو الوسائطية على دراسة الثقافة على المستوى الكلي (الدين، والفن، والسياسة، واللغة)، وعلى المستوى اليومي (المواد، والوسائل، والاستعمالات...)، مع تحديد الملفات الموضوعاتية (Les dossiers thématiques) التي اقترحتها دفاتر الميديولوجيا أو مجلة الوسيط، مثل: الطريق، والورق، والدراجة، والحركة، والنقود، والحدود؛ أو الربط بين التقنية والثقافة، بالتوقف عند الوطن والشبكات، والإضاءة الرمزية ووسائل الإنارة، وفكرة التضحية والأجيال التكنولوجية، والإرهاب وتقنية الفرجة.

وبالطبع لم يقتصر الاهتمام بمفاهيم الميديولوجيا على ما قدمه ريجيس دوبريه من نظريات تأسيسية، فهناك مجموعة من الباحثين اهتموا بها، مثل: دانييل بونيو(Daniel Bougnoux)[1]، ولوي ميرزو (Louise Merzeau)، وكاترين بيرتو لافونير(Catherine Bertho-Lavenir)[2]، وبيير مارك دوبيازي(Pierre-Marc de Biasi)[3]، ومونيك سيكار(Monique Sicard)[4]، وفرانسوا بيرنار هويث (François-Bernard Huyghe)، وفرانسواز جايار(Françoise

(24)

Gaillard)، وميشيل ميلو(Michel Melot)[1]، ومارك كيوم (Marc Guillaume)[2]، وجاك بيريول (Jacques Perriault)، وأودون فالي (Odon Vallet)، وبول سوريانو (Paul Soriano)...

 

 ثلاثة عصور ميديولوجية

بعد نحو ثلاثة عقود على ظهوره شقَّ مصطلح الميديولوجيا طريقه ليصبح مفهوماً متداولاً ابتداءً من تسعينيات القرن العشرين. فكما سبق وأشرنا، فإن الميديولوجيا أو (الإعلامياء) هو مصطلح جديد لكنه متصلٌ بتاريخ طويل يصنّفه دوبريه في كتابه «علم الإعلام العام» ضمن ثلاثة عصور هي:

أولاً: عصر الإنتاج الخطي، وركيزته المخطوطة.

 ثانياً: عصر الإنتاج المطبوع، وركيزته الكتاب.

 ثالثاً: عصر الإنتاج السمعي البصري، وركيزته الصورة المتمثلة في السينما والتلفزيون والكمبيوتر.

إلا أن العصور الميديولوجية لم تتوقف عند الحد الذي وصل إليه دوبريه، حيث أننا نشهد عصراً ميديولوجياً جديداً ظهر مع حضور الإنترنت القوي في العالم (ما يقرب من مليارين ونصف

(25)

المليار مستخدم)، وهو ما يسميه علماء الاجتماع بـ«عصر الإنتاج السايبري» وركيزته المجتمعات الافتراضية والفضاء السايبري[1].

ثم يشرح لنا دوبريه هذه العصور كالتالي:

• العصر الأول، يطلق عليه إسم المجال الكلامي (Logosphere)أو الدائرة الكلامية. وهو «عصر لاهوتي تأتيه الكتابة من الله، «الله يملي والإنسان يدوّن ويملي بدوره». والديانات الكبرى مع التوراة والإنجيل والقرآن ثبّتت الوحي الشفهي كتابةً. وهنا تبرز مكانة الكلام المقدَّس والأزلي، وكما يصرّح دوبريه فإن «العقل البشري لا يخترع، فهو ينقل حقيقة تلقاها».

 • العصر الثاني، يطلق عليه إسم المجال الخطّي (Graphosphere)أو الدائرة الخطية، و»فيه تبعية الصورة للنص»، وضمان الحقيقة عبر الانتاج الخطي ووفرته وفتح المجال للاختراعات والابداعات.

 • العصر الثالث، وهو عصر المجال التلفازي (Videosphere)، أو الدائرة التلفازية، حيث انتقلت سلطة الإعلام إلى المرئي والمسموع، ونزول الكتاب من منصته الرمزية[2].

أما عصر الميديا أو العصر الميديولوجي الذي يجري الحديث عنه فيسمَّى بالمجال الانترنتي (Internetsphere) أو الدائرة الانترنتية. وما يميز هذا العصر أنه يضم العصور الميديولوجية السابقة كلها، فهو يحتوي على المجال الكلامي، لكن الكلام في

(26)

هذا العصر لم يبق مجرد حوارات بشرية لنقل ما هو إلَهي، إنما اتخذ شكلاً جديداً من الكلام اعتمد على الحوار الإلكتروني بين إنسان- وآلة، ينقل من خلالها كل ما يريده من معلومات وكل ما يحتاجه من تواصل. كما يحتوي على المجال الخطّي، حيث تبرز الصحيفة الإلكترونية والكتاب الإلكتروني (e-book) والمواقع الالكترونية التي اعتمدت على النص المكتوب، والاهتمام بالقراءة الإلكترونية على حساب القراءة الورقية التي من المتوقع أن تزول مع ارتفاع سيطرة هذا العصر الميديولوجي الجديد. وكذلك يحتوي على المجال التلفازي من خلال ما يقدمه من إمكانية مشاهدة الأفلام والأخبار والرياضة والفيديو كليب وغيرها من خلال المواقع الإلكترونية الكثيرة ولا سيما موقع يوتيوب(YouTube) الشهير. وفي واقع الحال يتميز هذا العصر الميديولوجي بنشوء المجتمعات الافتراضية التي سمحت للمشتركين بتكوين المجتمع الذي يرغبون به، والتواصل ضمن الفضاء السايبري الرحب من دون أي حواجز مكانية وزمانية. وهذا ما أدى إلى ولادة «نيوميديا» متقدمة عن الميديا التقليدية التلفزيونية، لتحضر المجتمعات الافتراضية، لا سيما الفايسبوك (Facebook)، وتترك أثرها البالغ في نقل الخبر بالصوت والصورة والكلام والتعليقات وردود الفعل وتفاعلات الجمهور بسرعة فائقة ومذهلة مما ساهم في تحريك ثورات وانتفاضات واحتجاجات شعبية شهدها العالم العربي في الآونة الأخيرة[1]

(27)

مقومات المفهوم

تقوم الـ«ميديا» على شرطين لازمين:

 الأول: الوسائل التي تنقل المعلومات.

والثاني: البيئة المحيطة، وهي التي من خلالها تقوم الأشياء بأداء وظيفتها وتزدهر.

بهذين الشرطين يمكن أن تصنّف «الميديا» ضمن مستويين اثنين: بسيط ومركب.

 - المستوى الأول يتصل بالمصطلح الإنكليزي لوسائل الإعلام الجماهيرية (المقروء والمسموع والمرئي) كالصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون، من خلال رؤية نقدية تستوعب معطيات العالم المعاصر والتوجهات الكبرى التي تحكم تغيره المتسارع.

- أما في المستوى الثاني المركب فإن «الميديا» تعني الوسائل التي تنقل إلينا المعلومات من البيئة المحيطة البعيدة أو القريبة، والتي يمكن أن تتطوَّر لتنقل الإحساس أيضاً. أي أن الميديا هي مفهوم أشمل مما يشاع عنه. فهي ليست فقط الوسائل المرئية والمسموعة، بل الأشياء الحسية أيضاً.

 

- الميديا.. أو ثورة إتصالات

 إكتسبت الـ«ميديا» أهمية خاصة منذ ظهور الثورة الاتصالية

(28)

الحديثة؛ وعلى الخصوص تلك التي تتضمن البث التلفزيوني المباشر بواسطة الأقمار الصناعية، كما يتم عبرها توصيل محتوى معلوماتي ما إلى نطاق واسع من الأفراد عبر عدد محدود من الوسائل؛ كالبث الإذاعي والتلفزيوني، والسينما، ودور النشر، وحديثاً عبر الإنترنت.

ويمكن لنا أن نلاحظ أن الـ«ميديا» لا بد من أن تحتوي على رسالة معينة لأن الوسيط هو من يوصل إليك شيئاً معيناً. وقد تكون هذه الرسالة إما سلبية أو إيجابية، والقصد من ورائها التأثير على الثقافة أو الفكر أو السياسة العامة أو غير ذلك[1]. وهذا ما تضمنته البحوث العلمية التي راكمت بنية معرفية غايتها تحويل الميديا إلى جزء أساسي من العلوم الإنسانية المعاصرة.

 

السمات العامة لتكنولوجيا الميديا

تميزت الميديا في الجانب المتعلق بتكنولوجيا المعلوماتية بمجموعة من السمات الأساسية يوردها المتخصصون في علم الإعلام الجديد على الشكل التالي:

 1- ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ: وتعني تبادل ﺍﻷﺩﻭﺍﺭ بين المرسل والمستقبل، ﺃﻱ ﺃﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﺃﺩﻭاﺭﺍً  مشتركة بينهما ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ الاتصالية، مثل الممارسة الثنائية، ﺍﻟﺘﺒﺎﺩل، التحكم، وأفضل مثاال ﻋﻠﻰ ذلك استعمال نظام

(29)

(Video Text) ﺍﻟﺫﻱ يتيح تفاعلاً واضحاً بين المرسل والمستقبل، ويعد هذا النظام واحداً  من أنظمة النصوص المتلفزة.

2- تحديد المستفيد: وتدل على ﺃﻥ المعلومات سوف تكون محددة ﺍﻟﻐﺭﺽ، ﻭﻫﻨﺎﻙ درجة من  التحكم ﻓﻲ معرفة المستفيد ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ من معلومات معينة ﺩﻭﻥ ﻏﻴﺭﻫﺎ، ﻭﻫﺫﻩ ﺍﻟﺴﻤﺔ أفرزتها تكنولوجيا الاتصالات ﺍﻟﻤﺘﻤﺜﻠﺔ ﻓﻲ أحد أنظمة البريد الإلكتروني ﻭﻫﻲ «ﺍﻟﺭﺯﻡ البريدية الخادمة» ﺍﻟﺘﻲ تتيح ﻟﻠﻤﺸﺘﺭﻙ بها حيزاً واسعاً للتحكم بكمية المعلومات ﺍﻟﻤﺭﻏﻭب بها ونوعيتها.

3- اﻟﻼَّتزامنية: وتبرز ﺃﻫﻤﻴﺘﻬﺎ من كونها تسمح بإمكانية تراسل المعلومات بين أطراف ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ الاتصالية من ﺩﻭﻥ شرط وجودها ﻓﻲ ﻭﻗﺕ إرسالها، ﻭﻫﺫﺍ يعني ﺃﻥ ﻫﻨﺎﻙ إمكانية ﻟﺨﺯﻥ المعلومات المرسلة عند استقبالها ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻬﺎﺯ واستعمالها وقت الحاجة.

4- قابلية التحرك ﺃﻭ الحركية: وتسمح ببث المعلومات واستقبالها من أي مكان ﺇﻟﻰ آخر أثناء حركة إنتاج المعلومات واستقبالها، ﻭﺫﻟﻙ باستخدام ﻋﺩﺩ من الأجهزة مثل الهاتف النقال وهاتف ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ ﻭﺍﻟﺘﻠﻔﺎﺯ المدمج ﻓﻲ ساعة اليد، وكذلك الحساب الإلكتروني ﺍﻟﻨﻘﺎل والمزود بطابعة.

5- قابلية التحويل: ﻭﻫﻲ إمكانية نقل المعلومات من ﻭﻋﺎﺀ ﺇﻟﻰ آخر باستعمال تقنيات تسمح بتحويل ﺍﻷﻭﻋﻴﺔ ﺍﻟﻭﺭﻗﻴﺔ ﺇﻟﻰ مصغرات فيليمة وبالعكس، وإمكانية تحويل المعلومات ﺍﻟﻤﺴﺠﻠﺔ ﻋﻠﻰ هذه ﺍﻟﻤﺼﻐﺭﺍﺕ (Microform) ﺇﻟﻰ ﺍﻷﻭﻋﻴﺔ الممغنطة ﺃﻭ الليزرية،

(30)

وكذلك إمكانية تحويل النصوص من ﻟﻐﺔ ﺇﻟﻰ أخرى ﺃﻭ ما يسمى بنظام الترجمة ﺍﻵﻟﻴﺔ.

6- قابلية التوصيل: ﻫﺫﻩ ﺍﻟﺴﻤﺔ تتمثل ﻓﻲ إمكانية استعمال الأجهزة ﺍﻟﻤﺼﻨﻌﺔ من قبل الشركات ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﺍﻟﺘﻲ تحكمها معايير معينة ﻓﻲ توحيد صناعة الأجزاء ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻬﺫﻩ الأجهزة، مما يتيح إمكانية تناقل المعلومات ﻓﻴﻤﺎ بين المستفيدين بغض النظر عن الشركات ﺍﻟﻤﺼﻨﻌﺔ للأجهزة ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ.

7- الشيوع والانتشار: بين مختلف الطبقات الاجتماعية وحول العالم، ﺇﺫ كلما تظهَّرت وسيلة ﻟﺘﻨﺎقل ﺍﻟﻤﻌﻠﻭماﺕ عدﺕ ﻓﻲ البداية ترفاً ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﻓﻲ النهاية تصبح مع الوقت  تقليدية يمكن استعمالها من ﻓﺌﺎﺕ وطبقات مختلفة ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ.

 8- ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺃﻭ الكونية: ونعني إمكانية تناقل المعلومات ﻓﻴﻤﺎ بين المستفيدين ﻋﻠﻰ مستوى العالم وذلك لتوافر ﺍﻟﺘﻘﻨﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ تسمح بذلك كماً ونوعاً، ﻭﻫﺫﻩ ﺍﻟﺴﻤﺔ تضفي الكثير من المميزات ﻋﻠﻰ التواصل ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ ﻭﺍﻟﺘﻘﻨﻲ ﻓﻲ مجال تناقل الخبرات ومن ثم يكون التواصل عالمياً[1].

(31)

أنواع الميديا

يصنّف خبراء تكنولوجيا الإتصال بنية «الميديا» ضمن أنواع تشتمل على القديم والمستجد من وسائل النقل الإعلامي. وقد حددوا هذه الأنواع بثلاثة:

النوع الأول: الميديا بتكنولوجيا قديمة: ويعود هذا النوع ﺇﻟﻰ مجموعة من الأشكال ﺍﻟﺼﺤﻔﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻹﺫﺍﻋﺔ والتلفزيون والصحف، كالمجلات الإخبارية وبرامج الأخبار ﺍﻟﺤﻴﺔ.

النوع الثاني: الميديا بتكنولوجيا جديدة: وتمثله جميع الوسائل ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻟﻔﻨﺎ استخدامها ﺍﻵﻥ، ﻭﺍﻟﺘﻲ مكنت من سَرَيَان حالة ﺍﻟﺘﺒﺎﺩل ﺍﻟﺤﻲ والسريع للمعلومات.

النوع الثالث: الميديا بتكنولوجيا مختلطة: ﻭﻓﻴﻪ تزول الفوارق بين القديم والجديد، حيث أصبحت الحدود الفاصلة بين أنواع الوسائل ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ حدوداً اصطناعية، بعد ﺃﻥ حدثت حالة ﺍﻟﺘﻤﺎﻫﻲ بين ﺍﻹﻋﻼﻡ القديم والجديد وتبادل ﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻊ[1].

أما صحافة الإنترنت فتدخل ضمن خمسة تصنيفات فرعية، وهي:

الصنف الأول: صحافة الأخبار السائدة: ﻭﻫﻲ أكثر الأنواع انتشاراً، حيث توفر خيارات ﻭﺍﺴﻌﺔ من المواد ﺍﻟﺼﺤﺎﻓﻴﺔ محررة بوساطة الموقع مأخوذة من مواقع أخرى.

(32)

الصنف الثاني: مواقع ﺍﻟﻔﻬﺎﺭﺱ ﻭﺍﻷﺩﻟﺔ: ﺍﻟﺘﻲ ترتبط بخدمات محركات البحث مثل «ياهو» (yahoo) ﻭ«ﻏﻭﻏل» (google)، ﺃﻭ بوكالات خدمات الأخبار ﺍﻟﺘﻲ تعمل ﻋﻠﻰ الإنترنت، ﺃﻭ بالمشاريع الفردية.

الصنف الثالث: صحافة ﺍﻟﻤﺼﺎﺩﺭ المفتوحة: ﻓﺠﻤﻴﻊ صحافة الإنترنت تقريباً ﻫﻲ صحافة مصادر مفتوحة، حيث يطلق ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻋﻼﻡ الجديد «ﺇﻋﻼﻡ ﺍﻟﻤﺼﺎﺩﺭ المفتوحة» بسبب مزايا شبكة الإنترنت ﺍﻟﺘﻲ تعتمد أساساً ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﻨﺎﺀ ﺍﻟﺤﺭ المفتوح.

الصنف الرابع: مواقع ﺍﻟﻨﻘﺎﺵ والمشاركة: حيث تتيح صحافة الإنترنت مجالاً ﻟﻠﻨﺎﺱ ﻟﺘﺒﺎﺩل ﺍﻷﻓﻜﺎﺭ والمعلومات وما ﺇﻟﻰ ذلك.

الصنف الخامس: مواقع التعليق: ﺍﻟﺘﻲ تتمحور حول وسائل ﺍﻹﻋﻼﻡ والقضايا الإعلامية ﻋﻠﻰ نحو ﻋﺎﻡ[1].

(33)

المبحث الثاني: العلامات الرمزية للميديا

تعتبر الميديا من أكثر المفاهيم الجديدة استخداماً للأنظمة الرمزية. وقد وضع الخبراء استناداً إلى الاختبارات والتجارب طيلة عقود متواصلة، مجموعة من العلامات الرمزية يمكن إدراجها في ما يلي:

العلامة الأولى: بلاغة التواصل المرئي (réthorique de la communication visuelle): تأسيس نظري يرمي إلى كيفية اشتغال المنظومات البلاغية داخل السيميائية، وإلى أي مدى يمكن تطبيقها على الإيقوني والتشكيلي. وقد بيَّن المؤلفون أن بلاغة التواصل المرئي، إذ تُفيد من البلاغة اللسانية، تدرس الانزياح (l’écart) المكاني الذي يتحقق في الملفوظين (l’énoncés) الإيقوني والتشكيلي اعتماداً على الدرجة المُدركة  (le degré percu) والدرجة المُتصورة  (le degré conçu) . ففي ملصق إرنست مثلاً/ وهو رأس عصفور على جسد طفل، يمثل رأس العصفور الدرجة المذكرة التي نراها، على حين أن رأس الطفل (غير الحاضر في الملصق) الذي يوحي به جسده، يمثل الدرجة المتصورة. وهكذا يخصص المؤلفون حيزاً واسعاً لكي يتفحصوا بالتفصيل العلاقة الدقيقة بين الدرجة المدركة والدرجة المتصورة ضمن إطار التواصل المرئي[1].

(34)

العلامة الثانية: جو شعوري (ethos): لكل عمل فني صدى في ذات المتلقي الذي يدخل عالمه. ولكن هذا الصدى لا يمكن أن يوجد إلا من خلال إدراك العلاقات الداخلية في هذا العمل. وهذا ما يُسمى بـ«المقروئية» (la lisibilité)  التي تحققها الأسلبة حين تتيح للمتلقي أن يفهم تركيب الشكل، وتكوينه، كمزج الألوان وتوزيعها في اللوحة، وانسياب الخطوط أو انكسارها في الرسم، وتعبيرية الخطوط المحيطية للكتلة في النحت، ووظيفة الأشكال الهندسية كالمربع والدائرة، وتداخلاتهما في العمارة... إلخ. ذلك أن مدلول التشكيلات المحصلة نتيجة الأسلبة يعتمد إلى حد  كبير على مشاركة المشاهد في تأويل العلامة: فهو ـ كما يقول مؤلفو الكتاب ـ «يمكن أن يرى الفانتازيا في مربع ألوان المعماري ما بعد إحداثي تنساب في إيقاع من النوافذ»، كما أنه قد يجد «العنف في الألوان الحمراء التي تُعاكس تدرجية لوحة نابوليون»، مما يعني أن لكل إجراء فني أو تقني في العمل الفني أثره في المشاهد، فللإطناب أثر، وللإيجاز أثر ثان، وللإضافة أثر ثالث. ومن ثم يقسم المؤلفون الجو الشعوري إلى ثلاثة أقسام:

أ - الجو الشعوري النووي (l’éthos nucléaire) الذي تتميز فيه ثلاثة مظاهر: إدراك البلاغية، أي إدراك الخطاب ذاته (توضيح الجانب النابض للعلامات)، وإدراك مرونة الشكل (أي مقاومة الشكل لتقويضه كما يحدث حين يلعب الفنان باستقامة خطوط المربع أو بانحناء خطوط الدائرة؛ إذ يتفادى تقويضهما من خلال اللعب على المرونة)، وإدراك المتغيرات بإهمال الخطوط

(35)

التي تعارض المربع والدائرة لصالح الخطوط المشتركة بينهما (الإحديداب، قفل المحيط، سطح متساو تقريباً، مستوى عال من التناظر).

ب - الجو الشعوري التكويني (l’éthos synnome) الذي ينتج من إدراك العلاقات الداخلية بين الأجزاء التي حققت مرونة الشكل، وتكامله، وتناغُمه.

ج - الجو الشعوري المستقل (l’éthos autonome) الذي ينتج من توضيح اللامتغيرات، وهو يتصل تحديداً بالمربع والدائرة. فهذان الشكلان الهندسيان بسيطان ومستقران في ذهن المتلقي، ووجودهما المسبق قوي على العبارة السيميائية. لذا فإن أي تلاعب بهما، وأي مساس بخطوطهما، سيترك في ذات المتلقي تأثيراً أقوى من المساس بأشكال أقل استقراراً كالأضلاع مثلاً[1].

العلامة الثالثة: وظيفة تكوينية (function synnome): هذه الوظيفة هي التي تولد أثر العمل الفني في المتلقي أو المشاهد. لذا تشدِّد نظرية جمالية التلقي على المشاركة الفعالة للقارئ أو المشاهد في خوض تجربة تذوق ما تنطوي عليه الفنون من إبداع التكوين المتكامل على مستوى الأجزاء الداخلية للشكل، وتكاملها، وانتظامها، وإيقاعها المتناغم. فالوظيفة التكوينية المتنوعة ذات أثر كبير في إغناء الشعور الجمالي عند الملتقي؛ لأن التكوين يفتح في كل فن أبواب التخيل والابتكار، فتكوين النص الأدبي ذاته يتباين

(36)

بين الشعر والرواية والمسرح، كما أن تكوين الكتلة في فن النحت يختلف عن تكوينها في فن العمارة، وتكوين الكتلة التعبيرية يختلف عن تكوين اللوحة السريالية أو الانطباعية. وهكذا يخلق كل تكوين صداه الخاص في ذات المتلقي. وإذا ما أضفنا الأسلوب الذي يتبعه كل فنان ويُتميز به عن سواه، تجلّى غنى هذه الوظيفة وتنوعها.

العلامة الرابعة: تسليع (Commodification): التسليع ـ (أو تحويل الشيء إلى سلعة) مفهوم مستحدث في عصر الرأسمالية الجديدة التي ترمي إلى تحويل أي حاجة يمكن تحويلها إلى سلعة تشترى وتباع وذلك لغرض تحقيق ربحية من وراء تلك العملية. وهذا ينطبق على أشياء أو حاجات أو نشاطات لم تكن في العرف السائد حتى اليوم تعتبر (سلعة) معدة للبيع والشراء. ويشمل هذا على سبيل المثال الألحان الشعبية الموسيقية والساحات العامة في المدن والتجمعات السكانية. وتمثل هذه النزعة طفرة جديدة في سيطرة رأس المال على حياة الأفراد العاديين.

العلامة الخامسة: طيف إلكترومغناطيسي (Electromagnetic Spectrum): يشمل الكيف مدى واسعاً جداً من تردد يقل عن ألف ذبذبة في الثانية إلى تردد يصل إلى 1020 ذبذبة في الثانية. ويعطي هذا الطيف موجات صوتية وموجات تستخدم للبث الراديوي المسموع والمرئي، والموجات الحرارية (تحت الحمراء)، والضوء المرئي تدرجاً مع قصر طول الموجة، وزيادة عدد الذبذبات في الثانية الواحدة، إلى الأشعة فوق البنفسجية، والأشعة السينية، وأشعة غاما (Gamma) ومن ثم على ما يدعى بالأشعة الكونية. ما يتكلم

(37)

عنه الكتاب وتجري محاولات لبيعه إلى شركات خاصة هو الجزء المستخدم للبث الراديوي، وتتراوح ذبذباته بين 100 كيلوهرتز(أي 100 ذبذبة في الثانية) إلى أكثر من ألف مليون أو ألف ميغاهرتز، ويمكن استخدام هذه الذبذبات لنقل الصوت والصورة والمعلومات والبيانات بواسطة شبكة الإنترنت وغيرها من الوسائل.

العلامة السادسة: مجال سايبري أو فضاء سايبري (Cyberspace): تعرّفه موسوعة  «ويكيبيديا» (Wikipedia) الموجودة على الإنترنت بأنه «الميدان المييز باستخدام الإلكترونيات والطيف الإلكترومغناطيسي لخزن وتحوير وتبادل البيانات عبر منظومات شبكية وبنى تحتية مادية مرتبطة». اعتماداً على هذا التعريف ولكونه يشمل «بنى تحتية مادية»، ارتأينا استخدام «مجال سايبري» كتعريب له بدل «فضاء سايبري» لأن مدلول كلمة فضاء هو الفراغ المطلق.

العلامة السابعة: مراكز التسلية المقصودة (Destination Entertainment Centres): هذه المراكز ابتكار تجاري جديد يجمع العشرات من أصناف اللهو والمتعة التي تجذب الشباب وحتى البالغين. وقد يضم المركز دوراً متعددة للسينما الاعتيادية وأخرى لعرض الأفلام المجسمة (ثلاثية الأبعاد)، ومحلات للألعاب الفيديوية تستطيع فيها طلب أي نوع من برامج الألعاب المتوفرة، ويضم  أيضاً محلات للألعاب التقليدية كالبلياردو والبولينغ ومحلات لألعاب الأطفال مدرجة حسب أعمارهم، وربما دار حضانة ليترك الأبوان فيها أطفالهم الرضَّع، في حين يتمتعون ببقية مراكز اللهو. وتضم المراكز بالطبع المطاعم بأنواعها والمشارب

(38)

والمقاهي وبعض المتاجر المتخصصة. وقد انتشرت في المدن الأميركية الكبرى منذ عقدين من الزمن، وأصبحت تنافس مجمعات التسوق (Shopping Malls) كمراكز لجذب الزبائن[1].

العلامة الثامنة: مستقبلية (Futurology): المستقبلية في العلوم الاجتماعية ـ وهي بخلاف الحركة المستقبلية الفنية (Futurism) ـ تُعنى بدراسة الاتجاهات والنزعات السائدة آنياً للتنبؤ بالتطورات المستقبلية. وقد بدأت البحوث ضمن هذا المضمار لتعتمد نماذج حاسوبية ورياضية. ومن أشهر ما نشر حول التنبؤات المستقبلية التقرير الذي أعده عدد كبير من العلماء والمفكرين اجتمعوا في ما عرف آنذاك بنادي روما (The Club of Rome)، ونشر سنة 1972 من قبل معهد ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT) في أميركا، وحمل عنوان حدود النمو (The Limits to growth).

العلامة التاسعة: نصوص مفرطة (Hypertexts): استحدث هذا التعبير للدلالة على النصوص الموجودة في مراجع شبكة الانترنت وبخلاف الكتاب المرجعي المعروف مؤلفه، والمجلد ضمن غلاف واحد مع بداية ونهاية واضحتين وفصول متوالية، نجد أن النص المفرط يبدأ حيث يدخل المستخدم إلى المعلومة التي يبتغيها، ومن تلك النقطة يستطيع أن يرحل عبر الإنترنت إلى نصوص أخرى ذات صلة ويمكن له أن يتشعب ويصل إلى معلومات أخرى لا بداية لها ولا نهاية كونها نصوصاً مفتوحة. ورغم أن هذه النصوص تعوض عن عدم كبير من المراجع، لكن بعضها تعوزه المعوّلية، وعلى

(39)

المستخدم أن يميز بينها حسب درجة معوّليتها. ذلك أن اعتمادها كمصادر تدرج على بحث أو مؤلف يمثل سنداً قد يختفي بعد حين حتى إن كان على درجة عالية من الموثوقية.

العلامة العاشرة: واقع افتراضي (Virtual Reality): هي تقنية تتيح للمستخدم التفاعل مع محيط يتم إخراجه بواسطة الحاسوب. وقد يكون ذا أصل حقيقي أو أنه مختلف، ويتم عرضه على شاشة الحاسوب أو من خلال نواظير مجسمة حصرياً في بعض الأحيان بالصوت، ويمكن للمستخدم التفاعل معه باستخدام بعض معدات الإدخال المرتبطة بالحاسوب، كلوحة المفاتيح والفارة أو معدات أخرى ذات أنواع خاصة[1].

 

مفردات ومفاهيم مفتاحية

من المزايا اللاّفتة لعالم الميديا أنه غنيٌ بالمصطلحات والرموز المتفرعة منه. وفي ما يلي نعرض قائمة بالمفردات الإصطلاحية التي يتضمنها النظام المعرفي والتقني للميديا.

الشاشة-التصفُّح-الإبحار-الإنترنت-التجوال-التحسيب- الرقمنة-التفاعل-التيهان-الذاكرة-الخارطة-الشبكة-الرابط-النص المتشعب-الشبكة الدلالية-الفضاء الشبكي-العوالم الافتراضية-المتصفح-المستعمل-الموقع-النص الشبكي-الواجهة-الواقع الافتراضي-الوسائط-الوسائطيات-الاتصال-التحكم-البرمجة-القراءة

(40)

الرقمية-النص الرقمي-البيئات الرقمية-السياق الرقمي-الكائنات الرقمية-الشخصيات الرقمية-الفضاء الرقمي-الحدث الرقمي-الخطية واللاخطية-الويب- عملية الربط-عمليات الاتصال وفك الاتصال- الثقافة الرقمية-المرجع الرقمي-الطابع التفاعلي-النقر-الانتقال النقري- المسارات الرقمية-المعنى الرقمي - اللوغاريتمية- التسجيل-المعلومات-البيانات-المعطيات-الداتا-الموسوعة الثقافية-الإعلام-الأرقام-الرياضيات-الآلية-التقنية-الحاسوب-الإنتاج الرقمي-التمثيل الرياضي للعالم-القيم الرياضية-المحيط الرقمي-الكون الرقمي- اللوائح والملفات الرقمية-الرابط الترابطي-العلاقة الارتباطية-عملية النقل والإلصاق-التناص-الطابع الوسائطي المتعدد-المزج-التعددية-التهجين-الملفات الحاسوبية-السند- النوافذ-النص المترابط-المواقع-المدونات-البرنامج-السبرينيتيقا-التحكم الآلي- العقد-الروابط-الحقول المعجمية الرقمية-الذكاء الاصطناعي- التفاعل-النص الفائق-النص المتعالق-الوسائط الإلكترونية- المكتبة الإلكترونية-المعلوميات- الفأرة-الوحدة المعلوماتية-خرائط التصفح-المعالجة-التنشيط الرقمي-الملفاتالرقمية-البلاغة الرقمية-الوسائط المتشعبة-المستندات-الوثائق-السيرفر (الخادم)-المستندات المحمولة- الأبعاد الثنائية والثلاثية-نظام ويندوز-الحاسبات-الطابعات-ماكينتوش-الفوتوشوب-الجهاز-معالج النصوص(Word)-الماسح الضوئي(السكانير)- البرنامج- الشذرة- المنتديات- المكتبة الناطقة-التخزين-القص-واللصق-إعادة الاستعمال-الملف النصي- المبرمج-المصور-السيناريوهات-الخطاطات-المدونات-المعرفة الخلفية- الاستنساخ...

(41)

كما تترافق المفردات المفتاحية الآنفة الذكر مع مجموعة من المفاهيم الفرعية التي دأب الباحثون في علم اجتماع التواصل على تقديمها لتصبح من المكونات الضرورية لعالم الميديا. وقد أدرج هؤلاء هذه المفاهيم على النحو الآتي:

1 - لغة العمليات الذهنية (Mentalais): هي كلمة مستحدثة تدل على منظومة الترميز والتصور الافتراضي للحالات الذهنية. ينظر إلى لغة العمليات الذهنية، في أقوى دلالاتها التي طرحها جيري فودور (Jerry Fodor)، على أنها لغة: أي لغة الفكر، في هذا الإطار الإبستيمولوجي، تبنى التصورات الذهنية إذن على قواعد شكلية أي نحوية. إنها واحدة من المسلَّمات الأساسية في النظريات «التصورية» للفكر[1].

2 - ما بعد المعرفية (Métacognition): وهي تدل على قدرة أساسية في الذكاء قوامها معرفة نشاطاته المعرفية الخاصة أو التفكير فيها. تدل السابقة «méta» على «ما بعد» وتقتضي عملية من النوع الثاني؛ وتأتي ما بعد المعرفية بالضرورة بعد المعرفية وتعكس معرفة المضامين والعمليات المعرفية. وتنطبق هذه «السابقة» في الكلمة على عدد من الوظائف كالانتباه (ما بعد الانتباه)، والذاكرة (ما بعد الذاكرة)، والفهم (ما بعد الفهم)، وحل المشاكل (ما بعد حل المشاكل). فلا تدل عندئذٍ على انتباه الانتباه وعلى ذاكرة الذاكرة،

(42)

بل على معرفة الانتباه والذاكرة. أي أن ما بعد المعرفية هي حالة خاصة في المعرفية، وهي حقل بحثي لجميع العلوم المعرفية والطبيعية والاصطناعية التي تجتمع حول هدف مشترك هو بالضبط «معرفة المعرفة». في الذكاء الاصطناعي تستخدم منظومات عديدة معلومات تتعلق بمعارف أخرى (ما بعد المعارف)، أو بقواعد تمكِّن من تحديد استعمال قواعد أخرى، أو من الاختيار بين القواعد العديدة (ما بعد القواعد). والجدير بالذكر أن هذا المفهوم برز في العام 1970 في مجال علم نفس النمو، لا سيما في المساهمات التي قام بها كل من ج. هـ. فلافيل (J. H. Flavell) وأ. ل. براون A. L. Brown) (1987). ومنذئذٍ أدى تحليل الدراسات المطوَّرة إلى عزل مكوِّنين أساسيين: 1- معرفة الحالات والمضامين والعمليات المعرفية؛ 2- مراقبة وتنظيم النشاط بغية الوصول إلى هدف. ويمكن القول أن هذه المكونات تنحدر بشكل طبيعي من المعارف وعمليات معالجة المعلومات. بالنسبة إلى الفرد، ترتبط المعرفة بثلاثة أنواع من الأهداف: 1) أداء المنظومة المعرفية بعامة، أو أيضاً النظريات الساذجة أو الاعتقادات (وربما تكون خاطئة ويتشاطرها أفراد المجتمع)؛ 2) الوصول إلى المعلومات الخاصة التي تظهر في العملية المعرفية، والناجمة عن تحليل ظرفي، والوصول إلى وعي ومراقبة مباشرة للعمليات والمضامين الذهنية؛ 3) كشف النقاب عن المضمون المعرفية والعمليات المعرفية الخاصة بالفرد.

3 - المعارف والتجارب الما بعد معرفية: يمكّننا هذا التصنيف من أن نغير بين المعارف الما بعد معرفية  والتجارب الما بعد معرفية

(43)

وبين معلومات المتغيرات التي تؤثر في الانجاز. يفصل هذا الكاتب تلك المتعلقة بالفاعل (أي المتغيرات التي تتم داخل الأفراد أو في ما بينهم، والمتغيرات العالمية) وبالمهمات، وتلك المتعلقة بالمواد والاستراتيجيات. إن التجارب الما بعد معرفية هي مشاعر وردود أفعال تظهر أثناء الفعل ولا يمكن الإفصاح عنها بالضرورة إرادية وسهلة المنال بالنسبة للوعي[1].

4 - الما بعد معرفية، والتحكُّم، والإنجاز: وهنا توجد علاقة مركبة بين بعدَيْ الما بعد معرفية. يرى نيلسون (Nelson) ونارينس (Narens) (1994) أن المنظومة الما بعد معرفية تملك صفتين أساسيتين:

أولاً، تنبني على مستويين على الأقل: مستوى المرمى والما بعد مستوى الذي يتضمن نموذجاً منقوصاً للمستوى الأول.

ثانياً، توجد علاقة هيمنة بين المستويين تحدد التوجه لدى تدفق المعلومة. وتمكّن هذه الصفة الأخيرة من أن نمايز بين آليات المراقبة وآليات التحكم المستقلة. وتشير فكرة المراقبة إلى أن الما بعد مستوى قد أخذ علماً بما بحدث في مستوى المرمى، وهذا يساهم في تعديل نموذج الوضعية. وتتضمن فكرة التحكم تعديلاً في العمليات على مستوى المرمى، وذلك بالشروع في الفعل وتعديله وانهائه. وفي الذكاء الاصطناعي يظهر تمايز مشابه بين مستوى القاعدة، الذي تنجز فيه عمليات المعالجة وحل المشكلة،

(44)

ومستوى ما بعدي يدرس ويؤثر بالتالي في هذه العمليات برجوعه إلى المعارف المابعدية (Pitrat، 1990)[1].

إن الفرضية التي ينطوي عليها مفهوم كهذا تقول بأن الما بعد معرفية تفيد في رفع مستوى الإنجاز إلى الحد الأقصى. إذ عندما يفكر الانسان في عملياته الخاصة يستطيع أن يختار الاستراتيجيات المثلى ليحل مشكلة، وليقيم الفارق بين إنجازه وهدفه المنشود، وليصحّح التصرفات غير المناسبة... بيد أن عدداً من الدراسات التي تظهر أن جودة الما بعد معرفيات لا تضمن دائماً إنجازاً أفضل. وهذا يعود جزئياً إلى الخلط بين جوانب المعرفة والتحكم بالما بعد معرفية. وفعلاً يستطيع الانجاز الرديء أن ينجم عن ثغرات في المعارف أو عن استعمال سيىء للمعارف المناسبة. ولكي نفهم الظواهر الما بعد معرفية فهماً كاملاً، من المفيد أن تؤخذ بعين الاعتبار جوانب أخرى من نفسية الإنسان، كالحالات العاطفية والشخصية والدافع المحرك. وفعلاً، توجد علاقات وثيقة جداً بين العناصر الإفهامية وتصور الذات (فعالية ذاتية وتقدير للذات)، والتحليل المعرفي لوضع معين، والتحكم في التصرف ( إتخاذ القرارات حول الأفعال، إلتزام في المهامات، مثابرة).  (ش.كومب ـ بانغو).

(45)

هندسة مثلثة الأبعاد للميديا

على الرغم من البنية المعقدة التي تتميز بها المنظومة المفهومية والتقنية للميديا، فإن من الضروري إيلاء تصنيف هذه المنظومة أهمية خاصة من أجل فهم بنيتها. والأهمية التصنيفية هنا ترجع إلى أن الميديا كجهاز هائل لتحقيق التواصل، تنقل العلاقة الإنسانية من القوة إلى الفعل، ومن الكمون إلى الظهور، ومن اللاّزمني إلى التاريخي. إلا أن هذا التدقيق الهام لا يسمح بعد بالإحاطة كلياً بإشكاليتنا الأساسية، لأنه يجدر أيضاً إقامة خط تماس واضح مسبقاً بين المفاهيم الثلاثة المتجاورة التالية: أدوات الاتصال، وسائل الإتصال، ووسائط الإتصال[1].

- أدوات الإتصال

إن الأداة هي شيء (أو غرض) يُصنع ليؤثر على المادة. فهو إذن غرضٌ ذو استعمال يدوي ومحسوس. مثلاً العصا هي أداة تسمح بالدق على الطبل من أجل إصدار صوت. وبهذا المعنى إن أدوات الاتصال متعددة بقدر ما يسمح به الحوض البيئي لشعب ما وتاريخه. وهكذا يمكن أن نؤكد أن الخيار المتعلق بصناعة واستخدام أدوات الاتصال ليس اعتباطياً كما هي الحال عليه مثلاً بالنسبة إلى الرمز اللغوي. من هنا، فإن تاريخية الأداة هي «وساطة ثقافية» «لا يمكنها أن تكتفي بنسج روابط عابرة»، بل عليها أيضاً أن تساهم في إنتاج معنى تلتزم به الجماعة»:[2]

(46)

- وسائل الإتصال:

تختلف الوسيلة عن الأداة لأنهما معاً من صنع الإنسان، إلا أن الفرق بينهما هو في الهدف المنوط بكل منهما. فإذا كانت الأداة معدَّة أكثر للتأثير على المادة فإن استخدام الوسيلة هو في تنفيذ العمليات المتنوعة التي قد لا يكون لها علاقة مباشرة مع المادة. ومن هذا المنظور تبدوالوسيلة ذات بعد أقل مادية من الأداة، وهذا هو بالتحديد واقع وسائل الاتصال. فهي تندرج وتنخرط في العملية الاتصالية المعقدة متناسقة مع وسائل أخرى وحتى أدوات أخرى كي تساهم في نهاية المطاف ببلوغ نتيجة لم تكن مضمونة أحياناً في البداية. وهذه بالتحديد هي الحالة التاريخية للتلفون الذي أعد في الأصل لمتابعة الأوبرا عن بعد والذي أصبح في ما بعد «وسيلة اتصال»[1].

لقد سبق أن برهنت دراسات عدة لاختصاصيين في الثقافة الأفريقية أن معظم وسائل الاتصال القديمة  قد جرى تحويلها في الوسط العمراني إلى وسائل موسيقية. لذا أصبح بإمكاننا الانتباه إلى أن الوسائل، كونها ذات بعد أقل حسية، هي قابلة للتحرر بسهولة أكبر من الركيزة الثقافية لصناعتها.

- وسائط الإتصال:

إن وسائط الاتصال، وبصورة أكثر وضوحاً، هي من الأدوات والوسائل، تترجم رهان الوساطة. ولكن ينبغي تحديد أن مثل هذا

(47)

الرهان هو حقيقة مضاعفة: فمن ناحية، تهدف الوساطة إلى أن تكون ممراً إلى غاية معينة، ومن ناحية ثانية، هي موقف متخذ في منتصف العملية، أو موقف ما بين ـ الاثنين. فالواسطة كممر تذكِّر هنا بالبعد الذي وجدناه سابقاً في الأداة والوسيلة، والذي هو من طبيعة أكثر مادية وأكثر تقنية؛ فبهذا المعنى يستخدم الكندي مارشال ماك لوهان بشكل خاص مفهوم الـ«ميديا» كمجرد امتداد للجسم البشري. هذا من جهة، أما من جهة ثانية فإن الواسطة كموقف تتبنى بصراحة أكثر معنى سوسيولوجياً. وبالفعل إن ما هو واسطة يأخذ صفة المرجع والمرجعية، ويسمح لذاته باقتراح وتجسيد القطع بين قطبين نقيضين سواء على المستوى المكاني أم على المستوى الزمني، آخذاً على عاتقه عندها دور المصلح والجامع. فبذلك تنسب الواسطة لنفسها القدرة، أي قدرة التوسط بين الناس وبين الأمكنة وبين العصور[1]. وهكذا نستخلص من تعاريف الاتصال أعلاه أنه يحتوي على العناصر التالية: أخبار أو معلومات، رموز، قناة، استقبال وتأثير.

(48)

النظام المنهجي لعمل الميديا

تبين لنا في ما سبق أن الاختلاف ما بين الإعلام والاتصال موجود على مستوى الرموز والتأثير، وأهمية الاتصال تكمن في هذا المستوى. فلما كان الأول يعني التأثير، فإن الأخير يمارس من خلال الرموز، وهذا ما يؤكده الباحث الجزائري بلقاسم بن روان بقوله «إن الاتصال عملية ترامز، سواء كانت الرموز، رموزاً لفظية أو غير لفظية، فثمة حقيقة واقعية هي أن عملية الاتصال بكافة أشكاله، وأنماطه، تتوقف على انتقال الرموز وتبادلها بين الناس» [1]

ولا شك في أن استعمال الرموز واستغلالها هو عملية تتطلب دراية واطلاع واسعين بثقافة المتلقي ومحيطه. فالبعض يرى أن الثقافة مع الإعلام هما المكونان الرئيسيان للاتصال[2]، وعليه لا وجود للإعلام بمعزل عن الاتصال، فلا خدمة إعلامية بدون هدف، وعلى قول البعض «الإعلام الصرف أو البريء، بمعنى محتوى بدون تكييف إقناعي، نادر الوجود» [3].

وبالنظر إلى الميديولوجيا كعلم لنقل المعلومة من مصدرها الأصلي إلى الميادين المختلفة في الاجتماع الإنساني تقسيمات منهجية يضعها الباحث في مستويات عدة متضافرة ومتجادلة على النحو التالي:

(49)

1- مستوى التوريق(التصفيح)

أول ما يقوم به المتلقي التفاعلي، في أثناء تعامله مع النص الرقمي، هو توريق صفحات ملف الشاشة،  بقلب صفحة صفحة، أو ورقة ورقة بغية البحث عن المطلوب والهدف.ومن ثم، فعملية التوريق أولى مرحلة يلتجئ إليها مستعمل الحاسوب للتعامل مع النص الإبداعي الرقمي. وبعد ذلك، ينتقل إلى عمليات التصفح والتجوال والإبحار  قصد السباحة في الشبكة العنقودية بكل عوالمها الافتراضية الممكنة. ويكون التوريق بالنقر على مفتاح الصفحة بالفأرة المستخدمة للانتقال من ورقة إلى ورقة أخرى، كأننا نتصفح كتاباً ورقياً مطبوعاً[1].

وثمة مجموعة من العمليات التي يقوم بها المستعمل المتصفح للتعامل مع النص الرقمي منها: التجوال، والتصفح، والتيهان، والتفاعل، والربط ...

- فالتجوال (Broutage/Browsing) هو «الانتقال بين العقد بواسطة الروابط لغاية غير محددة. فالمتجول مثل متصفح الكتاب ليس له قصد محدد من وراء عمله، ينتقل من عقدة إلى أخرى، وقد يتوقف أحياناً عند عقدة ما، ثم سرعان ما يتجه إلى غيرها. نسمي المتجول المتصفح أيضاً، لأنه يكتفي بالتجوال بين الوثائق أو تصفحها» [2].

(50)

- والمتصفح (Fureteur)، هو» القارئ الذي يستحثه الفضول إلى كثرة التجوال في النص المترابط بدون غاية ملموسة، ويترك المجال للصدفة لتجعله يرسي عند عقدة ما. لذلك، يحتاج المتصفح إلى « الخارطة» كي لايكون عرضة للتيهان» [1].

- أما التيهان (Désorientation)، فهو بمعنى أن النص المترابط» بمثابة متاهة لايمكن للمتصفح غير المتعود إلا أن يتيه في مختلف السراديب والجزيرات التي يزخر بها. وعندما لاتكون للمتصفح أو حتى المستعمل قدرة على إعادة إنتاج النص المترابط، والتحرك بين عقده والتحكم في مساراتها، أو خطة محددة للانتقال، فإنه يكون عرضة للضياع والتيهان. يمكن أن يعود السبب في ذلك إلى طبيعة النص المترابط ذاته من جهة، كما يمكن أن يعود إلى المتعامل معه لأنه لايمتلك وجهة محددة، أو لايتذكر الخطوات التي قطعها من جهة ثانية. لذلك، يمكن اعتماد الحافظة للرجوع إلى نقطة انطلاق والمعاودة من جديد»[2] . ويعني هذا أن مستوى التوريق والتصفح أول خطوة إجرائية لقراءة النص الرقمي قراءة استهلالية، ومقاربته مقاربة وسائطية موضوعية.

2- مستوى التشذير(التصنيف والاقتباس)

 يقصد بالتشذير(La fragmentation) توزيع النص الرقمي إلى مقاطع وفقرات ونصوص وروابط وفق آليات سيميوطيقية معينة، كآلية التزمين، وآلية التفضية، وآلية الأسلبة، وآلية التشاكل، وآلية

(51)

لبياض والسواد، وآلية التدليل، وآلية الحضور والغياب... ويمكن تشذير النص الرقمي إلى لوحات أو صفحات أو ورابط أو نصوص أو وسائط معينة، كشذرة النص، وشذرة الصوت، وشذرة الحركة، وشذرة الصورة، وشذرة الرابط...

ويعني هذا أن المقاربة الوسائطية هي مقاربة شذرية بامتياز، تعتمد على عمليتي التفكيك والتركيب، أو عملية التقطيع والمونتاج، وعملية العزل والميكساج، وعملية النقل والإلصاق (Copier coller)...

ويبدو من هذا كله أن النص التفاعلي أو النص الرقمي هو نص مهجن (Hétérogène) بامتياز، تتداخل فيه مجموعة من النصوص والروابط والوسائط والعوالم. فهناك النص الأدبي، والنص الصوتي المسموع، والنص البصري، والنص الموسيقي، والنص المتحرك، والنص المترابط، والنص التفاعلي، والنص الشبكي، والنص الإحالي...ويحتاج هذا كله إلى تشذير جزئي وكلي. علاوة على ذلك، يلاحظ أن ثمة نصوصاً وروابط تسهم في خلق بنية متآلفة (Une construction combinatoire).

3- المستـوى الشكلي والفني والجمالي

 يهتم هذا المستوى بالآليات الفنية والجمالية واللسانية التي تتعلق بالأدب من جهة، والوسيط الرقمي من جهة أخرى. ومن ثم، يكون هدف البحث هو التحقق من توفر الوظيفة الأدبية من ناحية، ومدى تحقق الوظيفة الرقمية من ناحية أخرى.

(52)

ويستند هذا المستوى إلى تجنيس النص وتنميطه، ثم دراسته وفق جنسه الأدبي، كأن يكون قصيدة، أو نصاً، أو قصة قصيرة جداً، أو رواية، أو مسرحية... ويحلل كل نص وفق مكونات الجنس الثابتة، وسماته النوعية التي تحضر وتغيب[1].

4- المستـوى الموضوعاتي

 يرصد هذا المستوى الموضوعات التي يزخر بها النص الرقمي، مع تصنيفها ودراستها ومعالجتها معجمياً ودلالياً وسياقياً وتداولياً. وينبني هذا المستوى على العمليات التالية:

- تحديد العقد النصية والرقمية (مواضيع التصفح)؛

- رصد مختلف الروابط الداخلية والخارجية (العلاقات التفاعلية بين الأنساق الرقمية)؛

- إستجلاء الأكوان الافتراضية (الكون اللغوي، والكون الكتابي، والكون الشبكي، والكون الخيالي، والكون الرقمي...) ؛

 - جرد مختلف الحقول الدلالية الأدبية، والحقول الدلالية الرقمية، والحقول التقنية والوسائطية ...

5 - المستوى الوسائطي

 يبحث هذا المستوى في نوعية السند (Support) أو الوسيط (Médium) الذي يوظفه النص أو الأدب الإبداعي في إطار ما يسمَّى بالوسائط المتعددة (multimédia). و»تستعمل الوسائل

(53)

المتعددة في المجال السمعي البصري والمعلوميات للدلالة على استعمال الأصوات والصور والخطاطات ومقاطع الموسيقى وتوظيفها جميعاً في آن واحد» [1].

ومن هنا، يستعين الأدب الرقمي بمجموعة من الوسائط الأساسية: النص، والصوت، والصورة، والحاسوب. بالإضافة إلى الجمع بين الحرف والرقم، والمزج بين ماهو كتابي وماهو صوتي، أوالتأليف بين الأنساق الموسيقية والغنائية والبصرية والأدبية والرقمية. بمعنى أن هناك تعددية في الوسائط المستخدمة.

6- المستوى التقني

يهتم هذا المستوى بما هو مادي وتقني وآلي. وهنا، نتحدث عن برامج آلية أوتوماتيكية تسهم في توليد النصوص الرقمية وتحريكها. ويعني هذا أن القراءة التقويمية للنص الأدبي لابد من أن تعتمد على المعيار التقني، والمعيار السيميوطيقي، والمعيار التفاعلي. ولابد كذلك من استحضار البعد الجمالي إلى جانب البعد التقني. أضف إلى ذلك ضرورة التثبت من جمالية البعد المادي والتقني للواجهة النصية الرقمية. علاوة على الجمع بين الصورة البلاغية والصورة المادية. وغالباً، ما يعتمد البعد التقني المادي على الوسائط المتعددة المرتبطة بالحاسوب، وهندسة التحكم، وبرمجة الجهاز[2].

(54)

7-  المستوى المرجعي

 يُعنى بدراسة السياق الرقمي الافتراضي بمختلف عوالمه النصية والمرجعية والتداولية والذهنية. ويحيل أيضاً على الفضاء الشبكي الذي يعني «فضاء التواصل الذي يتم عبر الاتصال العالمي المتحقق بين الحواسيب من خلال شبكة الإنترنت. وهذا الفضاء التواصلي يختلف عن مختلف الوسائط الموظفة للتواصل بين الناس. وقد استخدم هذا المفهوم لأول مرة الروائي وليام جيبسون في روايته (Neuromancer) سنة 1985. وانتشر استخدامه للدلالة على فضاء الإنترنت، وكل ما يتجسد من خلاله»[1]. ذلك يعني أن النص الرقمي يتضمن مجموعة من العوالم والمراجع والفضاءات، كالعوالم الافتراضية الممكنة، وعوالم الشبكة، وفضاءات النوافذ، والمراجع الترابطية المختلفة والمتنوعة.

8 - المستوى التفاعلي

 يهتم هذا المستوى بالعلاقات التفاعلية الموجودة بين الكاتب والمتلقي الرقميين، أو بين السارد والقارئ الحاسوبي المفترض. و«يعتبر التفاعل في الإعلاميات ـ حسب سعيد يقطين ـ بمثابة عملية التبادل أو الاستجابة المزدوجة التي تتحقق بين الإمكانات التي يقدمها النظام الإعلامياتي للمستعمل، والعكس. ويمكن التدليل على ذلك من خلال نقر المستعمل على أيقونة مثلاً للانتقال إلى صفحة أخرى، كما أن الحاسوب يمكن أن يطلب من المستعمل

(55)

فعل شيء ما، إذا أخطأ التصرف من خلال ظهور شريط يحمل معلومات على المستعمل الخضوع لها لتحقيق الخدمة الملائمة. وهناك معنى آخر للتفاعل أعم، وهو ما يتمثل في العمليات التي يقوم بها المستعمل وهو ينتقل بين الروابط لتشكيل النص بالطريقة التي تفيده. وهو بذلك يتجاوز القراءة الخطية التي يقوم بها قارئ الكتاب المطبوع. ولقد ظهرت أعمال أدبية ـ، الرواية مثلاً، أو فنية (الألعاب، أو الدراما...) تقوم على الترابط بين مختلف مكوناتها، وهي تنهض على أساس التفاعل أو القراءة التفاعلية»[1].

9- المستـوى اللوغاريتمي 

يبحث هذا المستوى عن علاقة الحرف بالرقم، ويدرس مختلف عمليات الرقمنة الهندسية التي تسهم في إنتاج النص الإبداعي.إنه بمثابة مستوى توليدي إنتاجي بامتياز، يرصد مختلف العمليات والمراحل التي يمر بها النص الأدبي من العمق نحو السطح. وأكثر من هذا يفسر الخطوات الإجرائية التي يخضع لها النص الأدبي الرقمي عبر عمليات الترقيم، والهندسة، والضبط، والبرمجة، والتحكم، والتحسيب، والربط، والتحويل...إلى أن يصبح النص الأدبي نصاً رقمياً، يتكون من مجموعة من الوسائط النصية والبصرية المترابطة .

ومن هنا، يخضع المستوى اللوغاريتمي للتحسيب من جهة، والترقيم من جهة أخرى. فالتحسيب «عملية نقل النص أو الصورة

(56)

أو ما شاكل ذلك من الوثائق من طبيعتها الأصلية التي توجد عليها (نص مطبوع أو مخطوط مثلاً) إلى الحاسوب، والمقصود بذلك عملية ترقيمها». أما عملية الترقيم ، فهي«نقل أي صنف من الوثائق من النمط التناظري إلى النمط الرقمي. وبذلك، يصبح النص والصورة الثابتة أو المتحركة والصوت أو الملف...مشفراً إلى أرقام لأن هذا التحويل هو الذي يسمح للوثيقة، مهما كان نوعها، بأن تصير قابلة للاستقبال والاستعمال بواسطة الأجهزة المعلوماتية». وهكذا، فإن المستوى اللوغاريتمي يعني بالعمليات الرياضية والمنطقية والهندسية التي تتحكم في توليد النصوص الأدبية الرقمية المتشعبة.

10 - المستوى الترابطي 

يهتم هذا المستوى بالعلاقات الترابطية التي تكون بين النص الأدبي ومختلف الوسائط الإعلامية الأخرى حتى يستوي نصاً أدبياً رقمياً أصيلاً. ومن ثم، يرتبط النص الأدبي بوسائط أخرى، في إطار عملية التقطيع (Découpage) أوالتركيب (Montage)، كأن يرتبط، مثلاً، بالصورة، والصوت، والإطار، والموسيقى، واللوحة التشكيلية. ومن هنا، «لا يقف النص المترابط عند حد الربط بين النصوص المكتوبة، ولكنه يمكن أن يتعدى ذلك ليشتمل إلى جانبها على الصورة، والصوت، والحركة... منفردة أو متصلة. وكلما كان إمكان الربط بين هذه المكونات جميعها فإننا نغدو ليس أمام النص المترابط فقط، ولكننا نتعداه إلى الوسائط المترابطة حيث تغدو كل عقدة كيفما كان نوعها مرتبطة بغيرها، تماماً كما نجد في أي نص

(57)

مترابط». ومن هنا، يتميز المستوى الترابطي بعقد صلات ترابطية بين النص وبقية النصوص والنوافذ الرقمية المتشعبة الأخرى»[1].

11- مستــوى التحريك

يهتم  مستوى التحريك (Animation) بتحريك النص الرقمي تحسيباً وترقيماً وتفاعلاً وتشعيباً، ويتم بالانتقال من نافذة إلى أخرى، ومن صفحة إلى أخرى، بطريقة سريعة وديناميكية.

وإذا كان النص الورقي ثابتاً وساكناً وستاتيكياً، فإن النص الرقمي حركي ديناميكي خاضع لمجموعة من الديناميكيات: ديناميكية في التصفح والإبحار والتوريق، وديناميكية في البحث عن المعنى، وديناميكية في الانتقال من فضاء إلى فضاء آخر، وديناميكية التفاعل والترابط والتشعيب والتناسل والتوليد.

12- المستوى التناصِّي

يعد التناص من أهم آليات التفاعل الرقمي. ويتخذ بعداً أدبياً وفنياً وجمالياً من جهة، وبعداً رقمياً وتقنياً من جهة أخرى. ومن ثم، فهو من أهم المفاهيم النقدية التي اهتمت بها الشعرية الغربية وما بعد البنيوية والسيميائيات النصية؛ لما له من فعالية إجرائية في تفكيك النص وتركيبه، والتغلغل في أعماقه ولا شعوره الإبداعي.

وإذا كان التناص مصطلحاً نقدياً تسلح به النقاد العرب الأقدمون تحت تسميات عديدة، مثل: السرقات الشعرية، والتضمين،

(58)

والنحل، والانتحال، والأخذ، والتأثر، فإن النقاد والدارسين الغربيين ابتعدوا عن مفهوم السرقة (Plagiat) القدحي، واستخدموا مصطلح التناص بديلاً منه، واهتموا بالجانب الإيجابي فيه، والذي يتمثل في البحث عن أصول الإبداع، ومكوناته الجنينية، وعلاقات التفاعل والتأثر والتأثير. وإلى ذلك، يتخذ التناص، في الأدب الرقمي، بعداً ترابطياً وتفاعلياً متشعباً يدرس في ضوء الثقافة الرقمية والإلكترونية والحاسوبية[1].

13- المستـوى الوظيفي

يركز المستوى الوظيفي، في دراسته للأدب الرقمي، على الوظيفة الأدبية أو الجمالية (La fonction poétique) من جهة، والوظيفة الرقمية (La fonction numérique) من جهة أخرى.

ونعني بالوظيفة ( (Functionذلك الدور الذي يؤديه عنصر لغوي ما داخل ملفوظ ما، أو داخل نص أو خطاب ما، مثل: الفونيم (الصوت)، والكرافيم (الوحدة الخطية)، والمورفيم (المقطع الصرفي)، والمونيم (الكلمة)، والمركب(العبارة)، والجملة، والصورة البلاغية، أو ذلك الدور الذي يؤديه العنصر السيميائي من رمز، وإشارة، وأيقون، وصورة، ومخطط داخل سياق تواصلي ما ...

وهكذا، فالفاعل النحوي له دور معين داخل الجملة، وله أيضاً وظيفة نحوية. والفعل له وظيفة محددة، والمفعول به له وظيفة كذلك، والحروف والظروف لها وظائف معينة. بمعنى أن كل

(59)

عنصر لغوي له وظيفة ما داخل وضعية تواصلية معينة. وقد تهيمن وظيفة محددة على بقية الوظائف الأخرى داخل جملة أو نص أو ملفوظ ما. وهنا، نتحدث ـ إذاً ـ عن الوظائف الأساسية والوظائف الثانوية»[1].

الحاسوب (Computer) ومكانته في عالم الميديا

لتاريخ كلمة «حاسوب (computer)» دلالاته. فبين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، كانت هذه الكلمة مرادفاً لـ«شخص يُجري العمليات الحسابية»، لأنه ببساطة لم يكن هناك أي شيء آخر في الكون يمكنه إجراء العمليات الحسابية ذاتياً. في العام 1890، على سبيل المثال، أجرت الخدمة المدنية الأميركية اختباراً تنافسياً لشغل منصب «حاسب» اشتمل على أقسام «قواعد الإملاء والتهجئة، وفن الخط والكتابة، والنسخ، وكتابة الخطابات، والجبر، والهندسة، واللوغاريتمات، وعلم حساب المثلثات. في ذلك الوقت كانت فكرة هوبز حول أن «التفكير هو الحساب» لا تزال مسيطرة. لكن بحلول الوقت الذي نشر فيه تورينغ أطروحته الكلاسيكية بعنوان «آلات الحوسبة والذكاء Computing Machinery and Intelligence » كان يتحتم عليه في بعض الحالات أن يحدد أنه يتحدث عن «حاسب إنسان»، فبحلول العام 1950 كان قد علم أن كلمة «حاسب» لم تعد تستخدم فقط للإشارة إلى الشخص الذي يجري العمليات الحسابية. ففي أعقاب تورينغ التي ظهرت في خمسينيات القرن الماضي، فقدت كلمة «حاسب»

(60)

دلالاتها الأنثروبولوجية تماماً، وبالطبع أصبحت مرادفاً للآلة العامة الأغراض، والقابلة للبرمجة، التي تسمى الآن آلة تورينغ Turing machine [1] .

النماذج الحوسبية ـ الرمزية

يعتبر النموذج الحوسبي الذي مكّن العلوم المعرفية من الانطلاق هو النموذج الذي يستند إلى آلة تورينغ. تستطيع مثل هذه الآلة التي يمكنها أن تقرأ رموزاً موجودة في خانات ريط مسجل، وأن تطبق لائحة من التعليمات لإعادة  كتابة هذه الرموز على الشريط، تستطيع أن تحسب كل وظيفة تكرارية. يكفي عندئذٍ أن نفكر في أن كل ما يمكن حسابه فعلاً يكون بمثبة حساب يعالج الوظائف التكرارية، وفي أن كل فكر صارم يجب أن يأخذ صيغة قابلة للحساب، وذلك للقول بأنه ينبغي التمكن من مقارنة كل فكرة فعلية بالنموذج الذي تشكله هذه الصيغة القابلة للحساب.

تتيح لنا الحواسيب، وبخاصة اللغات التقعيدية المعلوماتية، أن نحدد النموذج الخاص بعملية معرفية معينة والمراحل التي يجب أن تقطعها. عندئذٍ نستطيع مقارنة نموذج كهذا بالأداء المعرفي. وفعلاً نملك نماذج عديدة (وهذا ضروري) لأن وظيفة معرفية معينة (وظيفة حسابية مثلاً) تحتوي دائماً على عمليات عديدة لإنجازها، ولأن اللغات المعلوماتية لا تنجز كلها الوظيفة. أنظر مثلاً إيدلمان (Edelman)، وبولتوف (Bulthoff)،  وتار (Tarr) ؛ الذين

(61)

استخدموا مثيرات لاختيار التعرف على الأشياء التي تشبه قطعاً من خيوط حديدة، أو تشبه دود البطاطا أو الأميبات. في البداية كان الأشخاص المختبرون يطلعون على هذه الأشياء، ثم كان عليهم في اختبار ملزم للاختيار، أن يتعرفوا على الشيء الذي لمحوه من قبل. كانت بعض النظرات الجديدة تستطيع أن تتوسط رؤيتين سابقتين (مما يعادل الإقحام)، أو أن تكون خارج هاتين الرؤيتين. ترى النظرية الجيونية أن هذين الشرطين متكافئان (لأن التشكل الجيوني لا يتغير بالنسبة إلى وجهة النظر). ولا تتماشى النتائج الحاصلة مع هذا التنبؤ، لأن الرؤى المقحمة يتم التعرف عليها بانتظام أكثر مما يتم التعرف على الرؤى الخارجية. وفسّر بولتون وايدلمان نتائجهما قائلين: إنها تتناسب مع أنموذج قريب من أنموذج «مرتع الأبالسة» الذي تكلم عنه سيلفريدج 1959،أنظر أيضاً لندسي (Lindsay)، ونورمان (Norman) 1977). قال هؤلاء إن التعرف على الأشياء يتم انطلاقاً من وحدة تشابه بين الشكل المشاهد والأشكال المتعلمة (من دون أن تتعرض لتفكيك جيوني)[1].

مع أن هذه النتائج مربكة، إلا أنها لا تشكل في نظر بييدرمان 1995 مراجعة أساسية للنظرية الجيونية؛ فقال إن المثيرات التي استعملها بولتوف وإيدلمان لا تمكن من الاستخراج السهل للتركيب الجيوني. في الظرف الراهن يصعب البت في الموضوع، ولكن الجدل الناشب بين مختلف الباحثين (بييدرمان ضد تار وبولتوف وإيدلمان) هو على جانب من الشدة، ولا يمكننا من أمل التوصل الى تطورات مفاجئة في المستقبل القريب.

(62)

في الوضع الراهن للمسألة، تيح النظريات المجزأة إلى عناصر (ومنها النظرية الجيونية) أن تشرح بأناقة عدداً كبيراً من الظواهر، بشرط أن تبقى مقتصرة على معرفة الأشياء  بمستواها القاعدي. لم نعد نستبعد أن تنجم اختلافات النتائج (والتفسير بالتالي) عن اختلاف في الوظيفة (التصنيف الذي استعمله بييدرمان في الاختبارات الشائعة، وهو التصنيف الذي يتعارض مع تحديد الأشياء حسبما رآها كل من تار بولتوف وإيدلمان)[1].

بعد العمل الرائد الذي قام به تورينغ، مارست علوم الحاسب وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات ذات الصلة على فهمنا تأثيراً مُنفتحاً (انبساطياً) وانطوائياً (منغلقاً) معاً. فهي قدمت إلى وقائعنا المادية والاصطناعية رؤى علمية غير مسبوقة، وكذلك قدمت قوى هندسية للتحكم فيها. كما أنها سلطت ضوءاً جديداً على من نكون نحن، وكيف نرتبط بالعالم وببعضنا ببعض، ومن ثم كيف نتصور أنفسنا. ومثلما فعلت الثورات الثلاث السابقة، أزالت الثورة الرابعة اعتقاداً خاطئاً بشأن تفردنا، وقدمت أيضاً الوسيلة المفاهيمية لمراجعة فهمنا لذاتنا. إننا نتقبل بروية فكرة ما بعد تورينغ في أننا لسنا عناصر نيوتونية، ومستقلة، وفريدة من نوعها، أو ما يشبه روبنسون كروزو* (Robinson Crusoe) على جزيرته. نحن بالأحرى كائنات حية معلوماتية إنفورغز (inforgs)، متصلة بعضها ببعض، وجزءٌ لا يتجزأ من بيئة معلوماتية (الإنفوسفير) نتشاركها مع عناصر وسيطة (وكلاء) معلوماتية أخرى، طبيعية واصطناعية، هي

(63)

أيضاً تعالج المعلومات بصورة منطقية وبشكل مستقل. سوف نرى في الفصل السادس أن مثل هذه العناصر الوسيطة (الوكلاء) ليست ذكية مثلنا، ولكنها تستطيع بسهولة أن تفوقنا براعة في عدد متزايد من المهام[1].

 

الإنفورغات (Inforgs)

يذكر الباحث الإيطالي في علم الاتصال  لوتشيانو فلوريدي أن من المحتمل أن نكون الجيل الأخير الذي يشهد فرقاً واضحاً بين بيئة متصلة بشبكة حاسوبية (online) وأخرى غير متصلة (offline). فبعض الناس يقضون بالفعل معظم أوقاتهم في حياة دائمة الاتصال بشبكة حاسوبية أونلايف (onlife)، وبعض المجتمعات تعيش بالفعل بأسلوب التأريخ المُفرط. إذا كان بيتك هو حيث توجد البيانات الخاصة بك، فمن المحتمل أنك تعيش بالفعل في غوغل إيرث (Google Earth) وفي السحابة cloud. فالعديد من العناصر الوسيطة (الوكلاء) الاصطناعية والهجين (مزيج من الاصطناعي والبشري؛ تتفاعل مع البيئات الرقمية كعناصر وسيطة (وكلاء) رقمية. ولأن هذه العناصر الوسيطة (الوكلاء) لها طبيعة البيئة نفسها، فبوسعها أن تعمل داخلها بكثير من الحرية والسيطرة.

يضيف: «إننا، وعلى نحو متزايد، نُفوِّض أو نعهد إلى عناصر وسيطة (وكلاء) اصطناعية بذاكراتنا وقراراتنا والمهام الروتينية التي

(64)

نقوم بها، وغير ذلك من الأنشطة بأساليب من شأنها أن تصبح تدريجياً متكاملة معنا. كل هذا معروف جيداً وذو صلة بفهم الإزاحة الناجمة عن الثورة الرابعة، فما يتعلق بما نحن لا نكونه.

على رغم ذلك، فليس هذا ما يشير إليه الباحث فلوريدي عند التحدث عن الإنفورغات (inforgs)، الذي تدعونا الثورة الرابعة لنظن أننا ربما نكونه. وفي الواقع فإنه يحذر بأن هناك على الأقل ثلاث حالات أخرى مرجحة للاعتقادات الخاطئة[1]:

أولاً، الثورة الرابعة معنية، بشكل سلبي، بـ«تفردنا» المفقود أخيراً (نحن لم نعد في مركز الإنفوسفير)، وبشكل إيجابي، هي معنية بأسلوبنا الجديد لفهم أنفسنا باعتبارنا إنفورغات. ينبغي عدم الخلط بين الثورة الرابعة والرؤية الخاصة بالبشرية «السايبورغية»*. هذا خيال علمي. أن تتجول وقد انغرس في أذنك شيء ما مثل سماعة الرأس اللاسلكية التي تعمل بتكنولوجيا بلوتوث لا يبدو أنه أفضل طريقة للمضي قدماً، لأسباب ليس أقلها أنها تتعارض مع الرسالة الاجتماعية التي هي أيضاً معنية بتوجيهها: إن كونك رهن الاستدعاء 24 ساعة في اليوم سبعة أيام في الأسبوع هو شكل من أشكال العبودية، وأي شخص مشغول ومهم للغاية ينبغي أن يكون لديه مساعده الشخصي بدلاً من ذلك. يمكن تطبيق منطق مماثل على الأجهزة الأخرى التي يمكن ارتداؤها، بما في ذلك نظارات غول Google Glass. الحقيقة بالأحرى هي أن الناس لن يقبلوا بأن يكونوا نوعاً من سابورغ cyborg، ولكن على العكس، هذا ما سوف يحاولون

(65)

تجنبه، إلا إذا كان لا مفر منه. تأمل المحاولات الجارية للتخلص من شاشات العرض لمصلحة عرض الصورة على الجسد، إلى درجة أنه يمكنك طلب رقم هاتف باستخدام لوحة مفاتيح افتراضية تظهر على راحة يدك. هذا سيناريو واقعي، لكنه ليس ما أعنيه عندما أشير إلى تطور الإنفورغات. تخيل في المقابل تجربتك الحالية لطلب رقم بمجرد أن تنطقه لأن هاتفك «يفهمك». أنت وهاتفك الآن تتشاركان البيئة نفسها باعتباركما اثنين من العناصر المعلوماتية.

ثانياً، عند تفسير أنفسنا على أننا كائنات حية معلوماتية، فأنا لا أشير إلى ظاهرة «الإستعانة بمصادر عقلية خارجية mental outsourcing» الواسعة الانتشار، والتكامل مع تكنولوجياتنا اليومية. نحن بالطبع نعتمد بشكل متزايد على مجموعة متنوعة من الأجهزة لأداء مهام حياتنا اليومية، وهذا شيء مثير للاهتمام. على رغم ذلك، فالنظرة التي وفقنا إليها ربما تُدرج الأجهزة، والأدوات، والمعاونات أو الركائز البيئية الأخرى كأجزاء ملائمة من «عقولنا الموسعة extended minds» قد عفا عليها الزمن. إنها لا تزال قائمة على عنصر ديكارتي مستقل بذاته ومسؤول تماماً عن البيئة الإدراكية التي يحكمها ويستخدمها من خلال بديلات ذهنية تعويضية، من الورقة والقلم الرصاص إلى الهاتف الذكي، من المُفكرات اليومية إلى الحاسب اللوحي، من عقدة في منديل إلى جهاز الحاسب[1].

(66)

تكنولوجيات التحسين والازدياد وإعادة الهندسة

النقطة الأهم الذي ينبغي التوقف عندها في هذا المضمار أن الثورة الرابعة أو ثورة الميديا، قد أخرجت إلى النور الطبيعة المعلوماتية المتأصلة في هوية الإنسان. وهذا أمر يشعرنا بالتواضع، فنحن نتقاسم هذا الطابع مع بعض من الأدوات الأذكى التي صنعناها بأيدينا. أياً يكن الشيء الذي يُعرفنا على أننا متفردون، فهو لم يعن أننا أفضل من بعض تكنولوجيات المعلومات والاتصالات في لعب الشطرنج، أو التدقيق الإملائي لمستند أو ترجمته إلى لغة أخرى، أو حساب المدار لقمر اصطناعي، أو إيقاف سيارة في محل الانتظار، أو الهبوط بطائرة. لا يمكنك الفوز على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حتى في لعبة عشوائية مثل لعبة «طوبة ورقة مقص»، لأن الروبوت سريع جداً ويستطيع في واحد من الألف من الثانية أن يتعرف على الشكل الذي تصنعه بيدك، ويختار حركة الفوز، ويكمل ذلك آنياً تقريباً. ولو لم يكن لديك ما يكفي من المعرفة، لظننت أنه يقرأ أفكارك[1].

الثورة الرابعة تنويرية أيضاً، لأنها تمكننا من فهم أنفسنا بشكل أفضل على أننا كائنات حية معلوماتية من نوع خاص. هذا لا يعني أن لدى الواحد منا أنا بديلة رقمية متحولة، أو أننا زمرة من السادة هايد* الذين تمثلهم علامات @، أو المدونات، او التغريدات، أو https**. هذه النقطة البديهية لا تُشجعنا إلا على أن نخطئ تكنولوجيات المعلومات والاتصالات لنحسبها مجرد تكنولوجيات

(67)

للتحسين، مع بقائنا في مركز الإنفوسفير. ينبغي أيضاً عدم الخلط بين طبيعتنا المعلوماتية والظل البياناتي data shdow، الذي هو بطريقة أخرى مصطلح مفيد لتوصيف ملف تعريف رقمي digital profile يتولد من البيانات المتعلقة بعادات المستخدم على الإنترنت. إن التغيير أعمق، ولكي نفهمه، يتعين أن نتأمل التمييز بين تكنولوجيات التحسين enhancing وتكنولوجيات الازدياد augmenting.

إن مقابض أو مفاتيح التبديل أو الأقراص ذات التدريج التي تُستخدم لتحسين تكنولوجيات مثل الفؤوس والبنادق وآلات الحفر، هي واجهات بينية تهدف إلى وصل الجهاز في جسم المُستدِم بطريقة إرغونومية ***مريحة. هذا أقرب إلى فكرة السايبورغ. في المقابل، فإن لوحات البيانات ولوحات التحكم المستخدمة في تكنولوجيات الازدياد هي واجهات بين بيئات مختلفة. على أحد جانبي الواجهة، هناك البيئة الخارجية للإنسان مستخدم التكنولوجيا؛ وعلى الجانب الآخر، هناك البيئة الخاصة بالتكنولوجيا. بعض الأمثلة هي بيئة آلة غسل الصحون الديناميكية والمائية والصابونية والساخنة والمظلمة؛ أو ما يُماثلها من بيئة مائية وصابونية وساخنة وظُلمة لكنها أيضاً بيئة دوارة في آلة غسل الملابس؛ أو بيئة البراد التي تكون ثابتة ومعقمة وغير صابونية وباردة ومن المحتمل أن تكون مضيئة. هذه التكنولوجيات يمكن أن تكون ناجحة لأن لها بيئات «ملفوفة (مغلفة)» ومضبوطة تماماً حول قدراتها. هذه هي ظاهرة «تغليف العالم «enveloping the world التي سوف أحللها في الفصل السابع. الآن، على الرغم من بعض المظاهر السطحية، فإن

(68)

تكنولوجيات المعلومات والاتصالات ليست مجرد تكنولوجيات تحسين أو تكنولوجيات ازدياد بالمعنى الذي شُرح منذ قليل. إنها قوى تُغيِّر جوهر عالمنا لأنها تستحدث وتُعيد هندسة الواقع بأسره الذي يمكن بعد ذلك أن يسكنه المُستخدِم، وتكون واجهاتها البينية الرقمية بمنزلة بوابات (عادة ما تكون مألوفة وسهلة الاستخدام). دعني أضرب لك مثالاً:

بالنظر إلى تاريخ فأرة الكمبيوتر mouse، يكتشف المرء أن تكنولوجياتنا ليست فقط تتكيف معنا كمُستَخدمين، ولكنها أيضاً تعلمنا كمُستَخدِمين. أخبرني دوغلاس إنغلبرت (1925-2013)Douglas Engelbart ، مخترع الفأرة، ذات مرة، أنه قد قام بتجربة لوضع الفأرة أسفل المكتب بحيث يقوم المُستخدِم بتشغيلها مستخدماً ركبته، وذلك بهدف أن تبقى يداه حرتين. على أي حال، نحن قادمون من ماضٍ حيث كانت الآلات الكاتبة تُستخدَم بنجاح أكثر بالاعتماد على كلتا اليدين. لحسن الحظ، لم تسلك قصة الفأرة الطريق ذاتها التي سلكتها لوحة المفاتيح كويرتي Qwerty، التي لم تتغلق على القيود الإولى التي فرضتها الآلات الكاتبة القديمة. ونحن نتوقع اليوم أن نتمكن من لمس الشاشة مباشرة. إن التفاعل بين الإنسان والحاسب هو علاقة متماثلة[1].

بالعودة إلى التمييز المبدئي، فإن الواجهة البينية لآلة غسل الصحون هي لوحة تدخل الآلة من خلالها إلى بيئة المُستخدِم، في حين أن الواجهة البينية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي

(69)

بوابة يدخل المُستخدِم من خلالها إلى منطقة من الإنفوسفير ويمكنه الوجود بها. هذه الخاصية الأساسية لإيجاد وفتح فضاءات جديدة هي أساس العديد من الاستعارات المكانية مثل «الفضاء الإلكتروني أو السيراني cyberspace»، و»الواقع الافتراضي virtual reality»، و«وجودك متصل بالإنرتت being online»، و«ركمجة الويب surfing the Web»، و«بوابة gatway»، وغير ذلك[1].

بطبيعة الحال، لا يكتفي الباحثون في علم الإعلام الجديد بحصر مفهوم الميديا بما شاع عنه من تعريفات خلال الفترة الممتدة بين تسعينيات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. والسبب هو أن مصطلح الميديا له ارتباط عضوي مع الإعلام الكلاسيكي، وهذا ما ستتعرض له في الفصل التالي.

(70)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

بين الميديا

والإعلام الكلاسيكي

 

(71)

المبحث الأول: تاريخ الإعلام

تعددت التفسيرات التي تحاول التمييز لغوياً بين مصطلحَي «الإعلام» والـ«ميديا». غير أن مدلولات مصطلح الإعلام مختلفة ويجب وضعها في سياقاتها الإصطلاحية واللغوية والتاريخية المناسبة. وإذا كان الاستخدام العربي لمصطلح الإعلام يحيل على معنى الإبلاغ والإخبار والإرسال والمعرفة، فإن مصطلح ميديا،«Media» بسبب اشتقاقه من كلمة (Medium)، يحيل كما لاحظنا على معاني الوساطة والوصل والوسط (Milieu). وبهذا المعنى يبدو مصطلح «ميديا» أكثر دلالة على الإيفاء بثراء ظواهره الجديدة[1].

يعد علم الإعلام والاتصال بمثابة البناء الإجمالي لعالم «الميديا». وهو الأساس التي تفرعت منه بقية الظواهر الإعلامية في ظل العولمة، وعليه، كانت البداية في عام 1974، حين استحدث مجموعة من الباحثين والأكاديميين الجامعيين اختصاصاً علمياً أطلقوا عليه اسم «علوم الإعلام والاتصال»، انطلاقاً من نموذج «شانون» التناسبي، الحديث آنذاك، وعلم التوجيه الآلي، ولكن بسبب غياب القاعدة الفكرية المشتركة وتعدد النظريات أصبح هذا العلم الجديد علماً مشترك الاختصاصات، حيث يستدعي التفاعل والتبادل بين الباحثين في حقول عديدة[2]. كانت البداية لهذا العلم

(72)

تقوم على أساس (الإتصال ـ إرسال)، غير أنها واجهت معارضة من الباحثين الأميركيين، حيث اقترحوا نموذج (الإتصال ـ مشاركة) الذي يستند إلى نموذج الجوقة. وهذا النموذج لم يكن شاملاً بل صنَّفوه كعلم نفس ـ اجتماعي حديث، ثم قامت مدرسة فرانكفورت الجديدة باستبداله بنموذج (الاتصال - سياقاً). فوضعت شروط نجاح الخطاب وفعاليته بالنقاط التالية: الرضوخ؛ الصدق؛ الصحة؛ الحقيقة؛ استناداً إلى نظرية «هابرماس» الكونية[1]. فضلاً عن هذه الاتجاهات الثلاثة هناك محاولات لباحثين في مجالات علمية قريبة يؤسس بناؤها على أساس النموذج الاقتصادي التقليدي ممثلاً بالانتاج والتوزيع والاستهلاك، واعتبر هذا الاتجاه أن العولمة هو طريق الخلاص من المفهوم التناسبي للاتصال الذي يحصره في علاقة ثنائية: مرسل ـ متلقٍ[2]. وبالنتيجة يرى البعض أن علوم الاعلام والاتصال ظهرت «لأن مجتمع الاتصال يحتاج إلى علم يدرس عمليات الإعلام أو الاتصال الناجمة عن أعمال منظمة، هادفة، مرتكزة إلى التقنيات، ومشاركة في أشكال التواصل الاجتماعية والثقافية»[3]. ليس هناك من تعريف واحد لعلوم الإعلام والاتصال، بل هناك محاولات متعددة في هذا

(73)

المجال[1]، ويصنف البعض بحوث الإعلام والاتصال إلى ثلاثة اتجاهات أساسية:

الأول: يقع بين العلوم العصبية والعلوم المعرفية، ويعالج الاتصال في علاقته بالدماغ: إدراك، حركة، تفكيك الصورة واللغة؛

أما الثاني: فيقع بين العلوم المعرفية والعلوم الطبيعية، ويرتكز إلى مشاكل الاتصال بين الانسان والآلات؛

أما الثالث: فيرتكز إلى علوم الإنسان والمجتمع، ويعالج الاتصال بين الأفراد والجماعات، وكذلك تأثير تقنيات الاتصال في مسار المجتمع[2]. وعليه تستخدم هنا الاختصاصات التالية: الفلسفة، الحقوق، الاقتصاد، علم السياسة، تاريخ الآليات، الجغرافية، علم النفس، علم النفس الألسني، علم الإنسان...أي أن علوم الاتصال بطبيعتها مشتركو الاختصاصات[3].

  تثير العلاقة بين الإعلام والاتصال إشكاليات متعددة تتجه نحو التقارب والتوافق، وفي هذا الصدد يصف  R. Escarpit العلاقة العضوية بين الإعلام والاتصال بأنها «كل عملية اتصالية تحتوي

(74)

على إنتاج ونقل ومعالجة المعلومة، أي الإنتاج الأصلي للفكر البشري الفرداني، مهما كانت طبيعة هذا الانتاج (علمي، تقني، فني، حدثي...)» [1]. كما يؤكد العديد من الباحثين وعلى رأسهم  P. Levyعلى الارتباط الوثيق والقديم بين الإعلام والاتصال، وأن التغييرات المستحدثة في وسائل تقنيات الاتصال قد أدت إلى تحولات محسوسة في محتوى وشكل المعلومات المنتجة ثم الموزعة، والتغيرات الحديثة ما هي إلا انتقال من عصر تقني إلى آخر. وتأخذ التغيرات السياسية والثقافية والتي تتدخل في علم الإعلام أهمية كبرى، فضلاً عن الرهانات الاستراتيجية كالطابع الصناعي المتزايد للإعلام والثقافة، والتوجه المركزي لدى جماعات الاتصال، أو انتشار شبكات الاتصال في عملها العنكبوتي في العالم، وعليه فإن الاتصال لا يتعارض مع الإعلام بل هو امتداد له، ومفهومي الإعلام والاتصال متشابكان، وكل نقد موجه لأحدهما ينعكس على الآخر.

إلى هذا، تؤكد الدّراسات العلميّة النقديّة المعاصرة أنّ الإعلام المرئيّ والمسموع والمطبوع قد اكتسب أهمية هائلة منذ ثلاثينيات القرن العشرين، ويكتسب المزيد منها بسبب تزايد سهولة وسائل الاتصال والمواصلات، والثورة التكنولوجية، وتزايد نسبة الوعي بأهمية متابعة الأحداث.. ولعل السبب المنطقي في ذلك يعود إلى أن وسائل الإعلام التي يدعم بعضها بعضًا ولا يلغي بعضها بعضًا أصبحت أكثر أهمية من مؤسسات التعليم بحكم انتشارها الهائل

(75)

وتأثيرها الكبير، كما أنّ وسائل الإعلام لم تعد وظيفتها الإعلام فقط وإنّما أصبحت من أهم وسائل التّثقيف والتّرفيه وصياغة الذّوق العام والتّوجّه النّفسيّ العام[1].

وفي كلتا الحالتين لا بد من أن للميديا آثارها السلبية والإيجابية على الصغار والكبار والمجتمعات سواء كانت عربية أم غربية، ذلك أن من الصعب جداً على المجتمع الواعي المثقف أن تؤثر فيه الميديا أو أن تدخل عليه عامل خارجي يؤثر على حياته العلمية والعملية؛ لأنه سيكون متمسكاً بحبل مرجعياته وهويته الفكرية الأصيلة، وبالتالي لن يقبل الفكرة الجديدة المطروحة ما لم تكن متوافقة لقيمهِ وملائمة لاحتياجاته. إن ذلك المجتمع قادر على التمييز والتفرقة بين ما هو ناجع وضروري وبين ما هو متعارض مع قيمهِ، وليس ضرورة أو أولوية إن لم يره يمس بثقافته ولا يشكل خطراً على أصالته[2].

 

الإعلام في الحضارات القديمة

يرى المؤرخون أن بدايات وظائف الإعلام  جاءت على شكل تبليغ المنشورات والأوامر والرسائل الشفوية التي كان يصدرها شيخ القبيلة أو الحاكم أو السلطان، كما كانت إحدى وسائل الحرب في ذلك الوقت. وقد عرفت المجتمعات البدائية الإعلام بأساليبه البسيطة الأولى، وكان الإنسان يمارس الإعلام بطرق فطرية لم يبذل

(76)

فيها مجهوداً كبيراً كالنقش على الأحجار والأشجار والمناداة في المآذن، أو في الطرقات من أعالي الجبال والتلال وعلى ظهور الدواب. وقد ظلت بعض وسائل وأساليب الإعلام القديم تستخدم في العصر الحديث بنجاح كبير وخصوصاً الخطابة كما هو الحال في خطب ومنابر الكنيسة والمسجد. ومازلت الخطابة تستخدم لغاية الآن، وكذلك الملصقات التي كان الحكام يلجأون إليها ويوجهون فيها البيانات السرية السياسية.

وعلى ضوء ماتقدم ذكره فإن وظائف الإعلام في الحضارات القديمة انحصرت في الوظائف التالية[1]:

- الحضارة الفرعونية: كان الملوك والحكام بمثابة الآلهة، لذلك فإن وظائف الإعلام الفرعوني انحصرت في تضخيم إنجازات الحكام والترويج لحكمهم وخصوصاَ الانجازات الحضارية التي حققوها كتشييد الأهرامات والمعابد الضخمة، وتوثيق انتصاراتهم.

- حضارة بلاد مابين النهرين: كشف علماء الآثار العراقيون وجود نشرات إعلامية ترجع إلى 1800 سنة قبل الميلاد ترشد المزارعين إلى كيفية بذر المحاصيل الزراعية وريّها وعلاجها من الآفات، وهذا نمط من أنماط الإعلام وهو الإعلام الزراعي.

- الحضارة اليونانية: بدأ اليونانيون القدماء (الإغريق) في خلق الأفكار الإعلامية والسياسية معاً عن طريق الخطابة والمناقشة الفكرية والمساجلات ويسجل التاريخ أن الاسكندر المقدوني آمن

(77)

بأهمية الإعلام والنشر عن طريق التاثير بالجماهير فكان يصحب في ترحاله عدداً من الشعراء والخطباء والمفكرين والكتاب والأدباء، ولاننسى نظرية أفلاطون في الاتصال فهو أول من قدم نظرية للاتصال عرفها الإنسان في حقل النظرية الاتصالية والإعلامية لاحقاً.

- العصر الروماني: برزت وظائف الإعلام في العصر الروماني من خلال رسائل المبشّرين المسيحيين الأوائل، ولكن نشاط المراسلين وأتباعه في الخروج إلى البلاد. ومما لاشك فيه أن الإعلام الذي كان سائداً هو الإعلام الديني الذي كان يعتبر وسيلة هامة من وسائل إرساء السلام وتجنب الحروب.

- الحضارة العربية الإسلامية: عرفت الجزيرة العربية الإعلام بشكل بارز وواضح، فالأمة العربية هي أمة اللغة والبلاغة والشعر، وقد اشتهرت بالمناظرات الشعرية وخصوصاً سوق عكاظ الذي يعتبر منبراً ومهرجاناً إعلامياً للشعر حيث كانت القبائل العربية ترسل مندوبيها الإعلاميين للمشاركة في فعالياته، والقصائد التي تفوز بهذا المؤتمر كانت تعلق على جدارن الكعبة، فأصبحت ظاهرة إعلامية متميزة عرفت بالمعلقات السبع أو العشر. ومنذ أن جاء الإسلام تحول الإعلام في الجزيرة العربية من إعلام الخطابة والشعر إلى إعلام ديني بحت. ولقد كان القرآن الكريم الوسيلة العظيمة للإعلام الديني حيث أن الوظيفة التي كلف بها الرسول الأعظم قبل أن تكون وظيفة دينية هي وظيفة إعلامية تبليغية بالدرجة الأولى، أي وظيفة نشر الحقائق عن الدين الجديد من خلال تطبيق سياسية إعلامية محافظة.

(78)

- في العصور الوسطى: عرفت شعوب العصور الوسطى في أوروبا الإعلام الديني فقط إلى أن ظهر المذهب البروتستانتي حيث وجدت الكنيسة الكثاوليكية نفسها مضطرة إلى شن إعلام مضاد ضد الكنيسة البروتستانتية واعتبرتها خارجة عن حدود الدين. وهذا الخطاب الإعلامي يمكن وصفه بأنه خطاب دعائي وليس خطاباً إعلامياً. فقد تم تكليف رجال الدين من كرادلة وقساوسة بأمر من البابا غريغوري الثالث عشر للقيام بمهام رجال الإعلام في مواجهة خطاب الكنيسة البروتستانتية  وإعادة الثقة إلى الكنيسة الكاثوليكية.

- في العصر الحديث: منذ اختراع الطباعة على يد غوتنبرغ عام1450 انتقل الإعلام نقلة نوعية ساهمت في زيادة الوعي والتنوير في أوروبا، حيث مهدت الطريق لبروز الثورتين الصناعية والتكنولوجية، وأصبح للإعلام  دور متميز في المجتمعات الغربية من خلال انتشار الكتاب والصحافة حتى وصل إلى جميع أنحاء العالم، وأصبحت له نظرياته وفلسفته الخاصة به، وبات علماً مستقلاً له مناهجه وكيانه كبقية العلوم الإنسانية والطبيعية، بل يمكننا القول أن الإعلام في العصر الحديث أصبح ملزماً بأن يواكب أي مشروع تنويري أو أي مشروع تنوي الدول والحكومات القيام به لإقناع الجماهير، إلى أن  احتل في أيامنا هذه المرتبة الأولى في جميع المؤسسات والهيئات كمصدر أول من مصادر الحصول على المعرفة والمعلوماتية[1].

(79)
المبحث الثاني:

الإعلام في اللغة والإصطلاح والوظيفة

يقع الإعلام في اللسان العربي ضمن مادة علم، والعلم: نقيض الجهل، وعَلِم علماً. وأذنه الأمر، وأذنه به: أعلمه. ويقال: قد أذنته بكذا وكذا، أوْذِنُه إيذاناً وإذْناً إذا أعلمته، وأذَّنْت: أكثرت الإعلام بالشيء[1]. والأذان هو الإعلام. وأذنتك بشيء: أعلَمْتُك بأمره. وأذَنتُه: أعلمتُه. ويقال: إستعلم خبر فلان، واستعلمني الخبر فأعلمته إياه، وعلم الأمر وتعلمه: تيقَّنه. وإذا نظرنا إلى المعنى اللغوي في الدعوة إلى أمرٍ ما،  وجدنا فيه معنى النداء للمشاركة في هذا الأمر. وأنه يفيد المحاولات القولية والفعلية من أجل تحقيق هدف أو عمل، وكذلك إذا نظرنا إلى المعنى اللغوي للإعلام وجدنا فيه المعنى نفسه مما يدل على أن الدعوة هي الإعلام، والإعلام هو الدعوة، ولا فرق بينهما من حيث اللغة في جانبها التبليغي. ولعلنا لا نتجاوز الإطار العلمي حيث نذهب إلى أن المفهوم العربي لكلمة (بلاغة) يقترب من المفهوم الحديث لعملية الاتصال، فالبلاغة تشير إلى الوصول والانتهاء. لهذا يقال  بلغ فلان مراده إذا وصل، وبلغ الرَّكبُ المدينة إذا انتهى إليها، وبلغه هو إبلاغاً، وبلغه تبليغاً، وتبلغ الشيء: تكلَّف البلوغَ إليه حتى وَصَلَهُ. والبلاغ: ما يُتبلغ ويُتوصل به إلى الشيء المطلوب.

(80)

ومن الدلالة العربية للبلاغة يتبين ما نقصده من اقترابها من الدلالة الحديثة للاتصال من حيث هو (عملية يتم فيها تبادل المفاهيم بين الأفراد وذلك باستخدام نظام الرموز المتعارف عليها . ومن هنا يتبين لنا أن اللفظ العربي للإعلام يحمل في تضاعيفه عدة معانٍ، متقاربة تارة ومتباعدة تارة أخرى، فهو بمفهومه المعاصر يعني الاستعلام عن الحوادث والأخبار، ويعني الخبر والرواية، كما يشير إلى الدعاية والتوجيه والإرشاد[1].

تكثر التعريفات المتعلقة بالإعلام سواء على مستوى الأصل اللغوي أو على المستوى الإصطلاحي. ولذا ليس هناك من تعريف محدد لمفهوم «الإعلام» لاتساع مفهومه وتداخله في كثير من مجالات النشاط الإنساني وأنواع العلاقات البشرية وعليه: يصعب حصر لفظة «الإعلام» ضمن تعريف واحد ولكن معناه اللغوي يقرّب إلينا تعريفه الاصطلاحي كذلك ذيوعه وتطوره وتقدمه في أيامنا وتدريسه في المعاهد والجامعات والمؤسسات الإعلامية، ووفرة الكتب الإعلامية[2].

ومن المفيد في هذا المجال أن نسوق جملة من التعريفات الإصطلاحية على الشكل التالي:

أولاً: الإعلام فن استقصاء الأنباء الآنية ومعالجتها ونشرها على أوسع الجماهير بالسرعة التي تتيحها وسائل الإعلام الحديثة».

(81)

ثانياً: يقصد بالإعلام، تلك العملية التي يترتب عليها نشر الأخبار والمعلومات الدقيقة التي ترتكز على الصدق والصراحة، ومخاطبة عقول الجماهير وعواطفهم السامية، والارتقاء بمستوى الرأي، ويقوم الإعلام على التنوير والتثقيف، مستخدماً أسلوب الشرح والتفسير والجدل المنطقي.

 ثالثاً: تزويد الناس بالأخبار الصحيحة، والمعلومات الدقيقة، والحقائق الثابتة والتي تساعدهم على تكوين رأي صائب في واقعة أو مشكلة، يعبِّر تعبيراً موضوعياً عن عقلية الجماهير واتجاهاتهم وميلهم.

رابعاً: تزويد الجماهير بأكبر قدر ممكن من المعلومات الموضوعية الصحيحة والواضحة.

خامساً: هو العلم الذي يدرس اتصال الإنسان بأبناء جنسه اتصال وعي وإدراك وما يترتب على عملية الاتصال هذه من أثر ورد فعل، وما يرتبط بهذا الاتصال من ظروف زمانية ومكانية وكمية ونوعية وما شابه ذلك. فالإعلام هو العلم الذي يدرس الظاهرة الاجتماعية المتمثلة في اتصال الجماهير بعضها ببعض والتي لا يمكن أن تعيش بدونها أي جماعة إنسانية أو منظمة اجتماعية بشرط أن تكون دراسة تلك الظاهرة دراسة منظمة تعتمد على المنهج التجريبي وتقوم على تكوين الفروض والملاحظة وإجراء التجارب والقياس.

سادساً: الإعلام هو التعبير الموضوعي عن عقلية الجماهير وروحها وميولها واتجاهاتها في نفسه الوقت...إنه المجال الواسع

(82)

لتبادل الوقائع والآراء بين البشر، ويشمل كافة طرق التعبير التي تصلح للتفاهم المتبادل...فوظيفة الإعلام الإبلاغ والشرح والتفسير والتثقيف والامتاع والإعلان.. فالإعلام ليس تعبيراً ذاتياً من رجل الإعلام لأنه يعتمد على الحقائق والأرقام والإحصائيات[1].

إذا كان الإشتقاق اللغوي لكلمة إعلام من العلم، بمعنى استعلمه الخبر فأعلمه إياه، أي صار يعرف الخبر، فذلك يعني أن الغاية من الإعلام هو الإخبار عن حدث ينبغي إيصاله إلى المتلقي. ووفقاً للمنجد الموسوعي لعلوم الإعلام والاتصال، فإن العملية الإخبارية تعني تسجيل إشارة محدّدة اجتماعياً في نظام صوري (شكلي) قابلة لأن تكون موضوع نشر أو تبادل في مجال الاتصال. وهنا يجب تمييز مفهوم الإعلام عن المعطيات والمعلومات والمعرفة[2]. والإعلام ـ بحسب المنجد المشار إليه ـ تقابله كلمة Information باللغة الفرنسية، وتعني إيتيمولوجيا وفقاً لبعض الباحثين الفرنسيين، أي «ذلك النشاط الهادف إلى إعطاء شكل، وفي المفهوم العام، تعني إما النشاط المتعلق بتقديم أخبار أو بالإخبار نفسها»[3]. أما في «منجد وسائل الإعلام» (Dictionnaire des Médias) فيعرّف الإعلام بأنه «المعلومة أو مجموعة المعلومات المتعلقة بشخص أو بشيء، والصالحة لأن تُبلّغ إلى شخص أو مجموعة أشخاص،

(83)

مجتمعين في مكان واحد أو متفرقين ومن دون علاقات بين بعضهم البعض. والكلمة تعني أيضاً هذه المؤسسة الفريدة، بتقنياتها ومحترفيها وأنظمتها، التي ولدت مع الجرائد اليومية في القرن التاسع عشر، على موجة الثورة الصناعية، والحريات السياسية والشخصية»[1]. بينما يعرف روبير إسكاربيت Robert Escarbit الإعلام بأنه «ما ينقل ويستقبل ويزيد في المعلومات»[2].

 

صفات الإعلام وأفعاله

ذهب عدد من الباحثين في علم اجتماع التواصل إلى وجود نوعين من الإعلام: إعلام تقليدي وإعلام جديد وأن الحدود بين هذين النوعين متداخلة إلى الدرجة التي توحدهما ضمن فضاء واحد. وهكذا فإن ثمة تكاملاً بينهما يمكن أن نجده في ثلاثة جوانب:

الأول: التكاملية الوظيفية (Functional Complementarity)

هذه الخصيصة ربما كانت الأهم، والمقصود بها أن كلاَّ من الإعلاميين اشتغل على وظيفة معينة تكمل الوظيفة التي يقوم بها الإعلام الآخر. فالإعلام الجديد وتعبيره الأهم وسائل التواصل الاجتماعي، يعتمد على الهواتف النقالة المحملة بالكاميرات

(84)

الشخصية ويسجل الأحداث على الأرض مباشرة سواء للآخرين أم لمحطات تلفزيونية أو لمواقع ألكترونية.

الثاني: يتعلق بالحراك والتعبئة (Mobil: Zation and mobility)

ويعكس مرونة الحركة والقدرة الفائقة على النشر والاستدعاء وسوى ذلك. وهنا يتحرك الإعلام الاجتماعي الموجود في جيب كل فرد من الأفراد أو بين الناشطين الاجتماعيين والسياسيين.

الثالث: يتعلق بالشمولية (Inclusivity)

والمقصود هنا أن الإعلام الاجتماعي قد تمكن من القيام بتغطية إعلامية شاملة لكل الأحداث التي تقع في ميادين الحروب والاضطرابات السياسية والأمنية.[1]

        

 مبادئ تأسيسية  للإعلام

وعلى الرغم من أن الإعلام الجديد أو ما يعرف بـ«الميديا» يتميّز بالقدرة على تجاوز الرقابة، وسهولة امتلاكه من أوسع الشرائح والطبقات الاجتماعية، فإنه يبقى يدور ضمن القواعد التأسيسية لنشأته. وهي المتعارف عليها في علم الإعلام وتقوم على ما يلي:

ـ الحقائق التي تدعمها الأرقام والإحصاءات.

(85)

ـ التجرد من الذاتية والتحلّي بالموضوعية في عرض الحقائق.

ـ الصدق والأمانة في جمع البيانات من مصادرها الأصلية.

ـ لتعبير الصادق عن الجمهور الذي يتوجه إليه الإعلام.

أما وظائف الإعلام، فتقوم على الأركان التالية:

- التوجيه وتكوين المواقف والاتجاهات.

- زيادة الثقافة والمعلومات.

- تنمية العلاقات البيتية وزيادة التعارف الاجتماعي.

- الإعلان والدعاية والترفيه وتوفير سبل التسلية وقضاء أوقاع الفراغ.

- فهم روح العلاقات العامة. 

وهكذا، فإن المدلول اللغوي والاصطلاحي لكلمة الإعلام يفضي إلى كونه «التعبير العملي عن المعرفة والإطلاع والإحاطة لما يهم الإنسان في كل زاوية من زوايا محيطه، وفي كل مرفق من مرافق حياته، وفي كل ركن من أركان طموحه وهمومه وحاجاته، وإن القوى التي تمارس عملية التكوين هي جميع الوسائل والأجهزة والواجهات والفعاليات البشرية والفنية والمادية الإعلامية التي ترتكز عليها عملية التكوين. واستناداً إلى هذا المدلول يكون الإعلام «دينامية تهدف إلى توعية وتثقيف وتعليم وإقناع مختلف فئات الجماهير التي تستقبل مواده المختلفة وتتابع برامجه وفقراته... بل إن الإعلام يعتبر أحد العمليات الاجتماعية التي تؤثر في المجتمع المعاصر من

(86)

خلال وسائله المختلفة، وقد ساعد على ذلك سهولة انتقال مواده المختلفة وبخاصة المرسلة من وسائل الاتصال الجماهيري التي تدخل كل بيت تقريباً، ويستقبلها أغلبية أفراد المجتمع، ويتأثرون بها أي أنماط الإعلام المختلفة وقنواته الحديثة»[1].

ويرى الباحثون في علم الإعلام، أن تطور طرائق التواصل عبر الخبر والرواية مرّ بعدة مراحل: فهناك عصر الإتصال بالإشارات الذي ما لبث أن تطور إلى رموز، ثم ظهر الإتصال الذاتي والذي يتواصل من خلاله الإنسان مع نفسه، ثم ليتطور إلى الاتصال الشخصي الذي يكون بين اثنين أو أكثر، وهو من أكثر الاتصالات تأثيراً وتغييراً في السلوك والاعتقاد، وكانت بداية وضعه في عهد الإغريق الذين برعوا في الاتصال المباشر الجماعي عبر الخطابة والمسرح، حتى ظهر الاتصال الجماهيري، الذي أحدث نقلة نوعية وكانت بدايته في ألمانيا على يد مخترع المطبعة غوتنبرغ. وفي عصر الحداثة وبداية الثورة الصناعية، ظهرت اختراعات في عالم الاتصال كالراديو والتلفزيون لتطلق ثورة عارمة توّجت في أواخر القرن العشرين بالأقمار الصناعية والقنوات الفضائية، ثم لينطلق طور جديد من أجهزة الإتصال الإلكتروني في ما عرف بعالم الميديا المعاصر[2].

 بناء على ما تقدم، يمكن لنا تقسيم مفهوم الإعلام بقديمه

(87)

وجديده إلى قسمين يوضحان التطورات والمفهومية التي مرَّت بها التجارب التاريخية للإعلام.

أولاً: مفهوم الاتصال (Communication)

للاتصال عددٌ من المعاني. ربما يكون أقدمها تحويل (الأشياء مادية) ، الذي هو معنى يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر. وفي حين أصبح هذا المعنى نادراً، توسع في القرن السابع عشر إلى فكرة الأشمل عن (الوصول أو وسيلة الوصول بين شخصين أو مكانين؛ أي فعل المرور أو القدرة على المرور من مكان إلى آخر). أو عن (خط ربط، أو ممر واصل، أو انفتاح). وهنا نستطيع أن نرى العلاقة الطويلة والوثيقة للاتصال بما نسميه في الوقت الحاضر بالنقل.

وفي القرن الخامس عشر، اتسعت كلمة (اتصال) لتشمل الوقائع والمعلومات التي كانت تُنقَل، أي ما نسميه اليوم بمحتوى الاتصال. ويرجع تاريخ أشهر معنى حديث لكلمة (اتصال) ، وهو الذي يشير إلى فعالية الإرسال أو نقل الرسائل التي تنطوي على معلومات أو أفكار أو معارف، إلى أواخر القرن السابع عشر. ومنذ بواكير القرن الخامس عشر، كان معنى ثانياً للكلمة لا يركز كثيراً على نقل الرسائل أو محتواها، بل على فعالية الحوار والتفاعل، كما في فكرة المحادثة أو الاتصال بين الأشخاص (أو حتى الجماع الجنسي في القرن الثامن عشر).

ومع بواكير القرن السابع عشر، اكتسب الاتصال معنى آخر أكثر دلالة على المشاركة. هنا صار يشير إلى مشاركة عامة أو خاصية

(88)

مشتركة أو قرابة، كما في القداس المسيحي (Communion). وهذا معنى حاضر بقوة في الاستعمال الإنكليزي الأميركي المعاصر، حيث يفتتح المتكلمون تعليقاتهم بالقول إنهم يرغبون في أن (يشتركوا بشيء) مع جمهور مستمعيهم. وهناك معنى آخر يركز على فكرة الاتصال بوصفها، ضمناً، عملية (تشارك مع كثيرين) في مجموعة معينة من الأفكار أو التجارب. ويكمن قسمٌ من جذور هذا المعنى في الفكرة الدينية عن (القداس) كعملية مشاركة. هنا أيضاً نبدأ برؤية بعض الروابط بين أفكار الاتصال وأفكار الجماعة (Community).

هناك معنى مهم آخر للكلمة يركز على الوسط التقني الذي يُجرى من خلاله الاتصال. فإما أن يشير هذا الاستعمال إلى وسائل الاتصال الرمزي (اللغة، العلامات، الصور، والتقنيات التي غالباً ما يتم نقلها عبرها)، أو على وسائل الاتصال المادي (الطرق، القنوات، سكك الحديد، الباخرات، الطائرات). والتغيرات التاريخية في علاقة أنماط الاتصال الرمزي بأنماط النقل المادي هي قضية جوهرية هنا. ولعل أحسن ترميز للحظة التي تميزت بها الاتصالات الرمزية عن أنماط النقل يكمن في قدرة البرق على إرسال رسائل كهربائية مباشرة عبر مسافات بعيدة. يؤشر هذا التطور نقلة تاريخية حاسمة في دور هذين المعنيين المتميزين لـ(الاتصال) ووظيفتيهما. ويتوازى مع معنى النقل التاريخي هذا من الناحية التاريخية كلٌّ من النقاشات التي أحاطت بظهور وسائل الإعلام في أواخر القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين، والنقاشات المعاصرة عن أهمية (الوسيلة

(89)

الجديدة) للعصر الرقمي / الحاسوبي، التي يُعتقد أنها الآن تحوّل الاتصال البشري بطرق أساسية[1].

الجدير بالذكر أن دراسة الاتصال في أواخر القرن العشرين قد تمحورت إلى حد كبير حول معنى ضيّق للمصطلح، يركز على العوامل التي تحدد نقل المعلومات الفعال من مرسِل إلى متلقٍّ. كانت نماذج الاتصال الجماهيري معنية بأفضل الطرق لتحقيق نقل لا يعوقه عائق للرسائل بين المرسل والمتلقي. وقد حصر هذا التناول تعريف الاتصال بالنقل الغرضي لوحدات المعلومات الصريحة، وحدد تصوّر العملية ضمن أطر أكثر آلية. وفي ميدان الاتصال بين الأشخاص، أدرك كثير من المشتغلين في ميدان علم النفس الاجتماعي حدود هذا النموذج، ودعوا إلى تبني تعريف أوسع، يمكن أن يشمل أيضاً الصور غير المقصودة من الاتصال (بما فيها العوامل التي صار يُطلق عليها لغة الجسد). وقد قام انتقادهم على مقدمة ترى أنه واقعياً من المستحيل (من حيث المبدأ) ألا يتم الاتصال، سواء أرغب الشخص شعورياً أم لم يرغب في القيام بذلك (إذ حينئذٍ سيكون الحد الأدنى من الاتصال أنهم سيشعرون بأنهم غير توصيليين)[2].

في الميدان الأوسع للاتصالات والدراسات الثقافية، تعرَّض هذا النموذج العرفي أيضاً لانتقاد مهم، وقد تطوّر بتأثير السيميائية،

(90)

مع تركيزها على (الشفرات) اللغوية والثقافية التي تكمن وراء جميع أفعال الاتصال، ومبدأها الهادي في ذلك أنه لا يمكن أن توجد (رسالة من دون شفرة). ومن هذه الناحية، كان نموذج الاتصال في التشفير / فكّ التشفير ذا تأثير خاص. وهذا النموذج، الذي طوّره ستيوارت هول (Hall، 1981)، أثّر أيضاً في صرف الانتباه إلى ما يتعدى مجرد مستوى دلالة المطابقة ،أو (الظاهر) في المعلومات التي يراد نقلها في رسالة ما، نحو مستويات المعنى الإيحائي (الضمني، أو الاقتراني، أو (الكامن) التي تُحمَّل في العادة على (ظهر) ما يبدو وحدات بسيطة من المعلومات الصريحة التي يمكن أن تنقلها الرسالة. واستند هذا التناول إلى النموذج البنيوي في علم اللغة بدعواه أن نطاقاً أوسع من الشفرات الثقافية ( في الصورة الفنية، والملبس، والأزياء، والأسلوب) يمكن أيضاً أن يُدرس دراسة مفيدة استناداً إلى نموذج اللغة.

كانت النماذج السابقة تميل إلى معاملة (الاتصال الناجح) بوصفه حالة شؤون اعتيادية، ولم تُعْنَ إلا بأحوال (سوء الفهم) كانقطاعات استثنائية في دفق الاتصالات، كانت بحاجة إلى أن (تُسوّى وتزال). على أن المنظور السيميائي شجّع التساؤل عن هذا الافتراض بخصوص شفافية الاتصالات (الاعتيادية). وبحكم وجود تقسيمات اجتماعية وثقافية في أغلب المجتمعات، فمن غير المرجح أن يشترك مرسلو الرسائل ومتلقوها اشتراكاً تاماً بالشفرات الاتصالية، وقد عامل هذا التناول الجديد التأويل المتنوع للرسائل باعتباره (اعتيادياً) وقضية مفتاح لبحث ينبغي الانكباب عليه معاً[1].

(91)

هنا حصلت قضية السلطة في ميادين الاتصال والثقافة أيضاً على تركيز بوضوح بالغ. كان التركيز على هذه القضية يتم سابقاً بصرف الانتباه من أنماط الاتصال بين الأشخاص (الثنائي أو الحواري) إلى الصور الجماهيرية لنقل الرسائل الأحادي، ومن جماعات النخبة التي كانت تسيطر على وسائل الإعلام إلى جمهور المتلقين الواسع. وكانت القضية المفتاحية هنا هي السلطة التي تتلاعب بخطابات وسائل الإعلام الجماهيرية (مثل الدعاية السياسية أو الإعلان التجاري) لتشكيل الرأي العام. وهكذا تم تعريف الاتصالات الجماهيرية بأنها دراسة لقضية من يقول ماذا، وفي أي قناة، ولمن، وبأي نتيجة. ومن الواضح أن هذا التناول يشكّله منظور تقويميٌّ يمتلك حواراً ثنائياً بوصفه الصورة المساواتية لما يسمِّيه يورغن هابرماس (Habermas، 1970) بـ(الموقف الكلامي المثالي)، ويعنى في المقابل بالمدى الذي تنحرف به صور الاتصال الجماهيرية عن هذا المعيار. والجلي أن الصور المعاصرة من الوسائل التفاعلية، التي يُعتقد أن من شأنها إعادة تفويض السلطة إلى الجمهور، ومن ثم استعادة نمط أكثر ديمقراطية من الحوار بين مرسلي الرسائل ومتلقيها، هي أمر مهم هنا. تهتم القضية موضوع الرهان إذاً بالمدى الذي يمكن فيه، على سبيل المثال، للبرامج التلفزيونية التي تشجع مشاهديها على الاتصال والتصويت في تطورات تآمرية ضمنية، أن تشكل صوراً أصيلة من الحوار الديمقراطي، أم مجرد تظاهر به.

غير أن هذا التركيز على سؤال من يمتلك السلطة في نقل المعلومات، وإلى أي حد يسمح النظام بالتغذية على نحو

(92)

مناسب، ليس سوى بُعْدٍ واحد من أبعاد قضية الاتصال. وفي علاقة معنى المشاركة في (الاتصال) ، من الضروري أن نلاحظ الترابط بين مصطلحي الاتصال (Communication) والجماعة (Community) [أو في العربية الاتصال والصلة]، والدور الذي يؤديه الأول في تشكيل الثانية. تكمن النقطة الجوهرية هنا في أن نعرف أن الجماعة ليست كياناً يوجد ثم يحصل له أن يتواصل. بل إن الجماعات تُفهَم فهماً أفضل بوصفها تكوَّنت في ومن خلال نماذجها المتغيرة في الاتصال. والحقيقة أن العائلة النووية غالباً ما تبقى مشدودة الأواصر عبر خطوط الهاتف، في الوقت الحاضر، حين صارت التقنيات الحديثة توفّر صوراً رخيصة ومباشرة من الاتصال على مسافات بعيدة، ولم تعد الجماعة تقوم بالضرورة على أساس المجاورة الجغرافية. ويؤكد هذا التناول أيضاً فكرة رومان جاكوبسن (Jakobson، 1972) عن أهمية البعد التجاملي للاتصال في (ترك القنوات مفتوحة) وربط الناس معاً، أكثر مجرد نقل المعلومات. والأكثر جوهرية أن تبنّي هذا المنظور يعني أيضاً أن نَهَبَ الاتصالات دوراً أولياً ـ وتأسيسياً ـ في الشؤون الاجتماعية، بدلاً من النظر إليها كمجرد ظاهرة ثانوية أو جانبية.

من منظور آخر، ادعى كثيرون بأن صناعات الاتصالات نفسها تزداد مركزية في حقبتنا ما بعد الحديثة أو الحديثة المتأخرة. وبقدر ما تُعتبَر السمة المميزة لهذه الحقبة هي طيّ الزمان والمكان،  و(التعالي) بالجغرافيا الذي أتاحته تقنيات الاتصالات الجديدة، فإن هذه الصناعات مركزية لهذا التحوّل. وهي أيضاً تزداد مركزية بالنسبة

(93)

إلى اقتصادات مجتمعات العالم المتقدمة  التي صارت تستند في الأساس إلى إنتاج المعرفة والمعلومات ونقلها، أكثر من تصنيع السلع المادية. وليس عبثاً أن تصير مهارات الاتصال الآن مؤهلاً مطلوباً مهماً للعمل في هذه المجتمعات، وأن يكون غياب الصور ذات الصلة بالمهارات اللغوية والكتابية والحاسوبية كافياً لأن ترسل هذه المجتمعات كثيرين من أكثر أعضائها فقراً إلى موقع إقصاء اجتماعي[1].

وفقاً لرأي الخبراء، أن المعنى القديم لكلمة الاتصال هو الوصل والبلوغ، أما معناه العصري فهو مأخوذ من الانكليزية أو الفرنسية، وهما يستخدمان لفظاً واحداً للدلالة عليه، وهي (communication) ولهذه المفردة في اللغات الأجنبية معانٍ متعدّدة منها: «المواصلات» و«البلوغ» و«الاتصال»[2]. وعليه فكلمة «اتصال» تعني النشر، ونقل معلومة أو خبر من مرسل إلى متلقٍّ بواسطة قناة او وسيلة. ويعرف الباحثون الفرنسيون الاتصال بأنه «تبادل أو إرسال معلومات / أخبار بهدف تغيير سلوك الآخر»[3]. وهكذا، فإن الحديث عن الاتصال يعني القدرة على الاجابة عن الاسئلة الخمسة المشهورة لـ«لاسوال» وهي «من يقول؟ ماذا؟ لمن؟ كيف؟ وبأيّ أثر؟».

ويؤكد الباحث الفرنسي فيليب سويت، ان لا وجود للاتصال إذا لم يكن ثمة هدف يؤدي الى إدخال طرف ثالث، وهو (المستفيد)

(94)

الذي يضاف الى الطرفين التقليديين أي المرسل والمستقبل. المستفيد قد يكون المرسل او المستقبل او طرف ثالث، والمثال على ذلك الرسالة الاشهارية في الجرائد، حيث المرسل هو المحرر، والمستقبل هو القارئ، اما المستفيد فهو الشركة التي يتحقق الاقبال على منتجاتها بفضل هذا الإشهار. ومن جانب آخر يركز المنجد الموسوعي لعلوم الاعلام والاتصال في تعريفه للاتصال على ثلاثة عناصر أساسية[1]هي:

النشاط الذي يهدف الى اقامة علاقة مع شخص أو اشراك شخص أو مجموعة أشخاص في شيء ما، ونتيجة هذه العلاقة.

هو الشيء الذي نبلّغه (إعلان، وبرقية، ورسالة، وخبر، ونبأ، ومعلومة...).

وسيلة تقنية يتصل بواسطتها الاشخاص في ما بينهم.

اما أبراهام مولس Abraham Moles فيعرف الاتصال بانه: «النشاط الهادف الى اشراك جهاز او تنظيم موجود في نقطة معيّنة (ن) في محفز وتجارب محيط شخص آخر أو نظام موجود في مكان آخر وفي زمن آخر (ز)، باستعمال عناصر المعرفة المشتركة بينهما». فعندما نقوم بالاتصال ـ كما يبيِّن مولس - فإنما نحاول ان ننجز (رسالة مشتركة) مع شخص أو جماعة، أي أننا نحاول ان «نشترك سوية في معلومات أو أفكار أو مواقف محددة» وتحتاج

(95)

عملية الاتصال الى «المصدر والرسالة والهدف (أو جهة الوصول)، والمصدر: يمكن ان يكون شخصاً (يتحدث أو يكتب أويرسم او يومئ) وهيئة اتصال (مثل الصحيفة أو دار النشر أو محطة تلفاز أو استديو السينما...)، أما الرسالة فيمكن ان تكون على شكل حبر على الورق... أو موجات صوتية في الهواء... أو نبضات في تيار كهربائي، كما يمكن ان تكون تلويحاً باليد أو علماً يرفرف في الهواء، أو أي إشارة أخرى يمكن تفسيرها وذات دلالة ومعنى..، أما الهدف فيمكن أن يكون شخصاً ينصت او يشاهد أويقرأ...، ويمكن أن يكون عضواً في جماعة مثل جماعة مناقشة أو شخصاً من بين المستمعين لمحاضرة أو فردا في حشد يشاهد كرة القدم أو قارئاً في صحيفة او مشاهداً للتلفاز. وغير ذلك من مستقبلي الرسالة الاتصالية[1].

وبهذه المقاربة، فإن الإتصال يدل على بث رسائل واقعية كالمعلومات والأخبار التى تنشرها وسائل الإعلام عن الأحداث المختلفة أو بث رسائل خيالية، كالقصص والروايات والأغانى على مجموعات كبيرة من الناس على اختلاف مستوياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وعلى اختلاف أماكن تواجد هذه المجموعات، أي أن الاتصال بالجماهير يتميّز ببث الكلمة او الصورة من مصادرها المحددة جداً الى عدد كبير جداً من الناس، وتعتبر عملية الاتصال عملية ديناميكية متصلة الحلقات.

(96)

ومن عناصر عملية الاتصال:

ـ الموقف الإتصالي العام.

ـ الهدف الذي تسعى عملية الاتصال لتحقيقه.

ـ رجع الصدى من المستقبل الى المرسل لأن المستقبل مفسِّر وليس جهاز تسجيل.

ـ الإطار الدلالي، اي الخبرة المشتركة بين المرسل والمستقبل، أي معرفة موضوع الاتصال كسياسة او اقتصاد أو علم، فضلاً عن لغة الاتصال ذاتها.

وبسبب الترابط الاصطلاحي العميق بين الإعلام والإتصال، وتداخلهما على صعيد الممارسة، تبرز حقيقة أن الاتصال ينطوي على دلالة سوسيولوجية لجهة تناوله أي ظرف يتوافر فيه مشاركة عدد من الأفراد في أمر معين، أي تحقيق تآلف حول قضية معينة سواءً بواسطة الرموز أم أي وسيلة أخرى يسميها موريس شيوعاً Communisation.

لهذا تستخدم كلمة اتصال لتشير إلى التفاعل بواسطة العلامات والرموز التي قد تكون حركات أو صور أو لغة أو أي شيء آخر تعمل كنبه للسلوك.. فالاتصال نوع من التفاعل بواسطة الرموز (جورج لندبرغ) [1].

من هنا، سنرى كيف أن مفهوم الاتصال يتضمن بمعناه الواسع

(97)

كل الإجراءات التي يمكن بمقتضاها أن يؤثر عقل بشري على عقل آخر أو جهاز على جهاز آخر (يمكن لآلة أوتوماتيكية ترصد تحركات طائرة وتحسب مواقعها المحتملة أن تطلق صاروخاً موجهاً ليطارد هذه الطائرة (نوبرت وينر).

إذن، الاتصال هو العملية التي يتفاعل بمقتضاها متلقي ومرسل الرسالة (كائنات حية أو بشر أو آلات) في مضامين اجتماعية معينة، وفي هذا التفاعل، يتم نقل أفكار ومعلومات (منبهات) بين الأفراد عن قضية معينة أو معنى مجرد أو واقع معيّن، فالاتصال يقوم على مشاركة المعلومات والصور الذهنية والآراء.

وهو إلى ذلك كله، يحتاج إلى دراسة وتدريب وخبرة واستخدام الوسائل الحديثة لتكون الرسالة الإعلامية ناجحة ومفيدة، وهكذا يتم عمل المرسل الجيد من خلال رسائل متقنة مرسلة بفعالية إلى المستقبل، وبالتدريب المستمر والخبرة العملية ومتابعة ردود فعل الآخرين نقيس مدى نجاح المادة الإعلامية المرسلة الهادفة إلى إحداث تغيير ما من خلال تأثير ملموس. وبهذا المعنى وذاك، فالاتصال عملية أساسية في المجتمعات كافة بدائية كانت أم حديثة العهد، إنها عملية تبادل المعلومات والرغبات والمشاعر والمعرفة والتجارب إما شفهياً أو باستعمال الرموز والكلمات والصور والإحصائيات، بقصد الإقناع أو التأثير على السلوك[1].

(98)

ثانياً: الإعلام التفاعلي Interactiv media

شهد العالم منذ منتصف القرن العشرين قفزات تكنولوجية هائلة من أهمها نظم الاتصالات، فظهر  مجتمع المعلومات Information Society  نتيجة التزاوج بين تكنولوجيا الاتصالات الفضائية ذات القدرة الفائقة على تجاوز حدود الزمان والمكان، وتكنولوجيا الحاسبات الإلكترونية القادرة على تخزين البيانات بكثرة وسهولة في الاسترجاع وفي ثوان قليلة. وساعد ذلك على ظهور شبكة المعلومات عن طريق وسائل الاتصال الفورية على الأرض، أو من خلال الفضاء، فأضافت هذه الشبكات بعداً مهماً على قدرة الإنسان على توسيع معارفه وتخزينها وترتيبها وإنتاج المعلومات وبثها والتعامل معها في الحال.

والإنترنت ليست وسيلة اتصال منفردة من وسائل الاتصال، بل هي أكبر شبكات المعلومات في العالم وأكثرها تشعباً وانتشاراً، وتقوم على أحدث تكنولوجيا الاتصال في بث المعلومات إلى ملايين المشتركين.

*التفاعل في اللغة

جاء في معاجم اللغة العربية أن التفاعل من الأصل اللغوي، فعل الشيء فعلاً وفعالاً أي عمله، وافتعل الشيء أي اختلقه، وانفعل كذا تأثر به، انبساطاً أو انقباضاً فهو منفع. ويقال تفاعلا أي أثر كل منهما في الآخر. والتفاعل عملية كيماوية يتم من خلالها تحويل بعض المعادن النفيسة إلى الخسيسة، أي أن

(99)

عملية التفاعل الكيميائي أن تؤثر مادة في مادة أخرى فتغير تركيبها الكيميائي.

ويرى الباحثون أن التفاعل يعني المرسل والمتلقي، ومن أهم خصائصه الاستجابة، أي أن الاتصال التفاعلي يتعدى حدود الاتصال الإنساني إلى الاتصال والتفاعل مع الوسيلة ذاتها وليس بين الفرد وأطراف العملية الاتصالية .

هناك ثلاث خدمات رئيسية يقدمها الانترنت للمستخدمين كما يلي: 

1- الاتصال من فرد إلى فرد، أو من فرد إلى جماعة، أو من جماعة إلى جماعة أخرى، وأكثر لأغراض شخصية أو عامة .

2- التفاعل: أي استخدام الانترنت للتسلية أو التعلم لأغراض اجتماعية وثقافية وسياسية.

3- الإعلام والمعلومات: إستخدام الإنترنت لنشر واسترجاع المعلومات التي تعطي مساحات واسعة من الأنشطة الإنسانية والمعرفية .

 أنـــواع الإعــلام التفاعلــي:

زادت ثورة الأقمار الصناعية في سياق تطور تكنولوجيا الاتصال والقنوات المتخصصة  من التفاعل مع الجماهير عبر ثلاثة تطورات، هي:

أولاً: التلفزيون الكابلي :Cable Tv

نشأ لتحسين الخدمة التلفزيونية في الولايات المتحدة عام

(100)

1946، ثم انتشر في الدول المتقدمة، وتعثر تطبيقه في الدول الأخرى ومنها الدول النامية التي هي أقل تكلفة وخدمة عالية الجودة.

ثانياً: القمر الصناعي المباشر:

Direct Broadcasting Satellite (DBS)

ساهم في نقل البيانات والمعلومات داخل وخارج الحدود في سرعة وبحد أدنى من التشويش وتغطي مسافات شاسعة.

ثالثاً: التلفزيون الرقمي:  Digital Television

يمثل التلفزيون الرقمي ثورة في عالم البث التلفزيوني بما يملك من إمكانيات. ويوفر البث الرقمي نوعية صورة عالية الدقة والوضوح، ويضمن صوتاً أنقى وسعراً أرخص. وقد تم استخدامه أوائل عام 1993، وفي ضوء ذلك ظهرت القنوات المتخصصة للبرامج والجمهور.

رابعاً: الأقمار الصناعية

تعتبر الأقمار الصناعية مكوناً أساسياً في استراتيجية الإعلام الجديد. ويذهب الخبراء إلى أن الميديا ما كانت لتكتسب مزاياها كثورة في عالم الاتصالات لولا الأقمار الصناعية التي تتولى إرسال المعلومات باتجاه القارات الخمس.

وتتوزع أدوار الأقمار الإصطناعية في الميادين التالية:

- ميدان الاتصالات التي تستخدم فى نقل المعلومات.

- ميدان البث الفضائي التي تستخدم فى بث القنوات التلفزيونية والإذاعية.

(101)

- ميدان الأرصاد التي تقوم بجمع المعلومات عن الغلاف الجوي وتنبؤات الجو.

- الميدان العسكري والأمني.

- الميدان العلمي حيث تستخدم فى الأغراض العلمية المختلفة.

من المعروف أن الأقمار الصناعية عرفت تجاربها الأولى عام 1957، حيث تم إطلاق القمر الروسي (Sputnik) الذي افتتح به عصر الاتصالات الفضائية للأرض. بعد ذلك بعام أطلق القمر الصناعي الأميركي (Score).  لكن التاريخ الذي لا ينسى هو عام 1962 حيث تم إطلاق القمر الصناعي (Tele star 1) الذي استخدم فى نقل البث التلفزيوني بين أميركا وأوروبا. بعد ذلك تم إطلاق العديد من الأقمار ذات الأغراض المختلفة.

كانت الأقمار الصناعية سابقاً تطلق قوة قدرها 10 وات والآن تطلق قوة قدرها 150 وات.. ومن المعروف أنه كلما زادت القوة الكهربية التى يطلقها القمر أمكن استقبال إرساله بأطباق ذات قطر أصغر.

والأقمار الصناعية المستخدمة فى البث الإذاعي والتلفزيوني يتم وضعها فى المدار الجغرافي  للأرض حتى يأخذ سرعة الأرض حيث أنه إذا تم وضعها على ارتفاع أقل فإنها تدور حول الأرض بسرعة أعلى من سرعة دوران الأرض، وإذا تم وضعها على ارتفاع أعلى فإن سرعتها ستكون أدنى. وتدور الأقمار حول الأرض فوق

(102)

خط الاستواء مباشرة على ارتفاع 36 ألف كيلومتر، وهو مايسمى بالمدار الجغرافي للأرض Orbit) (Geostationary وهذا يعني أن القمر الصناعي سيدور بسرعة الأرض ويكون دائماً فى الموقع نفسه طالما هو على الارتفاع ذاته. فالعلامة والرقم المكتوب إلى جوار اسمه يدل على موقعه بالنسبة إلى موقع الصفر الجنوبي، فمثلاً القمر استرا 19.2 شرقاً يعني أنه يقع بالضبط عند الدرجة 19.2 شرق الصفر الجنوبي، والقمر نايل سات 7 درجة غرباً يعني أنه يقع عند الدرجة 7 إلى الغرب من الصفر الجنوبي . 

أما إذا كان هناك أكثر من قمر في الموقع نفسه فإنه يسمى موقع مشترك للأقمار (coo positioning)، كما هو الحال في أقمار استرا 19.2 درجة شرقاً، وأيضاً أقمار هوت بيد 13 درجة شرقاً. ومن المعروف أن الأقمار تقع فى مكعب وهمي طول ضلعه 100كيلومتر لكل قمر.

وقد تطورت تكنولوجيا الاتصالات الفضائية في مجال الميديا حيث تتكون من وحدتين رئيسيتين: وحدة الخدمة ووحدة الاتصال.

- الوحدة الأولى تحتوي على أجزاء تخدم عمل تحكم الأقمار الصناعية وأجهزة القياس وأجهزة إمدادها بالطاقة الكهربية اللازمة لعمله.. ووحدة الاتصال تحتوي على الحواملTransponder ، وهي أجهزة تقوم بإرسال واستقبال الإشارات من وإلى الأرض.. في التقنية التماثلية كان يستخدم حامل لكل قناة أما في التقنية الرقمية فيمكن إرسال حتى عشر قنوات مختلفة على الحامل

(103)

نفسه.. والحامل يمثل بالذبذبة أو بالتردد. والأقمار التي تستخدم في البث الإذاعي والتلفزيوني تحتوي أيضاً على مجموعة من الأطباق يستخدم جزء منها فى استقبال القنوات من الأرض، وجزء آخر يستخدم فى إعادة إرسال هذه القنوات إلى الأرض، وجزء ثالث يستقبل أوامر التحكم  بالقمر الصناعي من المحطة الأرضية. ويتم إرسال الإشارة إلى المحطة التي تقوم بتوزيعها على الأقمار الصناعية، ثم يتم تحويلها إلى ذبذبات قوتها 14 جيغا هرتز، وإرسالها إلى القمر الصناعي.

هذه الإشارة التي يستقبلها القمر تذهب إلى وحدة التحكم داخل الحوامل حيث عن طريق (أوسيليتور) مقوى الذبذبات يتم تقويتها إلى ذبذبات فى نطاق بين 10.700- 12.750 جيجا هرتز.. بعد ذلك تذهب هذه الذبذبات إلى الأطباق التي تقوم بإرسالها مرة أخرى إلى الأرض حيث يتم استقبالها بأطباق أخرى عن طريق المستخدمين. والأقمار الصناعية لا تستخدم فقط في البث الإذاعي والتلفزيوني الترفيهي ولكن فى إرسال الأخبار والأحداث المهمة الأخرى بين الدول. ومن المهم معرفة معلومات عن مناطق تغطية الأقمار الصناعية وقوتها حيث تتناسب تناسباً عكسياً مع قطر الأطباق اللازمة لاستقبال إرسال تلك الأقمار.. فكلما كانت قوة إرسال القمر الصناعي ضعيفة كان الطبق اللازم لاستقبال إشارته كبير الحجم، والعكس صحيح.

(104)

خامساً: الهاتف الذكي ومميزاته

المقصود بالهواتف الذكية هي الأجهزة النقَّالة التي كُرست للمحادثة الفورية والسريعة وبين الأمكنة المتباعدة. ومع تطور التقنيات الحديثة، أضيفت إلى الهواتف النقالة وظائف جديدة كانت موجودة على أجهزة أخرى كالتصوير الذي كان يتم بالكاميرا، والتعامل مع البريد الإلكتروني الذي كان يتم عن طريق الكمبيوتر، والألعاب الإلكترونية التي كانت تتم عن طريق أجهزة الألعاب، وغيرها العديد من الوظائف. ولتتمكن من القيام بكل هذه الوظائف احتاجت إلى مواصفات عالية من معالجات وكاميرات بدقة عالية وذاكرة عشوائية تستطيع استيعاب كل هذه التطبيقات.

لقد مكَّنت الهواتف الذكية من التقريب بين الناس وتلبية احتياجاتهم جميعها، حيث استطاع الأشخاص الذي يحملونها التحادث والتعارف عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي، كما استطاعوا معرفة المعلومات التي يحتاجونها عن طريق استخدام تطبيقات معينة كالطقس والأخبار والحجوزات ومشاهدة مقاطع الفيديو والتقاط الصور ومعالجتها، واستخدام الخرائط وتحديد المواقع بدقة وسرعة رائعتين.

بالإضافة إلى هذه الأدوار التي تتولاها الهواتف الذكية، هنالك مميزات أخرى يمكن إدراجها بما يلي:

1- نظام التشغيل: يحتوي الهاتف الذكي على نظام تشغيل قادر على استغلال مميزات الهاتف التقنية إلى أقصى حد، بحيث يمثل

(105)

هذا النظام الواجهة التي تمكّن مقتني الجهاز من الوصول ومن تفعيل كل ما يحتويه الهاتف من قطع.

2- المعالج: تعتبر المعالجات ضرورة قصوى للهواتف الذكية، وذلك بسبب استخداماتها المتعددة التي تقارب الحواسيب أحياناً، لذا يتوجب على المعالج القدرة على معالجة البيانات، فكلما كان أسرع في معالجته للبيانات كان الجهاز أفضل.  

3- الذاكرة: وهي الجزء المسؤول عن حفظ البيانات والمعلومات على الأجهزة الذكية، وتقسم إلى قسمين: ذاكرة داخلية تستخدم لحفظ أنظمة التشغيل والملفات الأخرى، وذاكرة خارجية تركب حسب رغبة المستخدم. وقد لا تتوافر القدرة في بعض الأجهزة الذكية على تركيب الذاكرة الخارجية، ولكن في هذه الحالة فإنَّ الذاكرة الداخلية تكون ذات سعة عالية مما يساعد على الإستغناء عن تركيب الذاكرة الخارجية.

 4- الشاشة: تعتبر عنصراً مهماً لتحديد نوعية الهاتف المراد شراؤه، وقد تكون شاشة لمس أو شاشة عادية. 

5- الاتصال: يستطيع المستخدم الولوج إلى شبكة الإنترنت كما يستطيع التحدث أو إرسال المعلومات والبيانات المختلفة. لذلك كلما زادت هذه الوسائل في الهاتف الذكي  كان  مفضلاً عن غيره.

6- التطبيقات: تعتمد التطبيقات التي يمكن تثبيتها على الهاتف الذكي بشكلٍ أساسي على تنوع ما يحتويه متجر التطبيقات المثبت

(106)

على نظام التشغيل. فكلما زادت استطاع الشخص استخدام هاتفه إلى أقصى درجة.

بعد ثورة الأقمار الصناعية والبث المباشر والبث الرقمي، جاءت ثورة تفجر المعلومات عبر تقنيات الواقع الافتراضي التي تعتمد على الذكاء الصناعي ونظم دعم اتخاذ القرار، ونظم المعلومات الرقمية التي أصبحت عنصراً استراتيجياً فعالاً داخل المؤسسات على المستوى العالمي وفق القوانين والالتزام بالتطبيق والتعاون في التنفيذ.

في عقد الثمانينيات، ونمو الانترنت وتطوير شبكة الويب أوائل التسعينيات من القرن العشرين، ظهر الـ»فيديو تيكست» مما زاد من التفاعلية والانتشار خارج الزمان والمكان والسرعة، وانخفاض التكاليف وبخاصة حاستي السمع والبصر. في هذه الثورة انتقلت الإنترنت من مملكة العلماء والخبراء إلى الأفراد في أي مكان وأي وقت طالما توفر للفرد جهاز الكمبيوتر.

وأضاف البريد الإلكتروني خاصية أخرى للملايين عبر العالم، وهي الدفع النقدي الإلكتروني من حساب بنكي إلى حساب آخر وفق البطاقات الائتمانية وغيرها من الخدمات .

وعرفنا من ذلك النشرات الإخبارية، وكذلك الندوات وخطوط الدردشة، وظهرت الجرائد الإلكترونية ونشرات خاصة بالصحة والدواء والشبكة القومية للبحث العلمي التي تديرها الحكومة الأميركية لربط الجامعات بواسطة الألياف البصرية للمشاركة في

(107)

المعلومات والموارد اللانهائية، ثم الوصول إلى التعليم عم بعد عبر «الفيديو كونفرنس».

أما خطوط الدردشة، فقد انتشرت انتشاراً كبيراً بين الشباب، كما ظهرت الجماعات الإخبارية بأنواعها سواء ذات الفكر العميق الإيجابي والبناء، أم التي تشوبها تصرفات غير أخلاقية مما يتطلب شكلاً من أشكال الرقابة، كما حدث مع القرار الذي اتخذته «كمبيو سيرف» عام 1996 في الولايات المتحدة الأميركية بمنع وصول أعضاء هذه الجماعات إلى حوالي 200 عنوان معروف ببثه للصور الفاضحة وأشكال أخرى من النشر.

المدوّنات:

ساهم الانتشار الهائل لشبكة الانترنت، وتوافرها بين أيدي عامة الناس، في ظهور فكر المدوِّنات، بحيث بات كل شخص قادراً على نشر أخبار وصور وتعليقات وآراء بدون حسيب ولا رقيب.

والمدوّنة صفحة على الإنترنت ابتكرها الأميركي جون برغر عام 1997 لوصف عملية التسجيل على الـ«ويب» عليها تدوينات صاحبها أو أصحابها وفق نظام، مؤرخة ومرتبة ترتيباً تصاعدياً أو تنازلياً وفق آلية لأرشفة التدوينات القديمة، ولكل تدوينة عنوان دائم بحيث يمكن الرجوع إليها في أي وقت، وتعطي الحق للقراء في التعليق مباشرة أو عبر البريد الإلكتروني الخاص بالمدوّن.

ودفع  انتشار التدوين بين مستخدمي الإنترنت  شركة «غوغل» إلى شراء الموقع عام 2003 فأحدث انطلاقة هائلة في المدوَّنات

(108)

وبخاصة في الحرب على العراق عام 2003، وفي الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2004، ما زاد من وعي الجماهير بالمدونات التي أصبح عددها بالملايين، الأمر الذي شجع الصحف الكبرى والإذاعات والمنظمات الدولية على إنشاء مدوِّنات على مواقعها وتنظيم مسابقات دولية لاختيار أفضل مدوِّنة .

 

المبحث الثالث: نظريات الميديا العلمية والأخلاقية

أطلقت حول الـ«ميديا» نظريات عديدة في العالم، منها «نظرية ترتيب الأولويات» لوالتر ليبمان، و»نظرية ثراء وسائل الإعلام» لريتشارد دافت وروبرت لينجيل، الأولى تتمحور حول دور وسائل الإعلام في إيجاد الصلة بين الأحداث التي تقع في الخارج والصور التي تنشأ في أذهاننا عنها، أما الثانية فتتمحور حول دور وسائل الإعلام داخل المنظمات والإدارات، هذا فضلاً عن نظرية صناعة الخوف، وتطور النظريات في مجال وسائل التواصل الاجتماعي.

في ما يلي نشير إلى عدد من النظريات التي يجري تداولها في الأوساط الأكاديمية ومركز الأبحاث في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.

أولاً: نظرية ترتيب الأولويات[1]*:

تعود الأصول النظرية لدراسات «وضع الأجندة» (ترتيب

(109)

الأولويات) في الإعلام إلى ما كتبه  والتر ليبمان (Lippman) عام 1922 عن: «دور وسائل الإعلام في إيجاد الصلة بين الأحداث التي تقع في العالم الخارجي والصور التي تنشأ في أذهاننا عن هذه الأحداث» في كتابه «الرأي العام» الذي جاء فيه أن «وسائل الإعلام تساعد في بناء الصور الذهنية لدى الجماهير، وفي الكثير من الأحيان تقدم هذه الوسائل ـ بيئات زائفة ـ في عقولهم». وقد تم تجاهل هذه النظرية تماماً في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين.

في الستينيات (1963) أعاد كوهين (Cohen) إحياء وجهة نظر ليبمان، حيث زعم أن وسائل الإعلام «لا تنجح دائماً في إبلاغ الجماهير كيف يفكرون (الاتجاهات) ولكنها تنجح دائماً في إبلاغهم عما يجب أن يفكروا فيه (المعلومات)».

 وقد دعم كل من لانغ ولانغ (1966،lang et lang) هذا الرأي من خلال تقرير أشارا فيه إلى أن «وسائل الإعلام هي التي توجه الاهتمام نحو قضايا بعينها، فهي التي تطرح الموضوعات وتقترح ما الذي ينبغي أن يفكر فيه الأفراد... وما الذي ينبغي أن يعرفوه وما الذي ينبغي أن يشعروا به».

ويرجع الفضل إلى ماكسويل ماك كومبس ودونالد شاو (MC Combs et Show) في إجراء أول اختبار لنظرية ترتيب الأولويات،  وكان الغرض الرئيسي لدراستهما هو«بالرغم من التأثيرات المحدودة في بعض الأحيان لوسائل الإعلام على نوع أو

(110)

شدة الاتجاه إلَّا أنه يفترض أن تقوم بتحديد الأولويات للحملات السياسية، ويكون لتلك الوسائل تأثير على شدة الاتجاهات نحو القضايا السياسية المثارة».

واعتمدت هذه الدراسة على أسلوب تحليل المحتوى للتعرف على الكيفية التي قدمت بها الصحف والمجلات والتلفزيون الأخبار السياسية عن المترشحين والقضايا الانتخابية خلال فترة زمنية معينة.

كما أشار ماك كومبس وشو إلى الجانب الآخر للنظرية حيث تحدثا عن دور الجمهور في وضع أجندة وسائل الإعلام بقولهما إن لهذه الأخيرة دوراً رئيساً في تحديد القضايا العامة اليومية، لكنها ليست المحددة لأولويات الجمهور، نظراً للتفاعل الحاصل بينها وبين مصادرها بالشكل الذي يؤثر في وضع أجندتها نفسها، والأهم تلك التفاعلات الكائنة مع جمهورها بحيث تأخذ في اعتبارها ما هو مقبول لديهم.

نقد النظرية

على الرغم من تعدد البحوث التي تمت لاختبار فروض النظرية والتوسع فيها خلال السبعينيات والثمانينيات، إلا أنها ما زالت تتعرض للعديد من صور النقد لبعض جوانبها: 

- يرى غريفين  أنه على الرغم من اعتبار ماك كومبس و شو اعتبرا أن وظيفة الأجندة حقيقة قائمة، فإن البحوث التالية خلال العقدين السابقين أثبتت أنها نتيجة محتملة وليست مؤكدة، فتحديد أجندة الجمهور اختلف كثيراً من بحث إلى آخر. ومن جانب آخر يرى

(111)

ماكويل و وينداهل  أنه ليس واضحاً ما إذا كانت التأثيرات ناتجة من أجندة وسائل الإعلام أو من الاتصال الشخصي، بالإضافة  إلى السؤال حول ما إذا كان من الممكن الاعتماد على نتائج تحليل المحتوى ليعطينا مؤشراً في ذاته لتأثير أجندة الإعلام.

- التباين والاختلاف بين صور الترتيب (الأجندات) التي تشملها مثل أجندات الأفراد أو الجماعات أو أجندات المؤسسات مثل الأحزاب أو الحكومات والتأثيرات التي تتم على عملية وضع الأجندة في كل حالة مثل تأثير الاتصال الشخصي، أو تأثير السياسيين وصانعي القرار، على الرغم من وحدة المصدر وهو وسائل الإعلام.

- عدم تحديد مستوى النية أو العمد أو الهدف الخاص بوسائل الإعلام.

- وكذلك بالنسبة إلى التساؤل حول الشك في نقطة البداية، وما إذا كانت تبدأ بواسطة وسائل الإعلام أو بأعضاء الجمهور وحاجاتهم، وربما بواسطة مؤسسات الصفوة التي تعمل كمصدر لوسائل الإعلام .

 

ثانياً: نظرية «ثراء وسائل الإعلام»

قدم الباحثان الأميركيان ريتشارد دافت وروبيرت لينجيل نظرية «ثراء وسائل الإعلام» عام 1984 لوصف وتقييم وسائل الإتصال

(112)

داخل المنظمات. وهي تهدف إلى التغلب على تحديات الإتصال مثل الرسائل غير الواضحة أو الرسائل ذات التفسيرات المتناقضة، وقد تمت دراستها على نطاق واسع منذ عرضها لأول مرة. كما اختبرها علماء اتصال آخرون  من أجل تطويرها.

وعلى الرغم من ارتباط النظرية باستخدام وسائل الإعلام، إلا أن الدراسات التجريبية التي أجريت عليها دراسات في كثير من الأحيان الوسيلة التي يجب أن يختارها القائم بالإتصال وليس التأثيرات المترتبة على استخدام وسائل الإعلام.

تنص نظرية «ثراء وسائل الإعلام» على أن جميع قنوات الإتصال تملك خصائص معينة تجعلها أقل أو أكثر ثراءً، وأحد أهم أهداف اختيار وسيلة اتصال هو تقليل غموض الرسالة. إذا كانت الرسالة غامضة، فإنها تكون غير واضحة، وبالتالى يكون فك شيفرتها أكثر صعوبة على مستقبلها. وتضع النظرية وسائل الإتصال على مقياس متواصل يمثل ثراء الوسيلة وقدرتها على إيصال رسالة معقدة. على سبيل المثال، رسالة بسيطة معدة لترتيب موعد ومكان لقاء يمكن نقلها من خلال رسالة قصيرة عبر البريد الإلكتروني، بينما رسالة أكثر تفصيلاً عن أداء عمل شخص ما والتوقعات حوله يكون الأفضل نقلها من  خلال الإتصال المباشر وجهاً لوجه.

تشتمل النظرية على إطار له محاور على مستوى الغموض والشك تمتد من الأدنى إلى الأقصى، مع انخفاض درجة الغموض والشك، يصبح الموقف واضحاً ومعروفاً جيداً، مع إرتفاع درجة

(113)

الغموض والشك، تصبح الأحداث مبهمة وملتبسة المعنى تحتاج إلى توضيح القائم بالإتصال.

وقد أكد دافت ولينجيل أيضاً على أن وضوح الرسالة يكون مهدداً أثناء اتصال الإدارات المتعددة مع بعضها البعض، وذلك لأن الإدارات من الممكن أن تكون مدربة في مجموعات نهارية مختلفة أو لها قواعد ومبادئ اتصالية متناقضة. وفي مقالٍ مشترك ذكرا أنه «كلما زادت نسبة التعلم التي يمكن ضخها من خلال الوسيلة، كانت الوسيلة أكثر ثراءً».  وقالا إن ثراء وسائل الإعلام يعد وظيفة لعدة خصائص شاملة هي:

- القدرة على معالجة إشارات المعلومات المتعددة في وقتٍ واحد.

- القدرة على تيسير فورية رجع الصدى.

- القدرة على جذب التركيز الشخصي.

- القدرة على استخدام اللغة الطبيعية.

تتنبأ نظرية «ثراء وسائل الإعلام» بأن يقوم المدراء باختيار طريقة الإتصال على أساس ملاءمة غموض الرسالة لثراء الوسيلة، ومع ذلك، فكثيراً ما تدخل عوامل أخرى في الإعتبار، مثل الموارد المتاحة للقائم بالإتصال. وهذا يفترض أن يكون المدراء أكثر تركيزاً على كفاءة المهمة (وهى تحقيق الهدف بأكبر قدر من الكفاءة)، ولا يأخذوا في الإعتبار عوامل أخرى، مثل بناء العلاقات.

(114)

في كتابه «New community networks»[1] أشار الباحث في جامعة مونريال الكندية دوكلاس شيلر إلى أن  حوالي 500،000 من الأفراد يستعملون بانتظام مئات من  شبكات الجماعات على الانترنت في الولايات المتحدة الأميركية والعالم. إنهم يتوحدون في مختلف المؤسسات المحلية (مثل المدارس، الجامعات، الوكالات الحكومية المحلية، المكتبات والمنظمات التي لا تهدف إلى الربح) في شكل موارد مجتمع واحد توظف من أجل الاضطلاع بوظائف متعددة من تمكين الأفراد من التواصل بينهم، عبر الرسائل الإلكترونية، التي تشجع انخراطهم في القرارات المحلية وتنمية الفرص الاقتصادية المفتوحة أمامهم. إن ذلك يحصل من خلال الآليات التالية[2]:

- الربط بين أعضاء جماعة معينة، وتشجيع النقاش وحل المشاكل المشتركة.

- تنظيم المعلومات ووسائل الاتصال ذات الأهمية الخاصة لحاجات الجماعات ولمواجهة مشاكلها بناء على جدول زمني.

- مشاركة قاعدة عريضة من المواطنين بمن فيهم نشطاء المجتمع، القادة، الجهات الراعية لأنشطتهم، مقدمي الخدمات وذلك بشكل مستمر.

- العمل على إدماج جميع أعضاء الجماعة، وعلى الخصوص

(115)

ذوو الدخل المنخفض والذين يعانون من إعاقات أو محدودية في الحركة.

- توفير الخدمات الأساسية بتكاليف عادلة ومعقولة أو على أساسي مجاني.

- وأخيراً من خلال دعم الثقافة المحلية.

إن ما سبق لا يعني أن الجماعات على شبكة الإنترنت هي جماعات لا توجد في الواقع virtuelles بل هي موجودة وتحتاج إلى اللقاء وجهاً لوجه بين أعضائها من أجل تمتين الروابط بينهم وإن كانت الإنترنت أحد الفضاءات المهمة لذلك.

لقد تميزت الفترة الأخيرة بتطور لافت للنظر للنضال الدولي الذي يتجاوز حدود الدولة الواحدة من قبل: التظاهر الواسع، الحملات الدعائية المتواصلة ضد الشركات العالمية ووكالات التنمية، وابتكار نظم المساءلة العامة لسلوك الشركات والمؤسسات الحكومية. وهي الأنشطة التي اقترنت بوسائل الاتصال الحديثة، والتي ساهمت الانترنت بدرجة كبيرة في تحفيزها عبر خفض التكلفة وضمان السرعة. إن الانترنت والفيديو الرقمي والهواتف الخلوية وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة تخول للأفراد إمكانية تجاوز إكراهات الوقت والجغرافيا وتنظيم أنشطة سياسية يصعب تصورها بدون تلك الوسائل.

وعندما تكون الجماعات أو شبكات النشطاء غير مراقبة بواسطة مراكز منظمة تصير الانترنت عبارة عن فضاء عام مفتوح تتبادل

(116)

الأفكار وبرامج الاحتجاج بسهولة نسبية، وكل ذلك لا يرتكز فيه عمل النشطاء على قنوات الاتصال التقليدية من إعلام أو تلغراف.

في هذا الإطار يذهب أحد الباحثين إلى القول بأنه عندما يتعلق الأمر بشبكات غير مركزية وموزعة يكون من الصعب على أية نخبة مراقبة الأنشطة على الانترنت، إنها تسمح لعملية الاتصال بأن تتم من الفرد إلى الفرد ومنه إلى المجموعات وحتى من المجموعات إلى المجموعات. فطبيعة التكنولوجيا والمظاهر الاقتصادية تمكن من القيام بعملية النشر بتكلفة منخفضة نسبياً وبدون وساطة دار للنشر.

في إطار سيرورة وسائل الاتصال الحديثة هذه واستعمالها من قبل الأفراد والجماعات، ظهرت البرمجيات الاجتماعية والتي ساهمت في إحداث ثورة في مجال الانترنت التقليدية بسبب ما تمنحه للأفراد  والجماعات من مجال للمشاركة والتفاعل، وذلك باستخدام بنية تحتية عالمية من أجل خلق شبكات تشكل جزءاً مهماً في النشاط السياسي والمشاركة السياسية.

ومع الإقرار بهذه الأدوار المتزايدة لوسائل الاتصال الحديثة، وبتوسع استخدامها من قبل النشطاء سواء كانوا محليين أم دوليين، فالسؤال المشروع الذي يفرض نفسه يتعلق بتقييم أثر التعرض لوسائل الاتصال الحديثة في التعبئة والانخراط.

(117)

ثالثاً: نظريات كلاجي لانج (Glady Lang)

ترجع هذه النظريات إلى كورت لانج Kurt Lang وكلاديس لانج Gladys Lang اللذين يقولان بوجود ارتباط بين انتشار شبكات الأخبار وتوسع مشاعر الانقطاع عن العملية السياسية، ذلك أن طريقة تغطية الأخبار التلفزيونية للأحداث يمكن أن تؤثر على التوجهات الأساسية للناخبين اتجاه المؤسسات العامة. أنهما يريان أن تلك التغطية تزيد من حدة العناصر المتضاربة للعملية السياسية التي تغذي بدورها السخرية العامة لدى الأفراد منها.

في الاتجاه نفسه يؤكد ميشال روبنسون أن سائل الإعلام من قبيل التلفزة والجرائد كمصدر للمعلومات السياسية تتسبب في العزوف السياسي وذلك بفعل العوامل التالية:

- الحجم الكبير وغير المتجانس لمشاهدي الأخبار التلفزيونية.

- التصورات العامة لشبكات الأخبار.

- الطابع التفسيري لتغطية الأخبار التي يقدمها التلفزيون.

- تركيز التقارير الإخبارية على العناصر السلبية.

- تركيز شبكات الأخبار على المواضيع المرتبطة بالصراعات والعنف.

وقد ترسخ هذا الاتجاه النظري حول وسائل الإعلام في نهاية

(118)

الثمانينيات وبداية التسعينيات، واتخذ منحى خاصاً في السياق السياسي لأميركا الشمالية: فأخبار التلفزة في الولايات المتحدة تقدم الحياة السياسية بطريقة أكثر سلبية من تلك التي تتضمنها الجرائد، ولهذا يمكن القول أن العزوف السياسي يزداد بازدياد الأخبار السيئة في قصص السياسيين والمؤسسات السياسية.

ويتعين الإشارة إلى أن هذه النظرية تعرضت لانتقادات تتأسس على التأثير الكبير الذي يمارسه الإعلام على مختلف مناحي الحياة، انتقادات أدت إلى ظهور نظريات أخرى في مجال التأثير السياسي للإعلام من بينها نظريات التعبئة السياسية.

 

رابعاً: النظريات العلمية الحديثة

شهدت النظريات التي حاولت تحليل وتفسير أدوار وسائل الإعلام تغييرات هامة على مدى القرنين الماضيين، وقد بلغ عددها ـ حسب الباحث في علم اجتماع الإعلام البروفسور حسين أبو شنب - ما يقارب 150 نظرية يصعب معه التطرق إليها جميعاً، ولذلك سنحاول استعراض مضامين بعض نماذج من هذه النظريات - رغم أن بعض هذه المقاربات تجاوزها الزمن والأحداث ـ ابتداء من نظرية وسائل الإتصال الجماهيري  في القرن التاسع عشر، وصولاً إلى مجموعة من الاتجاهات المعاصرة[1]. ولذلك يمكن إدراج مجموعة النظريات العلمية والأخلاقية على الوجه التالي:

(119)

نظرية المجتمع الجماهيري

تعود الأفكار الأولى التي تتأطر ضمن مرحلة الاتصال الجماهيري إلى النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وهي فترة تميزت بالانتشار السريع للمصانع الكبرى في المناطق الحضرية بالتزامن مع ارتفاع وتيرة هجرة الأفراد من المناطق الريفية إلى داخل المدن في الدول الصناعية وظهور المطابع التي سمحت بإنشاء الصحف القابلة للبيع بأسعار منخفضة لجمهور من القراء آخذ في الازدياد وبوتيرة متسارعة.

الخصوصية الأساسية لمنظّري المجتمع الجماهيري والثقافة الجماهيرية أنهم بالغوا في التأثير الذي تحدثه وسائل الإتصال الجماهيري، وفي قدرتها على تحفيز التغيرات المجتمعية والثقافية. إنها تتأسس على خلفية التأثر السريع والتلقائي للأفراد بالرسائل التي تتضمنها تلك الوسائل، وبعدم توفرهم على إمكانية مقاومتها.

نظرية فرانكفورت

أنتجت مدرسة فرانكفورت نموذجاً  مبكراً  للدراسات الثقافية النقدية لوسائل الإعلام الجماهيرية والثقافة ، إذ طوّرت  نقداً متعدد التخصصات لوسائل الإعلام يقوم على الجمع بين نقد الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام، وتحليل النصوص، ودراسات الآثار الاجتماعية والإيديولوجية  لاستقبال الجمهور للثقافة الجماهيرية والإعلام .

(120)

وعلى الخصوص قام أنصار هذه المدرسة، ومن أبرزهم  تيودور أدورنو Theodor Adorno وماكس هوركايمر Max Horkheimer، بفحص الصناعات الثقافية كشكل من أشكال إدماج الطبقة العاملة في المجتمعات الرأسمالية.

وقد ركزت مدرسة فرانكفورت جل اهتمامها على التكنولوجيا والثقافة، مشيرة  إلى تحول التكنولوجيا إلى قوة رئيسية لإنتاج وتكوين التنظيم الاجتماعي وللسيطرة عليه. ففي مقال صدر له عام 1941 بعنوان «بعض الآثار الاجتماعية للتكنولوجيا الحديثة»، يذهب هربرت ماركوز إلى أن التكنولوجيا المعاصرة تشكل أداة لتنظيم وإدامة (أو تغيير) العلاقات الاجتماعية، ومظهراً من مظاهر أنماط السلوك والفكر السائد، وسيلة للسيطرة والهيمنة. في مجال الثقافة تنتج التكنولوجيا ثقافة شاملة تعود الأفراد على الامتثال لأنماط التفكير والسلوك المهيمنين، وبالتالي توفر أدوات قوية للرقابة الاجتماعية والهيمنة.

نظرية الأثر المحدود لوسائل الاتصال الجماهيري

مع منتصف الخمسينات من القرن الماضي قام لازارسفيلد Lazarsfeld وبقية باحثي وسائل الاتصال الجماهيرية ذوي النزعة التجريبية، بتجميع كم هائل من المعطيات والبيانات، وقد دفعهم تحليلها إلى استنتاج أن وسائل الاتصال. ورغم مرور ما يزيد على ستين سنة من ظهور هذه النظرية فهي مازالت تجد صدى وقبولاً في العديد من الأبحاث الأكاديمية، وذلك على الرغم من التحولات

(121)

الملحوظة في البنية الاجتماعية والسياسية، ومن تغير زاوية النظر في آثار وسائل الاتصال من الاهتمام بتغير المواقف والسلوك على المدى القصير إلى إعطاء الأولوية للآثار غير المباشرة من قبيل إعداد جدول الأعمال، التأطير، معالجة المعلومات ، وغيرها من الآليات التي تؤثر على التصورات على المدى الطويل الأجل.

نظرية الماركسية الجديدة

إنسجاماً مع النظرية الماركسية حول دور وسائل الإتصال الجماهيري، يعتبر مجموعة من المنظرين  المنتمين إلى تيارات الاشتراكية الأوروبية - الذين قاوموا بشدة هيمنة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، والذين يطلق عليهم تسمية «الماركسيين الجدد» - أن وسائل الاتصال تمكّن النخب الاجتماعية المهيمنة من خلق والحفاظ على استمرارية سلطتهم، من خلال استثمار الإمكانيات التي تخولها تلك الوسائل والمتمثلة بما يلي:

- إنها تقدم آلية مريحة ولكنها فعالة في تعزيز التصورات حول المجتمع والاقتصاد والسياسية الملائمة لمصالح النخب المهيمنة.

- إنها إحدى أدوات الصراع الثقافي في المجال العام تمكن من تكريس ثقافة مهيمنة ودعم استمراريتها.

- إنها تستعمل لتهميش المعارضة، وتقديم الوضع القائم  quo the status باعتباره السبيل الوحيد المنطقي والعقلاني لهيكلة المجتمع.

(122)

مدرسة الدراسات الثقافية الانكليزية

ركز المنتمون إلى هذه المدرسة (Richard Hoggart ،Stuart Hall ...) بشكل كبير على وسائل الاتصال الجماهيرية ودورها في تعزيز نظرة وثقافة مهيمنة بين مختلف شرائح المجتمع، حيث درسوا كيفية استخدام وسائل الاتصال، وتوجهوا إلى تقييم كيف يمكن أن يؤدي ذلك الاستعمال إلى جعل الناس يساندون الأفكار التي تدعم النخب المهيمنة.  

علاوة على ذلك، يتعين الإشارة إلى أن الدراسات الثقافية البريطانية اهتمت أيضاً بدراسة ثقافات الشباب بهدف إيجاد أشكال جديدة للمعارضة وللتغيير الاجتماعي. فمن خلال بحثها في ثقافات الشباب الفرعية، أظهرت الدراسات الثقافية البريطانية كيف تشكل الثقافة نماذج متميزة للهوية وللعضوية في الجماعة  ذات مقومات كبيرة لمقاومة الثقافة والهوية المهيمنة، وخلق هويات ونمط خاص بهن.

الاتجاهات النظرية الحالية

أدى تغيّر المعطيات السوسيولوجية والتكنولوجية في المجتمعات المعاصرة، وظهور وسائل الاتصال الجديدة، إلى تبدي محدودية كبيرة في قدرة المقتربات النظرية السابقة على تحليل وتفسير أدوار وسائل الإتصال الجماهيري وتأثيرها على الأفراد. (...) ويمكن القول أننا نوجد اليوم في بداية سياق ظهور نظريات جديدة حول أثر وسائل الاتصال الجماهيري سواء

(123)

في شكلها التقليدي أم الجديد. ومن بين أمثلة النظريات التي تحاول مقاربة وسائل الاتصال بطريقة مختلفة عن المقاربات السابقة، نظرية الإطار FRAMING THEORY التي تنحو إلى تفسيرالسيرورة التي يمتلك من خلالها الأفراد التصورات حول قضية، أو يعيدون توجيه تفكيرهم حولها، بحيث يشير الإطار إلى مجموعة من المفاهيم المجردة التي تستعمل من قبل الأفراد لتنظيم وهيكلة المعاني الاجتماعي للأحداث والرسائل.

النظريات الأخلاقية

لقد تطورت ثلاثة أنماط على الأقل من النظريات الأخلاقية حول الميديا بوجه عام:

-النمط الأول: نظريات ترتكز على القاعدة أو النظرية الأخلاقية للواجب الأخلاقي (Deontolpgical).

-النمط الثاني: نظريات الغائية أو الموازنة (Teleological).

-النمط الثالث:  النظريات النسبية (Relativism).

إن أكثر النظريات الأخلاقية شهرة هي تلك المرتبطة بالفيلسوف إيمانويل كانط (Imaanuel Kant). لقد افترض قوانين أخلاقية تشكل ضرورات مطلقة أو قاطعة للمبادئ التي تحدد ما هو الإجراء الصحيح أو المناسب في جميع الحالات. وإن اتباع هذه الضرورات القاطعة يمثل واجباً أخلاقياً على جميع البشر. ولتحديد ما هي الضرورات القاطعة، فإن على المرء أن يتساءل عما ما إذا كان

(124)

السلوك موضوع البحث هو أمر يرغب في أن يراه مطبقاً بشكل عام (عالمياً)[1].

وبعبارة أخرى، إن على المرء أن يتصرف بطريقة يرغب في أن يرى جميع الآخرين يتصرفون بها. لاحظ أن تفكير (كانط) يتوازى من عدة نواح مع القاعدة الذهبية القائلة: عامل الآخرين كما تُحب أن يعاملوك.

وعلى سبيل المثال، قد يطور باحث في مجال الإعلام الجماهيري حتمية قاطعة حول الخداع. فالخداع هو أمر لا يريد الباحث أن يراه يطبق بصورة عامة من قبل الجميع. كما أن الباحث لا يريد أن يخدع. وبهذا، فإن الخداع هو أمر يجب عدم استخدامه في البحث مهما كانت المنافع وبغض النظر عن الظروف.

أما النظرية الغائية، أو الموازنة (Teleological)، فإن أبسط مثال عليها هو ما دعاه الفيلسوف جون ستيوارت بالنفعية (مذهب المنفعة) (Utilitarianism). وفي هذه النظرية، تتم موازنة الخير الذي سيأتي جرّاء عمل مقابل الضرر المحتمل. ويتصرف الفرد بعد هذا بطريقة تزيد إلى أقصى الحدود الخير، وتقلل الضرر. وبعبارة أخرى، إن الاختبار النهائي لتقرير خبر سلوك ما يعتمد على النتائج التي تترتب على هذا السلوك. الغاية قد تبرر الوسيلة. وكما ستتم ملاحظته، فإن مجالس المراجعة في المعاهد في الكليات والجامعات تؤيد هذا المبدأ عندما تقوم بالنظر في مشاريع البحث

(125)

والتزامها المعايير الأخلاقية. ولا شك بأن النظريات الثلاث تُشكل أساساً للمبادئ الأخلاقية.

في هذا المجال يقدم الباحثون في علم اجتماع الإعلام أربعة مبادئ:

- مبدأ الاستقلالية (Aitonomy) أو تقرير المصير الذي له ضرورة في الحتمية القاطعة. إن إنكار أو رفض الاستقلالية أمر لا يرغب الباحث بأن يراه يُمارس بشكل عام. ومن أساسيات هذا المفهوم أن يحترم الباحث حقوق الآخرين وقيمهم وقراراتهم. إن أسباب تصرف شخص ما يجب أن تُحترم وأن لا يتم التدخل في تصرفاته. ويتجلى هذا المبدأ باستخدام الموافقة المسبقة الواعية في إجراءات البحث.

-مبدأ عدم الإيذاء (Nonmaleficene). ويعني باختصار أن من الخطأ إلحاق الأذى بالآخرين عن قصد.

-مبدأ الإحسان (Beneficence)، والذي يعتبر عادة مصاحباً للمبدأ السابق. ويتطلب هذا المبدأ التزاماً إيجابياً بأزالة الأضرار الحالية وإسباغ المنافع على الآخرين. ويعمل هذان المبدآن معاً، وغالباً ما يجب على الباحث أن يوازن ما بين المخاطر الضارة لبحثه مقابل منافعها المحتملة (مثل زيادة المعرفة، او تنقيح نظرية). لاحظ كيف تتعامل نظرية المنفعة مع هذه المبادئ.

-مبدأ العدالة (Justice) يرتبط بكلتا نظريتي الأخلاق والغائية. وعند المستوى العام لهذا المبدأ فإنه يعني أن الناس المتساويين في

(126)

الجوانب المتناظرة يجب أن يعاملوا بشكل متساو. أما في السياق البحثي، فإن هذا المبدأ يجب أن يتم تطبيقه عندما يجري تقييم برامج أو سياسات جديدة. ويتم تشارك الجميع في النتائج الإيجابية لمثل هذا البحث. وعلى سبيل المثال، فإنه يكون من غير الأخلاقي أن لا يستفيد من الإجراءات الجديدة للتدريس مجموعة الأطفال الذين تم اختيارهم كمجموعة ضابطة (مراقبة) من دون المجموعة التي أجريت عليها الإجراءات التجريبية. إن الفوائد يجب أن يتقاسمها جميع المُؤهلين لذلك[1].

ويُقدم فراي وبوتان وكريبس (Frey، Botan and AKreps)(2000) الموجز التالي للمبادئ الأخلاقية التي ينادي بها الباحثون بشكل عام:

1. وفِّر للناس الذين تتم دراستهم حرية الاختيار.

2. إحمِ حقهم في الخصوصية.

3. أفدهمْ ولا تؤذِهم.

4. عاملهم باحترام.

ومن الواضح أن على الباحثين في دراسات الإعلام اتباع مجموعة من القواعد لتحقيق التزاماتهم الأخلاقية نحو للأفراد والمستجوبين (المشاركين). وفي مناقشته للأسلوب المختبري، فإن كوك (Cook) (1976) يقدم مثل هذا المعيار الأخلاقي الذي يمثل القاعدة في الميدان:

(127)

1- لا تُشرك أناساً في البحث من دون علمهم أو موافقتهم.

2- لا تجبر أناساً على المشاركة.

3- لا تحجب عن المشاركين الطبيعة الحقيقية للبحث.

4- لا تكذب بفاعلية حول طبيعة البحث.

5- لا تقد المشارك إلى ارتكاب أفعال تقلل من احترامه لنفسه.

6- لا تنتهك الحق في تقرير المصير.

7- لا تعرض المشارك لضغوط جسدية أو عقلية.

8- لا تنتهك خصوصية المشارك.

9- لا تحجب الفوائد عن المجموعات الضابطة.

10- لا تحجب عن معاملة المشاركين في البحث بمساواة، وإظهار الاحترام والتقدير لهم[1].

إن الأبحاث التي تدور حول أخلاقيات الإعلام تسير في اتجاهين: اتجاه يرفض القول أن هناك أساساً ما يمكن تسميته بأخلاقيات الإعلام انطلاقاً من أن تصور أخلاق الإعلام هو في ذاته تصور متناقض ذاتياً، ذلك أنه كيف يمكن للصحافي أن يكشف عن بعض القصص التي يريد الناس معرفتها إذا كان يجب عليه دائماً التحلي بالأخلاقيات واحترام مشاعر وخصوصيات أولئك الذين يقوم بفضحهم ؟ ثم إن نوع الأخبار التي ينشرها والطريقة

(128)

التي يحصل بها عليها أحياناً ما تكون غير أخلاقية، كيف يمكن أن يكون هناك ـ إذاً ـ اتساق بين مهنته ومسئوليته الأخلاقية ؟ أضف إلى ذلك أن الغالبية من الناس ينظرون إلى رجال الإعلام ـ أو الصحافة تحديداً- على أنهم أولئك الذين يبحثون دائماً عما يروِّج بضاعتهم أكثر، أي عن فضائح الناس، إذ هي مصدر كل من الشهرة والمال للصحافي . كيف يمكن ـ إذاً ـ أن تكون هناك أخلاقيات للإعلام أو للصحافة ؟ وما يقوي هذه النظرة هي إصرار رجال الإعلام على ما يسمى حرية التعبير. ثم إنه إذا كانت وظيفة رجال الإعلام تتراوح من نشر الفضائح السياسية لبعض الشخصيات إلى عرض الأحداث الهامة التي تحدث في العالم ، فإن هذه المهام جميعها لا صلة لها من قريب أو من بعيد بالأخلاق.

أما الفريق الآخر فيرى على العكس أنه إذا كانت وظيفة الصحافي نشر الأخبار الهامة ذات الدلالة، بما في ذلك عرض وكشف أشكال الفساد والغش والمسائل اللاأخلاقية التي تحدث في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية ومن بعض السياسيين، والحديث عن الجريمة المنظمة وفضح الثراء غير الشرعي لبعض الشخصيات، وهو ما جعل من الصحافة «السلطة الرابعة» كما يسمونها من حيث أنها من يملك مراقبة ذوي السلطة والنفوذ في المجتمع، فإذا كانت  وظيفة الصحافي باختصار هي الكشف عن الفساد  وفضحه، فإن هذا وحده يقف دليلاً على صلة الإعلام بالأخلاق، بمعنى أنه إذا كانت مهمتها الكشف عن المسائل اللاأخلاقية، فإنه يجب على رجالها أن يكونوا أبعد الناس عن هذا الذي يريدون كشفه وفضحه،

(129)

فرجال الإعلام عليهم واجب أخلاقي يتمثل في الكشف بإخلاص عن الأعمال غير الأخلاقية، من هنا فإنه لكي يكونوا متسقين مع أنفسهم فإن هدفهم يجب أن يتمثل في احترام المعايير الأخلاقية للسلوك التي يطلبون من غيرهم التمسك به[1].

والجدير بالذكر أنه إذا كان فحص الممارسات الصحفية والتحقق من فهم العامة  للدور الذي تلعبه الصحافة يندرجان أيضاً ضمن اهتمام الدراسات الإعلامية وعلم النفس وعلم الاجتماع، فإن هذه الدراسات جميعها لا يمكنها الإجابة عن السؤال: ما الذي يجب ـ وما الذي لا يجب ـ على الصحافي ـ من الناحية الأخلاقية ـ أن يفعله ؟ إن البحث في الالتزامات الأخلاقية للصحافة والإعلام مبحث فلسفي خالص من حيث أنه مبحث معياري.

أخلاقيات الإعلام ـ إذاً ـ مبحث أخلاقي يعني بالبحث في تلك المعايير التي تجعل من الإعلام إعلاماً جيداً، بمعنى أن المعايير الأخلاقية هي معيار التمييز بين الإعلام الجيد والإعلام غير الجيد، وبما أنه بحث في المعايير فهو بالأساس مبحث فلسفي.

 

المشكلة الأخلاقية للإنترنت

رغم أن الكثير من البحوث التي تجري بالاتصال المباشر (Online) (الإنترنت) قد لا تثير أية أسئلة حول الأخلاقيات، إلا أن

(130)

الباحثين كمياً وكيفياً يجب أن يدركوا أن الاستخدام المتزايد للإنترنت كوسيلة بحث قد سبق كثيراً جهود الباحثين لوضع مبادئ أخلاقية مقبولة عموماً في ما يتعلق بالبحث بالاتصال المباشر. وإحدى المشكلات هي أن البحث بالانترنت قد ينطوي على طائفة واسعة من الأوضاع بما فيها المواقع الإلكترونية أو البريد الإلكتروني، أو غُرف الدردشة (Chat)، أو الرسائل الفورية، أو مجموعات الأخبار، أو الحوارات المتعددة المستخدمين (Multiple User Dialogues) (MUDs)، والتي لم تتناولها المبادئ التوجيهية الأخلاقية القائمة حالياً. ومع إبقاء ذلك في الاعتبار، فإن التوصيات التالية هي مقترحات عامة لتوجيه الباحثين الذين يواجهون قضايا محددة في البحث بالإنترنت.[1]

وكنقطة بداية، من الممكن تمييز نوعين على الأقل من البحث بالاتصال المباشر. ويمكن تسمية النوع الأول بالبحث السلبي (Passive) حيث يدرس الباحثون محتويات المواقع الإلكترونية، أو غرف الدردشة، أو لوحات الرسائل، أو المدونات (Blogs). وقد يقوم الباحثون، أو لا يقومون، بالتعريف بأنفسهم للمشاركين. والكثير من البحوث النوعية، وبعض بحوث تحليل المضمون الكمية، تقع ضمن هذا النوع. ومثال على ذلك هو الباحث الذي يقوم بإجراء تحليل مضمون للرسائل المنشورة على الموقع الإلكتروني لبرنامج تلفزيوني، أو المضمون الموجود في عيِّنة من المدونات.

(131)

والمشكلة الأخلاقية التي قد تظهر في مثل هذه الحالة تكون في ما إذا كان الباحث بحاجة إلى موافقة مُسبقة ليقوم بتحليل واقتباس التعليقات/ المعلقات على الإنترنت. ومن الواضح أنه إذا كان القصد من الموقع أصلاً الوصول إلى عامة الناس مثل شبكة CNN.com، فإن المادة تكون متاحة بحرية للتحلل والاقتباس في البحث إلى درجة معقولة من دون حاجة إلى موافقة مُسبقة. وهذا الوضع مماثل لتحليل مضمون صحيفة أو نشرة أخبار تلفزيونية.

ولنأخذ مثالاً ملموساً. ماذا عن تحليل ما ينشر على منتدى على الإنترنت مثل ذلك الموقع الذي يديره معهد بوينتر (Poynter Institute). فأحد هذه المنتديات يتناول قضايا خلافية. فهل هو أخلاقي أن يقوم الباحث بنشر مقتبسات من هذا المنتدى من دون موافقة المشاركين المُسبقة؟ في هذه الحالة يحتاج الباحث إلى أن يسأل:

1- هل المنتدى مفتوح للجميع؟ وبعبارة أخرى هل هو مساحة عامة أم خاصة؟

2- هل التعليق عليه يحتاج إلى تسجيل أو كلمة سر؟

3- هل للموقع سياسة ضد الاقتباس من محتوياته؟

4- هل لدى المشاركين توقع في الخصوصية في ما يتعلق بتعليقاتهم/ بمعلقاتهم (Post)؟

وفي هذا المثال المحدد، فإن المنتدى يتطلب التسجيل وفق

(132)

كلمة سر للدخول، مما يوحي بأنه مساحة خاصة لا عامة وأن لدى المشاركين بعض التوقعات بالخصوصية.

وبالرغم من أنه ليس للموقع سياسة صريحة ضد الاقتباس المباشر، فإن نشر التعليقات / المعلقات من دون موافقة مسبقة يبدو أمراً مشكوكاً به أخلاقياً. وترتيبات معهد «بوينتر» هذه هي نموذج عن معظم منتديات الإنترنت الحالية. فالتسجيل وكلمة السر مطلوبان بشكل عام. وبعض مواقع مجموعات الأخبار، على أي حال، كتلك المكرسة لمناقشة (Microsoft’s Windows Media Player) تتضمن موافقة يُمكن قراءتها من قبل أي شخص من دون حاجة للتسجيل. ويحذر بيان على هذا الموقع بالقول «لطفاً ذكر أن مجتمعاتنا هي مساحات مفتوحة، لذا لا تعلق أي شيء لا ترغب في أن يراه العالم». ويبدو أن تحليل مثل هذا النوع من المنتديات لا يثير إلا قليلاً من المخاطر الأخلاقية.

إن كان موقع ما يتطلب كلمة سر أو لديه مبادئ توجيهية تشير إلى أن لدى الأعضاء بعض التوقعات بالخصوصية، عندها يجب على الباحث أن يحصل على موافقة المشاركين المُسبقة. وعلى أي حال، ينبغي على الباحث أن يدرك أن تعليق رسالة مثل «هل يمكنني تسجيل تعليقاتك لأغراض البحث؟» على لوحة رسائل قد لا تقابل بإجابة دافئة. وفي الحقيقة، أنه في معظم غرف الدردشة الحيَّة، فإن مثل هذا الطلب يكفي لطرد الباحث خارجاً. وعلاوة على ذلك، إن أُعطيت الموافقة، فعلى الباحث أن ينتظر في ما إذا كان فعل تسجيل التعليقات من المجموعة (وجعلها دائمة) يثير أي نوع من المخاطر للمشاركين.

(133)

وأخيراً، هناك مشكلة إخفاء أو ستر شخصيات المشاركين. فتسمية المجموعة أو المنتدى الذي جرى الاقتباس منه قد يُمكن بعض الناس من تحديد هوية فرد ما. وأكثر من ذلك، إن نشر باحث مقتبسات حرفية طويلة، فمن الممكن أن يكون محرك البحث قادراً على تتبع الجملة المقتبسة إلى الشخص الذي قالها. والباحث الذي يعد مساهميه بالسرية قد يستخدم أحد الضمانات التالية:

1. لا تذكر اسم المجموعة.

2. غيّر صياغة المقتبسات الطويلة.

3. إخفِ بعض المعلومات، مثل أسماء المؤسسات أو المعاهد.

4. إحذف التفاصيل التي قد تكون ضارة بالأفراد المشاركين.

والنوع الثاني من بحوث الاتصال المباشر(الانترنت) الذي يمكن التفكير فيه هو البحث النشط (Active) حيث يحاول الباحث جمع معلومات من خلال مسوح الإنترنت، أو مجموعات التركيز، أو أنماط من التجارب. ويطرح هذا الوضع مشكلات أخلاقية أكثر. فأولاً، تتطلب القواعد الاتحادية لمواضيع البحث الإنسانية من الباحثين توثيق الموافقة المسبقة الواعية من المشاركين. وإضافة إلى ذلك، فإن القواعد تقول بأن هذا التوثيق يجب أن يكون «أنموذجاً مكتوباً» موقعاً من الشخص. وهذا يكاد يكون مستحيلاً على الانترنت. ولحسن الحظ أن هذا المتطلب يمكن التنازل عنه في البحوث مع البالغين التي تثير القليل فقط من المخاطر. وفي هذه الحالة يعد الباحث نسخة إلكترونية عن استمارة الموافقة المسبقة،

(134)

وتعطى هذه الموافقة بالنقر على زر يشير الى ان المستجوب قد قرأ الاستمارة وفهمها.

وفي بعض الحالات يكون من الصعب على الباحث تحديد إن كان المشارك يفهم حقاً أنموذج الموافقة المسبقة.

ولقد زودنا سنجر وسنجر (Singer and Singer، 1981) بمثال ممتاز عن كيفية تضييق موضوع البحث وتطويره ووضعه في صيغة بسيطة. كان الباحثان معنيين في ما إذا كانت مواد التلفزيون تعزز مقدرة الطفل على السلوك التخيلي أو تعوقها، وبعد مراجعة عميقة للأدبيات المتوافرة قام سنغر وسنغر بتضييق الدراسة بالتفتش عن أجوبة لأسئلة بحثية أساسية ثلاثة[1]:

1-هل يُثري مضمون التلفزيون مقدرات الطفل التخيلية بتقديم مواد وأفكار من أجل اللعب الذي يكون الاقتناع؟ (Make-Believe Play).

2-هل يقود التلفزيون إلى تشويهات للواقع لدى الأطفال؟

3-هل يقوم تدخل الراشدين وتوسطهم أثناء مشاهدة الأطفال للبرنامج أو فوراً بعد انتهائه، إلى إثارة تغيرات في اللعب الذي يكون الاقتناع، أو أنه يستثير لعباً يكون الاقتناع.

ويمكن للمعلومات التي يتم جمعها من مثل هذا النوع من الدراسات توفير بيانات تؤدي إلى فرضية قابلة للاختبار. فمثلاً،

(135)

قد يكون سنغر وسنغر قد جمعا بيانات مهمة كافية من دراستهما المبدئية لاختبار هذه الفرضيات.

1-إن الوقت الذي يقضيه الطفل في اللعب المكون للاقتناع يرتبط مباشرة بمقدار الوقت الذي يقضيه في مشاهدة اللعب المكون للاقتناع على التلفزيون.

2-مستوى تشويهات الواقع لدى الطفل يرتبط مباشرة بمقدار وطبيعة البرامج التلفزيونية التي يشاهدها.

3-مناقشة الأبوين مع الأطفال حول اللعب المكون للاقتناع قبل، وأثناء، وبعد مشاهدة الطفل لبرامج تلفزيونية.

والفرق بين المجموعتين من البيانات، أن الأسئلة البحثية تطرح فقط مجالات عامة للتقصي، في حين أن الفرضية هي بيان قابل للاختبار حول العلاقة، أو العلاقات، بين المتغيرات. والقصد الوحيد في مرحلة السؤال البحثي هو جمع معلومات تساعد الباحثين في تحديد الفرضية واختبارها في المشروعات اللاحقة.

وعلى سبيل المثال، في ما يلي مقتطف من الاستنتاج الذي توصل اليه سنجر وسنجر (Singer and Singer، 1981، p. 385):

«إن التلفزيون بطبيعته وسيلة تُؤكد على كل العناصر التي توجد عموماً في التخيل: السيولة البصرية، مرونة الوقت والمجال (المساحة)، وتوليد الاقتناع (Make-Believe)... ونتج من المربين أو المنتجين جهد ضئيل لتطوير برامج لأعمار محدودة... وهذا دليل على أن هناك حاجة ماسة إلى المزيد من البحث لتطوير البرامج ولتوسط البالغين.

(136)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

مواقع التواصل الإجتماعي

(Social Media)

رموزها ووظائفها ومخاطرها

(137)

خلص تقرير بحثي بريطاني صدر في العام 2016، إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي تتفوق على التلفزيون كمصدر رئيسي للحصول على الأخبار بين فئة الشباب. وأشار إلى أن 28 في المئة من الشباب الذين تترواح أعمارهم من 18 إلى 24 عاماً يلجؤون إليها كمصدر رئيسي لمعرفة الأخبار مقارنة بنسبة 24 في المئة منهم يعتمدون على التلفزيون[1].

 أضاف التقرير الذي أعده معهد «رويترز لدراسة الصحافة»، وشمل 25 ألف شخص من 26 دولة، أن 51 في المئة من المستخدمين ممن لديهم  إمكانية الدخول إلى الإنترنت يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار، وأدى هذا الاتجاه الجديد، فضلاً عن زيادة استخدام الهواتف المحمولة في معرفة الأخبار، إلى تقويض دور النماذج التقليدية في هذا المجال.

ويذكر التقرير في مقدمته أن «موجة ثانية من الإضطرابات» تعصف بمؤسسات الأخبار في شتى أرجاء العالم، نتيجة «العواقب المحتملة الكبيرة التي ستطول الناشرين، وكذا مستقبل إنتاج الأخبار»، مشيراً إلى أن موقع «فايسبوك» ومواقع أخرى للتواصل الاجتماعي تخطت حيز كونها «مساحات لاكتشاف الأخبار» لتصبح مواقع للمستخدمين يستهلكون فيها أخبارهم. ورأى أن هذا الموقع هو الأكثر شيوعاً بين المستخدمين (44 في المئة ممن

(138)

شملتهم الدراسة) من حيث مشاهدة الأخبار وتبادلها والتعليق عليها يليه في المرتبة موقع «يوتيوب» بنسبة 19 في المئة، وموقع «تويتر» بنسبة 10 في المئة.

وتصل نسبة المستخدمين لموقع «أبل نيوز» 19 في المئة في الولايات المتحدة، و3 في المئة في بريطانيا، في حين تصل النسبة بين مستخدمي تطبيق «سناب شات» للرسائل إلى واحد في المئة فقط أو أقل من ذلك في معظم الدول.

ويشير التقرير إلى أن المستخدمين يفضلون الحصول على مادتهم الإخبارية التي تخضع لعمليات انتقاء بعمليات حسابية، ويقول 36 في المئة إنهم يحبون قراءة الأخبار المختارة على أساس القراءات السابقة، في حين قال 22 في المئة منهم إنهم يفضلون جدول أعمالهم الإخباري الذي يعتمد على قراءات الأصدقاء.

ويرغب 30 في المئة من المستخدمين أن تخضع عملية الاختيار لإشراف محررين صحافيين، كما يخشى كثيرون من أن تؤدي العمليات الحسابية إلى حدوث «فقاعات» إخبارية يرى فيها المستخدمون الأخبار من وجهات نظر مشابهة لتفكيرهم. في هذا الإطار، يقول نيك نيومان المشرف على التقرير : «يحب المستخدمون قراءة الأخبار المختارة بعمليات حسابية، لكنهم يخشون من أن يعني ذلك فقدانهم نقاطاً رئيسية أو وجهات نظر قوية.

ولاحظ التقرير زيادة استخدام الهواتف الذكية في معرفة الأخبار،

(139)

وسجلت السويد أعلى مستويات (69 في المئة) تليها كوريا (66 في المئة) وسويسرا (61 في المئة). كما أشار إلى أن المستخدمين يلاحظون العلامة التجارية الإخبارية الأصلية للمحتوى المقدم على مواقع التواصل الإجتماعي أقل من نصف الوقت، وهو أمر قد يثير قلق منصات الإعلام التقليدية.

1 - فايس بوك (Face Book):

«فايس بوك» في الاصطلاح عبارة عن كلمتين باللغة الإنكليزية: «فايس» وتعني الوجه، و«بوك» وتعني الكتاب، وبهذا تعني «كتاب الوجوه».

هو موقع تواصل اجتماعي مجاني يمكّن المستخدمين من التواصل مع الأصدقاء وإضافة أصدقاء جدد، وكذلك التحدث بسهولة عن طريق إرسال رسائل إليهم والتواصل معهم من خلال نشر صور وكتابة تعليقات، ونقل أفلام أو موسيقى من أي موقع على شبكة التواصل. كما يؤمّن المحادثات سواء كانت صوتية  أم فيديو صوتاً وصورة، هذا فضلاً عن الكثير من الخدمات المميزة التي تجعله شبكة التواصل الأفضل على الإطلاق.

إنطلق الموقع في 4 كانون الثاني (يناير) 2004، من خلال فكرة بسيطة جداً. فقد كان الطالب في جامعة «هارفارد»  مارك زوكربرغ يحضّر مشروع التخرج، ففكّر بإيجاد وسيلة تواصل بين طلبة الجامعة، ثم انضم إليه طلاب كليات جامعتي «بوسطن» و «إيفي ليج»، ثم أصبح متاحاً للعديد من الكليات في الولايات المتحدة

(140)

الأميركية وكندا، ويتواصل من خلالة الطلبة، وفي شهر حزيران (يونيو) العام نفسه انتقل مقره  إلى مدينة « بالو ألتو» بولاية كالفورنيا.

وقد أحدث الموقع ضجة كبيرة في العالم، وتسابق أصحاب الشركات الكبرى على شرائه بهدف الاستثمار فيه، وكان أول العروض التي حصل عليها مارك  من شركة «باي بال» بقيمة 500 ألف دولار أميركي، وجاء عرض آخر في عم 2005، والعرض الثاني من شركة «أكسيل بارتنرز»  بقيمة 12.7 مليون دولار، ثم قدمت له شركة «جرايلوك بارتنرز» عرضاً أكثر إغراء بلغت قيمته 27.5 مليون دولار، ولكن مارك رفض هذه العروض. 

وفي عام 2007 أعلنت شركة «مايكروسوفت» أنها اشترت ما يقدر ب 1.6 % من الموقع بمبلغ 240 مليون دولار، وفي العام نفسه أعلن الملياردير لي كاشينج من هونغ كونغ أنه قام باستثمار في فايس بوك بقيمة 60 مليون دولار.

ونظراً لفاعلية الموقع ومردوده المالي، صدر كتاب بعنوان «بليونير بالصدفة» للكاتب بن مزريتش، هاجم فيه زوكربرغ، وفي ما بعد تحول إلى فيلم بعنوان « ذا سوشال نتوورك»، عرض فيه مراحل انطلاق موقع «فايس بوك»، وكيف جمع منه مؤسسه ثروة تقدَّر بـ 6 مليارات دولار. وقد رشِّح الفيلم لثمان جوائز أوسكار.

خطوات تطوير الموقع:

ذكر الموقع الإلكتروني لصحيفة «إندبندنت» البريطانية، أن شركة «فايس بوك» بصدد إطلاق ميزة للدردشة السرية داخل تطبيق

(141)

«ماسنجر»، تتيح للمستخدمين التواصل بكل سهولة بعيدًا عن أعين أجهزة المخابرات، وهي الميزة التي تشبه خاصية التشفير الجديدة التي أضافتها الشركة لتطبيق «واتس آب».

وكشف الموقع الأميركي «إنجادجت»، أن «فايس بوك» تخطط لإحداث ثورة دفع كبيرة بتطبيق «ماسنجر»، حيث تنافس الشركة التكنولوجية الشهيرة، تطبيقات وخدمات الدفع التابعة لـ«أبل» و«غوغل» و«سامسونغ»، كي يتمكن المستخدمون من الدفع مقابل مشترياتهم في أي مكان باستخدام تطبيق «ماسنجر».

الميزة الأبرز المتوقع أن تعلنها الشركة خلال المؤتمر، هي إضافة «الذكاء الاصطناعي»، الذي سيكون بمثابة «موظفين في خدمة العملاء»، ليتمكن من الرد على أسئلة المستخدمين، ومساعدة الشركات في التسويق لمنتجاتها، على أن يتم تعيين الروبوتات الذكية، لتنبيه المستخدمين بشأن توفر منتج معين، أو توجيههم في أثناء عملية استرجاع المنتجات.

 

2 -»فايس بوك ماسنجر»:

يتميز«فايس بوك ماسنجر» بالانتشار الواسع النابع من انتشار الموقع ذاته، وهو يتيح إجراء محادثات وإرسال رسائل نصّية ليس فقط للأصدقاء بل لجهات الاتصال المخزنة في الهاتف المحمول، كما يوفّر أدوات للتحكم بالمحادثة وإرسال الرسائل.

(142)

ويعبر هذا التطبيق أحد أقوى المنافسين لتطبيق «واتس اب» الذي تملكه شركة «فايس بوك» أيضاً.

يقدّم البرنامج ميزة الدردشة الجماعية، فهو يقوم بجمع الأصدقاء معاً في محادثة، كما يسمح بعرض الرسائل في نافذة واحدة. ويمكن أيضاً إنشاء مجموعات للحديث مع العديد من الأصدقاء في وقت واحد، ويسمح  بإجراء مكالمات مجانية عبر الـ«واي فاي».

 ومن الميزات الإضافية لتطبيق«فايس بوك ماسنجر»:

-معرفة وقت عرض الأشخاص لرسائلك.

-إعادة توجيه رسائل أو صور إلى أشخاص غير موجودين في المحادثة.

- البحث عن الأشخاص والمجموعات حتى تتمكن من معاودة التواصل معهم بسرعة.

- تشغيل ميزة تحديد الموقع حتى يعرف الأشخاص الآخرون مكانك.

- معرفة الأشخاص الموجودين معك على الموقع.

- إنشاء اختصارات للوصول إلى أي محادثة من شاشتك الرئيسية.

- وقف تشغيل الإشعارات أثناء انشغالك بالعمل، أو أثناء الراحة والنوم.

(143)

الآثار النفسية:

حذرت دراسة جديدة قام بها فريق من الباحثين في جامعة «هيوستن» بولاية تكساس من أن مدمني استخدام موقع «فايس بوك» يمكن أن يصابوا بأضرار نفسية حادة. وأوضحت الدراسة التي نشرتها جريدة «جورنال أوف سوشال إند كلينيكال» أن هؤلاء المدمنين  يقارنون أوضاعهم الاجتماعية دائماً بالنسبة إلى غيرهم، وبالتالي يؤدي ذلك إلى زيادة خطر إصابتهم بالاكتئاب المزمن.

وقال ماي لي ستيرز  المؤلف الرئيسي للدراسة في الجامعة: «من المهم أن ندرك أن معظم الناس يميلون إلى التفاخر على موقع «فايس بوك»، لذلك فهم يصورون أنفسهم دائماً في أفضل الأحوال، ولا يعرضون سوى الجوانب الجيدة فقط في حياتهم، مخفين السيئة، ومع ذلك فنحن لا ندرك أن هذا يحدث، ونحن نحاول دائماً أن نقارن أنفسنا بالآخرين، بما حققوه وبما وصلوا إليه، وسنشعر لا إرادياً بأننا لا نعيش الحياة الطيبة التي يتمتع بها أصدقاؤنا»[1].

وقام فريق الدراسة بمراقبة 154 مستخدماً تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 42 عاماً لمدة أسبوعين، وفي نهايتهما لاحظ ظهور علامات اكتئاب عليهم، فضلاً عن انشغالهم بمستوى معين من المقارنة الاجتماعية.

وأوضح فريق البحث أنه على الرغم من حقيقة أن مستخدمي الموقع يمكن أيضاً أن يقارنوا أنفسهم بالأقل حظاً منهم، إلا أن

(144)

الاستخدام المنتظم  يهبط بمزاجهم العام، مما يولد حالة من تدني الاحترام للذات، ومع الوقت يشعرون بالأسوأ.

 

3 - تويتر(Twitter)  :

«تويتر» في اللغة تعني «المغرِّد»، وهي مستمدة من صوت العصفور الذي اتخذه مطلقو الموقع شعاراً له.     هذا الموقع يختص بمتابعة أخبار الشخصيّات، وكذلك تتبُّع الأصدقاء والمقرّبين، ويقوم على مبدأ التّغريدة أي كتابة نص ونشره على صفحتك الخاصّة وبحد أقصى 140 خانة؛ حتى يراه كل المتابعين لديك. وعندما نقول خانة؛ فنحن لا نعني عدد أحرُف، لأنّ المسافة بين الكلمات تعتبر خانة، والفاصلة خانة، والنّقطة خانة وهكذا. وما يجعل الموقع  مميّزاً أيضاً هو سهولة وسرعة نشر الأخبار والأفكار. وما يجعله  أفضل من غيره من شبكات التّواصل الاجتماعي؛ هو الإحترافية العالية حيث أنّ أغلب مستخدميه هم من المحترفين وذوي الإختصاص؛ بغض النّظر عن نوع الإحتراف أو التخصّص، فكلٌّ يجد من يريد لمتابعته ومعرفة أخباره.

ولاستخدام «تويتر» لا بدَّ من أن يكون لديك حساب، وإن لم يكن متوفراً لديك، فيمكن فتحه في غضون دقائق. وبعدها يمكن أن تغرِّد بما يجول في خاطرك. ويمكن في التّغريدة أن تذكر أسماء أصدقائك أو معارفك ممن تريد أن تشاركهم هذه، ويجب أن يكون الإسم كما هو موجوداً في حساب الشخص على «تويتر» مسبوقاً

(145)

بالرّمز «@»، حتى تصله  تغريدتك. وكذلك يمكن استخدام خاصيّة الرّسائل الخاصّة، في حال أردت أن ترسل للمُستَقْبِل رسالة لا يتم نشرها على حسابه.

 

4 - هاشتاغ: خاصية تويتر

الـ «هاشتاغ» هو مصطلح فرعي يتبع «تويتر» وهو خاصيّة أخرى يتميَّز بها «تويتر» عن غيره من شبكات التّواصل الإجتماعي، ورمزه «#». وهو رمز يستخدم للدّخول إلى مواضيع معيّنة يتم تداولها على الموقع، ونشر الأفكار الخاصّة بالشخص إلى الفئة المُستخدِمة لهذا الهاشتاغ. كما يمكن عمل هاشتاج جديد خاص بموضوع غير مُستخدَم ونشره، ويجري الموقع إحصائية لأكثر هاشتاغ تم استخدامه خلال فترة معيّنة؛ ويقوم بوضعه تحت مسمى «تريندينغ». أما الدردشة فهي غير موجودة في « تويتر»، كـ«فايس بوك» مثلاً، ولا يمكن إجراء حوارات خاصّة.

تأسس الموقع بصورته الحالية على يد الأميركي جاك دورسي وشريكيه إيفان ويليامز وكريستوفر بيز ستون. والبداية كانت من دورسي الذي كان في صغره مولعاً بخرائط المدن، إلا أن تركيزه على الجوانب التفاعلية في الإنسان آنذاك، كان مؤشراً على أنه سيكون وراء تأسيس إحدى كبرى شبكات التواصل الاجتماعي في العالم اليوم، وأكثرها شعبية.     

(146)

ولد دورسي في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1976، بولاية «ميسوري» الأميركية. وعام 1984 أحضر والده إلى المنزل أوّل جهاز حاسوب، فسرق اهتمامه كاملاً، وبدأ بتصميم الخرائط بنفسه عبر برامج المؤثرات، وتعلّم تقنيّات البرمجة ليتمكّن من تعيين مناطق وصول القطارات وانطلاقها على الخرائط. ولم يتوقّف عند هذا الحد، بل شغل نفسه بالاستماع إلى موجات الراديو المخصّصة لعربات الشرطة وسيّارات الإسعاف، وراقبها، كي يتمكّن من رسم طريقة حركتها في المدينة على خرائطه الخاصّة. 

بعد تنقل دورسي بين مجموعة من الوظائف سنة 2006، انتهى به الأمر أخيراً لدى شركة برمجيّات تحمل إسم «أوديو» في مدينة «سان فرانسيسكو»، واقترح  على مالك الشركة إيان ويليامز إطلاق خدمة يتمكّن من خلالها كلّ مشترك من كتابة جملة أو جملتين عن نفسه، عبر لوحة مفاتيح الهاتف الخلوي الخاص به، وسيتمكّن كلّ من يرغب في قراءة هذه الرسالة من الوصول إليها، إذ سيعلمه بوصولها نظام تنبيه، وهذه الجملة القصيرة كانت هي الحلقة المفقودة التي تمكّن دورسي من إيجادها. وبالفعل شجع  ويليامز فكرة دورسي وقام بتعيينه رئيساً لمجلس إدارة الشركة الجديدة التي حملت لاحقاً اسم «تويتر». وبعد مرور خمس سنوات على تأسيسها أضحت واحدةً من أكثر منصّات التواصل الاجتماعي شهرةً، بعدما وصل عدد المشتركين فيها إلى أكثر من ربع مليار مستخدم، وباتت الشركات العملاقة في مجال البرمجيّات أمثال «غوغل»

(147)

و«مايكروسوف» و«فايس بوك»، تتهافت على شرائها بمبالغ زادت على 8 مليارات دولار في ذلك الحين.

في نيسان / أبريل سنة 2007 أبصر «تويتر» النور في صورة شركة قائمة بذاتها، تحت رئاسة جاك دورسي، وذلك بعد الحصول على أموال من مستثمرين سمحت لهم بالتوسع وزيادة عدد العاملين، وأصبح إيفان المدير التنفيذي في عام 2008، ليترك المنصب في ربيع 2011، بينما صار جاك  رئيس مجلس الإدارة.

 

5 - واتس آب (WhatsApp):

هو تطبيق  تراسل فوري ومتعدد المنصات للهواتف الذكية. ويمكن بالإضافة إلى الرسائل الأساسية للمستخدمين، إرسال الصور، الرسائل الصوتية، الفيديو والوسائط. تأسس عام 2009 من قبل الأميركي بريان أكتون والأوكراني جان كوم (الرئيس التنفيذي أيضاً)، وكلاهما من الموظفين السابقين في موقع «ياهوو»!، ويقع مقرها في «سانتا كلارا» ـ كاليفورنيا.

يتنافس WhatsApp مع عدد من خدمات الرسائل الآسيوية (مثل LINE، KakaoTalk، وWeChatt)، وقد تم إرسال عشرة مليارات رسالة يومية من خلاله في آب 2012، كما زادت مليارين في نيسان 2012 ، وملياراً في تشرين الأول. وفي 13 حزيران 2013، أعلنت الشركة على «تويتر»  أنها سجلاتها اليومية الجديدة وصلت إلى 27 مليار رسالة.

(148)

وقد قامت شركة «فايس بوك» بشراء «واتس آب» في 19 شباط من العام 2014 بمبلغ 19 مليار دولار أميركي. 

مخاطر أمنية:

أكد خبراء في أمن المعلومات ومحققون جنائيون في جرائم الكمبيوتر، الخطورة التي تحيط بمستخدمي تطبيق  «واتس آب» بعدما  استحوذت عليه «فايس بوك»، وهي  تتمثل في مسألتين:

الأولى: متعلقة بسياسية الخصوصية التي ستقوم إدارة «فايس بوك» بتعديلها لتوافق سياسته مثلماً حصل بعد استحواذها على «إنستغرام»، إضافة إلى أن المعلومات والبيانات الحالية ستنتقل إليها، وهي بحسب سياسة الخصوصية الحالية لـ«واتس آب» تجمع أيضاً العديد من البيانات بما يعرف بـ Metadataa .

الثانية: تتعلق بتعاون «فايس بوك» مع الأجهزة الاستخباراتية خصوصاً وكالة الأمن القومي الأميركية ومكاتب الاتصالات الحكومية في وكالة الاستخبارات البريطانية،  والتساهل  مع طلبات الحكومات الأخرى، مثل قيامه بالبحث في الرسائل الخاصة بالأعضاء ثم تبليغ السلطات عن مخالفاتهم تحت ذريعة استغلال الأطفال وغسيل الأموال وغيرها.

وأضاف الخبراء أن سياسة الخصوصية الحالية الخاصة بتطبيق «واتس آب» تنص على أن أي تعديل عليها سيتم حتى من دون إبلاغ المستخدمين، الأمر الذي أشاروا إليه على أنه يثير قلق العديد من المختصين، لما يميزها من مقدرتها على التجسس على معلوماتنا

(149)

الشخصية بكل سهولة، والغريب في ذلك أيضاً أننا نقوم بذلك بمحض إرادتنا أو بسبب عادات الجهل التكنولوجية التي تعودنا عليها .

مؤخراً تمت إضافة تشفير E2EE فى الإصدارات الحديثة من البرنامج، حيث يقوم المستخدم بتبادل الرسائل مع شخص آخر من دون أن يستطيع أحد قراءة الرسائل لكونها مشفرة  .

محاذير:  

ومن محاذير استخدام تطبيق «واتس آب»:

1. عند تنزيل التطبيق يتمكن من تحديد موقعك الجغرافي، وهذا أمر خطير جداً خصوصاً إن لم نكن نعرف الجهة المسؤولة عن تحديد المكان!

2. تصبح له القدرة على الدخول إلى رسائل جوالك، وأخذ نسخة منها، وربما استخدام المعلومات المتضمنة ضدك!

3. يستطيع الدخول إلى جهات الاتصال الخاصة بك، وبهذا يعرف عنك أكثر مما يعرف الكثيرون.

4. يدخل إلى ألبوم صورك .

5. بمجرد تنزيلك لهذه التطبيقات فإنها تستطيع استغلال كاميرا جوالك وكذا المايكروفون!

6. التطبيق قادرعلى أخذ معلومات عن جهازك وعن الشبكة المتصل بها. 

(150)

وانطلاقاً من هذه المحاذير ثمة احتمال لوجود ثغرات للتجسس على المستخدم من خلال تسريب الصور أو الفيديوهات أو المعلومات المتبادلة بين الأطراف.

 

6-سناب شات(Snapchat) 

وهي عبارة رمزية تعني اللقطة المصورة. (snap) سناب، كما تعني(chat) شات محادثة، وبهذا يعني المطلح: محادثة بالصور.

يعتبر تطبيق «سناب شات» من أهم وأبرز التطبيقات الحديثة، حيث انتشر بين الشباب ومستخدمي الهواتف الذكية وأصبح له شعبية كبيرة، خصوصاً بعد الإعلان عن ميزة رسائل الفيديو لأجهزة «آيفون»، التي تجعل الشخص قادراً على تسجيل مقطع فيديو مدته 10 ثوان. كما تم إطلاق تلك الميزة في الأجهزة التي تعمل بنظام «أندرويد».  استخدام هذا التطبيق على النسخ وأشارت بعض الأبحاث إلى أن عدد مستخدمي  «سناب شات» يصل إلى 4000 مليون صورة يومياً.

ولكن التحديث الجديد على نظام «أي أو إس» يتميز بإعادة الرسالة وإمكانية مشاهدتها مرة أخرى، حيث أصبح هذا التطبيق يمكّن مستخدميه على أجهزة أبل الذكية من مشاهدة رسالة واحدة فقط يومياً من الرسائل الواردة مرة أخرى، وبعد ذلك يقوم خادم «سناب شات» بمسحها، كما يتصف التطبيق بميزة المرشحات

(151)

الذكية التي تجعل المستخدم قادراً على وضع درجة الحرارة الحالية على الصور التي يقوم بإرسالها لأصدقائه. ويتميز التطبيق بالمرشحات البصرية التي تضيف مؤثرات على الصور، بالإضافة إلى إمكانية كتابة تعليق على الصور المرسلة، وكذلك إمكانية تفعيل الفلاش الضوئي خصوصاً في الصور التي تم التقاطها من خلال الكاميرا الأمامية، كما يتميز بإمكانية تحديد وقت معين لأصدقائك لمشاهدة الصورة التي قمت بإرسالها، وبعد انتهاء هذا الوقت يتم مسح تلك الصورة وحذفها بشكل نهائي.

سلبيات «سناب شات»:

من سلبيات «سناب شات» أنه من أكثر التطبيقات المعرضة للقرصنة، حيث يقوم القراصنة باستخدام ميزة البحث عن الأصدقاء الموجودة في التطبيق، ويحصلون على معلومات عنهم من قاعدة البيانات، وبالتالي يستطيعون الوصول إلى اسم حساب المستخدم والمشاركات التي قام بها، والاسم الذي يظهر به لأصدقائه. كما يمكنهم استخدام برنامج لتوليد أرقام هواتف عشوائية، ويحصلون على كل المعلومات عن الحسابات الموجودة والمطابقة لتلك الأرقام، كذلك يقومون بإنشاء حسابات على خدمة التراسل الفوري بشكل تلقائي، وقد تستخدم تلك الحسابات لأهداف تسويقية أو لإرسال بعض الرسائل المزعجة لمستخدمي التطبيق، أو تعطيل بعض الحسابات، مما جعل الكثيرين يشعرون بالقلق خصوصاً بعدما قام عدد من قراصنة الإنترنت بتحميل حسابات 4.6 شخص كانوا قد أنشأوا حسابات شخصية لهم على التطبيق من خلال الهواتف

(152)

الذكية، وحصلوا على كل بياناتهم الشخصية، وقاموا بنشرها على موقع يسمى «سناب شات دي بي». وقد أكد مطورو التطبيق أنهم يعملون على التخلص من تلك الثغرات واتخاذ كل التدابير لحماية حسابات الأشخاص، وتقليل عمليات القرصنة، واستخدام الخدمة بشكل سيئ. ومن السلبيات أيضاً القدرة على حذف الرسائل الأمر الذي يدفع إلى الغش في الامتحانات، وكذلك إرسال الرسائل أو الصور التي تندرج تحت ما يسمَّى التحرش.

حكاية الإنطلاق

بدأت فكرة «سناب شات» بجملة نطق بها ريجي براون أمام صديقه إيفان شبيغل  من جامعة   «ستانفورد»، حيث قال إنه يتمنى أن تختفي الصور التي يقوم بإرسالها إلى صديقته، فهبّ الأخير من مكانه وقال إن هذه الجملة فكرة تساوي مليون دولار، لكنه كان مُخطئاً تماماً لأن الفكرة تُقدر اليوم بـ 19 مليار دولار أميركي.

لقد تنبّه إيفان إلى قوّة فكرة ريجي ورغب بتحويلها إلى تطبيق لتبادل الصور التي تختفي بعد فترة من الزمن، وبسبب نقص خبرتهما التقنية استعانا بـصديقهما بوبي مورفي الذي قام ببرمجة التطبيق بشكل كامل. وخلال عام 2011 ، قام الثلاثة بالعمل على التطبيق الذي حمل في ذلك الوقت اسم «بيكتابو»، حيث قام إيفان برسم شعار التطبيق الذي يُستخدم حتى يومنا هذا، وشغل في الوقت نفسه منصب الرئيس التنفيذي، وشغل بوبي منصب المدير المسؤول عن الجانب التقني في الشركة، فيما شغل ريجي منصب مدير التسويق.

(153)

لكن الخلاف الذي حصل بين إيفان وريجي حول ترتيب ظهور الأسماء في براءة الاختراع، بالإضافة إلى مُطالبة ريجي بالحصول على حصّة أكبر تصل إلى 30 % لأنه صاحب الفكرة، أدى إلى مشاكل كثيرة وصلت إلى حد طرده من الشركة، وقام إيفان وبوبي  بتغيير اسم التطبيق إلى «سناب شات»، وبعد ستة أشهر تقريباً، وتحديداً في ربيع عام 2012، نجح التطبيق في   الوصول إلى 100 ألف مستخدم، إلا أنه في المقابل بدأت التحديات تأتي من جديد وتحديدًا من جهة الخوادم التي بدأت كلفتها الشهرية بالارتفاع إلى حد يفوق ميزانية فريق العمل. وهذا ما دفع شركة «لايغسبيد» إلى تمويل مؤسسي التطبيق بمبلغ 485 ألف دولار للتخلص من المشكلات التي تعترضهم، وفور تسلمه المبلغ، قرر إيفان الخروج من الجامعة للتفرّغ بشكل كامل للعمل على التطبيق، وإطلاق نسخة لنظام «أندرويد» مع نهاية العام، حيث عمل التطبيق لمدة سنة تقريبًا على نظام «آي أو إس» فقط.

عام 2013، كان عام السعد على الشركة، حيث وصل عدد المشارَكات اليومية إلى أكثر من 60 مليون مشارَكة، وبالتالي ارتفعت قيمة التطبيق إلى 13 مليون دولار تقريباً، وهنا ظهر ريجي إلى الواجهة من جديد، كيف لا وقد وصلت قيمة فكرته إلى 13 مليون دولار، فرفع دعوى قضائية مطالباً بحقوق الملكية الفكرية في تطبيق «سناب شات». لكن فريق عمل التطبيق لم يكترث  لهذه المشاكل وتابع مسيرة النجاح في الوصول إلى 150 مليون مشاركة يوميًا في صيف عام 2013،

(154)

وارتفعت بذلك قيمة التطبيق إلى 800 مليون دولار تقريبًا، وحصل على تمويل بقيمة 80 مليون دولار.

من جديد، عاد ريجي إلى الواجهة، وبدأ بنشر مُحادثات بينه وبين إيفان تمت بالبريد الإلكتروني أو الرسائل القصيرة لإثبات ملكيته لفكرة التطبيق، وبالتالي الحصول على تعويض مادي. وبما أن إيفان وبوبي لم يكترثا بل تركا القضية للمحامين، وصبَّا كل اهتمامهما على التطبيق الذي أثار حفيظة مؤسس موقع « فايس بوك» مارك زوكربرغ الذي عرض دفع مبلغ 3 مليارات دولار للاستحواذ عليه، إلا أن إيفان رفض المبلغ فوراً لأنه كان يعلم ما الذي ينتظر التطبيق في المستقبل.

خلال هذه الفترة، أضاف فريق عمل «سناب شات» ميزات جديدة لمنافسة بعض التطبيقات الأخرى مثل «إنستغرام» الذي قدّم  ميّزة الرسائل المُباشرة فلاقت نجاحاً كبيراً. ولم يكن عام 2014 كسابقه أبدًا، فالتطبيق عانى من مشاكل تتعلق بالخصوصية والأمان، فضلاً عن دعاوى قضائية تتهمه بانتهاك اتفاقية الاستخدام، إلا أنه ومن جديد تابع فريق العمل مهمته في تقديم ميزات جديدة معتبراً أن هذه المشكلات تحل سواء بالمال أم بالقضاء. وبالفعل، مع نهاية ذلك العام، وصلت الدعوى القضائية بين ريجي ومالكي «سناب شات» إلى خواتيمها، حيث نشرت الشركة تدوينة رسمية ذكرت فيها أن ريجي هو صاحب الفكرة وتشكره على مساهماته في التطبيق وتحويله إلى فكرة على أرض الواقع.

(155)

7 -  يوتيوب ( YouTub):

يوتيوب هو موقع ويب يسمح لمستخدميه برفع التسجيلات مجاناً ومشاهدتها عبر البث الحي(بدل التنزيل) ومشاركتها والتعليق عليها وغير ذلك. أسسه في 14 فبراير(شباط) سنة 2005 ثلاثة موظفين سابقين من شركة باي بال هم: تشاد هيرلي وستيف تشين وجاود كريم، في مدينة سان برونو، سان ماتيو، كاليفورنيا، ويستخدم تقنية برنامج «أدوبي فلاش» لعرض المقاطع المتحركة. ومحتوى الموقع يتنوع بين مقاطع الأفلام، والتلفاز، والموسيقى، والفيديو المنتج من قبل الهواة، وغيرها. وهو حالياً مزود بـ67 موظفاً. وفي تشرين الأول 2006 أعلنت شركة Google التوصل إلى اتفاقية لشراء الموقع مقابل 1.65 مليار دولار أميركي، أي ما يعادل 1.31 مليار يورو. وقد اختارت مجلة «تايم» الأميركية موقع يوتيوب  كشخصية هامة عام 2006 لدورهِ في إعطاء الفرصة لزواره في إنتاج المواد التي يعرضونها فيه.

 

8 - البريد الإلكتروني (EMAIL ):

البريد الإلكتروني «EMAIL» هو من أشهر الخدمات التي تقدمها الشبكة المعلوماتية في الوقت الحالي، إخترع عام1972 من طريق رايد كومنسون الذي تمكن من إرسال أول رسالة إلكترونية. واليوم، وبعد مرور حوالي 45 سنة، أصبح  ضرورة اتصالية حقيقية، ومن مميزاته إمكانية إرسال الرسائل مرفقة بصور أو وثائق...

(156)

بالإضافة إلى توفير العديد من المواقع والخدمات بالمجان، وهي وسيلة سهلة وبسيطة وفي متناول الجميع.

 

9- مواقع متنوعة:

تزخر شبكة الإنترت بالكثير من المواقع الإلكترونية التي تفيد في أمور التواصل والعمل والتسلية وغيرها من الأمور، وفي ما يلي جولة على عدد منها:

Pinterest :

يسمح موقع (Pinterest)  لمستخدميه بتحديد صفحة أو موقع معين وتعليقه على لائحتهم. وهو يستخدم  للتخزين والجمع والتبادل. والعناصر التي تُحفظ، يُطلق عليها اسم «بينز»، أي دبابيس. كما يسمح بمتابعة اهتمامات الأصدقاء وأفراد العائلة. 

- :Google plus       

تملك شركة «غوغل» تطبيق  (Google plus)الذي يتيح لمستخدميه إنشاء صفحة خاصة بهم تحتوي على صورهم، ومعلومات شخصية عنهم، كالسيرة الذاتية. كما يسمح لهم بتبادل الصور مع الأصدقاء أيضًا. وهو يضمُّ زر «بلاس1» مشابهاً لزر «لايك» في موقع «فايس بوك».

 - :Linkedin

أُنشئ موقع (Linkedin) سنة 2003،  وهو مزيجٍ بين  «فايس

(157)

بوك» و«غوغل بلاس»، لكن بدلاً من إضافة الأصدقاء والعائلة ونشر صور الرحلات، سيكون للتواصل مع الشركات وزملاء وأرباب العمل.

 يعمل الموقع على مستوى الفرد كسيرةٍ ذاتية إلكترونية، حيث يضيف  معلوماتٍ عن دراساته وشهاداته والخبرات التي اكتسبها. كما يتيح  إضافة صورةٍ شخصية، معلومات التواصل، الأوراق البحثية، الهوايات وأشياء أخرى، ليتسنّى للموظّفين الاطّلاع عليها واختيار ما يناسب الوظائف الشاغرة بشكلٍ دقيق. كما يؤمّن  لأرباب العمل بحثاً واسعاً ضمن السّير المهنيّة للأشخاص.

ويعطي الموقع للشركات منصّة لتقديم معلوماتٍ عن الشركة للمهتمين، وعرض الوظائف المتوفرة، كما يعمل كمنصّة أخبار للموظفين بالشركة. كذلك يمكن أن يعمل كصفحةٍ شخصية للأخبار الشخصية المهمة، فمثلاً من الممكن لربّ العمل أن ينشر أخبار ومناسبات الشركة على صفحته، ويمكن للموظفين رؤيتها على شكل newsfeed بدلاً من إرسالها إلى بريدهم الإلكتروني.

 :tumblr -   

إبتكر ديفيد كارب موقع (tumblr) «تمبلر» عام 2006. وهو يمكِّن مستخدميه من نشر ما يريدون من صور وفيديوات ونصوص على شكل مدوّنة قصيرة. كما يمكّنهم من تبادل الروابط مع بقية المستخدمين. ورمز الهاشتاغ (#) هو الطريقة المثلى التي تتيح للمتتبعين إيجاد ما نشره المستخدم.

(158)

  - VK:        

موقع روسي يُستخدم في أوروبا أيضًا. وعلى الرغم من أنّه متوافر بلغات عدة، إلّا أنّ اللغة الروسية هي الأكثر تداولاً فيه، وهو يستخدم بشكلٍ أساسي لتبادل الرسائل، الصور، الفيديوات، النصوص، الخرائط، الملفات... كما يمكن المستخدمين من نشر أخبار ومقالات من المجلات، وإبداء إعجابهم بها.

-   :flickr  

     هذا الموقع  استحوذت عليه «ياهوو» عام 2005. وهو يقدم الموقع ثلاثة أنواع من الحسابات: الأوّل مجاني مع مساحة محدّدة للتخزين، الثاني مجاني وبالمساحة نفسها لكن من دون الإعلانات، الثالث يقدّم ضعف المساحة ويسمح بنشر الرسائل والصور والفيديوهات. 

 - :Vine     

تأسس الموقع في حزيران من العام 2012، ومنذ ذلك الحين يسمح لمستخدميه بتعديل وتسجيل وتحميل أفلام ترواح مدتها من 5 إلى 6 ثوانٍ. ويمكن المستخدمين من متابعة بعضهم بعضاً، وإعادة نشر ما نشره الآخرين. كذلك نشر الفيديو على كلٍ من «تويتر» و«فايس بوك» في الوقت نفسه.

:pennystocks-

إذا حاولت الدخول إلى هذا الموقع ستجد أي حركة تحصل

(159)

الآن على أشهر المواقع، لأنه عبارة عن منصة لمشاهدة تزايد نشاط المستخدمين على أشهر المواقع ، من عدد المشتركين والمشاهدات واللايكات...إلخ.

:map.ipviking-

 يعتبر من أفضل المواقع التي يمكنك عبرها مشاهدة الهجمات الإلكترونية التي تحدث الآن بشكل مباشر عبر الإنترنت، حيث يعطيك الموقع معلومات عن الهجمات وخريطة تفاعلية لأهم الدول التي تتعرض لهذه الهجمات،  حيث تشاهد بشكل مباشر أن الولايات المتحدة الأمريكية أكثر تعرضاً لها .

:apowersoft-

  قد تحتاج إلى تسجيل صوتك «أون لاين» بدون استعمال أي برنامج، بالتالي يمكن استعمال هذا الموقع الذي يسمح بتسجيل الصوت بجودة عالية، وما يحتاجه منك فقط أن تتوفر على java مثبتة على حاسوبك.

:mandific- 

 هذا الموقع يسمح لك بإنشاء أشكال مختلفة بالاعتماد على اسمك أو على كلمات تقوم بإدخالها بنفسك، ويوفر بعد ذلك تغيير اللون وحجم الأشكال ..إلخ ، وحين تضغط على done سيطلب منك الموقع نشرها على فايس بوك أو تويتر، لكن يمكن استعمال بعض البرامج لتصوير الشكل وحفظه على حاسوبك .

(160)

 :ruzzit-
     هذا الموقع يمكّنك  من معرفة الفيديوهات أو الصور ...إلخ الأكثر اهتماماً من قبل المسخدمين حول العالم، سواء كان ذلك على يوتيوب أم على  فايس بوك وتويتر ومواقع أخرى عديدة.

:dashlane- 

هذا الموقع يمكّنك من فحص بريدك الإلكتروني للتأكد عن مستوى حمايته والمعلومات المتوفرة داخل الرسائل. فبمجرد الدخول إلى الموقع تضغط على  Scan My inbox ، ثم تقوم بتسجيل الدخول إلى أي بريد إلكتروني تريد فحصه  .

:movbucket-

 هذا الموقع يوفر لك أداة فعالة، حيث يكفي أن تقوم بنسخ رابط التحميل من أي موقع أفلام التورنت، ثم وضعها في الأداة  والضغط على Stream it ، وهكذا سيبدأ في تشغيل الفيلم بدون أن تقوم بتحميله.

(161)
(162)

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

الميديا والسياسة

(163)

الميديا في خدمة المصالح السياسية 

لا شك بأن الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام في شؤون السياسة المعاصرة يدفع ـ كما يقول المفكر الأميركي نعوم تشومسكي ـ  إلى طرح تساؤلات حول ماهية العالم والمجتمع الذي نرغب في العيش به، وعلى وجه الخصوص في أي صورة من الديمقراطية نريد لهذا المجتمع أن يكون ديمقراطياً[1].

يطرح تشومسكي مفهومين أو تعريفين مختلفين للديمقراطية. المفهوم الأول يعتبر أن المجتمع الديمقراطي هو المجتمع الذي يملك فيه العامة (الجمهور) الوسائل اللازمة للمشاركة الفعالة في إدارة شؤونهم، وأن تكون وسائل الإعلام منفتحة وحرة. إذا بحثت عن المعنى اللغوي لكلمة الديموقراطية في القاموس، فستجد ذات التعريف ذاته. أما المفهوم الآخر للديموقراطية فهو أن يمنع العامة من إدارة شؤونهم وكذلك من إدارة وسائل الإعلام التي يجب أن تظل تحت السيطرة المتشددة».

وقد يبدو هذا مفهوماً مستهجناً أو شاذّاً للديموقراطية حسب، ولكن من المهم بمكان فهم أن ذلك هو المفهوم الحاكم، وفي واقع الأمر هو ليس فقط المفهوم المعمول به فعلياً لفترات طويلة ولكنه أيضاً له أساس من الناحية النظري. ولكني سأقتصر بالحديث عن

(164)

الفترة الحديثة، وسأوضح كيف تطورت فكرة الديموقراطية وكيف ولماذا نقدم مشكلة وسائل الإعلام والتضليل المعلوماتي ضمن هذا السياق؟! لنبدأ أولاً بالإشارة إلى أول عملية دعائية حكومية في العصر الحديث، حيث كانت أثناء إدارة الرئيس وودرو ويلسون الذي انتخب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية في عام 1916، وفق برنامج انتخابي بعنوان «سلام بدون نصر»، وكان ذلك في منتصف الحرب العالمية الأولى. في تلك الأثناء كان المواطنون مسالمين إلى أقصى الدرجات، ولم يروا سبباً للانخراط والتورط في حرب أوروبية بالأساس، بينما كان على إدارة ويلسون التزامات تجاه الحرب، ومن ثم كان عليها فعل شيء ما حيال هذا الأمر، فقامت الإدارة بإنشاء لجنة للدعاية الحكومية أطلق عليها (لجنة كربل) وقد نجحت هذه اللجنة خلال ستة أشهر في تحويل المواطنين المسالمين الى مواطنين تتملكهم الهستيريا والتعطش للحرب، والرغبة في تدمير كل ما هو ألماني، وخوض حرب، وإنقاذ العالم!.

لقد كان هذا الأمر بمثابة إنجاز هائل ـ كما يضيف تشومسكي ـ  وقد قاد بدوره لإنجاز آخر، ذلك أنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها، تم توظيف ذات التكتيك لإثارة هيستيريا ضد الرعب الشيوعي، كما كان يطلق عليه، وقد نجحت الى حد كبير في تدمير الاتحادات العمالية والقضاء على بعض المشكلات الخطيرة، مثل حرية الصحافة وحرية الفكر السياسي، وكان هناك تأييد قوي من قبل وسائل الإعلام، وكذلك من قبل مؤسسة رجال الأعمال التي

(165)

نظمت بل وشجعت جلّ هذا العمل، وكان بصفة عامة نجاحاً عظيماً[1].

- نظريات التحشيد السياسي

تشدد نظريات التحشيد السياسي على التأثير الإيجابي لوسائل الإعلام في المحافظة على المشاركة الديمقراطية وتشجيعها. يرى أنصارها ضرورة التمييز بعناية بين الآثار السلبية والايجابية لمختلف وسائل الإعلام، للرسائل والمشاهدين. فعلى سبيل المثال تذهب بيبا نوريس Pippa Nourris إلى أن المستهلكين المنتظمين لأخبار التلفزة، والذين يعتادون قراءة الصحافة السياسية، وبغض النظر عن مدى التغطية التي تقدمها تلك الرسائل، هم أكثر ميلاً إلى الاهتمام والاطلاع والانخراط في الحياة السياسية. وعلى العكس من ذلك يعد المواطنون الذي  يتعرضون لمحتويات الإثارة التي تتضمنها وسائل الإعلام أكثر ميلاً إلى اكتساب سلوكيات العزوف والسخرية من الأحداث السياسية.

وفي ما يتعلق بوسائل الاتصال الحديثة لابد من الإشارة إلى أنها تملك دوراً مهماً في الرفع من قدرات المنظمات والهيئات وبصفة عامة النشطاء، خصوصاً أولئك الذين تجاوزوا عتبة الهوة الرقمية أو الأمية الرقمية. فوسائل الاتصال الجديدة، ومن ضمنها تكنولوجيا الشبكات في الإنترنت تعطي الأفراد والمنظمات فرصة القيام بأنشطة متعددة كإنشاء المدونات، أو الانخراط في الشبكات

(166)

الاجتماعية، وتتيح لمستخدميها إمكانية تخفيض تكلفة نشر الأخبار والأعمال مبوّئة «المواطنين الصحفيين» مركزاً مهماً في مواجهة مؤسسات الإعلام التقليدية القوية.

وفي المجال المدني، تعطي الشبكات الاجتماعية للمنظمات الفرصة للتعبئة السريعة للأفراد حول قضايا محددة وتجاوز إكراهات المجال، ما دام  مدى تلك التعبئة يمكن أن يتجاوز حدود الدولة الواحدة ويتوجه إلى أفراد منتسبين إلى فضاءات وطنية مختلفة.

في ما يتعلق بدور التصويت الإلكتروني في تحفيز في الانتخابات، ورغم الحوافز التي يطرحها بالنسبة إلى الناخب، يصعب تقديم جواب ينطبق على جميع تجارب استخدامه في الانتخابات سواء كانت محلية أم جِهوية أو وطنية، وعلى جميع الدول (ديمقراطية، غير ديمقراطية، في مراحل الانتقال ..الخ)، وفي جميع الظرفيات (فترات الرخاء الاقتصادي، الركود، الأزمات ...الخ)، خصوصاً أن المشاركة الانتخابية ذاتها تتأثر بمتغيرات معقدة، عديدة ومتداخلة. ولذلك نقترح أن يكون المدخل لملامسة علاقة التصويت الإلكتروني بالمشاركة يبدأ باستعراض بعض التجارب الانتخابية التي اعتمدته:

لقد أظهرت الدراسة التي قامت بها بيبا نوريس للانتخابات المحلية التي جرت في شهر أيار عام 2003 في إنكلترا انعدام وجود أرضية صلبة تسمح بدعم الاعتقاد بأن التصويت عن بعد الإلكتروني من مكان العمل أو المنزل يمكن أن يحسن نسبة المشاركة.  ففي هذه

(167)

المحطة الانتخابية اعتمدت انكلترا 59 دائرة انتخابية تجريبية متاحة لـ 6.4 مليون مواطن (حوالي 14 بالمائة من الناخبين الانكليز) سمح فيها للمواطنين بالإدلاء بأصواتهم باستعمال الانترنت من المنزل أو المواقع العامة، عن  طريق التلفزيون الرقمي التفاعلي، بواسطة رسائل الهواتف المحمولة وزر الهاتف، في طبقت بقية الدوائر الانتخابية تطبيق التصويت العادي في مراكز الاقتراع المحلية.

وخلصت الدراسة إلى أن نتائج الانتخابات واستطلاعات الرأي التي أجريت عقبها تؤكد أن استعمال جميع تسهيلات التصويت البريدية أدت إلى نسبة مشاركة بلغت 50 بالمائة مقابل 35 بالمائة في دوائر انتخابية مشابهة لم تطبق فيها تلك التسهيلات. أما بالنسبة إلى استخدام التصويت الإلكتروني فقد بلغت نسبة ذلك الاستخدام  8،8 بالمائة من المصوتين في 59 دائرة انتخابية، ولم تسجل إلا ثلاث دوائر انتخابية منها ارتفاعاً في المشاركة الانتخابية (فال غويال (Vale Royal) بنسبة 12.8 بالمائة، شروسبوي واتشام (Shrewsbury & Atcham) نسبة 11.3 بالمائة، وسومرست الجنوبية (South Somerset) بنسبة 8،9 بالمائة)، أما بقية الدوائر الانتخابية فقد سجلت انخفاضاً في نسبة المشاركة. وهكذا، فرغم أن التصويت الإلكتروني يساهم في توسيع الخيارات المفتوحة أمام المواطنين في مجال التصويت فهو لم يكن فاعلاً في تحسين نسب المشاركة إذا ما قورن  باعتماد وسائل التصويت عن بعد البريدي[1] .

(168)

من الميديولوجيا إلى الإيديولوجيا:

إن من أهم التحولات التي طرأت على الصراعات بين الدول وداخل المجتمعات العالمية، هو قدرة الميديا على صناعة الحقائق السياسية. لكن الموضوع الأهم هو أن الميديا باتت تملك طريقة استعمال الإيديولوجيا لتحقيق التغيير من دون خسائر تذكر، بل هي تستغل أي قتيل أو شهيد أو حدث لتصنع منه رمزية تؤجج من خلاله المشاعر والوجدانيات فتحقق الفكر بالعاطفة وتنجز السياسة بالصور، وتحقق الثورة من خلال دعوة من الفايسبوك أو غيره من مواقع التواصل الاجتماعي[1].

في عصر الميديا اليوم، نحن نعيش حرب المعلومات الإعلامية Neocortical Warfare بعدما  وصل حكام الدول إلى استنتاج أن الحروب العسكرية غير كافية وحدها لبسط سيطرتها ونفوذها، فبدأت باستخدام نسق مفاهيمي للإعلام يؤثر في مشاعر وانفعالات المشاهد وتوجه عقله من خلال جملة من النشاطات الإعلامية والمعلوماتية لترسيخ أو إلغاء بعض الأفكار عنده. يرتكز هذا النسق المفاهيمي للحروب الإعلامية المعلوماتية على نظرية الموجة الثالثة Third wave التي جاء بها الباحث الأميركي ألفين توفلر (Alvin Toffler)  والتي تفترض مرور العالم بثلاث موجات من الثورات التقنية، جاعلة تقنية المعلومات الموجة الثالثة التي تعد البؤرة الحيوية التي ترتكز فيها جل التغييرات الحاسمة، التي نجح الإنسان في تحقيقها ضمن سجله العلمي والتقني على الأرض.

(169)

لقد أحدثت تقنية المعلومات وأدواتها الرقمية تغييراً جوهرياً في طبيعة الآليات المعرفية والإعلامية التي يمارسها الانسان المعاصر، بعدما  منحته فرصة جمع كم هائل من البيانات في بيئة رقمية توفر له فرصة تحليلها إلى عناصرها الأولية، وإعادة تشكيل مادتها بالطريقة التي يريد، مع توافر فرصة زج الوسائط المتعددة المفعمة بالمؤثرات السمعية والبصرية.

نشأت هذه المسائل داخل وزارة الدفاع الأميركية في عام 1995 تحديداً، وبدأ الاهتمام بالتأثير في الجزء الأيمن من الدماغ حيث توجد القشرة المتكونة حديثاً Neocortical التي يمكن تشبيهها بمنظومة إعلامية تستقبل المؤثرات الخارجية، وتساهم في إحداث تأثيرات عميقة في العقد العصبونية Neural Nodes للعقل البشري.

لكن هذه الفرضيات العلمية ما لبثت أن تطورت وتحوّلت إلى نظريات تؤكد وجود تأثيرات حقيقية على المشاهد، مثل نظرية جون بويد(John Boyd)  الذي أكد وجود حلقة تأثيرية تتألف من أربعة عناصر يرمز إليها بالرمز OODA ، والتي تلخص أربع آليات يمارسها الذهن البشري هي:

- يراقب Observe ب- يوجه Orient ج- يقرر Decide د- يفعل Act . وتعمل الميديا خلال حروبها الإعلامية على إحداث خلل في حلقة OODA بهدف إحداث تأخير في نمطها الدوري، وبث الخطاب الإعلامي الذي يحتوي على المفردات المراد إيصالها واستقبالها والاستجابة إليها في الوقت المناسب. ولعبت تقنيات

(170)

المعلومات الرقمية وتقنيات البث المرئي ومواقع الإنترنت.. دوراً أساسياً في خلق مفاهيم جديدة في العالم تصب في مصلحة سيد الميديا والمسيطر عليها.

- خدمات الميديولوجيا للثورة: لا بد من الإشارة إلى أن الثورة ليست شيئاً منفصلاً عن السياسة، بل على العكس تماماً هي الزمن الحار في التاريخ السياسي، وهي لحظة فاصلة في مسار مجتمع ما، وحدث تاريخي يحدث تغيرات سياسية واجتماعية عميقة. إنها لحظة سياسية مميزة أرادها الثوار لقلب الواقع القائم، كونه لم يعد محتملاً أو يستحيل استمراره. ولكل ثورة وسائطها الميديولوجية، تختلف باختلاف الزمان والعصر الميديولوجي الذي انتمت إليه[1].

نظرتان متناقضتان للتلفزة الفضائية    

تنشغل الأوساط الثقافية والأكاديمية في أوروبا بدراسة الآثار الاجتماعية والسياسية المرتبة على التلفزيون كجهاز كوني لانتشار الميديا[2].

وقد تناول علماء الاجتماع بعض هذه الآثار على الحياة الديمقراطية في المجتمعات العالمية وخصوصاً في الغرب. في هذا الإطار توجد أطروحتان:

تقول الأطروحة بأن التلفزيون ديمقراطي «لأن كل الناس

(171)

تشاهده، وكل الناس تتحدث عنه». فالمساواة في الاستعمال «ضرورية لممارسة الديمقراطية». إن التلفزيون يتدارك تفتت الروابط الاجتماعية الذي بدأ مع الثورة الصناعية أي قبل اختراعه. فهذه القرية البديلة، باعتبارها فضاء عمومياً جديداً، تمكن من إدماج العجزة والمرضى وكل الفئات الهامشية في الحفلات الجماعية الكبرى والفضاء السياسي، التي بدونها ستظل خارجها. «من قبل لم يساهم أبداً هذا القدر من المواطنين في الحياة المدنية، ولم يحصلوا على الأخبار بهذا القدر، ولم يصوتوا بهذه المساواة التامة». ويضيف أصحاب هذا الرأي بأن السياسة عندما تحولت إلى فرجة وغواية عدت أقل نخبوية وأكثر جاذبية لعدد كبير من الناس البسطاء. فبدون التلفزيون، لن يعرف الناخب العادي، الذي لم يعد يقرأ، أي شيء عن برامج الأحزاب المتنافسة. كما يمكن أيضاً امتداح أثره في التهدئة والتسامح. فالسمعي البصري يهدئ من الحقد الجماعي ليحوله إلى مبارزات شخصية وخطابية، وهو بذلك يقلل من ارتفاع الهستيريا ويعوّض المهاترات بالحوار والقطيعة بالتواصل، والهجومات العنيفة بالمبارزة الخطابية الثنائية. إنه إذن «الوسيلة الأكثر ديمقراطية في المجتمعات الديمقراطية»، و«وسيلة مثلى لتواصل الناس»(كما يقول دومينيك كولتون).

إن الإعلام التلفزيوني ملائم بالضرورة لنظام يكون فيه المنتخبون مطالبين يومياً بالإقناع وتفسير مواقفهم للناخبين، لذا فإنه في خضم الصحافة الكبرى والبث الإذاعي يوسع من ساحته لتشمل البوادي والضواحي، ويمنح للمواطنة طابعاً دولياً، ويُخفف من الوطأة

(172)

البورجوازية للكلمة. فقد جعلت سيادته الشفافية تنتصر على السرّ والمجتمع المدني على مؤامرات السلطة التي كانت دائماً غامضة، مقرباً باستمرار بين الحاكمين والمحكومين. عموماً، فإن السياسة لم تعد هي «فن منع الناس من الاهتمام بما يخصهم» لأن حقل رؤيتهم لم يكفّ عن الاتساع، كما أنها لم تعد تعتبر «فن مساءلتهم ما يجهلون» (كما يقول بول فاليري) لأن المشاهدين الذين يستطلع رأيهم يعرفون جيداً إلى من يعود كل شيء. ومع أن هذه الملاحظات مختصرة إلا أنها في مجملها ذات أساس صلب، وهي تشكل الخطاب الأكثر معقولية لعالم الاجتماع المعترف به. أو بصيغة أخرى فهي المعتقد الراسخ السائد اليوم.

أما الأطروحة الثانية فهي نقيض الأولى ولكنها لا تقل متانة عنها. فالأمر يبدو كما لو أن فضاءنا العمومي الزائف قد كان ناجحاً، وأن علينا من الآن فصاعداً ـ على الأقل في البلدان المتقدمة ـ أن نقرن بين التقدم في الوسائط السمعية البصرية والتراجع الديمقراطي في الوقت نفسه وبالإيقاع ذاته. وليس من الصعب علينا البرهنة على أن التلفزيون يفرغ السياسية من طابعها السياسي، ويفرغ الناخبين من كل حافز، والمسؤولين من كل مسؤولية، ويعزز بشكل خطير السلطة. لنشرح ذلك باختصار.

ثمة مقولة ثابتة هي: «الحكم معناه جعل الآخر يعتقد في شيء ما». أما التلوين التقني التاريخي لهذه المقولة فهو: ما هو الشيء الأكثر استحقاقاً لأن نعتقد فيه؟ إن الصورة اليوم شيء أكيد، فهي فعلاً تحدد مؤشرات جماهيرية شخص ما، وتشكيلة الحكومة

(173)

والتراتبية في الدولة، ومواقيت ومضامين الخطابات العمومية. وكل رئيس دولة أو زعيم حزب يقضي نصف وقته في «التواصل». وفي البلاط، أخذ المستشار في شؤون الصورة  مكان التقني والمنظر الإيديولوجي والأديب في الدور المفضل، لسبب بسيط هو أن الأمير يحتاجه في كل لحظة. هكذا غدا التعريف، أو كيف يرى المرء جيداً، أول مهارة للمهنة. بذلك تحولت استراتيجية السلطة من استراتيجية برهنة إلى استراتيجية إظهار، وانهارت البلاغة أمام السينوغرافيا. لكن وبما «أن الوسيط هو الرسالة» وأن التلفزيون في الجوهر ترفيه، فالمقرر والممثل والسياسي والمغني والمحامي والمهرج سوف يخضعون لقانون الوسيط ويتجاورون أكثر فأكثر (ريغان وإيف مونتان...إلخ). فالشيء العمومي غدا تنويعاً للمنوعات، والوسط السياسي مستعمرة للاستعراض التلفزي. إنه انمحاء الحدود الذي نزع الشرعية والاحترام عن «الطبقة السياسية الوسائطية». فما ربحه احترافيو الفرجة والمختصون في العلاقات هو مقدار ما خسر رجل الدولة من حظوة وامتيازات. ثمة بالضبط طلاق بين منطق الدولة، باعتبارها آلة لانتاج النصوص (قوانين، نظم، مذكرات، بلاغات... الخ)، ومنطق الفرجة الذي يفرض التحكم في الرأي العام عبر بناء المؤامرات بطريقة الإعلان. كما أن هذا الطلاق قد تم بين المدى الطويل للاستراتيجيات المطلوبة عقلانياً واليومي اللاهث لممارسات الرأي. فالتلفزيون (الذي يحرك الاختلافات كما عرفناه في الأطروحة)، ولكثرة ما يخلط الاختلافات بين كل الفاعلين في المشهد السمعي البصري، فإن الوسيلة التي يفترض فيها - في

(174)

الأطروحة ـ أن تجعل المسؤولية عامة تغدو هنا عاملاً للامسؤولية. فلكثرة اهتمام صاحب القرار المفترض بصورته الشخصية لم يعد يتخذ أي قرار ويترك الضحية لغموض مصيرها. ولأنه يضحي يومياً أكثر فأكثر بالواجب المنوط به لصالح نداء الكاميرا، فإنه يستعيض «بأثر الإعلان» عن المتابعة الحثيثة للإصلاحات المطلوبة لأنه الممتع على الدوام.

لكن علينا النظر إلى الصورة التلفزية كعامل إضافي للمساواة، فحين تعرض الحوادث المهمة من الحياة السياسية لبلد ما على الشاشة الصغيرة، فإن «الساحة الإلكترونية تستبدل موطنها. لقد أسست الكتابة الديمقراطية الإغريقية واقعاً وحقا. فهي التي مكنت من المساواة بين الكل أمام القانون. ولأنها كانت تسجل على الألواح والمسلات وتعرض في واضحة النهار، فأن كل واحد كان بإمكانه تأويلها ومراقبتها. وسواء تعلق الأمر بالشمال أم بالجنوب، بالأمس أم اليوم، فالقراءة والكتابة والديمقراطية لا ينفصل بعضها عن بعض. قد يقال بأن الصورة والصوت أكثر ديمقراطية لأن الأميين أنفسهم يدركونها. إن هذا يعني نسيان أن المجتمعات الارستقراطية - كسبارطة مثلاً- قد شجعت دائماً الثقافة الشفوية لأنها غير ملائمة للقواعد والقانون، مثلها مثل الصورة فعصر الشاشة دائرة صالحة لأرستقراطية المال ومضرة بأرستقراطية الدبلوم. إنها على كل حال تستعيد للسطح ثقلاً أوليغارياً كان عصر الكتابة قد خفف منه عبر المدرسة والجرائد البخسة. فالصورة تأكل اقتصادياً الحرف، كما يبتلع السمك الكبير الصغير. فللنطق بخطاب أو نشره يكفي وجود

(175)

حنجرة أو طابعة، لكن لاقتراح صورة إلكترونية لملايين المشاهدين (أو ملصق بأربعة ألوان للمارة) يستلزم ذلك أولاً رأسمالاً. إن الظهور الفجائي للمال في مجال الصورة، وللصورة في مجال الإقناع الجماهيري، يساهم في تحلل الفضاء المدني داخل الفضاء الاقتصادي، ويربط أكثر المساواة في الحقوق باللامساواة الفعلية، ويخصص الوظائف القيادية لمن هم أكثر غنى. ففعل الإقناع يتم تحليله باعتباره عملية شراء (لفضاءات أو أزمنة معينة)، ويتم التوجه إلى المواطن باعتباره مستهلكاً، ثم استطلاعه بعمق وتعيين موقعه التراتبي واستهدافه وترقيمه في جداول التسويق لمختلف رؤساء الشركات المهيمنة على السوق. وبهذا المعنى فإن سيطرة الصورة على المطبوع قد قامت بتسريع هائل لفساد اللعبة نفسها ومعها اللاعبين السياسيين. فالثمن الباهظ للحملات الانتخابية قصد الحفاظ على «صورة ناصعة لأصحابها»، يؤدي إلى خلق صندوق أسود للتمويل وإلى استغلال الأموال العامة وعودة فرسان الصناعة إلى الساحة بقوة.

إن اللامساواة في الديمقراطية الوسائطية بين الفقراء الجدد الذين يستقبلون البصري، والأغنياء الجدد الذين يصنعونه ويذيعونه ويفرزونه، لا تكمن فقط في المقدرة الفردية على الإرسال والبث. إنها توجد أيضاً في المقدرة على عرض المرء نفسه للرؤية شخصياً. ففي كل الأماكن العامة (مطعماً أو مسرحاً أو طائرة...الخ) يكون تصدر الوجه المرئي حقاً واجباً، سابقاً على كل ما لم يُرَ من قبل في أي مكان. هكذا تصبح الرؤية معياراً لمجتمع له نُظُمه: من جهة،

(176)

المرئيون الذين يصبحون نبلاء جدداً وأصحاب رأي موثوق، ومن جهة أخرى القذرون أو المجهولون الذن لم يمروا أبداً على الشاشة. إنه لديمقراطي هذا النظام الذي ينظم الصراعات وطرق تصريفها. ونحن نتمنى لهذه الهوة بين ذوي الصور، كما من قبل بين ذوي الخصائص والسيوف والأفراد الذين لا صور لهم، ألا تصبح تناقضاً حاداً؛ ذلك أننا لا نملك لحد الآن إطاراً لمعالجة ناجعة لهذا النمط الجديد من انتفاضات الجماهير، أعني، تمرد الأشباح ضد Vip.

ويخلص دوبريه في انتقاداته للظاهرة التلفزيونية إلى أنها تنتج سطة استبدادية على الرأي العام. إذ أن الوصاية التلفزيونية لا تعمل سوى على تقليص خطوط التعدديةِ. وهي عامل انضباط لا عامل تطور[1].

إن التحول الجديد الذى طرأ خلال السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين وحتى الآن هو انفراد ما يمكن أن نسميه بالأيديولوجيا الناعمة بموقع الصدارة في وسائل الإعلام المختلفة وتتمثل هذه «الأيديولوجيا الناعمة  «ideologie soft» في تلك الجرعات اليومية بل اللحظية التي تبثها وسائل الإعلام الحديثة، وكذلك الوسائط المتعددة Multimedia وانتشار شبكة الإنترنت على المستوى العالمي . هذه الجرعات تتغلغل وتنساب إلى عقول المشاهدين والقراء والمستمعين ومستخدمي الوسائط المتعددة والإنترنت بهدوء وبلا ضجيج على عكس ما كان يتم في السابق.

(177)

المفكر الفرنسي بيار بورديو يقول إن هنالك من يملكون وسائل الإنتاج وأدوات السيطرة والتحكم من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك دائماً أولئك الذين يخضعون لشروط هذه السيطرة ويسعون للتحرر منها. وإذا كنا قد دخلنا في شكل أو مرحلة جديدة من مراحل تطور المجتمع؛ تلك التي يطلق عليها اسم «مجتمع المعلومات». فإن السؤال الذي يواجهنا على الفور هو من يملك المعلومات؟ والإجابة عند بورديو واضحة وهي أن من ينتج ويسيطر على هذه المعلومات ووسائل نشرها في المجتمعات المعاصرة؛ هو الذي يحكم ويسيطر ويفرض رؤيته علي الآخرين. الذين يملكون ويسيطرون على أكبر الشبكات التلفزيونية في الولايات المتحدة الأميركية هم أمثال: بوستن هيرالد، شيكاغو تريبيون، لوس أنجليس تايم، نيوريوك تايمز، يو، إس. توادي، وول ستريت جورنال، واشنطن بوست، تايم ونيوز ويك الخ). شركات صناعية ومالية عالمية مثل كابيتال سيتيز، وجنرال إليكتريك، وكوكس إنتربرايز، الخ . بالإضافة إلى أسماء كبار المالكين والمساهمين من أمثال روبرت مردوخ، وارن بوفيت، ولورانس تيتش صاحب سلسلة فنادق لويس، وتدتيرنر (شبكة سي . ان . ان)، وأسرة اوشزـ سلزبرجر، وأسرة هيرست، وأسرة جراهام، {الحلوجي مقدمة الترجمة} الخ. إن شبكات التلفزيون والراديو والصحف والمجلات التي تؤثر علي الرأي العام وتشكله في البلدان الأوروبية. يملكها أمثال روبرت مردوخ المتوج بإمبراطور أو ملك الميديا؛ وراء ملكية كبريات الصحف الإنكليزية الواسعة الانتشار وكذلك شبكات التلفزيون وقنوات البث عبر الأقمار الصناعية،

(178)

وربما يكون المثال الأكثر دلالة الذي يجسد مدى خطورة هذه الظاهرة هو مثال سيلفيو بيرليسكوني في إيطاليا.

وبالمثل يمكن أن نتساءل من الذي يملك ويهيمن على أجهزة الإعلام العربية ويضع سياستها، وخصوصاً شبكات التلفزيون التي تشكل وتوجه الوعي والرأي العام في الفضاء العربي؟ أي قيم وأفكار ثقافية تروج لها هذه الأجهزة؟ عن أي مصالح اقتصادية واجتماعية تعبر؟ أن جميع شبكات التلفزيون والراديو وكذلك معظم الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية كما نعلم مملوكة أو تدار من جانب الدول والحكومات . كما أن الدولة ذاتها في معظم هذه البلدان تحكمها أسر وعائلات مالكة حيث تُحكم في غالبيتها من قبل شبكات عائلية واجتماعية تلتف حول رئيس الدولة. ومن هنا نجد أن ملكية القنوات الفضائية العربية؛ أي تلك التي تبث عبر الأقمار الصناعية ويتم استقبالها في جميع البلدان. ظلت تعكس التركيب الخاص نفسه بملكية وسائل الإعلام المحلية داخل الدول العربية. مثلاً قناتيART-MBC  يهيمن عليهما تحالف كل من الشيخ صالح كامل والأمير الوليد بن طلال والشيخ الوليد الإبراهيم، وهناك قناة تلفزيونية أخرى انشأها ويديرها ابن شقيق رئيس سابق لإحدى الدول العربية، كما أن قناة الجزيرة التي اكتسبت شهرة واسعة، أنشأها  أحد أمراء. ومن هنا ندرك العلاقة القوية بين دور وسائل الإعلام من جانب وتوظيفها من السلطة. والمصالح المتبادل بين المال والإعلام والهيمنة[1].

(179)

ويكاد يكون من المستحيل فهم لماذا أصبحت المعلومات ووسائل الاتصالات الحديثة تعبيراً عن هذه المصالح من دون الإجابة عن السؤال المركزي الخاص بملكية المعلومات ووسائل نقلها[1].

يكشف التلفزيون من خلال الآليات المتعددة التي يحددها بورديو عن خطر كبير جداً يهدد مجالات مختلفة علي مستوى الإنتاج الثقافي. كما يكشف كذلك عن خطر كبير لا يقل تهديداً للحياة السياسية وللديموقراطية. أن التلفزيون ومعه جزء من الصحافة مدفوعين بمنطق اللهاث وراء مزيد من الإقبال الجماهيري، قد أتاحا المجال للمحرضين على الممارسات والأفكار العنصرية والمعادية للآخر من خلال تقديم التنازلات التي يمارسونها كل يوم[2].

   وعلى هذا يهدف بورديو في عمله عن التلفزيون والتلاعب بالعقول إلى وضع ما هو أساسي في المحل الأول بديلاً عن السائد والمهيمن على أجهزة الأعلام، أي ـ إبراز الخطاب المختلف عن ذلك الذي يمارس يومياً

في التلفزيون. ويعتبر الخطاب الجيد التركيب الذي استبعد شيئاً فشيئاً من برامج التلفزيون ـ القاعدة المستهدفة للخطاب الذي يقدم في التلفزيون، يظل في الحقيقة أحد الأشكال الأكثر إحكاماً لمقاومة التعب وللتأكيد على حرية التفكير.

(180)

نظرية صناعة الخوف*

   من أبرز المشاكل الخطيرة التي أفرزتها الطفرة الإعلامية هي ظاهرة التوتر والقلق العام في المجتمعات العالمية. وهذا ما يندرج ضمن ما يسميه الخبراء باستراتيجيات صناعة الخوف.

ولم يكن الخوف لينتشر بهذه السرعة في المجتمعات المعاصرة، ويتحول إلى حالة ثقافية عامة تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، لولا تلك القدرة التي تتمتع بها وسائل الإعلام الحديثة في هذا المجال؛ إذ عملت هذه الوسائل على تصنيع الخوف، ونشره، وتعميمه، وعولمته بفاعلية فائقة وبسرعة مذهلة. فلم يسبق أن عرفت المجتمعات في الماضي البعيد، أو حتى القريب، مخاوف بالقدر الذي عرفته المجتمعات المعاصرة؛  حيث حولت هذه الوسائل الخوف من كونه حالة فردية يشعر بها الفرد إلى حالة جماعية عامة تسم العلاقات الاجتماعية بكل أبعادها، مشكّلة ثقافة من نوع خاص أتفق على تسميتها ثقافة الخوف   (Culture of Fear)[1]

ثقافة الترهيب الإعلامية

وفي الواقع، إن لجوء الأنظمة السياسة، في بعض المجتمعات، إلى افتعال الخوف بين الناس وتحويله إلى مصدر خارجي، ليس أسلوباً جديداً في التعامل مع المشكلات والأزمات الحقيقية الداخلية التي تعاني منها هذه الأنظمة، كما يرى الباحثون في مجال

(181)

ديناميات العلاقات الاجتماعية والصراع الاجتماعي، وبخاصة (كامبل وكوسر)، بل قديم عرفته معظم المجتمعات؛ فكثيراً ما كان يختلق من هم في السلطة في هذه المجتمعات مصدراً خارجياً للخطر ليخيفوا به الناس من أجل كسب ولائهم وتأييدهم في ما سيقومون به من أفعال عدوانية تجاه هذا الخطر المزعوم، بحجة درئه، وإقصائه، وإبعاده. وبذا، تكون هذه الأنظمة قد وجدت في التدابير الأمنية والعسكرية والعدوانية التي تنتهجها، في مواجهة هذا الخطر، حجة تستند إليها في هروبها من مواجهة مشكلاتها الحقيقية الداخلية من جهة، وتكون، في الوقت نفسه، قد حققت أهدافها ومصالحها الخاصة من جهة أخرى.

وفي سبيل تحقيق النظام السياسي لأهدافه السابقة جميعها، سواء في المجتمعات الغربية أم غيرها من المجتمعات الأخرى، فإنه يلجأ إلى أكثر من مؤسسة من المؤسسات التي يسيطر عليها، بشكل مباشر أو غير مباشر، من أجل إنتاج الخوف ونشره. وتأتي المؤسسة الإعلامية في مقدمة هذه المؤسسات دونما منازع؛ حيث تقوم بتصنيع الخوف على صعد عدة، وفي أكثر من مجال، وأكثر من طريقة أو أسلوب، بحيث يتحول إلى مادة أو سلعة استهلاكية تباع وتُشرى كبقية السلع، مع الفارق الكبير في الربح المادي الذي تجنيه المؤسسة من هذه الصناعة. وما استثمار أصحاب رؤوس الأموال الضخمة في المجتمعات الغربية في قطاع صناعة أخبار الخوف، وأفلام الرعب والعنف والجريمة، والمسلسلات البوليسية التي تعود عليهم بمليارات الدولارات سوى أدلة واضحة على ذلك[1].

(182)

لقد أحدثت وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة تغيرات جوهرية في بنية العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الغربية؛ إذ غدت هذه الوسائل تشكل عصب الحياة، وأضحت تتحكم بمجريات الأمور والشؤون الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، إلى الحد الذي ذهب معه العديد من الباحثين الاجتماعيين، وفي مقدمتهم عالم ما بعد الحداثة (ليوتار) والعالم (جان بودريّار) إلى القول أن هذه الوسائل هي التي نقلت المجتمعات إلى مرحلة ما بعد الحداثة.

وقد حظيت المؤسسة الإعلامية باهتمام خاص من قبل العاملين في مجال العلوم الاجتماعية، ولاسيما في العقدين الأخيرين؛ إذ انصبّ اهتمامهم على الدور الذي تمارسه في حياة الأفراد الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية. وقد نجم عن هذا الاهتمام اتجاهات ومداخل نظرية متباينة ومدارس فكرية متعددة، أهمها المدخل المعروف باسم مدخل الاعتماد على وسائل الاتصال الذي يتزعمه ملفن دوفلور الذي يرى  أن المؤسسة الإعلامية هي نظام اجتماعي ذو طبيعة تفاعلية وتبادلية مع الأنظمة الأخرى الموجودة في المجتمع. وعليه، فإنه من الصعب فهم طبيعة الأدوار والوظائف التي تقوم بها، ومن المتعذر فهم التأثير الذي تحدثه، ما لم يتم فهم طبيعة الاعتماد المتبادل  والترابط الوثيق بينها وبين الأنظمة الأخرى، وبخاصة النظامين: السياسي والاقتصادي، من جهة، وما لم يتم، أيضاً، تحديد المجالات التي يعتمد فيها الجمهور على هذه المؤسسة من جهة أخرى[1].

(183)

في ما يتصل بعلاقتها بالنظام السياسي في المجتمعات، وبخاصة الغربية، فهي علاقة اعتماد متبادل، كما يرى دوفلور؛ فهو لا يمكنه الاستغناء عنها من أجل نشر مبادئه وقيمه والترويج لها، ولا هي باستطاعتها الاستغناء عنه لدعم مشاريعها وحمايتها، أيضاً، فكل منهما بحاجة ماسة إلى الآخر للقيام بوظائفه، وتحقيق مصالحة الخاصة. ويتفق هربرت شيللر مع هذا الرأي إلى حد بعيد؛ إذ يعتقد أن العلاقة التي تربط هذه المؤسسة بالنظام السياسي هي علاقة قائمة على رؤية هذا النظام لها، بأنها وسيلة مناسبة، وأداة فاعلة في نشر سلطته وفرض هيمنته، والترويج لأفكاره، ومبادئه، وثقافته في المجتمع.

في ما يتصل بعلاقتها بالنظام الاقتصادي فهي علاقة لا تقل في قوتها ومتانتها والتبادل المشترك بينها وبينه، أيضاً، عن تلك العلاقة التي تربطها بالنظام السياسي؛ إذ يلجأ النظام الاقتصادي إليها من أجل تحقيق أهدافه المادية؛ فهي التي تروج لمشاريعه الضخمة، وهي التي تقوم بالإعلان عنها والدعاية لها. ولا توجد مؤسسة أخرى بمقدورها القيام بهذا الدور بفاعلية كهذه المؤسسة. وإذا كان هذان النظامان لا يمكنهما الاستغناء عنها للأسباب السابقة، فهي الأخرى ليس بمقدورها الاستغناء عنهما. فهما اللذان يوفران لها الحماية السياسية والقانونية، وهما اللذان يقومان بتقديم الدعم المادي الذي تحتاجه لتصنيع منتجها والترويج له، ونشره بين أكبر قطاع ممكن من الناس. وليس إنتاج الخوف وتصنيعه سوى إحدى هذه السلع المربحة مادياً لمالكي  هذه المؤسسة والقائمين عليها.

أما في ما يتصل بطبيعة العلاقة بين المؤسسة الإعلامية

(184)

والجمهور، فيرى دوفلور أنها هي الأخرى علاقة وثيقة ومتينة؛ فليس بمقدور هذا الجمهور، وبخاصة في المجتمعات الغربية، الاستغناء عنها. فمجريات حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وشؤون حياته اليومية تكاد تعتمد عليها اعتماداً شبه كلي. ورغم وجود مؤسسات أخرى يلجأ إليها الأفراد في هذه المجتمعات لتسيير هذه المجريات والأفعال: (كالأسرة، والأصدقاء، وبعض الاتحادات، والجمعيات التي ينتمون إليها ... الخ)، ومع ذلك يبقى اعتمادهم على هذه المؤسسة أقوى بكثير.

لقد تنامى الاهتمام بدور المؤسسة الإعلامية ووظائفها وتأثيراتها في العقدين الماضيين بشكل كبير، وبخاصة الدور الذي تقوم به الصورة الإعلامية في التأثير على المتلقين. فهذا المفكر الفرنسي ما بعد الحداثي جان بودريار يرى أن وسائل الإعلام والاتصال عملت على إدخال تغييرات جوهرية وإحداث تحولات جذرية غير مسبوقة في حياة الناس بسبب التطور المذهل الذي طرأ على صناعة الاتصال الجماهيري. فالتلفاز، بصفته أحد أهم هذه الوسائل، على سبيل المثال «لا يعرض لنا العالم أو يعكسه أو يمثله، بل إنه أصبح بصورة متزايدة يحدد ويعيد تعريف ماهية العالم الذي نعيش فيه».

(185)
(186)

 

 

 

 

 

 

الخاتمة

نقد الميديا

إستعمار الصورة والصوت

 

(187)

يعد الإعلام الجديد، أو ما سبق وأطلق عليه بـ «ثورة الميديا»، محطة أساسية هزَّت نهاية القرن العشرين.

وحسب الخبراء فإن التأثيرات الحاسمة للإعلام الفضائي (التلفزة الكونية ـ الإنترنت  ـ والهواتف الذكية) لم تقتصر على مجال واحد في الحضارة المعاصرة، بل شملت معظم الميادين الإنسانية.

وإذا كان ثمة الكثير من الإيجابيات التي لا يمكن إنكارها للميديا، وخصوصاً تحقيق التواصل بين الحضارات والثقافات المختلفة في المجتمع العالمي، وتوفير المعلومات للأفراد والجماعات، فإن توظيف تقنيات التواصل في مجال السيطرة وتفكيك القيم الأخلاقية والدينية تبرز الوجه الخطير والسلبي لهذه الظاهرة.

فعلى هذا السياق، ركَّز بعض علماء الاجتماع في الغرب على سياسات السيطرة التي أوكلت لمجتمع الإعلام العالمي. وقرروا أن الميديا باتت تشكل الوسيلة الفضلى للهيمنة العسكرية والاقتصادية كونها توفر المكان النادر الذي لا يكون فيه المسيطِر كائناً مرئياً في مواجهة المسيطَر عليه. ولذا، فإن خطاب الميديا ـ كما يلاحظ الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو - بدل أن يكون العنصر الشفاف أو المحايد الذي تكتسب فيه السياسة طابعاً سليماً، شكل أحد المواقع التي تمارس فيها السلطات الاقتصادية والثقافية والسياسية ممارساتها الرهيبة بشكل أفضل. ويضيف: يبدو الخطاب الإعلامي ـ في ظاهره

(188)

ـ شيئاً بسيطاً، لكن أشكال المنع التي  تلحقه تكشف باكراً وبسرعة عن ارتباطه بالرغبة والسلطة[1].

ما لا يُشك فيه أن التحولات التي عصفت مؤخراً بالنظام العالمي، تعطي الكلام على حقيقة الميديا بعداً أكثر تعيُّناً  وشمولاً. وقد أثبت الإعلام بتقنياته الهائلة أنه دافع التحولات الكبرى في السياسة، والاقتصاد، والفكر، والفن، والثقافة. بل هو محورها ومحركها ومحرِّضُها.

لقد أصبح العالم مع ثورة الميديا قرية كونية متصلة كما وسبق وقيل. وهذا يعني أن كمية كبيرة من المفاهيم التي انتظمت العلاقة بين المجتمعات البشرية باتت الآن ضمن دوائر الشك. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لم يعد مفهوم السيادة القومية، مثلاً، هو نفسه اليوم، بعدما تحولت الدولة القومية ذات السيادة إلى دولة عالمية مفتوحة بفعل الأسواق المشتركة، والشركات متعددة الجنسيات، وثورة الاتصالات، والإعلام والمعلوماتية.

الجدير بالذكر أن نهاية الحرب الباردة 1989 - 1990 شكلت بداية الانعطاف الفعلي نحو ثورة الميديا، وقد أظهر واضعو الاستراتيجيات العليا في الغرب الأوروبي والأميركي رغباتهم الملحوظة في السيطرة على شبكات الاتصال، والثروات الهائلة التي توفرها الصناعات «اللاّمادية» من علم، ومعرفة، وقدرة استثنائية على التحكم بالعقول واتجاهات الرأي العام في العالم. في هذا

(189)

الخصوص يقول جيمس كورث أستاذ العلوم السياسية في عدد من الجامعات الأميركية، «إن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في الصراع الهائل بين المنظمات الكبرى ووسائل الإعلام العالمية والشركات المتعددة الجنسيات، سيتوقف على نتيجة صراع آخر أكثر إيلاماً، ذلك لأن الفترة الأولى من تاريخ ما بعد العصر الحديث ستتضمن صراعاً موازياً، وحرباً أهلية داخل الولايات المتحدة بين المؤسسات المتعددة الثقافات والتسلية الجماهيرية من جانب، والثقافة القومية والتعليم الجماهيري من جانب آخر. ومنذ الآن ـ يضيف كورث ـ يبدو أن معسكر ما بعد العصر الحديث هو الذي سيسود، وإذا ما حدث ذلك فإن الولايات المتحدة بالمعنى التقليدي للشعب الأميركي وحكومة الولايات المتحدة، لن تكون هي الممثل، بل المتفرج ـ بل حتى المسرح ـ لعالم ما بعد العصر الحديث، وستصبح متلقياً للتاريخ لا صانعاً له...» [1].

وكان من البديهي إذاً أن تؤدي الشبكة الإعلامية الهائلة مهمتها الكبرى باتجاه تفكيك أنظمة القيم في العالم. وإذا كانت مجتمعات الأطراف أو ما يصطلح عليها بالدول النامية آثرت خيار التلقي والامتثال عموماً للهيمنة الإعلامية والثقافية ـ الأميركية، فذلك ما لم يحصل على الإجمال في المجتمعات الغربية. فكان أن انفجرت في وجه الزحف الإعلامي الأميركي تيارات وازنة في المجتمع المدني الأوروبي، تطالب بضرورة الممانعة والمواجهة. حتى أن

(190)

الحكومة الكندية استشعرت هذا الخطر وأعلنت على لسان السيدة شيلاكوبس النائبة السابقة لرئيس الوزراء ووزيرة المالية لعام 1997، وجوب مواجهة ما سمته بـ«الإمبريالية الثقافية»، وأكدت أنه إذا أصرّ الأميركيون على فرض هيمنتهم على المجتمع الثقافي العالمي باستخدام الأدوات المتاحة لهم، فإن عليهم أن يتوقعوا إجراءات مضادة.[1]

لم يكن الإعلام بأحيازه المختلفة، بما فيها الصناعة السينمائية، حالة عارضة على الأمن القومي لدول الغرب ولأميركا على الخصوص. فهو في الأساس يندرج ضمن أولويات الاستراتيجية العليا ثم ينحدر ويتوزع على استراتيجيات الحرب والاقتصاد والأمن والاجتماع الداخلي وأنظمة الأمن الإقليمية والدولية[2]

وإذا عدنا إلى الحرب الدعائية الغربية التي خيضت في الماضي يتضح لنا أنَّ صناعة الأفلام الأميركية لعبت فيها دوراً إلى جانب دور الصحافة، ولننظر إلى الدعاية التي يخلفها فيلم يشاهده مئات الملايين من البشر؟ مَن منا لم يسمع أو يقرأ كتاب فيل تايلور: «ذخائر العقل» والوصف الذي جاء فيه حول شن حملة دعايات واسعة عبر سلسلة أفلام أميركية أشرف عليها مكتب «الدعاية والمعلومات الحربية» الأميركي بعد أشهر قليلة من الهجوم الياباني

(191)

على القوات الأميركية في ميناء بيرل هاربر عام 1941؟ كانت وزارة الدفاع الأميركية التي كان يطلق عليها في ذلك الوقت اسم «وزارة الحرب» تنفق سنوياً مبلغ 50 مليون دولار ـ وهذا مبلغ كبير جداً في ذلك الوقت ـ على إنتاج الأفلام أثناء الحرب العالمية الثانية من أجل ترويج الدعايات الحربية التي ترغب بها المصالح الأميركية داخل الولايات المتحدة وخارجها. وقدم الإعلام والصحافة والنشر في ذلك الوقت، كل خدماته لصالح تلك الحرب وأهدافها بشكل لم يسبق له مثيل. وما عاد أمراً غير معروف القول أنَّ للولايات المتحدة ما يزيد على المئة عام من التجارب الواسعة في التسويق الإعلامي لسياسات إداراتها في الداخل والخارج.

وحسب البروفسورة نانسي سنو المتخصصة في علم الدعايةK وهي إحدى أبرز الكوادر في وكالة المعلوماتية الأميركية، أنه كان لدى الرئيس الأميركي وودرو ويلسون ووزير خارجيته جورج كريل واللجنة «الإعلامية العامة» برنامج لتدجين الشعب الأميركي لأجل قبول اشتراك أميركا في الحرب العالمية الأولى، وترويج بلادهم في الخارج. بل إن ويلسون نفسه ألقى خطاباً أمام «كبار التجار الأميركيين» قال فيه: «إذهبوا إلى دول العالم لبيع البضائع الأميركية من أجل تغييرها وتوافقها مع المبادئ الأميركية». هذا كان عام 1916. الآن لم يختلف الأمر لكنه ازداد كثافة بسبب توفر التقنية التي تساعد على الإسراع بالجهود؛ وبسبب توفر حملة «الحرب على الإرهاب» واختلاقها كعدو جديد.

وتتحدث فكتوريا دي غراتسيا الكاتبة في (نيويورك تايمز) عن

(192)

الطريقة التي تعمل بموجبها جهود الدعاية الأميركية بالمقارنة مع الطرق والأشكال الأخرى فتقول: «إنَّ النشر والإعلان اللذين يدعمهما القطاع الخاص الأميركي كانا في خدمة حكومة تقدم نفسها بمظهر من يعارض التدخل الواسع الخارجي، ومن يحاول تطويق وحصار قادة دول ترى أنهم ديكتاتوريون، من أجل تصوير نفسها أمام الجمهور الأميركي بصورة من يحمل رسالة إنسانية عقلانية تجاه الجمهور الذي يحمل هذه الأفكار. وإذا كانت أنظمة دول أخرى قد تقوم بالدعاية لإيديولوجية متشددة وبشكل مباشر فإنَّ الديمقراطية الأميركية تفعل ذلك بشكل يستخدم المثل الرفيعة». وهذا القول يدل على أنَّ مؤسسات النشر والدعاية التي تعمل مع القطاع الخاص كانت خدماً للدعاية الأميركية، وهذا بالضبط ما تقوله الشركات الدعائية الكبرى حين تصف وظيفة «وكالة المعلوماتية الأميركية» أثناء الحرب الباردة وما بعدها. والحقيقة هي أنه لا توجد أي دولة في العالم تشبه الولايات المتحدة في ميدان إنشاء صلات قريبة بين التجار (ترويج البيع) وبين أعمال الإدارة الأميركية (ترويج الدعاية السياسية)[1].

 ومنذ الحرب العالمية الأولى اختلطت الإعلانات والدعايات بترويج الحرب والمساعدات الخارجية والتبادل الثقافي. وهذا ما خلق إشكالاً حقيقياً للإدارة الأميركية في عام 2002. وكان ثمة تساؤل عمّا إذا كانت الولايات المتحدة وهي الدولة التي تعتبر نفسها

(193)

الأولى في فن الدعايات ستتجنب أن تتدخل في عملية يُخلط فيها بين الدعاية التجارية والجهود الحكومية لترويج المجتمع الأميركي. لا شك في أنها لا يمكن أن تقوم بذلك، فنحن ـ والكلام لها ـ ما زلنا نواصل قراءة تقارير بين فترة وأخرى عن كيفية قيام مجلس العلاقات الخارجية الأميركي واللجنة الاستشارية الديبلوماسية، بإدخال أسنانها إلى برامج الإعلانات والدعايات الكبرى من أجل إعادة إبراز وجه أميركا في العالم بالمظهر المطلوب. وهذا ما ترغب أميركا بأن تشكله للعالم: إنه مظهر البائع المطلق[1].

وإذا كانت الديمقراطية وحقوق الإنسان تملأ مفردات الخطاب السياسي الغربي اليوم فذلك لأنَّها صارت سلاحاً إيديولوجياً لتسويغ المنافع وتحقيق السيطرة. وهكذا لا نزال إلى اليوم نرى كيف أنَّ الديمقراطية الغربية تزعم موت الإيديولوجيا في حين تحوَّلت هي نفسها إلى قوة إيديولوجية قاهرة. ولنا أن نتحرَّى ما يكتظ به الخطاب الإعلامي لنبلغ هذه الحقيقة. 

في عرضه لمكونات وأسس الإمبراطورية الإعلامية الأميركية يسأل الباحث الفرنسي ميشال بوغنون: لماذا يمكن أن يشكِّل احتكار الاتصال امتيازاً أو كسباً حاسماً لمن يستطيع امتلاكه؟ ويجيب: لأنّه يغطّي كل وظائف البشر الروحية: ثم ينبري ليلاحظ أنَّ النجاح الأول لأميركا في مجال الاتصال، قام على مفارقة لافتة: فهي أمَّة قنّاصة، وشرسة، مسؤولة عن عدة تدخلات خارج حدودها الشرعية، منذ نهاية حرب الاستقلال، وهي من وجهٍ آخر موضوع

(194)

كرهٍ من جانب شعوب كثيرة. ومع ذلك، توصَّلت الولايات المتحدة إلى خداع الشعوب بحكمٍ مسبقٍ، وذلك يعود إلى عوامل: خبرة طويلة في الإعلان، احتكار كبريات وكالات الصحافة الدولية، القوة المالية، وكذلك فالأميركيون يدينون لسلبية الأجهزة الإعلامية والمؤسسات التربوية والحكومات في مجمل العالم[1].

لقد انبنت العمارة الإعلامية الأميركية على امتداد تاريخ طويل. ومكّنتها الاستهدافات الرسالية والإيديولوجية متضافرة مع المجمعات الصناعية والعسكرية بالتوازي معها من التطور المطرد باتجاه السيطرة[2].

 سنة 1848، وُلدت في الولايات المتحدة الوكالة الصحافية، «آسوشيتد برس»؛ تلتها سنة 1907، «يونيتد برس آسوسيشن»، و«الإنترناشيونال نيوز سرفيس»، سنة 1909، المجمّعة، سنة 1958، في وكالة «يونيتد برس إنترناشيونال». وإذا أضفنا وكالة «رويتر» (تسمَّى الآن «رويترز») التي تنتمي، اليوم، إلى صحافة بريطانيا العظمى وأوستراليا ونيوزيلندا، وتكتفي على غرار معظم الوكالات غير الأميركية في العالم، غالباً، بتكرار معلومات الوكالات الأميركية، فإننا نحصل على تكتلٍ قادرٍ على مراقبة 90 % من الإعلام المبثوث. 

ومع الصحف الكبرى التي بلغت جمهوراً عالمياً (نيويورك

(195)

تايمز، ونيويورك هيرالد تريبيون)، والدوريات (الريدرز دايجست، ناشيونال جيوغرافيك ماغازين، بلاي بوي، تايم، نيوزويك، وشبكات NBCوABC، CNN الشبكة العالمية الأولى)، ومنذ عام 1980 صارت الولايات المتحدة تملك سلطاناً ذا مدى لا يُسبَر غوره، يسمح لها منذ عشرات السنين، بقولبة فكر بضعة مليارات من الأفراد. وعبر الصحافة والسينما والتلفزة والراديو، وجد الأميركيون طريقة لتصوُّر الثقافة والآداب والإعلام والسياسة واستعمال القوّة، والإملاء ولفظ اللغة الإنكليزيةـ ولاختراق الرؤوس.[1]

إعصار الفضائيات

في السنوات الأخيرة من القرن العشرين نشأت الفضائيات التلفزيونية لتضيف إلى مجتمع الإعلام العالمي نكهة أميركية زائدة. وقد كان من أهم القنوات الاميركية «إيه بي سي»، «سي بي إس»، و«إن بي سي».. وذلك قبل أن تعزز الإمبراطوريات الإعلامية قبضتها على هذه السوق وتبتلع تلك القنوات. ولكن عندما كانت تلك الشبكات مستقلة كان يسيطرعليها جميعاً اليهود، منذ إنشائها.. إذ سيطر على «إيه بي سي» ليونارد غولدينسون، وسيطر على «إن بي سي» ويليام بالي، ثم لورنس تيش وكلاهما يهوديان كما أسلفنا. وخلال عقود من عمل هذه الشبكات كانت تمتلئ باليهود من الصحفيين والإداريين والفنيين، وعندما تمّ ابتلاع هذه الشبكات من قبل إمبراطوريات أكبر حجماً، انتقل هذا الثقل اليهودي إلى الإمبراطوريات نفسها، التي كان يسيطر عليها اليهود أساساً.

(196)

والأخطر من قضية ملكية يهود لمعظم هذه الإمبراطوريات هو ما أوردته نانسي سنو من معلومات في هذا الموضوع الخطير. فلقد تمكَّنت البروفسورة الأميركية من خلال وجودها على مقربة من مواقع القرار السياسي من إلقاء الضوء على المناطق المعتمة وتلك المسكوت عنها في العلاقة الخفية التي تربط الامبراطورية الإعلامية بالبيت الأبيض والبنتاغون ووكالة المخابرات المركزية الـ(سي.آي.إي). تقول: إنَّ ابحاثها تطرق مواضيع تتعلَّق بالدعاية التي بدأت تسود في الولايات المتحدة والعالم، الذي بدأ يتشكَّل فيه وضع جديد قبيل غزو أفغانستان، وعلى الوضع الذي تحول فيه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد إلى أكبر مروِّج دعايات للمتشدِّدين في إدارة بوش.

أما في ما يتعلق برعاية الميديا للموجات الاجابية في العالم ما بعد 11 أيلول سبتمبر فقد صدرت العديد من الدراسات النقدية لتبرر حقيقة أنَّ «الإرهاب ليس شيئاً يذكر من دون وسائل إعلام» كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار. فوسائل الإعلام برأيه، هي جزء لا يتجزّأ من الحدث، ومن الرعب، وقد تؤدي دورها في هذا الاتجاه أو ذاك. وبالتالي، فإنَّ الفعل القمعي يسلك المسار غير المرتقب نفسه الذي يسلكه الفعل الإرهابي، ولا أحد يعلم عند أي حد سيتوقف، والانقلابات التي ستليه. ما من تمييز ممكن، على مستوى الصور والإعلام. وفي سياق شرحه لمقولة الإرهاب المركَّب (الرمزي / الواقعي) يبيِّن العالم الفرنسي بودريار وجهاً آخر للإرهاب دفع به الإعلام الأميركي الموجَّه بوسائله الكثيرة والكبيرة إلى أن يتحوَّل من مجرد صوت وصورة إلى باعث لزمن وواقع جديدين.

(197)

هذا الوجه الآخر للإرهاب يكمن في أنَّ كل الأشكال الأخرى للعنف وزعزعة استقرار النظام تتضافر لصالحه: إرهاب معلوماتي، إرهاب بيولوجي، إرهاب الإنتراكس والشائعة، هذه كلها تنسب إلى بن لادن، حتى أنَّه صار بإمكانه أن يعلن مسؤوليته عن الكوارث الطبيعية. كل أشكال اللاّتنظيم والتداول الشاذ مفيدة له. وحتى بنية التبادل العالمي المعمم تخدم التبادل المستحيل. كأنها الكتابة الآلية للإرهاب يرفدها باستمرار الإرهاب (غير المتعمد) لإعلام، وبكل ما يتوجب عليها من تبعات الهلع: فإذا كانت الإصابة، في قضية الإنتراكس هذه كلها، تتم من تلقائها عبر التبلور الآني، على غرار محلول كيميائي، إذ يمس، مساً، إحدى الخلايا، فهذا يعني أنَّ السستام بأسره قد بلغ كتلة حرجة تجعله عرضة لأي اعتداء[1].

هكذا لم تكن الميديا التي أنجبتها الحداثة الغربية في أي يوم بريئة من غاياتها السياسية. وحين يذهب الإعلام المسيطر ليسوِّغ ثورته المعلوماتية عن طريق وسائل التواصل فلا يفعل هذا إلاَّ لخدمة طبقة سياسية تتصدر عرش العولمة وشركاتها الكبرى. وعلى امتداد هذه الملحمة الفظيعة تلقي إمبريالية الصورة والصوت بظلالها فوق عالم يترنَّح، وإنسان يواجه حالة من الانفلات والضياع. 

وبعد.. فالسؤال الكبير الذي تطرحه ثورة الميديا هو ما يخص الطريقة التي يمكن فيها مواجهة الآثار المعنوية والاخلاقية التي تنعكس سلباً على القيم الانسانية للشعوب وخصوصاً شعوبنا

(198)

العربية والاسلامية. ولا شك في أن الأخلاق الفطرية التي توفرها الطبيعة البشرية، وبالتالي الأخلاق الدينية والقوانين المدنية التي تنتظم فيها المجتمعات، ستشكل أساساً لحفظ القيم في مجتمعاتنا، ومن ثمة لتأليف نظام للقيم في كل ما يتصل بتدبير الشأن العام والعلاقات بين أفراد المجتمع.

استناداً إلى ما تقدم، تسقط خرافة الحياد الإعلامي، لتمضي القوى المهيمنة على المجتمع الإعلامي العالمي في حروب لا نهاية لها، ولا سيما الحرب المعنوية اتي تخاض للتأثير على عقول الناس وتوجيه ثقافاتهم عبر الصورة والصوت. وذلك ما يسميه ناقدو «الميديا المعولمة» بـ«الإمبريالية الناعمة». وهي تلك السلطة الطاغية التي تعرج في الأثير اللاّمتناهي، فتتجاوز الحدود، وتنكث العهود، وتخرق سيادات الدول.

(199)
المؤلف في سطور خضر إبراهيم حيدر - باحث في الإعلام المعاصر وشاعر . مواليد طيردبا - صور 1964/5/7 - حائز على إجازة بالصحافة من كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية عام 1990 .. - مدير تحرير مجلة (الأمن) اللبنانية منذ عام 1997 . - عضو نقابة المحررين اللبنانيين واتحاد الصحافة اللبنانية منذ عام 2000 . - عضو اتحاد الكتاب اللبنانيين . - حائز على ميدالية العطاء الثقافي من وزارة الثقافة اللبنانية عام 2000 . - له عدد من المقالات والدراسات الفكرية في مجلة الاستغراب الفصلية . - مدير الصفحة الثقافية في جريدة الشرق اللبنانية بين عامي 1990 و 2001 . - نشر مقالات وتحقيقات في عدد من المجالات اللبنانية بين عامي1987 و 1992 . - كتب في عدد من الصحف والمجلات العربية بين عامي 1992 و 1997 . - أشرف على مراجعة عدد من الكتب الفكرية والثقافية والرسائل الجامعية . - له عدة دراسات أكاديمية في علم الإعلام وتقنيات التواصل . - له ديوانان شعريان ، الأول بالفصحى والثاني بالمحكية ، عن مؤسسة الرؤى للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت .
هذا الكتاب الميديا مع ختام القرن العشرين ، إنتقل العالم الحديث إلى زمن جديد اصطلح على تسميته ب ((زمن العولمة)) وقد ساد مناخ ثقافي عارم عنوانه الطاغي : تحول العالم إلى قرية كونية لم تعد الحواجز التقليدية للمجتمعات ولا الحدود الجغرافية للدول تشكل عائقا أمام التواصل بين مواطينها . لكن العامل الأساسي الذي يقف وراء هذه النقلة الكبرى التي شهدتها الحضارة المعاصرة هو ثورة الاتصالات التي سميت اختصارا وتكثيفا ب (ثورة الميديا) . تتناول هذه الحلقة في سلسلة ((مصطلحات معاصرة)) مفهوم الميديا ويعرض له في دلالاته الاصطلاحية والمعنوية وطرائق الاستخدام ، فضلا عن نشأته التاريخية وعلاقته بالإعلام الكلاسيكي . تبرز أهمية هذه الدراسة في أنها تلقي الضوء على المقدمات التي أسست لما سمي بثورة المعلوماتية والآثار الاجتماعية والسياسية والثاقفية التي ولدتها على اتجاهات الحضارة العالمية المعاصرة . من المقدمة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف