فهرس المحتويات

العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية سلسلة مصطلحات معاصرة 17 يوتوبيا المفهوم ودلالاته في الحضارات الإنسانية شريف الدين بن دوبه
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها ،وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار ، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظكة الفكرية المختلفة. ثانيا:ازالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لاسيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ،ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الاخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية
(4)

 

الفهرس

 

مقدمة المركز7

مقدّمة9

الفصل الأول: في معنى يوتوبيا utopie 13

في اللغة العربيّة:14

السياق القرآنيّ:14

في الاصطلاح:17

مؤسّس المصطلح:24

المناخ السياسيّ:31

إصلاح المنظومة القانونيّة:40

الفصل الثاني: تجلّيات المصطلح في الفكر السياسيّ43

الجمهوريّة44

(5)

 

الفهرس

 

مدينة الله56

آراء أهل المدينة الفاضلة62

الفصل الثالث: امتداد المصطلح75

مدينة الشمس76

الهيكليّة السياسيّة والإداريّة لمدينة الشمس:78

الأخلاق والمواطن:80

المعرفة:84

 الشيوعيّة:86

اطلنطس الجديدة88

خاتمة نقدية: نقد للمصطلح وتحليله93

المقاربة السوسيو معرفيّة94

المقاربة الأنتروبولوجيّة99

(6)

مقدمة المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً إلى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحوالتالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أويجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

(7)

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

 * * *

تحاول هذه الحلقة من سلسلة المصطلحات مقاربة اليوتوبيا بالعرض والدرس والتحليل النقدي، حيث يتناول الباحث الجزائري البروفسور شريف الدين دوبه الولادة التاريخية للمصطلح والكيفية التي جرى التعاطي معه فلسفياً ولاهوتياً وأنثروبولوجياً بدءاً من الحضارة اليونانية وما زامنها من حضارات وصولاً  إلى الحضارة الحديثة.

 

والله ولي التوفيق

(8)

المقدمة

اقترنت لحظة البداية الحضاريّة لبني البشر بنموذج المدينة Police حيث قرّر رجال الفكر في المخيال الغربيّ بموضوعة تنصّ على أنّ الأمل في الرقيّ الحضاريّ والتسامي لا يكون إلّا من خلال نظام المدينة، فمدينة أثينا، بابتكارها نظام المدينة أصبحت معلّمة العالم، كما جاء في قول بيركليس، كما نلمس ذلك في ظاهرة الحلم بالعيش داخل المدينة، وفي إشارة ابن النفيس لتعالي المدينة، ورفعتها في الرسالة الكامليّة المتعلِّقة بالسيرة النبويّة، أكبر دلالة، فميلاد النبيّ الأكرم محمّدJ في مدينة مكّة إشارة صريحة لرفعة المدينة، والمدينة عند ابن النفيس فضاء مدنيّ متميّز، يسمح لملَكات، الأبناء وقدراتهم بالتفتّق، أحسن من العيش في البراري، والإشارة التي نستقرئها من النصّ الذي يقدّمه ابن النفيس أنّ الشخصيّة المحمّديّة كنموذج بشريّ، ومعيار تستقطبه البشريّة، كانت نتاج بيئة مميّزة، وممكنة للجميع، خصوصاً إذا توافر الشرط المعرفيّ، وسيرة النبيّ الأكرم تمنحنا هذه الدلالات التربويّة، فالمثل أو النموذج بالنسبة لأهل البرّ هو إنسان المدينة، وعليه تكون التنشئة التربويّة في القرية قائمة على نموذج، أمّا المدينة فالنموذج بدوره يحتاج إلى نموذج آخر، وعليه كان المحيط (المدينة) أحسن نموذج قدّمته البشريّة في تجمّعاتها المدنيّة، والغريب في الأمر أنّ المدينة التي ترعرع فيها الرسول الأكرم هي النموذج، والمثل الأعلى للمدينة البشريّة، وهي

(9)

مكّة، يقول ابن النفيس: «.. ويجب أن يكون من أهل المدن الأشرف فإنّ أهل المدن الخسيسة يستقلّون عن الناس، وفضيلة المدن تكون بأمور: منها اعتدال الهواء، ومنها رخاء الأسعار، ومنها كثرة الثمار، ومنها كثرة المياه ونحو ذلك، ومنها العظمة الدينيّة في نفوس الناس، وهذا هو أولى الأمور التي بها ترجح المدينة التي يكون منها هذا النبيّ J»[1] ولهذا اقترنت المدينة في تاريخ الفكر بالحضارة.

وتبقى المدينة النموذجيّة التي طمح إليها الإنسان، مطلباً، ومأمولا، فهي لم تتجسّد على أرض الواقع بعد، وما نستشفّه من خلال التاريخ أنّ المدينة النموذج، التي يعتقد  بعض المجتمعات أنّه حقّقها، ليست إلّا وهماً، ومتخيَّلاً، ودليلنا في ذلك الحركة المستمرّة نحو أفق الكمال، التي تؤسّس للطبيعة البشريّة، فالكمال، والاكتمال مطلب إنسانيّ، والنماذج البشريّة المتعارف عليها في الكمال الإنسانيّ، مدارس حيّة تبقى مَعيناً لا ينضب، ومجالاً للاستمداد القيميّ، والسلوكيّ، والرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وأهل بيته، المدرسة الأكمل، والنموذج الأمثل، للإنسان الكامل، والمدينة النموذج في الفكر الإسلاميّ، هي مدينة القيم، والعدل، التي تعتمد القاعدة التالية في التشريع العامّ: «الناس صنفان إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق».

وظهور المدن الطوباويّة، المثاليّة، أو الخياليّة، تعبير بشريّ عن المطلب، ولا تمثّل النموذج الأمثل للإنسان، لأنّها، مجرّد تصوّرات،

(10)

وفرضيّات، مشروطة بأطر معرفيّة، منتجة، ومقيّدة بحدود جغرافيّة، وإثنيّة، أمّا موقع المدينة التي تقوم على الفضيلة، والعدل، وغياب الجور، فلا يكون إلّا في الشريعة التي اكتملت بالنبيّ الخاتم J.

وسنحاول في هذه الدراسة التعامل مع فكرة اليوتوبيا، كظاهرة اجتماعيّة، ومعرفيّة، في بعضٍ من السياقات التي نشأت فيها.

 

(11)
(12)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

في معنى يوتوبيا

 utopie

 

(13)

في اللغة العربيّة:

كلمة دخيلة على اللسان العربيّ، واللفظة القريبة من حيث المعنى، ومن حيث المبنى هي كلمة: طُوبى، وهي مصدر بمعنى الطيّب أصله طيبي، قلبت الياء واواً لسكونها بعد ضمّة، وهي أيضاً جمع الطيبة بالكسر، وهو من نوادر الجموع[1].

وقد اعتُمِدت طوبيا في بعض الترجمات العربيّة لكلمة يوتوبيا، مثل كتاب: طوبيا والطوباويّين من طرف الأستاذ خليل أحمد خليل لكتاب :utopie et les utopiste

السياق القرآنيّ:

الكلمة التي تتقاطع في المبنى، وفي بعض من المعاني التي تشير إليها اليوتوبيا، هي كلمة طوبى، وقد وردت في القرآن الكريم في الآية الكريمة: «الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ[2]».

وقد اختلف علماء التفسير في المعنى الذي تحمله الكلمة، وعلى قاعدة القطعيّة التي يحتملها التفسير، تبقى الدلالات القرآنيّة مرنة، وقابلة للانطباق على السياقات الممكنة التي يصطدم بها

(14)

لإنسان في مساره الحياتيّ، وهناك عدّة روايات أوردها صاحب الميزان قدّس سرّه، سنوردها هنا لبيان المقاربة التي لاحظناها على الدلالة الممكنة بين طوبى واليوتوبيا.

جاء في الميزان في تفسير الكلمة: «طُوبى على وزن فُعلى بضمّ الفاء مؤنّث أطيب فهي صفة لمحذوف وهو على ما يستفاد من السياق - الحياة أو المعيشة وذلك أنّ النعمة كائنة ما كانت إنّما تغتبط وتهنأ إذا طابت للإنسان ولا تطيب إلّا إذا اطمأنّ القلب إليه وسكن ولم يضطرب..»[1] .

فالمعنى الذي تشير إليه طوبى إذاً هو المعيشة، والحياة السعيدة، والفرق بينها وبين اليوتوبيا أنّ الأخيرة هي حلم، وأمل إنسانيّ في الحياة السعيدة، وطوبى هي المعيشة، والحياة التي أعدّها الله لعباده المخلصين، فاليوتوبيا هي تصوّر إنسانيّ للجنّة، والجنّة تبقى مجالاً مفتوحاً على الممكنات، بدليل الحديث الشريف، الذي جاء فيه، أنّ رسول الله J قال: «قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».

والمشهور لكلمة «طوبى» عند جمهور أهل السنّة أنّها شجرة في الجنّة ظلّها مسيرة مئة عام، وما نرغب في الإشارة إليه وجود بعض الروايات تفسِّر كلمة طوبى بالجنّة أو أرض الأحلام، وسند الرواية هو سعيد بن جبير رضي الله عنه، والنصّ نورده من تفسير الخازن وهو كالآتي: «قال الأزهريّ طوبى لك، وطوباك لحن لا

(15)

تقوله العرب وهو قول أكثر النحويّين، وقال سعيد بن جبير: طوبى اسم الجنّة بالحبشيّة».[1]

فكلمة طوبى تشير إذاً إلى الجنة في لغة الحبشة، والجنّة مكان غير موجود في مكان أرضي، بل كمال يطمح إليه الإنسان، ويسعى إليه، فهي حقيقة، قائمة على مسلّمات عقديّة، كما وجدنا نصّ الرواية أيضاً بإضافات في تفسير ابن كثير الدمشقيّ [774هـ]  مع ذكر السند الذي اعتمد عليه الصحابيّ سعيد بن جبير الذي هو ابن عبّاس رضي الله عنهم أجمعين، والنصّ هو: «وقال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: طوبى لهم قال: هي أرض الجنّة بالحبشيّة، وقال سعيد بن مسجوع طوبى اسم الجنّة بالهنديّة، كذا رواه السدِّيّ عن عكرمة، طوبى لهم هي الجنّة».[2]

وانطلاقاً من المعطيات التراثيّة نعتقد أنّ كلمة طوباويّة ليست كلمة غربيّة، باعتبار دلالاتها، بل هي كلمة وجدت في التراث اللغويّ والحضاريّ لجميع الأمم، والذي حمّل الكلمة تصوُّراته الثقافيّة، ذات المنحى الأيديولوجيّ.

(16)

في الاصطلاح:

يوتوبيا: اصطلاح، ومنحوتة لغويّة، بدأت في السياق اللغويّ الانجليزيّ، «Utopia» اعتمدت فيها اللغة الإغريقيّة، كأرضيّة اشتقاقيّة، وهي تركيب بين كلمتين، من كلمة: Ou وتعني No أي اللا، وكلمة:Topos  التي تعني أيّ مكان Place، والكلمة تعني No Place  أو No where وتصبح اليوتوبيا ليست مكاناً، أو اللامكان[1]

ويعتقد بعض المتخصّصين في الدراسات اليوتوبيّة أنّ لفظة ايتوبيا ترجمة للكلمة اللاتينيّة «Nusquama» المشتقّة من «Nusquam =le nulle –part  والترجمة الحرفيّة للمصطلح تشير إلى أنّ دلالة الكلمة هي «اللامكان» أو لا مكان له أو «ما لا أين له» ومعناه المكان الذي لا وجود له في أيّ مكان»[2].

ويذهب تييري باكو إلى القول إنّ فكرة الايتوبيا عند توماس مور تعود بالأصل إلى ايرازموس[3]* حيث نلمس في كتابه مدح الجنون «éloge de la folie » المقابلة التي أقامها ايرازموس بين الجنون والحكمة، فيقول له: «لقد فكّرت في اسمك: مور الذي يقترب كثيرا من دلالات الجنون، وان كان يبعد كثيراً عن شخصك».[4]

(17)

فكلمة موريةMorisme  حسب النصّ تفيد التقاطع الموجود بين عالم الخيال، وعالم اليوتوبيا التي تعبّر عن اللامكان، فمشروع توماس مور ضرب من الخيال، واللامعقول، فهو بالتالي حكمة لا معقولة يمكن اعتبارها وليدة الجنون.

وتتعدّد الترجمات العربيّة لكلمة utopie  متعدّدة، ومنها كلمة «طوبى» الطوبى، ونجد الأستاذ خليل أحمد خليل في ترجمته لكتاب Utopies et Les Utopistes  للمؤلّف تييري باكو Thierry Paquot  يستخدم الكلمة «طوبيا والطوباويّون»، كبديل لكلمة ايتوبيا برغم أنّ النصّ الذي يعتمد عليه مؤلِّف الكاتب يؤكِّد الفرق بين الكلمتين «ايتوبيا» و«طوبيا»: «..» طوبيا، من أجل عزلتي كما سمّاه القدماء... منافسة هي للمدينة التي صاحبها أفلاطون، ربّما تفوّقت لأنّني بمجرّد حروف رسمت بها... كنت وحدي قد وضّحتها.. فالطوبيا اسم يدين لي المرء به، ولا جدال في ذلك. Eutopia  أو«الطيّب» الصالح eu باليونانيّة، والمكان Topos باليونانيّة، من هنا جاءت عبارة «بلد السعادة»، وبالتالي فإنّ ذلك البلد الذي لا وجود له على أيّة خريطة  utopia قد يكون أفضل العوالم Eutopia».[1]

التفرقة واضحة في النصّ الأصليّ للكتاب، وما يدفع إلى الغرابة أنّ الأستاذ خليل أحمد خليل لم يلتزم فيه بالتفرقة التي يشير إليها مور في نصّ الكتاب، إذ نجده يترجم الكتاب إلى طوبيا والطوباويّين،

(18)

والأصوب هو ايتوبيا والايتوبيّين.

 أمّا «خوسيه ميغيل ببويرطا فيجد أنّ كلمة طوباويّة الإسلاميّة مناسبة في تعريب الكلمة، لأنّ دلالة كلمة ايتوبيا كمكان غير موجود، ونموذجيّ يتقاطع مع الأمكنة السعيدة، فهي أي الطوباويّة: «تدل أيضاً على الأمكنة الممتعة وعن اللاموجود أو غير المُدَرك بالحواسّ.[1]

ويعتقد بعض المتخصّصين في اليوتوبيا أنّها ترجمة غير مناسبة، لأنّ اليوتوبيا هي الأين الذي لا أين له أو مدينة غير موجودة في أيّ مكان، أمّا الطوبيّ فهي أرض السعادة، ويستند إلى وجوب التفرقة بين كلمة:  utopia و كلمة  eutopia [2]

فاليوتوبيا، والاوتوبيا كلمات تتقاطع في البناء الصوتي، وفي بعض من الدلالات التي تشير إليها، فالمكان المُتخيَّل، هو مكان كامل، وجميل، وفاضل، أخلاقيّاً لأنّه يبتعد، ويتعالى عن المتغيِّرات الحسيّة، والثقافيّة التي تطبع التجمّعات البشريّة.

وفي كتاب قصّة اليوتوبيا نجد المفكّر لويس ممفورد Lewis Memford  يصنّف اليوتوبيا إلى: يوتوبيا الهروب، التي تترك العالم الخارجيّ كما هو، ويوتوبيا إعادة البناء تسعى إلى تغيير الواقع حتّى يستطيع الفرد التعامل معه حسب أهدافه، فالأولى تدعو الفرد إلى بناء قلاع في الهواء، والثانية تدعوه إلى أن يستشير مهندساً معماريّاً وبنّاء

(19)

حتّى يتمكّن من بناء منزل يحقّق له حاجاته الأساسيّة.[1]

وعليه فالتعريفات التي تنظر إلى اليوتوبيا على أنّها هروب وخيال محكومة بمنظومة قيميّة وأيديولوجيّة معيّنة، مثلاً تعريف «بول فولكييه» الذي جاء فيه:

«اليوتوبيا» مشروع أو حلم بمجتمع أو الحلم بمستقبل خياليّ ومرغوب فيه.[2]

وفي السياق نفسه نجد الأستاذ عند عبد المنعم الحفنيّ في موسوعته، حيث يحدُّها بأنّها: «مجرّد فرضيّات وتخيُّلات لا تمتّ بصلة إلى الواقع، فاليوتوبيا هي المكان المتخيّل الذي لا وجود له على أيّ أرض».[3]

كما نلمس الرؤية نفسها في المعجم الفلسفيّ الذي أصدره مجمع اللغة العربيّة، اليوتوبيا «طوبيا هي كلّ فكرة أو نظريّة لا تتّصل بالواقع أو لا يمكن تحقيقها أو ما لا يعبِّر عن الواقع ويكون أشبه بالخيال.[4] وفي السياق نفسه نجد التعريف التالي: «.. نسيج خياليّ لا وجود له في عالم الحقيقة؛ الطوباويّ من يتّصف بجموح الخيال

(20)

والبعد عن الواقع.[1]

أمّا هربرت ماركيوز فمفهومه لليوتوبيا يشير إلى مقدّمات تكمن وراء المشروع الإيتوبيّ، والتي تكشف عن مشروعيّة الأمل الذي تطمح إليه: «لم يعد يفيد ما ليس ذا مكان في الكون التاريخيّ، بل أصبح يفيد ذلك الذي تمنعه قوّة المجتمعات القائمة من رؤية النور، فاليوتوبيا تعبير عن المشروع الإنسانيّ الذي يعاني الكبت والقسر الاجتماعيّ.[2]

ويعرّف كارل مانهايم 1893 عالم الاجتماع النمساويّ الذهنيّة اليوتوبيّة من خلال الغايات المطلوبة قائلاً: «... تكون الحالة الفكريّة الطوباويّة عندما نخالف حالة الواقع الذي تظهر فيه وتتجاوزه، ولا نعتبرها كذلك إلّا إذا نزعت مروراً بالعمل نحو تحطيم نظام الأوضاع القائمة المسيطر في هذا العهد تحطيماً جزئيّاً أو كليّاً..»[3].

وعليه يظهر المؤشّر السياسيّ في البناء النظريّ، والاستشرافيّ لفلسفة اليوتوبيا، فهي نظريّة تسعى إلى التعالي على النظريّة التعسفيّة، التي تمارس قسراً على الفكر المالك لقابليّة الاستعباد، فهي في بداية أمرها ثورة على العبوديّة، والاسترقاق الفكريّ، والتي تتحوّل بعد امتلاكها للسلطة الى سلطة مستبدّة.

(21)

والخلفيّة التي اعتمدت في التصنيف هي المشكلة وليست المسألة في اليوتوبيا، فاليوتوبيا بناء اجتماعيّ مثاليّ خالٍ من العنف والقهر والتملّك إلى درجة تجعل إمكانيّة تحقيقه على أرض الواقع صعبة، ويبقى تعلُّق إمكانيّة التحقّق للمشاريع المثاليّة مأخذاً على اليوتوبيا، في حين أنّ العيب هو في تقاعس الإنسان عن مواكبة المشروع، فاليوتوبيا «صنف معلن ومصرّح به وهي منذ البداية صنف أدبيّ كما يقرِّر «ريكور» أمّا الأيديولوجيّة فهي غير معلنة بطبيعتها».[1]

فالخطاب اليوتوبيّ يختلف عن الخطاب الأيديولوجيّ، لأنّ التصريح بالأمل، والحلم بمجتمع أمر طبيعيّ لا يتطلّب التخفّي، أمّا القول الأيديولوجيّ فيتطلب الإخفاء.

ولكنّ الإرهاص الطوباويّ لا يقف عن التطلُّع برغم العوائق، والحواجز المقامة من طرف الأنظمة الشموليّة، فسعي الإنسان إلى وضع مشاريع مستقبليّة وبناء مجتمعات يوتوبيّة، مثل يوتوبيا المجتمع الشيوعيّ، ويوتوبيا المجتمع الرأسماليّ، ويوتوبيا العولمة.. مسألة مطلقة في الطبيعة البشريّة، فاليوتوبيا حسب جورج أورويل هي الحلم بمجتمع عادل يبدو أنّه ينتاب الخيال الإنسانيّ ويعاوده باستمرار، على نحو لا يمكن اجتثاثه أو استئصاله في مختلف العصور، سواء سمّي بملكوت السماء أو المجتمع اللاطبقيّ، أو العصر الذهبيّ الذي وجد ذاته مرّة في الزمان السحيق،

(22)

وانحرفنا أو تنكّبنا سبيله».

وهي على حدّ تعبير الأستاذ فاروق سعد تصاميم ذهنيّة مادّيّة ومعنويّة لمنشآت وأنظمة نموذجيّة، وقيم حضاريّة، مثاليّة، غايتها تحقيق الكفاية والعدالة والسلام والسعادة للمخلوقات، يبتكرها الفكر الإنسانيّ ويحيط بها بأجواء من الخيال الجامح والغموض  الساحر، والرمز المُشوّق موحياً بأنَّ العالَم الموصوف هو عالم واقعيّ موجود فعلاً.[1]

وتكون الغاية المحرّكة والمتخفيّة في النصّ الايتوبيّ هي البحث عن الحكمة، والمكان المثال أو المطلوب في المكان الجديد هو إقامة الوجود الاجتماعيّ على الحكمة، المقابلة لعالم الجنون الذي يعيشه البشر في مكانهم الوهميّ، والذي يحصل من خلال رفض العقل الجمعيّ وآلياته وتجاوزه في مخيال المكان، ووهميّة المكان المبنيّ من خلال الذهن أطروحة تبنّتها المدرسة اللامادّيّة بريادة جورج بيركليGeorge Berkeley.

ونلمس الصورة الإشكاليّة لمخيال المكان من مسائل الفلسفة التقليديّة، فتصوّرات المكان هي الأصل، والوثيقة المرجعيّة لكثير من الحقائق البشريّة، والأمل عند توماس مور يكمن في بناء عالم جديد إيتوبيا كمدينة تجسّد الحكمة في مقابل الحكمة المجنونة التي تملك السلطة، بشتّى صورها الضاغطة على الذات ذات الفرد وذات الجماعة، وتبقى الايتوبيا تطرح على مستوى البحث كثيراً من

(23)

الإشكالات، الفلسفيّة والسياسيّة والدينيّة.. فهي تدفع الباحث إلى إعادة ترتيب آليات القراءة، فهي فنّ وتأسيس للكتابة الرمزيّة.

مؤسّس المصطلح:

اقترن مصطلح يوتوبيا باسم المفكّر الإنجليزيّ توماس مور Thomas More [1478/1535] حيث ينسب الاشتقاق إليه، وذلك في الرواية التي حملت اسم المصطلح.

ولد السير توماس مور في لندن في السادس أو السابع من فبراير1478.. كان أبوه جون مور قاضياً في المحكمة العليا، ودخل جامعة أكسفورد، وهو في الرابعة عشْرة، حيث أتقن اللاتينيّة.. ثمّ درس القانون في لندن وتوطّدت بينه وبين ارازمس «ةrasme» عالم الإنسانيّات الشهير الذي زار إنجلترا، حيث ألقى محاضرات في لندن عن كتاب أوغسطينوس «مدينة الله»، وربّما كانت البذور الأولى لما أودعه بعد ذلك من أفكار في كتابه «يوتوبيا»[1].

كان محامياً بارزاً، وعضواً في نقابة المحامين بلندن، وأستاذ حقوق، وعضو برلمان، وسفيراً شرّفه الملك هنري الثامن بأن أغدق عليه، غصباً عنه تقريباً، أعلى حظوة، حين جعله، في عام 1529، رئيساً لقضاة إنجلترا، وذلك قبل أن ينتهي به الأمر لأن يقطع رأسه في عام1535، كما عرف بإخلاصه وتقواه، والتزامه بالقيم الأخلاقيّة، ويذكر التاريخ أنّه نجح في كبح المطالب الماليّة التي طالب بها الملك

(24)

هنري السابع عندما كان عضواً في البرلمان الانجليزيّ، برغم معرفته اليقينيّة بسخط الملك عليه ممّا جعله يفكّر في الرحيل عن إنجلترا، وما يؤكّد أخلاقيّاته القبول أو الرضا بالقتل، وتضحيته بنفسه من أجل مبادئه التي يؤمن بها، وهي اعتقاده بعدم شرعيّة طلاق الملك هنري الثامن[1]، فأصبح بذلك شهيداً في سبيل إيمانه الكاثوليكيّ، ولأنّه «.. أعلن معارضته للانشقاق الإنجليكانيّ، اعتبره البابا بيو الحادي عشر من بين الأبرار، ومن القدّيسين، وهو إلى اليوم نموذج للاستقامة، ومثال يحتذى به، وحضوره لا يمكن فهمه إلّا من خلال معرفة السياق التاريخيّ، والسياسيّ لشخصيّته.[2]

فهو على حدّ تعبير Keith Watson صوت الضمير الأوّل للثورة، والتغيير في إنجلترا، وهو من الشخصيّات الثلاث التي تعبّر عن النهضة الإنجليزيّة أو عصر النهضة في إنجلترا على حدّ تعبيره أيضاً وهم إضافةً إليه ايرازموس ةrasme 1466/1536 وجون كولي  Colet 1467/1519.

فالقاعدة الثوريّة التي أسّست لسلوك توماس مور، وأهّلته لهذا التتويج الكاثوليكيّ والأيديولوجيّ، هي الفكر المستنير الذي كان مُشبعاً به، فعصر النهضة في إنجلترا كما يقول راسل: «هو مختلف غاية الاختلاف وفي طرائق كثيرة عن عصر النهضة في إيطاليا، فلم يكن فوضويّاً أو لا أخلاقيّاً، بل على العكس اقترن بالتقوى والفضيلة

(25)

لعامّة، كان مهتمّاً اهتماماً كبيراً بتطبيق معايير العلم على الإنجيل»[1]

وتوماس مور نموذج المواطن المخلص، والموالي للوطن، وللمبادئ الأخلاقيّة من دون مواربة أو تملّق لأحد، فرفض مور دعوة الملك هنري الثامن لزفافه على «آن بولين»  بعد إعلان مور عدم شرعيّة زواج الملك بآن بولين، هو إصرار وقمّة في التضحية من أجل المبادئ، فلو فرضنا جدلاً عدم كتابة مور كتاب [يوتوبيا] لكان لواقعة استشهاده تعبيراً لليوتوبيا وتجسيداً لها في الواقع، إذ لم يكن يملك القابليّة للفساد وهو في الوظيفة كما يقول برتراند راسل عنه، ومن بين مواقفه المشرّفة التي كانت تمثّل الدوافع الخفيّة لإعدامه رفضه «قانون السيادة Act of Supremacy  الذي سنّه الملك في 1534 والذي ينُصّ على ترؤس الملك لا البابا الكنيسة إنجلترا ..

ونعتقد أنّ الواقع المعاصر يكفي لفهم معنى رفض قوانين الحاكم وتفسير ذلك، أمّا المؤلّفات الكتب التي خلّفها، فيكاد مور يذكر بسبب يوتوبيا وحسب، الذي نُشِر في لوفن باللاتينيّة سنة 1516 الذي حاول فيه التعبير عن بعض النقاط أهمّها مناقشة الأوضاع المزرية التي تسود إنكلترا، وأوروبا آنذاك وانتقادها بصورة لاذعة، والكشف عن المساوئ الاجتماعيّة في نظم الحكم السائدة، وفي هذه النقطة نجد وضعيّة مور هي وضعيّة عالم الاجتماع الذي يسعى إلى دراسة الظاهرة الاجتماعيّة من خلال وصفها وتحديدها، وثانيها محاولة مور وضع مفاهيمه وفلسفته الأخلاقيّة التي يؤمن بها في

(26)

مدينة مثاليّة، والتعبير عن مشروعه السياسيّ في صورة رمزيّة، وهي قدرة أخرى تميّز هذه الشخصيّة.

وسنحاول التعليق على الرمزيّة التي أخذت قسطاً لا بأس به في فلسفة التأويل، إذ  يتقمّص هو شخصيّة الفيلسوف الذي يتّخذ من الرمز أداة للتعبير عن فلسفته ونظرته للكون والإنسان، فقد اتّبع أسلوب المقابلة أو المقارنة بين وضعيّتين أو حالتين اجتماعيّتين: ما هو كائن، وما ينبغي أن يكون، فالوضعيّة القائمة هي حالة الانحراف عن المبادئ، وغياب العدالة الاجتماعيّة، أمّا الوضعيّة المطلوبة، فهي البحث عن حياة أفضل، فيوتوبيا مور ليست من جنس يوتوبيّات الهروب، بل هي من اليوتوبيّات البنائيّة.

 وبين مور مع هنري الثامن، وأفلاطون والملك ديون، عبرة مشتركة، وإن كان حظّ أفلاطون أن افتُدِي من قِبل تلميذ وفّي، في حين استُشهِد مور تجسيداً لرغبة البناء والإصلاح الثوريّ عنده، إذ «.. حلّل توماس مور عيوب الاستبداد الذي أصبح ضحيّته فيما بعد، ولكنّه مات شهيد الإيمان الكاثوليكيّ، وأفكاره السياسيّة، بالرغم من جرأتها، لم تخف أحداً، بسبب الشكل الذي عرضها فيه».[1]

وبما أنّ الغرض من كتابة الكتاب هو طرح مشروع سياسيّ، والكتاب يناقش مسألتين: الأولى شخصيّة، تتعلّق بتردّده في الالتحاق بخدمة الملك، أو بصيغة أعمّ، هل ينبغي للفلاسفة مساعدة الملوك بنصائحهم، والثانية تتعلّق بإصلاح

(27)

ظام العقوبات ...»[1].

ومادامت العلاقة المثلى بين الحاكم والمحكوم تتجسّد في الولاء القائم على المصلحة العامّة، والمشاركة في بناء الدولة ليس من باب شخصيّ أو منفعة ضيّقة، فإنّ كتاب يوتوبيا هو مجال استقى منه السياسيّون الكثير من قيم التعايش، والمواطنة النموذجيّة.

 ورواية [يوتوبيا] تخفي الكثير في حكاية رحلة، من خلال التعبير الجديد للعنوان نفسه، طريق الغموض اليوتوبيا، المكان غير الموجود في أيّة جهة، وهي الدلالة التي تجملها الكلمة، كما نجدها تقترب من كلمة الايدوتوبيا Udetopia، المكان غير الموجود في أيّ زمن «لا يملك حاضراً ولا ماضياً ولا مستقبلاً » وتلتقي أيضاً كلمة يوتوبيا وكلمة  الأوتوبيا Eutopia، مكان السعادة حيث كلّ شيء جيّد، فهناك تعدّديّة في المعنى، وتعدّديّة في الإيحاءات، تعدّديّة أشكال.

كما لو أنّه عبر هذه اللعبة التي تدخلها هذه التعدّديّة الدلاليّة تتوصّل اليوتوبيا لاحتلال وحدتها، كما يتوصّل المؤلّف لحفظ حرّيّته، وقد انشغلت بالعالم البديل الممكن بتغيير الموجودات، والأشياء لتحقيق العدل والمساواة والحرّيّة، لكنّها في جوهرها لم تبتعد عن مرجعين: الأوّل مدن الإنسان الفاضلة نقيضاً لقسوة المدن القائمة، وغياب العدل فيها  كما في الجمهوريّة لأفلاطون.

(28)

والثاني الواقع نفسه الذي يجري تعديله وإصلاحه، ويقدِّم  لنا توماس مور أمثلة على ذلك، فلمّا كان الحصول على الذهب حمّى وسحراً جاذباً لمغامرات معاصريه، ومؤامراتهم، فإنّ هذا المطلوب يصبح  حلية للعبيد والأطفال، كما نجده يتخيّل الجزيرة بلا نقود، ولا محامين، لتوخّي العدل الطبيعيّ، والزهد بالمال لتحقيق التوازن الاجتماعيّ، وهو ما تؤكّده الدراسات الحديثة التي تفرّق بين الفكر اليوتوبيّ وعلوم المستقبل القائمة على التخطيط، لأنّ اليوتوبيّين معنيّون بخلق أفكار، وتصوّرات للانسجام الاجتماعيّ صادرة عن الخيال الأدبيّ والتصوّر الفلسفيّ.

وتتألّف الرواية من كتابين وضعا في أوقات مختلفة، ولا يعرف أيّهما كُتب قبل الآخر، ويتضمّن الأول وصفاً تفصيليّاً للجزيرة، وإن كان موقعها لا يزال غامضاً، فهي تتألّف من أربعٍ وخمسين مدينة، متساوية في عدد السكان والمنشآت.. يتحدّث أهلها لغة واحدة ولهم قوانين وعادات واحدة ويمارسون مهنة الزراعة، ويقوم النظام المثاليّ للجزيرة على أساس من العدالة التي لا تتحقّق إلّا عن طريق اشتراكيّة الحياة وإلغاء الملكيّة الخاصّة.

أمّا الثانية فتحتوي على وصف تفصيليّ للحياة في الجزيرة، وهو ينقسم الى عدّة أقسام؛ القسم الأوّل وصف جغرافيّ للجزيرة ومخطّطها العمرانيّ، والحياة اليوميّة للسكّان، أمّا القسم الثاني، فيتناول فيه نظام الحكم، واختيار الرؤساء، ونظام العمل والحياة الاجتماعيّة، أمّا القسم الثالث فيعالج الأساس الفلسفيّ للحياة في الجزيرة، والأخلاقيّات، ونظام الزواج والقوانين العامّة، ثمّ الجزء

(29)

الذي يتناول علاقة جزيرة يوتوبيا بجيرانها وأمور الحرب، والقسم الأخير تعرّض لنظام الأديان في يوتوبيا، وقبل التعرّض للمواطنة في يوتوبيا توماس مور يجدر بنا التعرّض لدلالة الدولة عند مور، ونلاحظها في الفقرة الأولى من الكتاب، التي يقول فيها: «نشأ خلاف أخيراً بين الملك الذي لا يقهر أبداً، ملك إنجلترا، هنري الثامن، الذي يتميّز بجميع صفات الملك المثاليّ، وبين سموّ أمير كاستيل تشارلز، الجبّار السامي، وذلك حول بعض الأمور ذات الأهميّة والوزن».[1]

والاستهلال بعبارة معيّنة في فقه اللغة، وفي فلسفة التأويل، يفيد ويحمل العديد من الدلالات، فالمقدّمة دوماً تحدّد الدواعي والأسباب الكامنة وراء الكتابة، ويضع الباحث فيها أيضاً خطّة المعالجة؛ فالخلاف والتصادم بين الملك هنري الثامن، والأمير علّة ومنطلق الكتابة، فهي تشير إلى توصيف للدولة حسب رؤية توماس مور، فالخلاف والتنازع بين العائلة الملكيّة هو صورة وعنوان لهذه الدولة الملكيّة وعنوانها، فهي اذاً رعاية مصالح الطبقة الحاكمة، والمسائل التافهة التي يشير إليها هي علّة هذه المنازعات، فقوله: «وذلك حول بعض الأمور ذات الأهميّة والوزن»، فالإشارة التي يضعها مور لنوعيّة الخلافات القائمة بين الملك والأمير تفيد شكليّة هذه الأمور وسطحيّتها، كما أنّ الكلمات الموظّفة  تحمل نوعاً من السخرية الخفيّة، فالملك هنري الثامن ملك لا يقهر ويتميّز بجميع

(30)

صفات الملك المثاليّ، فإذا سلّمنا بأنّه لا يقهر، فكيف يفشل في فضّ الخلاف القائم بينه وبين الأمير، وكيف نجمع بين القهر [العنف] والمثاليّة، فالجمع بين نقيضين يحيل إلى التفكير والتأمّل، والبحث فيما وراء العبارة، والوصف نفسه نجده للأمير [الجبّار السامي]، فهذه العبارات توحي بتناقض الدولة وتعارضها مع منطق العقل والأخلاق، فالدولة ظاهرة سياسيّة تحتاج إلى إصلاح ..

الأسباب والمناخ اللذان أدّيا إلى ظهور المصطلح.

المناخ السياسيّ:

يبدو لنا أنّ المواطنة النموذجيّة هي المطلب الخفيّ في كتاب يوتوبيا، والمشروع السياسيّ المثاليّ الذي عنون به كتابه فالعنوان مركّب من ثلاث جمل: الأولى: السياسة المثلى للدولة، ووصف يوتوبيا، الثانية: حديث روفائيل هيتلوداي، الثالثة كما يرويه توماس مور مواطن، ورئيس أمن المدينة الشهيرة لندن، فالجملة الأولى تحدّد الغاية الأخلاقيّة من الدولة، فهي أداة ووسيلة لتحقيق القيم الأخلاقيّة وتجسيدها، فالمثاليّ هو «المنسوب إلى المثال، ويطلق على صورة الشيء الكاملة، أو على ما يحقّق هذه الصورة تحقيقاً تامّاً..».[1]

أمّا الجملة الثانية فهي جملة تؤدّي دور الوسيط بين المطلب والطالب، «ورافاييل هيتلود» تُرادِف باليونانيّة ماهر في الهذر[2]

(31)

والعبارة تبعاً للترجمة: «حديث رافاييل هيتلوداي» فهي ترمز للأسلوب المستخدم في التعبير عن الغاية وهو الحكاية في صيغة الحوار أوّلاً، وبصيغة السرد في الكتاب الثاني، فالحديث هو الخطاب والاسم كما يقول ول ديورانت معناه المهارة، والقدرة على الصناعة اللفظيّة، أمّا الجملة الثالثة ـ كما يرويه توماس مور المواطن.

 فتقديم مور لصفة المواطن واسمه، قبل رئيس أمن دائرة لندن يفيد البعد المواطنيّ الذي كان يملكه مور، فهو فعلاً نموذج المواطن الصالح، وبالتالي فإنّ القيم التي يقيم عليها المواطنة هي قيم المجتمع اليوتوبيّ الذي عاصمته أمورات Amaurate   فالمواطن الفاضل لا يملك إلّا أن يتصوّر مجتمعاً أفضل ومثاليّاً عبر الكلام، وإذا كانت المواطنة الحقيقيّة تتجسّد في المشاركة السياسيّة، والحقّ في صنع القرار وعزل الحاكم إذا انحرف عن المسار المنوط به من قبل الناخبين، فإنّ هذه الدلالة واضحة وبينة في كتاب يوتوبيا لتوماس مور في عدّة مواطن من الكتاب، ومنها: «ويشغل الحاكم منصبه طوال الحياة، ما لم يعزل إن أتّهم بالميل للطغيان، أمّا الرؤساء الأُوَل فينتخبون سنويّاً ولكنّهم لا يستبدل بهم غيرهم إلّا لسبب قويّ....».[1]

والحاكم في مدينة مور يملك القدرة والصلاحيّة في البقاء على السلطة مدى الحياة، فمدّة الحكم غير محدّدة دستوريّاً، نظراً لعدم أهميّتها، فليس المهمّ أن يبقى الحاكم مدّة أطول أو مدّة أقصر،

(32)

المهمّ الالتزام بالقيم الأخلاقيّة، وتجسيدها بين أفراد الشعب، والسعي إلى الرقيّ والارتقاء.

ويبدو أنّ المطلب عند مور كان الإصلاح السياسيّ، والدستوريّ للوضع السائد آنذاك في إنجلترا خصوصاً، وأوروبا عموماً، فاليوتوبيا مشروع تجديديّ، وإصلاح لوضعيّة سياسيّة متعفّنة، وعليه كان الأمل في العدل والمساواة، من خلال نظام سياسيّ، مؤسّس على حكمة متعالية على الحساسيّات.

والشعب يملك عبر ممثّليه الصلاحيّة في عزل الحاكم، وهذه القيمة تتصدّر السلّم القيميّ لمبدأ المواطنة، فالطغيان أو الاستبداد كافٍ لعزله وتبديله، واللطيف في حديث مور أنّ الميل إلى الاستبداد كافٍ للعزل، ولا ينتظر الشعب ممارسة الطغيان من قبل الحاكم، كذلك اتّهام مواطن من الجزيرة للحاكم أيضاً كافٍ لعزله، وأعتقد أنّ مضمون هذه العبارة كافٍ للتدليل على تضمّن الكتاب لفكرة، المواطنة وقيمتها، ومن بين القيم السياسيّة، والأخلاقيّة التي تضمّنها الكتاب أيضاً، المشاركة في القرار، والتسيير عبر الانتخاب، والنصّ التالي يكشف عن هذه القيمة: «تختار كلّ ثلاثين أسرة سنويّاً ممثّلاً أو رئيساً لها، كان يدعى بلغتهم القديمة سيفوجرانت، أمّا في اللغة الحديثة فيدعى فيلارك، ويقام على كلّ عشرة من الفيلارك والأسر التابعة لهم شخص  كان يدعى قديماً ترانيبور، أمّا الآن فيسمّى بروتوفيلارك أو الرئيس الأوّل، وتنتخب الهيئة المؤلّفة من الرؤساء أو السيفوجرانت، ويبلغ عددها مئتي شخص، بعد أن تقسم على اختيار الرجل الذي تراه أفضل المرشّحين وأكثرهم نفعاً، بطريق الاقتراع

(33)

السرّيّ، حاكماً، على أن يكون أحد أربعة يرشّحهم الشعب، بحيث يختار واحد من كلّ من الأحياء الأربعة للمدينة ليرشّح للمجلس.

ويبدو أنّ مشاركة المواطنين في المسائل السياسيّة تجري سنويّاً، ولتحقيق العدالة بين سائر المواطنين تختار كلّ ثلاثين أسرة ممثّلاً لها، حتّى يساهم الجميع في القرار السياسيّ عبر الانتخاب والاختيار القائم على العدالة والأخلاقيّة، وآليّة الانتخاب أو التمثيل تأخذ ترتيبات معقّدة حتّى تصل إلى الحاكم الأوّل، والمعيار الذي يقوم عليه اختيار الممثّلين هو الفضيلة «بعد أن تقسم على اختيار الرجل الذي تراه أفضل المرشّحين وأكثرهم نفعاً»، فالأخلاق والالتزام بالقيم هما عنوان  الممارسة السياسيّة، والبتّ في قضايا عامّة من دون علم الممثّلين جريمة لا تغتفر، «أمّا مناقشة الأمور المتّصلة بالصالح العامّ خارج مجلس الشعب فيعدّ جريمة من الدرجة الأولى»، فالسلطة والسيادة ليسا ملكاً للحاكم بل ملك للشعب، وهي ما سيطلق عليه لاحقاً جان جاك روسو الإرادة العامّة التي هي روح المواطنة.

الفضاء العامّ للمواطنين إذاً في مجتمع اليوتوبيّ فضاء أخلاقيّ، وطبيعة العلاقات الاجتماعيّة بينهم مؤسّسة على البنية التركيبيّة لمجتمعهم، فالسلوك الأخلاقيّ المميّز لهم طبيعيّ وتلقائيّ، وهذا يؤكّده مور بقوله: «فإذا نشأ خلاف بين فردين من أفراد الشعب، وقلّما يحدث ذلك، فإنّهم يسوّونه من دون إبطاء»[1]، فالتصادم نادر الحدوث.

(34)

نلاحظ أنّ طبيعة السلطة في الأسرة اليوتوبيّة هي أبويّة، فالقرار بيد الآباء الأكبر سنّاً، فاحتفاظ الأب بسلطة القرار والتسيير يحافظ على بقاء وتماسك الأسرة، أمّا انقسام السلطة في البيت فهو ضعف السيادة، يقول مور: (لمّا كانت المدينة تتكوّن من أسر، فالأسرة تتكوّن من أولئك الذين تربط بينهم رابطة الدم، فالفتيات، عندما تكتمل أنوثتهنّ ويتزوجن، يذهبن إلى بيوت أزواجهنّ أمّا الأبناء الذكور، ثمّ الأحفاد، فيبقون في الأسرة ويخضعون لأكبر الآباء سنّاً، إلّا إذا شاخ وخرف، وفي هذه الحالة يخلفه من يليه سنّاً»[1]، فالخضوع لسلطة الأب الأكبر لا تعود الى عامل الزمن بل لعامل الحكمة والخبرة في التسيير والإدارة، والاستثناء الذي يورده توماس مور يؤكّد حضور الحكمة والأخلاق في السلطة الاجتماعيّة، وغيابها يستلزم الإقالة على مستوى السلطة، والتغيير على مستوى الحياة الأسريّة.

المساواة في المجتمع اليوتوبيّ سمة عامّة وبديهيّة لا تحتاج إلى برهان، بل العكس هو الذي يحتاج إلى البرهنة، فهم يجهلون اللامساواة، والخلاف والبطالة الناتج من الملكيّة الفرديّة والحياة من أجل الذات، التي تجعل من الآخر أداة يصل بها إلى تحقيق السعادة الفرديّة، فقيم الأنانيّة هي عنوان المجتمعات غير اليوتوبيّة بشكل عامّ، وأسلوب المقابلة هو نوع من الخطاب المشفّر الذي يكتب به توماس مور؛ وهذه الدلالة واضحة في كتاب [يوتوبيا] والنصّ التالي يتعامل فيه مور مع طبقة النبلاء بأسلوب نقديّ لاذع يقول فيه: ـ مخاطباً الكاردينال ـ : «إنّ أغنامكم التي اعتادت أن تكون

(35)

ليفة معتدلة الطعام.. أصبحت شرهة مفترسة، تلتهم الرجال أنفسهم وتدمّر حقولاً ومنازل ومدناً بأكملها وتلتهم سكانها، ففي جميع تلك الأجزاء من المملكة التي تنتج أرفع أنواع الصوف، وأغلاها، لا يكتفي نبلاؤكم بالمداخيل والأرباح السنويّة، التي كانت تدرّها عليهم أراضي آبائهم وأجدادهم .... فلا يتركون أرضاً للزراعة، ويقيمون الأسوار حول كلّ شبر من الأرض ويحوّلونها إلى مراعٍ.... ولا يتركون مكاناً سوى الكنيسة التي يحوّلونها إلى حظيرة للأغنام»[1].

فالنبلاء أو الأشراف طبقة اجتماعيّة انتهازيّة، وملكيّتها في الأصل غير شرعيّة، كوّنها هؤلاء بدماء العمال والفقراء، فبعد أن شبّههم مور في أوّل العبارة بأنّهم أغنام الملك، أصبحوا فيما بعد يحوّلون المواطنين الآخرين إلى أغنام، فالكنيسة هي الملجأ الوحيد الذي يتبقّى للفقراء والمساكين فالقضاء على الملكيّة الفرديّة هو القاعدة نحو المساواة وبالتالي نحو العدالة فالمساواة الإيتوبيّة، تجعل الجميع يعمل من أجل الجميع، ولا يمتلك أحد شيئاً خاصّاً به، إنّ الجماعة تؤمّن للكلّ الرخاء، فاليد العاملة متوافرة والإنتاج الزراعيّ والحرفيّ منظّم جيّداً والراحة، يمكن استخدامها لتنوير العقل.

ومن خصوصيّات هذه المساواة الانضباط حيث ساعات العمل محدّدة والطعام أيضاً مشترك، وفيها يخضع كلّ مواطن من دون إكراه لأنّ المجموعة تقدّم له أقصى الرفاهية، يقول توشار: «إنّ القوانين، بغياب النزاعات الناشئة عن الملكيّة الخاصّة، هي بسيطة وقليلة العدد، ودور الدولة يقتصر تقريباً، على إدارة الأمور، وعلى

(36)

توجيه الاقتصاد».[1]

المساواة بين المواطنين قيمة من قيم المواطنة، فالمواطنون سواء أمام القانون لا فضل لأحد على أحد، فكلّ القيم الأخلاقيّة والجميلة التي تتضمّنها المواطنة، تجد جذورها وبذورها في كتاب اليوتوبيا.

البحث عن المجتمع الفاضل:

من القيم الأخلاقيّة التي تميِّز مبدأ المواطنة في المجتمع المدنيّ الحديث والمعاصر، قيمة التسامح والتعايش بين الأديان والذي «يشير إلى الامتناع عن التدخّل في أعمال الأشخاص الآخرين وفي آرائهم، بينما تبدو لنا هذه الآراء أو الأعمال كريهة أو منفرة أو تستحقّ الشجب أخلاقيّاً».[2]

فالتسامح من أهمّ القيم التي حظيت بالاهتمام الواسع في الدراسات الفكريّة، وعلى صعيد المراكز الاستراتيجيّة، والدراسات المستقبليّة، لأنّ حضور العنف والإرهاب، يستلزم غياب التسامح والتعايش، وكتاب يوتوبيا، يسعى إلى تكريس المنظومة الأخلاقيّة والسعي نحو تحقيقها في الواقع، فتعدّد العقائد في المجتمع اليوتوبيّ مسألة عاديّة ومألوفة، وغير هذا هو غير المألوف، وما يميّز النسبة العظمى من أفراد المجتمع هي التوحيد، يقول مور: «.. فإنّ جميع ما عداهم 

(37)

من اليوتوبيّون، بالرغم من اختلاف معتقداتهم، يتّفقون معهم في هذا الشأن، وهو الإيمان بوجود كائن أعلى واحد، خالق الكون كلّه، ومدبّره بحكمته، ويدعونه جميعاً بلغة بلادهم [ميثرا] إلّا أنّ نظرتهم تختلف من شخص لآخر..»[1]

 فالاختلاف في العقائد لا يشمل الأصول العقيديّة بل الفروع وحدها، فالنظرة هي أصل التفاوت في العقيدة، فكلّ معتقد يصبح صحيحاً، ويجب احترامه، ولا يجوز التطاول على معتقدات الآخر حتّى لو كانت بالنسبة إلينا مثيرة للرفض أو المقت، فاحترام المواطنين لا يقوم على تقدير الشخص كفرد وحسب، بل التقدير يُؤسَّس على الكرامة التي تشمل كلّ ما يرتبط بها من أفكار ورؤى، وملكيّة .. ويشير توماس مور إلى أنّ التسامح بين الأديان لا ينبغي أن يكون متعلّقاً بالممارسة الفرديّة أو الجماعيّة، فالبناء المؤسّساتيّ ضروريّ لحماية معتقدات المواطنين، والنصّ الذي يؤكّد هذه الالتفاتة أو الحكمة الموريّة «نسبة إلى مور» هو: «.. فقد بلغ سمع الملك يوتوبوس، قبل وصوله إلى يوتوبيا، أن السكّان لا يكفّون عن الخصام فيما بينهم ... لذا قرّر منذ البداية، بعد أن أحرز النصر، أن يكفل القانون لكلّ شخص حريّة اعتناق الدين الذي يريده، ويسمح له بدعوة الآخرين إلى دينه، بشرط أن يؤيّد الدعوة بالمنطق وبهدوء ووداعة، وألّا يستخدم العنف، ويمنع عن السبّ، فإذا ما عبّر عن آرائه بعنف وحماسة وتطرّف،

(38)

عوقب بالنفي أو بأن يصبح عبداً.»[1]

 وبيان النصّ صريح في دلالة التسامح، والدعوة إلى ضبط القيمة في شكل قاعدة قانونيّة مثل قيمة العدالة، فلا وجود للعدل في غياب القانون أو السلطة.

كما أنّ تربية وتكوين المواطن في جزيرة اليوتوبيا مسألة ضروريّة في بناء المجتمع عموماً، فالتنشئة الأخلاقيّة ضروريّة، إضافةً إلى التكوين المعرفيّ والسلوكيّ، ومهمّة التربية تندرج ضمن السلك الكهنوتيّ والنصّ التالي يكشف عن هذه المبادئ: «والكهنة هم المكلّفون بتعليم الأطفال، ويعتبرون الاهتمام بأخلاقهم وفضائلهم لا يقلّ أهميّة عن الاهتمام بتقدّمهم العلميّ، ويعملون منذ البداية على ملء أذهان الأطفال، ومازالوا يتّسمون بالرقّة والمرونة، بالأفكار الصالحة والنافعة أيضاً للحفاظ على الدولة، فإذا ما اتّخذ هذه الأفكار لها جذوراً في أذهان الأطفال، بقيت معهم طوال حياتهم وعادت بالنفع العظيم في المحافظة على حالة الدولة، فالدولة لا تنهار إلّا نتيجة للرذائل التي تنبع من الأفكار الخاطئة».[2] فالمهمّة التربويّة من مهامّ رجال الدين، وعلى رأس الاهتمامات التربويّة التوعية الأخلاقيّة والتربية على الفضيلة.

ومن الأوليّات في فلسفة التربية العمل على بناء القاعدة المعرفيّة التي تؤهّله للمواطنة الصالحة، والنموذجيّة، وطريقة التواصل بين المعلّمين والمتعلّمين الحبّ والرقّة، وتجنّب القسوة والعنف في

(39)

العمل التربويّ، فالتربية في الصغر كما قيل كالنقش في الحجر، فتأصُّل الوازع الأخلاقيّ والمواطنيّة في نفس النشء قوّة للدولة.

إصلاح المنظومة القانونيّة:

يتضمّن كتاب يوتوبيا العديد من القيم والمعاني الأخلاقيّة، ولسنا نرغب في تشخيصها جميعاً، بل سنحاول عرض بعضها، ومن أهمّ الأفكار التي لفتت انتباهنا مضمون نظريّة الإصلاح القانونيّة التي طرحت في فلسفة القانون، وبتعبير أدقّ نظريّة الجزاء أو فلسفة العقاب التي ترفض إقامة العقاب على أساس العقاب، فالقاعدة المعتمدة في هذه النظريّة هي: «ليس من الحقّ أن يُسلَب أحدٌ حقّاً ليس هو الذي منحه»، فحقّ الحياة الذي يسلب بالإعدام مسألة اختلافيّة في القانون، فالمدرسة العقليّة تدعو إلى تشديد العقاب وإقامة أقصى العقوبات على المجرم، فالعنف الذي يسلّط على المجرم في نظر هيجل ليس مشروعاً في حدّ ذاته بل مشروع من حيث هو تجسيد لإرادة المجرم ذاته.

والمدرسة الحديثة تنادي بإعادة تربية المجرم وتأهيله، فالمواطنة الحقيقيّة لا تتطلّب إعدام الأشخاص، لأنّ المواطن وحدة أساسيّة في التكوين الاجتماعيّ، وهي ما تعرف بنظريّة الإصلاح؛ وتوماس مور في كتابه يؤسّس لهذه النظريّة، والنصّ التالي يبيّن الدلالة: «... فإنّ هذه  العقوبة التي تفرض على اللصوص تتعدّى حدود العدالة، كما أنّها ضارّة بالصالح العامّ فهي عقوبة بالغة القسوة للسرقة، ومع ذلك فليست رادعاً كافياً، كما أنّه ليست هناك عقوبة يمكن التفكير فيها، كفيلة بأن تمنع من السرقة أولئك الذين يفتقرون الى

(40)

حرفة أخرى يكسبون منها عيشهم، وليست هذه هي الحال في بلدي وحدها بل في جزء كبير من العالم..»[1]

 يصدر مور حكماً تقييميّاً على عقوبة الإعدام يقرّر فيه اجتناب المجتمع لطريق الحقّ والقيم في هذه العقوبة القاسية، فعدم تناسب الجرم مع العقوبة هو عين الظلم، فهي من القسوة بحيث الفطرة تظهر عدم التناسب وتؤكِّد بُعدَها عن العدالة، فمعاقبة السارق بالإعدام ليست شيئاً غير عادل وغير مؤثّر فحسب، وإنّما تؤدّي كذلك إلى جرائم أكبر  وحجّيّة الحكم تعود في نظره إلى الضرر اللاحق بالجماعة عند فقدها أحد المواطنين. وإن كان القضاء يعتبره مجرماً، فالمواطن ذو انتماء لأسرة أو هو معيل لمجموعة من الأفراد، جاء في النصّ: «فمن المؤكّد أنّه ما من شخص لا يعرف كَم من المضحك والضارّ بالدولة أن تفرض العقوبة نفسها على اللصّ والقاتل، إذْ يرى أنَّ اللصّ أنّه لا يقلّ تعرّضه للخطر إن حكم عليه بأنّه لصّ عمّا إذا حكم عليه بأنّه قاتل فهذه الفكرة وحدها كفيلة بأن تدفعه إلى قتل الرجل الذي كان سيكتفي بسرقته، وفضلاً عن أنّه لن يتعرّض لخطر أكبر إذا أمسك به، فإنّه سيكون أكثر أمناً بالتخلّص من الرجل، وأقوى أملاً في تغطية جريمته إذا لم يترك وراءه من يروي أحداثها، وهكذا بينما نحاول إرهاب اللصوص بالقسوة المتطرّفة، فإنّنا لنغريهم على الفتك بالمواطنين الصالحين».[2]

 كما أنّ هذه العقوبة غير ناجعة وفعّالة في القضاء على الجريمة،

(41)

فبواعث الجريمة لم تعالج من الجذور، كما أنّ توماس مور لا يطرح عقوبة مناسبة ويؤكّد عدم إمكانيّة التفكير في وجود العقوبة، بل يجب أن تتبع الأسباب والمسبّبين، لا الضحايا، فالعلل التي تدفع إلى الإجرام هي الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فوظيفة الجماعة أو المؤسّسة السياسيّة هي توفير فرص العمل لا التفكير في العقاب كما أنّ مهمّة القضاة تنحصر تقريباً في إجبار الناس على العمل».[1]

فالمنازعات كما ذكرنا سابقا غائبة ونادرة في المجتمع اليوتوبيّ، وعليه يفقد القضاة وظائفهم، ويصبحون عالة على المجتمع، أو يتقاضون أجوراً من دون أن يمارسوا أعمالهم.. وتبقى الوظيفة الرئيسة للقضاة هي الأمر بالعمل، لأنّ البطالة هي أمّ الجرائم.

(42)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

تجلّيات المصطلح

في الفكر السياسيّ

 

(43)

الجمهوريّة

نشأ أفلاطون[1]* في محيط أرستقراطيّ، وترعرع على مطمح الزعامة السياسيّة، إلّا أنّ أحداث الثورة التي شهدتها أثينا في تلك الفترة، وما تخلّلها من عنف، ومظالم، دفعته بعيداً عن حلبة الممارسة السياسيّة، فانصرف إلى استشراف رؤيا للمدينة الفاضلة، فكانت الجمهوريّة التي أسّس بها للفكر اليوتوبيّ عبر التاريخ..

الكتاب خلاصة لفلسفة أفلاطون السياسيّة، التي لا تخرج عن النسق العامّ لنظريّته في المعرفة أو في الطبيعة، فتقسيمه الوجود إلى: محسوسات، ومعقولات، جمع فيه بين نظريّة بارمنيدس القائلة بالثبات ونظريّة التغيّر للفيلسوف هيراقليطس، والوجود الحقيقيّ عند أفلاطون يتجسّد في عالم الصور؛ فـــــ «... المعرفة الصحيحة، والعلميّة لا يمكن أن يكون موضوعها المحسوسات المتغيّرة والمتعدّدة، فبداية العلم تكمن في الانفصال عن هذا العالم المتغيّر، والتأمّل في عالم العدد وعالم المثل..[2] وبالتالي يكون عالم الصورة مناظراً لوجود المدينة الفاضلة، والمدن غير الفاضلة مناظرة للوجود الحسّيّ.

ولبيان الأهميّة الأنطولوجيّة للمدينة الفاضلة، وجب على

(44)

أفلاطون التقعيد النظريّ لوجود الدولة، فهي ضرورة طبيعيّة فرضتها الحاجات، فحاجة الفرد إلى غيره، وعجزه عن تحقيق الاكتفاء أو مبدأ الكفاية، يلزمه الاجتماع مع غيره، من أجل تلبية غاياتهم وتحقيقها، فالحاجات المتعدّدة لا تشبع إلّا إذا أكمل الأفراد بعضهم بعضاً، فالدولة تنشأ: «.. بسبب عدم استقلال الفرد بسدّ حاجاته بنفسه، وافتقاره إلى معونة الآخرين.[1]

يفسّر أفلاطون نشأة الدولة وفقاً لمبدأ الغائيّة لا وفقاً لمبدأ العِليّة الذي ينطلق من مقدّمات قبليّة، فالدولة نشأت من أجل تحقيق الغايات غايات الأفراد؛ فالغاية من الحياة كلّها هي الحكمة والفضيلة، فغاية الدولة عنده تتحدّد من خلال: «...الفضيلة والسعادة لا اللذة للمواطنين، وتصبح بالتالي الوظيفة الأوليّة للدولة هي وظيفة تربويّة..»[2].

والسياسة فنّ قيادة الحيوانات التي تمشي على رجلين، وبغير قرون، ولا أظلاف. إنّها باختصار فنّ قيادة الجماعات البشريّة. ويعتمد فنّ السياسة على المعرفة النظريّة أكثر من الخبرة العمليّة، وتهدف إلى التربية العامّة للأفراد تحقيقاً لغرضين، وهما الارتفاع بالأفراد إلى مستوى الوجود الجماعيّ، والاهتمام بالجماعة والمجتمع وقيادتهما إلى الخير المطلق.. قيادة الجماعة بواسطة الرضا والإقناع خلافاً للاستبداد الذي

(45)

يقود الجماعة بواسطة الإكراه والقهر، ولكن ما هو النظام النموذجيّ عند أفلاطون؟

النظام النموذجيّ في الفلسفة الأفلاطونيّة سوفوقراطيّ بالأصل، وهو قائم على سيادة العقل، والحكمة، والنظام المطلق الذي لا يخضع فيه الحاكم لغير منطق الفلسفة والحكمة، فالعبقريّة السياسيّة وليدة الحكمة وهي أعلى من القانونـ «فحكومة العقلاء والفلاسفة فضلاً عن سلطتها المطلقة والفرديّة. يجب أن تكون ذات سلطان كليّ وشامل تهيمن على جزئيّات حياة الإنسان وعُموميّاتها.»[1]

كان أفلاطون ـ على حدّ تعبير البخاريّ حمانه[2]*ـ أكثر حكمة، لا من الكثيرين  من علماء ومن ساسة، ومن فلاسفة عصره فحسب، بل من الكثيرين من العلماء، والساسة، والفلاسفة الذين جاؤوا من بعده، حين طلب من الفلاسفة أن يكونوا علماء ومن قادة السياسة أن يكونوا فلاسفة.[3]

ويعتقد بعض الباحثين أنّ النظام الاجتماعيّ الذي قدّمه أفلاطون له أصول تاريخيّة، فالديانة الهنديّة التي تقسّم الناس إلى أربع  طبقات: الكهنة الذين خُلقوا من رأس براهما، وطبقة الحرّاس والجنود الذين خُلقوا من ذراعيه، وطبقة الحرفيّين الذين خُلقوا من ساقيه، وطبقة الأرقّاء من قدميه، تقترب بعض الشيء من التقسيم

(46)

الأفلاطونيّ، كما يظهر البعد العمليّ عند أفلاطون في تأسيسه للأكاديميّة التي تولّى مهمّة تربية الفلاسفة وتخريج الحكّام فيها، فلم يكن كما يعتقد بعضهم رجلاً حالماً بل فيلسوفٌ بحقّ ونتركه يعبّر عن نفسه «والآن ألا توافقني على أنّ خطّة دولتنا ودستورنا ليسا مجرّد أوهام وأنّه إذا كان تحقيقها صعباً فهو ممكن»..؟[1]

أسّس أفلاطون في الجمهوريّة، بصورة نموذجيّة للمجتمع المدنيّ اليوتوبيّ، ففي الكتاب الخامس من الجمهوريّة الدلالة الدقيقة لكلمة المواطنة النموذجيّة، التي يُتّفق على أنّها: الولاء للوطن، والمشاركة الفعليّة، للمواطنين داخل الدولة، ونلمس هذه الدلالة، في العبارة التالية: «.. أو ليسوا يونانيّين، ويحسبون بلاد اليونان كلّها وطنهم، ويشاركون إخوانهم اليونانيّين في شعائر ديانتهم العامّة..»[2] لأنّ القصد الرئيس في السياسة عند أفلاطون هو تحقيق العدالة المنشودة من قبل الفرد، والجماعة، والتشارك في صياغة وتنفيد القرارات العامّة، فهي ليست قيمة مجرّدة متعالية عن الأفراد بل هي مسألة متعلّقة وجوداً ووجوباً بالمواطنين، فهي مطلب الفرد ومطلب الجماعة، ونظراً لأهميّتها وضعها أفلاطون في الكتاب الأوّل من الجمهوريّة بغية نقاشها مع عدد كبير من المتحاورين ... لكلّ منهم سنّ معيّنة وشخصيّة، وقدرات ومكانة  في المجتمع وظهور فيه..[3]

(47)

وما نلاحظه على هذا الكتاب التفاوت بين  شخصيّات الحوار، الذي يرجع إلى عدّة مؤشّرات، السنّ، والثروة، والمعرفة، والحكمة؛ فشخصيّة كيفالوس تمثّل الحكمة والورع، وبوليمارخوس يمثّل فئة أو شريحة الشباب، وثراسيماخوس يمثّل ثورة الحسّ المشترك، وغلوكون، يمثّل الأخلاق النموذجيّة، ويذكّر المرء بالجنديّ المجهول الذي يتحمّل الموت الأكثر ألماً وإهانة لا من أجل أيّة غاية، مهما تكن سوى أن يموت بشجاعة، ومن دون أيّ أمل في أن يصبح عمله النبيل معروفاً لأيّ شخص.. وأديمنتس يؤسّس للبعد الموضوعيّ للعدالة».[1]

وهذا يكشف عن رغبة أفلاطون في تشخيص الرؤى المختلفة والمتباينة لظاهرة المواطنة، ثمّ العمل على تأسيس قواعد للمواطنة من دون تمييز بين هذه الفئات، لأنّ المواطنة اليونانيّة كانت تقوم على تمييز جنسيّ، فالإناث لا يملكن حقّ المواطنة، وتمييز زمنيّ، فبعض الشباب كان فاقداً للمواطنة، لأنّ القانون اليونانيّ كان يقنّن الرشد المدنيّ، بضوابط معيّنة.

فالنتيجة الحاصلة من الحوار حول العدالة على حدّ تعبير الأستاذ فتحي التريكيّ لا تعدو أن تكون مقدّمة Prélude للموضوع.[2] فنصّ المحاورة يعرض المفاهيم القائمة للعدالة؛ وأفلاطون يبحث في الكتاب عن آليّة فعّالة في تحقيق العدالة بين المواطنين، ولهذا نجد المحاورات اللاحقة بناء نظريّ، وسياسيّ للمواطنة.

(48)

المواطنة العادلة داخل مدينة أفلاطون غير متعلّقة بالمواطن، بل تتعلّق بالنظام، فمناخ المواطنة من مهامّ الدولة، لا الفرد، فالبحث عن المواطن داخل المواطن مغالطة، لأنّ الدولة القمعيّة لا وجود فيها للمواطنة أساساً، والوجهة الأفلاطونيّة يؤكّدها المنطق وتثريها السياسة ..» لذا أقترح أن نبحث عن طبيعة العدالة أوّلاً كما تبتدئ في الدولة ثمّ نبحثها بعد ذلك في الفرد».[1]

ومن المسلّم به الآن أنّ النظام الديمقراطيّ هو الفضاء المتعارف عليه للمواطنة، ولا يمكن تصوّر وجود هذا المبدأ في الأنظمة الاستبداديّة، ويتّفق أفلاطون من حيث المبدأ مع فلاسفة السياسة بأنّ النظام هو أرضيّة المواطنة لا الأفراد.

 ولكنّه ينظر إلى النظام الديمقراطيّ على أنّه فضاء الأهواء والرغبات الشخصيّة، ولا يمتّ بصلة إلى المواطنة النموذجيّة، والمواطن في النظام الديمقراطيّ، يكون ضحيّة للأهواء الشخصيّة، ويصف ارنست باركر موقف أفلاطون وكذلك الأمر بالنسبة لأرسطو من المواطنة في النظام الديمقراطيّ فيقول: «.. الذي أدهش أفلاطون وكذلك أرسطو هو أنّ المواطنين في البلد الديمقراطيّ، لم يكتفوا بالحصول على المال من خزائن الدولة في صورة الأجور التي كانوا يتقاضونها، نظير خدماتهم السياسيّة، بل إنّهم إلى ذلك كانوا يستغلّون سلطتهم في نهب الأغنياء، وقد جعلوا من السياسة مصدراً للكسب الاقتصاديّ».[2]

(49)

ويعتقد بعضهم أنّ أفلاطون كان رافضاً للنظام الديمقراطيّ لأسباب تتعلّق بانتماءاته الطبقيّة، وطموحاته الشخصيّة، وفي الحقيقة أنّ الممارسة الديمقراطيّة وانحرافاتها هي التي دفعته إلى انتقاد النظام، فالمؤسّسة السياسيّة في نظر أفلاطون ليست مطيّة لبلوغ المطالب والحاجات الشخصيّة، بل هي أداة في تحقيق الصالح العامّ فالمشكلة كامنة في النظام الديمقراطيّ نفسه، إذ إنّ الجميع يعتقد بأنّ لهم الحقّ في المشاركة السياسيّة، وهذا مستحيل لأنّ المساواة المطلقة بين المواطنين ضرب من الجنون، فالعامّة عاجزون عن إدارة شؤونهم المنزليّة، فكيف لهم بتسيير شؤون الدولة؟؟!!!

ويؤكّد تلميذه أرسطو هذه الرغبة فيقول: «إنّ الطبيعة الخاصّة بالإنصاف تكمن بالضبط  في تصحيح القانون، وتجاوز عدم كفايته بسبب عموميّة خطابه..»[1] ولذا نجده يؤكّد صفات الحاكم المثاليّ، ويجدُّ في البحث عنها لأنّها مطلب الجميع، وفي غياب هذا النموذج تغيب العدالة.

وتمام النظام السياسيّ وكماله لا يتحقّق إلّا بالحاكم.. حيث أولى أفلاطون مسألة الحاكم الفيلسوف اهتماماً، لأنَّ السلطة تمثّل قمّة الهرم السياسيّ، فالرعيّة تصلح أو تفسد تبعاً لحكّامها، فكان الشغل الشاغل لأفلاطون هو إصلاح الحكّام، فالمدينة الفاضلة هي المدينة التي تتألّف من أولئك الذين يعرفون، فالمعرفة هي الأساس الصحيح الأوحد للمدينة، فلا مدينة إلّا بالعلم، ولا حكومة إلّا حكومة العقل والفلسفة.[2]

(50)

وتصنيف أهل الحكمة والعقل مع عامّة الناس خطر على العامّة لا على الحكماء، فتقديمهم مسألة ضروريّة للصالح العامّ، فحاجة العامّة إلى العلماء أوجب من حاجة العلماء إلى العامّة، فالإنصاف يقتضي التفاوت، فالغاية من التفاوت هي الإتقان في الأداء الوظيفيّ، والمدينة النموذج تقوم على مبدأ هو أنّ لكل شخص وظيفة واحدة، والجنود هم صنّاع حرّيّة المدينة.

أمّا الفلاسفة فهم صنّاع الفضيلة العامّة كلّها، والتناظر القائم بين الدولة والفرد قائم في تصنيف الفئات الاجتماعيّة إلى ثلاث، يقيمها افلاطون على الأساس السيكولوجيّ للجماعة، فالنفس البشريّة عنده تتركّب من ثلاثة عناصر: العقل والشهوة والغضب، وتمتدّ إلى نظريّته في المعرفة، التي تبدأ بالإحساس الذي يقابل القوّة الشهويّة في النفس، وآخر خاصّ بالتصوّر الصادق، يقابل النفس الغضبيّة، وخاصّ بالعلم القوّة العاقلة.[1]

والدولة تتركّب أيضاً من هذه الطبقات الثلاث طبقة الحكّام الحكماء، طبقة الجند، طبقة العامّة، وهذا التقسيم لا ينطلق من رؤية فوقيّة يحتقر فيها أفلاطون عامّة الناس بل ينطلق من مبدأ تقسيم العمل بين أفرادها، فكلّ طبقة من هذه الطبقات  ينبغي أن تؤدّي وظيفتها على الوجه الأكمل متحلّية بفضيلتها، فالدولة تشبه الجسد، فكلّ عضو مكلّف بأداء وظيفة ما، والتكامل الوظيفيّ يقتضي أداء المهامّ بإتقان، فالقصد الأفلاطونيّ لم يكن تبريراً للتفاوت الطبقيّ بل كان محاولة لتوزيع الكفاءات والمهامّ داخل الدولة على أساس

(51)

لعدالة، فالعدالة أداء كلّ مواطن للواجب الذي يتناسب مع طبيعته ونجد الموقف نفسه عند الأستاذ مصطفى النشّار إذ يقول: «أعتقد أنّ أفلاطون لم يقصد وضع نظام طبقيّ متحجّر، كما قال نقّاده بقدر ما كان يحاول بناء دولته المثاليّة على أساس اقتصاديّ سليم متوازن يقوم على تبادل المنافع  بين طبقات الدولة وأفرادها بحيث يحلّ هذا التبادل للمنافع محلّ الفرديّة الأنانيّة التي يريد كلّ فرد في إطارها أن يقوم بعمل كلّ شيء من دون أن يتخصّص في شيء بعينه فيتقنه..»[1]

والتربية عند أفلاطون قاعدة رئيسة في تحقيق المجتمع اليوتوبيّ، تبدأ بالتفكير في إنجاب الأفضل من حيث البنية الجسديّة فالبنية الفيزيولوجيّة للوالدين، تحدّد نموذج الأبناء، إذ نجد في طيّات الحوار الدائر بين سقراط وغلوكون، حول كلاب الصيد الأصيلة التي يملكها غلوكون، فيخلص من خلال الحوار إلى أنّ الأفضل، والأنسب هو الذي نستولد منه النسل، فالتربية المدنيّة تبدأ في نظره قبل الولادة، فهي مسألة وطنيّة، والطفل مشروع وطنيّ، وليس مشروعاً خاصّاً بأسرة معيّنة.

وتكوين الفرد النموذجيّ يسير عنده وفق خطّة مدروسة تبدأ بالتربية الجسديّة التي تبدأ من عمر سبع عشرة سنة إلى عمر العشرين، حيث يخضع الفتيان، المحاربون والرؤساء المستقبليّون لفترة تدريب رياضيّ، لأنّ الجسد هو الآلة الضروريّة للأفعال، فالعقل السليم في الجسم السليم، والمواطن القويّ هو الذي يملك

(52)

بنية قويّة، وإعدام الأطفال ضعاف البنية وذوي العاهات الخَلقيّة، عند أفلاطون جائز، للحفاظ على المجتمع.

وتأتي بعدها مرحلة التكوين العلميّ، التي تمتدّ من عمر العشرين إلى سنّ الثلاثين، وفيها يتلقّى الفلاسفة أو حكماء المستقبل الدراسة الشموليّة للعلوم، لأنّ الإحاطة بأشكال المعرفة ضرورة لازمة للفيلسوف، ثمّ التكوين الميدانيّ وتمتدّ من سنّ الثلاثين إلى الخامسة والثلاثين، وفيها تتعمّق معرفتهم بنظريّة الأفكار، أي إنّهم يتعرّفون، بعدها إلى جوهر العالم، وسلوكهم يتركّز على الحقائق الواقعيّة، ثمّ يعودون لتأمين وظائف سياسيّة.

أمّا المرحلة الأخيرة فهي بلوغ الحكمة وهي تتحدّد بعتبة الخمسين إذ بعدها يستطيعون التوجّه إلى الفلسفة، مع قيامهم بأعلى المهامّ، فالسياسة: «.. هي تخصّص  ويجب عدم إسنادها إلّا لأشخاص محضّرين لها، إلّا أنّ هذا التحضير ليس إلّا تربية للعقل، إنّ العلم السياسيّ هو العلم الذي لا علم بعده، إنّه علم الحقّ والخير..».[1]

فتكوين الإنسان كمواطن حرّ، ومستقلّ يشكّل مغامرة كبرى وتحدّياً كبيراً من الوجهة النفسيّة والأخلاقيّة ومن الوجهة السياسيّة، ولا يمكن بلوغ هذه الغاية إلّا بإحداث طفرة في النظام الأخلاقيّ والسياسيّ للمجتمع، ومن هنا تتحوّل الدولة إلى ضمانة لهذا التراتب القانونيّ، والترتيب في المواقع والمسؤوليّات والأدوار الذي يحصل بشكل طبيعيّ  على مستوى المجتمع المدنيّ، وإعطائه شرعيّته.

(53)

يمكن القول إنّ المدرسة الأفلاطونيّة من خلال آثارها الفلسفيّة والعلميّة بمثابة وثيقة علميّة وتاريخيّة سجّلت بعضاً من النِتاج الثقافيّ والفلسفيّ السابق لهذه المدرسة، فأفلاطون ليس طفرة في تاريخ الفلسفة، فنبوغه ليس رأسيّاً خاصّاً به، بل هو نتاج لحركة أفقيّة جسّدتها تجارب الشعوب التي سجلّ بعضنا التاريخ، فمادّة اليوتوبيا موجودة في الأمل والخيال الإنسانيّ من دون استثناء، ولكنّ التأسيس النظريّ الذي قام به شهيد الفلسفة سقراط وتلميذه أفلاطون وأرسطو، كان ولا يزال بمثابة القواعد الأساس لبناء الحضارة الإنسانيّة، فأفلاطون حسب الفيلسوف أرنست كاسيرر: «أوّل من عرض نظريّة في الدولة، لم تظهر في صورة معرفة بوقائع متعدّدة ومتنوّعة، ولكنّها بدت في صورة نسق فكريّ متماسك».[1]

فالفلسفة السياسيّة لأفلاطون نسق متكامل تناول المبادئ النظريّة والأيديولوجيّة للمواطن داخل الدولة، والأساليب الإجرائيّة لتكوينه، فلم يكن خياليّاً كما يدّعي بعضهم بل كان إنساناً عمليّاً، وتجاربه الشخصيّة مع الطغاة كافية لتأكيد ما نقول، وأفلاطون كما يقول: ديورانت يعرف أنّ دولته المثاليّة لم تظهر بعد في حيّز العمل، ويعترف بأنّه وصف دولة مثاليّة صعبة التحقّق .. ويجيب على هذه الاعتراضات بقوله، هناك فائدة في رسم هذه الصور التي في أذهاننا، وإنّ أهميّة الإنسان تكمن في

(54)

قدرته على تصوّر عالم أفضل، وتحقيق جزء على الأقلّ من هذه الدولة المثاليّة ..[1]

وعليه يبقى الأمل ملاذاً للبشريّة في  تحقيق السعادة المدنيّة، وملازماً للطبيعة البشريّة، فتاريخ الإنسان على الأرض بدأ بالأمل في الحياة الكريمة، ورغبة آدم عليه‌السلام في الخلود، وإن اختلفت القراءات الدينيّة لفكرة الخلود، تكشف عن حقيقة الطبيعة البشريّة، التي لا تنفصل عن الأمل.

(55)

مدينة الله

القراءة الأوليّة لعنوان الكتاب توحي بالدلالات والرسائل التي كان يرمي إليها، فالمدينة تشير إلى اقتران بين  التجمّعات السياسيّة، والمفاهيم اللاهوتيّة، والعبارة تكرّرت في العهد القديم، والعهد الجديد، ففي سفر المزامير الإصحاح: 46 من العهد القديم وردت  العبارة في النصّ التالي: «.. نهرٌ سواقيه تفرِّح مدينة الله، مقدّس مساكن العليّ .. الله في وسطها ولن تتزعزع».

 وفي سفر طوبيا من العهد القديم نجد في الإصحاح 12 هذه العبارة: «يا أورشليم مدينة الله إنّ الربّ أدّبك بأعمال يديك ..»، وفي العهد الجديد فقد وردت في رسالة بولس الرسول إلى العبرانيّين: «بل قد أتيتم إلى  جبل صهيون، وإلى مدينة الله الحيّ أورشليم السماويّة ...([1])

فمدينة الله تعبير عن الفلسفة أو الرؤيا المسيحيّة لحركة التاريخ، وهذا ما يؤكِّده كانتور قائلاً: «تمثّلت فلسفة التاريخ المسيحيّة في كتاب مدينة الله لـ أغسطين بشكل أساسيّ، وربّما يكون هو أكبر عمل مؤثّر في تاريخ الفكر المسيحيّ باستثناء الكتاب المقدّس». ([2]) والكتاب لا يُعبِّر عن وجهة نظر دينيّة للكون

(56)

والحياة، فحسب، بل هو نظرة فلسفيّة تأسيسيّة للرؤيا التوحيديّة المسيحيّة للكون وللفرد وللتاريخ.

فتاريخ الإنسان السياسيّ يسير وفق هذه السُنّة التاريخيّة، فمنذ هبوط آدم إلى اليوم هناك مدينتين، مدينة مع الله، وأخرى مع الشيطان، وينتمي هابيل إلى مدينة الله، وقد شاءت رحمة الله، وما خطّه في لوح القدر، أن يكون هابيل زائراً على هذه الأرض، على أن يظلّ منتمياً إلى السماء باعتبارها موطناً له، وكذلك ينتمي الآباء الرؤساء إلى مدينة الله»..([1])، والانتماء لمدينة من المدينتين حسب أوغسطين أو«ما يجعل الشخص عضواً في مدينة أو أخرى من هاتين المدينتين ليس الجنس، أو الأمّة التي يَدّعي أنّها أمّته  وإنّما الغاية التي يسعى إليها، ويخضع لها في النهاية كلّ أفعاله.»([2])

يتألّف كتاب مدينة الله من اثنين وعشرين باباً، في الأبواب الأولى، يحاول أنْ يبرهن أنّ ما أصاب روما، من نهب وتعذيب، وأسر ليس غريباً عن التاريخ البشريّ كلّه، فهو ابتلاء ابتليت به كسائر الشعوب على مدى قرون من جرّاء سطوتها، وغطرستها، كما أنّ مصير الإنسان  ليس مقرّراً على هذه الأرض، ولا في نطاق حياته الجسديّة، ومثل هذه المصائب لا تصيبه في جوهر حياته، ويجب ألّا تقوده إلى اليأس.

والاندماج في المجتمع المدنيّ، من مسؤوليّات المؤمن

(57)

المسيحيّ عموماً، فهي عقيدة في منظور رجال الدين، قادرة على تحويل المواطنين أخياراً، أو الأصحّ هي التي تملك القدرة على إكساب البشر السعادة الدنيويّة، والأخرويّة.

واتّهام المسيحيّة بأنّها مصدر، وعلّة سقوط الامبراطوريّة الرومانيّة تهمة كافية لدفع علماء المسيحيّة للدفاع، والذبّ عن عقيدتهم، فهي دعوى واهية في اعتقادهم، والدليل على ذلك يرجع إلى الوقائع التاريخيّة، لا إلى الحجج العقليّة، فتاريخ هذه الإمبراطوريّة أُسّس على الحرب، فالماضي الدمويّ لهذه الإمبراطوريّة علّة السقوط، وليست هي المسيحيّة.

والدولة، كمؤسّسة مدنية، وسياسيّة، في المعتقد المسيحيّ، قائمة على السيطرة والتسلّط الممارس من طرف هيئة أو مجموعة أفراد، وهي غريبة على الطبيعة البشريّة، فهي نتيجة للخروج من عالم الملكوت، الذي كان فيه آدم عليه‌السلام ، فالحالة السياسيّة طبيعة ثانية مرتبطة بالخطيئة، والإثم الذي كان وراء الخروج أو الطرد من عالم الملكوت، فالقبول بالسيطرة والسلطة هو تكفير عن الخطيئة، وعن الغرور الناشئ عن الأنانيّة أو حبّ الذات الذي يحتقر المساواة الطبيعيّة التي تقرّ بالشراكة الإنسانيّة، المبنيّة على دعامة الاشتراك في البنية الخَلقيّة، ووحدة المبدأ، والغاية.

يقول القدّيس أوغسطين: «لقد أراد الله أن لا يسيطر الكائن العاقل، المخلوق على شاكلته، إلاّ على كائنات غير عاقلة؛ لقد أراد أن لا يسيطر الإنسان على الإنسان وإنّما على الحيوان، وجميع

(58)

أشكال السيادة في نظر أوغسطين ستنعدم فيما بعد الزمان، أي في مملكة الله، باعتبار أنّ الله سيكون الكلّ بالكلّ.([1])

 وشرعيّة السلطات تنبع من فكرة الخطيئة، فكلّ سلطة قائمة في هذا العالم ينبغي أن تمجّد، حتّى من قبل أولئك الذين هم أفضل منها، وفكرة التوفيق بين سلطة الحاكم الجائر، ومبادئ الله يسمّيها المزاج العادل، ويستعين أوغسطين بالرمزيّة القائمة على معطيات تاريخيّة لتوضيح هذه الحالة، عندما تحدّث عن الجنود المسيحيّين لجوليان المرتدّ، فقد كان هؤلاء: «.. يميّزون بين سيّدهم الأبدي وسيّدهم الدنيويّ، ومع ذلك فإنّهم يطيعون السيّد الدنيويّ، بغية إرضاء السيّد الأبديّ.([2])

فالمواطنة في مدينة الله من الناحية الزمنيّة لا تؤسّس على الحاضر أو بصيغة أوضح ليس كلّ من ينتسب إلى مدينة معيّنة هو عضو فيها، لأنّ المجرمين هم أيضاً أعضاء في المدينة الأرضيّة مع المؤمنين، ولكنّه ينظر إلى المستقبل، وعلى التجسيد الفعليّ، والعمليّ للقيم، وليس على الشعارات.

 ومدينة الله قوامها جماعة الأخيار، وهي النموذج الفعليّ لهذه المواطنة، فهي على حدِّ تعبير ليو شتراوس* Leo Strauss  لا تتكوّن من أتباع المسيح وحدَهم، والعابدين للإله الحقيقيّ، إنّها تتكوّن من أناس إلهيّين، وقد توصف حياتها كلّها بأنّها حياة

(59)

الإذعان الورع لعالم الله، وتوجد فيها، وفيها العدالة الحقيقيّة وحسب.([1]).

وأصل السلطة في مدينة الله، وفي المدينة الأرضيّة ينطلق من الحبّ؛ والارتباط العاطفيّ بين المواطن والحاكم يمنح الشرعيّة والمشروعيّة للسلطة، ويحفّز المواطن على الفناء في المحبوب مهما كان موضوع الحبّ، فالحبّ مبدأ تبنى عليه السلطة، يقول: «.. حُبّان صنعا مدينتين، حبّ الذات حتّى احتقار الله صنع المدينة الأرضيّة، وحبّ الله حتّى احتقار الذات صنعا المدينة الإلهيّة.. فالأُولى تبحث عن المجد لدى الناس، في حين أنّه بالنسبة للثانية فإنّ الله هو شاهد على ضميرها، وهو مبدأ فخرها».[2] والحبّ ليس نجساً في طبيعته بل بالعرض، ويصبح أخلاقيّاً وضروريّاً إذا كان متعلّق الحبّ موضوعيّاً وأخلاقيّاً؛ فتقديم الآخر على الذات هو حبّ للإنسان وليس نكراناً للذات.

 فالمواطن المسيحيّ يؤمن بداخله أنّه مدعوّ إلى أن يكون فرداً أو عنصراً في مجتمع أكثر اتّساعاً من المجتمع البشريّ الذي ينتمي إليه فعلاً، وهذا المجتمع هو مجتمع العدول أو الأشخاص العادلين الذين يتمتّعون بسعادة أبديّة، والذين يتألّف منهم ملكوت السموات أو مدينة الله.

(60)

قدّم اوغسطين مشروعاً سياسيّاً حاول فيه التخفيف من حدّة التعارض الموجود بين النزعتين الرغبة في الحياة والسعادة الدنيويّة، والخوف من المجهول العالم الآخر، فمدينة الله لا تبطل الحاجة إلى المجتمع المدنيّ، بل تكمله، فـ«..المواطن الإلهيّ مواطن في مدينة أرضيّة، ولكنّ أخلاقه إلهيّة([1])، فالغرض والغاية من الخلق هو تجسيد القيم الأخلاقيّة العليا التي يكون الله هو النموذج الأوّل لها، وعيسى المسيح سلام الله عليه.

والعضويّة في مدينة الله تحقّق السلام والسكينة للمواطن»إنّه يمكن للمرء من حيث إنّه عضو من أعضاء مدينة الله، وعن طريق علاقته بنظام يجاوز المجال السياسيّ وحسب أن يحقّق السلام والسعادة اللذين يطمح إليهما كلّ الناس، حتّى الأشرار»([2]) فالعيش في مدينة الله لا يلغي الحياة ضمن المجتمع الدنيويّ المؤقّت، وإنّما تحافظ عليها وتكملها فالمدينة الإلهيّة هي مدينة القيم، ومن خلالها معرفة قيم هذه المدينة يتسنّى لنا معرفة صفات المواطن النموذجيّ العالميّ، بحكم أنّ المسيحيّة عالميّة.

فالمواطنة الاخلاقيّة التي يدعو إليها اوغسطين تلتقي ونموذج المواطن الذي نادت بها الفلسفة الرواقيّة[3]* فالمواطن العالميّ Cosmopolite يشبه إلى حدّ بعيد المواطن المسيحيّ Oranopolite الذي أقرّته المسيحيّة، فالإنسان بالمنظور الرواقيّ

(61)

عضواً في مجموعة عريضة ذات أبعاد كونيّة؛ فحاضرة أو مدينة الحكيم هي Cosmos ومن هنا ظهر مفهوم الحاضرة العالميّة Cosmopolis أو مدينة العالم.

آراء أهل المدينة الفاضلة

يعدّ من أهمّ مؤلّفات الفارابيّ، وهو خلاصة لآرائه وفلسفته، يحتوي على سبعة وثلاثين فصلاً، مصنّفة إلى قسمين: فلسفيّ، واجتماعيّ، سياسيّ، والقسم الثاني محاولة في فهم الواقع السياسيّ، بغية تجاوزه لما ينبغي أن يكون، فقد حاول الفارابيّ في هذا القسم ـ كما يقول أحد المفكّرين ـ للمرّة الأولى في الشرقين الأدنى والأوسط في القرون الوسطى، بمساعدة الفلسفة تفهم الحالة السياسيّة، والأخلاقيّة للمجتمع الإقطاعيّ المضطرب بالتناقضات الاجتماعية.[1]

فالمدينة المفترضة أو اليوتوبيا التي يقدّمها الفارابيّ، مدينة ومجتمع أخلاقيّ منذ بداية التسمية، فالمطلوب مدينة فاضلة، تتألّف من مواطنين بلغوا حدّاً من الكمال؛ فهي وإن كانت منظّمة بقوّة السلطة المطلقة لرئيس فيلسوف ونبيّ، فهي معمولة للفرد، وليس الفرد معمولاً لها، وليس لأنّها صالحة فأعضاؤها صالحون، وإنّما هم صالحون لأنّها صالحة.[2]

(62)

وصلاح الرئاسة يترتّب عليه صلاح المواطنين، ومن النقاط التي يتقاطع فيها الفارابيّ مع الفيلسوف أفلاطون، أنّ الحكمة أساس الفضيلة، وبعدها تأتي، العدالة، فإذا لم يكن الرئيس عادلاً بُطل وجوده، لأنّ العدالة هي فضيلة أساسيّة لوجود الرئيس العادل والفاضل[1].

وتُؤسَّس هذه المدينة بدافع طبيعيّ غير اصطناعيّ، يضع الفارابيّ هذه المصادرة في الفصل السادس والعشرين من الكتاب ما نصُّها: «.. وكلّ واحد من الناس مفطور على أنّه محتاج، في قوامه، وفي أن يبلغ أفضل كمالاته، إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلّها وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم كلّ واحد منهم بشيء ممّا يحتاج إليه، وكلّ واحد من كلّ واحد بهذه الحال»[2].

وتصوّر الفارابيّ السياسيّ للدولة لا يندّ عن البنية السياسيّة للدولة في المجتمع الشرقيّ، والفكر اليونانيّ الكلاسيكيّ، فهي الصورة الكليّة، والمواطنون هم الأجزاء، فمن ذلك الكلّ يستمدّ المواطنون وجودهم، والذي لا قوام لهم بدونه، والمواطنون في تلك الدولة لا يملكون الاستقلاليّة الفرديّة ضمن النسق الكلّيّ للدولة، فهم تابع يلي تابعاً في مراتب البناء الاجتماعيّ وهرم السلطة، يدينون جميعاً للرئيس الأوّل بالولاء المطلق .. ويتوحّدون في سلسلة التبعيّة.. وفق خطّة تنفّذ تنفيذاً بيروقراطيّاً مُحكماً تقوم على التخصّص الوظيفيّ،

(63)

وتقسيم العمل المبنيّ على الاختلاف في القدرات النفسيّة، وعلى عدم المساواة  المبنيّ على نوعيّة الدور، والإسهام في تحقيق الخطّة السلطانيّة..، والبناء الهرميّ للمواطنين في دولة الفارابيّ يظهر في المقاربة التي وضعها الفارابيّ بين بنية الجسد وبنية الدولة التي يقول فيها: «.. والمدينة الفاضلة تشبه البدن التامّ الصحيح، الذي تتعاون أعضاؤه كلّها على إتمام حياة الحيوان، وعلى حفظها عليه، وكما أنّ البدن  أعضاؤه مختلفة الفطرة والقوى، وفيها عضو واحد رئيس وهو القلب، وأعضاؤه تقرب مراتبها من ذلك الرئيس، وكلّ واحد منها جعلت فيه بالطبع قوّة يفعل بها فعله ابتغاء لما هو بالطبع غرض ذلك العضو الرئيس ..».[1]

وتتميّز المدينة ببنية وتراتبيّة تفاضليّة في طبقات المواطنين، تتحدّد وفقاً للوظائف التي ليست محدّدة خارج طاقات وقابليّات المواطن، فقدرة المواطن هي التي تحدّد الوظيفة، وليست الهيئة المسيرة هي التي تحدّد، وأعتقد أنّ الفارابيّ يستحضر الآية الكريمة: «لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ»[2].

 فالشارع يتقيّد بالعدل والحكمة في توزيع الوظائف والمهامّ، وفي هذا النصّ نلمس هذه التراتبيّة: «وكما أنّ العضو الرئيس في البدن هو بالطبع أكمل أعضائه، وأتمّها في نفسه وفيما يخصّه، وله من كل ما يشارك فيه عضو آخر أفضله، ودونه أيضاً أعضاء أخرى

(64)

رئيسة لما دونها، ورياستها دون رياسة الأوّل، وهي تحت رياسة الأوّل تَرأس وتُرأس، كذلك رئيس المدينة هو أكمل أجزاء المدينة فيما يخصّه، وله من كلّ ما شارك فيه غيره أفضله، ودونه قوم مرؤوسون منه، ويرأسون آخرين».[1]

والبنية التراتبيّة لمواطني المدينة عند الفارابيّ، لا تحدّدها الإثنيّة أو الطائفيّة المذهبيّة، بل القدرة والقابليّة والفاعليّة، فهي تقوم على منظومة معرفيّة، وقيْميّة، والقاعدة المعرفيّة التي تشكّل أيديولوجيّة الدولة أو المدينة في الاصطلاح الحديث، ينبغي أن تكون واحدة، ومادامت الطبيعة أسّست للتفاوت، فالمعرفة أيضاً متفاوتة، فهناك: «الحكماء الذين يعرفون طبيعة الأشياء بالأدلّة البرهانيّة، وعن طريق استبصاراتهم الخاصّة، وأتباع هؤلاء الذين يعرفون عن طريق براهين الفلاسفة، ويقبلون بها، وبقيّة المواطنين الذي يعرفون عن طريق التشبيهات اعتماداً على منزلتهم كمواطنين».[2]

ويرتكز المحتوى المعرفيّ المقرّر في المدينة على مبادئ: الرؤية الأنطولوجيّة للكون، ثمّ الوعي السياسيّ بدستور الدولة المنظّم لأنساقها السياسيّة والاجتماعيّة، والاقتصاديّة والتنفيذيّة يقول الفارابيّ: «فأمّا الأشياء المشتركة التي ينبغي أن يعلمها أهل المدينة الفاضلة فهي أشياء، أوّلها معرفة السبب الأوّل وجميع ما يوصف به، ثمّ الرئيس الأوّل وكيف يكون الوحي، ثمّ الرؤساء الذين ينبغي أن يخلفوه إذا لم يكن موجوداً في وقت من الأوقات، ثمّ المدينة الفاضلة وأهلها، والسعادة التي تصير

(65)

بها أنفسهم، والمدن المضادّة لها وما تؤول إليه أنفسهم بعد الموت..»[1] .

 هنا يتبيّن أنّ الأيديولوجيّة التي يدعو الفارابيّ لتلقينها للمواطنين ليست أيديولوجيّة نمطيّة أو نسقيّة تفرض بالإكراه على المواطن، بل هي أيديولوجيّة مبنيّة على الحجّة والبرهان لا على قول القائل الذي هو إنسان والمضروب فقي جبِلّته بضروب الخلل والنقصان على حدّ تعبير الحسن بن الهيثم .

هذه الدولة وإن كانت تتقاطع مع الدول التوتالتاريّة في الأنظمة الكليّة في البنية الهرميّة؛ فإنّها تختلف عنها في أساسها الأخلاقيّ، فمهمّة الحاكم أو «..المهنة الملكيّة أو ما شاء الإنسان أن يسمّيها بدل اسم الملك، والسياسة هي فعل هذه المهنة، وذلك أن تفعل الأفعال التي بها تكمن تلك السير، وتلك الملَكات في المدينة، والأمّة وتحفظ عليهم، وإنّما تلتئم هذه المهنة بمعرفة جميع الأفعال التي بها يتأتّى التمكين أوّلاً والحفظ بعد ذلك ..»[2].

الغاية إذاً من الدولة عند الفارابيّ، هي تحقيق السعادة في الحياة الدنيا والأخرى، ويكون الفارابيّ يكون أوّل من تعرّض للسعادة كقيمة في بعدها الأخرويّ، ومسؤوليّة الدولة اتّجاه المواطنين لا تقف عند حدّ الدنيا وحسب بل تتجاوزها إلى مسؤوليّتها عن مستقبل المواطن في مرحلة ما بعد الموت.

(66)

وإذا كانت السعادة المدنيّة في الفكر السياسيّ، قيمة أخلاقيّة تنصهر فيها مجموعة من القيم، فإنّ المواطنة في مدينة الفارابيّ لا تستبطن القيم وحسب، بل تنتج قيماً على الصعيد الفرديّ، وعلى الصعيد الجماعيّ، فسموّ الرئيس الأخلاقيّ وأداؤه لواجباته المدنيّة والأخلاقيّة، يمنح السمة الأخلاقيّة للمواطنين؛ يقول الفارابيّ: «والناس الذين يدبّرون برئاسة هذا الرئيس هم الناس الفاضلون والأخيار والسعداء»[1].

 أمّا على مستوى المواطنين، فممارسة الوظائف والمهامّ لا تترك آثاراً عرضيّاً على مستوى شخصيّة المواطن وحسب بل يتعدّاه إلى القابليّات والهيئات النفسيّة، يقول الفارابيّ: «فإذا فعل كلّ واحد من أهل المدينة ما سبيله أن يكون مفوّضاً إليه، وذلك إمّا أن يكون علم ذلك من تلقاء نفسه، وإمّا أن يكون الرئيس أرشده إليه وحمله عليه، أكسبته أفعاله تلك هيئات نفسانيّة جيدة.

كما أنّ المداومة على الأفعال الجيّدة من أفعال الكتابة تكسب الإنسان جودة صناعة الكتابة...»[2].

فممارسة المواطن، وأداؤه لمهامّه بشكل جيّد يُكسبه قابليّات أفضل واستعداداتٍ لتأدية مهامّ أفضل وأكبر، فالمواطنة الكاملة والفاضلة توجد في المدينة الفاضلة، والتي من أهمّ قيمها التعاون على بلوغ الفضيلة، والأداء النبيل للمهامّ والوظائف، فالسعادة

(67)

كقيمة عُليا تكون نهاية للممارسات الفاضلة، كما أنّ المعرفة النظريّة والعمليّة التي تظهر في القدرة على التمييز بين النبيل والخسيس، والفضيلة والرذيلة.

فرؤية الفارابيّ للمواطنة لا تنفصل عن الأخلاق أو الصناعة الخلقيّة التي هي ما نحصل: «به على الأفعال الجميلة، والأخلاق التي تصدر عنها الأفعال الجميلة، والقدرة على أسبابها، وبه تصير الأشياء الجميلة قِنية لنا».

فالارتباط بين الأخلاق والسياسة دفع الفارابيّ إلى توحيدهما ضمن علم واحد هو العلم المدنيّ الذي يهتمّ بأخلاق الفرد ... وإصلاح الجماعة ... وهذا الانتقال من سعادة الفرد إلى سعادة المجتمع ومن الإنسان الفاضل إلى المدينة الفاضلة، هو انتقال من الأخلاق إلى السياسة.[1]

ويمكن استخلاص القيم الأخلاقيّة للمواطنة عند الفارابيّ من خلال إجراء مقارنة بين المدينة الفاضلة والمدن غير الفاضلة «والمدينة الفاضلة تضادّها المدينة الجاهليّة، والمدينة الفاسقة، والمدينة المتبدّلة، والمدينة الضالّة، ويُضادّها أيضاً من أفراد الناس نوائب المدن.»[2]

والقراءة البسيطة لتصنيف المدن المقابلة للمدينة الفاضلة عند الفارابيّ يشير للطبيعة القيميّة لمبدأ المواطنة القائم في كلّ مدينة،

(68)

فمنظومة القيم التي يعتقد في صحّتها المواطن، والتي يجسِّدها في سلوكه هي المعيار، والمقياس المعتمد في التصنيف، وأوّل نموذج سلبيّ للمواطنة هو المتعلّق بالحياة ضمن المدينة الجاهلة، وهي تظهر في عجز المواطن عن معرفة السعادة الحقيقيّة، والمطلوبة منه، والتي تشكِّل جزءاً رئيساً في حياته،  وتأكيد هذا القصور بعد عمليّة التعلّم المنظّمة من قبل السلطة؛ «فأهل المدينة الجاهلة لا يعرفون السعادة بهذا المعنى ولا يخطر ببالهم. حتّى إنْ أُرشِدوا إليها لا يستطيعون سبيلاً إلى استيفاء مقوّماتها ومزاولتها ولا تقوى عقولهم على فهمها واعتقادها ..»[1]

فالمعرفة أساس القيم في مدينة الفارابيّ الفاضلة، فهي الصفة الغائبة في المدينة الجاهلة بكلّ أصنافها، فالمعرفة الصحيحة توجِّه المواطن نحو تجسيد الفضيلة، وغيابها يدرج المواطن ضمن مصاديق المدينة الجاهلة، والنموذج الأوّل للمواطَنة الجاهلة يظهر في مُواطِن المدينة الذي يَعتقد أنّ سعادته تكمن في تحقيق الضروريّ أو الحياة البهيميّة التي تقوم على حاجيّات الجسد فهي على حدّ تعبير الفارابيّ: «التي قصد أهلها الاقتصار على الضروريّ ممّا به قِوام الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون والمنكوح، والتعاون على استفادتها..»[2]

فالمُواطن الذي يجعل من رغباته هدفاً وغاية، ويحصر همّه واهتمامه في ذاته لا يقيم اعتباراً لمصلحة الآخرين، ولا يمكن أن

(69)

يكون مواطناً داخل دولة أو مدينة، فالمواطن في هذه المدينة أدنى من الحيوان.. فالقيم العامّة أو المصلحة العامّة ليست قيماً جسديّة فهذا النموذج غير قادر على بلوغها.

أمّا النموذج الثاني من المواطن فهو الذي يعيش في المدينة البدّالة وهي التي «قصد أهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثروة، ولا ينتفعوا باليسار في شيء آخر، لكن على أنّ اليسار هو الغاية في الحياة ..»[1]

فهي مدينة الأوليغاركيّة أو مدينة الرأسماليّين وأصحاب الأموال، فالسعي والتفاني في تحقيق الأموال كغاية يكشف عن غياب معرفة بمكانة الأموال ووظيفتها في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة، إذ إنّها في واقع الأمر ليست إلّا وسيلة لتحقيق المنفعة، وسدّ حاجات الإنسان وسبب تسميتها بالبدّالة كما يقول الأستاذ عبد الواحد وافي «..لأنها تبدِّل الأمور فتجعل الوسيلة غاية والأداة مقصداً»[2]

 فالمال ضروريّ في قوّة المدينة ولكنّ تقديسه يمنح المواطن القابليّة للرذيلة، والنموذج الثالث في المرتبة، والدونيّة من المواطنة هو الذي يكون همّ المواطن فيها المتعة الحسّيّة التي تظهر في حالات السكر، وما شاكلها من المأكولات والمشروبات، واللذائذ الجنسيّة، وإيثار اللعب والهزل وهي المعروفة بمدينة الخسّة والسقوط.

(70)

فالمواطن الذي يعيش راغباً في المتعة الحسّيّة وحسب، هو مواطن قادر على بيع الوطن مقابل تحقيق هذه الرغبات، فهو يفتقد لقيمة أو حسّ المسؤولية التي تشكّل سمة ماهويّة للمواطن الصالح.

أمّا النموذج الرابع فهو مواطن مدينة الكرامة أو حكم العزّة الذي يكرّس حياته في البحث عن الكرامة أو الجاه والشهرة؛ فهو يفتقد إلى الإخلاص في العمل، فهو يبحث عن الرضا والخيلاء ليس إلاّ، واستحسان الناس للعمل جميل ومقبول، ولكنّ تحويله إلى غاية من العمل يفقد البعد الأخلاقيّ للفعل.

 ويقترب منها النموذج الخامس الذي يسعى نحو الاستعلاء ويصطلح عليها الفارابيّ بمدينة التغلّب أو الطغيان، أي المدينة التي تفتقد إلى الأساس الأخلاقيّ في الممارسة السياسيّة، فالمواطن في ظلّ هذا الحكم لا يأمن السلطة على نفسه ولا على ممتلكاته.

أمّا النموذج الأخير في المدن الجاهلة فهو المدينة الجماعيّة أو المدينة الديمقراطيّة التي يكون الهدف الرئيس لمواطنيه هو أن يكونوا أحراراً في أن يفعلوا ما يشاءون، والمبدأ الأساس في الديمقراطيّة هو الحرّيّة وهي علّة التسمية الأفلاطونيّة للنظام الديمقراطيّ بنظام الحكم الحرّ، وتعني الحرّيّة وقدرة كلّ شخص على أن يسير وراء أيّ شيء يريده، ويجب أن يترك وحده لأن يفعل أيّ شيء يختاره في تعقّب رغباته، والمبدأ الثاني في هذه المدينة هو المساواة التي تعني أنّه لا أحد يفوق الآخر في أيّ شيء على الإطلاق.

فعلة الرفض للنظام الديمقراطيّ مبرّرة ومشروعة، إذ لا يعقل

(71)

التسوية المطلقة بين الجميع، بل ينبغي الإنصاف .. والسعي نحو تحقيق الرغبات دون قيد أو وازع يحوّل المجتمع الى فوضى.

والمدن المتبقيّة تؤكّد الأساس الأخلاقيّ للمواطنة في المدينة، ففساد المعرفة أو الاعتقاد الأيديولوجيّ يفقد البعد الأخلاقيّ للمواطنة الحقيقيّة داخل المدينة؛ ومن بين القيم الأخلاقيّة التي حدّد فيها الفارابي الآداب التعامليّة التي يلتزم بها المواطن في رسالته: رسالة في السياسة وهي مجموعة نصائح تهمّ كلّ إنسان وتنطبق على كلّ فرد وكلّ طبقة أو أهل كلّ طائفة يسمّيها الفارابيّ القوانين السياسيّة، إذ نجده يقول: «قصدنا في هذا القول ذكر قوانين سياسيّة يعمّ نفعها جميع من استعملها من طبقات الناس في متصرّفاته مع كلّ طائفة من أهل طبقته ومن فوقه ومن دونه على سبيل الإيجاز والاختصار»[1]

 ومن بينها التفاني في الأداء الوظيفيّ للمهامّ فيقول: «فواجب على المرء أن يستعمل مع من هو متصدّ لخدمته ما نقوله، وهو أن يكون ملازماً لما هو بصدده مواظباً على ما فوّض إليه ..» ثمّ يتوّجه الفارابيّ إلى تحديد آداب المعاملة بين المواطن والحاكم، فينصح الوزير، كمواطن يساهم في تسيير المدينة بتعيين من الرئيس، بتجنّب الملل من الملوك، ويضبط الفارابيّ مفهوم الملال، فيقول: «..لأنّ موضع الملال إنّما يكون عند كثرة غشيان الناس المواضع التي ليس لهم فيها عمل ..»

(72)

فطريقة التعامل مع الحاكم ليست هينة، وينبغي أن تقنّن كما رأى الفارابيّ في قواعد ينبغي تدريسها لطالب السياسة، فملاحظة الحالة النفسيّة على الحاكم تنبئ بعدم الرضا من طرف الحاكم، أمّا القاعدة الثانية فهي مدح الملك أو الحاكم، فالنفس تميل إلى من يحسن إليها كما يقول الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والمدح لا يعني التملّق، بل هو مقدّمة ضروريّة لتقديم المشورة والنصح، والقاعدة الثالثة اجتناب العنف مع الحاكم، بحكم لا أخلاقيّته، ويشبّهه الفارابيّ بالسيل إذ يقول: «.. فليعلم أنّ الرئيس كالسيل المنحدر من الربوة، إن أراد المرء أن يصرفه إلى ناحية من النواحي وواجهه، أهلك نفسه، وأتى عليه السيل فأغرقه.. «[1]

والقاعدة الرابعة يحدّد فيها الفارابيّ بنية الخطاب التعامليّ مع الحاكم ويفضّل سبيل الحكايات أمّا القاعدة الخامسة فهي كتمان السرّ، وأهمّ قاعدة وهي: «..لا تطلب شيئاً لنفسك من الرئيس» .. والقراءة البسيطة لهذه القواعد تكشف عن العمق الفلسفيّ والقانونيّ للفيلسوف الفارابيّ، فهو خبير وعالم بأحوال المواطنين المرؤوسين النفسيّة، وبأحوال الرؤساء، وبوحدة الطبيعة البشريّة فما قدّمه الفارابيّ هو من القديم ولكنّه أحدث من الحديث.

(73)
(74)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

امتداد المصطلح

 

(75)

مدينة الشمس

يُؤرّخ الكتاب لحياة الفيلسوف توماس كامبانيلا[1]* [1568-1639] أكثر ممّا يعبّر عن الفكرة الحقيقيّة والمشروع السياسيّ الذي كان كامبانيلا يطمح إليه، فالطبعات التي تزامنت مع وجوده في هذا العالم، تعرّضت لتنقيح وزيادات ارتبطت بمداراة كان من اللازم القيام بها للحفاظ على حياة الفيلسوف، وعليه فالنسخة الأولى التي كتبها كما تقول ماريا لويزا برنيري في شبابه عندما كان جسده مقيّداً وعقله لا يزال حرّاً»[2] هي أصحّ نسخة وأقرب إلى عقل كامبانيلا وقلبه.

ويصوِّر عنوانها فكرة إصلاح الجمهوريّة المسيحيّة طبقاً للوعد

(76)

الذي وعد به الله القدّيسة كاترينا والقدّيس بردجيه يستخدم كامبانيلا الحوار بين الفارس هوسبيتالر وبحار من جنوة يصف المدينة المثاليّة التي زارها خلال إحدى رحلاته، وتقع مدينة الشمس بالقرب من تابروبان، فوق سهل مترامي الأطراف، وهي مقسَّمة على هيئة دوائر، لكلّ دائرة أربع أبواب، وللوصول إليها يجب المرور عبر أربعة شوارع، ويوجد معبد في مركز الدائرة .

والملاحظ في التركيبة العمرانيّة للمدينة البعد الأمنيّ، والذي يشكّل الغاية الأساس في وجود الدولة، فحماية المواطنين من الغزوات والاعتداءات الخارجيّة، من القيم الأخلاقيّة الأساس التي تقوم عليها المواطنة، وغياب الأمن والأمان داخل الوطن يفقد المواطن القدرة الأوليّة لممارسة حقوقه المدنيّة، فالخوف على الذات والأهل يدفع المواطن إلى التفكير في الآليات اللازمة للحماية وحسب، وتصبح الحقوق الأخرى ثانويّة، ولا نجد في التراث السياسيّ أحسن توصيفاً من تلك القصّة الفارسيّة التي تظهر أهميّة الأمن في بناء الدولة فعند وفاة الملك يُترك الناسُ أشهراً من دون ملك، كيما تشيع الاعتداءات والانتهاكات حتّى يشعر المواطنون بضرورة الحاكم وضرورة امتلاكه لجميع الصلاحيّات؛ فيكون الأمن بذلك قيمة وورقة بيد الحاكم.

عرف كامبانيلا بنزعته الثوريّة، إذ كان انتقاده لأرسطو جريمة لا تغتفر في عرف الكنيسة آنذاك، فاتّهم من خلالها بالزندقة والهرطقة، ولم تقف نزعته الثوريّة في المستوى النظريّ، بل مارس الثورة كفعل مقاوم، والدليل على ذلك محاولته في ممارسة الفعل الإصلاحيّ،

(77)

حيث شارك في المؤامرة لطرد المحتلّين الإسبان، واعتقاده القويّ في الخوارق والتنجيم، تلك المعرفة الممنوعة من طرف المؤسّسات الدينيّة، اعتمد أيضاً في تجريم الفيلسوف كامبانيلا.

الهيكليّة السياسيّة والإداريّة لمدينة الشمس:

قمّة الهرم السياسيّ لمدينة الشمس تظهر في الملك العادل الذي يسمّى الشمس.. لديهم أمير مقدّس يسمى (o)[1]. .ومعناه في لغتنا [البحار] الميتافيزيقيّ وهو رئيسهم الروحيّ والزمنيّ ويرجع إليه في كلّ الأمور.[2] فهو رأس السلطة السياسيّة والإداريّة لهذه المدينة، فهو: «ميتافيزيقيّ من جنس الكاهن الأعلى، يملك العلم الكليّ والسيادة المطلقة ويقترب أو يشبه في الميتافيزيقا الجوهر الأوّل..».[3]

وتجربة كامبانيلا مع الظلم، جعلته يؤسّس السلطة التي يملكها العالم، أو الأمير (O) على مبدأ النسبيّة، فالإحاطة بالمعرفة، والتمكّن من المطلق أمر مستحيل، وكذلك تكون الإدارة السياسيّة قائمة على مبدأ النسبيّة، والتعدديّة، لا في الاستبداد بالسلطة، فالسلطة السياسيّة موزّعة بين مجموعة من الهيئات، تتركّب من مجلس استشاريّ يقوم بمساعدة الحاكم في تسيير شؤون البلاد، ويمكن اعتبارهم باللغة

(78)

السياسيّة المعاصرة وزراء، أو بلغة النظام الملكيّ أمراء، وهم: وزير القوّة المكلّف بشؤون الحرب والسياسة، سواء كانت سلطة القرار، أو الاهتمام بشؤون الحكّام العسكريّين والمحاربين، والجنود والذخيرة، والتحصينات.

 ووزير أو أمير المعرفة الحكمة  Sapience والمسؤول عن جميع العلوم، وعن الدكاترة، والأساتذة المتخصّصين في الفنون الحرّة والآليّة، ويساعده عدد من المشرفين أو القضاة مساوٍ لعدد العلوم، وهم المنجِّم، وعالم الكونيّات الكوزموجرافيا، والعالم في الهندسة، والفيزياء، والبلاغة، والنحو، والطبيب والعالم في السياسة والأخلاق، ولهؤلاء العلماء كتاب واحد وهو كتاب الحكمة يقرأ على الشعب كلّه حسب تقليد الفيثاغوريّين. ويمكن القول إنَّ سلطة  المعرفة تُشبه حالياً جميع الوزارات المتعلّقة بالتعليم والتكوين المعرفيّ سواء كان مرحليّاً أو تعليماً أكاديميّاً.

أمير الحبّ مسؤول عن الشؤون الاجتماعيّة والأسريّة، وتنظيم العلاقات بين المواطنين، وعليه فالنظام السياسيّ في مدينة الشمس يتركّب من الحاكم الأعلى «الشمس»، ثمّ يليه في التراتبيّة أمير القوّة Pon، وأمير الحكمة Sin وأمير الحبّ Mar.

يمثّل هؤلاء الهيئة التنفيذيّة، وبجانبها توجد جمعيتان تشريعيّتان إحداهما تتألّف من رجال الدين ولها سلطة التشريع، والثانية تتألّف من جمهور الشعب ولها حقّ الفصل في أمور السلم والحرب وإقرار القوانين.

(79)

الأخلاق والمواطن:

يُصوِّر كامبانيلا العلاقة بين الحاكم والمحكوم بأسلوب فنيّ رائع وجميل، تظهر فيه قدرته التصويريّة، ومعرفته العميقة بالبنية السيكولوجيّة للمجتمع أو الشعب، فيقول:

«الشعب دابّة لها مخّ مشوّش غبيّ، لا تعرف قوّتها، ومن ثمَّ تقف محمّلة بالخشب، والحجارة، تقودها يدان هزيلتان لطفل بالشكيمة واللجام، إنّ رفسة واحدة تكفي لتحطيم القيد، ولكنّ الدابة تخاف وتجبن، وتفعل ما يطلبه الطفل، ولا تدرك قدرتها على إرهابه، وأعجب من هذا أنّها تكبّل نفسها، وتكمّم لسانها بيدها، وتجلب لنفسها الموت مقابل دريهمات يتصدّق بها الملوك عليها من خزانتها هي، إنّها تملك كلّ ما بين الأرض والسماء، ولكنّها لا تعرف ذلك، وإذا هبَّ إنسان لينطق بهذه الحقيقة، لقتلته من دون أن تغفر له ذنبه»[1].

 السياسة والأخلاق عند كامبانيلا من سنخيّة واحدة، لا يمكن الفصل بينهما، فهي ليست علماً قائماً بذاته، يتّسم بالطابع التجريديّ، والملّمح المتعال عن إمكانيّة التمثّل، والتجسيد الواقعيّ، بل هي قائمة على محبّة الإنسان لنفسه، ومحبّته للمجتمع الذي هو شرط أساسيّ في وجوده، وقد تجلّى حلم كامبانيلا في الرغبة في إيجاد إمبراطوريّة كبرى، يسيّر شؤونها مجلس من الملوك بإرشاد البابا، وأفضل تنظيم هو النظام القائم والمبنيّ على أساس العلم الطبيعيّ والفلسفة، فيتولّى شؤون السياسة والتدبير العلماء والفلاسفة.

(80)

ومن خلال المعطيات السابقة يبدو أنّ النظام السياسيّ موزّع بطريقة تقوم على منطق العقل والعلم، فترؤس شخص هرم السلطة مسألة ضروريّةٌ، ولا يمكن الاستغناء عنها، كما أنّ الحاكم الأعلى ليس مُستبدّاً بالصلاحيات الإداريّة بل هي مقسّمة بالعدل على الأمراء الثلاثة «أمير الجيش، وزير الدفاع، أمير الفكر، الحكمة، أمير الحبّ».

يظهر الفضاء التعدّديّ في التركيبة السياسيّة لمدينة الشمس، فالحرّيّة السياسيّة موجودة في المشاركة السياسيّة التي يقوم بها المواطنين، فالحرّيّة ليست هي العمل وفق الأهواء، فصرامة القانون ضرورة لازمة للتسيير السياسيّ؛ وقد قامت الأستاذة عطيات أبو السعود بتصوير هذه الصرامة فتقول: «ننتقل الآن من الحرّيّة الليبراليّة، وتسامح الأديان في يوتوبيا توماس مور إلى الوجه الآخر لهذه الحرّيّة، إلى النظام الصارم الذي يضع كلّ شيء في موضعه.[1]

أسلوب الصرامة في التعاطي مع المواطنين أدّى إلى تعدّد التأويلات لفكر كامبانيلا، ومواطن مدينة الشمس يمارس المواطنة في أعلى صورة وهي تغيير الحاكم والأمراء، يقول ويل ديورانت: «.. وكلّ موظّفيها صفوة مختارة، وهم قابلون للعزل عن طريق جمعيّة وطنيّة تضمّ كلّ من بلغ العشرين من سكان المدينة، وهؤلاء الموظّفون المختارون على هذا الأساس، يختارون بدورهم رئيس الحكومة الكاهن الذي يسمّى هو Hoh...)[2] والرؤساء الثلاثة عشر

(81)

يجتمعون برئاسة الميتافيزيقيّ كلّ ثمانية أيّام للبتّ في تعيينات رؤساء المقاطعات أو دوائر المدينة، أمّا الأمراء الثلاثة عشر فينتخبون في اجتماع عامّ يحضره الجميع رجالاً ونساء ....».[1]

ويشير كامبانيلا إلى أنّ شروط الحاكم الأعلى ليست معطاة للجميع، يقول: «.. لا يستطيع أحد أن يصبح (o) إذا لم يكن ملمّاً بتواريخ الشعوب وطقوسها وقرابينها وقوانينها، ثمّ يجب أن يكون على دراية بجميع الفنون الآليّة، وأن يتعلّم منها كلّ يومين فنّاً جديداً، وعليه أن يعرف جميع العلوم كالرياضيّات والفيزياء والتنجيم، كما أنّه ليس في حاجة إلى معرفة اللغات لأنّ لديه مترجمين ... كما أنّه يجب أن يتخطّى الخامسة والثلاثين لكي يتسنّى له الحصول على مثل هذا المركز وأن يستمرّ في شغل منصبه حتّى يُعثَر على رجل يفوقه علماً وقدرة على النهوض بأعباء الحكم».[2]

الحاكم يملك جميع الصلاحيّات مادامت الشروط متوافرة فيه، وإذا غابت وجب عزله وإقالته، وهذا هو جوهر المواطنة، ومن الإشارات اللطيفة الواردة في كتاب مدينة الشمس عن الوطنيّة والمواطنة، ما جاء في ثنايا الحوار حول المشاعيّة، فإذا كان كلّ شيءٍ مُشاعاً، والضروريّ متوافراً للجميع، فلِمَ العمل، وما الغايات التي ستحرّك المواطن نحو العمل؟ يبدو أنّ بداية الحوار تبدأ بالإقرار بالعجز عن مناقشة الفكرة، والجواب كان أنّ الدافع إلى العمل والاجتهاد هو الوطنيّة أو المواطنة: «لا يمكنني أن أناقش

(82)

هذه الفكرة، وكلّ ما أستطيع أن أقوله لك هو أنّهم يحبّون وطنهم حبّاً صادقاً عجيباً، بل إنّ حبّهم لوطنهم أعظم من حبّ الرومان لبلادهم، لأنّهم ذهبوا في التخلّي عن الملكيّة إلى حدّ أبعد منهم بكثير، وأعتقد أنّ القسّيسين والرهبان، عندنا لو استغنوا عن العائلات والأصدقاء، وعن أيّ طموح إلى المناصب العليا، لأصبحت ملكيّاتهم أقلّ ممّا هي عليه وتشرّبوا بروح القداسة والإحسان للجميع «فالمواطنة هي إقصاء كلّ انتماء للذات، ولغير الوطن، والحياة من أجل الوطن وحده.

وتعتمد الممارسة السياسيّة أساساً على القيم الأخلاقيّة، وتطبيق ومراقبة ممارسات المواطنين لمدى التزامها بالقيم أو انحرافها عنها، يقول B. Malon : «التدخّل الحكوميّ ليس له حدّ لأنّ جميع القيم الأخلاقيّة مطلوبة، فالقانون منح هذه القيم بعداً أو صيغة رسميّة، فحتّى القضاة يُعيَّنون طبقاً للسلم الأخلاقيّ فالشهامة أو الأريحيّة والشجاعة، العفّة، الكرم، العدل والإنصاف، الحذق، الحقيقة..[1]

ومنه يتبيّن لنا أنَّ الدلالات الأخلاقيّة المتضمّنة في اليوتوبيّات هي مصدر استقى منها رجال السياسة مبادئهم أو بشكل أدقّ شعاراتهم، فالمفكّر Villegardelle المترجم الوفيّ لتوماس مور، وكامبانيلا يصرِّح بأن مدينة الشمس أعلى من اليوتوبيا لتوماس مور[2].

(83)

المعرفة:

تحتلّ المعرفة في مدينة كامبانيلا رأس القيم التي ينبغي التحلّي بها، لدرجة تصل بالمواطن إلى عبادة المعرفة، فالمعرفة بجميع العلوم فريضة، لأنّ الارتقاء الإنسانيّ لا يحصلُ إلّا بها فهي القوّة التي تمكّننا من التحكّم في الطبيعة، كما أنّ لغات التواصل العالميّ ينبغي لمواطن مدينة الشمس التمكّن منها جميعاً، يقول كامبانيلا: «..وقد أظهرت تعجّبيّ من معرفتهم الواسعة بالتاريخ، فأخبروني أنّهم يعرفون لغات كلّ الأمم، لأنّ من عادتهم إرسال السفراء  إلى جميع بلاد العالم لتعلُّم ما لديها من خير أو شرّ، وقد حصلوا من ذلك فوائد جمّة...»[1] فالغاية من المعرفة، والتمكّن من لغات  العالم، هي المعرفة أو العلم بالتجارب الأخلاقيّة للأمم.

وتحتلّ العلوم المكانة الرئيسة في التربية والتعليم في المدينة، إضافة إلى العمل اليدويّ، وتقوم فلسفة التربية على أسس فنيّة رومانسيّة، فالتصوير على رأس الديداكتيك البيداغوجيّ في هذه المدينة، فالتدريس بالعرض أو بما نسمّيه حاليّاً المجلّات الحائطيّة يعتبر وسيلة ناجعة في تكوين المتعلّم، فالعين أو الملاحظة الحسّيّة هي نافذة مواطن مدينة الشمس نحو المعرفة ونحو آفاق الكون، ويتولّى التدريس أو التكوين المرحليّ أربعة من الشيوخ.. وفي سنّ السابعة يتعرّفون إلى المعارف أو المهارات الحركيّة ثمّ يتعلّم كلّ فرد جميع أنواع الفنون.. وبعد بلوغ الثالثة من العمر يتعلّم الأطفال اللغة وحروف الأبجديّة بالمشي في أربعة صفوف يقودهم أربعة

(84)

من كبار السنّ الذين يتولّون التدريس لهم، ويعودون حتّى سنّ السابعة... ويؤخذون في جولات حول الورش الخاصّة بالحرف المختلفة كالخيّاطين والنقّاشين والصائغين لكي يكتشفوا ميولهم واستعداداتهم.

والمعرفة لا تطلب لذاتها عند أبناء المدينة، بل مرهونة بالعمل، والإنجاز، وهما عماد المجتمع التي أسّسها كامبانيلا في فكره قبل أن يجسّدها في كتابه، ومعاناته مع التعذيب الذي رافقه طيلة حياته، الذي استمرّ في إحدى الحالات مدّة أربعين ساعة[1]  فالعمل دون معرفة جنون، والمعرفة دون عمل عبث.

أشاد بفضل العمل الإنسانيّ، ونعى على هؤلاء الذين يأكلون من عمل غيرهم، فهؤلاء في الدولة أشبه بالعقيمات، فالعمل واجب على كلّ مواطن، ولكنّ مراعاة الاستعدادات والفوارق الفرديّة والجنسيّة ضروريّ لتحقيق الإنصاف، فعمل الأنوثة يختلف عن عمل الرجال، فيجب إذاً أن يكلّف كلّ مواطن بالعمل الذي يناسب استعداده، لأنّ العمل فضيلة إنسانيّة، ويجب ألّا أن ننظر إلى مقامات الرجال ودرجاتهم الاجتماعيّة، فهذه تحدّد بالعمل والخدمات في سبيل المواطنين، كما تطرّق كامبانيلا لمسألة توزيع الإنتاج، فالكلّ له الحقّ في الإنتاج بحكم المواطنيّة، ولكنّ التوزيع خاضع لمقاييس العدل والإنصاف، فدرجة المساهمة في العمل الاجتماعيّ تشكّل معياراً في عدالة التوزيع، ومتى كان العمل مفروضاً على كلّ مواطن، والإنتاج موزّعاً بحيث يكفل إسعاد

(85)

كلّ مواطن، انتفت في المجتمع غرائز الأنانيّة وحب الأثرة وقوى التضامن المادّيّ والروحيّ بين أعضائه. ومتى اطمأنّ المواطنون إلى تحصيل أرزاقهم وتوفّر لهم ما أرادوه، انصرفت جهودهم إلى تحصيل العلم والمعارف، والى التفلسف والمساهمة بنصيب فعّال في الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة.

 الشيوعيّة:

تشير الظروف التاريخيّة لفكرة المشاعيّة، إلى امتعاضٍ لدى البشريّة من الملكيّة الفرديّة، ومن النتائج السلبيّة التي استتبعتها، فهي في التصوّر الأفلاطونيّ متعلّقة بالمسألة الجنسيّة، وذلك بغية تأسيس مجتمع خالٍ من الملكيّة الفرديّة، أمّا عند كامبانيلا فتتجاوز المسائل الجنسيّة إلى المجد، والمال، والمعرفة، واللذات، يقول: «كلّ الأشياء مشتركة بين السكان، ويقوم القضاة بالإشراف على إدارتها، ولا يقتصر الاشتراك على الطعام، بل يشمل المعرفة والمباهج والمسرّات وأوجه التشريف والتكريم، بحيث لا يستطيع شخص أن ينفرد بتملّك أيّ شيء..[1]

فالملكيّة الفرديّة رأس الخطايا وأمّ الآفات الاجتماعيّة، فالتفاوت في ملكيّة الأشياء يخلق حالات الحرمان وبالتالي تتولد الجرائم، فالغنى والفقر ليسا جبريّة فوقيّة لاهوتيّة بل هما جبريّة إنسانيّة، وفي الفقرة التالية يبرر كامبانيلا تصوّر المشاعية: «.. إنّ الملكيّة.. هي الأًصل في حبّ الذات، فالأب الحريص على أن يهيّئ لابنه الثروة

(86)

والترف، إمّا أن يسعى للاستحواذ على الثروة العامّة، وذلك إن كان قويّاً وجريئاً، وإمّا أن يصبح جشعاً ومنافقاً إذا كان ضعيفاً، ولو جُرِّد الناس من حبّ الذات لما بقي إلّا الحبّ الذي يجمع بين أعضاء المجتمع».

أمّا مسألة المرأة، فنلاحظ تقاطعاً بين كامبانيلا، وأفلاطون في مسألة اختيار المرأة لإنجاب مواطنين صالحين، ولكنّه يمنح صلاحيّة هذا الاختيار لأمير الحبّ الذي يشرف على زواج الجنسين ليستوثقوا من أنّهم يتّصل بعضُهم ببعض، لينجبوا أحسن الذريّة، فسكّان مدينة الشمس كما ورد في الحوار يسخرون من الآخرين الذين يهتمّون بنتاج الخيل والكلاب، ويهملون نسل الإنسان، ومن الأولى التفكير في النوع، وكماله لأنّه المجسّد الحقيقيّ لله في الأرض، كما أنّ القضاة في مدينة الشمس حدّدوا للزواج أو اللقاء الجنسيّ سنّاً معيّنةً فهي للرجال 21 سنة وللنساء 19 سنة.[1]

فالاتّحاد أو اللقاء الجنسيّ ليس الغرض منه الحفاظ على النوع أو تحسينه وحسب بل لتحسين العمل الجماعيّ أيضاً، فعلى حدّ تعبير بول جانيه: يجعل كامبانيلا من مهامّ القضاة مراقبة العلاقات الطبيعيّة الحرّة للنوع البشريّ، ويكلّف شرطة مستبدّة ومتسلّطة وفضوليّة بمتابعة العواطف الشخصيّة، إذ تجاهل حقوق القلب والكرامة الفرديّة..»[2].

(87)

اطلنطس الجديدة

في البدء كان المكان بأبعاده الاجتماعيّة، الحقل الأوّل الذي تعاطت معه اليوتوبيا، بلغة النقد، فكان التأصيل الإيتيمولوجيّ لكلمة يوتوبيا، [او- ou]، وتوبوس [topos] فكان اللامكان، أو رفض المكان، تقعيداً رئيساً للكلمة، أمّا من حيث المطلب فكانت العدالة هي القصد في المشروع الإصلاحيّ، وبما أنّ الفكر أصل، الفعل ومبدأه، فإنّ النظر الى المنظومة المعرفيّة بعين النقد والتمحيص هو السبيل الأمثل لتحقيق هذه النهضة، فكانت اطلنطس الجديدة نموذجاً جديداً في الأدب اليوتوبيّ، تعاطى مع نظريّة المعرفة بطريقة نقديّة.

فالمشروع البيكونيّ، في صورته الظاهرة سياسيّ، وفي روحه، علميّ وتقنيّ، ولهذا نجد بيكون، فالإحياء العظيم الكتاب الذي اجتهد الفيلسوف حياته من أجل تحقيقه، يقوم على مبدأ السيادة، والمتمثّل في تسخير الطبيعة لتحقيق الكرامة الانسانيّة، السيادة القائمة على العلم، والمعرفة.

استعار بيكون[1]* لفظة اطلنطس من كلمة جزيرة اطلنطس القديمة، التي ورد ذكرها عند أفلاطون في محاورتي كريتياس، وطيماوس، حيث استعار الكلمة للإشارة الى الحضارة القائمة على العلم والتقنيّة، فالحضارات التي تهاوت نتيجة الانحلال الأخلاقيّ يمكن إحياؤها عن طريق العلم والتجربة، ولهذا نلمس المشروع

(88)

لنهضويّ الذي طمح إليه باكون، حيث لم: «.. يكن فيلسوفاً أخلاقيّاً مثل مور، ولا مصلحاً دينيّاً مثل اندريا، ولا فيلسوفاً موسوعيّاً مثل كامبانيلا، لقد كان سياسيّاً شديد الحماسة للعلم، واطلنطا الجديدة هي في الواقع «حلم تعويضيّ» يتّحد فيه العلم والقوّة ويمسكان بزمام أعلى السلطة في الحكم».[1]

وتقوم نظريّة المعرفة عند بيكون على نقد المعارف السابقة، وإشارته الى فكرة الأوهام، وأثرها في نسبيّة المعرفة، تؤكّد ذلك، فالعقل الحقيقيّ هو الذي يعمل على تطهير نفسه من الأوهام، إذ إنّ الخطاب الدوغمائيّ - في اعتقاد بيكون -  أساء إلى الفلسفة، ففي مقدّمة كتابه الاورغانون الجديد، نستشفّ موقفهم منهم: «أولئك الذين تصدّوا للإفتاء في شأن الطبيعة وكان أمرها محسوماً أو مفروغاً منه اولئك قد ألحقوا بالفلسفة وبالعلوم أشدّ الضرر، لقد نجحوا في خنق البحث واغلاق باب التساؤل بقدر نجاحهم في نشر رأيهم وكسب الآخرين إليه».[2] فالبحث عن الحقيقة عند بيكون، يستلزم التعالي عن الاعتقاد بملكيّتها، والتعاطي بنقد، وتمحيص مع المعارف السائدة، فالحقيقة تبنى، ولا تلقّن.

ويصف بيكون الأنساق المعرفيّة، المتعارف عليها عند رجال الفكر بتعبير لطيف،  وساخر قائلاً: «.. إنّ الذين تناولوا العلوم فهم إمّا تجريبيّون، وإمّا اعتقاديّون (وثوقيّون) الفئة الأولى كالنمل تكدّس

(89)

خزينها وتستعمله، والثانية كالعناكب تغزل من إفرازها نسيجها. أمّا النحلة فهي وسط بين الاثنين، فهي تستخرج المادّة من أزهار الحديقة والحقل، ولكنّها تعمل فيها وتشكّلها بجهودها الخاصّة .. والعمل الحقيقيّ للفلسفة يماثل عمل النحلة، لأنّ الفلسفة لا تعتمد اعتماداً كليّاً أو أساسيّاً على قوى العقل، ولا هي كذلك تدّخر في الذاكرة المادّة التي تنتجها تجارب التاريخ الطبيعيّ.. في حالتها الفجّة..»[1]

ويلاحظ من التصنيف البيكونيّ الإشادة بأهميّة الفلسفة، المعرفة التي تزاوج في نظره بين مبادئ المعرفة الرئيسة: النظريّة، والتجربة، لأنّ الاعتماد على ملَكات العقل، وقدراته، يحاكي فعل العناكب، التي تنتج من ذاتها، ذلك النسيج النسقيّ، كما أنّ التقعيد المعياريّ على الذاكرة، وتخزين المعارف، وتكديس المعطيات، عند العلماء شبيه بنشاط النمل. 

أمّا في المستوى السياسيّ، فإنّ سلطة الحاكم في مدينة باكون تقوم على العلم، والمعرفة، لا على الفضائل الدينيّة، أو الأخلاقيّة، فهي تتمتّع باستقلاليّة فريدة تجعلها مالكة لحقّ السيادة في تشريع القرار، والحكومة عنده تتكوّن من: «.. الصفوة المختارة التي شغلت مناصبها بفضل تفوّقها العلميّ في شتّى فروع المعرفة والعلم، فليس القائمون على بيت سليمان رجال سياسة أو رجال حرب، ولكنّهم مجموعات من العلماء...»[2].

(90)

فــ بيت سليمان الذي يقدّمه باكون في كتابه مؤسّسة علميّة، تسعى من خلال التجارب العلميّة إلى تقديم خدمات للبشريّة، فهو: «أشبه شيء بالكليّات، الغاية منه معرفة علّة الحركة في الأشياء، وأسرارها، وتوسيع سلطة الإنسان حتّى لا يعجز عن عمل أيّ شيء ممكن، وفي هذا المؤسّس معامل ومختبرات محفورة في جوانب التلال ومراصد يبلغ ارتفاع أبراجها نصف ميل وفيها برك من الماء الملح والماء العذب يبدو من أقوال بيكون أنّه يريد منها أن تكون مختبراً لتربية الأسماك... فيها مصحّ لتجربة الأدوية وقاعات كبيرة لعرض التجارب الطبيعيّة ومراكز زراعيّة .. لعمل التجارب في التطعيم. ثمّ المعامل الصيدليّة..».[1]

عكست اطلنطس الجديدة لفرانسيس بيكون في منحاها العلميّ، والمعرفيّ، الميل السياسيّ عند العلماء، والمفكّرين، فالطموح إلى السلطة، والحكم نزوع طبيعيّ عند بني البشر، كما أنّ التبجيل الذي يجده العلماء عند العامّة، يزرع في النفس، الميل إلى التسلّط، والتاريخ يشهد، وما زال الحاضر يؤكّد قوّة هذا الميل على توجيه القرار عند العلماء، والمفكّرين، فالشرعيّة السياسيّة في الأنظمة الاستبداديّة تستقي مشروعيّتها من العلماء الذين ركبوا التلّة للحفاظ على حياتهم، وأموالهم.

(91)
(92)

 

 

 

 

 

 

خاتمة نقدية

نقد للمصطلح وتحليله

 

(93)

من الحقائق التي لا جدال فيها الاعتقاد بزئبقيّة المفهوم الإنسانيّ، والتواضع البشريّ على الدلالات (الاصطلاح) يعكس الحالة الديناميكيّة للمفاهيم البشريّة، ومسار اليوتوبيا كاصطلاح يقرّ بهذه الحقيقة، فالمنطوق كان مع الحلم، والأمل في السعادة، واللامنطوق تأسيساً لرفض، واستهجاناً من قبل الجماعة، التي تؤرّخ لها الفئة النخبويّة، من خلال الكتابة، وتنوّع المقاربات البحثيّة في التعاطي مع اليوتوبيا، يكشف لنا عن العمق، والرمزيّة التي استبطنتها اليوتوبيا.

المقاربة السوسيو معرفيّة

تعتبر دراسة كارل مانهايم[1]* “الأيديولوجيا واليوتوبيا” من الكتابات السوسيولوجيّة الرئيسة، التي تناولت اليوتوبيا كظاهرة معرفيّة ذات مرجعيّة اجتماعيّة، وثقافيّة، حيث اعتبرت فيها اليوتوبيا منظومة معرفيّة، وتمثُلاً نظريّاً للمأمول عند الجماعة، لأنّ الأمل، والحلم، الموجود في اليوتوبيا، محرّك رئيس، للتقدّم، والتنمية الاجتماعيّة، لأنّ: “..التفكير القائم على التمنيّات، وليس على الحقائق يلعب دوراً في الشؤون الإنسانيّة، وحين لا يجد الخيال ما يرضيه ويسعده في الواقع القائم فإنّه يلجأ الى الأماكن والأزمان التي

(94)

تخلقها التمنّيات والأحلام..”[1] فالحلم إذاً هو توأم الحياة اليوميّة، والعالم المأمول، والمطلوب، كمقابل، فالحياة الفرديّة تتوزّع بين عالمين: عالم ناقص يحتاج بطبيعته إلى ما يكمله، ويتمّه، وعالم كامل في الصورة، هو عالم الخيال، الذي يعتمد  عليه الواقع في استمداد مقدّمات النهضة.

وإذا كانت الطبيعة الأصليّة للحياة الجماعيّة هي الحركيّة، والسيرورة، على قاعدة السير نحو الارتقاء والاكتمال، فإنّ التوقُّف عن الحركة، والركون إلى أنماط معرفيّة ثابتة، ينحرف بالغايات المطلوبة من الحركة، التي كانت مأمولاً، والذي ينمّط هذه الحركة ويصهرها في بوتقة مقابلة، ومعارضة للمطلب الأوّل، فتكون بالتالي يوتوبيا مضادّة، هي الأيديولوجيا.

وتحوُّل اليوتوبيا إلى أيديولوجيا لازمة إنسانيّة، حيث تعمل الطبيعة البشريّة إلى تسييج، وقولبة الأفكار التي تعتقد في صحّتها، إلى سلطة ذات مشروعيّة متعدّدة الأصول، والمسالك، واليوتوبيا العقديّة ليست إلّا مجرّد أيديولوجيا مؤسّسة على مشروعيّة دينيّة، فالفكر الدينيّ على العموم تجربة اجتماعيّة، مشروطة، بظروف ثقافيّة، وزمانيّة، أصبحت بواسطة الاستدلال، والمؤسّسة الاجتماعيّة

(95)

القانونيّة، مؤسّسة ذات سيادة، وأداة قادرة على كبت المخالف.

والسياق التاريخيّ الذي نشأ فيه مصطلح الأيديولوجيا يستبطن الصيغة التقابليّة التي تقع فيها، فتسمية بعض الفلاسفة من طرف نابوليون بالأيديولوجيّين، يشير إلى صيغة التحقير التي كانت من وراء القصد، فحسب مانهايم فإنّ: “.. ما يزدرى هو عدم صلاحيّة فكر الخصم، لأنّه يعتبر فكراً غير واقعيّ. لكن لو سألنا، غير واقعيّ بالنسبة إلى ماذا ؟ فسيكون الجواب أنّه غير واقعيّ بالنسبة للممارسة الفعليّة، وغير واقعيّ حين نقارنه بالأمور التي تتكشّف عنها حلبة الصراع السياسيّ..”[1]

ويعتقد مانهايم أنّ اليوتوبيا مشروع قابل للتحقّق في مقابل الأيديولوجيا، التي تتعالى على الراهن الإنسانيّ، فهي مجرّد تصوّرات خياليّة، وقد تتقاطع اليوتوبيا معها في سمة الوهميّة، ولكن بالنظر إلى اليوتوبيّ كحكم قيميّ، وليس كواقع موضوعيّ، يقول مانهايم:” .. أمّا الأيديولوجيّات فهي الأفكار المتسامية على الوضع والتي لا تنجح أبداً كأمر واقع في تحقيق محتوياتها المرغوبة”..[2]

فاليوتوبيا والأيديولوجيا عند مانهايم ليست إلّا تمثُّلات بشريّة للحقيقة، قد تتقاطع في عناصر معها، وقد تقترب من الزيف، والنمط

(96)

المعرفيّ الذي يتعالى على الطبيعة الاجتماعيّة هو الأيديولوجيا لأنّها منظومة معرفيّة أنتجتها السلطة لتبرير وجودها الصناعيّ، فهي مرتبطة كما يقول – كامل شياع – بادّعاءات الجماعة المهيمنة، واليوتوبييا مرتبطة بادّعاءات الجماعة التي تقع عليها الهيمنة.[1]

وتكون اليوتوبيا في صورة أخرى أيديولوجيا للجماعات الثوريّة، ومشروع الطبقات المضطهدة، التي تمثِّل الإطار المرجعيّ الذي تستمدُّ منه الجماعة طاقتها الروحيّة، والخياليّة، والتي تمكّنها من تجاوز نوائب العصر، وهذا ما نجده عند ارنست بلوخ[2]* فهي  “أكثر من مجرّد أحلام غير مدركة عن المثل أي إنّها تتضمّن كلّ الأحلام الإنسانيّة العميقة الجذور”.[3]

ويضع كارل مانهايم هذا اللون من اليوتوبيّات ذات المرجعيّة الدينيّة في الصنف الأوّل من الأنماط اليوتوبيّة، ويصطلح عليه بالعقيدة الألفيّة، التي ساهمت في اعتقاده في تطوير، الفكر الحديث وبلورته، حيث عملت الكنيسة على نشر فكرة المملكة الألفيّة، أو ما يعرف بمملكة الإنجيل الثالث، والتي افترضها يواخيم الفيوريjoachim  of fiore [4]* في القرن الثالث عشر

(97)

والتي أقامها على تصوّر زمانيّ لا مكانيّ، فهي متلازمة مع ظهور المسيح، وهي مرحلة أخيرة في نظرته الفلسفيّة للتاريخ[1]*

ويعتقد مانهايم أنّ هذه اليوتوبيا تمثل نقطة التحوّل الرئيسة في التاريخ الحديث، حيث «.. بدأت في اللحظة التي اتّحدت فيها العقيدة الألفيّة مع المطالب النشطة للطبقات المضطهدة في المجتمع.. وتحوّلت هذه الأفكار إلى حركات تؤمن بالعنف والقوّة لتحقيق الأهداف..»[2] فاليوتوبيا ولدت كمشروع فكريّ، وتحوّلت إلى منظومة معرفيّة، تتبنّاها الجماعة، وتحتكم إليها في كلّ صراع.

أمّا الشكل الثاني الذي تجلّت فيه اليوتوبيا عند مانهايم، يظهر في المنظومة الليبراليّة، التي أسّست لمجموعة قيم فرديّة متعالية، اعتمدت فيها الطبيعة كمحكّ للمنظومة المعرفيّة، فهي نموذج التوازن، والتكامل، والاتّساق، ويصبح العقل بالتالي منطقيّاً، ومتّسقاً إذا كانت مسلّماته متّسقة مع الطبيعة، فهي تجتنب كلّ تفسير دينيّ، يحاكي العقيدة الألفيّة التي تعود بكلّ شيء إلى الله، حيث كانت

(98)

الطبيعة كما يقول مانهايم: «غالباً تعني المعقوليّة أو الحالة التي تنتظم فيها الأشياء، طبقاً للمعايير الأبديّة للصواب والخطأ».[1]

ومن الناحية الاجتماعيّة حدث تحوّلٌ في المراكز الاجتماعيّة، فبعد أن كان المجتمع مؤلّفاً من نبلاء، وخدم، ومن طبقتين متناقضتين، نشأت طبقة وسطى، استطاعت من خلال الثورة الصناعيّة، والتقدّم العلميّ والتقنيّ في سنة 1815 أن تنشئ لنفسها مقاماً، وحضوراً اجتماعيّاً بين الطبقة العليا المالكة لوسائل الإنتاج، والطبقة المحرومة، وبرغم ذلك حسب مانهايم تتغيّر العلاقة في التنظيم الاجتماعيّ الليبراليّ على مستوى الشكل وحسب، فالموظّف هو مجرّد فارس باصطلاح العقيدة الألفيّة، والأتباع  هم موظّفون لا حول لهم، ولا قوّة «.. تحوّل الفرسان إلى موظّفين، كما أصبح أتباعهم موظّفين مطيعين[2]» والاختلاف بين التركيبتين يعود إلى طبيعة التكوين الفكريّ، والثقافيّ.

المقاربة الأنتروبولوجيّة 

نستأنس في هذه المحطّة بالمقاربة الأنتروبولوجيّة التي طرحها أرنست بلوخ[3]* [Ernst Bloch 1885/1977] المفكّر الثوريّ،

(99)

الذي تعاطى مع اليوتوبيا كواقع موضوعيّ، متضمّن لكلّ ما هو ذاتيّ، فمقاربة بلوخ تسعى إلى تبيان الارتباط الوثيق بين اليوتوبيا، والواقع، فحسب بلوخ، لا يمكن إنتاج معرفيّ، أو مؤسّساتيّ، يحمل قيمة من دون يوتوبيا، فهي ضرورة لازمة للإبداع، فالخيال هو الطاقة المحرّكة لكلّ إبداع، وحسب بلوخ الانتقادات التي تعرّضت لها اليوتوبيا لا تخرج عن موقفين: موقف يعتقد أنّ الواقع الموضوعيّ هو بنيّة من الحقائق الموضوعيّة، التي لا تمتُّ بصلة إلى اليوتوبيا التي تعبّر عن الخيال اللاواقعيّ، الذي ينبع من اعتقادات، وميول شخصيّة، فالخيال مهما كان موضوعيّاً بمادّته التركيبيّة، أي إنّ البنيات، والصور الذهنيّة التي يعمل فيها الذهن بالتحليل، والتركيب، عن طريق ملكة الخيال تعود في أصلها إلى الواقع الموضوعيّ، فلا يوجد ابتكار في دون تمثّل لمادّة تملك بُعداً أنطولوجيّاً في الواقع، وبرغم ذلك، لا يمكن أن يكون مشتركاً، وموضوعيّاً، فاليوتوبيا حسب هذا الافتراض تتّسم: «.. باللاعقلانيّ حين يرفض الإقرار بسلطة الواقع الموضوعيّ، وعدم النضج في عدم قدرته على إدراك الطبيعة المحدودة للمحتمل، وغير المسؤول لفشله في فهم الدور المناط بإمكانيّة الغلط، وهو يحاول إدراك ما هو صالح».[1]

يوضح بلوخ الالتباس الواقع في الحكم على اليوتوبيا، من

(100)

خلال دراسة العناصر المؤلّفة للواقع، حيث يبرز العناصر المتضادّة في تركيبته، فهو ليس واقعاً متحقّقاً، بل يتضمّن ما لم يوجد بعد، والذي يتّصف ببعده الانثروبولوجيّ، وهو الذي يصطلح عليه بمقولة الـ : ليس ـ  بعد التي تعني الفضاء الواسع الذي تحمله الرغبة الإنسانيّة، فالمطلوب أوسع من المتحقّق، لأنّ مجال الرغبة متضادّ بطبيعته، فهو حيويّ بالأصل، ويعود بأصله التكوينيّ إلى عناصر اجتماعيّة، وثقافيّة، وعلى سبيل التمثيل نستأنس بالتصوّر الفرويديّ للنفس، والذي يقسّم النفس إلى ثلاث بنيات: الـ هوId  وال أنا Ego وال أنا الأعلى Super ego  فعالم الذي يتقارب مع عالم الـ ليس بعد عند بلوخ يتجسّد في مقولة ال هو التي تمثّل عند فرويد مبدأ الطاقة النفسيّة، والأصل المحرّك لجميع الرغبات الفرديّة، والمقولة الثانية هي الامكان الذي يظهر في أبعاده الذاتيّة والموضوعيّة، واليوتوبيا عند بلوخ مظهر لتلك الامكانات الذاتيّة والموضوعيّة التي تستبطنها الطاقة الإنسانيّة، فما هو يوتوبيّ عند بلوخ: «..لا ينسب بالضرورة إلى سياق، سواء كان علميّاً، أو متخيّلاً، بل تكون له وظائف متعدّدة، يمكن أن نوردها كما يأتي: وظيفة إدراكيّة بوصفها صيغة لعمليّة العقل البناء، ووظيفته تعليميّة بوصفها تمثيلاً فنيّاً للأساطير، ترشّ الناس نحو الأمل والرغبة على

(101)

نحو أكثر وأفضل، ووظيفة تنبُّؤيّة بوصفها استشرافاً للمكنات التي ستغدو حقيقيّة في ما بعد، ووظيفة سببيّة بوصفها عاملاً في التغيير التاريخيّ[1]». فاليوتوبيا إذاً مجال، وإمكان بشريّ، يعكس الطاقات الكامنة في الجِبلّة البشريّة، التي لا تحدُّ برسم، ولا تعين بقيد، ونجد أنّ نصيب الأحكام القيميّة من تخلّف البشر، كبير، وخطير، ونعتبر السبيل إلى تقنين الأحكام القيميّة، مدخلاً لارتقاء الإنسان، وتعاليه عن الأحكام الاعتباطيّة، فاليوتوبيا ليست هروباً من الواقع، بل تعبير عن الإمكان، والأمل في العيش المشترك، والسعادة التي نطمح إليها بطبيعتنا.

 والنزعة اليوتوبيّة فطرة أصيلة عند الإنسان؛ والنزوع إلى السعادة تأكيد للقول، فكلّ امرئ يبحث عن الاستقرار، والأمن، والعدالة، فالمعيش منطلق للبحث عن المثال، والأنموذج، فالصراعات التي يكابدها الإنسان تدفع به إلى التفكير عن الأفضل، على مستواه الفرديّ، وعلى المستوى الجماعيّ، وهو ما عبّرت عنه اليوتوبيا، فهي مشروع اجتماعيّ لمناهضة الاستلاب، تمارسه السلطة، والكليانيّة على الشعوب المستضعفة، فهي مطلب، ونزوع نحو مجتمع الفضيلة، والتعرّف إلى جذور اليوتوبيا المتعدّد يوحي بالخصوبة الثقافيّة التي تستبطنها اليوتوبيا، و«.. هذا يعني أنّ جذر

(102)

اليوتوبيا يأتي من الفائض الثقافيّ الذي يغذّ الصلات بين الخطابات الفرديّة المختلفة، مثلما بين الاقتصاد والأدب أو بين التكنولوجيا والأخلاق.. وأنّها تقترح إحساسيّاً بالوحدة المتخيّلة التي تساعد في فهم معنى الحياة، من خلال التضادّ بين ما هو موجود وما يفترض أن يكون موجوداً. ونتيجة لذلك يكون مضمون اليوتوبيا متنوّعاً إلى حدّ كبير..[1]»

تحتوي اليوتوبيا في مضامينها على مؤشّرات فرديّة، وجماعيّة، فهي في البدء شعور بالوحدة، والغرابة عند المفكّر، الذي يعيش المفارقة بين ما هو كائن، وبين المأمول الذي يسعى إليه، بين ماحدّدته الثقافة من مسار، وبين الغاية التي ينبغي أن يصل إليها المشروع الإنسانيّ، فهي تجربة فرديّة تنبع في ذات المفكّر، ومن بنات فكره، فهي كمُتخيّل، ومُتصوّر ذهنيّ، تجربة شخصيّة، ومن زاوية أخرى مُنتَج اجتماعيّ على قاعدة الارتباط القائم بين اللغة والثقافة كمؤسّسة اجتماعيّة، وبين الفرديّة الشخصيّة، فمن الصعوبة بمكان الفصل بين ما هو طبيعيّ، وفرديّ عائد لشخص بذاته، وبين مُنتَج الجماعة، فنحن مهما كانت طبيعتنا كأفراد، نتاج لثقافة مجتمعنا. 

(103)
المؤلف في سطور شريف الدين بن دوبه شريف الدين بن دوبه - الجزائر المؤلفات : 1. اليوتوبيا والمواطنة ، دار ابن النديم. يوليو 2016 2. نهاية المواطنة ، دار ابن النديم ، بيروت يناير 2016 3. المتميز في الفلسفة في تعليم الفلسفة لقسم نهائي شعبة آداب وفلسفة ، كتاب تعليمي . صادر عن دار الكتب العلمية ، الجزائر العاصمة في جويلية 2011 كتب مشاركة 1- جورج شحاته قنواتي . فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية . سلسلة دفاتر فلسفية . القاهرة 2014 بمقال : الانسية العقدية . 2- فتحي التريكي: الهوية والتعدد والتنوع والعيش سويا. سلسلة دفاتر فلسفية القاهرة 2014 ببحث: فلسفة التريكي. 3- ((اليوتوبيا والفلسفة)) منشورات ضفاف لبنان 2014 4- ((ضمير الرواية العربية)): نجيب محفوظ بمقال: نجيب محفوظ من الحارة إلى العالمية . وزارة الإعلام والثقافة البحرينية سلسلة: أطياف 2014 5- ((النظرية الأخلاقية)) الصادر عن الرابطة الأكاديمية العربية للفلسفة 2014 لبنان الكتب الجماعية [الوطنية] : 1. ((اللغة والاتصال)) اللغة والفكر الضدية الحميمية مخبر البحث في علم النفس وعلوم التربية . وهران منشورات الأديب وهران 2014 2. ((تأملات نقدية)) في فكر مالك بن بني بمقال: الثورة في فكر مالك بن نبي، الصادر عن مخبر الأبعاد القيمية والتحولات وهران 2014
هذا الكتاب يوتوبيا المفهوم ودلالاته في الحضارات الإنسانية تحاول هذه الحلقة من سلسلة المصطلحات مقاربة اليوتوبيا بالعرض والدرس والتحليل النقدي ، حيث يتناول الباحث الجزائري البروفسور شريف الدين دوبه جرى التعاطي معه فلسفيا ولا هوتيا وأنثروبولوجيا بدءا من الحضارة اليونانية وما زامنها من حضارات وصولا إلى الحضارة الحديثة . المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف