فهرس المحتويات

مقدمة المركز | 7

 مدخل | 9

■ الفصل الأول: ماهية الدولة وهويتها | 15

1- أصل المصطلح ومعناه | 16

2- معنى الدولة في لسان العرب | 21

3- العوامل المكوِّنة لمفهوم الدولة | 25

4- تطورات المفهوم عبر التاريخ | 28

5- هوية الدولة ووظائفها وضعفها على السواء | 33

6- نظريّات الدولة واختباراتها | 34

■ الفصل الثاني: الدولة القديمة | 41

أنواعها وحكوماتها | 42

1- السفسطائية: فلسفة اللادولة | 45

2- الدولة المثالية | 47

3- دولة المدينة الفاضلة | 49

4- الجمهورية.. دولة المُثُل | 53

5- الدولة الوثنية | 56

6- الدولة الدستورية | 60

7- دولة الإنسان السعيد | 61

8- دولة السيادة المطلقة | 62

المبحث الثاني: أنواع الحكومات القديمة | 63

1- الحكومة التيموكراثية | 63

2- الحكومة الأوليغارشية | 64

3- الحكومة الديمقراطية | 64

4- حكومة الطغيان | 65

5- حكومة الفلاسفة | 65

أ- المدينة: | 66

ب- طبيعة السلطة: | 66

ج- المواطن: | 67

د- الدستور: | 67

■ الفصل الثالث: الدولة بين زمنين | 69

منتهى العصور الوسطى ومبتدأ الحداثة | 70

إرهاصات الحداثة وأحقابها | 70

التنظير الحديث لمفهوم الدولة | 77

مفهوم دولة السيادة المطلقة | 86

الجسم السياسي | 89

■ الفصل الرابع: الدولة الحديثة | 91

نظرياتها وفلسفتها السياسية | 92

الدولة في فلسفة الحقوق | 107

■ الفصل الخامس: أنواع الدولة الحديثة | 111

1- الدولة السيدة | 113

2- الدولة المركبة | 118

3- الدولة العلمانية | 124

4- الدولة التعدّدية | 126

5- الدولة الدينية في التراث الغربي | 129

6- الدولة الوطنية | 135

7-  الدولة القومية | 138

8- الدولة العقلانية | 140

9- الدولة الاشتراكية | 144

10- الدولة البيروقراطية | 149

11- الدولة الفوضوية (الأرناشية Arnachie) | 153

12- الدولة الشمولية (Etat Totalitaire) | 155

13- الدولة الفاشية | 158

خاتمة نقدية | 162

ـ تهافت دولة ما بعد الحداثة | 162

ـ تصدُّع قيم الدولة | 165

ـ اضمحلال دولة الرعاية | 167

ـ انكفاء الدولة السيدة | 169

ـ وهم الدولة العالمية المنسجمة | 171

المركز الاسلامي للدراسات الاستراتجية العتبة العباسية المقدسة سلسلة مصطلحات معاصرة 14 الدولة فلسفتها وتاريخها من الإغريق إلى ما بعد الحداثة محمود حيدر
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها ،وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار ، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظكة الفكرية المختلفة. ثانيا:ازالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لاسيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ،ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الاخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

الفهرس

مقدمة المركز7

 مدخل9

الفصل الأول: ماهية الدولة وهويتها15

1- أصل المصطلح ومعناه16

2- معنى الدولة في لسان العرب21

3- العوامل المكوِّنة لمفهوم الدولة25

4- تطورات المفهوم عبر التاريخ28

5- هوية الدولة ووظائفها وضعفها على السواء33

6- نظريّات الدولة واختباراتها34

الفصل الثاني: الدولة القديمة41

أنواعها وحكوماتها42

1- السفسطائية: فلسفة اللادولة45

2- الدولة المثالية47

3- دولة المدينة الفاضلة49

4- الجمهورية.. دولة المُثُل53

5- الدولة الوثنية56

6- الدولة الدستورية60

7- دولة الإنسان السعيد61

8- دولة السيادة المطلقة62

المبحث الثاني: أنواع الحكومات القديمة63

(4)

الفهرس

1- الحكومة التيموكراثية63

2- الحكومة الأوليغارشية64

3- الحكومة الديمقراطية64

4- حكومة الطغيان65

5- حكومة الفلاسفة65

أ- المدينة: 66

ب- طبيعة السلطة:66

ج- المواطن:67

د- الدستور:67

الفصل الثالث: الدولة بين زمنين69

منتهى العصور الوسطى ومبتدأ الحداثة70

إرهاصات الحداثة وأحقابها70

التنظير الحديث لمفهوم الدولة77

مفهوم دولة السيادة المطلقة86

الجسم السياسي89

الفصل الرابع: الدولة الحديثة91

نظرياتها وفلسفتها السياسية92

الدولة في فلسفة الحقوق107

(5)

الفهرس

الفصل الخامس: أنواع الدولة الحديثة111

1- الدولة السيدة113

2- الدولة المركبة118

3- الدولة العلمانية124

4- الدولة التعدّدية126

5- الدولة الدينية في التراث الغربي129

6- الدولة الوطنية135

7- الدولة القومية138

8- الدولة العقلانية140

9- الدولة الاشتراكية144

10- الدولة البيروقراطية149

11- الدولة الفوضوية (الأرناشية Arnachie)153

12- الدولة الشمولية (Etat Totalitaire)155

13- الدولة الفاشية158

خاتمة نقدية162

ـ تهافت دولة ما بعد الحداثة162

ـ تصدُّع قيم الدولة165

ـ اضمحلال دولة الرعاية167

ـ انكفاء الدولة السيدة169

ـ وهم الدولة العالمية المنسجمة171

(6)

مقدمة المركز 

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية في سياق منظومةٍ معرفيةٍ يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكّلت ولمّا تزل مرتكزاتٍ أساسيةً في فضاء التفكير المعاصر.

وسعيًا إلى هذا الهدف، وضعت الهيئة المشرفة خارطةً برامجيةً شاملةً للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضورًا وتداولًا وتأثيرًا في العلوم الإنسانية، ولا سيّما في حقول الفلسفة، وعلم الاجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين، والاقتصاد، وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي، فيمكن إجمالها على النحو التالي:

أوّلًا: الوعي بالمفاهيم وأهمّيتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية، وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرُّف على النظريات والمناهج التي تتشكّل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانيًا: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبًا ما تُستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيّما وأن كثيرًا من الإشكاليات المعرفية ناتجةٌ من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

(7)

ثالثًا: بيان حقيقة ما يؤدّيه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتّب على هذا التوظيف من آثارٍ سلبيةٍ بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرّض لها المجتمعات العربية والإسلامية، وخصوصًا في الحقبة المعاصرة.

رابعًا: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعملٍ موسوعيٍ جديدٍ يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلًا عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقًا من البُعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع، فقد حرص المركز على أن يشارك في إنجازه نخبةٌ من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

 ***

تسعى هذه الحلقة من "سلسلة مصطلحات معاصرة" إلى تأصيل مفهوم الدولة في نشأته وتطوراته المعرفية، منذ ظهوره في عهد الإغريق وإلى أزمنتنا المعاصرة.

تُجيب الدراسة على جملة من الأسئلة تتعلق بماهية الدولة ودواعي نشوئها، وكيفية تشكُّل أبنيتها الفلسفية والسياسية والحقوقية، وبيان وظائفها وأنواعها تبعًا لما اختبرته الحضارات الإنسانية المتعاقبة.

 

والله ولي التوفيق

(8)

مدخل 

حظيت فكرة الدولة بعنايةٍ استثنائيةٍ منذ الإغريق وإلى أزمنة الحداثة المعاصرة. ويجوز القول إن هذه العناية لم تكن متأتِّيةً فقط عن حاجة الكيانات البشرية إلى منظومة تدبِّر لها عيشها وديمومتها، وإنما أيضًا وأساسًا عن حاجتها إلى ما يُشعِرُها بهويّتها الجمعية، وبحضورها كمُتّحدٍ اجتماعيٍ وحضاري.

الفلاسفة وعلماء الاجتماع القدماء والحديثون دأبوا على درس واستجلاء حقيقة هذا الكائن، الذي يسمى دولةً. جلُّهم انتهى إلى تصوُّر الدولة بوصفها ضرورةً وجوديةً لحضور الإنسان في الزمان والمكان. آخرون نبَّهوا على وجوب ألّا يُنظر إلى الدولة كتجريدٍ تاريخيٍ لا صلة له بالواقع الحي، أو كنَسَقٍ من القوانين ونظام الحقوق، وإنّما كظاهرةٍ تقوم على تركيبٍ معقَّدٍ من الأفكار والتصوّرات والأحداث الواقعية.

لهذا سيكون السؤال عن ماهية الدولة وبداهة حضورها في تاريخ الحضارات سؤالًا فلسفيًا بامتياز. وما ذاك إلّا لأنه سؤالٌ لا يتبدّد بمجرّد تحصيل الجواب عليه. فالدولة بما هي فكرةٌ، وبما هي ظاهرةٌ ساريةٌ في التاريخ، من أكثر المفاهيم قبولًا للتخصيب المعرفي وتوليد الأفكار. والحال، فإنّا بإزاء مفهوم الدولة نَجِدُنا أمام قضيّتين متلازمتين تلازمًا ذاتيًا: قضيةٌ أنطولوجيةٌ تتّصل بالإنسان

(9)

كإنسان، وأخرى فينومينولوجيةٌ تعتني بنظام عيش ومصائر الأفراد والجماعات في التاريخ. لكن الحديث عن ماهية الدولة وهويتها هو بحدّ نفسه حديثٌ محمولٌ على الإشكال. ربما لهذا السبب سينبري المؤرخ الفرنسي جاك دونديو دوفابر إلى القول بأن معنى الدولة صعب التعريف؛ فهي - عنده - أشبه بمزيجٍ معقّدٍ من الكبرياء والتواضع، ومن السلطة الشخصية والنظام المقبول، ومن إرادة السلطة والإخلاص للخدمة العامة. إن الدولة بهذه المنزلة من الوصف تصير أشبه بموقفٍ مفتوحٍ على كل التأثيرات، وبعيدٍ في الوقت نفسه عن كلٍّ منها. إنها شعورٌ وجدانيٌ بالمسؤولية حيال المصير الجماعي للبلاد، وإزاء سلطةٍ عليا تحتفظ بسُموِّها، في الوقت الذي تُلزم نفسها بكلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ ذات صلة بالشأن العام.

لا يُقال مثلُ هذا القول إلّا لاعتقادٍ رمزيٍ مؤدَّاه أن الدولة حالةٌ أكثر عمقًا ممّا هو مسموعٌ عن حكايتها بوصفها لعبةً سياسيةً إدارية، أو مجرّد ميدانٍ لصراع القوى وتوازناتها. فإذا كانت الدولة تتمتّع بفكرةٍ مقبولةٍ بصورةٍ عامة، فإنّها مبهمةٌ في الآن عينه، حيث إن التاريخ يمنح كل دولةٍ أسلوبًا وكيانًا خاصَّين بها.

*     *     *

بقطع النظر عمّا يبتعثُه مصطلح الدولة من إجراءاتٍ تأويليةٍ، فإن التحرِّي المتأنِّـي عــن المعاني اللفظية الصِرفة لمدلوله يتعدّى بُعده اللغـوي الذي شاع فــي الغــرب مع بدايات عصر النهضة. فكلمة «دولــة» تجــد جذورها اللغوية فــي تعبيـر "status" اللاتيني

(10)

القديم؛ وتلك كلمةٌ محايـدةٌ تعني حالةً أو طريقةَ عــيشٍ. ولـذا صارت في حقل المداولة نظير معاني أخرى كالثبات والاستقرار، لكنها على الرغم من ذلك تبقى موضوعًا أصيلًا للتأويل، وأطروحةً مشرَّعةً على تفسيراتٍ شتى. ومع أن «كلمتها» أخذت من الشرح والتفسير والتأويل مُنفَسَحاتٍ لم تحظَ بها جلُّ مفاهيم الفكر السياسي، فإنّها لمّا تزل تختزن طاقةً توليديةً لا تنضب في عالم الأفكار والمفاهيم.

لأجل ذلك يحتمل مفهوم الدولة من العناصر الضرورية ما يسوِّغ استعادته وإعادة تظهيره في ضوء التحوّلات المعرفية والعلمية التي يشهدها العالم منذ نهاية القرن العشرين المنصرم. على أن ما يضاعف من راهنية هذا المفهوم وأهمية الاشتغال على تأصيله من جانب النخب العلمية والفكرية، أنه يجيء وسط تحدّياتٍ كبرى يعيشها العالمين العربي والإسلامي. وليس أدلّ على هذا مما نشهده من تضخُّمٍ غير مسبوقٍ للهويّات الفرعية (الدينية والطائفية والعرقية)، الشيء الذي يمسُّ أصل فكرة الدولة، كما يُنذر في الوقت عينه بظهور دويلاتٍ وكياناتٍ جديدةٍ تستجيب لدعوات التقسيم والتجزئة والتشظي...

*     *     *

ما الدولة.. ما دواعي نشوئها.. وكيف تشكّلت أبنيتها المعرفية وفلسفتها السياسية والحقوقية.. ثم ماذا عن خصائصها، ووظائفها، وأنواعها التي اختبرتها الحضارات الإنسانية المتعاقبة؟

(11)

هذا السؤال المركّب، وما يستدرجه من أسئلةٍ فرعيةٍ، هي ما سوف تقاربها هذه الدراسة، سعيًا إلى تقديم مادةٍ علميةٍ شاملةٍ تعتني بمفهوم الدولة من جوانبه النظرية وشواهده التاريخية، ناهيك عن التحولات التي طرأت عليه خلال الأحقاب المنصرمة.

تتوزع الدراسة على خمسة فصول وخاتمة. وقد جرى ترتيبها وفق منهجية التواتر التاريخي، بدءًا من الحقبة الوثنية، أو ما سُمِّيَ بمجتمعات اللّادولة، مرورًا بالحقبتين اليونانية والرومانية، وصولًا إلى أزمنة الحداثة الغربية بأطوارها المختلفة.

يتركز الفصل الأول على تعريف مفهوم الدولة في جذره اللغوي والاصطلاحي، والدلالات المعنوية والفلسفية للدور الذي تتولّاه الدولة في تدبير المجتمع البشري.

ويعرض الفصل الثاني إلى التمهيدات الأولى التي سبقت ولادة الدول القديمة، وإلى ظروف نشأتها والجدل الفكري والفلسفي والسياسي الذي رافق ظهورها في الحقبة الإغريقية. وقد قسّمناه إلى مبحثين: يتناول الأول أنواع الدولة القديمة من الحقبة الوثنية الإغريقية إلى مدينة الله عند القديس أوغسطينوس؛ فيما يعرض المبحث الثاني أنواع الحكومات التي تمثّلتها الدول القديمة، بدءًا من الحكومة التيموكراتية، مرورًا بالأوليغارشية والديمقراطية والاستبدادية، وصولًا إلى حكومة الفلاسفة.

الفصل الثالث يؤرّخ للمرحلة الانتقالية الفاصلة بين العصور الوسطى وعصر النهضة، ولا سيما لجهة ما شهدته هذه المرحلة من

(12)

احتدامات بين الإقطاع والطبقات الاجتماعية الصاعدة، استعدادًا لبداية أزمنة الحداثة.

الفصل الرابع يتضمن تحليلًا تاريخيًا لديناميّات السِجال حول فكرة الدولة الحديثة ومرتكزاتها النظرية كما وردت في تنظيرات أبرز الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع في الغرب الأوروبي، أمثال توماس هوبز ونيقولا ماكيافلي وسبينوزا وسواهم.

الفصل الخامس يستعرض أنواع الدول التي أنتجتها اختبارات الحداثة، منذ عصر النهضة في القرن الثالث عشر الميلادي وصولًا إلى القرن العشرين.

أما الخاتمة، فتُقدّم رؤيةً نقديةً تحليليةً للمآلات التي بلغها مفهوم الدولة في ما سُمِّيَ بزمن العولمة، والتصدُّع الذي ضرب سيادات الدول على الصُعُد السياسية والأمنية والاقتصادية والقيمية.

 

محمود حيدر

شتاء 2018

 

*     *     *

 

(13)
(14)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

ماهية الدولة وهويتها

 

(15)

1- أصل المصطلح ومعناه

يعود مصطلح الدولة إلى الكلمة اللاتينية «status»، التي تعني «موقف» أو «وضع». وبحسب المؤرخين، فإن هذه الكلمة ما زالت تحمل هذا المعنى في عباراتٍ مثل «حالة حصار» أو «حالة ذهنية» (state). وفي العامِّيّات، قد تشير «الدولة» (أو «الحالة»: state) إلى وضعٍ يمتاز بأنّه مزعجٌ وغير اعتياديٍ. وقد تابع كوينتن سكنر (Skinner, 1989) انبثاق الاستعمال السياسي الأكثر تحديدًا لمعنى الدولة خلال بواكير الحقبة الحديثة، وأظهر كيف انتقل المصطلح بالتدريج من «الوضع» أو «منزلة شيء ما آخر»، إلى الجهاز الجوهري للحكومة المنفصل بوضوحٍ عن شخص الحاكم. وهكذا توافق مظهر هذا المفهوم الجديد مع انبثاق ميدانٍ جديدٍ للحكم، حتى صار يشير في ما بعد إلى عمل تنظيم سلوك جهاز الدولة نفسه، وكذلك السُكّان الذين تدّعي أنها تحكمهم. ومنذ هذه اللحظة فصاعدًا، صار الخطاب السياسي يضع الدولة والعلاقات بين الدولة في صميم اهتماماته[1].

ذلك يحيلنا إلى ما ذهب إليه فولتير في معجمه الفلسفي لمّا أورد هذه العبارات الدالَّة: «لم أعرف حتى الآن أيّ شخصٍ لم يتصرّف وكأنّه يحكم دولةً ما»، ويضيف: «إنّني لا أتكلّم عن السادة الوزراء الذين يحكمون في الواقع، بعضهم يحكم سنتين

(16)

أو ثلاث سنواتٍ، وبعضهم الآخر ستة أشهرٍ أو ستة أسابيعٍ. إنني أعني جميع الناس الآخرين الذين يعرضون – عند تناول العشاء أو في مكاتبهم ـ أسلوبهم للحكم، وإصلاح الجيوش والكنيسة والقضاء والمالية»... لكن دوفابر يعلّق على عبارات فولتير فيقول:

إن ملاحظته ما زالت قائمةً، وليس فيها ما يتعارض مع الواقع. ولعل أقل تعريفٍ للدولة رداءةً أنها مجموعة القضايا التي تثير اهتمامًا عامًا، والديموقراطية تنظّم وترعى النقاط الرئيسية لهذا الاهتمام وتتّخذه مبدأً لها. ومع ذلك فإن من الحكمة التذكير بأن الدولة هي ـ بشكلٍ خاصٍّ ـ مجموعةٌ من الأفكار والانفعالات الجماعية التي تتوالد بلا انقطاع.

معظم الأفكار التي تثيرها الدولة ـ كفكرتَي السلطة والنظام ـ ترجع إلى الدولة اليونانية والإمبراطورية الرومانية. على حين أن الفكرة الحديثة للدولة دخلت في الاصطلاح السياسي في القرن السادس عشر، وكانت تتعارض في ذلك الوقت مع السيادة العالمية القديمة بمرماها الثلاثي، الروماني والمسيحي والجرماني. ذاك بأنها تشير إلى ظهور سلطاتٍ مطلقةٍ، ولكنها متمركزةٌ ومحصورةٌ ضمن حدود، ومرتبطةٌ بسُكّانٍ معيّنين، وتنادي بالثورة ضد السيادة الإمبراطورية وضد السيادة البابوية. وهي مرتبطةٌ كذلك بالمنازعات القائمة بين المُلكية الفرنسية والأسرة المالكة

(17)

في النمسا، وبالحروب الدينية، وأخيرًا بمعاهدة وستفاليا (1648)[1].

لفظة الدولة، إذًا، تثير بادئ ذي بدءٍ فكرة السلطة: السلطة الفعّالة والمحميّة والمنظّمة. وهذا يدلّ على أن الدولة هي نوعٌ من التنظيم الاجتماعي الذي يضمن أمنه وأمن رعاياه ضد الأخطار الخارجية أو الداخلية. وهو يتمتّع لهذا الغرض بقوّةٍ مسلّحةٍ وبعدّة أجهزةٍ للإكراه والردع. ولا توجد دولةٌ بلا درجةٍ عاليةٍ من الانسجام الاجتماعي والتنظيم التسلسلي اللذَين يسمحان للحكومة بإشعاع سُلطتها، وتنفيذ رغباتها. وعلى عكس ذلك فإن الدولة المجرّدة من سُلطة الإكراه المادية تتناقض مع نفسها. وهذه المبادئ لا تعبّر فقط عن قواعد أخلاقيةٍ أو انعدام هذه القواعد، وإنما تشرح تعريف الدولة وتوضيحه. على أنه لا يمكن التفريق بشكلٍ صحيحٍ بين وظائف الدولة وبين سلطاتها. ذلك أن الخدمات التي تؤديها تختلط مع الامتيازات التي تمارسها. إن جميع أشكال المساعدة أو العمل التي تحت تصرف الدولة هي أجهزة السلطة ووسائل الحكومة.

(18)

فالشرطة تحمي حياة الأفراد وأموالهم، ولكن سلطتها تمنح وزير الداخلية امتيازًا رفيعًا يجعله موضع الغيرة والحسد. والتعليم العام يُنمي المعرفة، ولكنه يوجِّه الأفكار. والحماية الاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي توفّرها الدولة الحديثة بشكل واسع تنطوي على أعباءٍ ماليةٍ متزايدة، والحماية في الاصطلاح السياسي ـ كما هو بيِّن ـ تفيد معنى السيطرة[1].

إن الدولة، بوصفها سلطةً فعّالةً، تنطوي أيضًا على سلطةٍ ذات سيادة، قادرةٍ على تنظيم نفسها بنفسها وغير ملتزمةٍ بالخضوع، بأيّ شكلٍ كان، لأيٍّ كان. وتتحقّق هذه السيادة في الحقلين الداخلي والدولي في آنٍ واحد. وعلى الدولة أن تمارس سلطة التحكيم الأعلى في النزاع المستمر بين جميع القوى الاجتماعية. وسلطتها في هذا الشأن لا يمكن أن تسمح بأن تعلو عليها أيّة سلطةٍ أخرى من الناحيتين المادية أو المعنوية، سواء أحاولت ذلك المنظّمات النقابية، أو الطوائف الدينية، أو التكتّلات الحرفية أو السياسية. وتتميّز الدولة أيضًا في المجتمع الدولي بدرجةٍ عاليةٍ من الاستقلال والحرية. وهناك بلا شكٍّ بعض الدول التي لا تتمتّع بالسيادة، وثمّة أحكامٌ دوليةٌ تفرض حدودًا على السيادة[2]. ولكن سيادة الدول هي الآن مبدأٌ أساسيٌ منبثقٌ من القانون الدولي، كما أن نظام الدول التي لا تتمتّع بالسيادة هو في الواقع إجراءٌ حكوميٌ محلّيٌّ متداخلٌ مع

(19)

نظام الدولة ذات السيادة نفسها. ومع ذلك، فإن الديموقراطية قد دعمت فكرة السيادة بمنحها دعامةً شعبيةً وقاعدةً عاطفيةً وطائفية، بحيث إن سيادة الدولة ليست بالنسبة إليها سوى فكرة حقوق الشعب بتحديد وضعه ومصيره، وهي تُقدِّس تفوُّق الإرادة الشعبية، وتوطّد اتّحاد الوطنية والديموقراطية، ذلك الاتحاد الذي تتميّز به هذه الحقبة من الزمن التي أخذت بالانتهاء. إلى ذلك، فإن هدف الدولة يتعيّـن بنحوٍ أكثر وضوحًا بما هي سلطة شرعية لأنها تتمتّع بسلطةٍ نافذةٍ وذات سيادة. من أجل ذلك، كان قبول الرأي العام بسلطة الدولة هو أحد العناصر المقوّمة لكيانها. وهكذا، يبدو أن قضية الدولة من هذا الوجه هي إلى حدٍّ كبيرٍ قضيةٌ نفسية. فالدولة مجتمعٌ يدفع رعاياه  بالإجمال عبر السلطة المنظّمة إلى تسوية منازعاتهم. والشرعية التي تكتسبها الدولة هي الشكل الروحي للسيطرة، والمظهر المعنوي للإكراه. فإذا كانت الدولة القائمة على الحرية تسمح لرعاياها بأن يعبِّروا عما يريدون، فإنها تستند مع ذلك إلى الاعتراف العام بكيانها وسلطتها، وإلى إذعان معظم الأفكار إلى مهامها وتصرّفاتها. ولذلك، يبدو من المستحيل تقديم الدولة ككيان للإكراه الخارجي فحسب، دون أن تشغل قطعًا ضمير الأفراد أو محاكمتهم. ولا غرو أن مساهمتهم في تصرفاتها قد يكون سيئًا للتنظيم أو لا شعوريًا وغير نافذ، غير أن سلطتها تستند إلى انكماشهم، كما تستند تصرفاتها إلى انصياعهم. على هذا الأساس تحاول الديمقراطية بذل جهدها من أجل تجديد الصراع في سبيل السلطة، وتنظيم مساهمة الجميع في الحياة العامة بحيث تُبرز مظهر

(20)

الدولة النفسي وقيمة السلطة الروحية. وعليه، ليست شخصية الدولة برأي علماء «الإناسة» (الأنثروبولوجيا)[1] سوى رمزٍ يمثّل الجهد المبذول لتنظيم العلاقات الاجتماعية التي تؤلّف المجتمع السياسي، كيما تحافظ على القيمة الإنسانية للعلاقات التي تزداد تعقيدًا وتسلسلًا ومركزية. إنها تدلّ على الرغبة في جعل هذه المنظمة البيروقراطية بحكم الضرورة شيئًا آخر يختلف عن عملاقٍ متعسّفٍ لا وجه له. فإذا كان على الدولة ديونٌ دفعتها، وإذا بذلت وعودًا نفّذتها، وإذا تسبّبت بأضرار أصلحتها. إن تصرفاتها لا تدل على ظهور سلطةٍ كيفيةٍ في الحياة الاجتماعية، فهي خاضعةٌ إلى القواعد الحقوقية كسائر أنواع التكتلات والجمعيات[2].

2- معنى الدولة في لسان العرب

خلافَ ما ذهبت إليه المعاجم الغربية، نجـد أن لفظة «دولـة» عنـد العـرب تدلّ على معـانٍ أخـرى مـن الناحيـة اللغوية. فـ«ابن منظور» صاحب «لسان العرب» يصف كلمة «دولة» بأنها «الفعل والانتقـال مـن حـال إلـى حال». وتأخذ الدولة في «القاموس المحيط» للفيروز آبادي المعنى ذاته، لكنّه يبدو عنده أكثر حـدّةً

(21)

حـين يـرى فيهــا القــاموس المـذكور لا مجــرّد فعــلٍ أو انتقــال، بــل «انقــلاب الزمــان والــدهر مـن حــال إلــى حال».

إن الـذي يهمّنـا مـن هـذا الاخـتلاف اللغـوي بـين معنـى كلمـة «دولـة» فـي قواميسـنا ومعناهـا فـي الغـرب، هـي تلـك المـدلولات السياسـية والفكريـة البعيـدة والمغـزى الكبيـر الـذي يتجـاوز الحـدود اللغويـة البحتة، فهذا الاختلاف اللغوي يعكس في الواقع اختلافًا في مفهوم الدولـة وموقعهـا فـي الفكـر العربـي والفكر الغربي، يقول الفقيه الدستوري إدمون ربـاط إن الدولـة تعبّـر أحسـن تعبيـرٍ عمّـا كـان يـراه الشـرقيون مـن التغيّـر في الدول والأحوال، لدرجـة أنهـم لـم يـروا فـي الحكـم إلا أنـه كـان معرّضـًا للتبـدّل، فـي حـين أن الغـربيين لـم يجـدوا للدلالـة علـى هـذا الحكـم تعبيـرًا أشـدّ معنـىً مـن كلمـة “status” فـي اللاتينيـة، للإشـارة إلـى أن الأمـر والحكـم لا يتبـدّل ولا ينبغـي أن يتبـدّل، بـل هـو دائـمٌ وقـائمٌ ومسـتتبّ، وفـي هـذا الاخـتلاف فـي كـلٍّ مـن العقليّتـين ظـاهرةٌ لا شكّ أنهــا مســتمدّةٌ مــن تــاريخ الشــرق والغــرب.

فــالمعنى التقليـدي للدولـة عنـد الغــربيين يعكــس فــي حقيقتـه فلسـفةً لا تخفــى أبعادهــا الاجتماعيــة والاقتصــادية، هدفها الأساس دعم هذه المؤسسة ـ أي الدولة ـ وتمجيدها واستبعاد احتمال تغيّـرها، فـي حـين أنهـا لا تأخذ ذلك الطابع المقدس عند غالبية المفكرين العرب والمسلمين، إن هـذه الملاحظـة يؤكّـدها أولًا ظهـور المـذاهب الفكريـة التـي تـدعو إلـى تمجيـد الدولـة

(22)

فـي الغـرب، فـي حـين يخلو تراثنـا الفكـري والعلمي من هذا الاتجاه[1].

يُنظر إلى الدولة في منطق العرب كمدبّر لشأن الناس في اجتماعهم واختلافهم، ولفظة التدبير عند ابن منظور تُقال على معانٍ كثيرة، وأشهر دلالتها بالجملة تجري على ترتيب أفعالٍ معينةٍ نحو غايةٍ مقصودة[2]. ولذلك لا يطلقونها على من فعل فعلًا واحدًا يقصد به غايةً ما. فإن من اعتقد في ذلك الفعل أنه واحدٌ لم يطلق عليه التدبير، وأما من اعتقد فيه أنه كثيرٌ وأخذه من حيث هو ذو ترتيب سُمّيَ ذلك الترتيب تدبيرًا، ولذلك يطلقون على الإله أنه مدبِّر العالم.

وهذا قد يكون بالقوة وقد يكون بالفعل. ولفظة التدبير دلالتها على ما بالقوه أكثر وأشهر. وَبيِّنٌ أن الترتيب إذا كان في أمور بالقوة فإنما يكون ذلك بالفكر، فإن هذا مختصٌّ بالفكر ولا يمكن أن يوجد إلا منه. ولذلك لا يمكن أن يوجد إلا للإنسان فقط، وما يقال عليه المدبِّر فإنما هو للتشبيه به. فالتدبير مقولٌ بتقديم وتأخير.

وقد يقال التدبير على إيجاد هذا الترتيب على جهة ما هو متكوِّن، وهو في أفعال الإنسان أكثر وأظهر، وفي أفعال الحيوان غير الناطق أقل ذلك.

وأما تدبير الله تعالى للعالم فإنما هو تدبيرٌ بوجهٍ آخر بعيد النسبة عن أقرب المعاني تشبُّهًا به، وهذا هو التدبير المطلق، وهو أشرفها،

(23)

لأنه إنما قيل له تدبيرٌ للشبه المظنون بينه وبين إيجاده تعالى للعالم. والتدبير إذا قيل على الإطلاق دلّ على تدبير المُدن، أو قيل بتقييد فإنه ينقسم بالصواب والخطأ. وقد يُظنُّ أن التدبير قد يُعرّى من هذين المتقابلين، وإذا فُحص عنه وتُعُقِّب ظهر أن هذين المتقابلين يلزمانه ضرورةً. وتعقُّب ذلك قريبٌ على من كان له أدنى وقوفٍ على الفلسفة المدنية. فالصنفان اللذان يختصَّان باسم التدبير قد ينقسمان إلى الصواب والخطأ[1].

تدخل صفة التدبير كعنصرٍ تكوينيٍّ في تعيين ماهية الدولة وهويتها كما تُبيّن كلاسيكيّات الفلسفة السياسية الإسلامية. كذلك جاء في «الرسائل الإلهية» للفيلسوف العربي ابن باجة: «أن تدبير المدن  أمرٌ بيَّنه أفلاطون في السياسة المدنية، كما بيَّـن ما معنى الصواب فيه ومن أين يلحقه الخطأ. وأما تدبير المنزل، فإن المنزل بما هو منزل، فهو جزء مدينة. ولذلك لم يجعل جزءًا من الصناعة المدنية تدبير المنزل. وأما في غير المدينة الفاضلة، فإن المنزل فيها وجوده ناقصٌ وإن فيه أمرًا خارجًا عن الطبع. وبَيِّـنٌ مما قلناه أن المنازل، ما عدا المنزل الفاضل، مرضى وكلها منحرفة، وليست موجودةً بالطبع وإنما وجودها بالوضع».

وأيضا فإن كمال المنزل ليس من الأمور المقصودة لذاتها، إنما يراد به تكميل المدينة أو غاية الإنسان بالطبع. والقول فيه جزء من القول في تدبير الإنسان نفسه، فعلى أي الجهتين كان فهو إما جزء مدينة، فالقول فيه جزءٌ من القول في المدن، أو توطئةٌ لغايه أخرى، والقول فيه جزءٌ من القول في تلك الغاية. فمن هنا تبيَّن أن القول في تدبير المنزل

(24)

على ما هو مشهور ليس له جدوى ولا هو علم، بل إن كان فوقتًا ما، كما يُعرضُ ذلك فيما كتبه البلاغيون في كتب الآداب التي يسمونها نفسانيةً، مثل كتاب «كليلة ودمنة» وكتاب «حكماء العرب»، المشتملة على الوصايا المشورية[1].

3- العوامل المكوِّنة لمفهوم الدولة

يُجمع الشرّاح على إيراد جملةٍ من العوامل الأساسية المميزة للدولة، والتي لا يكاد يخلو منها أيّ تعريفٍ حديث لها. وهذه العوامل هي:

أولًا: إنها جماعة من البشر (الشعب).

ثانيًا: إنها قطعة مُعَيّنة من الأرض (الأقليم).

ثالثًا: إنها جماعةٌ سياسيةٌ (الحكومة أو السلطة السياسية).

رابعًا: إنها صاحبة الاستقلال والسيادة (أي أن تكون متمتعةً بالحرية والاستقلال الكامل في تصريف شؤونها الداخلية والخارجية)[2].

بناءً على هذه العوامل، يمكننا تحديد مفهوم الدولة بأنها مجموعةٌ كبيرةٌ من البشر تقطن إقليمًا معَيّنًا، تدير شؤونها سلطةٌ عامةٌ متمتعةٌ بالشخصية المعنوية والاستقلال. كذلك لا يشترك فيها حد أدنى لعدد السكان، ولا حجمٌ مُعيّـنٌ لمساحة إقليمها، ولا نظامٌ سياسيٌ محدّد، إذ تتفاوت الدول فيما بينها تفاوتًا شاسعًا، وتختلف من حيث تراكيبها

(25)

الداخلية وأنظمة الحكم فيها، فمنها الدولة البسيطة والدولة المركبة، والدولة الملكية والدولة الجمهورية والدولة الديمقراطية والدولة الدكتاتورية إلخ...[1]

ولعلّ أوّل من استعمل كلمة «دولة» بمفهومها الحديث هو المفكر الإيطالي نيقولو ماكيافلي «Nicolo Machiavelli»، حيث وردت في كتاب الأمير «IL Principe» بهذه العبارة: «كلّها دول وهي إما جمهوريات أو إمارات»[2]، وهذا المفهوم للدولة كان من الصعب ملاحظته في المصادر الأولى لكلمة الدولة. ذلك أن ماكيافلي قصد باستعماله مصطلح «دولة» تحديد مفهوم الدولة كما هي معروفةٌ الآن، سواء كانت جمهوريةً أو ملكيةً، وهناك أمثلةٌ عديدةٌ وردت في كتابه المشار إليه توضح ذلك، منها مقارنته بين الدولة الحديثة ونظيرتها الدولة القديمة، وكذلك لما وصف إيطاليا كدولة  مقسمة لعدة دول... وهذ الفهم هو الذي سيحدّد الإطار الفلسفي السياسي العام للدولة وفقًا لما عرضه ماكيافلي أي «هي المنظّمة المُخوَّلة، بما تملك من سلطةٍ فعلية، التحكُّم في استعمال القوّة على شعب معَيّـن وفي حدود إقليم معَيّـن»[3].

وقد أكّد على عامل «القوّة في مفهوم الدولة، بل إن القوّة في نظره ليست مجرّد شرطٍ لوجود الدولة، بل هي الشرط الخاصّ المثبِت

(26)

لوجودها أو الضروري لديمومتها واستمرارها، لذا فإن رجل الدولة الذي يهمل استعمال القوّة يأثم ضد الدولة، كما ارتكب أولئك الأشخاص الجبناء الإثم في حق إيطاليا عندما سمحوا للأجانب بغزو دولتهم»[1].

لقد تعدّدت تعاريف الدولة بتعدّد وجهات النظر التي يأخذ بها علماء السياسة على اختلافهم من خلال التركيز على  عوامل معيّنة دون أخرى. وفي ما يلي نعرض باقتضاب إلى بعضها:

- ينظر الجنرال الفرنسي ديغوي "Duguit" إلى تشكُّل الدولة على أساس التضامن الاجتماعي القائم على الاختلاف السياسي، فهو يحدد مفهوم الدولة على أنها «عبارةٌ عن ظاهرةٍ اجتماعية تنشأ وتتحقّق من واقع حياة الأفراد الذين يشعرون بضرورة التضامن الاجتماعي بينهم، فيقوم مجتمعٌ بشريٌّ يسوده الاختلاف السياسي بين أفراده. أي وجود فئةٍ حاكمةٍ وأخرى محكومةٍ كنتيجةٍ للاختلاف السياسي لأفراد المجتمع»[2].

- وفق مفهوم (مارسيليو)، الدولة هي كائنٌ حيّ «يتركّب من أعضاءٍ تقوم بالوظائف الضرورية اللازمة لحياته، وتتوقّف صحّة هذا الكائن وأمنه على النظام الذي يؤدّي به كل عضوٍ وظيفته، وينشأ الشقاق إذا اختلّ عمل أحد الأعضاء أو تدخّل في عمل عضوٍ آخر»[3].

(27)

أمّا الباحث الفرنسي في القانون الدستوري جاك ماريتان فقد تناول مفهوم الدولة بالتمييز بينها وبين الكيان السياسي، يقول: «الدولة هي ذلك الجزء من الكيان السياسي الذي يعتني بصورةٍ خاصّةٍ بسيادة القانون والحياة العامّة والنظام العامّ وتصريف الشؤون العامّة»[1].

4- تطوّرات المفهوم عبر التاريخ

إذا كان تبلور مفهوم الدولة في أركانه ومرتكزاته عائدًا إلى اختلاف الثقافات الحضارية وتعدُّدها وتنوُّع تجاربها، فإن فلسفته وهندستَه المعرفية ظهرت أساسًا مع الإغريق. لهذا سنرى كيف أن الاختلافات في مقاربة التحوّلات التاريخية التي مرّت بها تعريفات الدولة قد أحدثت تغيُّراتٍ جوهريةً في طبيعة المفاهيم، ونقلتها من مرحلةٍ إلى أخرى. في المجتمع الأثيني القديم على سبيل المثال، جرى تعريف الدولة بأنّها المجتمع الذي ينشأ ابتغاء مصلحة. ذلك بأن الأفراد عادةً ما يجتمعون من أجل العمل على تحقيق ما يبدو خيِّرًا بالنسبة إليهم، وأن كلّ تجمُّع يسعى إلى تحقيق هذه الغاية، وأن أعظم هذه التجمعات يسعى إلى أفضل الخيِّرات؛ وهذا التجمّع

(28)

الذي يستوعب كلّ ما دونه هو المجتمع المسمّى دولةً أو مجتمعًا مدنيًا[1].

فالدولة عند أرسطو ظاهرةٌ طبيعيةٌ نشأت نتيجة ائتلاف قرًى كثيرةٍ من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي، وهو يعتبر الدولة ظاهرةً طبيعيةً لأنها تتألّف من مكوّنات طبيعية، الرجل والمرأة، الأسرة، ائتلاف الأسر الذي يكوِّن القرية، ثم ائتلاف مجموعة القرى لتحقيق بناءٍ اجتماعيٍ سياسيٍ اقتصاديٍ متكامل. وبما أن مجموعة العناصر التي تدخل في تكوين الدولة هي ظواهر طبيعية، فالدولة ذاتها هي كذلك ظاهرة طبيعية؛ وهي بالنسبة إليها كمثل الكل بالنسبة للجزء، وفي هذا يضيف أرسطو: «يجب ألّا يوجد شكٌّ إطلاقًا في أن جميع الأفراد ينتمون إلى الدولة، ذلك لأنّه لا يستطيع أيّ فردٍ من أفراد المجتمع أن ينتمي إلى نفسه»[2].

غير أنّ التعريف الأرسطي للدولة على أنها المجتمع الطبيعي الذي يتكوَّن ابتغاء تحقيق مصلحةٍ عامّةٍ هو تعريفٌ مرتبطٌ بتلك الفترة التاريخية التي عاشها مواطنو أثينا في الدولة المدينة «Polis»، وكذلك بأسلوب تفكيرهم. فالدولة اليونانية هي دولة المدينة «City State». ذلك  بأن اليونانيّين عاشوا حياةً خاصّةً حول مدينة أثينا، حيث كانت المدينة هي المؤسسة الرئيسة في اليونان القديم. ومن خلال عرض أرسطو لأساس الدولة يتّضح لنا أنّها كانت تقوم على

(29)

أساس القبيلة، وأن أساس المواطنة في دولة المدينة هي علاقة القرابة أو قرابة الدم، وعليه فلا يحقّ لأحدٍ الحصول على صفة المواطنة الأثينية إلّا إذا كان ابنًا شرعيًا لأبٍ وأمٍ من مواطني أثينا. ومع التسليم بأن الدولة اليونانية القديمة قد أخذت أنماطًا مختلفةً خلال مراحل تطوُّرها، إلّا أنّ مثل هذا التحليل الذي عرضه أرسطو في كتابه «السياسات» لا يناسب إلّا تلك البيئة التاريخية، ولا ينطبق إلّا على نمط الدولة المدينة ـ لا سيما دولة المدينة ذات النظام الديمقراطي. فالدولة المثالية عنده هي التي تكون ركيزتها مدينةً مثاليةً[1].

أمّا الفارق بين مفهوم الدولة عند فلاسفة اليونان ومفهومها عند غيرهم من المفكرين، فهو في الحقيقة ذلك الفارق بين دولة المدينة كنظام سياسي اجتماعي، وبين النظم السياسية للدول الحديثة. ولا شكّ أن الفارق قد بلغ حدّ عدم إمكانية تصوّر طبيعة الحياة السياسية والاقتصادية فيها ـ أي دولة المدينة ـ بالنسبة للباحث المعاصر، وذلك للاختلاف الكبير بين النظام السياسي الذي كان سائدًا في تلك الفترة التي تحدّث عنها فلاسفة أثينا وبين التجارب السياسية التي تلتها في التاريخ؛ وهو  الاختلاف المتمثّل في صغر حجم رقعة الأرض التي تقوم عليها دولة المدينة وقلّة عدد سكانها، الذي يقدَّر بحوالي ثلاثمائة ألف نسمة[2]، إذا ما قورنت بالدول التي تجاوز عدد سكانها مئات الملايين وبالدولة ـ القارة أستراليا مثلًا.

(30)

في حقبةٍ تاريخيةٍ لاحقة، وبسببٍ من امتداد تراث الإغريق السياسي إلى البلاد الإسلامية، سينبري المعلّم الثاني أبو نصر الفارابي إلى استعمال مصطلح «المدينة» في كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة» للدلالة على معنى الدولة، مع توسيع مفهومه ليشمل تطوّر الدولة العربية وأهدافها المستقبلية. وقد قسّم المدينة إلى عدة  أصناف، خصّ فيها المدينة الفاضلة بمركز الصدارة، لما تتميّز به من خصائص على غيرها من المدن[1].

ونظرًا لجاذبية مصطلح دولة المدينة وأهمّيّته في حضارات ذلك العصر، فقد شكّل هذا المصطلح عنوان النظام الذي ساد في روما القديمة أيضًا، وشاع في عدّة أماكن في أوروبا، وعلى وجه الخصوص في إيطاليا[2]. كانت الدولة المدينة مؤلّفةً كمثيلاتها عند الإغريق من مجموعةٍ من القبائل يحكمها ملك منتخب يعاونه مجلسٌ استشاري، وبذلك تحقّق بها في تلك الحقبة التاريخية مبدأ الشعب هو مصدر السلطة، واستطاعت أن تتوسّع عن طريق الغزو ـ الغزو الروماني ـ على غرار ما حدث في إمبراطوريات الشرق القديمة، إلى بعض المدن المجاورة لها، ممّا أدّى إلى انتقالها من مرحلةٍ إلى مرحلة الإمبراطورية في القرن الأول قبل الميلاد[3].

لقد كان الأفق الروماني أكثر اتساعًا وتعقيدًا منه عند الإغريق، ليس فقط بسبب خروجهم عن النطاق المحدّد للدولة المدينة

(31)

والتوسّع في شكل الإمبراطورية العالمية، وإنما لأنهم أضافوا إلى مفهوم الدولة عنصرًا جديدًا، ظلّ على الأقل غير معروف نسبيًا بالنسبة إلى الفكر اليوناني، وهو العنصر القانوني "Legal Element"[1].

بذلك ظهر مفهومٌ جديدٌ للدولة في أوروبا، هو الدولة الإمبراطورية، في حين أن الشكل الإمبراطوري للدولة يتّفق في معظم مظاهره مع الشكل الاتّحادي، وإن اختلف عنه من حيث اشتماله على نوعين من الحكم، حكم الإمبراطورية لذاتها، وحكمها للشعوب والأقاليم التي تخضع لهيمنتها. والإمبراطوريات نوعان: نوعٌ استعماريٌ تكون الدولة الحاكمة فيه منفصلةً عن مستعمراتها جغرافيًا، كالإمبراطورية البريطانية والهولندية والإسبانية والبرتغالية مثلًا، ونوعٌ غير استعماري، وهو الذي تكون فيه الدولة الحاكمة متصلةً بشعوبها جغرافيًا، كما كان حال أكثر الإمبراطوريات الشرقية والإمبراطورية الرومانية والتركية والمجرية[2]. ومن المفيد في هذا الصدد الإشارة إلى أن البروفسور أرنولد توينبي Arnold J. Toynbee حدَّد مفهوم الدولة الإمبراطورية «Empire» في كتابه دراسة التاريخ «A Study of History» بأنها الدولة التي تقوم على مساحةٍ شاسعةٍ من الارض، وتمتاز بكثرة سكّانها، لأنها تضمّ تحت لوائها عدّة أممٍ وشعوبٍ من أجناسٍ مختلفةٍ وثقافاتٍ متباينةٍ، ذات قوةٍ وجبروت، وعلى رأسها إمبراطور هو مصدر جميع السلطات فيها[3].

(32)

5- هوية الدولة ووظائفها

تتحدّد هوية الدولة بوصف كونها التعبير القانوني عن المجتمع، وتجد تعبيرها من خلال الحكومة في مختلف إداراتها وتشريعاتها. وهي بالتالي أدقّ المؤسّسات الاجتماعية وأخطرها، في قوّتها وضعفها على السواء.

بهذا المدلول «الهويَّاتي» تصير الدولة تجمّعًا سياسيًا يؤسّس كيانًا ذا اختصاصٍ سياديٍ في نطاقٍ إقليميٍ محدّد، ويمارس السلطة عبر منظومةٍ من المؤسسات الدائمة. وعليه فهي تتّسم بخمس خصائص أساسيةٍ تميّزها عن المؤسّسات الأخرى:

أولًا- ممارسة السيادة: فالدولة هي صاحبة القوّة العليا غير المقيّدة في المجتمع. وهي بهذا تعلو فوق أية تنظيماتٍ أو جماعاتٍ أخرى داخل الدولة. وهذا الذي حدا بـ توماس هوبز إلى وصف الدولة بالتنين البحري أو الوحش الضخم (Leviathan)[1].

ثانيًا- أجهزة الدولة مسؤولةٌ عن صياغة القرارات العامّة وتنفيذها في المجتمع.

ثالثًا- التعبير عن الشرعية: حيث يُنظر إلى إجراءات الدولة بوصفها قراراتٍ ملزِمةً للمواطنين، ويُفترض أن تعبّـر هذه القرارات عن المصالح الأكثر أهمّيةً للمجتمع.

رابعًا- الدولة أداةٌ للهيمنة: حيث تملك الدولة قوّة الإرغام لضمان الالتزام بقوانينها، ومعاقبة المخالفين.

(33)

خامسًا- الطابع «الإقليمي» للدولة: حيث الدولة هنا تجمُّعٌ إقليميٌ مرتبطٌ بإقليمٍ جغرافيٍ ذي حدودٍ معينةٍ تمارس عليه اختصاصاتها.

إلى ما مرَّ معنا من تعريفاتٍ بماهية الدولة، يمكننا أن نميّز في ما يأتي بين أربعة مفاهيم ذات صلة:

مفهوم البلد، ويدلّ على منطقةٍ جغرافية.

مفهوم الأمة، ويرمز إلى أناسٍ تجمعهم اعتباراتٌ مشتركةٌ أصولًا وتاريخًا.

مفهوم الدولة، ويشير إلى مجموعةٍ من مؤسّسات الحكم ذات سيادةٍ على أرضٍ وسكانٍ محدّدين.

مفهوم الحكومة، وهي الوسيلة أو الآلية التي تؤدّي من خلالها الدولة سلطتها وهي بمثابة عقل الدولة[1].

6 - نظريّات الدولة واختباراتها

احتلّت الدولة على الدوام مكانةً محوريةً في التحليل السياسي، وصولًا إلى المرادفة بين دراسة السياسة ودراسة الدولة في أغلب الأحيان. وتتجلّى هذه المكانة في إشكالين مهمين يتعلقان بأسس الالتزام السياسي وطبيعة القوة السياسية:

- الإشكال الأول: ويخصّ البحث في أسباب الاحتياج

(34)

إلى الدولة وأُسس الالتزام السياسي: حيث تُطرح نظرية العقد الاجتماعي ـ التبرير الكلاسيكي لنشأة الدولة - من خلال تصوّر شكل الحياة في مجتمعٍ بلا دولة، أي في حالة الفطرة أو الطبيعة. وتتّسم هذه الحالة لدى بعض المفكرين (مثل هوبز ولوك) بحروبٍ أهليةٍ وصراعاتٍ مستمرّةٍ يخوضها كلّ فرد في مواجهة الكافة (أي حرب الكل ضد الكل)؛ وهو ما يهيِّئ الناس للاتفاق على «عقد اجتماعي» "Social Contract"[1]، يتنازلون بموجبه عن جزءٍ من حريّتهم من أجل إقامة كيانٍ ذي سيادةٍ يستحيل دونه حفظ النظام والاستقرار. أي ينبغي على الأفراد طاعة الدولة بوصفها الضمان الوحيد ضد الاضطراب والفوضى.

وعلى النقيض من هذا تُقدّم «الـلاسلطوية» أو الفوضوية رؤيةً متفائلةً للطبيعة البشرية، في ظلّ تأكيدها على النظام الطبيعي والتعاون التلقائي بين الأفراد[2]، سنأتي على تفصيله في فصلٍ لاحقٍ من هذه الدراسة. وعلى هذا الأساس، سنرى كيف تُقدّم الأنارشية (Anarchism) منظومةً من المؤسّسات الاجتماعية (مثل الملكية المشتركة أو آليّات السوق) الكفيلة بتحقيق الاستقرار الاجتماعي في غياب الدولة.

ثانيًا: طبيعة قوة الدولة: حيث تشكّل النظريات المتنافسة حول الدولة القسم الأكبر من النظرية السياسية. ويمكن تلخيص أهمّ

(35)

وجهات النظر السائدة في هذا المجال على النحو التالي:

1 - الاتجاه الليبرالي: ينظر إلى الدولة كحكمٍ محايدٍ بين المصالح والجماعات المتنافسة في المجتمع، وهو ما يجعل الدولة ضمانةً أساسيةً للنظام الاجتماعي، ومن ثم تضحي الدولة في أسوأ الاحتمالات «شرًا لا بدّ منه».

2 - الاتجاه الماركسي: يصوِّر الدولة كأداةٍ للقمع الطبقي بوصفها دولةً «برجوازية»، أو أداةً للحفاظ على نظام التفاوت الطبقي القائم حتى حال افتراض الاستقلال النسبي للدولة عن الطبقة الحاكمة.

3 - الاتجاه الاشتراكي الديمقراطي: يعتبر الدولة عادةً تجسيدًا للخير العام أو المصالح المشتركة للمجتمع، من خلال التركيز على قدرة الدولة على معالجة مظالم النظام الطبقي.

4 - الاتجاه المحافظ: عادةً ما يربط الدولة بالحاجة إلى السلطة والنظام لحماية المجتمع من بوادر الفوضى، وهو ما يفسّر تفضيل المحافظين للدولة القوية.

5 - اليمين الجديد: أبرزَ السمات غير الشرعية للدولة الناجمة عن توسّعها في التعبير عن مصالحها، بغض النظر عن المصالح الأوسع للمجتمع، وهو ما يؤدي غالبًا إلى تدهور الأداء الاقتصادي.

6 - الاتجاه النسوي: نظر إلى الدولة كأداةٍ للهيمنة الذكورية، حيث تُوظّف الدولة الأبوية لإقصاء النساء من المجال العام أو السياسي أو استبقائهم مع إخضاعهم.

7 - الأنارشية (الفوضوية): وتذهب إلى أن الدولة لا تعدو أن

(36)

تكون جهازًا قمعيًا أُضفيت عليه الصفة القانونية كي يخدم مصالح الأطراف الأكثر تمتّعًا بالمزايا والقوة والثراء[1].

يُجمع فقهاء القانون الدستوري على أن الخصائص الأساسية المشتركة بين الدول لا تنفي حقيقة تنوُّع هذه الدول في أشكالها وأحجامها ووظائفها.

دول الحد الأدنى التي ينادي بها أنصار الليبرالية الكلاسيكية واليمين الجديد هي مجرد كياناتٍ حمائيةٍ تتمثّل وظيفتها الوحيدة في توفير إطار للسلام والنظام الاجتماعي، على نحو يُمكّن المواطنين من ممارسة حياتهم على النحو الذي يعتقدون أنه الأفضل.

بينما تعتمد الدول التنموية على العلاقات الوثيقة بين الدولة وجماعات المصالح الاقتصادية الأساسية (الشركات الكبرى تحديدا) لتطوير استراتيجياتٍ للنمو بالاقتصاد القومي في سياقٍ قائمٍ على المنافسات عبر القومية. ويظهر هذا النموذج في اليابان ودول النمور الآسيوية في شرق وجنوب شرق آسيا.

في حين تتدخّل الدول الديمقراطية الاشتراكية على نحوٍ واسعٍ في الحياة الاقتصادية والاجتماعية لتعزيز النمو وضمان التشغيل الكامل وتخفيض معدّلات البطالة والفقر وتأمين توزيعٍ أكثر عدالةً للقيم والموارد في المجتمع. وفي المقابل، اعتمدت الدول الاشتراكية على إلغاء القطـاع الخـاص كليّةً وإقامــة

(37)

اقتصاديـات مخططــة مركـزيًا تديـرها شبكـات من الوزارات الحكوميــة ولجـان التخطيط.

هذا في حين أن الـدول الشموليـة، مثل ألمانيـا فـي عهـد هتلـر أو الاتحـاد السوفياتـي فـي الحقبـة الستالينية وبعض النظم المعاصرة ذات الخصائص المشابهة، تتدخّل في كافّة مناحي الحياة عبر منظومةٍ معقدةٍ من آليات الرقابة والقمع البوليسي ونظامٍ أيديولوجيٍ مهيمنٍ يستهدف إحكام السيطرة الخاصة عبر الدولة.

لقد ظهرت في أدبيات الفكر السياسي الكلاسيكي مجموعةٌ من النظريات حول الدولة يمكن إجمالها على النحو التالي:

- النظرية الإلهية: يعتقد أصحاب هذه النظرية ان الدولة تعود نشأتها إلى الله تعالى، وأن الإنسان ليس عاملًا أساسيًا في نشأتها، وأن الإله هو الذي اختار لها حكّامًا ليديروا شؤونها.

- نظرية القوة: ترى هذه النظرية أن الدولة نشأت من خلال سيطرة الأقوياء على الضعفاء، إذ إن المجموعات الحاكمة اعتمدت في هذا الميدان على القوّة في الوصول إلى الحكم، مستغلّةً خوف وقلق الأفراد من الحروب، وحبّهم الأمن والاستقرار، وهي وسيلةٌ في بناء الدولة وقوتها.

- النظرية الطبيعية: أساس هذه النظرية مبنيٌ على طبيعة الإنسان الاجتماعية. وحيث إن الإنسان لا يستطيع العيش منعزلًا عن غيره من الأفراد، فلا بد أن يتعاون معهم من خلال

(38)

تفاعلاته الاجتماعية المختلفة. ومن هنا رغبت الجماعات في أن يكون لها قيادةٌ أو سلطةٌ من ثم دولةٌ ذات سيادةٍ وسلطة.

- نظرية العقد الاجتماعي: ترى هذه النظرية أن أفراد الشعب أجمعوا على قيام الدولة من خلالِ عقدٍ اتّفقت عليه مجموعة الأفراد (مع الحاكمين)، حيث يقبل الشعب حكم الدولة مقابل تلبيتها حاجات الناس الأمنية وتنسيق علاقاتهم مع بعض، وقد نادى بهذه النظرية بعض المفكّرين السياسيين مثل:  توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو.

ومنذ القرن الثالث عشر الميلادي وإلى يومنا هذا، لم تتوقّف الجهود المبذولة في حقل التنظير لظاهرة الدولة، ولا سيّما لجهة دراسة أنواعها وأشكالها وفقًا للتحوّلات المكانية والزمانية.

(39)
(40)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

الدولة القديمة

 

(41)

أنواعها وحكوماتها

من قبل تأخذ الدولة مسارها للتشكُّل كنظامٍ لتدبير الاجتماع البشري، كان ثمّة ما يمكن وصفه بمجتمعات اللادولة. وهذه المجتمعات وإن كانت نعوتها توحي بالخواء وتشير إلى الفوضى، إلا أنّها كانت تنطوي على أطرٍ تنظيميةٍ وإداريةٍ تتّسم بالبساطة، تعكس حاجات الجماعات البدائية لتنظيم عيشها.

ينقسم هذا الفصل إلى مبحثين:

في المبحث الأول سوف نعرض إلى التمهيدات الأولى التي سبقت ظهور الدولة، ابتداءً بما يسمى بـ«مجتمعات ما قبل الدولة»، ثم نأتي إلى بيان أبرز النماذج التي تشكّل على الجملة بنية وشكل الدولة القديمة، ابتداءً من الوثنية مرورًا بما شهدته الحضارات القديمة، ولا سيّما الحضارة اليونانية من تنظيرات حول فلسفة الدولة ومرتكزاتها النظرية والمعرفية.

أما المبحث الثاني، فسنُضمّنه عرضًا لأنواع الحكومات التي اعتمدتها الدول القديمة، حيث ستبين لنا الخيط الدقيق الممتدّ من الحقبة الإغريقية إلى الحقبة الحديثة لجهة تكوّن مفهوم الدولة وهندستها الإجمالية.

(42)

المبحث الأوّل: منشأ الدولة القديمة وأنواعها

يبيّن عالم الاجتماع الفرنسي بيار كلاستر[1] أنّ المجتمعات البدائيّة هي النواة التي نبتت منها مجتمعات اللادولة. وقوله في ذلك عائدٌ إلى أن وجود الدولة داخل هذه المجتمعات أمرٌ مستحيل. وعلى الرغم من ذلك تظهر لنا مفارقةٌ تحتاج إلى التأمل، حين يقرّر الكثيرون من علماء الأنثروبولوجيا أن كل الشعوب المتحضّرة كانت من قبل شعوبًا همجية. ثم يسوق طائفةً من الأسئلة تنطوي على قدرٍ كبيرٍ من المنطق: ما الذي جعل وجود الدولة يتوقّف عن أن يكون مستحيلًا؟ ثم لماذا توقّفت الشعوب عن أن تكون همجيةً؟ وأي حدث رائع، وأي ثورة، سمحت ببروز صورة المستبد، ذلك الذي يأمر أولئك الذين يخضعون، وما هو مصدر السلطة السياسية؟

يجيب كلاستر في هذا الصدد: إذا ما بدا أن تحديد شروط ظهور الدولة هو مستحيل، فإننا نستطيع بالمقابل أن نعيّن بدقّةٍ شروط عدم ظهورها؛ والمدخل الذي يراه للقيام بهذه المهمة هو الإحاطة بالمجال السياسي لمجتمعات اللادولة التي تتميّز في كونها مجتمعاتٍ من دون إيمان، ومن دون قانون، ومن دون سلطان.

ثم يضيف: إن ما قاله الغرب خلال القرن السادس عشر عن الهنود الحمر، يمكن أن يمتدّ ليشمل دون صعوبةٍ تُذكر كل المجتمعات البدائية. إنه مقياس التمييز نفسه: يكون المجتمع بدائيًا إذا كان ينقصه ملك «زعيم» بما هو المصدر الشرعي للقانون، أي بما هو آلة

(43)

الدولة. وعلى نقيض ذلك، فإن كل مجتمع غير بدائي هو مجتمع دولة، مهما كان من أمر النظام الاجتماعي الاقتصادي القائم. هكذا يصبح من السهل جمع كل الاستبداديات القديمة والكبيرة في فئة واحدة: الملوك، أباطرة الصين أو بلاد الأنديز (Andes)، الفراعنة، الأنظمة الملكية الفردية المطلقة أو الأنظمة الاجتماعية المعاصرة، لا فرق بين أن تكون رأسماليةٍ كما في أوروبا الغربية، أو رأسماليةٍ كما في أوروبا الشرقية وفي مكان آخر.

إذًا، لا وجود لملك على القبيلة، بل لزعيم هو ليس برئيس الدولة. يعني هذا ببساطةٍ أن الزعيم لا يحوز على أي نفوذ أو أي سلطة، أو وسيلة لإعطاء الأمر. إن الزعيم ليس قائدًا، وأناس القبيلة ليس عندهم أي واجبٍ للخضوع. ذلك بأن مجال الزعامة ليس مكانًا للسلطة وصورة الزعيم الهمجي (على الرغم من سوء استعمال كلمة صورة) لا تمثّل في شيء صورة المستبد المقبل. إن جهاز الدولة لا ينتج مطلقًا من الزعامة البدائية[1].

إن ما يمكن استنتاجه في العالم الهمجي ـ كما يقرر كلاستر ـ هو ذلك «التفتّت للأوطان»، وعلى وجه التحديد لمجتمعات الجماعات المحلّية، التي تسهر بعناية فائقة للحفاظ على استقلالها وسط المجموع الذي تشكّل جزءًا منه. وإن هذا «التفتيت الذري» للعالم القبلي هو بالتأكيد الوسيلة الفعّالة لمنع تكوين كتلٍ اجتماعية ـ سياسية تنخرط فيها الجماعات المحلّية، وأبعد من ذلك، إنها وسيلةٌ لمنع ظهور الدولة الموحّدة في جوهرها. والحاصل، أن

(44)

تاريخ الشعوب التي ليس لديها تاريخ، هو على الأقلّ كما يمكن لنا أن نقول بحق، هو تاريخ الصراع ضد الدولة[1].

1- السفسطائية: فلسفة اللادولة

ظهر في القرن الخامس قبل الميلاد تيّارٌ فلسفيٌ عُرف أهله باسم السفسطائيين، وأثار جدلًا لمّا ينتهِ أثره إلى يومنا هذا. كثيرون من الباحثين في التاريخ الإغريقي  ذهبوا إلى أن للسفسطائية الفضلُ في تفعيل علم المنطق، الذي جاء ليرد على منطقهم المشحون بالمغالطات.

 لم تكن صفة السفسطائي معروفةً من قبل، بل كان الذائع في المدن الإغريقية صفة الشاعر والكاهن والطبيب والعرّاف والفيلسوف. وقد رأينا عند الكلام عن فيلولاوس أن صفة الفيلسوف كانت معروفةً في حلقة الفيثاغوريين في مدينة طيبة. ورأينا كذلك أن زينوفان كان ينشد الشعر كما كان ينشده الشعراء مثل هوميروس وهزيود. ولمّـا بدأ لقب السفسطائي يشيع على الألسن لم يكن مدلوله واضحًا. ربما من أجل ذلك تساءل سقراط في محاورة «السفسطائي» عن تحديد المقصود من ثلاثة اصطلاحاتٍ جارية وهي: السفسطائي، والسياسي، والفيلسوف.

وقد أجمع النقّاد المحدثون على أن محاورة السفسطائي هي من المحاورات التي كتبها أفلاطون في أواخر حياته، والتي تأتي قبل

(45)

السياسي وفيليبوس والنواميس. ويرجّح باحثون[1] أن هذه المجموعة الأخيرة من المحاورات لم  يكتبها أفلاطون إلا بعد إقامته الثانية في صقلية، أي بعد عام 390 ق.م.، وقد رأينا في افتتاح المحاورة أنه كان ينوي الكتابة عن ثلاثة موضوعات هي السفسطائي، والسياسي، والفيلسوف، ولكن المحاورة الخاصة بالفيلسوف لم تُكتب قط. هناك إذًا صِلةٌ وثيقةٌ بين الشخصيات الثلاثة تستدعي التمييز بينهم، وهذا ما فعله أفلاطون في محاورة السفسطائي، واجتهد في تحديد معنى هذه الشخصية حتى تتميز عن غيرها من الشخصيات. ومع أن المحاورة لا تتحدّث عن السفسطائي إلا في المقدمة فقط، وتتسم في جملتها بسمةٍ منطقية، وتمضي في نقد فلسفة بارمنيدس[2]، إلا أن هذه المقدمة اليسيرة تلقي ضوءًا كاشفًا حول هذا الموضوع الجديد الشائك، ونعني به ظهور طائفة السفسطائيين على مسرح الحياة اليونانية. وإذا كان أفلاطون في عام 390 ق.م. على أقل تقدير، وهو العام الذي كتب فيه المحاورة بوجه التقريب، لم يستطع أن يجزم برأيٍ حول تعريف السفسطائي، فهذا دليلٌ على صعوبة البحث والتحديد، الذي نشأ من عدم استقرار السفسطائي على صفةٍ معيّنة، وعلى التطوّر السريع لهذه الطائفة التي ظهرت في النصف الأخير من القرن الخامس لضرورات اجتماعية وسياسية وثقافية.

المعروف أن سقراط كان معاصرًا للسفساطئيين، ولكنه عارضهم في قولهم بإمكان تعليم الفضيلة، وعارضهم أكثر من ذلك في أنه

(46)

لم يتناول أجرًا على التعليم. وكيف يأخذ أجرًا على شيءٍ يعترف أنه لا يملكه، فقد أُثر عنه قوله: إنه لا يعرف إلا شيئًا واحدًا، وهو أنه لا يعرف، وكان يزعم الجهل ويناقش الذي يحاوره ممن يدعي العلم حتى يوقعه في التناقض، ويبيّـن له جهله[1].

ومهما يكن من أمر، فقد كان محور الخلاف بين سقراط والسفسطائيين هو إشكالية تكوين المواطن الصالح، أو النظر إلى صالح الدولة، أو المدينة باصطلاح اليونانيين. وهذا البحث هو الذي أصبح حجر الزاوية في فلسفة أفلاطون، فكتب من أجله أعظم كتبه: الجمهورية والنواميس.

2- الدولة المثالية

المجادلات التي خاضها السفسطائيون مع خصومهم، ولا سيما مع سقراط، حول تنظيم الحياة الأثينية، سوف تمهِّد الطريق أمام ولادة فكرة الدولة المثالية. والجدير بالذكر أن هذه الفكرة سيكون لها منزلة خاصّة في محاورات أفلاطون اللاحقة.

كان لأساطير الـعـصـر الـذهـبـي، وتـصـورات الـدول المثالية الخاصة بالماضي الأسطوري أو المـسـتـقـبـل البعيد، تأثيرٌ عميقٌ

(47)

على مؤسسي الدول والمجتمعـات المثالية اللاحقة، من توماس مور حتى هـ. جـ ويلز.

حتى أفـلاطـون نفسه، الذي اتّجه إليه الكُتّاب المتأخرون، تـرك وراءه أعـمـالًا تـتـضـمّـن أشـكـالًا مختلفةً من الفكـر الـمثالي. فـلكـل مـن طـيـمـاوس وكريتـيـاس أعمال تـصـف مـجـتـمـعـاتٍ أسـطـوريـةً ودولًا أو مجتمعاتٍ مثاليةً، عند أرسطو نجد إطارًا لدستور مثالي، كما نجد وصفًا للمؤسّسات التي تحكم العديد من الدول اليونانية، Diodorus Siculus، في حين يقدّم زيـنـون دراسـةً لـلـحـكـومـات وتخطيطًا عامًا لجمهوريةٍ مثالية. كذلك فعل كل من سترابون (من 64 ق.م ـ 20م) وبلوتارك (من 46 ـ 119م) حين قدَّما وصفًا شديد الدقة للمجتمع القديم في كريت وأسبرطة[1].

أقرب الأعمال التي ذكرناها من تعريف الدولة المثالية، وأعظمهـا فـي الوقت نفسه تأثيرا في اليوتوبيات اللاحقة المـديـنـة لـهـا، هـي «جـمـهـوريـة» أفلاطون و«حياة ليكورجوس» لبلوتارك؛ وكلاهما يمثّل الاتجاهات التسلّطية في الفكر اليوناني، ولكنّ تأثيرهما في المفكّرين المتأخّـريـن قـد خفّفت منه في الغالب أفكار أرسطو الإصلاحية، أو مُثُل زينون المتحرّرة والعالمية.

كانت الفترة التي كتب فيها أفلاطون «الجمهورية» فترة تدهورٍ في التاريخ اليوناني. فقد انـتـهـت الحـرب الـبـلـوبـونـيـزيـة

(48)

(431 ـ 404 ق.م)، وهـي الحـرب الأهلية بين أثينا وأسبرطة في المورة، بالهزيمة الساحقة لأثيـنـا، وضـعـفـت المدن المستقلّة التي شاركت فيها بتأثير الصراع الطويل والمنازعات الداخلية. وقد أدى بها التفكّك إلى أن تصبح عرضةً للغـزو الأجـنـبـي، وسـمـح لـدولـة أسبرطة العسكرية والتسلطية أن تنتـصـر عـلـيـهـا. كـان أفـلاطـون فـي الثالثة والعشرين من عمره عندما وضعت الحرب أوزارها، تاركةً أثينا في حالة من الإنهاك السياسي والاقتصادي. ولهذا كان من الطبيعي أن تهـتـم كتاباته اهتمامًا شديدًا بـالـقـضـايـا الـسـيـاسـيـة والاجـتـمـاعـيـة، وأن يـحـاول استخلاص بعض الدروس المستفادة من هزيمة أثينا وانتصار أسبرطة.

عندما شرع أفلاطون في وضع تصوّراته عن مدينته المثالية اتجه إلى أسبرطة واتخذها نموذجًا له. وهو بالطبع لم يقلّد هذا النموذج تقليد العبيد، ولكن جمهوريته كانت أشبه بالتنظيم التسلّطي لأسبرطة منها بالتنظيمات الحرّة التي تمتّعت بها المدن اليونانية الأخرى في غضون القرون السابقة. وفي مقابل روح الاستقلال والنزعة الفردية المتطرفة الـتـي تمـيـزت بـهـا الحـيـاة اليونانية، وضع أفلاطون تصوره عن دولةٍ قويةٍ متجانسةٍ وقائمةٍ على مبادئ تسلطية.

3- دولة المدينة الفاضلة

تنوّعت روايات المؤرخين بصدد الحقبة الزمنية التي ظهرت فيها المدينة الفاضلة كمادّة سجالٍ في المجتمع الفلسفي اليوناني القديم. ومع أنّ كثيرين منهم رأوا أن

(49)

معالم المدن الفاضلة أخذت في الظهور مع صدور ملهاة الشاعر المسرحي كراتينس المسماة «الثراء»، إلا أن المدينة الفاضلة لم تتّخذ كيانًا متكاملًا إلا في جمهورية «أفلاطون». وممّـا تجدر الإيماءة إليه أنّ البحث عن المدينة الفاضلة هو فكرة راودت أفلاطون، يوم أخفق في ممارسة السياسة عمليًا، وقد عافتها نفسه - كما يذكر المحقّقون - لما شهد وشهدته أثينا من أحداث الثورة والثورة المضادة. لقد انصرف إلى الأكاديمية لإعداد جيلٍ من السياسيّين النجباء من «أصحاب المعرفة الحقيقيين»، مهمّتهم كمهمّة «أرباب الأسر» إذا ما تولّوا السلطة السياسية «يتّبعون الفلسفة عن حق وحقيقة» أو «يصبحوا فلاسفة حقيقيين». ومن هنا انطلق أفلاطون يشيّد الدعامة الأولى في التمهيد لنشأة علم السياسة بروائعه السياسية الثلاث «الجمهورية» «القوانين» «السياسة».

وفي الواقع كانت مدينة «كاليبوس»، وهي المدينة الفاضلة التي ابتكرها فكر أفلاطون، قياسًا للمدينة النموذج من جهة، ومن جهة ثانيةٍ جاءت ردًا، إن لم تكن نقدًا، لسياسة الدولة ـ المدينة في أثينا.

الغاية العليا لهذه الدولة عند أفلاطون هي تحقيق العدالة. ولكي تنجز هذه الغاية لا بد من رسم الهندسة المعرفية الدقيقة لبلوغها. وهكذا تضمّن كتاب «القوانين» الإجابات المنشودة حول قيام الجمهورية الفاضلة.

في كتاب «الجمهورية» يأتي نظام كاليبوس (مدينة أفلاطون

(50)

الفاضلة) في الدرجة الأولى من الكمال. ثم يليه النظام التيمقراطي، وهو صورةٌ عن النظام المثالي لحظة انحلاله. ثم يتلو ذلك النظام الأوليجاركي أو نظام حكم الأغنياء، وهو يتمثّل في النظام التيمقراطي حين فساده، ثمّ يتطوّر النظام الأوليجاركي إلى النظام الديمقراطي، فإذا انحط هذا الأخير كان نظام الطغيان وهو أسوأ الأنظمة[1].

وفي كتاب «السياسة» نجد تقسيمًا آخر: هناك الدولة ذات النظام المثالي يرأسها الحاكم الفيلسوف وتتمتّع بالمعرفة الكاملة، فلا تحتاج إلى القوانين، ولكن هذه الدولة لا يتيسّر وجودها في الدنيا. ثم تأتي طائفة الدول الزمنية وهي ستة، ثلاث منها تتقيّد بالقوانين: حكم الفرد المستنير، حكم الأقلّية الأرستقراطية، حكم الديمقراطية المعتدلة. أما التي لا تتقيّد بالقوانين فهي حكم الفرد الاستبدادي، حكم الأقلّية الأوليجاركية، حكم الديمقراطية المتطرّفة. وقد فضَّل  أفلاطون الدول التي تتقيّد بالقوانين، ولذا سيقترح في كتاب «القوانين» فكرة الدولة المختلطة، وهي تجمع بين حكمة النظام الملكي وحرية النظام الديمقراطي[2].

تتّخذ السياسة مكانتها المركزية في إدارة المدينة الفاضلة والوصول بها إلى غايتها القصوى. فالمدينة هي الهدف الأعظم للحكمة الأفلاطونية التي تتّخذ دائمًا أفقًا لأبحاثها القائمة بكثير

(51)

من التأمّلات والطريقة الأفضل لحكم الحياة المشتركة. ولكي تؤدّي المدينة إلى حياةٍ سعيدة، وجب أن تحقّق الوحدة الشاملة التي يقدّمها أفلاطون كأنها من الروح ومن شيءٍ تقنيٍ ثم من كائنٍ حي، تبقى المسألة السياسية دائمًا هي المجال الذي تُبحث من خلاله التقاربات المتلاحقة عن إجابةٍ متماثلة. على هذا النحو يعتبر أفلاطون المدينة كأنها عملٌ تقنيٌ ينظّم علاقة الجيرة والعيش في مدينة المواطنين ذات الطبائع المختلفة.

وبناءً على ذلك، ستكون المدينة في المستقبل محصّلة رؤيةٍ ووسيلةٍ تميّزان وتُكوّنان التشريع، وتُنتجان آراءً مشتركةً وصفاتٍ مختلفةً وأجسادًا (السياسة، 306 - 308). هذا ما يناسب علم السياسة، وقانون علم الأجساد وحركاتهم حكم توزيع المواطنين والأشياء على أرضٍ محدودةٍ، كل واحدٍ منهم ينجز الحركات والوظائف وبعض التحضيرات كالسكن وأماكن الوظيفة على المخطط المدني المحدد. وما يتعلق بإظهار النصوص السياسية الأفلاطونية الأخيرة (كريتياس ـ خاصةً القوانين) الذين يصنعون المدينة الحقيقية مبيّنين كيف أن فضاءهم الأرضي والمدني يجب أن يكون مدركًا بطريقةٍ تجعل السكن ممكنًا والتقاء المواطنين بطريقةٍ تجعل المدينة حيةً فعليًا: الجسد المتوازن والروح فيهما يكون الذكاء حكومةً عالمةً – مناهج الجمهورية / مدرسة المدينة «قوانين 12-960 ب- 968».

أصبحت السياسة نشاط الصناعة الفنية للعالم، حيث تبقى الوظيفة هي التي تصنع تنظيم المدينة. وتكون بعكس الحقيقة العاجلة التي لم يتوقّف أفلاطون عن تسميتها. فهي إطار الحياة

(52)

للكائن الإنساني، لم يكن فيها حياةٌ إنسانيةٌ حقيقية إلا في الوحدة الوطنية، كما عبَّـر عن ذلك أرسطو الذي كان مخلصًا لمعلّمه في هذه المسألة بالذات[1].

4- الجمهورية.. دولة المُثُل

ينقل أفلاطون عن سقراط: أن السياسة فنٌ مُضاءٌ بالفلسفة، منظّمٌ ومرتّبٌ باتّجاهٍ غاياتٍ ونهاياتٍ عقليةٍ أو أخلاقية، ويُقاد بواسطة فضيلة التعقُّل والحكمة. وينقل أيضًا أن الخير في السياسة يعتمد أولًا على أناسٍ خيِّرين، وأنه لا يوجد أي نظامٍ يمكن أن يتجاوز الفضيلة بالنسبة للقائمين عليه[2].

وفي كتاب «الجمهورية» سنقرأ حوارًا بين سقراط و«ثراثيماك» Thrasymaque وهما يتواجهان حول مفهوم العدالة. وبسبب الفشل في بلوغ الحوار غايته المنشودة يقترح سقراط تغيير الطريق أو المنهج، بحيث لا يكون البحث على مستوى الفرد بل على مستوى المدينة، وهذه المدينة من المفترض أن تعيد إنتاج وتوزيع العدالة الفردية على أكبر درجة أو مقياس ممكن. هذه الخطوة تعود لمصادرة هوية العدالة داخل الفرد وأيضًا داخل المدينة.

انطلاقًا من المنهجية السقراطية، يسعى أفلاطون إلى بناء الأركان الأساسية لجمهوريته الفاضلة. فهذه الجمهورية على الرغم من مثاليتها الغالبة، فهي ذات هندسةٍ وتنظيمٍ واضحين. وحسب

(53)

واضعها، فإن تطوّر المدينة يحدث تقسيمًا ثلاثيًا لأعضائها: «طبقة» من الحرّاس تمتلك العلم المتعلّق بالحكومات، و«طبقة» من المحاربين لا تفتقد الشجاعة، وأخيرًا «طبقة» من المنتجين والمزارعين و المهنيين. وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى كفاءاتٍ متميزةٍ أو خاصّة. مع تنظيم المدينة بهذه الطريقة سوف تصبح متوافقةً مع «الحكمة»، إذ على رأسها أولئك الذين يُسمَّون «بالتقنيّين» المتخصّصين بالسلطة. وهكذا فإن حركة العدالة في المدينة تظهر كنتيجةٍ لهذا التخصّص الموزّع على ثلاث طبقات، اختفاء إحداها أو الاختلاط فيما بينها يؤدي ـ حسب الترتيب المنطقي الأفلاطوني ـ إلى الخلل في التوازن أو التراتب. هذه التراتبية للطبقات والتي ترتكز عليها المدينة، يقارنها أفلاطون بأنواع المعادن الأقل والأكثر قيمةً: الذهب (الحراس الفلاسفة والمتخصصون بالسياسة)، الفضة (المحاربون وهي مساعدة للأولى)، والحديد (المزارعون والمهنيون).

ضمن هذا الوضع في المدينة، فإن العدالة ستظهر دائمًا على وجهين: الأول: الفرد كعضو في المدينة، سيتصرّف ضمن معنى العدالة وسيكون دليلًا على الفضيلة المرتبطة أساسًا بطبيعته. الثاني، من الناحية الفردية، كل واحد، وحتى يكون عادلًا، عليه السلوك محافظًا على ثلاث مهاراتٍ أو كفاءاتٍ للروح التي يمتلكها (العقل، الشجاعة، الرغبة). فالمواطن يعيش وفق الفضيلة الخاصة «بالطبقة» التي ينتمي إليها والفرد يسعى ويجهد ليناغم هذه المهارات المتعلّقة بروحه. أما جدلية «السياسيّ» عند أفلاطون، فهي تنقسم إلى ثلاثة

(54)

أجزاء: تعريف الملك «كراعٍ» ونقد هذا التفسير، نموذج الفن الملكي أو السياسي، ثم تعريف «السياسيّ».

الملك يحترم «مقياس العدالة»

في كتابه «السياسيّ» يُصرّ أفلاطون على أهمّية احترام «مقياس العدالة»، هذا المقياس لا يمكن معرفته إلا من قبل المشرعين الكبار[1]. وفي كتابه «القوانين»، يرى أفلاطون أن هذا «المقياس» يجب أن يكون متاحًا للجميع ومن خلال كل واحدٍ يستطيع الحصول على المساواة في العدالة، وهذا يساعده في الهروب من نزوات الطغاة، أو يحصل على «المميزات» الأرستقراطية، وهنا نصل إلى نقطة في غاية الأهمية للفلسفة الأفلاطونية، حيث المساواة ليست أمرًا مرادفًا للهوية بل هي نسبية.

وفيما يتعلّق بالعدالة السياسية، فإن «المقياس» يتحدّث عن «ضمان، وبين ناس غير متساوين، مساواةً معرّفةً من خلال طبيعة كل فرد». وفي الحقيقة هذا يقود أفلاطون وفي الجزء الأخير من كتابه «السياسيّ» إلى معارضة المساواة بالقوة التي تُفرض عن طريق القوانين، ويتحدّث عن المساواة المرنة والأكثر عدالةً والتي يضمنها ملكٌ يعرف أن يتبنّى حلًا وفق الحالة لكل شخص أو فرد، ولكن أفلاطون يعترف أن هذا الشيء لا يمكن أن يكون محقّقًا إلا بشكل استثنائي وأن تطبيق القانون يُحدث شرًّا أقلّ من عدم تطبيقه.

(55)

إذًا، وكما يظهر فإن تحقيق أو البحث عن المساواة هو الموضوع الأساسي «للسياسيّ». ويمكن إكماله عن طريق «مقياس العدالة» والذي يستطيع أن يفرض اعتدالًا وتوازنًا. ضمن هذه النظرة تأخذ الجمهورية أو المدينة الفاضلة عند أفلاطون معناها الكامل.

5- الدولة الوثنية

يشير المؤرخون إلى أن حكاية «الدولة الوثنية» تبدأ وقائعها عند نهاية «حرب البيلوبونيز»[1]. في ذلك الحين كانت بلاد الإغريق لا تزال مبتليةً بالحروب التي نجم عنها اضمحلال «دولة المدينة»، وبحضورٍ وتأثيرٍ فارسيَّين كبيرَين في الشؤون الإغريقية، فمع أن انشغالات بلاد فارس بعيدًا من حدودها الغربية لم تتح لها غزوة بلاد الإغريق في أوروبا، إلا أنها مع ذلك رغبت في منع أثينا وإسبارطة وكورنتس من الهيمنة على شبه الجزيرة الإغريقية.

لقد نشأت عن اتفاقية «سلام الملك» (الفارسي أرشير الثاني) التي رتبتها فارس مناوراتٌ وتحالفاتٌ مختلفةٌ شملت طيبة، وكورنتس، وإسبارطة، وأثينا، وقد أُعدت هذه الاتفاقية لمنع طغيان القوة في أيدي «مدينة ـ دولة» واحدة. وشكلت «المدن ـ الدول» الإغريقية الأوروبية لفترةٍ قصيرةٍ

(56)

نظامًا يستند إلى قواعد واتفاقيات، مدعومةٍ أموالٍ ومبادراتٍ دبلوماسيةٍ من بلاد فارس[1].

وفي حدود العام 340 ق.م استبدَّ الملك المقدوني فيليب الثاني بالسياسة الإغريقية، ليُسيطر على البر الإغريقي في العام 338 ق.م، والمعروف أن فيليب الثاني كان قد تربّع على العرش المقدوني في العام 360 أو 359 ق.م وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وأحكم قبضته باللجوء إلى الاغتيالات والرشوة. ومن وجهة نظر ديموستينيس فإنه كان «انتهازيًا ماكرًا وعديم الضمير».

لمّا اغتيل فيليب في صيف العام 336 ق.م، وهو حدث أسهم في تأخير الحملة على الفرس بدلًا من إجهاضها، ورث الحكم ابنه الإسكندر، الذي حامت حوله الشبهات بوقوفه وراء هذا الحدث. ونتيجةً لهذا شكّلت وفاة فيليب فرصةً للانشقاق، وكانت مهمة الإسكندر الأولى فرض سيطرته على أعداء مقدونيا في الشمال، خصوصًا تراقيا وإليريا، ومن ثم الإقدام على تدمير طيبة المستعصية عليه بوحشيةٍ، من قبل أن يشنّ حملةً في آسيا استمرّت اثنتي عشرة سنةً.

لم تكن إمبراطورية الإسكندر موحدةً على نحو مؤسّسي، بل كانت مجموعةٌ من الألقاب المختلفة موحدةً في شخصه. فهو كان ملك مقدونيا، ورئيس «عصبة كورنتس»، التي بقي أعضاؤها

(57)

مستقلين نسبيًا، وفرعون مصر الكبير، وملك الفرس العظيم، على الرغم من أن معظم الإمبراطورية الفارسية أفلتت من قبضته. وعقب وفاة الإسكندر بالحمى في العام 323ق.م. وهو في الـ 33 من عمره، اتّسمت السنوات الخمسون التالية بصراع مرير بين قادته وورثتهم على غنائم الإمبراطورية التي تفتّت الممالك: مملكة مقدونيا، والإمبراطورية السلوقية التي ضمت سوريا، ومعظم آسيا الصغرى، وإمبراطورية مصر التي تحكم بها البطالمة.

واعتمد بعض الكتّاب على ما أورده بلوتارك عن حياة الإسكندر الكبير للإشارة إلى تجربةٍ «أمميةٍ» أصيلة، توارى فيها التمييز بين البرابرة والإغريق أمام مساواةٍ متبدلة، ومواطنية «دولة المدينة» أمام عضوية إمبراطوريةٍ عالميةٍ يحكمها قانون واحد ونظام عدالةٍ واحد.

أصبحت روما بعد تحرّرها في نهاية القرن السادس قبل الميلاد من حكم الملوك الأتروسكان جمهوريةً أرستقراطيةً تتألّف من مجلسين. وعملت بدايةً على ترسيخ موقعها في إيطاليا والمستعمرات الإغريقية في جنوب إيطاليا، ومن ثم غزت حوش البحر المتوسط بأكمله، بما في ذلك شمال إفريقيا والشرق الهليني، لتضم في نهاية المطاف أجزاءً كبيرةً من أوروبا الغربية إلى إمبراطوريتها الشاسعة والمتنوعة. ودامت «الجمهورية الرومانية» من العام 509 ق.م وحتى هزيمة ماركوس أنطونيوس (Mark Antony) على يدي غايوس أوكتافيوس (Gaius Octavius) في العام 31 ق.م.

كانت روما من خلال مضاعفة عدد سكانها عبر اتّباع سياسة

(58)

تدمير القرى والبلدات خارج أسوارها وإتاحة الدخول الحر نسبيًا إلى أرجائها، قد أرست أسسًا متينةً مكّنتها من بناء إمبراطوريةٍ بمساعدة حلفائها الإيطاليين، ومن ثم إخضاع هؤلاء الحلفاء بحد ذاتهم لحكمها. وما من إمبراطورية أخرى سبقت أو أعقبت إمبراطورية روما قد تبنّت مثل هذه الوسائل. وإنما بسبب عدم الاقتداء بمثل هذه الوسائل، وبالتالي اعتبارها غير ذات جدوى أو ملاءمة، «أصبحت إيطاليا فريسةً سهلةً لكل من يرغب في اجتياح هذه الأرض»[1].

أمّا الميزة الأساسية في الجمهورية الرومانية، فهي الممارسات الدينية الوثنية التي أسهمت في التماسك الاجتماعي لمواطنيها، فالديانة الوثنية في روما كانت وسيلةً فعّالةً للتحكّم الاجتماعي، وقد استأثرت الطبقة الأرستقراطية بمناصبها. وقُسّمت الرزنامة الرومانية إلى أيامٍ يمكن فيها متابعة الأعمال العامة، وأيامٍ يتعذّر فيها ذلك لأسبابٍ دينية.

كانت الديانة الرومانية مدنيةً؛ إذ إن الصالح الأكبر للدولة كان في صميم نِحَلٍ دينيةٍ عكفت على عبادة آلهة أمثال «جوبيتر» (المشتري)، و«جونو» (ملكة السماء)، و«مارس» (المريخ، إله الحرب). وعزا الشعب الروماني نجاحهم الاستثنائي إلى تعبُّدهم للآلهة. إنما بفضل «إخلاصهم الديني كافأتهم الآلهة». وبما أن التعبُّد اكتسى مثل هذه الأهمية في تحديد نمط السلوك العام، سعى الرومان بقوةٍ إلى خدمة الكهنة وإرضائهم، وتقبُّل مشورتهم طوعًا،

(59)

وذلك لضمان تواصل «إنعام» الآلهة عليهم. وهكذا كانت الديانة وسيلةً يمكن من خلالها تركيز الخوف وتوظيفه لفائدة الدولة.

6- الدولة الدستورية

عند أرسطو الدولة الدستورية هي المثال الأعلى[1]، فهو لا يؤمن ولا يثق بالحكم المطلق مهما كانت
صفات الحاكم، حتى ولو كان ذلك الحاكم هو الفيلسوف نفسه. في فقه الدولة الدستورية الأرسطي ـ إذا صحّت العبارة ـ فإن الضمان الوحيد للحكم الصالح هو القانون، وهو البديل الثابت الموثوق به للحاكم الفيلسوف، ومن هنا فضّل الحكم الدستوري على القانون، وتميز باستهدافه الصالح العام، وبارتكاز إدارته على قواعد عامة لا على أوامر، وتأدية حكومته معنى المواطنين الراضين عن الحكم لا المرغمين عليه[2].

وحين يعود أرسطو ليتفق مع أفلاطون حول تبنّي الهدف الأخلاقي للدولة، ويروح يبحث عن أفضل شكل عملي للحكومة، يجد أنه الشكل الذي يجمع بين العناصر الصالحة في كلٍّ من الديمقراطية والأليجاركية، هو ما أطلق عليه اسم الحكومة الدستورية. أما هذا الشكل فإنه يتوفّر بوجود طبقةٍ متوسطةٍ قويةٍ تتألف من متوسطي الحال المالي، وهي الطبقة التي يمكن أن تتّسع لتجعل للدولة

(60)

قاعدةً شعبية. ومن هنا نعرف أن ما يرمي إليه أرسطو هو تحقيق عنصر التوزان في البعدَين المادي والروحي للكائن الإنساني.

7- دولة الإنسان السعيد

فكرة هذا النوع من الدول القديمة ابتدعها الأبيقوريون على وجه الخصوص. فلقد كان من النتائج المترتبة على قيام حلف كورنثيا وإمبراطورية الإسكندر اضمحلال دولة المدينة، الأمر الذي أدى إلى ضعف الشعور القومي الذي كان يميز دولة المدينة، وانفصال الفرد عن الدولة.

ومن هنا كان لا بد أن تحلّ أوجهٌ للنشاط غير النشاط السياسي. وهكذا انتقلت الفلسفة إلى البحث عن وسائل إسعاد الإنسان بمعزلٍ عن الدولة. وهكذا غابت الفلسفة التي كانت تبحث في سعادة الفرد باعتباره مواطنًا. ولكن كان لهذه الفلسفة أثرٌ اجتماعيٌ مهم، حيث نشأ عنها تسليم أن لم تكن دعوة إلى المساواة التامة بين الأفراد، بما فيهم العبيد والبرابرة وأصحاب الحرف اليدوية. وبما أن الغاية الأسمى للحياة هي تحقيق سعادة الفرد من خلال توفير إشباع رغباته الروحية والثقافية والمادية، وبما أن الدولة هي نتاج الإنسانية، ذلك أن الفرد لم يشترك في تحقيقها إلا لتأمين مصالحه الشخصية البحتة. وبما أن القانون هو اتّفاقٌ نفعيٌ أوجده الأفراد لتحقيق الطمأنينة في معيشتهم.. لذلك فلا بأس من خضوع الأفراد خضوعًا تامًا لأية حكومةٍ تعمل

(61)

على تحقيق السلام والنظام سواء كان النظام استبداديًا أو ديمقراطيا[1].

8- دولة السيادة المطلقة

أخذ الرومان بفكرة السيادة المطلقة للدولة، وهو ما اصطلحوا عليه بـتسمية Imperium [2]. وتنطلق الفكرة الرومانية من مبدأ العقد الحكومي الذي يحيل الشعب سلطته إلى الحاكم، من دون أن يكون للشعب حق انتزاع هذه السلطة منه.

9- مدينة الله

جاءت نظرية «مدينة الله» كثمرةٍ لجهود القديس أوغسطين (354-430م). أما غايتها فمن أجل أن تدافع عن الرؤية الخلاصية للمسيحية في مواجهة التيار الوثني الروماني.

يرى القديس أوغسطين أن الإنسان مكوّنٌ من عنصرين: عنصر الروح وعنصر الجسد، لذلك فهو ينتمي إلى وطنين، أولهما الأرض والآخر السماء. وتاريخ البشرية برأيه، هو وليد الصراع بين المجتمع الدنيوي الذي تسيطر عليه قوى الشر الناتجة عن غرائز الإنسان الجسدية البحتة، ومن مظاهرها الطمع وحب التملك (مملكة الشيطان)، والمجتمع  الروحاني الذي تسيطر عليه قوى الخير ومظاهره حب السلام (مدينة الله). ولا بد في النهاية ـ حسب

(62)

أوغسطين ـ من انتصار مدينة الله لأنها هي الخالدة، وما سقوط الإمبراطورية الرومانية إلا لكونها مجرّد مملكةٍ دنيويةٍ[1].

المبحث الثاني: أنواع الحكومات القديمة

يقسّم أفلاطون الحكومات إلى خمسة أشكال رئيسة هي: التيموكراثية، الأوليغارشية، الديمقراطية، الطغيانية، وحكومة الفلاسفة.

1- الحكومة التيموكراثية

يتصف هذا النوع من الحكومات بما يسمى «مفهوم الشرف». فالدولة التيموكراثية تُعرَّف من جانب أفلاطون من خلال التحليلين التاليين: الزعماء والقادة يستفيدون أو يحصلون على تقدير كبير من قبل الجسم الاجتماعي، أما المجتمع فهو مقسوم إلى طبقاتٍ مغلقةٍ كلٌّ منها متخصصةٌ في ممارسةٍ خاصةٍ للوظيفة التي أُسندت إليها[2]؛ هذه الطبقات هي: المحاربون، الكهنة، المنتجون، والتي تمارس باحترام مهمات القيادة وحماية المجموعة. والنظام التيموكراثي الذي تحدّث عنه أفلاطون وجد بشكل فعلي في عملية تنظيم السلطة في أسبرطة، والتي أعجب بها كثيرًا. حيث اعتبر هذا الشكل من الحكومات أمرًا جيدًا بسبب ارتكازه إلى مبادئ يعتبرها عادلةً، وتحترم تخصُّص كل مجموعةٍ في ممارسة وظيفةٍ محددة.

(63)

2- الحكومة الأوليغارشية

وفق تعريف أفلاطون فإن المعيار المحدد للحكومة الأوليغارشية هو الغنى[1]، ضمن هذا المعنى يُمارَس الحكم من قبل الأشخاص الأكثر غنى، والذين سيحكمون بشكل طبيعي من أجل استخدام السلطة لزيادة غناهم بشكل أكبر. واللافت أن هذه الحكومة تكتسب طابعها الأخلاقي من خال وظيفتها والدور الذي تتولّاه. حيث يعتبر الغنى الفضيلة الاجتماعية الأساسية، وهي تدخل في تناقض مع القيم الأخرى.

3- الحكومة الديمقراطية

تتخذ الديمقراطية في فكر أفلاطون بُعدًا طبقيًا، وهي ذات معنى يختلف عن المعنى الذي يُتداول في أيامنا. فالديمقراطية هي حكومة الفقراء ضد الأغنياء، أي هي حكومة العدد الأكبر، لأن الغالبية في المجتمع هم من الفقراء. والديمقراطية وفق أفلاطون هي نظامٌ مدانٌ لعدّة أسباب: أولًا، الديمقراطية هي شكل سيّئ للحكومة، حيث إنها لا تحترم التخصص الضروري لمختلف الفئات الاجتماعية في ممارستها لوظائفها المحددة. وثانيًا، لأنها تشكّل أو تؤدي إلى استمرار الصراع بين الأغنياء والفقراء، وهذا أيضًا كما في النظام الأوليغارشي يهدّد وحدة المجتمع. ثالثًا وأخيرًا، أفلاطون يدين الديمقراطية لأنها بالضرورة النظام الذي يعطي مميزات لعديمي الكفاءة والمؤهلات[2].

(64)

4- حكومة الطغيان

هي الحكومة التي يديرها شخصٌ واحدٌ لا يخضع لدستور ولا يحترم القانون. وهذا النظام مدانٌ بشكل كبير من جانب أفلاطون. وخطيئة هذا النظام أنّه يخضع لإرادة وقيادة فرد واحد في إصدار أو توقيف القرارات وهو بهذه الصفات نظامٌ بعيدٌ عن الفضيلة. بالإضافة إلى ذلك هو نظام الطغيان الذي لا يترك إلا مساحةً صغيرةً جدًا للعقل، ويرتكز بشكلٍ واسعٍ على ممارسة العنف من أجل فرض إرادة الطاغية.

 -5 حكومة الفلاسفة

تقوم هذه الحكومة على مجموعةٍ من الأركان وردت في أعمال أفلاطون الكاملة[1].. وهي تندرج في ما يلي:

أولًا، الفيلسوف يعرف الحقيقة: ومعرفة الحقيقة وفق أفلاطون شيءٌ صعب. فهي تفترض اختيارًا قاسيًا وتكوينًا للعقل والروح عند الإنسان خلال سنواتٍ طويلة. والفيلسوف ليس فقط مفكرًا يهتم بالقضايا المجرّدة، بل يمكن أن يكون عسكريًا ويواجه كل صعوبات الحياة اليومية. 

(65)

ثانيًا، الفيلسوف ـ الملك يحكم وفق العدالة: حكومة الفلاسفة التي يقترحها أفلاطون ليست حكومة العلم، ولكن حكومة «الحقيقة» وحكومة العدالة. فقط الناس العادلون والفضلاء يستطيعون ممارسة الحكم.

الحكومات المختلفة عند أرسطو

اعتمد أرسطو مجموعةً من الوقائع في هندسته المعرفية للحكومة جاءت كالتالي:

أ- المدينة:

من خلال الوقائع السياسية التي عاشها أرسطو في زمنه نراه يعالج ويحلّل موضوع «المدينة» كوحدةٍ أساسيةٍ للتحليل. والمدينة بالنسبة إليه ليست مخلوقًا إنسانيًا، بل هي تُشكّل معطًى طبيعيًا: «إذ من الواضح أن المدينة هي حقيقةٌ طبيعيةٌ وأن الإنسان هو بالطبيعة كائنٌ موجه للعيش في مدينة»[1].

ب- طبيعة السلطة:

يتناول أرسطو هذا الموضوع من خلال معرفة ما إذا كانت السلطة «كلًا واحدًا» في طبيعتها أم هي متعدّدة. ولذا فهو يعترض كليًا على المفهوم القائل «بوحدة طبيعة السلطة». ومن هنا يوجّه انتقاداته للأطروحات التي تدافع عن «وحدة السلطة». كما نراه في النص الأرسطي التالي: «البعض يعتقد بوجود علم أو معرفة، إنه سلطة السيد وهي نفس الشيء بالنسبة لرب العائلة، السيد، رجل الدولة و الملك... والبعض

(66)

الآخر يرى أن سيطرة وهيمنة السيد هي ضد الطبيعة، في الواقع إنه القانون، هو الذي يجعل هذا عبدًا وذاك حرًا؛ وفي الحالة الطبيعة لا يوجد فرق، كذلك التسلّط ليس عدلًا لأنه عنيف»[1].

ج- المواطن:

وفق أرسطو، المواطن ليس بالضرورة أن يعرَّف أو يوصَّف من خلال إقامته في إقليم محدّد. وهنا يستند في مرجعية التعريف إلى أوضاع المواطنين في المدن اليونانية القديمة وخاصةً في أثينا. ثم يقترح التالي: «أيًا كان لديه الإمكانية بالمشاركة في السلطة التنفيذية أو القضائية؛ نستطيع القول إنه مواطنٌ في هذه المدينة»[2].

د- الدستور:

في تعريفه لوظيفة الدستور يرى أرسطو بأنه «تنظيمٌ مختلفُ الهيئات القضائية في المدينة، وبشكلٍ خاصٍّ تلك التي تضمن السلطة السيادية في كل مكان، والحكومة في الواقع تمتلك السلطة العليا في المدينة، ومن هنا، يصير الدستور هو الحكومة»[3].

(67)
(68)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

الدولة بين زمنين

 

(69)

منتهى العصور الوسطى ومبتدأ الحداثة

لم تفارق قيم الدولة القديمة فلسفيًا وأخلاقيًا وسياسيًا اللحظات التأسيسية الأولى للدولة الحديثة. على المستوى الفلسفي، سيكون من الخطأ افتراض أن يكون ثمة تاريخٌ دقيقٌ لنهاية ثقافة العصور الوسطى. وهي الثقافة التي يرى عددٌ من المؤرخين أنها لمّا تزل ساريةً في حقول الفكر  الإنساني، والغربي بخاصة، حتى يومنا هذا[1].

إرهاصات الحداثة وأحقابها

كتَّاب كثيرون في إيطاليا القرن الخامس عشر استبقوا الفلسفة الحديثة في مسائل متعدّدة، ويمكن أن ننظر إليهم على أنّهم بشّروا بهذه الفلسفة وقيمها السياسية. فإحياء دراسة الآداب اليونانية والرومانية في أكاديمية فلورنسا عام 1440 ـ ضمن محاولة محاكاةٍ واعيةٍ لأكاديمية أفلاطون ـ تدلّ على رغبةٍ قويةٍ في فهم الفلسفة القديمة بروح القدماء أنفسهم. وربما يكون أفضل تاريخ يوضع لبداية الفلسفة الحديثة ـ مع أنه حكم تعسُّفي إلى حدٍ كبيرٍ ـ هو عام 1453، عندما استولى الأتراك على القسطنطينية وقضوا على الإمبرطورية البيزنطية، وجاء معظم الباحثون اليونانيون إلى إيطاليا، وثارت فيهم الرغبة لفهم الفلسفة اليونانية القديمة من وجهة نظرٍ علمانية[2].

(70)

حقبة الفلسفة الحديثة التي بدأت عام 1453 سُمِّيت باسم عصر النهضة. وهي تقسّم تقسيمًا فرعيًا إلى فترتين: الأولى هي الفترة الإنسانية، أما الفترة الثانية من عصر النهضة فيؤرَّخ لها ابتداءً من 1600 حتى 1690. وهذه الفترة هي القرن الذي لمعت فيه أسماء رياديةٌ في عالم الفكر والفلسفة أمثال: فرنسيس بيكون وتوماس هوبز في إنجلترا، وديكارت واسبينوزا وليبنتس في أوروبا. وقد قبل جميع فلاسفة تلك الفترة بوعيٍ مناهجَ ووجهات نظر العلماء الطبيعيين المعاصرين لهم، وقد ساهموا بدورهم في بعض الأحيان في علوم الرياضيات والعلوم الطبية. ولقد كانوا جميعًا على ثقةٍ من نجاح الفلسفة العظيم في الكشف عن طبيعة الواقع. وعلى الرغم من أن تلك الفترة انتهت رسميًا عام 1690، فإن بعض فلاسفتها ـ مثل ديكارت واسبينوزا وليبنتاس ـ سيكون كان لهم تأثيرٌ كبيرٌ على كثيرٍ من فلاسفة القرن العشرين.

بعد عصر النهضة، كان افتتاح عصر التنوير بنشر كتاب جون لوك «مقال في الفهم الإنساني» عام 1690. وكان  من بين المفكّرين العظام في تلك الفترة: لوك وباركلي وهيوم في بريطانيا العظمى، وفولتير وروسو في فرنسا.

أما العصر المثالي أو ما سمي بـ«الفترة المثالية» فتبدأ رحلته عام 1781 (العام الذي ظهر فيه كتاب كانط «نقد العقل الخالص»)، ليستمرّ حتى موت هيغل في بداية القرن التاسع عشر (1831م).

(71)

لقد أصبح من المألوف أن نطلق على الأجيال في تاريخ الفلسفة الحديثة التي أعقبت رحيل هيغل اسم الفترة المعاصرة. الفترة التي حملت مؤثراتٍ آتية من فتراتٍ أخرى، حيث لم ينتهِ قط تأثير أيٍّ منها بالفعل. الجديد في الفترة المعاصرة هو تأثير فكرة التطور على الفلسفة، تلك الفكرة التي أصبحت مقبولةً قبولًا عامًا في مجال علم الفلك، والجيولوجيا، والبيولوجيا، كما قدمت منهجًا مختلفًا في فهم التاريخ والعلوم الاجتماعية المختلفة. وكان المذهبان الواقعي والبراغماتي يشكّلان اتجاهَين مميّزَين للقرن العشرين، خصوصًا في بريطانيا وأميركا.

في الإجمال يمكننا أن نصنّف الأحقاب التي مرّت فيها الحداثة في الغرب، على النحو التالي:

أ- عصر النهضة: الفترة الإنسانية: 1453 – 1600 (برونو).

ب- عصر العلم الطبيعي: 1600-1690 (بيكون، هوبرز، ديكارت، اسبينوزا، ليبنتس).

ج- عصر التنوير: 1690-1781 (لوك، باركلي، هيوم).

د- الفترة المثالية: 1781-1831 (كانط، فيخته، هيغل).

هـ- الفترة النقدية: منذ 1831 (شوبنهور، كونت، مل، سبنسر، نيتشه، رويس، جيمس، ديوي، برغسون، ألكسندر).

و- فترة ما بعد الحداثة (ماركس، هايدغر، فوكو، دريدا، ريكور، إلخ).

(72)

ز- فترة الحداثة الفائضة: نهاية القرن العشرين ومستهل القرن الحالي.

إذا كان الكُتّاب الذين اهتمّوا بفلسفة الدولة يدينون بالشيء الكثير للفلسفة اليونانية، فإنهم مدينون أيضًا للآباء المسيحيـين واللاهـوتيـين المتأخّرين. وكتاب أصول الحكم De Regimine Pricipium للقديس توما الأكوينـي الـذي وضعه في القرن الثالث عشر يتضمّن بعض الفقرات الجديرة بالاقتبـاس، لأنّها تعبّـر عن أفكارٍ تشترك فيها معظم أفكار الدولة في عصر النهضة. وأول هـذه الأفكار أن السعادة الإنسانية تعتمد على المبادئ الأخلاقية مثلما تعتمد حسب الأكويني على الرفاهية المادية.

 هناك شرطان ضروريان ـ يضعهما الأكويني في كتابه آنف الذكر ـ لكـي يـحـيـا الـفـرد حـيـاةً طـيّـبـة. أوّلهما وأكثرهما أهمّيةً أن يسلك سلوكًا فاضلًا، لأن الفضيلة هي التي تتيح للإنسان أن يحيا حياةً رضِيّةً. أما الشرط الثاني، وهو ثانوي ويعد بمنزلة الأداة أو الوسيلة، ومؤداه: كفاية تلك الخيرات المادية التي يكون استخدامها ضروريًا لكي يسلك المرء سلوكًا فاضلًا[1].

لقد كان من المستحيل على كُتّاب عصر النهضة أن يتصوّروا مجتمعاتهم المثالية بشكلٍ كامل، على غرار تلك المجتمعات التي تصوّرها مفكّرو الإغريق، لأن بنية مجتمعهم الماثل أمام أعينهم كانت مـخـتـلـفـةً اخـتـلافـًا أسـاسـيـًا عـن مثيلتها في اليونان

(73)

القديمة. ذلك بأن المدينة الأثينية أو الإسبرطية ـ بتقسـيـمـهـا الصارم للسكان إلى مواطنين وعبيد، واقتصادها البدائي المعتمد في أغلبه على الزراعة ـ لم يكن من الممكن أن تنتقل إلى مجتمع القرن السادس عشر، من دون أن تخضع لبعض التغيُّـرات الجذرية. مع هذا تمكّنت أفكار عصر النهضة من إدخال بعض التجديدات المهمة. كانت المدينة الوسيطـة قـد فـشـلـت فـي أن تـربـط نـفـسـهـا بـطـبـقـة الفلاحين، وكان هذا الفشل أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تدهورها. وقـد أدرك المفكّرون في القرنين السادس عشر والسابع عشر ـ كما فعل القديس توما الأكويني من قبل ـ أن المجتمع المستقرّ يجب أن يحقّق التكامل بين المدينة والقرية، وبين الحِرَفيّين والفلّاحين، وأن الزراعة يجب أن تأخذ وضعًا مشرّفًا ومتساويًا مع الحِرَف الأخرى.

وكما وجدنا عند الإغريق تحت ضغط ظروفٍ معيّنة، فقد جرت محاولات لإيجاد دساتير مثاليةٍ تسعى إلى حـل المـشـاكـل الاجـتـمـاعـيـة مـن خلال الإصلاحات السياسية، بدلًا من السعي إلى إقامة نـظـامٍ اجـتـمـاعـيٍ جديدٍ بالكامل. ومن أصحاب الدساتير المثالية في تلك الفترة جـان بـودان (1530 ـ 1596) الذي ربّـما كان تأثيره بالغًا جدًا على نظريّات الدولة. لقد قاوم هذا الـفـيـلـسـوف الفرنسي مقاومةً شديدةً إغراء الرغبة في بناء «جمهوريـةٍ خـيـالـيـةٍ وبـغـيـر فاعلية، مثل تلك التي تخيّلها أفلاطـون وتـومـاس مـور مـسـتـشـار إنجـلـتـرا».

اعتقد بودان، مثل أرسطو، بأن الملكية الخاصّة والمؤسّسات

(74)

الأسرية يجب أن تبقى بغير مساس، ولكنه آمن أيضًا بضرورة وجود الدولة القويـة الـتـي تكون قادرةً على الحفاظ على وحدة الأمة. كانت فرنسا فـي الـوقـت الـذي كتب فيه بودان جمهوريّته (1557) ممزّقةً بالحروب الدينية، وكانت قد بدأت تنمو فيها حركةٌ تؤيّد إنشاء دولةٍ ملكيةٍ تكون من القوة بحيث تمنع الصراعات الدينية، وتسمح في الوقت نفسه بالحرية السياسية والدينية. وقد استجابت نظريات بودان لهذه الحاجات والمشاغل المُلِحّة، وقرئت أعماله في كل أنحاء أوروبا. وقد قام هو نفسه بترجمة كتاب «الجمهورية» la Républigue لأفلاطون إلى اللاتينية عام  1586، بعد أن تُرجمت بالفعل إلى الإيطـالـيـة والإسـبـانـيـة والألمـانـيـة. ويبدو أن أفكاره لقيت اهتمامًا مماثلًا في إنجلترا، فـعـنـدمـا حـضـر بـودان إلى هذا البلد عام 1579، نُظمَّت محاضراتٌ خاصّةٌ في كلٍّ من لندن وكمبريدج لشرح كتابه.

لم تنأَ حركة الإصلاح الديني التي انطلقت في أوروبا في القرن الخامس عشر عن الجدل الفلسفي واللاهوتي حول نظرية الدولة، والمضامين السياسية والأخلاقية التي ينبغي اعتمادها كبديل من إقطاعيات القرون الوسطى.

كانت أطروحة مارتن لوثر (1483-1546) تلتحق بالأطروحة الأصلية عند القديس أوغسطين: كل أعمال السلطات الزمنية يجب أن تكون معتبرةً كإرادةٍ أو مشيئةٍ سماويةٍ إلهية، يقول لوثر: الملوك أو الأمراء واجبهم استخدام السلطات التي أعطاهم إياها الله، وعليهم الانشغال بكل حاجات شعوبهم من سلام وازدهار. عليهم

(75)

ألا يستغلّوا سلطاتهم وخاصّةً ضد ما يتعلّق بحرية العقيدة. إذًا، هنا يضع لوثر حدودًا للسلطة المطلقة للملوك، فعلينا ألا نخضع لهم عندما لا يظهرون الرحمة[1].

هذه الحدود اللوثرية للسلطة تختلف بشكل كبير عن تلك الحدود التي ستضعها فيما بعد التقاليد الليبرالية، وكما سنراها في الفصول اللاحقة. هذا الاختلاف يأتي من جانبين:

الأول: لوثر، ومن أجل إنشاء هذا الحد في الخضوع الواجب للحكم، لا يستند على بعض القواعد السامية كما هي في القانون الطبيعي، بل يستند على أن الحكومات لن تذهب ضد إرادة الله، وحيث إن القديسين في الأرض هم متحدثون باسم الله، فالقانون الطبيعي بحد ذاته ليس له أية قيمة.

ثانيًا: إذا أكّد لوثر حقّ المسيحي في عدم الخضوع للأوامر الإلحادية للحكومة، فإنه أيضًا يدين كل مقاومةٍ حقيقية. فالعقوبات الناتجة عن عدم الخضوع يجب ألا نتجنّبها لأنها تجارب من عند الله «علينا ألا نقاوم الطغيان، بل الألم مع الصبر». وبقطع النظر عما كان يقصده مارتن لوثر من أطروحاته ذات المصدر اللاهوتي، إلا أن النتائج التي ترتبت عليها ساعدت في ظهور الملكية المطلقة في أوروبا الشمالية، ألمانيا، اسكندنافيا وفي مناطق أخرى، وبشكل أقل بكثير في إنكلترا. وجاءت كتابات كل من Philippe Melanchton  1496 ـ 1540 في ألمانيا، و  William Tyndale 1495 ـ  1536 في

(76)

إنكلترا، لتطوِّر بشكلٍ كبيرٍ المبادئ السياسية عند مارتن لوثر. هذان الكاتبان اقتسما مع غيرهم أيضا أفكار سيد Wittenberg والتي تقول بأن النظام الاجتماعي هو مشيئة الله أو بمشيئة سماوية ومن الخطأ القيام بثورة ضده[1].

التنظير الحديث لمفهوم الدولة

يشير الباحثون في تاريخ التشكُّل الفلسفي ـ السياسي لمفهوم الدولة الحديثة إلى أنه  بعد «أمير» ماكيافلي بقليل سيمضي أربعةٌ من علماء القانون والاجتماع السياسي إلى وضع الخطوط العامة للهندسة المعرفية لأطروحة الدولة السيِّدة. وهؤلاء هم: جان بودان (1530 – 1596) وفرانسيسكو دوفيتوريا (1490 – 1546) وفرانسيسكو سوارز (1543 – 1617) وهوغو غروتيوس (1583 – 1645).

وبدءًا من هؤلاء، وتحديدًا مع دوفيتوريا وسوارز وغروتيوس، سوف نشهد بحوثًا علميةً دقيقةً تتناول مسائل العلاقات بين الدول، وفي ضوئها ستتحدَّد جملةٌ من المفاهيم التأسيسية للسيادة، باعتبار أنّ هؤلاء هم من أوائل مؤسِّسي القانون الدولي. كما سيكون لأبحاثهم وتنظيراتهم الأثر البيِّـن في رسم وتعيين الإطار النظري لمفاهيم السيادة القومية.

 في ما يلي نعرض باقتضابٍ ما جاء به هؤلاء:

(77)

أ- تنظير ماكيافلي:

مع نيقولا ماكيافلي (1469 – 1527) في مصنَّفه الشهير «الأمير» (1515)، سيكون لنا لقاءٌ مرجعيٌ مع مفهوم «الدولة السيِّدة» بمعناها الحديث. فهو أوّل من استعمل عبارة «الدولة»، لما انكبَّ في تلك الحقبة من تاريخ إيطاليا على تأصيل المفهوم وتعيين مرتكزاته النظرية والأخلاقية. آنذاك كانت السلطة السياسية تأخذ بالتمركز حول الملك بعد انتزاعها من أيدي الأرستقراطيين وطبقة الإقطاع. جل همّ الفلسفة الماكيافلّية كان توفير عوامل القوة والاقتدار لدى «الأمير». فالمحافظة على مركزية سلطة الدولة تستلزم القوّة والعقل الصارم، بعيدًا من المواقف العاطفية والأحكام الأخلاقية المسبقة، مواقف الحب والكراهية، وخيانة العهود، وهو الذي حدا بكاسيرر في كتابه المعروف «الأسطورة والدولة» إلى التنبيه على أنَّ قراءة نصوص ماكيافلي تحتاج أكثر من غيرها إلى الواقعية واجتناب ما يؤدي إلى النظر إليها من ضمن دائرة الأحكام القيمية. فـ«الأمير» عند ماكيافلي هو الدولة بعينها، والنصّ الذي جاءنا به منذ نحو خمسة قرون إنما هو تأسيس للدولة بغضّ النظر عن نظام الحكم. وهذا ما يجيز القول إنّ هدفه من «الأمير» هو بالدرجة الأولى محاولةٌ نظريةٌ تسعى إلى ضبط الانهيار في الأمّة الإيطالية ووقف حال التذرر والانقسام؛ خصوصًا إذا عرفنا أنّ الدويلات الثلاث التي كانت تضمُّها إيطاليا في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر (نابولي في الجنوب، ودولة البابا في روما، وجمهورية فلورنسا ومملكة ميلانو في الشمال) ستكون

(78)

سببًا في نزع سيادة الأمّة من خلال التهديدات الخارجية من جانب فرنسا وإسبانيا.

وهكذا فإنَّ الموضوع المتميِّز والجديد والمستقلّ لحقل السياسة عند ماكيافلي هو الدولة. دولة الأرض والإنسان. وهو ما يبيِّنه الفرنسي إميل نامير E. Namer حيث رأى إلى صاحب «الأمير» على أنه مؤسِّس العلم السياسي، وذلك لأنّه ولأوّل مرّةٍ نجد عنده تحديدًا لموضوع «السياسي» بما هو الدولة. وهذه الأخيرة في نظره حقيقةٌ عيانيةٌ، حيَّةٌ ومتميَّزةٌ، وخاضعةٌ لتحولاتٍ مضبوطة، ومن جهة أخرى فهو يرفض كل نظريةٍ ناشئةٍ عن خيالٍ بعيدٍ أو تأمُّلٍ مجرَّد، أي كل دولةٍ لا تعتمد على تجربةٍ مشاهَدة[1].

ب- تنظير هوبز:

بعد المرحلة التأسيسية الأولى، سوف يشهد الغرب الممتلئ باحتمالات التغيير تحولاتٍ راديكاليةً في المفاهيم المتعلّقة بالدولة السيّدة. وسيكون لهذه التحولات الفعل الحقيقي للانطلاق نحو الحداثة. سيأتي هوبز (1588 – 1679) بعد ماكيافلي بنحو قرنٍ ليقول بنظرية الوضع الطبيعي، لكنّه سيأخذ من المؤسِّسين الأربعة المذكورين الكثير. لقد لاحظ من جانبه أنَّ الوضع الطبيعي لحياة الناس هو أن تكون حياةً فقيرةً وبغيضةً وفظَّةً وقصيرة. فلكي يهرب الناس من هذا الوضع الطبيعي أبدعوا مخلوقاتٍ مصطنعةً لها السيادة، وأخذت تهيمن بالسيف. أبدعوا «وحوشًا أسطوريةً كبرى».

(79)

وكانت القوى الفاعلة الأساسية في التاريخ هي هذه الوحوش الأسطورية الكبرى التي هي كياناتٌ ومنظماتٌ كلية، كبيرة، وشاملة، ومركَّبة، بقدرٍ كافٍ للسيطرة على المجالات التي تتم فيها العمليات.

وعلى ما يمضي إليه التأويل الهوبزي، فإنَّه قبل العصر الحديث كانت هذه «الوحوش الأسطورية الكبرى» تتمثَّل في المدن ـ الدول بالسادة الإقطاعيين، والإمبراطوريات المتعدّدة الأجناس، وفي مجموعها، لم يكن معظم هذه الكيانات، دولًا كبيرةً جدًا، أو متلاحمةً جدًا، أي إنها لم تكن وحوشًا أسطوريةً كبيرةً حقًا. أما في العصر الحديث، فقد أصبحت أممًا ـ دولًا، وحوشًا أسطوريةً كبيرة جدًا في الواقع. وكانت الدول الكبرى هي أكبر هذه الوحوش الأسطورية، وأكبر صنّاع التاريخ الحديث. 

إن ما يعلنه هوبز هو توصيف لعلَّة قيام الدولة وأدوارها وآليات تحوُّلها. وهو في هذا يُبيِّـن الوجهين الوجوديَّين اللذين يَسمان الدولة بالتعريف؛ الوجه الإنساني الحضاري والوجه الوحشي البدائي. ويتّفق فلاسفة الاجتماع السياسي على أنَّ قيام الدولة يوجب تلازم الوجهين المذكورين في آن، تمامًا مثلما هي نزاعات الخير والشر التي تنطوي عليها النفس البشرية، بينما يقوم العقل بدوره الناظم لتيّاراتها، والضبط لأهوائها، وشغفها، وفوضاها.

كان هوبز مهجوسًا بالأمن وكان الأمن إحدى أخطر الكلمات في مذهبه السياسي. فهي تحدِّد موضوع ومحتوى السياسي ـ أي الدولة[1].

(80)

ذاك أنَّ غاية السياسي الأولى هي في الحقيقة ضمان أمن المواطنين، ويجب أن تتّجه كافّة أعمال الحاكم نحو هذه الغاية. فإذا كان الأمن يعرِّف الدولة المدنية ومن ثم «السياسي»، فإنَّ اللاأمن، على العكس، هو من مجال غير سياسي. فقبل نشوء المجتمع المدني، تُعرَّف حالة الطبيعة بصفتها حالة اللاأمن. فتحت حكم الدولة، يبقى خطر اللاأمن قائمًا إلى الحد الذي يقبل معه هوبز استثناءً واحدًا لالتزام المواطنين الطاعة لملكهم هو: حين لا يتوصّل هذا الأخير إلى ضمان أمنهم.

قوام الدولة إذًا هو هذا السلطان الذي اسمه الأمن. إنَّه علَّة ابتدائها وصعودها واضمحلالها وضمور شأنها ومن ثم موتها. إنَّ الأمن بيد الدولة هو لتعقيل عالم الطبيعة الغريزي وجعله عالمًا مدنيًا محكومًا بنظام. لذلك فإنَّ الخوف من جنون عالم الغريزة هو ما يدفع بالجماعات البشرية إلى تبديده عبر صناعة خوق أقل.. وبهذا المعنى فإنَّ الانتقال من حالة الطبيعية إلى الدولة المدنية هو الانتقال من خوف يكابده الإنسان إلى خوف يرضى به ويقبله. لكن الانتقال المنشود من عالم الذعر المطلق إلى عالم الرضى النسبي لن يتم بدون العقل. فبوساطة هذا الأخير يشق المرء سبيله إلى الدولة وعالم اللامعقول.

إنَّ هذه الصيرورة بدأت بتشريعٍ يجعل من الأفراد مجرّد قرابين فداءٍ للدولة، بتشريع «يفلسف» الضرورة التي هي طريق بلوغ الدولة، إلى حدٍّ ارتضى معه جلّ فلاسفة الاجتماع السياسي الغربي تحويل الفرد إلى فريسة يلتهمها الوحش الرابض فوق هامة المجتمع. ها هو ماكيافلي، الذي أسَّس للدولة من خلال تأسيسه لـ«الأمير»، يذهب ـ كما سبق وأشرنا ـ إلى وضعها في ذروة القداسة. كذلك

(81)

فعل بعد زمن طويل هيغل، حيث جعل الدولة معطىً إلهيًا كلِّـي الجبروت والطاعة. ومثلهما فعل ماركس وكثيرون ممن رأوا إلى الدولة بصفتها المعبود الأرضي الذي يجب أن يُطاع بلا تردُّد. لقد راح هوبز، بصفته المؤسِّس الأول الأنكلوساكسوني، شوطًا أبعد في تقديس الدولة. وهو بذلك كان أوّل داعيةٍ لجعل الدولة نابعةً كليًا عن سلطانها شبه المطلق. فلقد أبدل بذلك شرعية الحق الإلهي لأباطرة القرون الوسطى الحاكمين باسم الله على الأرض، بدولةٍ علمانيةٍ مطلقة السلطة بفعل عقدٍ تنازل الأفراد بواسطته مرةً واحدةً عن حقِّهم الطبيعي للفوز بالقانون الذي يقنِّن شريعة القوة ويعترف بصراع المصالح بديلًا من الحقوق الأولى. ففي مرحلة دولة المجتمع لا ينقضي صراع التنافس، ولا يختفي الظلم والعدوان. ولكن بفضل القانون تتم عقلنة الصراع والظلم ضمن الحسابات الدقيقة لمعادلات المصالح بين مراكز القوى الخفية والظاهرة في التراتب الاجتماعي. وهذه الحسابات تهدف إلى السيطرة على عوامل «الشر» المؤلِّفة لما يدعوه هوبز «بالطبيعة الإنسانية». لقد بيَّن هذا الأخير تشاؤمه من الطبيعة الإنسانية بالاستناد إلى تحليل نفسي/اجتماعي للنماذج السلوكية التي تقدمها له الحياة اليومية في عصره. إنَّ هذا أيضًا ما أوجد المبرِّر الواقعي الذي جعل ماكيافلي قبل قرن من الزمن يكتب «الأمير». إذ وجدت استراتيجيته حول السلطة تمثّلاتها وكمالاتها العلمية عبر تجربة هوبز الفلسفية في كشفه عن الطبيعة الإنسانية وضرورة اصطناع الدولة، ذلك «الوحش المسخ الذي لا بدّ منه للحدِّ من شرور الإنسان»[1].

(82)

صحيح أنَّ هذا الفيلسوف البريطاني وضع نظرياته في السيادة قبل ثورة الحداثة الفعلية بنحو قرن من الزمن، إلا أنَّه سيؤسِّس لمفاهيم لمّـا تزل راهنةً وسارية الفعالية في أزمنة الحداثة الفائضة. كتب هوبز متأثرًا بالحرب الأهلية التي كانت تشهدها بلاده. وأتت نظريته لتدعم السلطة المطلقة للحاكم من أجل إحلال السلم الداخلي. ولكن الأهم في النظرية هو ما يكمن في نتائجها على المستوى الدولي، أي في علاقات الدول فيما بينها[1].. لقد جاءت تفسيرات هوبز لتترجم الواقع الدولي في ذلك الحين، وخصوصًا بعد توقيع معاهدات وستفاليا. وقد ذهب عددٌ من الباحثين والمؤرِّخين إلى القول بأنها ما زالت تعبِّـر عن الواقع الدولي حتى يومنا هذا.

ج- تنظير جان بودان Jean Bodin: إليه يعود أوّل تعريف وتنظيم للسيادة. وقد عمل بودان على إيجاد الدعم القانوني لسلطة الملك في فرنسا من أجل بناء الدولة ومواجهة الإقطاع، وهو تكلم عن respuplica في تحديده للدولة معتبرًا أنَّ ميزتها الرئيسية هي التمتّع بالسلطة السيِّدة. فالسيادة لا يمكن لها إلا أن تكون دائمةً لا تتجزأ وهي أسمى من أية سلطة أخرى. ويعرِّف بودان السيادة بأنَّها «سلطة الأمر والإكراه من دون أن تكون مأمورةً أو مكروهةً من أيٍ كان على الأرض». ومن هذا التعريف اعتبر بودان أنَّ الأساس في الدولة هو السلطة العليا التي تسود وتتركَّز فيها كل السلطات الأخرى، ولها بُعدان، داخلي: «سيادة داخل الدولة»، وخارجي: «سيادة الدولة»[2].

(83)

د- تنظير دوفيتوريا Francisco de Vitoria: وضع هذا العلّامة الإسباني أطروحاته متأثِّرًا بالمسائل التي كانت تعاني منها بلاده نتيجة سياسة الاستعمار في القارة الجديدة: أميركا. وقد عالج مسألة معاملة السكان الأصليين، والسياسة الواجب اتّباعها لمواجهة مقاومتهم. وبعد تأكيده على مبدأ استقلال الدول بالنسبة للبابا، عمد إلى تبرير الاستعمار، ذلك عبر إجراء ضربٍ من المصالحة النظرية بين المستعمِر (بكسر الميم) والمستعمَر (بفتحها). فالشعوب الأصليون كائنات بشرية يجب احترامها ولا يمكن وصفها بالبرابرة. وهكذا فإنَّ المستعمر يتصرف على أساس واجب إنساني لمنع القتل والجرائم. ورأى دوفيتوريا أنَّ الحرب هي أقصى ما يمكن اللجوء إليه، ولا يمكن أن تكون غايتها إبادة العدو، بل إنَّ هدف الحرب هو فرض الضمانات التي تحقِّق احترام الأخلاق والقانون. واعتبر أنَّ الاستعمار له غاية أخرى وهي الدفاع عن حق عالمي في التبادل والاتصالات بين البشر، إذ إنه لا يمكن لأي مجتمعٍ أن يعيش منغلقًا على نفسه. والجديد عنده (عند دوفيتوريا) هو تأكيده على Jus Communications، وهو القانون الطبيعي للأفراد وحقّهم في التحرّك والإقامة حيث يشاؤون. فالأرض هي ملكيةٌ مشتركةٌ لكل الناس. وهذا يتضمَّن أن القانون الطبيعي للأفراد هو أسمى من امتيازات الدول. 

هـ - سوارز Francisco Suarez: وهو أيضًا إسباني، شارك في علمنة قواعد العلاقات الدولية، معتبرًا أنها «مجموعة من القواعد لمجموع الكائنات البشرية». ورأى أنَّ الجماعات المستقلّة والأمم لا يمكنها أن تستمرّ طويلًا من خلال الاعتماد على الاكتفاء الذاتي.

(84)

فهي ستضطر إلى الاستعانة بغيرها لمواجهة الحاجات الطارئة، ومن أجل ذلك فإنه يتوجب الأخذ بقواعد تنظيم هذه العلاقات.

 و- غروتيوس Hugo Grotius: ويُعتبر مؤلَّفه «في قانون الحرب والسلم» من أشهر الدراسات التي يتم الرجوع إليها كأساس لتطور القانون الدولي العام. وقد تضمَّن قواعد شاملةً لما يحتمل أن ينشأ بين الدول من علاقات. وترجع أهمية ما طرحه «غروتيوس» إلى كونه انطلق من فهمٍ جديدٍ للقانون الطبيعي، معتبرًا أنَّ قواعد هذا القانون يوجدها العقل، فهو يعترف بالسيادة، مشيرًا إلى أنَّ «أحكام السلطة السيدة مستقلّةٌ عن أية سلطة أعلى منها، والتي لا يمكن إبطالها من قبل أية إرادة إنسانية أخرى». ولكنه يرى أنَّ الدول السيِّدة لا يمكنها أن تغفل بعضها البعض، فالسيادة تحدّها قوّة القانون الطبيعي، أي الأخلاق المقبولة لدى كل الشعوب. «ويُعَلْمِن» غروتيوس هذه الأخلاق معتبرًا أنها تنحدر من الاستدلال: فعملٌ معيّنٌ هو أخلاقي أم لا يكون وفق انطباقه مع الطبيعة العقلانية.

وهكذا فإنَّ غروتيوس في منهجه هذا يكون أول مَنْ عَلْمَنَ القانون الطبيعي الذي سيصبح قانونًا عقلانيًا (...) وأخيرًا، تظهر أهمية تفسيرات «غروتيوس» في العلاقات الدولية بعد معاهدات وستفاليا. حيث سيكون لها أن تملأ نظريًا الفراغ الناتج عن اضمحلال سلطة البابا وبروز مجتمع الدول ذات السيادة(15). فالمعروف أنَّ هذه المعاهدات التي وُقّعت بعد حرب الثلاثين سنة بين الأقاليم الألمانية البروتستانتية والنمسا الكاثوليكية ـ والتي

(85)

انخرطت فيها في ما بعد السويد في الشمال وفرنسا في الجنوب ـ ذات أثرٍ كبيرٍ في تاريخ العلاقات الدولية، وكذلك في التطورات اللاحقة للقواعد والمفاهيم الدولية[1].

مفهوم دولة السيادة المطلقة

كثيرون توقّفوا ملِيًا أمام مفهوم السيادة المطلقة للدولة عند الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677)، ودورها في حفظ النظام العام. لعل رؤيته الواردة في كتابه المعروف «المطوّل اللاهوتي السياسي» هي الأبرز والأكثر إثارةً للجدل. ذلك بأن هذه الرؤية أوجدت تناقضًا مع كتابه الشهير «رسالة في التسامح»، حيث اعتبرها كثيرون نقضًا صريحًا لهذا الكتاب. بينما رأى آخرون أن سبينوزا كان عاجزًا في عمله الجديد عن ان يبقى أمينًا لمقاصده الأولى[2].

القاعدة التي يسترشد بها اسبينوزا يمكن إجمالها في ما يلي:

لكي تستطيع دولةٌ ما أن تبقى، فقد وَجَبَ أن تكون القضايا السياسية خاضعةً لنظام معيّـن، بحيث لن يكون بالإمكان استدراج الذين يديرون شؤونها، سواء أكان يرشدهم العقل أو الأهواء، لكي يظهروا أنفسهم غير مستقيمين أو سيئي التصرّف. «وإذا كانت الطبيعة البشرية مهيئةً لأن يرغب الناس أكثر في ما هو الأكثر نفعًا، فلن تكون هناك حاجةٌ لأي فنٍ للحفاظ على التوافق والاستقامة؛

(86)

بيد أنه من الأكيد أن الطبيعة البشرية مكونةٌ بشكلٍ آخر تمامًا؛ يجب إذًا بالضرورة إقامة الدولة (imperium) بحيث يقوم الجميع، الحاكمون والمحكومون، سواء أرادوا أم لا، بعمل ما يهمّ السلامة المشتركة، وبتعبير آخر، أن يكونوا مكرهين، بالرضا أو بالقوّة، عفويًا أو بالضرورة، على العيش وفق ما يرسمه العقل. والأمر كذلك عندما تكون قضايا الدولة منسّقةً بحيث لا يترك أي شيءٍ يتعلّق بالسلامة العامّة بدون تحفّظ إلى استقامة أيٍ كان...»[1].

هل نستخلص من هذه الصياغات أن اسبينوزا يستعيد لحسابه التشاؤم الإناسي Anthropologique الذي أخذه التقليد عن ماكيافلي («الناس شريرون»)؟ وسوف نجد ثانيةً هذه المسألة فيما بعد. والمجابهة التي تفرض نفسها بشكلٍ فوريٍ أكثر هي المجابهة بين «المطوّل السياسي» وبين فكر هوبس الذي كان مؤلّفاه الرئيسيان قد دخلا بسرعة إلى هولندا وتمت مناقشتهما. وسيعتبر هوبس على الفور أن مفهومي «الحق» و«القانون» هما ذاتهما متضادان، «كالحرية والموجب». فالحق الطبيعي للإنسان، أي حريته الفردية الأصلية، هو إذن غير محدود في ذاته. غير أنه أيضًا مدمّر للذات، إذ إن كل حقٍّ يتعدّى على الحقوق الأخرى جميعًا في «حرب كل واحد ضد كل واحد»، حيث تكون حياته ذاتها مهدّدةً، مما يولّد تناقضًا لا يحتمل، طالما أن الفرد يتوخّى قبل أي شيءٍ بقاءه بالذات، ويجب إذًا الخروج من ذلك.

ولكي يسود الأمن يجب أن يترك الحق الطبيعي مكانه إلى حقٍ

(87)

مدني، إلى نظامٍ قانونيٍ لا يمكن أن يَنتج إلا عن إكراهٍ متفوّقٍ ومحقَّقٍ قطعًا، فيستبدل بالفطرة (أي بالأفراد المستقلين) إذًا فردٌ «اصطناعي»، جسمٌ سياسيٌّ تكون فيه إرادة الأفراد ممثّلةً بكاملها بإرادة العاهل (القانون). وعن طريق «العقد الاجتماعي» من المفروض في الأفراد أن ينشئوا هم أنفسهم هذا التمثيل. ويظهر الجسم السياسي، في الرمية عينها، غير قابل للانقسام (طوال بقائه) بالطريقة نفسها بالنسبة إلى إرادة العاهل. إن معادلة القدرة بالحق قد تمّت إقامتها (أو ردّت إلى نصابها)، غير أنها لا تصلح إلا للعاهل نفسه. ما عدا المواطنين الخاصين الذين مُنحوا وحدهم حيّز حريةٍ مشروطةٍ، كبير إلى حد ما حسب ما تقتضيه الظروف. ومن الصحيح أننا نجد الملكية الخاصة داخلةً فيه في حدها الأدنى، ويشكّل ضمان الدولة لها العوض الرئيسي للعقد. هذه هي، بيانيًّا، استبدادية هوبس المؤسّسة على ما أمكن تسميته «الفردانية الملكية» [1]Individualisme Possessif.

يقول اسبينوزا في معرض بيان رؤيته: «إن غاية الدولة Resspublica هي الحرية في الواقع. لقد رأينا أن هناك أمرًا ضروريًّا لقيام دولة: أن تعود سلطة القرار إما إلى الجميع بشكلٍ جماعي، وإما إلى بعض الأفراد، وإما إلى فردٍ واحد. وفي الواقع، بما أن الحكم الحر للناس هو مختلفٌ إلى درجةٍ كبيرة، وأن كل واحد يعتقد نفسه الوحيد في معرفة شيءٍ، ولأنه من المستحيل أن يفكّر الجميع بالطريقة ذاتها وأن يتكلّموا بفمٍ واحد، فلن يستطيع الناس العيش في سلام إذا لم يتخلَّ كلّ واحدٍ عن حقّه في التصرّف حسب قرار تفكيره وحده، إذًا التخلي

(88)

عن حقه في التصرُّف بموجب قراره الخاص به، الذي تخلّى عنه وحسب، لا عن حق التفكير والحكم؛ وبالتالي لا يستطيع أحد، في الحقيقة، بدون الاعتداء على حق العاهل، أن يتصرّف ضدّ قراره، إلا أن بإمكانه، بحريةٍ تامّةٍ، أن يكوِّن لنفسه رأيًا، وأن يُصدر حكمه، وبنتيجة ذلك أن يتكلّم أيضًا، شريطة أن يتقيد بكلامه وتعليمه، وأن يدافع عن رأيه بالعقل وحده، لا بالحيلة، والغضب، والكراهية، ولا بنيّة تغيير شيءٍ ما في الدولة بسلطته الخاصة.

والمثل على ذلك هو في حالة إنسانٍ يبرهن على عبثية قانونٍ ما ويقترح إلغاءه علنًا، فإذا أخضع في الوقت عينه رأيه لحكم العاهل (الذي له وحده وظيفة إصدار القوانين وإلغائها)، وامتنع، منتظرًا، عن أي عملٍ مخالف لهذا القانون، فإنه يستحقّ الدولة بالتأكيد، ويكون قد تصرّف كأفضل المواطنين، وبالعكس، فإنه إذا فعل ذلك لاتهام الحاكم بعدم المساواة وإثارة كره الجمهور له، أو حاول، عن طريق العصيان، إلغاء هذا القانون رغمًا عن الحاكم، فلا يكون سوى مُخِلٍّ بالنظام ومتمرّد»[1].

الجسم السياسي

إذا كانت السياسة هي العلم (النظري والمطبق) للحفاظ على الدولة، فإن اسبينوزا قد قال ذلك من أول المطوّل السياسي إلى آخره. للسياسة إذًا غاية، وهذه الغاية، من وجهة نظر الدولة ذاتها، تظهر على أنها تطلُّبٌ سامٍ «للسلام العام» و«الانتظام العام» (سلم

(89)

وأمن وطاعة القوانين)، أو ان السياسة أيضًا تنزع إلى الحفاظ، في الوقت عينه، عل «مادة الدولة وعلى شكل مؤسّساتها» (وبالتالي الحق والقدرة للحاكم، سواء أكان ملكًا أو أرستقراطيًا أو الشعب). وبما أن «مادة» الدولة ليست سوى نظامٍ معيّـنٍ لعلاقاتٍ مستقرّةٍ بين حركات الأفراد (المطوّل السياسي 2، VI)، فإن هاتين الصيغتين تتوافقان على حقيقةٍ واحدة. الحفاظ على فردية الدولة الخاصة.

وعليه، يجب تصوُّر الدولة ذاتها كفرد، أو بالأصحّ كفردٍ مكوَّنٍ من أفراد، له «جسم» و«نفس» أو فكر mens (المطوّل السياسي 1, X; 14, IX; 19, VIII, V1; 2, IV; III, 2-1, III)، ويجب اعتبار المواطنين، المنظور إليهم جميعهم معًا، أنهم معادلون لإنسان الفطرة (المطوّل السياسي 22، VII). مما يبدو فورًا أن اسبينوزا محسوبٌ على سلالة هوبس (Le Leviathan)، وبشكل أعمّ على سلالة تقليدٍ بكامله يعرّف الدولة بأنّها فرد، وقد عبر التاريخ  منذ اليونانيين حتى أيامنا هذه.

(90)

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

الدولة الحديثة

 

(91)

نظرياتها وفلسفتها السياسية

-1 مفهوم الدولة الحديثة

الدولة الحديثة دولةٌ ديموقراطية، ونظامها موضوعٌ تحت المراقبة الشعبية بوسيلتين هما: الإجراء الانتخابي البرلماني والنظام اللامركزي. ومجموعة الإدارة تخضع من جهةٍ إلى حكومةٍ مسؤولةٍ أمام جمعيةٍ منتخبةٍ أو أمام الشعب، ومن جهةٍ ثانيةٍ فإن الأجهزة التمثيلية تلعب دورًا متزايدًا في الإدارة نفسها، بدرجاتها المختلفة وفروعها المتعدّدة. ومع ذلك فإن توسيع الديموقراطية يؤثّر في أعمال الدولة وفي كيانها في الآن عينه. فهو يوسع مجالها وبالتالي طاقتها.

والدولة الحديثة دولةٌ حقيقية. وتعني هذه العبارة أن تصرفات الحكومة تخضع لقواعد ثابتةٍ وأكيدة، مثلما تعني أن الأفراد يستطيعون المطالبة باحترام هذه القواعد عن طريق إثارة حقوقهم، أمام قضاةٍ مستقلّين. ثم إن القواعد العامّة للتضامن الاجتماعي والرقابة الاقتصادية التي وضعها المشروع الحديث لا تستطيع أن تستوعب كامل قيمتها إلا إذا كانت الأطراف المعنية قادرةً على تفهُّمها واستعمالها والإفادة منها، وبهذا الشرط وحده يمكن أن لا تكون مجرّد آلةٍ للشعبوية أو الدكتاتورية.

تبدو فكرة الدولة الحديثة ذات اتجاهَين رئيسَين: من جهة، هي السلطة العليا الرفيعة الشأن، التي تتولّـى ممارسات التحكيم الأعلى

(92)

بين مختلف القوى الجماعية، وهي من جهةٍ أخرى تمثّل الجماعات في وحدتها. غير أنه إذا سادت السلطة السياسية نظريًا جميع أشكال السلطات الأخرى، فيجب مع ذلك أن تعدّ دائمًا في عدادها وإن لم تكن في الغالب سوى انعكاسٍ لها.

وإلى هذا، فإن الدولة هي المحل الهندسي والوحدة المثالية لجميع نقاط التحكيم المشار إليها. وهي بوصفها سيّدةً قادرةً على كل شيء لا تعيش إلا في ذهن خدامها، أي إنها على الأخص عمليةٌ فكريةٌ وفي الوقت نفسه توجيه العمل. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أهمية الدولة لدى الحكام والموظفين والوزراء والنواب، الذين يستطيعون أن يجعلوا من الدولة شيئًا غير مجرّدِ عبارةٍ فارغةٍ، بما يبذلونه من جهدٍ من قبيل توحيد أجهزتها المنفصلة وإحيائها.

2- المدارس المعرفية للدولة الحديثة

هناك أربعة توجّهاتٍ نظريةٍ رئيسيةٍ تنتمي إليها معظم الكتابات والتحليلات في مجال فلسفة الدولة الحديثة وهندستها المعرفية وهي[1]:

أولًا: المدرسة ذات التوجه الماكيافلي، ومن أقطابها مايكل وموسكا وبارتو. وهي تعتبر أن الدولة (والنظام السياسي) تقوم على الفصل الكامل بين الحكام والمحكومين. وتركّز على أهمية القهر في علاقات القوة، وتعتبر سيطرة القلة أو النخبة (المكوّنة من الأقوى

(93)

أو الأفضل) أمرًا مسلّمًا به مهما كان نوع النظام السياسي (ما يسمى القانون الحديدي للأوليغاركي).

ثانيًا: المدرسة ذات التوجّه الماركسي، التي تعتبر أن الدولة إما هي أداةٌ في يد الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج، وإما هي متغيّـرٌ بنائي في الصراع الطبقي، تخدم من خلال القيام بوظائفها الطبقة المسيطرة والنظام الرأسمالي. وإذا اختلف الماركسيون المحدثون حول مدى استقلالية الدولة عن الرأسمال، فإنهم لا يختلفون على دور الدولة في الصراع الطبقي.

ثالثًا: المدرسة ذات التوجه الفيبري[1]، وهي التي تلقى الرواج الأكبر في الغرب وخاصّةً في الأوساط الأكاديمية، وتركّز على استقلالية الدولة (فيما عُرف بالفصل بين الطبقة والمكانة والقوة) التي تجسّدها مؤسّساتٌ ذات طبيعة عقلانية، بحيث تكون ممارسة القوة نتاجًا للتنظيم البيروقراطي. إن الأهمية الاستثنائية للكتابات الفيبرية تكمن في معالجة البيروقراطية والشرعية كعمليات دينامية، وإن كان الكتّاب ذوو التوجّه الفيبري لا يتردّدون في الاستفادة من تنظيرات المدارس الأخرى.

رابعًا: المدرسة ذات التوجّه التعدّدي (Pluralist) التي يُطلَق عليها خطأً المدرسة الليبرالية، إذ إن هناك اتّجهات محافظةً جدًا في هذه المدرسة ومعادية لليبرالية كما في تيار اليمين الجديد الحاكم الآن في العالم الأنكلو ـ أميركي. ونقطة الانطلاق في هذه المدرسة

(94)

هي تبرير الدولة الدستورية في ظل الليبرالية التجارية، مدعيةً أن القوة الاجتماعية موزعةٌ بشكلٍ واسعٍ في المجتمع بين فئاتٍ وتنظيماتٍ متفاوتة الأنصبة من القوّة الاجتماعية. وإذا كان هؤلاء الكتّاب يتّفقون على ضرورة الحفاظ على الدستورية – الديمقراطية (ليس بالضرورة كونها مكاسب رأسمالية)، إلا أنهم يختلفون على ضرورة تدخّل الدولة ومدى هذا التدخّل في الاقتصاد والمجتمع في ما بين الذين يدعون إلى إصلاح الرأسمالية والذين يدعون إلى الحفاظ على روح الرأسمالية الأصلي (المطالب بحرية السوق ـ حرية الانترابرايز)[1].

وليس من شكٍّ فإن تبرير وجود الدولة، بناءً على هذا التصنيف، يعني أولًا تفسير علتها الكافية (raison suffisante)، وذلك من خلال إرجاعها إلى الأسباب التي جعلت وجودها ضروريًا. ويعني أيضًا إرجاع وجود هذه الدولة إلى ما يتعيّـن أن تكون عليه بفعل تأسيسها، وإلى المصدر المعياري الذي يجعلها شرعيةً. وهو أخيرًا الإقرار بخاصِّيَّتها العقلانية أو بحدودها، والمقصود بذلك ما يحدّد ممارستها أو ما يمكنها أن تفعله بالنسبة إلى ما هي عليه أو ما قد تصير إليه، وما يجعلها قابلةً للحياة (viable) وللاستمرارية (pérenne).

وإذًا، ليس من قبيل المصادفة أن تفرض مسألة منطق الدولة

(95)

نفسها بقوّةٍ على الفكر الفلسفي، خلال مرحلة الاضطرابات القصوى، مثل الحرب والحرب الأهلية والثورة. ففي أواخر القرن الثامن عشر وبفاصل بضع سنين، اندلعت ثورتان في جهتي المحيط الأطلسي؛ تم التمهيد للأولى بحربٍ من أجل استقلال المستعمرة التي كانت خاضعةً للإنجليز مدةً طويلة، أما الثانية، فاستمدت جذورها من تطوُّر المجتمع الفرنسي خلال سيادة النظام الملكي قبل الثورة، وكذلك من انطلاقة الطبقة البورجوازية والانحطاط النسبي للأرستقراطية التي أضعفها تمركز السلطة الملكية، وإلى ذلك فقد مهّد لها أيضًا تاريخٌ نظريٌ وفلسفيٌ مديد، فرض خلال تسارع الأحداث أدواتٍ للتفكير فيها وحولها، من أجل التأثير فيها وتوجيه مسارها المستقبلي وواقعها داخل نظام اجتماعي ومؤسساتي جديد. وسيظل شعار «إتمام الثورة» مدويًا على مدى القرن التاسع عشر، ثم إلى حدود الاستقرار الهش للنظام الجمهوري، عند منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين[1].

3- صفات الدولة الحديثة

تبعًا للتحولات التي طرأت عليه في مجال العلوم السياسية المعاصرة، دخلت مجموعةٌ من الصفات أضفيت على مفهوم الدولة الحديثة. نعرض أبرزها على الوجه التالي:

أولًا: لا يمكن فهم الدولة الحديثة إلا بوصف كونها منجزًا غربيًا أوروبيًا. بمعنى أنها نتاج التحولات الاقتصادية والسياسية والتقنية

(96)

والمعرفية الأوروبية، ولا ننسى ما أضافته حركة التنوير على فكرة الدولة، فقد ساهمت في تشكيلها وإعطائها التبرير الإيديولوجي المطلوب لتشكيل نموذج سياسي ـ ثقافي جديد[1].

ثانيًا: تنبني الدولة على فكرةٍ متخيّلةٍ هي «إرادة التمثيل»، بمعنى أن الأمّة التي تجسِّد الدولة هي وحدها صاحبة إرادتها ومصيرها، فهي التي تمتلك السيادة على نفسها، وحتى تكتسب السيادة مدلولًا حقيقيًا داخل الدولة لا بد لها من أن تؤسّس قانونًا يحكم إقليمًا معيّنًا حتى يعطي معنىً حقيقيًا لهذه السيادة.

ثالثًا: يمثّل القانون تعتبيرًا عن الإرادة السيادية، لدرجة أن الإرادة السيادية تتوقّف عن العمل إذا ما أعلنت الدولة رسميًا أن بلدًا أو كيانًا آخر هو من يزوّدها بالقانون. وإذا كان فرض القانون يحسب تحقّقًا للإرادة السيادية، فإنّ إرادةً من دون أداة قسرٍ تدعمها ليست قوّةً  أو سلطةً على الإطلاق، مما يجعل مقولة العنف ضروريةً في فهم ظاهرة الدولة. ومن هنا ترسم الدولة وحدها حدود العنف، ونوعه ومستواه اللذين تحدّهما معاييرها. فالدولة هي الفاعل الأعلى في تشريع العنف الذي يطبّق على الخارجين على إرادتها، وهي المالكة للحق الحصري في ممارسته[2].

رابعًا: يعتقد أن النظام الإداري جزءٌ أساسيٌ من بنية الدولة الحديثة، وهو امتدادٌ للنظام القانوني للدولة، ويرى ماكس فيبر

(97)

(Max Weber) أن النظام الإداري يمتلك سلطةً ملزمةً لأفراد الدولة (المواطنين) ولكل ما يقع ضمن إقليم السيادة.

كما يتميّز هذا النظام بنوعٍ عقلانيٍ من السيطرة، وتتّسم هذه السيطرة بالطوعية والتنظيم، تتضمّن سمة الطوعية الأساس العقلاني، بمعنى أن التنظيم السياسي مقرّر من ضمن قواعد عقلانيةٍ غير خاضعةٍ لعُرفٍ أو مرسومٍ ديني.

خامسًا: تكمن قوّة أي دولةٍ وتماسكها في قدرتها على تنظيم المجتمع والتوغل فيه ثقافيًا، ولأن الدولة هي صاحبة السيادة والإرادة السياسية، فلا يمكن لأي وحدةٍ أو كيانٍ في الدولة أن يتمتّع بأي سلطةٍ مستقلةٍ ذاتيًا. وهذا هو السبب الذي دفع الدول الأوروبية إلى تفكيك مثل تلك الكيانات الداخلية. فالكيانات الداخلية والبنى العضوية، مثل العشيرة والحرفيين والجماعات الدينية، تؤثّر في القرار السياسي والتنظيم الاجتماعي إذا كان لها وجود مؤثّر، كما أنها تؤثّر في ولاء الفرد للدولة، ولذلك تسعى الدولة إلى تفكيك هذه البنى من أجل توجيه الولاء للدولة وتقوية قدرتها على التوغّل ثقافيًّا (ص 80)، ومن هنا يمكن أن نفهم ما فعلته الدولة العثمانية في عهد التنظيمات من تفكيك لهذه البنى، فقد تبنّت منهجًا إصلاحيًا تحديثيًا يهدف إلى تقويتها وتوسيع نفوذها وتوغّلها من خلال الإكثار من التشريعات، وقد عمل هذه التفكيك على إدماج الفرد في الدولة[1].

سادسًا: يسود الاعتقاد بأن العمود الفقري للحكم الديموقراطي

(98)

يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، حيث تحقّق كل سلطةٍ استقلالها ولا تطغى إحداها على الأخرى، فتستقل السلطة التشريعية بسَنّ القوانين، وتقوم السلطة القضائية بتفسير هذه القوانين، بينما تعمل السلطة التنفيذية على تطبيقها، وعلى ذلك ينظر لمبدأ الفصل بين السلطات على أنّه شرطٌ لكي تصبح الدولة دستوريةً وديموقراطية[1].

4- وظائف الدولة

يحدّد الخبراء في القانون الدستوري غاية الدولة ومهمّاتها في ما يسمونه بـ «الخيرية». والخيرية هي الفضاء الذي تعمل في نطاقه الدولة وفق مبدأ المصلحة العامة. وعلى هذا النحو تكون المصلحة العامة هي المهمة الأساسية للدولة، وذلك بقطع النظر عن الشكل الدستوري الذي تنتظم فيه بنية هذه الدولة. فالغاية العليا التي تسعى إليها تحقيق الخير العام للذين يعيشون في كنفها[2]. وقد وجد مثل هذا التعريف ما يُعبّـر عنه بـ«الخير المشترك» Bien Commun، كما قدّمه القديس توما الأكويني (1225-1274م). لكن «الخيرية» أو الخير المشترك كغاية عليا للدولة، لم تبقَ في علياء التجريد، فقد انصرف فقهاء الدستور إلى تعيين وظائفها على امتداد الأزمنة الحديثة، ثمّ وضعوها  ضمن ثلاثة حقول:

(99)

أولًا: الوظيفة التشريعية: وتعني وضع القواعد العامة، الإلزامية، الأعمّ من مرسوم تنظيمي، ومرسوم تشريعي. كما أن وضع الدساتير يعتبر من الوظيفة التشريعية للدولة.

ثانيًا: الوظيفة التنفيذية: وتعني تنفيذ القوانين وتطبيقها واتّخاذ الإجراءات اللازمة لأعمال الحكم والإدارة. وينظّم هذه الوظيفة القانون الإداري والمالي.

ثالثًا: الوظيفة القضائية: وتعني حلّ النزاعات والخلافات التي تحصل بين الأفراد أو الأفراد والدولة. ويهتمّ بتنظيم هذه الوظيفة قانون الجزاء والجنايات[1].

وأمّا وظائف الدولة السياسية، فهي ما اختلفت باختلاف العصور والدول والإيديولوجيات الحاكمة. وقد مرّت على الدولة بالنظر إلى تلك الجهات مراحل مختلف: الدولة ـ الشرطي،  الدولة ـ الخدمات، الدولة المسؤولة عن التقدم الاجتماعي والازدهار الاقتصادي، ونتج عن ذلك التمييز بين نوعين من الوظائف للدولة:

النوع الأول: الوظائف الأساسية: وهي الوظائف المرتبطة بمفهوم الدولة وسيادتها، وأهم هذه الوظائف عبارة عن الوظيفة الأمنية (من خلال الشرطة والجيش)، والوظيفة العدلية (من خلال السلطة القضائية)، والوظيفة الدولية (كالتفاوض، وإبرام

(100)

المعاهدات، وإقامة العلاقات)، والوظيفة المالية (كالمبادلات الاقتصادية والسياسية النقدية، وإقرار النفقات والواردات).

النوع الثاني: الوظائف الثانوية: وهي الوظائف التي لا ترتبط بسيادة الدولة وتستطيع الدولة أن تتخلّى عنها وتحيل ممارستها إلى جهات أخرى (أي المؤسسات الأهلية)، كالتعليم العام، والنقل العام، والصحة العامة، وباقي الخدمات العامة[1].

5- الدولة والدستور

الهدف من الدستور هو إقامة نظامٍ عقلاني، واضحٍ ومستقر، يتجنّب قدر الإمكان التخريب والانقلابات، ودسائس القصور الملكية والكواليس، والاضطرابات الجماعية، والجرائم السياسية. وهكذا يبدو الدستور إجراءً مهدّئًا ينهي الثورات ويهدّئ الاضطرابات، ويعتبر بالنسبة إلى الشعوب التي تحرَّرت من نير الاستعمار والسلطة الاستبدادية رمزًا للاستقلال.

ومهما كانت درجة الإتقان التي بلغها الفن الدستوري، فإنه يصادف مع ذلك حدودًا لا يمكن تفاديها، وهي نابعةٌ من صميم كيانها. وسواء أكانت الدساتير ممنوحةً أم مقترحةً أم مفروضةً من قبل الملك أم ثمرة مناقشات الجمعية التأسيسية أم تعبيرًا عن إرادة الشعب، فإنها تحمل في الغالب طابع الأزمة السياسية التي انبثقت عنها، كما أن مصيرها ليس منوطًا بالنظام الذي تنطوي عليه، بل بعلاقاتها مع قوى البلاد الحقيقية وبوسائل التعبير التي تتيحها أو تحدّدها لها.

(101)

ومن أولى مزايا الدستور هو النأي بالقضية الدستورية عن النزاع السياسي. وسوف نلاحظ في معظم الدساتير الحديثة ما يُفصح عن حكمةٍ مشتركةٍ يعبَّـر عنها بأسلوبٍ مشتركٍ وتستند إلى ثلاث نقاط رئيسية:

- النقطة الاولى: مبدأ سيادة الشعب، أي الانتخاب العام. ويمكن الإعراب عن هذا المبدأ بألفاظٍ تتّصل بالحقوق الفردية أو بالاحتياجات الجماعية. ويبدو معقولًا من جهة منح كل مواطنٍ إمكان اشتراكه بأي شكل كان بممارسة السلطة العامة. ومن جهةٍ ثانيةٍ فإن وضع السلطة تحت الرقابة المنظّمة لجميع السكان يؤدّي إلى منح جميع قوى البلاد الحيّة حظّها في الإعراب عن رأيها وفي امتداد نفوذها، كما أنه يقضي على عناصر تحديد الإنتاج والتقييد والرجعية. وكلّما فرض التقدُّمُ التخصُّصَ في العمل وتجمع المنشآت، أصبحت الرقابة الشعبية النافذة تعويضًا لا مندوحة عنه، سواء أكان الأمر يتعلّق بتصحيح تجاوز الأعمال الفنية المغلقة على نفسها، أم إفراط السلطات الحرفية، أم شحذ روح المبادهة والإبداع، أم تجديد الجهد عند بلوغ الهدف.

- النقطة الثانية: إخضاع القرارات السياسية لقواعد ثابتةٍ تتعلّق بالنقد والمناقشة. فالغرض من الدساتير هو إقامة منظّمات واجراءات تسمح في آنٍ واحدٍ بإجراء مناقشاتٍ صادقةٍ واتخاذ قراراتٍ نافذة. إن قانون الأغلبية هو من هذه الناحية اتّفاقيةٌ عمليةٌ تسمح بإقفال المناقشات إذا لم يتوفّر الاتّفاق الإجماعي، كما أنها تتّفق مع تعريفٍ إجماليٍ لخصائص القوة إذ يحول دون استعمالها. وبالتالي

(102)

فإن معظم الدساتير الحديثة تنطوي على بيانٍ لحقوق الإنسان والمواطن والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. والأمر لا يتعلّق هنا بكيان السلطات العامة، وإنما بحدودها والمهام المنوطة بها في علاقاتها مع الأفراد والتكتّلات الاجتماعية. وجديرٌ بالملاحظة أن عقيدة حقوق الإنسان ومصطلحاتها تتمتّع بقيمةٍ دوليةٍ كبيرة، لا من جرّاء بعض الاتفاقات الدبلوماسية (كالاتفاقيات العالمية والأوروبية لحقوق الإنسان) فحسب، وإنما بسبب تشابه الدساتير من الناحية الداخلية أيضًا[1].

في إطار هذه المحدَّدات تعتبر تجربة فرنسا الدستورية نموذجيةً للدولة الحديثة التي هي مجال بحثنا.

مرَّ على فرنسا منذ عام 1789 أربعة عشر دستورًا، وكانت الأنظمة التي هي أكثر استقرارًا بينها الأنظمة البرلمانية أو تلك التي اتجهت نحو النظام البرلماني (كعهد الإصلاح، وعهد تموز الملكي، وعهد الإمبراطورية الثانية، والجمهورية الثالثة). وبعض هذه الأنظمة الموقتة تركت إنتاجًا تشريعيًا ثابتًا، كالتشريعات التي صدرت عام 1848 وعام 1871 وعام 1940 وعام 1944. والدساتير التي تنطوي على أكبر عددٍ من المبادئ، والتي تُعدّ أكثر تعقيدًا من غيرها، كدساتير عام 1791، وعام 1793 والعام الثاني، وعام 1848، كان تطبيقها في الواقع أقصر من غيرها.

(103)

6- التمييز بين مفهومَي الدولة والسلطة

يخلط الكثيرون بين مفهوم الدولة ومفهوم السلطة التي تحكم، ويرون أن السلطة هي نفسها الدولة، وإن الدولة ليست سوى السلطة لا غير. ومثل هذا الخلط بين مفهوم الدولة ومفهوم السلطة، وبالتالي حالة التداخل بينهما في وعي الناس وثقافتهم، هو الذي يدفع بالسلطة إلى أن تكون سلطةً شموليةً.. سلطةً فوق الدولة، وهو ما تحاول أن تؤكّده وتؤصّله كل سلطةٍ تأتي إلى الحكم.

ذلك يعني أنه يوجد «قدرٌ كبيرٌ من التشويش والحيرة الفكرية تحيط بفكرة الدولة، وبصفةٍ خاصةٍ عندما ننظر إلى علاقة هذه الفكرة بأفكار أخرى مثل: المجتمع، الجماعة، الأمة، الحكومة، إلخ. إن هذا الخلط هو في الغالب نتاج عدم التنبُّه إلى الاستعمالات المتباينة لهذه الأفكار في إطار النظريات المختلفة»[1].

فالدولة ليست هي السلطة أو الحكومة، بل إن الدولة تتميّز عن السلطة وتتعالى عليها، كما يتعالى المجتمع أو الأمة على الدولة، بل على الدولة والسلطة معًا، وهذه حقيقةٌ سياسيةٌ تكوّنت منذ ظهور مفهوم الدولة السياسية المعاصرة في القرن السادس عشر. من «الناحية التاريخية الأنثروبولوجية كان من الواضح أن فكرة الحكومة وتطبيقها كلاهما قد وجد قبل الدولة. الحكومة تستطيع أن توجد، بدون الدولة... ومن الناحية التشريعية فإن معظم منظّري الدولة رأوا إلى الدولة كسلطةٍ عامّةٍ متميّزةٍ تضفي التشريف على

(104)

الحكومة. فالحكومة تحمل سلطة الدولة، وهي سلطةٌ دائمةٌ تعطي استمراريةً وترابطًا للتنظيم السياسي. ولعلّ القيمة المهمّة للتفرقة بين الدولة والحكومة هي أنها تسمح بالتغييرات البنيوية وتغيير الحكومات بأن يحدث، بينما يظلّ الحفاظ على استمرارية وشرعية النظام الاجتماعي باقيًا. إذا كانت الحكومة كليًا تعرّف بالدولة، فإن كل إبدالٍ في الحكومة سوف يُحدث أزمةً في الدولة، وهذه النقطة ينبغي أيضًا أن تجعلنا متيقظين من ربط كل ممارسات الحكومة بالدولة»[1].

وكون السلطة مسؤولةً عن إدارة الدولة فهذا لا يعني أن تهيمن السلطة على الدولة، وأن تمتلك السيادة عليها. وهنا يأتي دور الدولة ممثّلةً في مؤسّساتها لتقوم هذه المؤسّسات بدورها الأساسي وهو المحافظة على هيبة الدولة، أي في تعاليها على السلطة، وإبراز تميُّزها عنها باعتبارها (الدولة) السلطة العامّة التي يجب أن تكون فوق السلطة، أي فوق سلطة الحكومة وفوق سلطة الرئيس أو القائد أو الزعيم.

يعتبر مبدأ الفصل بين السلطة والدولة من أهمّ المبادئ التي يجب المحافظة عليها ورعايتها، لأنه مبدأٌ يرفع من شأن الدولة، ومن ثم يرفع من شأن المجتمع والناس أمام السلطة التي قد تطغى فتبتلع الدولة وتستبدّ بالناس.

ورغم أن الدولة مفهومٌ لا وجود ماديًا واقعيًا له، إلا أن الدولة موجودةٌ وجودًا منطقيًا شرعيًا، وهي حاضرةٌ في المجتمع حضورًا

(105)

يجمع حوله كل الشعب الذي يعيش في إقليم الدولة، وهو بالتالي حضورٌ يلخّص وعي الشعب وتاريخه السياسي والثقافي والاجتماعي. بل إن الدولة هي التجسيد السياسي الثقافي الاجتماعي للجماعة – الأمة، وهي الحافظة للحقوق الجامعة للمبادئ والقيم، والراعية للكرامة والمواطنة لأفراد الجماعة. والسلطة أيًا كانت لا تقوم مقام الدولة، ولا تحلّ محلّها، لأنها سلطةٌ وفي حالة ما تمّ للسلطة ذلك تلاشت الدولة، وانتهت إلى لا دولة، وإذا ما انتهت الدولة إلى لا دولة أمست محض سلطة.

فالدولة إذًا حاضرةٌ في المجتمع بخصائصها وسماتها ومؤسّساتها التشريعية والسياسية وتنظيماتها الشعبية الجماهيرية المتميّزة عن السلطة، وهي حاضرةٌ على وجه أخصّ من جهتَين أساسيّتَين:

أولًا: حضورٌ تاريخيٌ ثقافيٌ اجتماعي: ويشمل تاريخ الدولة وتراثها الثقافي السياسي والوعي الاجتماعي لمفهوم الدولة وهذا ما يكوّن الأساس المعنوي لحضور الدولة في المجتمع.

ثانيًا: حضورٌ دستوريٌ قانونيٌ مؤسّسي: ويتمثّل في دستور الدولة وقوانينها ونظامها السياسي، وفي مؤسّسات الدولة البرلمانية ومؤسّسات القضاء ومؤسّسات الرأي والمؤسّسات الجماهيرية النقابية، والجمعيات الأهلية والاتّحادات المهنية والهياكل والتنظيمات غير الحكومية، بما في ذلك تنظيمات المعارضة وفقًا للدستور. بحيث يُعدّ المساس بأيٍّ من هذه المؤسّسات والتنظيمات مساسًا بالدولة صاحبة السيادة.

(106)

ويظهر هذان الوجهان في الواقع في علاقات السلطة مع مؤسّسات الدولة كما يظهران بشكلٍ أخصّ عندما تشعر السلطة أن الدولة بمؤسّساتها تحاصرها، وتحدّ من سطوتها، وتحدّد لها مجال حركتها وحدود صلاحيتها.

الدولة في فلسفة الحقوق

كل ما مرَّ معنا من مقاربات لمفهوم الدولة الحديثة لم يكن لينفصل البتّة عن روح القوانين التي انتظمت ضمن مشاغل فلسفة الحقوق، منذ الإغريق إلى عصور الحداثة. وتأسيسًا على هذه  الفرضية يمكن تصنيف الحقوق ضمن ثلاثة مجالات هي: حقٌّ إلهي ـ حقٌّ طبيعي ـ حقٌّ مدني:

أولًا: حقٌّ إلهي (droit divin): هو تبريرٌ للسلطة السياسية اعتمادًا على مرجعيةٍ دينيةٍ (لاهوتية)، مثل النسب المقدّس أو التجسيد الفعلي للسلطة الإلهية على الأرض. وهو ما ساهم في ترسيخ المُلكيات المطلقة التي سادت في كل بقاع العالم، والتي تمّ الدفاع عنها بالخصوص، من طرف الكنيسة الكاثوليكية وبعض أيديولوجييها أمثال بوسويه (Bossuet). هكذا، يصبح الحاكم بالنسبة إلى الشعب حاكمًا بأمر الله، وكل ثورةٍ عليه هي بمثابة تحدٍّ للإرادة الإلهية.

ثانيًا: حقٌّ طبيعي (droit naturel): ويكمن في الحرية التي يتمتّع بها الانسان بوصفه كائنًا طبيعيًا، ويتحدّد بحدود الذات وقدرتها ومشيئتها؛ وقد اعتبر الفيلسوف الهولندي اسبينوزا (Spinoza) في

(107)

هذا الإطار أن الإنسان يتوفّر على بنيةٍ تحدّد ماهيّته الخاصّة ويسلك في حياته طبقًا لقوانينها ولما توفّره له من قدرة على الفعل. فهذه  المشيئة أو الاقتدار ضربٌ من الحقّ الطبيعي الذي يملكه الإنسان[1].

ويتحدّد هذا الحق بحسب الرغبة والقدرة، غير أن حالة الطبيعة قد تكون مرادفةً لحالة الحرب، لأن الطبيعة لا تعرف حقًا آخر غير «حق القوة»؛ وهي لا تعرف العدل ولا ترحم الضعيف. فالحق الممارس في حالة الطبيعة يعني حرّية الفرد في أن يفعل كل ما في استطاعته لضمان مصالحه الخاصة.

وكما لاحظ الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (Hobbes)، فإن الأساس الذي يرتكز عليه الحقّ الطبيعي هو أن لكلّ إنسانٍ القدرة على حماية حياته واستخدام الوسائل الضرورية التي تضمن بقاءه. بيد أن هذه الوضعية قد تتحوّل إلى حرب الكل ضد الكل في حالة تجاهل القوانين المنظّمة للعلاقات الاجتماعية، ما يؤكد بالتالي سيادة العنف. وفي هذه الحالة يصبح أمر تنظيم الحق الطبيعي وإخضاعه للقواعد الاجتماعية وللمعايير الأخلاقية والقانونية، مسألةً ضروريةً تسمح بالحديث عن حقوقٍ مدنية، ترتبط في إطارها حرية الإنسان بحقّه في العدالة والمساواة والأمن والعيش الكريم[2].

- ثالثًا: حقٌّ مدني (droit civil): إن انتقال الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة لا يعني فقدانه كل الحقوق الطبيعية، وإنما يعني أن الحياة الاجتماعية تتولّـى ضمان حقوقه بوصفها

(108)

حقوقًا مدنية. وكما أكّد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (Locke)، فإنه لا يوجد مجتمع سياسي (مدني) إلا حيث يتنازل كل فردٍ عن حقّه الطبيعي للجماعة، وكل الأفراد الذين يؤلّفون جماعةً واحدةً ويعيشون في ظلّ قانونٍ ثابتٍ وفضاءٍ عادل، إنما يعيشون في مجتمع مدني. وتتأسس الحقوق المدنية على قاعدة كون الإنسان له قيمة باعتباره كائنًا عاقلًا، حرًا، إراديًا وذا كرامة. وينطلق هذا الإيمان بقيمة وكرامة الإنسان من مبدإٍ أساسيٍ وثابتٍ، وهو أنّ من الضروري أن تُصان حقوقه، لأنه إنسانٌ أولًا وأخيرًا، ومن الضروري، نتيجة ذلك، أن يكون حرًّا وأن يتساوى في الحقوق مع الآخرين.

هكذا، يتأسس كل حق مدني على حق طبيعي محايث للفرد ولا يمكن تصور الحق المدني بوصفه نقيضًا للطبيعة وإنما هو استجابة وتنظيم لحق الطبيعة الانسانية في الحرية والمساواة. وهنا يبرز الوجه السياسي لمسألة الحق المدني، حيث تطرح علاقة الفرد بالسلطة وعلاقة المجتمع المدني بالدولة، وما يتفرع عن ذلك من قضايا، تهم السيادة والشرعية والواجب ودولة الحق والقانون... الخ.

دولة الحق (L’état de droit):

تتحدد النواة الصلبة لدولة الحق في احترام القوانين الموضوعة واحترام الشخص الإنساني. وقد عرّفتها الباحثة الفرنسية جاكلين روس (J. Russ) في مؤلفها «نظريات السلطة» بأنها دولةٌ يوجد فيها قانونٌ وحقٌ يرتبطان باحترام الشخص. فهي عبارةٌ عن إطارٍ قانونيٍ يضمن الحرّيات الفردية ويدافع عن الكرامة الإنسانية ضدّ

(109)

كلّ أشكال العنف والاستبداد. وترتسم سلطة دولة الحق عبر ثلاثة أوجهٍ وهي[1]:

- القانون الضامن لحرّيات الأفراد.

- الحقّ الضامن لاحترام الشخص الإنساني، أي المواطن.

- فصل السلطات الذي يسمح بتمفصل القوى التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وهذه المقتضيات هي التي تسمح بمواجهة الدولة الكليانية والبوليسية التي تستبيح فيها السلطات الحكومية والإدارية كل شيء. كما تسمح بتعزيز السلطة المضادة المتمثّلة في أحزاب المعارضة والنقابات وهيئات المجتمع المدني ومقاومة السلطة المركزية المدافعة عن الرأي الوحيد. وهذا هو شرط إقرار سيادة الشعب وضمان حقوقه ومواطنته الحقّة.

(110)

 

 

 

 

 

 

الفصل الخامس

أنواع الدولة الحديثة

 

(111)

تنقسم الدول الحديثة بحسب فقهاء الدستور إلى قسمين أساسيين، تتفرع من كلٍّ منهما أنواعٌ أخرى تبعًا للشروط السياسية والثقافية والحضارية المعنية: وهما: الدول البسيطة والدول المركّبة.

 الدول البسيطة هي التي تتّخذ السيادةُ فيها صورةً موحّدةً، وتبسط الدولة سيادتها على جميع أراضيها، وتتمتّع بدستورٍ موحّدٍ وقوانين ناظمةٍ موحّدةٍ يتم العمل بها على جميع بُقع أراضي هذه الدولة. وقد يكون نظام الحكم في الدول البسيطة على نوعين: مركزي بحيث تمارس الدولة سلطاتها وقيادتها على جميع أراضي الدولة، أو يكون نظام الحكم لا مركزيًا حيث تقوم الدولة بمنح بعض الهيئات الإقليمية ـ منتخبةً كانت أو معينةً من قبل السلطة المركزية ـ سلطةً لإدارة شؤونها المحلية حسب قوانين محددةٍ مسبقًا، وتحت رقابة السلطة المركزية بما يضمن مصالح الدولة العليا، ويطلق على هذه الأنظمة تسمية اللامركزية الإدارية.

 أما الدول المركّبة فهي تتألّف من دولتين على الأقل أو مجموعةٍ من الدول اتّحدت فيما بينها، وتحتفظ كلّ دولةٍ فيها بسيادتها الكاملة وتنظيمها السياسي والاقتصادي الخاصّ، وتعمل هذه الدول على التقارب في جميع المجالات لتحقيق الرخاء العامّ لجميع دول الاتّحاد.

 من هذين النوعين التأسيسيَّين (البسيط والمركّب) تتوزّع أنواع الدول التي شهدتها الحضارات الإنسانية المختلفة تبعًا للبسيط منها والمركّب على النحو التالي:

(112)

1- الدولة السيدة

أيًا تكن آليات الارتباط وعناصر الوصل والفصل في مفهوم السيادة، بين الدولة الوراثية الملكية والدولة القومية الدستورية، فإنّ التعريف الكلاسيكي للسيادة بقي يحتفظ بقوّة الجمع والتواصل سحابة المسافة المتّصلة من القرون الوسطى إلى تطورات الحداثة. فالمعروف ـ بحسب المفاهيم الكلاسيكية لعلم السياسة ـ أنّ سيادة الدولة هي أحد المصطلحات المهمّة في القانون، وفي العلم السياسي وتكوين الدولة.

وإذا كان مفهوم السيادة عريقًا في القدم، كما تشير إلى ذلك مؤلّفات فلاسفة اليونان، فقد كان أيضًا مفهومًا غامضًا، ثم أخذ يتطوّر بتطوّر التاريخ والحضارات والعلوم. ولئن كانت السيادة تعتبر، في ما مضى مطلقةً للدولة، ففي العصر الحديث ـ خصوصًا في مرحلة ما بعد الحربين العالميّتَين ـ غدت مسألةً نسبيةً، من أميركا اللاتينية إلى أقصى نقطة في الشرق الأقصى.

من البديهيات التي تقرّرها الفلسفة السياسية بمذاهبها المختلفة أن عنصر السيادة هو الخاصية الرئيسية للدولة. فإنّه يعتبر العنصر الحقيقي في وجودها، ويُعنى به القوة العليا للدولة[1]. ولقد بات من البداهة العلمية الإشارة إلى أنّ للسيادة جانبين: جانبٌ داخلي يعني أنّ الدولة تمتلك السلطة الشرعية المطلقة على جميع الأفراد

(113)

والمجموعات التي تتعيّن طاعتها من جانب كل الأفراد، وأنّ أي اختراق أو انتهاك لهذه الأوامر يعرّض الفرد للعقوبة. أما السيادة الخارجية فهي تعني الاستقلال عن رقابة أو تدخّل أي دولة أخرى، أو الالتزام بأحلاف معيّنة. ومعنى ذلك بعبارةٍ أخرى أنّ الدولة في الداخل هي أعلى السلطات التي تملك أمر الحكم في ما ينشب بين الأفراد والوحدات من خلافات، وهي كذلك لا تخضع ماديًا ولا معنويًا لسلطة أخرى، سواء أكانت هذه السلطة نقابيّةً أم دينيّةً أم مهنيّةً، أما في النطاق الدولي فيعني أنّ الدولة مستقلّةٌ غير تابعةٍ في اتّخاذ قراراتها لأية وحدة سياسية أخرى.

ومن هنا ينشأ التمييز بين دولةٍ كاملةٍ ودولةٍ أخرى ناقصة السيادة أو معدومتها. وهكذا فإنّ مفهوم السيادة بحسب هذا التعريف المقتضب يوصل إلى نتيجة تتعلّق بعلاقة الدولة والقانون. فإذا ما تقبّلنا فكرة الدولة باعتبارها صاحبة السيادة، فإنّ القانون لن يكون سوى إرادة الدولة والشيء الذي يمكن أن تفرضه ولا شيء غير ذلك، إذ الدولة تأبى أن تفرض أمرًا ما لم تعتبره متفقًا مع إرادتها. ولا يهم بعد ذلك من زاوية الفقه والقانون أن يكون القرار الذي تتّخذه الدولة سيّئًا أو خاطئًا أو منافيًا للحكمة، إذ إنّه قانونٌ طالما أنّ الدولة هي التي تفرضه. وما يضفي على القانون صفة الطاعة هو المصدر الذي أتى منه، لأنّه لو كان الأمر على خلاف ذلك لما كانت الدولة هيئةً ذات سيادة[1]

(114)

يذهب الفقهاء الدستوريّون إلى اعتبار السيادة المكوِّن الأبرز لمفهوم الدولة. ويُقصد بالسيادة أنّ الدولة السيّدة هي التي تقوم على مجتمعٍ سياسيٍ تجتمع لدى الهيئة الحاكمة فيه كلّ مظاهر السلطة من داخليةٍ وخارجيةٍ بحيث لا يعلو على سلطتها سلطان. ولئن كانت فكرة السيادة قد وجدت لها مجالًا في الواقع السياسي التاريخي مع ظهور الدولة الحديثة، فسيبقى يُنظر إليها كمسلّمةٍ لا تقبل المنازعة مذ كُتب لها الانتشار على يد الفقيه الفرنسي جان بودان Jean Bodin. ذلك على الرغم من أنّها فُهمت حينئذٍ على معانٍ كثيرةٍ تتفاوت بين الإطلاق والتقييد[1].

فالبعض فهمها على أنها تتيح للدولة سلطةً مطلقةً لا تتقيَّد إلا بالإرادة السماوية، والبعض فهمها على إطلاقٍ لا حدود له، فلا تتقيَّد حتى بالدين، في حين أنَّ الفقه التقليدي سيصيب حين وضعها في إطارٍ أكثر اعتدالًا. فالدولة ذات السيادة عنده تتقيّد دائمًا بقواعد القانون الدولي باعتبارها قواعد تعلو على إرادة الدول[2].

معظم الآثار التي نُسبت إلى السيادة ليست ـ في نظر الكثير ـ سوى نتيجةٍ لإساءة فهم هذه الفكرة، وإساءة استعمالها في الوقت عينه. لذلك لزم أن يعطى لها مدلولٌ يبتعد بها عن الشطط ومواطن العسف. وعليه فإنَّ السيادة جانبين: أحدهما سلبي والآخر إيجابي:

- الجانب السلبي من فكرة السيادة يعني أنَّ الدولة لا تخضع في علاقاتها لأي سلطةٍ تعلو على سلطتها. وينبثق عن هذا المعنى

(115)

العديد من الآثار، لعلَّ أهمّها أنَّ الدول كافّةً متساويةٌ أمام القانون، بما يعنيه ذلك من أنَّ الدول متساويةٌ في ما يقرّره القانون الدولي من حقوق، وما يفرضه من التزامات.

أما السيادة في جانبها الإيجابي، فتعني ثلاثة عناصر: أ- الاستئثار بممارسة اختصاص الدولة، ب- الاستقلال، ج- شمول هذا الاختصاص.

أ - الاستئثار بممارسة اختصاصات الدولة، يعني أنَّ هذه الأخيرة لا تمارس إلا من طريق السلطة التي خوِّلت بذلك من دون تدخُّل أيّة سلطة خارجية في هذا الصدد.

ب - مفهوم الاستقلال L’autonamie، يتحدّد في ممارسة اختصاصات الدولة، ويعني أنَّ السلطة المخوّلة بممارسة هذه الاختصاصات تتمتّع بحرّية اتّخاذ القرارات بشأن هذه الأخيرة كمًّا وكيفًا، زمانًا ومكانًا. فهي لا تخضع في هذا الصدد لأيّ تعليمات تصدر من جانب سلطةٍ خارجية.

ج - أما شمول الاختصاص Plénitude، فيعني أنَّ الدولة تستطيع أن تمارس اختصاصاتها في كافّة أنواع النشاط الداخلي والخارجي. وهذه الخصيصة من خصائص السيادة لا يحدُّها إلا الدخول في اتّحادات من شأنها التنازل عن كل سيادة الدولة أو جزءٍ من سيادتها لمصلحة الكائن الجديد الناشئ من اندماج أكثر من دولة، أو الدخول في عضوية منتظمٍ دوليٍ مخوّلٍ بممارسة اختصاصات معيَّنة بموجب تصرّفات قانونية تلتزم

(116)

كافّة الدول الأعضاء فيه، حتى ولو كانت صادرةً ضد إرادة هذا العضو أو ذاك[1].     

ثمة تعريفاتٌ أكثر تفصيلًا لمفهوم السيادة استنادًا إلى وقائع تاريخية، والشواهد عن المناحي التي اختبرتها الدول الحديثة. وبين أيدينا تقسيمان رئيسان للدولة بناءً على ما تتمتَّع به من سيادة.

أولًا – الدول الكاملة السيادة: يُقصد بالدولة الكاملة السيادة تلك الدولة التي تتولّـى حكوماتها إدارة شؤونها الداخلية والخارجية من دون أن تخضع في هذا الشأن لتدخُّل أو لتوجيهات أية سلطةٍ خارجيةٍ، ويعبَّـر عن هذه الطائفة من الدول باصطلاح «الدول المستقلّة»[2].

ثانيًا – الدول الناقصة السيادة: ويُقصد بها الدول التي لا تنفرد حكوماتها بممارسة السيادة الداخلية أو الخارجية أو كلتيهما، بل تشاركها في هذا الشأن أو تحلّ محلّها سلطةٌ خارجيةٌ، سواء تمثّلت تلك السلطة في دولة أخرى أو في منتظمٍ دولي. وتتّخذ الدول الناقصة السيادة صورًا متعددة[3]:

- صورة الدول التابعة: حينما ترتبط دولةٌ ما بدولةٍ أخرى برابطة الخضوع والولاء، فإنَّ الدولة الأولى تسمّى دولةً تابعةً والدولة الثانية تسمّى دولةً متبوعةً.

(117)

- الدول المحمية: الواضح أنَّ هناك شَبَهًا كبيرًا بين الدولة المحمية والدولة التابعة، بل إنَّ من الفقهاء من يرى أنَّ الدولة المحمية ليست في الحقيقة سوى صورة حديثة للدولة التابعة.

2- الدولة المركبة

تتشكّل الدولة المركّبة من شراكة بين دولتَين، أو مجموعة دول، اتّحدت فيما بينها لتحقيق أهدافٍ مشتركة، وعليه تتوزّع سلطات الحكم على الدول المكوّنة لها تبعًا لطبيعة ونوع الاتّحاد الذي يربط بينها.

وتنقسم الدول المركّبة إلى:

أولًا: الاتّحاد الشخصي:

ونعني به الاتّحاد الذي يكون بين دولتَين أو أكثر في إطار ميثاقٍ يعبّـر عنه زعيم الاتّحاد. في حين تحتفظ كلّ دولةٍ بسيادتها الكاملة وتنظيمها الداخلي المستقلّ. وبالتالي فمظاهر الاتّحاد هنا لا تتجسّد إلا في شخص الدولة فقط؛ فرئيس الدولة أو زعيمها هو المظهر الوحيد والمميّز للاتّحاد الشخصيّ، الأمر الذي يجعله اتّحادًا عرضيًا وموقوتًا يزول وينتهي بمجرد اختلاف رئيس الدولة. ومع ذلك تبقى الدول المشتركة في الاتّحاد الشخصي متمتّعةً بكامل سيادتها الداخلية والخارجية، ويترتّب على ذلك[1]:

- احتفاظ كل دولةٍ بشخصيتها الدولية وانفرادها برسم سياستها الخارجية.

(118)

-  تُعد الحرب بين دول الاتّحاد الشخصي حربًا دوليةً.

- إن التصرّفات التي تقوم بها إحدى دول الاتّحاد الشخصي إنما تنصرف نتائجها إلى هذه الدولة فقط وليس إلى الاتحاد.

-  يعتبر رعايا كل دولةٍ أجنبيًا على الدولة الأخرى.

- لا يلزم في الاتّحاد تشابه نظم الحكم للدول المكوّنة له.

ويترتّب على الاندماج في الاتّحاد الحقيقي (فقدان الدولة لشخصيتها الخارجية):

- توحيد السياسة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي . 

- تعتبر الحرب التي تقوم بين الدول الأعضاء حربًا أهليةً.

- مثالًا: الاتّحاد الذي قام بين السويد والنرويج.

ثانيًا: الاتّحاد الاستقلالي الكونفدرالي:

ينشأ من اتّفاق دولتَين أو أكثر في معاهدةٍ دوليةٍ على تكوين الاتّحاد أو الانضمام إليه مع احتفاظ كل دولةٍ باستقلالها الخارجي وسيادتها الداخلية.

صكّ الاتّحاد أو المعاهدة والاتّفاقية هو الأساس في الاتّحاد الاستقلالي.

يقوم الاتّحاد الكونفدرالي على تكوين مجلسٍ يتكوّن من مندوبين عن الاتّحاد، وهذا المجلس لا يختصّ إلا بالمسائل التي تضمّنها الصكّ. 

(119)

هذا ولا تعتبر الهيئة التي تمثّل الدول في الاتّحاد دولةً فوق الدول الأعضاء، وإنما مجرّد مؤتمرٍ سياسي.

في هذا الاتّحاد تبقى كلّ دولةٍ متمتّعةً بسيادتها الداخلية ومحتفظةً بشخصيّتها الدولية.

رعايا كل دولةٍ من الاتّحاد يبقون محتفظين بجنسيتهم الخاصة.

العلاقة بين الدول مجرّد ارتباط تعاهدي.

حقّ الانفصال عن الاتّحاد ممنوح للدول الأعضاء تقرّره حسب ما تراه مناسبًا ومتماشيًا مع مصالحها الوطنية.  

ثالثًا: الاتّحاد المركزي:

ليس اتّفاقًا بين دول، ولكنّه في الواقع دولةٌ مركّبةٌ تتكوّن من عددٍ من الدول أو الدويلات، اتّحدت معًا، ونشأت دولة واحدة.

ينشأ الاتّحاد المركزي عادةً بطريقتين:

 - تجمّعٌ رضائيٌ أو إجباريٌ لدولٍ كانت مستقلّةً.

- تقسيمٌ مقصودٌ لأجزاءٍ متعدّدةٍ من دولةٍ سابقة، كانت بسيطةً وموحّدة.

والاتّحاد المركزي لا يشمل الدول فقط إنما شعوب هذه الدول أيضًا. ونضيف أنه في هذا الاتّحاد تنصهر السيادة الخارجية للدول بشخصية الاتّحاد.

يبقى لكلّ دولةٍ دستورٌ يحكمها لكن بما يناسب دستور الاتّحاد.

(120)

هذا الاتّحاد عبارةٌ عن مجموعة من الدول تخضع بمقتضى الدستور الاتحادي لحكومةٍ عليا واحدةٍ هي الحكومة الفدرالية.

رابعًا: الاتّحاد الفعلي أو الحقيقي:

يتمّ عادةً عن طريق إبرام اتفاقيةٍ بين دولتَين أو يجري الاتّفاق بشأنه في إطار التسويات التي تتمّ في أعقاب الحروب الكبرى. وفي هذا النوع من الاتّحادات يصبح للدول الداخلة فيه ملكٌ أو رئيسٌ واحد، وتتشكّل هيئاتٌ مشتركةٌ لإدارة الشؤون الخارجية وبعض الشؤون الداخلية. وتصبح المعاهدات التي يبرمها الاتّحاد مُلزمةً للدول الأعضاء فيه، كما أن للاتّحاد تمثيلًا دبلوماسيًا موحّدًا، وهو ما يعني أنّه يحظى بالشخصية القانونية الدولية.

أما بقية الشؤون الداخلية فتترك إدارتها لعناية كلّ دولةٍ على حدة. ومن أمثلة هذه الاتّحادات اتّحاد السويد مع النرويج الذي استمرّ من عام 1815 حتى عام 1905، واتّحاد النمسا مع المجر الذي استمرّ من 1867 حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، واتحاد الدنمارك مع أيسلندا والذي استمر من عام 1918 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية[1].

خامسًا: النموذج الكونفدرالي (التعاهدي):

ويضمّ مجموعةً من الدول تتّفق فيما بينها، وبمقتضى معاهدةٍ دوليةٍ خاصّة، على إقامة مؤسّساتٍ مشتركةٍ تزوّد بالسلطات

(121)

والصلاحيات التي تمكّنها من الإشراف على سياسات الدول الأعضاء والتنسيق فيما بينها في الميادين ووفقًا للآليات التي يتمّ الاتّفاق والنصّ عليها في المعاهدة المنشأة. ولا يتمتّع الاتّحاد الكونفيدرالي بالشخصية القانونية الدولية حيث تحتفظ كل دولةٍ من الدول الأعضاء فيه بسيادتها واستقلالها. وغالبًا ما تصدر الهيئات المشتركة المقامة بموجب المعاهدة المنشئة للاتّحاد قراراتها بالإجماع أو بأغلبيةٍ خاصّةٍ تكاد تقترب من الإجماع. كما تموَّل أنشطة هذه الهيئات عن طريق مساهمات الدول الأعضاء وليس من خلال موارد أو إيرادات ذاتية مباشرة.

ويعتبر هذا النموذج أيضًا من النماذج التاريخية التي يندر وجودها في الحياة السياسية المعاصرة. فلم تصمد الاتّحادات الكونفيدرالية التي قامت في الماضي، وكان مصيرها إما التفكّك والانهيار بعد زوال الأسباب التي أدت إلى قيامها، وإما التحوّل إلى نموذجٍ أكثر تماسكًا، وهو النموذج الفيدرالي.

ومن الأمثلة التاريخية المهمة للاتحادات الكونفيدرالية: اتّحاد أميركا الشمالية الذي قام على أثر إبرام ولايات أميركا الشمالية الثلاثة عشر لمعاهدة عام 1781، والتي هدفت في الأساس إلى مقاومة الولايات الداخلة في الاتّحاد للاستعمار البريطاني، الذي كانت تخوض ضده حرب تحريرٍ في ذلك الوقت. وقد أنشأت هذه المعاهدة هيئة الكونغرس، تتكوّن من مندوبٍ واحدٍ عن كل ولايةٍ للإشراف على الشؤون العسكرية والشؤون الخارجية، وتؤخذ القرارت فيها بأغلبية تسعة أصوات، ثم يتمّ إبلاغها بعذ ذلك إلى

(122)

حكومات الولايات الثلاث عشر من أجل اتّخاذ الخطوات اللازمة لتنفيذها. وقد أوشك هذا الاتّحاد على الانهيار بسبب بروز التيّارات الانفصالية في أعقاب انتهاء حرب التحرير، لولا تدارك التيّارات الوحدوية لنقاط الضعف في المعاهدة الكونفيدرالية وتمكّنها من إدارة المفاوضات بنجاحٍ، حتى تمّ إقرار النظام الفيدرالي وإبرام الدستور الأميركي المعمول به حاليًا في 17 من أيلول / سبتمبر لعام 1787 [1].

سادسًا: النموذج الفيدرالي:

وهو عبارةٌ عن مجموعةٍ من الدول تقرّر فيما بينها أن تتوحّد في إطار سلطةٍ أعلى تتّفق على تشكيلها وتخضع لها في الوقت نفسه، ولكن دون أن تفقد كل سماتها وخصائصها المحلية أو تذوب ذوبانًا في الدولة الجديدة التي حلَّت محلّها. أي إن الدول التي تدخل في اتّحادٍ فيدرالي تفقد شخصيّتها الدولية لصالح شخصيةٍ دوليةٍ جديدةٍ واحدةٍ تتكوّن منها جميعًا وتتحوّل هي إلى ولاياتٍ أو أقاليم أو كياناتٍ ذات مسمياتٍ مختلفةٍ ولكن كأجزاءٍ في إطارٍ كلّيٍ واحدٍ هو الدولة الفيدرالية الجديدة. ويصبح لهذه الدولة الفيدرالية الجديدة دستورٌ خاصٌ بها ينظّم العلاقة بين الولايات بعضها البعض، من ناحية، وبين الولايات والسلطات الفيدرالية أو المركزية من ناحية أخرى[2].

(123)

3- الدولة العلمانية

الدولة العلمانية هي تلك الدولة التي يتولّـى قيادتها رجال زمنيون لا يستمدّون خططهم وأساليبهم في الحكم والإدارة والتشريع من الدين، وإنما يستمدّونها من خبرتهم البشرية[1]. وهذا النوع من الدول يرمي بصفةٍ أساسيةٍ إلى فصل الدولة ومؤسّساتها عن الكنيسة وأحكامها في التراث المسيحي، بهدف جعل السلطة الزمنية مستقلّةً عن السلطة الروحية وبعيدةً عن نفوذها وتدخلاتها.

ومن المعروف تاريخيًا أن فكرة العلماينة ظهرت في أوروبا الغربية منذ القرون الوسطى، وأدّت إلى فصل الدين عن الدولة، فصلًا ثوريًا، في عهد الثورة الفرنسية الأولى، كما اتّخذت شكلها الشرعي القانوني في التاسع من كانون الأول (ديسمبر) 1905م، من خلال ما أصبح معروفًا بـ«قانون انفصال الكنيسة عن الدولة». من هنا، جاء في تعريف الدولة العلمانية أنها «وليدة جملةٍ من التدابير التي جاءت وليدة الصراع الطويل... بين السلطتين الدينية والدنيوية في أوروبا، واستهدفت فكّ الاشتباك بينهما، واعتماد فكرة الفصل بين الدين والدولة، بما يضمن حياد هذه تجاه الدين، أيّ دين، ويضمن حرية الرأي... ويمنع رجال الدين من إعطاء آرائهم صفةً مقدّسة»[2].

ويبدو من خلال أدبيات هذه الأطروحة أن مصطلح العلماينة Secularism يُطلَق على مجالَين مرتبطين هما: 1ـ المفاهيم والقيم، 2- السلطة:

(124)

في المجال الأوّل ترى العلمانية أن المفاهيم والقيم، وإن كانت من القضايا الحقيقية، فلا بد من اتّصافها بـ«العقلانية» Rational، وإذا كانت سلوكيّاتٍ وقضايا اعتبارية Notm، كالفقه والقانون وغيرها، فلا بد من اتّصافها بـ«العقلانية» أو«العقلنة» Rationnalize. والأمور العقلانية هي ما يوجب فعله أو تركه، كما يقول العقلاء بما هم عقلاء، ثم يتولّون الحكم عليها بالحسن أو القبح.

وفي المجال الثاني، فإن العلمانية ترمي إلى الفصل بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية (Church-Stata Diffferenation).

وتنقسم العلمانية إلى صنفين:

- العلمانية المعتدلة، وهي الاتّجاه الذي يعترف بالدور الروحي والنشاط المناسكي للأديان.

- العلمانية المتشدّدة، كالماركسية التي ترفض أي نشاطٍ متصوّرٍ للدين حتى على صعيد الطقوس الدينية البحتة[1].

لم يظهر مصطلح العلمانية ضمن مفردات اللغة الفرنسية إلا قرابة العام 1870، ولم يدرج في المعجم إلا بعد سنةٍ من ذلك التاريخ. من الواضح أن نشوء مصطلح العلمانية وتطوّره على صلةٍ وثيقةٍ بالمفهوم الذي يعبّـر عنه، وذلك في سياق الظروف الخاصة التي شهدها النصف الثاني من القرن التاسع عشر. تشكّلت كلمة «علمانية» انطلاقًا من الصفة «علماني»، والتي تتعلّق بمبدأ فصل المجتمع المدني عن المجتمع الديني، أي بعبارةٍ أخرى، رفض

(125)

اعتماد السلطات الدينية كمرجعٍ في دولة «تضمن حرّية الاعتقاد»، وهو ما يشكّل روح قانون العام 1905 [1].

وهكذا يُعتبَـر قانون 9 كانون الأول 1905، الذي وضعه الفقيه الدستوري الفرنسي إميل كومب، من النصوص الجوهرية والضرورية. فقد شكّل ثمرة التحرّكات التي قام بها الجمهوريون منذ العام 1879. جاء ذلك القانون أيضًا ليعبّر عن «علمانيةٍ مناضلةٍ» تمخّضت عن تطوّر الفكر العلماني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بالنتيجة، تم فصل الكنائس، التي هي عبارةٌ عن تنظيماتٍ مشتركةٍ لمن يتشاطرون الدين نفسه، عن الدولة، المؤسسة التي تدير حياة الجميع. وبموجب أحكام هذا القانون، تحقّقت سلطةٌ علمانيةٌ منعت الدوائر الرسمية في الدولة من التحلّي بأي طابعٍ ديني، مما أدّى إلى ترسيخ العلمانية كمبدإٍ تأسيسيٍ يشكّل جزءًا لا يتجزّأ من الجمهورية.

  4- الدولة التعدّدية

انطلاقًا من اعتباراتٍ سياسيةٍ وفلسفيةٍ وقيميةٍ، تدخل أطروحة الدولة التعددية في مقابل دولة الفرد. ومن قبل أن نعيِّن المرتكزات المفاهيمية التي يقوم عليها هذا النوع من الدول، من المفيد الوقوف على معنى ودلالة المصطلح:

يحوي مصطلح «التعددية» Pluralism عددًا من المضامين في الفكر المعاصر، وخاصّةً عندما يطبّق على الدولة. ويذهب الباحثون

(126)

المتخصّصون إلى التمييز بين عددٍ من التعدّديات المفاهيمية لم تكن الدولة بمنأى منها وهي:

1- التعدّدية الفلسفية، تشير عادةً إلى النظرية في المعرفة، أو أُطُر فهم العالم. إن فكرة التعدّدية بهذا المعنى مرتبطةٌ غالبًا بالنسبية.

-2 التعدّدية الأخلاقية، وهي الاعتراف بالاختلاف في الأهداف أو الغايات التي تتعلق بالأفراد أو الجماعات.

3-  التعدّدية السياسية، لا تدعو إلى المجتمع التعدُّدي بالمعنيين السابقين. لكن هذا النوع من التعدّدية ينظر إلى الحياة الاجتماعية في ضوء تشكيلات المجتمع المدني: جماعات، نقابات، اتّحادات عمّالية، ونوادي محلّية وغيرها[1].

وقد اختلف الباحثون في معنى التعدّدية السياسية، وهل المقصود منها المعنى الوصفي أو القيمي؟ فالمعنى الوصفي لهذا المصطلح هو المراد عند تيار التعدّدية في الفكر السياسي الأميركي، في حين أن المعنى القيمي هو المقصود عند التعدّديين البريطانيين، خصوصًا عند «فيجز» و«لاسكي» و«ف. ميتلاند»[2].

تعتمد معاني «التعددية السياسية» للدولة على ركنين أساسيين:

الأوّل: ركن الحرية، حيث يتّفق جميع التعدّديين على أن الحرّية يمكن أن توجد فقط في إطار الجماعات المتعدّدة، كما أن الفرد يزدهر بالاختيار المتنوّع الذي يكون القاعدة الأساسية للحرّية المطلقة.

(127)

الثاني: عدم الاعتراف «بالسيادة المركزية»، والدعوة إلى توزيع «السلطة» و«القوة» على الجماعات. التعدّديون رفضوا فكرة السيادة القانونية، واعتبروا أن القانون أساسه جماعية الجماعات. كما رفضوا أن يكون في كل نظامٍ اجتماعيٍ مركزٌ واحدٌ هو المرجعية النهائية.

أما «التعدّدية» بمفهومها الفلسفي فتؤدّي إلى القول بالنسبية، وعدم الاعتراف بالحقيقة المطلقة والثابتة، وهذا ما يتعارض مع التوجّه الإسلامي العامّ الداعي إلى وجود الحقيقة في مجالات مختلفة، وعليه، فلا يمكن القبول بالتعدّدية الفلسفية والمعرفية.

في حين أن التعدّدية الأخلاقية، بمعنى تعدّدية القيم والأهداف واختلافها حسب الظروف والأحوال، والقول بالنسبية الأخلاقية وعدم الثبات فيها، فيتعارض أيضًا مع الاتجاه السائد عن ثبات القيم الأخلاقية في الفكر الإسلامي. من وجه آخر يشير نُقّاد التعدّدية من وجهة نظر الفكر الديني الإسلامي إلى أن التعدّدية السياسية بمعنى نفي الاحتكار والاستبداد على مستوى السلطة والقوة من دون الالتزام بالمفاهيم المرتبطة بالليبرالية الغربية، فهي ممّا يتوافق وجوهر الفكر الديني بشكل عام والفكر الإسلامي بشكل خاصّ، المرتبط بـ«مركزية الفكر التوحيدي»، ولا-مركزية الفكر الإنساني والبشري. حيث إن الفكر الإسلامي يتعارض مع «صنمية الأشخاص والأفكار»، ويدعو إلى «الاجتهاد» الذي يجمد عند الأشخاص والأفكار الإنسانية. كلذلك شريطة أن لا تتحوّل هذه اللامركزية إلى الفوضى واللانظام، وأن لا تتعارض مع المصالح العامّة للأمّة،

(128)

وأن لا تخلّ بوحدة الأمة وقوّتها وعزّتها، وأن لا تصطدم مع المبادئ والقيم الدينية[1].

5 - الدولة الدينية في التراث الغربي

يرد مصطلح «الدولة الدينية» في الفكر السياسي الغربي، وكذلك في اللاهوت المسيحي ضمن سياقين:

الأول، عند الحديث عن «الدولة العلمانية» كفكرةٍ مختلفةٍ عن المفهوم الديني للدولة. والثاني: عند البحث عن مصادر السيادة في الدولة.

في المورد الأول، الدولة الدينية هي الدولة التي تدعو إلى التزاوج بين الأمر الديني والدنيوي ولا ترى الفصل بينهما.

وفي المورد الثاني، فإن الدولة الدينية، تلك التي ترى أن السلطة السياسية تتّسم بـ«الشرعية» حينما تستمدّ قدرتها من السماء، وعليه فسلطة القيادة في المجتمعات السياسية ليست نظامًا بشريًا، إنها من صنع الله، وعلى حدّ تعبير بولس الرسول في رسالته إلى الرومان: «لا سلطة إلا ومصدرها الله»[2]. وهذا ما اصطلح عليه بـ«نظرية الحق الإلهي»، أو «النظرية الثيوقراطية» في أساس السلطة[3].

إلا أن المسألة ليست بهذه البساطة، حيث إن عوامل عدّة ساهمت في تكوين الصورة الفعلية للنظرة الدينية إلى الدولة في التراث المسيحي. ففي حين أن اليهودية تدعو إلى التزاوج بين الأمر

(129)

الديني والدنيوي حسب نصوص العهد القديم[1]، وما ورد في الأفكار الإنجيلية عن ملوك داوود الإلهيين، فالمعروف عن المسيحية هو الفصل بين الدين والدولة على حدّ التعبير الوارد بأن «ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، وقول المسيح(ع): «إن مملكتي ليست في هذا العالم»[2]، على خلاف معطيات ونصوص مسيحية أخرى تدعو إلى التزاوج بين الدين والدولة، كالشروط الواردة في الرسائل الإنجيلية للقديس بول  St. Paul (الروم XIII) ورسائل القديس بطرس (St. Peter).

تفضي المعاينة التاريخية إلى أن مقولة الدولة الدينية التي مثّلتها المسيحية في أوروبا اتّخذت مساراتٍ مضطربةً ومتعددة الرؤية. فقد كانت المسيحية في بواكيرها غير مباليةٍ نسبيًا بقضايا الدولة، معتبرةً إيّاها شؤونًا عابرةً سرعان ما ستزول. ولكن، عندما بات واضحًا أن المسيحيين يجب عليهم أن ينتظروا مجيء مملكة الله، مالت السلطات الكنسية إلى التصالح مع العالم. وإن العملية الطويلة التي توصّلت بها الكنيسة إلى التفاهم مع الإمبراطورية أسفرت عن وضع تبريرٍ للسلطة السياسية القسرية ومجموعةٍ من الموجّهات النافعة لأجل وضع الكنيسة في صميم المجتمع المدني.

وسيؤدّي مذهب الخطيئة الأصلية بالعديد من آباء الكنيسة إلى أن يستنتجوا أن الدولة كانت عاقبةً إلهية بسبب طبيعة السقوط البشري. ولكن، بهديٍ من الكنيسة، يمكن للدولة أن تؤدّي دورًا مهمًا في

(130)

التاريخ الكلي بتصحيح الخطأ البشري. ولقد استنتج الإغريق أن السياسة طبيعةٌ للكائنات البشرية، فقد نظرت إليها الكنيسة على أنها نتيجةٌ بديهيةٌ خالصةٌ للإخفاق. وأما الفكرة الرومانية المتأخّرة عن النظام الملكي المقدس ـ وهي آخر المحاولات لإعادة بناء النظام الإمبراطوري بدعم من أفكارٍ مستمدّةٍ من الشرق الوثني ـ فقد نُبذت تمامًا[1].

بيد أن هذا لم يكن مؤشّرًا على عودةٍ إلى النزعة الإنسانية التي شهدتها الديانة الإغريقية والجمهورية الرومانية، التي فهمت الدين باعتباره من مستلزمات المجتمعات المدنية المنظمة. أما في المجتمعات التاريخية اللاحقة، فإن مجالًا كبيرًا من الحياة البشرية وُضع خارج نطاق «المصلحة العامة» (Res publica)، لأن وصيّة إعطاء ما لقيصر لقيصر Render unto Cezar تضمّنت الكثير أيضًا مما وجب إعطاؤه لله.

إن دمج الكنيسة والدولة، الذي أعقب اعتناق قسطنطين المسيحية، حوّل الأباطرة الوثنيين إلى مؤمنين بالمسيحية، وكان طبيعيًا بعد ذلك أن يتمّ الإعلان صراحةً عن أن الدولة الرومانية هي دولةٌ مسيحيةٌ خالصة. ولقد منحت بابوية القيصر شرعيةً متجدّدةً للمؤسّسات السياسية، إذ يمكن في هذه الحال استخدام السلطة لأغراضٍ روحيةٍ وزمنية. وبالتالي أصبح حفظ السلام، والدفاع عن الكنيسة، وتعزيز الأرثوذكسية اللاهوتية، شؤونًا تتولّاها الدولة.

(131)

ومورست السلطة على نحوٍ غشوم ضد الهرطقات التي حفل بها عالم الكنيسة في بواكيرها، وأضحت المسيحية الفاعلة تدريجيًا المبدأ الأساسي للتماسك السياسي. وسرعان ما تحوّل المنظّرون إلى تطوير نظريةٍ مسيحيةٍ خاصةٍ بالمجتمع المدني، مصحوبةٍ بنقدٍ للماضي الإغريقي والروماني[1].

اعتبرت الكنيسة النزعة الكلاسيكية الموروثة من الرومان إثمًا وثنيًا. ذلك لأن الكنيسة بحثت عن مبدأ خلقها وحركتها خارج نطاقها الذاتي. فالقناعة السائدة التي كانت تفيد أن البشر يمكن أن ينظّموا حياةً أخلاقيةً تامّةً بوسائلهم الخاصة كانت، بحسب الكنيسة، وهمًا خطيرًا وخطأً يركبه الغرور. وبما أن ضرورة الاختيار الفردي تكمن في صميم «لاهوت السقوط» والاعتقاد المرافق له بالخطيئة الأصلية، كما يبيّـن القديس أوغسطين، وقد وجهت شكِّيته العميقة في عمل الإنسان لاهوته المتعلّق بقدرة النعمة الإلهية على الافتداء، ورسمته بصفته أهم لاهوتيٍّ إبّان حقبة الكنيسة المبكرة[2]. وتظهر رؤية القديس أوغسطين بصدد الدولة الدينية من مصنّفه الأشهر الذي وضعه تحت عنوان «مدينة الله» في العام 413 بعد الميلاد، أي بعد ثلاث سنوات من اجتياح ألارك (Alaric) وقومه القوطيين روما.

لقد حوى هذا الكتاب أوّل نظريةٍ مسيحيةٍ منهجيةٍ في التاريخ والمجتمع المدني. فقد أمدَّ التراث المسيحي الحديث بتفسيرٍ فيّاض لقصص الكتاب المقدس، وربط ظهور الكنيسة وارتقاءها

(132)

ومصيرها بعالم خلق البشرية وسقوطها وافتدائها. وفي أثناء ذلك، أعدّ العدّة لهجومٍ كاسحٍ على الزعم الدنيوي القائل إن بوسع المرء أن يكتشف في الطبيعة والعقل المبادئ الاخلاقية التي توجِّه سلوك الحياة الإنسانية، وقام بالدفاع عن المسيحية ضد التهمة الوثنية التي ترى أن المسيحية مجرّد خرافةٍ شرقية. وهكذا فإن تبجيله النزعة الإنسانية للعلم والعقل أخلى المكان لصالح التوكيد الصارم على الإيمان والنعمة الإلهية اللذين يشكلان الأوغسطينية الناضجة.

كان أوغسطين مانويًا، وأفلاطونيًا محدثًا، وخاطئًا، ومعتنقًا دينًا جديدًا، وأسقفًا، وعالم لاهوتٍ، وجدليًا، وقاضيًا، في سيرته برمّتها، ولقد فكّر مليًّا في قضايا الروح والجسد. وكان يكنّ احترامًا كبيرًا لإنجازات الإمبراطورية الرومانية.

وطبقًا لفلسفته اللاهوتية كانت الدنيوية الوثنية بالنسبة لأوغسطين تتناقض بشكلٍ صارخٍ مع الإمكانات التي فتحها حضور المسيح في التاريخ الإنساني. فمنذ آدم، انقسم الجنس البشري إلى «مدينتَين» كبيرتَين، وهما رمزان روحيّان لسلطتَين متصارعتَين من أجل السيادة على خلق الله، وبنتيجة ذلك احتدم الإيمان والكفر في صراعٍ سرمديٍ، وسادا العالم طولًا وعرضًا. ولم يتمّ التعبير عنهما تعبيرًا تامًا عن طريق أي مؤسسةٍ محدّدة، بل مثّلهما في العالم بشرٌ ينتمون إلى تراتبياتٍ متوازيةٍ في كلتا الجهتين. فهذه المدينة تقوم بخدمة إبليس وشياطينه، بينما تقوم المدينة الأخرى بخدمة الله وملائكته. الواحدة تمثّل الاضطراب والنزاع اللذين يصاحبان شؤون الجسد، وتمثّل الأخرى الوحدة والسلام اللذين يتنزّلان من الله. ترمز الأولى

(133)

إلى شقاقات الغرائب البشرية وجزئيتها، بينما ترمز الأخرى  إلى وحدية محبّة الله وكلّيتها. يشكّل هذان العالمان، المتشابكان تشابكًا معقدًا في كل شأنٍ من الشؤون الدنيوية والكنسية، ميدانَين متميّزَين ومترابطَين من ميادين العمل الإنساني. وقد قضي على مدينة الإنسان ومدينة الله أن توجدا معًا حتى نهاية العالم. أما علاقتهما فتشكّل المجتمعات البشرية كلها وتستوعب كلية التاريخ البشري.

ويمكن القول إن المفهوم اللاهوتي لمدينة الله سوف يُستعاد على نحوٍ لافتٍ في سياق الجدل المحموم الذي شهدته القرون الوسطى بين الاتّجاهَين اللاهوتي والعلماني.

قبل القرن الثالث عشر، لم تُطبّق فكرة السلطة المطلقة إلا عبر السلطة الكنسية. ففي عام 1076 سوف تعلن الكنيسة أن «السلطة الكاملة» تعود إلى البابا بما هو رئيس الكنيسة، الذي يستطيع تشكيل السلطات الزمنية، ويشرّع القوانين التي يجدها مناسبةً لقوانين الكنيسة.

واذا كانت السلطة المطلقة ماثلةً في أوروبا منذ وقت طويل. إلا أنّها ستصبح في العصور الوسطى قوةً هائلةً مانعةً لأي تطوّر في النظام الاجتماعي والسياسي. وهو الأمر الذي سيفتح الطريق لانتقال أوروبا إلى طورٍ تاريخيٍ جديدٍ اشتعلت فيه الثورات تمهيدًا لما سمي بعصر النهضة وبداية قيام الدول المركزية الحديثة.

(134)

6 - الدولة الوطنية

ارتبط مفهوم الدولة الوطنية بالمفهوم الكلاسيكي للدولة الحديثة، ويذهب كثيرون إلى اعتبار المفهوم الأول فرعًا للثاني ومولودًا شرعيًا له. أي إن الدولة الوطنية هي إحدى العلامات المميّزة لولادة زمن الحداثة في الغرب. وتشير المعاجم السياسية في هذا الشأن إلى أن كلمة وطن (nations) في اللاتينية المسيحية، تعني الشعوب الوثنية (païennes) كمقابل لـ «شعب الله» اليهودي والمسيحي؛ في حين أن لفظة (nascicon) في القرن الثاني عشر، كانت تحيل على رابطة مسقط الرأس والأصل واللغة والثقافة، كمقابل للعرق (race) والنوع (gent).

وفي القرن السابع عشر باتت تشكّل امتدادًا للمعنى السابق، أي رابطة المصالح أو المهن. وأما في أواسط القرن الثامن عشر، فسيحدث تغيّـرٌ في المعنى السياسي للكلمة، وهو ما يعكسه التعريف الوارد في موسوعة دنيس ديديرو (d. Diderot) وجان دالامبير (J. D’Alembert ) وجاء فيه: «إن كلمة وطن، هي اسم جمع يستعمل للتعبير عن عدد كبير من أفراد الشعب الذين يقطنون في مساحةٍ معيّنةٍ من البلد، تحيط بها الحدود وتخضع للحكومة نفسها»[1].

أما عن البعد التركيبي لمفهوم الدولة الوطنية: (دولة) (وطن)،

(135)

فإن بعض الخبراء في القانون الدستوري لا يجدون هذا الالتقاء ترادفيًا (synonymique) في الواقع، إنما هو مزدوج المعنى[1] (amphibologique). وبصيغة أخرى، فإن وصف «سيادة الشعب» باعتبارها «سيادةً وطنيةً»، لا يعني تركيب خطابَين متجانسَين، ذلك لأن لفظة وطن لا تقترن فقط بحركة نقل السيادة من العاهل (الملك) (monarque) أو (الوطن ـ المملكة) (nation-royaume)، إلى الشعب (الوطن ـ الجمهورية) (nation- république). فمنذ قيام الثورة الفرنسية انتظم حول هذه الكلمة نمطٌ جديدٌ من الخطاب، انخرط داخل خطاب السيادة الشرعية وتأسيس الهيئة السياسية ودولة الحق، مع ما يستتبع ذلك من مشاكل جديدة.

وهكذا، يحدث تراكب لا يخلو من توتّر بين الزوج (دولة/ حق طبيعي) والزوج (دولة/ تراب وطني)؛ وبين الذات السياسية والذات الجماعية التي لم تشكّل من العقد (contrat) كفعلٍ ميتا- سياسي، بل من كثافة التاريخ والجغرافيا واللغة. وباختصار من الأعماق المؤسّسة «للثقافة»، أي من الشعب كأمة.

والحال أن فكرة الشعب كأمة تتميز عن فكرة جماعة المواطنين. فهذه الفكرة ناتجةٌ عن التحام مفهومَين هما: المواطنة (citoyenneté) والجنسية (nationalité)؛ وهذه الأخيرة هي نتاجٌ لتاريخ، وتحديدًا لتاريخ بعض دول أوروبا الغربية. لذلك فإن رهانات هذا التاريخ هي التي تستوجب المساءلة، بما هي رهانات سياسية وأيديولوجية

(136)

وأيضًا فلسفية. وسنرى هنا كيف أن المشكلة الفلسفية للدولة الوطنية تنغرس داخل توتّرٍ لصيقٍ بنظرية السيادة الشعبية. وبالمقابل، ستجد هذه النظرية في الدافع الوطني، انطلاقًا من الثورة الفرنسية وعلى مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، أحد أهم العوامل المفضية لانتشارها، وبالتالي لانتشار توترها الداخلي.

ولتلخيص المسألة بصيغةٍ مجرّدةٍ نسبيًا، نقول إن هذا التوتّر هو الذي يحرّك فكرة الإرادة العامة عندما تواجه سؤال هويتها. أي عندما تصطدم الشمولية التي أقامتها السلطة السيادية لحماية المواطنين المتعالية عن كل الخصوصيات بسؤال حدودها التي تلقّت منها عبر صورة الآخر صورة إمكانيتها وخصوصيتها المقبولة بشكلٍ كبير[1].

في معرض كلامه على الدولة الوطنية ذات السيادة، من المهم أن نستعيد ما سبق وأشار إليه الفيلسوف السياسي ألكسيس دوتوكفيل[2] في هذا الشأن. لقد أجرى تقابلًا غير مألوف بين الاستبداد الملكي القديم والطغيان الديمقراطي الحديث باسم الإرادة العامة وسلطة الشعب مبيّنًا الخاصية المحدودة والنسبية للسيادة. وهكذا ربط دوتوكفيل بين الحرية الخاصة والحرية السياسية، مؤكدًا على أن حماية الحقوق الفردية مرتبطةٌ بالحد من السلطة الاجتماعية وسلطة الدولة. وحين يطرح سؤال المواطنة وشرعية السلطة ومفهوم الوطن يرى أن الجواب على مثل هذا السؤال المركّب يتّصل اتّصالًا وثيقًا بالدولة الوطنية وإشكاليات قيامها وعيشها.

(137)

7-  الدولة القومية

مع أن ثمة تشابهًا تكوينيًا بين مفهومَي الوطنية والقومية، فإن التجارب التاريخية ـ ولا سيما تجارب الحداثة في الغرب ابتداءً من القرن الثالث عشر الميلادي ـ سوف تُظهر تمايزًا بين المفهومَين لجهة شكل وطبيعة الأنساق التي اتّخذها كلٌ منهما.

الدولة القومية كوحدةٍ سياسيةٍ اجتماعيةٍ تكون عادةً أكبر من القبيلة أو الدولة المدينة The City State، وهي بالمقابل أصغر من الدولة الإمبراطورية. ولكن يجب أن لا نفترض وجود أي تطوّرٍ تاريخي قد دخل ضمنًا في هذه المقارنة، ذلك أننا إذا ما قمنا بتحليل التتابع التاريخي لهذه الظواهر ـ القبيلة «Tribe»، الدولة القومية، الإمبراطورية ـ سنجد أن المصطلح الثاني غالبًا ما يكون مهملًا، فعندما تطوّر المجتمع متجاوزًا مرحلة القبيلة ربّما تبلور في شكل الدولة المدينة، ومن هذا النمط كثيرًا ما انتقل مباشرةً ليأخذ شكل الدولة الإمبراطورية، من دون المرور بمرحلة الدولة الأمة أو القومية، وهذا هو على وجه الخصوص خطّ التطوّر المعروف في العالم الكلاسيكي[1].

(138)

وبالنظر إلى حركة التاريخ بالكامل في جميع العصور، نجد أن الدولة الأمة في جميع الأحوال هي تجسيدٌ لظاهرةٍ طبيعيةٍ تاريخيةٍ عامةٍ يمكن تمييزها بسهولةٍ عن جميع الظواهر والتنظيمات الأخرى. بعض علماء الاجتماع الغربيين على عدم وجود ترابطٍ تاريخيٍ واضحٍ في الانتقال من مرحلةٍ إلى أخرى، بالإشارة إلى التجربة التاريخية العربية، فيفترضون أن «الشعوب العربية انتقلت مباشرةً من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة الإمبراطورية»، متجاوزةً بذلك مرحلة الدولة القومية، وقد حدث هذا نتيجة مجموعةٍ من العوامل أهمها العامل الديني[1].

وهكذا فإن الدولة كبناءٍ سياسيٍ تنظيميٍ قد تأخذ المسلك الطبيعي لها، وذلك بأن تتبلور في شكل الدولة القومية، ونستنتج من هذا الطرح أن الدولة كتنظيمٍ سياسيٍ ليست هي جوهر الأساس في الدولة القومية، ذلك لأنها مجرد قالبٍ لاحقٍ يجب أن يتكيّف مع الواقع الاجتماعي الطبيعي ـ الأمة ـ السابق عليه في الوجود. فالدولة يجب أن تكيِّف نفسها وفق الحاجات الاجتماعية والإنسانية للأمة، وأن تتطابق مع حدودها، بحيث تشكّل كلًا واحدًا منسجمًا تمامًا في جميع عناصر تكوينه الاجتماعية والسياسية. يستثنى من ذلك الحالة التي تأخذ فيها الدولة شكل الإطار التنظيمي لتكوين الأمة، عن طريق دمج كتلٍ كبيرةٍ من البشر في كيانٍ سياسيٍ واحدٍ

(139)

فتشجع على نمو الإحساس بالمشاركة الوجدانية وخلق الشعور بالوحدة القومية[1].

إذًا، هناك نوعان من الترابط يمثّلهما في المجتمع الإنساني الأمة أو الجماعة والدولة، فالأمة هي ترابطٌ بالتشابه، والدولة هي ترابطٌ بالتنظيم الصوري، وكل من هاتين الظاهرتين تتّحدان في إطار مفهوم الدولة الأمة أو القومية. فكلما نمت الجماعة أو الأمة، كلما اندفعت نحو تحقيق ذاتها في شكلٍ أكمل وهو الدولة، ذلك أن الدولة وحدها هي التي يمكن أن تخلع عليها ذلك التعريف، وبهذا تصبح حدود الدولة هي حدود الأمة[2].

8- الدولة العقلانية

دخل مصطلح «الدولة العقلانية» حقل التأويل كما لم يسبق لسواه من المصطلحات المتعلّقة بفقه الدولة الحديثة. وبحسب التعريفات المتداولة في القاموس السياسي الغربي، فإن الدولة العقلانية هي تلك التي كانت فكرتها نتاج جدلٍ فلسفيٍ عميقٍ شهدته بدايات عصر النهضة في أوروبا، ولمّا ينتهِ بعد مع الأطوار المتقدّمة لنشوء الدولة الأمة في أوروبا.

ولكي نبيِّن أصل ظهور هذا المصطلح، والسبب الذي حدا بالفقهاء إلى ربط الدولة بالعقلانية، وجدنا من المفيد الإضاءة على الجذور التاريخية لهذا المفهوم.

(140)

ترجع الجذور الأولى لمبدأ العقلانية إلى فلاسفة القرنين السادس عشر والسابع عشر، بدءًا من الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون (1561-1626)، والفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650)، ثم تبلورت وازدادت وضوحًا وتفصيلًا مع إيمانويل كانط (1724-1802). وربما شكلت كتابات بيكون الإرهاصات الأولى لوضع منطقٍ جديدٍ يعتمد على التجربة والاستقراء بعيدًا عن التحليل والتأمل العقلي التجريدي. نجد ذلك في كتابَيه «في تقدّم العلم» و«الإحياء العظيم». لكن الجدير بالإشارة هو أن التأكيد على التجربة لديه لم يجعله مضادًا في منهجه الجديد للإيمان بالله، وإنما كان يعتقد أن «البحث الطبيعي للأشياء المادية إنما هو أكثر ألوهيةً من البحث في المجرّدات الفلسفية؛ ذلك لأن موضوعات العالم الطبيعي هي علامات الأفكار الإلهية، في حين أن المجرّدات هي من خلق البشر، وما هي إلا تصوير للعالم من خلال أوهام الناس»[1].

أما ديكارت فقد مضى ليجعل من إشارات بيكون الأولى منهجًا فلسفيًا. فقد كانت كتاباته رائدة في هذا المجال، وعلى الخصوص كتابه الأكثر شهرة «مقالٌ في المنهج»، الذي وضع فيه القاعدة العريضة الأولى لمنهجه وهي: «أن لا أسلّم شيئًا إلا أن أعلم أنه حق»، حيث بدأ الخطوة الأولى بالشك في كل شيء، ثم قال: «مهما شككت بشيء فإنني لا استطيع أن أشكّ بهذا الشكّ الذي يغمرني، وحيث إن الشك هو لونٌ من ألوان الفكر، فأنا أفكر، إذًا أنا موجود». وهذه المقولة الأولى التي كانت بمثابة البدايات الأولى لوضع المنهج القائم على

(141)

أساس الاستقراء، بعيدًا عن التأمّل التجريدي، ومن ثم التشكيك في كل المقولات العقلية الفلسفية ما لم يتمّ البرهان العلمي عليها[1].

لم يشأ ديكارت أن يضع نفسه في موقع مضاد لـ«الإيمان بالله»؛ بل اعتبر فكرة «الله» هي الضامن لسلامة المعلومات التي يجدها يقينيةً في نفسه، أو هو المانع من أن تكون تلك اليقينيات من فعل شيطان مخادع، ويقول في هذا الاطار: «الحق أنه بدون معرفة وجود الله وصدقه لست أرى أن باستطاعتي التحقّق من شيء البتّة، أعود إلى فكرة الله التي كانت سببًا من أسباب الشكّ، فأجد أنها فكرة موجودٍ كامل، والكامل صادقٌ لا يخدع، إذ إن الخداع نقصٌ لا يتفق مع الكمال، وعلى  ذلك، فأنا واثق بأن الله صنع عقلي لإدراك الحق، وما عليّ إلا أن أتبيّن الأفكار الواضحة، وصدق الله ضامن لوضوحها»[2].

وجاء دور كانط ليقيم هذا الاتّجاه الفلسفي الجديد على قدميه، ويكمل بناء الصرح الذي بدأ به بيكون وديكارت. ففي كتابيه «نقد العقل الخالص»، و«مقدّمة لكل ميتافيزيقيا تريد أن تكون علمًا»، ينتهي إلى النتيجة التالية: «إن الفكر حاصلٌ بذاته على شرائط المعرفة، وإن الأشياء تدور حوله كي تصير موضوع إدراك وعلم، ولا يدور هو حولها كما كان المعتقد من قبل»[3]. كما حاول أن يقيم الفلسفة على أسس علمية استقرائية، مؤكدًا: «أن النقد لا يعني إلغاء الميتافيزيقا؛ بل

(142)

التمهيد لها باعتبارها علمًا كليًا للتجربة، لا كالميتافيزيقا القديمة التي تدور على معانٍ جوفاء مقطوعة الصلة بالتجربة»[1].

الجذور التاريخية لمبدأ «العقلانية» الذي ظهر بقوّةٍ في خلال القرن الثامن عشر[2] سوف تمتدّ إلى القرنين التاليَين من خلال تعبيرات ومفاهيم وآليات معرفية شتّى. فلقد شهد المبدأ العقلاني تطورًا ملحوظًا في القرن التاسع عشر وما بعده، وعلى أيدي فلاسفة آخرين أمثال ماكس فيبر وهيغل وهابرماس وهايدغر وغيرهم.

في هذا الإطار تعيينًا، نجدنا أمام تنظيرٍ مشهودٍ من جانب هيغل حول الدولة العقلانية كما عرضها في مؤلفه «مبادئ فلسفة الحق». فقد ركّز على فكرة الإتيقا الاجتماعية (sittlichkeit) التي تتوحّد في إطارها الأبعاد الذاتية والموضوعية للجماعة، عبر ثلاثية متلازمة: العائلة والمجتمع المدني والدولة. وهذه الأبعاد مترابطةٌ داخل الوجود الاجتماعي، لكنّها متسلسلةٌ بشكلٍ تدريجي، حيث تعتبر الدولة هي الحد النهائي لمسارها. وبهذا المعنى، يمكن أن تحدَّد الإتيقا الاجتماعية بوصفها حركةً منطقيةً للتحقّق الذاتي للدولة، ويمكن لهذه

(143)

الأخيرة أن تحدَّد بوصفها تحققًا للفكرة الإتيقية، أي باعتبارها عقلانيةً متحقّقة[1].

9- الدولة الاشتراكية 

الاشتراكية هي عبارة عن إحدى النظريات الاجتماعية والسياسية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، حيث طُبّقت على أرض الواقع في ذلك الوقت، بعد أن كانت مجرّد كتاباتٍ تُعرف في ذلك الوقت باسم الاشتراكية الرومانسية. ولا بدّ من الإشارة أن الفيلسوف الألماني وعالم الاقتصاد كارل ماركس هو صاحب الريادة في هذه النظرية، حيث وضع الكثير من الكتب والمقالات التي تتحدّث عن المبادىء الشيوعية، والاشتراكية، والتي تطوّرت فيما بعد على أيدي الكثير من السياسين، والاقتصاديين. ومن أهم مؤلفاته «رأس المال» و«نقد الاقتصاد السياسي» و«بؤس الفلسفة» وسواها.

تنقسم الاشتراكية العلمية إلى ثلاث فروع، وهي: المادية الجدلية، والاقتصاد السياسي، والمادية التاريخية، وبناءً على ذلك فإنّه من المفترض أن يتمّ تطبيق هذه الفروع في دراسة المجتمعات البشرية من أجل تحقيق شروط المعرفة بالمجتمع واحتياجاته، حتّى نصل إلى التطوّر الذي تسعى إليه الاشتراكية.

كثيرون من النُقّاد كتبوا حول العيوب التي ظهرت خلال التجربة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلدان والمجتمعات التي

(144)

تسيطر عليها حكوماتٌ اشتراكيةٌ منذ بداية القرن العشرين وحتى انفراط المعسكر السوفياتي في أواخر الثمانينيات.

لعل من أبرز العيوب التي تؤخذ على النظام الاشتراكي والتي تهدد استمراره، وقد أثبتت هذه العيوب فشل هذا النظام حيث أدّت إلى تقلّصه، وانهياره، التالي:

البيروقراطية والقوانين الصارمة، والمتشدّدة إداريًا.

ضعف المحفّزات الفردية.

ضعف التطور الاقتصادي، ممّا يؤثّر على عمليات الطلب والعرض، الأمر الذي يؤدّي إلى انخفاض الربح، وحدوث العديد من المشاكل السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية.        

تنطوي المنظومة المعرفية للاشتراكية على قيمٍ ومُثلٍ أهم ما عرف منها في سياق تنظيرات مؤسّسيها على نزعة إنسانية ونقد أخلاقي للرأسمالية، وتدعو للانتقال إلى نظامٍ اجتماعيٍ يحقّق العدالة والرفاهية للجميع، من خلال تعزيز الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج والعمل التعاوني، والتعليم الشامل لكل الناس، والقضاء على الفقر وعلى كلّ أشكال الاستغلال.

قدّمت الماركسية نفسها إلى العالم بوصفها إيديولوجيا خلاصية للمجتمع البشري. وجاء خطابها الفلسفي والاقتصادي/ السياسي على صهوة ماديةٍ تاريخيةٍ جامحة، لتخبر الملأ بأنَّ نهاية الزمن الذي كانت الدولة فيه قلعةٌ لتغريب الإنسان واستلابه باتت وشيكةً.

سوف يأتي المفكِّر الروسي جورج بليخانوف بعد ذلك ومعه

(145)

عددٌ من كبار منظِّري الماركسية ليشرح فلسفة ماركس في التاريخ والاجتماع السياسي، وذلك في إطار أحد أبرز المفاهيم التي وضعت باسم المادية التاريخية. يقول بليخانوف: لقد أفضت أبحاثي إلى النتيجة التالية: لا يمكن تفسير العلاقات الحقوقية وأشكال الدولة لا بذاتها ولا بالتطور العام المزعوم للفكر البشري، وإنما هي تستمد جذورها من شروط الحياة المادية التي كان يفهمها هيغل تحت اسم «المجتمع المدني» La Societe’ Civile أسوةً بالمفكِّرين الإنكليز والفرنسيين في القرن الثامن عشر.

ويرى بليخانوف الذي اعتبره لينين أهم منظِّر للشيوعية في زمانه ـ رغم خلافه معه ـ أنَّ قفزات التاريخ تتمّ بلا هوادة وأنَّ التاريخ حافل بهذه القفزات التي لولاها لما كانت مراحل الانتقال والتطوّر التاريخي. واعتبر أنَّ التطوّر الاقتصادي يؤدّي إلى الثورة السياسية التي تكون نتيجتها التأثير على النظام الاقتصادي، وأنَّ النظم الاجتماعية هي وليدة الصراع بين الطبقات المستغَلَّة والطبقة المستغِلَّة[1]

إنَّ «لا دينية» الدولة، وبالتالي ضرورة انفصالها التام عن الدين، هي واحدةٌ من أهمّ الخصائص التي ميَّزت نظرة ماركس إلى الدولة وسيادتها. فالدولة من حيث هي دولة ـ كما يفترض ماركس ـ ليست بحاجةٍ إلى المسيحية، أو إلى أي نمط آخر من التديُّن تغيِّب فيه حقيقتها. فهي في الواقع تطبّق قواعد تختلف كليًا ـ وهي محكومة بذلك بالضرورة ـ عن قواعد الدين وجميع الشرائع السماوية

(146)

المجرَّدة. وبحسب التأويل الماركسي فإنَّ من خصائص أي دين أن لا يكترث بأمور هذه الأرض إلا في حدود مسألة الخلاص الأخروي الفردي الذي يعلنه، ووصاياه في هذا الشأن مناقضةٌ لمبادئ العقل الدنيوي العملية، التي ترتكز عليها الدولة الحديثة، وما من دولةٍ مسيحيةٍ تستطيع أن تنتظم وتستمرّ في شؤونها الخاصّة كدولة، إذا هي اتَّبعت بصدق وانسجام مبادئ الإنجيل. إنَّ ماركس ينشد في هذا السياق تحقيق دولةٍ سياسيةٍ حديثةٍ كاملةٍ من دون اللجوء إلى السماء ومبادئها المفارقة الخيالية المجرَّدة[1].   

إذا كان ماركس قد نظر إلى الدولة كرمز لمملكة الضرورة في الاجتماع البشري، فإنما كان يساجل الفلاسفة الذين سبقوه ويحاجّهم في مسألة الارتباط الضروري بين الدولة والدين، واستطرادًا بين الدولة والأخلاق. ونذكر في هذا الصدد عنوانَين مؤسّسَين للتراث الفلسفي / السياسي في الحداثة الغربية هما كانط وهيغل. لكن ماركس، والماركسية معه ومن بعده، لم تكتفِ بالمفهوم كفكرة مجرّدة. فهو سيلاحظ «أنَّ المجرَّدات الأكثر عمومية لا تولد إلا مع التطوّر الواقعي الأكثر ثراءً». وكان ماركس يريد بذلك التنظير لحقيقةٍ واقعية، ولذا سينبِّه إلى أنه لا ينبغي أن نجعل من الدولة تجريدًا بحتًا لا يتّصل بالواقع المعاش، كأن نعتبرها تصورًا اجتماعيًا أو نسَقًا من القوانين والحقوق فقط. كذلك لا ينبغي أن نحدِّدها بالجانب الواقعي العيني والمادي كأن نعتبرها مجموعةً من الوظائف والأجهزة فقط. فالدولة تركيب شائك بين العنصر التجريدي والعنصر العيني، بين الخيالي والواقعي، بين الشَّبَحي والجبروتي(...) على أنَّ الدولة أساسًا ـ كما يبيِّن المفكر الفرنسي الماركسي لوي

(147)

ألتوسير معتمدًا على أعمال الفيلسوف الإيطالي المجدّد للماركسية ـ هي نسقٌ شائكٌ مركَّبٌ من مؤسّسات وأجهزة قمع (الشرطة ـ والجيش والإدارة وغير ذلك) ومؤسساتٍ وأجهزةٍ إيديولوجية (كالتربية والتعليم والحقوق والأخبار إلخ). فإذا كانت مهمة الأجهزة القمعية هي إيجاد المناخ المناسب لعمل رأس المال وتكريس الاستغلال الطبقي وحفظ النظام السائد، وإرضاخ الإرادات المختلفة إلى الإدارة العامة المتمثلة في الدولة، فإنَّ مهمة المؤسّسات الإيديولوجية تتمثَّل في السهر على إعادة إنتاج قوة العمل.

إلاَّ أنَّ هذه النظرة إلى الدولة، وإن حاولت التدقيق والوضوح، تبقى مبتورةً لأنها لم تُعِرْ أي انتباهٍ إلى مشكلة السلطة، ولم تفرِّق بين السلطة والدولة (...) وألتوسير هنا كبقية الماركسيين، يتصور أنَّ الدولة في مفهومها العام تختلط بمفهوم السلطة، بينما نعرف الآن أنَّ السلطة أوسع بكثير من مفهوم الدولة، إذ هي تكمن في الممارسات على حدٍ سواء[1].

لقد سعى ماركس منذ البداية إلى وضع مفهوم الدولة وسيادتها من ضمن نظريته الكبرى حول «الاغتراب» أو «الاستلاب» بحسب الشائع. فالمجتمع الشيوعي عنده لم يتعدَّ كونه حلمًا إلى هذا الحدّ أو ذاك، إلا لأنه ظلَّ ينظر إليه بصفته حلمًا قابلًا للتحقّق. ذلك لأنَّ تحقّقه الواقعي معرَّف بواسطة شروطه الواقعية. فالاغتراب عند ماركس يمكن أن يُلغى من وجود مقدمتين عمليّتَين هما:

(148)

1-تطور سوق عالمي.

2- تشكيل طبقةٍ عاملةٍ أمميةٍ على نطاق العالم كلّه. وهذه كانت في الحقيقة «عولمة» ماركس للأمم والدول لتحقيقه حلمه الكبير بالدولة العالمية الخالية من صراع الطبقات.

في حقبةٍ تاليةٍ من اختبارات الدول الاشتراكية سوف تبدأ المراجعات النقدية لتطال أصل المفهوم.

ففي مؤلَّفه الأخير وعنوانه «الدولة، السلطة والاشتراكية»[1]، يلخِّص المنظِّر الماركسي اليوناني نيكوس بولانتزاس (1936-1980) نقده للاشتراكية انطلاقًا من قوله بانحراف الدولة واعتبارها أداةً بيد الحزب الحاكم. ويتّخذ من التجربة السوفياتية  نموذجًا لهذا الانحراف وسقوطها في لجّة البيروقراطية المستبّدة.

10- الدولة البيروقراطية

يمكن القول إن مصطلح البيروقراطية (Bureaucracy) يجمع معًا تحت عنوانٍ واحدٍ عددًا واسعًا من المفاهيم والأفكار. ويحمل أيضًا معنًى تقنيًا محدّدًا يشير إلى هيئةٍ من الأفراد والإجراءات والمهام والرموز الأخلاقية التي تنظّم سلوكهم في إطار نظامٍ إداريٍ معيّن.

تعدّ الكلمة عمومًا مشتقّةً من الكلمة الفرنسية (bureau) بمعنى «منضدة الكتابة» أو بعبارة أدق: «الكساء الذي يغطي تلك المنضدة»، لكنّها أيضًا تدلّ على المكان الذي يعمل عليه الموظفون. وأفضت

(149)

إضافة اللاحقة، المشتقّة من الكلمة الإغريقية بمعنى «حكم»، إلى وجود مصطلحٍ له قدرةٌ ملحوظةٌ على الحراك الثقافي.

لقد جرى إدخال المفاهيم الإغريقية عن الحكم منذ فترةٍ طويلةٍ في اللغات الأوروبية، فقد مرَّ المصطلح الجديد بسهولةٍ ضمن الصياغات نفسها التي مرّت بها «الديمقراطية» و«الأرستقراطية»، وسرعان ما صار سمةً مركزيةً في الخطاب السياسي الدولي. فقد تُرجمت الكلمة الفرنسية «bureaucratie» بسرعة إلى الكلمة الألمانية «Bureaukratie» والإيطالية «bureaucrazie» والإنجليزية والأميركية الشمالية «bureaucracy».

فضلًا عن ذلك، وعلى ما حصل مع مصطلحاتٍ ومفاهيم أخرى، كالديمقراطية ومشتقّاتها على سبيل المثال، فقد ضمَّت «البيروقراطية» مصطلحاتٍ أخرى مثل الشخص البيروقراطي «bureaucrat» والسلوك البيروقراطي «bureaucratic» والنزوع البيروقراطي «bureaucratization». لذلك ليس من الغريب أن تكون التعريفات المعجمية المبكرة للبيروقراطية تعريفاتٍ متماسكةً بشكلٍ ملحوظ. وقد عرَّف معجم الأكاديمية الفرنسية الكلمة في ملحقه عام 1789، بأنها «السلطة أو النفوذ الذي يمارسه رؤساء المكاتب الحكومية وطاقمها». وأشار إليها المعجم التقني الإيطالي لعام 1828 على النحو الآتي: «كلمةٌ منحوتة، تشير إلى سلطة الموظفين في الإدارة الشعبية». وهكذا فمنذ انتشاره المبكر، يشير مصطلح «البيروقراطية» ليس فقط إلى صورة من صور الحكم (العام أو الخاص) حيث يكون دور

(150)

حاكم مهمٍّ في أيدي الموظفين الإداريين، بل يؤدّي أيضًا مهمة تسمية جمعيةٍ لأولئك الموظفين[1].

تبدأ أغلب التحليلات الحديثة للبيروقراطية بالعمل الكلاسيكي لماكس فيبر (Weber 1978)، الذي قدّم التحليل التعريفي لكلّ من الخصائص التقنية والأخلاقية للبيروقراطية[2].

في ما يتّصل بارتباط هذا المصطلح بالدولة، يرى فيبر أن البيروقراطية هي إحدى أبرز علامات الدولة الحديثة، كما أن تحليلها يسمح بتوضيح السيطرة المشروعة أو العقلانية داخل المجتمع. وفي هذا الإطار، ميّز بين ثلاثة أشكال للسيطرة وهي:

1- السيطرة الكاريزماتية (chrismatique) القائمة على الخضوع لما هو مقدّس وبطولي وللقيمة النموذجية للشخص.

2- السيطرة التقليدية المستندة على الاعتقاد اليومي بقداسة التقاليد الصالحة لكل زمان، وبشرعية الأشخاص الذين يمارسون سلطتهم اعتمادًا عليها.

3- السيطرة الشرعية أو العقلانية المؤسّسة على الاعتقاد بمشروعية القوانين الموضوعة والمقرّرة وبحقّ الذين يمارسون سلطتهم بهذه الوسائل، في إصدار التعليمات والسهر على تنفيذها[3].

(151)

سبعة أفهام للبيروقراطية

بصورة عامّة هناك سبعة أفهام حديثة للبيروقراطية، وكل منها يرتبط بالآخر ويعد تطويرًا لسابقه، وهي على الوجه التالي:

الفهم الأول: هو الذي ينظر إلى البيروقراطية بوصفها تنظيمًا عقليًا، وقد تأثّر أنصار هذا الاتجاه بالتفسير الفيبري للبيروقراطية.

الفهم الثاني: أن البيروقراطية شيءٌ يتعارض مع الابتكار الإداري، إذ إن العرض الآلي للسلوك الإنساني الذي يشكّل قاعدة البيروقراطية يؤدّي إلى خللٍ وظيفيٍ خطير، لأن بنية المنظّمة تؤدّي إلى إشرافٍ متزايدٍ من قبل القادة على انتظام سلوكيات المرؤوسين.

الفهم الثالث: ينطلق من المعنى الاشتقاقي للبيروقراطية، أي حكم الموظفين، وعليه فهو بحسب هذا المفهوم نظامٌ حكوميٌ تكون الرقابة عليه متروكةً كليةً في يد طبقةٍ من الموظفين الرسميّين الذين تحدّ سلطاتهم من حرّية الأفراد العاديين، ويغلب على هذا الجهاز الإداري الرغبة الشديدة إلى الالتجاء إلى الطرق الرسمية في الإدارة والاعتماد على المرونة من أجل تنفيذ التعليمات.

الفهم الرابع: وهو الذي استخدمته الأنظمة ذات الطابع الشمولي، التي ترى أن البيروقراطية نوع من الإدارة العامة، لذلك كان الاهتمام بالجماعات التي تؤدّي الوظائف أكثر من الاهتمام بالوظائف ذاتها.

الفهم الخامس: وهذا المفهوم تأثّر بماكس فيبر أيضًا، ويعتبر البيروقراطية إدارة الموظفين، لذلك اهتمّوا بفحص كفاءة النموذج

(152)

المثالي وقدرته على استيعاب خصائص الإدارة كافّة، وكذلك ركّز على فعالية الجهاز الإداري، وهذا هو سر انتشار هذا المفهوم في علم الإدارة أكثر من علم السياسة.

الفهم السادس: ومؤدّاه أن البيروقراطية غير مقتصرةٍ على الجهاز الحكومي، بل النظام البيروقراطي وحدةٌ اجتماعيةٌ تحقّق أهدافًا محدّدةً، إلا أنه يتميز بالتسلسل الرئاسي والتباين في التخصيص.

الفهم السابع: قوامه أن البيروقراطية هي تعبير عن المجتمع الحديث. ولنا أن نشير إلى أن أنصار هذا المفهوم يقولون بعدم وجود تمييز بين رجال الإدارة ورجال السياسة، أو بين المجتمع وبين وجود عددٍ هائلٍ من التنظيمات الكبرى التي تجسّد البيروقراطية في هيكلة الدولة الحديثة.

11- الدولة الفوضوية (الأرناشية Arnachie)

كلمة أنارشية (anarchie) قديمةٌ قِدَم العالم. ومصدرها كلمتان في اللغة اليونانية القديمة، وتدلّان إلى هذا الحد أو ذاك على غياب السلطة والحكم. غير أن المقولة التي سادت مع تقادم الزمن، ومؤدّاها أن الناس لا يملكون أن يعيشوا من دون سلطةٍ أو حكومة، أضفت على هذه اللفظة (anarchie) معنًى محقِّرًا: لقد أصبحت مرادفةً للفوضى والعبث ولعدم التنظيم.

يعتبر الفوضويون أن إنكارهم للدساتير والحكومات لا يؤدّي إلى حالة «اللا عدالة» وإنما إلى حالة العدالة الحقيقية المرتبطة بالتطوّر الحرّ للحركة الاجتماعية الإنسانية. وبالتحديد ميل الإنسان الطبيعي

(153)

ـ بدون عرقلة القوانين ـ إلى مساعدة الغير. كان الكاتب والمفكّر الاجتماعي الفرنسي بيير جوزف برودون «Proudhon Joseph-Pierre» أوّل شخصٍ يدعو نفسه بالفوضوي. ففي دراسته الاقتصادية عام 1840 «ما هي الملكية؟»، قال برودون إن قوانين المجتمع الحقيقية ليس لها علاقةٌ بالسلطة بل تبدأ من طبيعة المجتمع ذاته، وتنبّأ بانحلال السلطة وظهور النظام الاجتماعي الطبيعي[1].

غير أن التلامذة المباشرين لبرودون وباكونين تردّدوا في استخدام هذه اللفظة المطّاطة، على نحوٍ مؤسفٍ، والمعبّرة عن فكرةٍ سلبيةٍ بالنسبة لغير المثقفين، ومصدر غموضٍ سيئ النتائج. وبرودون ذاته، بعد أن ترزّن في نهاية حياته السياسية القصيرة، راح يسمّي نفسه: «فدرالي»[2].

في نهاية القرن التاسع عشر، سيستعيد سيباستيان فور Sébastien Faure في فرنسا كلمةً ابتكرها سنة 1858 جوزف ديجاك Joseph وسيستخدمها كاسم لصحيفة، وهي: «لوليبرتير Libertaire Le» وتعني «التحرّري». اليوم، هاتان الكلمتان anarchiste وLibertaire تحملان، إلى حدٍّ كبيرٍ، المعنى ذاته.

والأنارشية [أو التحريرية] هي أحد فروع الفكر الاشتراكي ليس إلا. إنها فرعٌ حيث يسود الاهتمام بمسألة الحرّية وبالخلاص بأسرع وقتٍ من الدولة [إقرأ الدولة القمعية]. بحسب أدولف فيشر Adolphe Fischer، أحد شهداء شيكاغو، «كل تحرّري هو اشتراكي، لكن كل اشتراكي ليس بالضرورة أن يكون تحرّريًا».

(154)

بالنسبة للفوضوي ـ بالمعنى الفلسفي السياسي للكلمة ـ فإن فكرة الدولة هي أكثرها شؤمًا[1]. أما برودون فإنه يهاجم بالقوّة ذاتها هذه الفكرة المهلوسة التي تسمّى الدولة، ويرى أن «الواجب الأوّل للعقل الحرّ هو رميها في المتاحف والمكتبات»[2].

-12 الدولة الشمولية (Etat Totalitaire)

يضمّ مفهوم الدولة الشمولية مجمل المفاهيم التي تدلّ على الدول ذات الحكم الاستبدادي، مثل الفاشية، وحكم الزعيم الفرد، والشوفينية والمَلَكية المطلقة، وسواها. كما تشير كلّ من «الدولة الشمولية» و«الدولة الكُلّيانية» (état totalitaire) إلى بنيةٍ مؤسّساتيةٍ وإلى مجموعةٍ من الممارسات المنتظمة حول توسع التدخّل السياسي ليشمل الحقل الاجتماعي برمته. فهما تندرجان بشكلٍ طبيعيٍ ضمن صنف «الكليانية» التي تعني شكلًا عامًا للهيمنة الكلية على السكان والأفراد وأنشطتهم، وعلى الممارسات الاقتصادية والثقافية التي غالبًا ما نتعرّف على قوّتها البارزة، من خلال نتائجها التاريخية والإنسانية والاجتماعية، في كل من النازية (nazime) والستالينية (stalinisme) وإلى حدٍ ما الفاشية (fascism) الإيطالية.

(155)

ومع ذلك، لا يمكننا القيام بتركيبٍ دقيقٍ لمفهومَي «الدولة الشمولية» و«الكُلّيانية». وسنرى لاحقًا، كيف أن هذا المفهوم الأخير يثير صعوباتٍ عميقةً بالنسبة إلى التفكير في الدولة، ويدفعه بمعنًى ما إلى تبنّي أقصى تصوّرٍ بخصوص ما يمكن إدراجه في خانة الدولة، وهناك احتياطٌ مزدوجٌ يفرض نفسه علينا في هذا الإطار، بسبب استعمالات النموذج المثالي (idéaltype) «كُلّيانية». فقد تمّت صياغته أوّلًا لفهم مبادراتٍ سياسيةٍ صريحة، تروم الهيمنة الكلية على السكان، وفسح المجال في فترة ما بعد الحرب أمام محاولات جعله وسيلةً كشفيةً (heuristique) دقيقة، من أجل مساءلة ما يبدو عن حقٍّ نقيضه المطلق، ونقصد بذلك الديمقراطيات المؤسّسة على مبادئ الليبرالية السياسية وعلى استقرارٍ مؤسّساتيٍ يضمن استمرارية نظام حماية الحقوق الفردية والحريات السياسية.

والواقع، أن كون هذه الأخيرة أظهرت عجزها عن مواجهة مبادرات الهيمنة الشمولية وكانت متسامحةً بشكلٍ مثيرٍ إزاء تقدّمها يشكِّل قلقًا تاريخيًا لا يستهان به، وهو القلق الذي يتعيّـن الاهتمام به على مستوى الموضعة المفهومية، عبر إعادة النظر، بين حدَّي التناقض الجلي، في علاقات التداخل التي يبدو فيها أحد الطرفين دومًا، وبمعنًى ما، بمثابة إمكانيةٍ بالنسبة إلى الآخر وليس مجرّد إقصاءٍ له[1].

يعني مفهوم الشمولية لدى المفكّر الألماني كارل شميت (1888- 1985) شكلًا غير «كُلّياني» للدولة، وتجديدًا ما يتصوّره

(156)

بوصفه دولة الحق المعاصرة، الليبرالية من حيث مبادئها والمُـبَقْرَطة (bureaucratisé) بشكلٍ قوي، على مستوى بنيتها ووظيفتها الإدارية والقضائية، والمتميزة بخاصيتها الجمعية القوية أيضًا، بفضل شبكةٍ كثيفةٍ من علاقات التبعية المتبادلة مع المجال الاجتماعي والاقتصادي. وبهذا المقتضى، فإن الدولة الشمولية لا تتعارض مع الدولة غير الشمولية، بل هي تجمع بين أمورٍ متشعّبةٍ وتشكّل مكانًا تختار فيه الدولة بين طريقتَين، لكي تصبح شمولية.

ويجد هذا الانفصال معناه داخل تاريخ الدولة الحديثة وفي إطار تشخيص الأزمة التي مرّت بها، في ظرفيةٍ مقترنةٍ بالحرب العالمية الأولى، وبقيام جمهورية فيمار الهشة. وإذًا، فالدولة الشمولية، حسب شميت، هي أوّلًا معطى قائم، ناتجٌ عن عملية تاريخية ومتجسّدٌ في الفترة المعاصرة، وبهذا فإن المعنى الأول للدولة الشمولية، هو الدولة المعاصرة المتميزة، في الآن نفسه، بقدرتها على التدخّل في المجال الاجتماعي بحجمٍ ووتيرةٍ غير مسبوقين[1].

التوتاليتارية تاريخًا

تضرب فكرة «الشمولية» جذورها في السياق التاريخي للحرب العالمية الأولى، التي وصفت، قبل أن يشيع موسوليني وهتلر التعبير، بـ«الحرب الشاملة». ففي خضمّ هذه الحرب الشاملة وفي أعقابها مباشرةً رأت النور التجارب التاريخية الثلاث التي كانت وراء ظهور مفهوم «الشمولية» Totalitarisme: الشيوعية الروسية والفاشـية الإيطالية والنازية الألمانية. وعلى رغم الفروق الجوهرية ما بين هذه

(157)

الأنظمة الإيديولوجية الثلاثة، فقد عبّـرت جميعها عن أشكالٍ غير مسبوق إليها من شمولية السلطة وطغيانها على الدولة والمجتمع معًا.

وبالإضافة إلى الظاهرة نفسها، هناك تاريخ الكلمة. فقد كان أوّل من نحت مصطلح «الشمولية» هو موسوليني نفسه، عندما رفع في عام 1925 شعاره الشهير: «الكل في الدولة، لا شيء خارج الدولة، ولا شيء ضد الدولة». وقد عاد موسوليني، في «الموسوعة الإيطالية»، التي حرّر بنفسه بعض موادها بالمشاركة مع فيلسوف الفاشية جيوفاني جنتيله، ليؤكّد أنه «إذا كانت الليبرالية تضع الدولة في خدمة الفرد، فإن الفاشية تعيد توكيد الدولة بوصفها الماهية الحقيقية للفرد. فلا حرّية إلا للدولة، ولا حرّية للفرد إلا في الدولة. ولهذا فإن الكل، في نظر الفاشي، هو في الدولة، ولا شيء مما هو إنساني أو أخلاقي يمكن أن يوجد خارج الدولة». والشمولية ليست شيئًا آخر سوى سيادة هذا «الكل» الذي من دونه يكون باقي الوجود «لا شيء»، ونسبةً إلى هذا «الكل» كان ينبغي ـ لولا ثقل اللفظ ـ أن نقول «كُليانية» في تعريب «التوتاليتارية».

13- الدولة الفاشية

يشير مصطلح الفاشية إلى الاتّحاد والعصبة، وتعود أصول الكلمة إلى الإيطالية، وهي باللاتينية «فاشيس»، ويشير المفهوم السياسي للفاشية إلى النظام الديكتاتوري، ويمثّل أحد أشكال الأنظمة الحاكمة الديكتاتورية، ويفرض سيطرته على جميع الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

(158)

تعود أصول الفاشية إلى التحوّلات الكبرى التي عرفتها أوروبا في القرن التاسع عشر مع رسوخ فكرة الدولة الوطنية وبلوغ الحقبة الاستعمارية مراحلها الأخيرة. بيد أنَّ الشرخ الكبير الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى داخل الأسرة الأوروبية وتقسيمها إلى منهزم ومنتصر، ثم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي أعقبت الحرب، أدّت إلى تحوّل النزعات القومية المجروحة بمرارة الهزيمة والطامحة إلى استعادة بعض من الكرامة الوطنية الضائعة[1]

تمايزت الفاشيات الأوروبية فيما بينها نتيجة السياقات الوطنية المحلّية التي أنتجت كل واحدةٍ منها، ومع ذلك فهي ذات خصائص مشتركةٍ أبرزها رفض الديمقراطية البرلمانية والتعددية السياسية وتعويضها بنظامٍ شموليٍ استبداديٍ يُشكّل رئيس الدولة نواته الصلبة ومصدر السلطات فيه، حيث تعطي الفاشية السلطة التنفيذية أفضليةً كبيرةً على حساب بقية السلطات الأخرى.

وتقوم الإيديولوجية الفاشية على تبجيل هيبة الدولة والقائد والتركيز على التعصّب للوطن.

كما ألغت الفاشية الحرية الاقتصادية، ورفضت حقيقة أن المجتمع مكوّنٌ من طبقاتٍ متباينة، وبناءً على ذلك رفضت الفاشية التنظيم النقابي وعوّضته بهياكل تنظيمية تضمّ العمّال وأرباب العمل على حد سواء.

وتشترك الفاشيات الأوروبية في خصائص عديدةٍ منها طابعها العنصري الممجّد للنزعة القومية داخليًا والهيمنة الإمبريالية

(159)

في السياسة الخارجية، كما أنها تُسوّق فكرة وجود عدوٍّ خارجيٍ وداخليٍ، ليكون ذلك حافزًا على تحقيق الوحدة الوطنية. 

وقد كانت ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية أشهر نموذجَين لهذا الفكر الاستبدادي.

دعم  موسليني بسخاءٍ النازية الألمانية (وهي أبرز نماذج الفاشية الموغلة في اليمينية) في معركتها للوصول إلى الحكم، كما دعم الجنرال فرانكو خلال الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، وكان لمشاركة الطيران الإيطالي والألماني في قصف مواقع الاشتراكيين الإسبان تأثيرٌ بارزٌ في حسم المواجهة.

وكانت الفاشية الإسبانية أقل شموليةً ودمويةً وعدوانيةً من الفاشية الإيطالية والألمانية، بل إن فرانكو رفض دخول الحرب إلى جانب دول المحور، ورفض عبور قوات ألمانيا النازية أراضي بلاده إلى أفريقيا. وشفع له هذا الموقف عند نهاية الحرب، وإن كان نظامه تعرّض لحصارٍ دوليٍ خانقٍ استمر إلى عام 1953.

وقد ظهرت في أوروبا فاشياتٌ أخرى أقلّ شهرةً، منها نظام أوليفيه دي سان لازار، الذي حكم البرتغال بين عامي 1933 و1968، والتزم الحياد خلال الحرب العالمية الثانية، رغم عقيدته الفاشية الدموية التي جسّدها رفضه مسايرة حركة الاستقلال في الستينيات، ودخوله حروبًا دمويةً في غينيا بيساو وأنغولا.

وفي شرق أوروبا عرفت اليونان نظامًا دكتاتوريًا ذا مسحةٍ فاشيةٍ بين عامي 1936 و1941، وتزعّمه الجنرال لاونيس متاكزاس، وإن

(160)

كان المؤرخون يختلفون حول عقيدته الفاشية، كما ظهرت فاشيّاتٌ أخرى في كرواتيا ورومانيا والمجر.

وتتّحد جميع هذه النماذج في طابعها القومي العنصري، والاستبدادي الرافض للتعددية والديمقراطية، وإلغاء الحريات السياسية والنقابية وحرية التنظيم خارج الأطر التي تضعها هي وتراقبها.  

 

(161)

خاتمة نقدية 

تهافت دولة ما بعد الحداثة

مَنْ كان يظن أنّ مقام الدولة، الذي رُفع إلى رتبة المقدّس السياسي في ميتافيزيقا الغرب، سيغدو محلّ شكٍّ وريبةٍ في خلال المسافة الزمنية الفاصلة بين القرن العشرين المنقضي ومستهلّ القرن الواحد والعشرين؟

مثل هذا التساؤل يعود اليوم في عصر «الحداثة الفائضة» (Excessive Modernity)، ليتّخذ مسارًا تتضاعف فيه عوامل الخوف والقلق ممّا ينتظر مصير الدولة ككينونةٍ حافظةٍ للإنسان فردًا أو جماعةً حضارية.

في مطلع القرن الجاري، سيغشى ضبابٌ كثيفٌ حول مفاهيم تسنَّى لها أن تأخذ بناصية ثلث مجتمعات الكرة الأرضية سحابة ثلاثة أرباع القرن العشرين. لكن النقاش الذي لم يهدأ إثر انهيار المنظومة الاشتراكية سوف تتولّاه الليبرالية الجديدة، بعد أن أعلنت نهاية التاريخ وأفول عصر الإيديولوجيات في العالم المعاصر.

في الغرب اليوم، يعود سؤال الدولة من جديدٍ متزامنًا وسلسلةٍ متعاقبةٍ من التصدّعات أصابت سيادات الدول في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. فلقد جرى ذلك كما هو معلومٌ من منطلقاتٍ ووقائع كان الحادث السياسي ـ بما هو تكثيفٌ لصراعات الدول وعلاقات القوى وموازينها السياسية والاقتصادية والثقافية والإيديولوجية ـ العامل الحاسم في تظهيرها. كما جرى  في ظلّ الفوضى وانعدام

(162)

اليقين الذي اجتاح العلاقات الدولية بصورةٍ غير مسبوقة. بعد الحرب الباردة التي حسم في خلالها الصراع بين الرأسمالية الليبرالية والشيوعية، لمصلحة الأولى، حصل تغيّـرٌ راديكاليٌ في المرتكزات النظرية والعملية التي يقوم عليها مفهوم الدولة. ولعلَّ مبدأ السيادة، باعتباره جوهر الدولة وصيرورتها، كان الأكثر عرضةً للاهتزاز. فلقد أصبح العالم بعد انهيار النظام العالمي محكومًا بسياقاتٍ وأنظمةٍ غير مكتملة. لكنها تبعث على أسئلةٍ حادّة، في ما إذا كانت مقولة السيادة، والأمن القومي، والاستراتيجيات العليا للدول ذات السيادة، ستظلّ على حالها من الثبات والديمومة.

ولئن كان السجال حول دولة الرعاية قد انفتح على وسعه في العالم الغربي، فقد تحوّل العالمان العربي والإسلامي إلى ميادين مشرعةٍ على فوضى عارمةٍ أصابت وحدة دوله في الصميم. ولعل ما جرى ويجري منذ العام 2011 في ما سُمّيَ بـ«الربيع العربي» إنما يشكّل ترجمةً حيّةً لموجات التفكيك والتفتيت التي تقودها المركزية الغربية في المنطقة.

هكذا بدت الآفاق مفتوحةً أكثر من أي حقبةٍ مضت على نقد المسارات التي آلت إليها أحوال الدولة، بسبب ما تعرّضت له منظومتها القيمية من استباحات. لكن الوقت لم يطل عقب انفراط النظام الدولي في نهاية القرن العشرين، ليحتدم النقاش حول مصير الدولة، وعما إذا كان بالإمكان وقف الانهيارات المتمادية، وأثّر ذلك على جدوى الدولة كضامنٍ لوحدة المجتمعات العالمية.

من أبرز المناظرات ذات السمة الفكرية التي شهدتها المنتديات الأوروبية حول مشكلة الدولة في زمن العولمة، تلك التي اختبرتها

(163)

أوساط اليسار وبعض التيارات التي تنتمي إلى ما يسمّى قوى الضغط التي يتشكّل منها المجتمع المدني. لنأخذ على سبيل المثال بعض الشواهد التي تعكس مستوى النقاش الذي ازدهر في ذلك الوقت ولا تزال تداعياته ساريةً تحت عناوين مختلفة.

في خلال محاوراتٍ شاقّةٍ جرت أواخر القرن العشرين الماضي بين مفكِّرَيْن غربيَّين، هما الفرنسي ريجيس دوبريه والنمساوي جان زيغلر، كان ثمة مطارحاتٌ مثيرةٌ حول ما طرأ على الدولة من تحوّلاتٍ في مجالَـي المفهوم والتجربة. وهذه المحاورات التي صدرت في فرنسا، ضمن كتابٍ مشترك، تعكس في الواقع، وإلى حدٍ بعيد، التحوّلات الكبرى التي عصفت بمفهوم الدولة، وأحدثت اضطراباتٍ في الأفهام والمعايير المعتبرة في الأدب السياسي الكلاسيكي.

كان التساؤل الجوهري بين دوبريه وزيغلر يتمحور حول ما إذا كانت الدولة لا تزال تشكّل قيمةً ذاتيةً للحضارة الإنسانية الحديثة، والغربية على وجه الخصوص. ومن جانب أكثر خصوصيةً، شكّل هذا التساؤل بين مفكّرَين أثريا، كلٌّ من جانبه، حيِّزًا مهمًا في السجال النظري في الغرب الحديث، أحد أبرز وأخطر التساؤلات عن مصائر الدول عند نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة.

بهذا المعنى سيكون الأمر مطروحًا على نطاق عالمي، ولم يقتصر على ما يُسمَّى بـ«دول ما بعد الحداثة». وبقدر ما صار مُلِحًّا في مجتمعات ما بعد الحداثة، كان شديد الوقع في مجتمعات ما دون الحداثة، أي تلك التي لم تنل حظَّ تحقيق الدولة القومية

(164)

المركزية لبلادها. وذلك يدلّ بالفعل على منطق عصر النهايات الذي رافق المرحلة الختامية للألف الثاني الميلادي، وتجاوز إلى حدٍ بعيدٍ الفهم الكلاسيكي لمصطلح الدولة ومفهومها.

تصدُّع قيم الدولة

حصيلة ما يشير إليه جمعٌ واسعٌ من مفكّري وعلماء الاجتماع[1] هي أن الحداثة التي فاضت عن حاجتها في العصر التكنو ـ إلكتروني بلغت نهاية مشروعها مع تصدُّع قيم الدولة التي شكّلت العنوان الأكبر لهذا المشروع. فما حصل من تطوّرٍ تجاوز الحدود القومية للدول، سيطيح بالقسط الأعظم من المرتكزات التي تقوم عليها سيادة الدول واستقلالها الوطني.

في أوروبا وأميركا، بلغ التهافت في النظر إلى مفهوم الدولة الأمّة حدود الذروة مع الهيمنة الأحادية الأميركية على دول الاتّحاد الأوروبي. حصل هذا إلى درجةٍ تحوّلت فيه الدولة القومية الأوروبية إلى آلةٍ هائلةٍ للإكراه والامتيازات، بعد أن انفصلت عن المجتمع المدني الذي أنجبها عبر التضحيات الكبرى لشعوب القارة[2].

في مجرى النقاش الفكري بين نخب الغرب، سنشهد على آراءٍ نقديةٍ ذات سمةٍ جذريةٍ للمآلات التي بلغتها الدولة مفهومًا واختبارًا في زمن اختبارات ما بعد الحداثة. فقد واصل المفكِّر السياسي الفرنسي برتراند بادي جهوده في هذا المجال عبر كتاب وضعه في

(165)

بداية التسعينيات تحت عنوان «الدولة المستوردة ـ تغريب النظام السياسي»[1]. في عمله المذكور سعى بادي إلى الاشتغال على مفهوم الدولة والتحوّلات التي طرأت عليها في ظلّ استشراء ظاهرة العولمة.

وكغيره من المفكِّرين الغربيين المحدثين، راح يدوِّن تأويلاته للظواهر الجديدة، فكانت كتابته مزيجًا من المرارة السياسية والتحليل النفسي والسوسيولوجي. رأى أنَّ العالم بدأ يعيش منذ نهاية الحرب الباردة، 1989 تعيينًا، مرحلة أزمة الدولة القومية. وهو الأمر الذي يطرح بصورةٍ جدّيةٍ إعادة النظر في ما كان يرى فيه إلى الدولة بما هي  الوحدة الأساسية للنظام الدولي. لقد استبيحت قيم الدولة بفعل التدفق الهائل لليبرالية الجديدة، كما فقدت مصداقيتها وهي تواجه أزماتٍ شتّى وتحدّياتٍ عدَّة تفتُّ في عضدها، لصالح لاعبين جدد يجمعون من جانبهم موارد تزداد خطورتها شيئًا فشيئًا. فاكتشاف النظام الدولي الحديث يلي إنشاء الدولة ولا يسبقها، وهو يتعلّق بالنتائج لا بالأسباب، ومن هنا فالنظام الدولي، وهو نتاج الدولة وليس منتجًا لها، يتأثّر في شكله وفي قدراته بالإخفاقات والأزمات التي تؤثّر على نموذج الدولة. واللافت أن كثيرين من نقّاد نظرية المجتمع المفتوح يرفضون بقوة الفَرَضَية الأميركية التي قالت بـ«نهاية التاريخ»، وعلى الرغم من أنهم يؤمنون بأن العالم دخل في تاريخ جديد، إلا أن معالمه واتجاهاته ما زالت محجوبةً بضباب كثيف.

فدولة التنوير لم تزدهر، وعلامات التنافس السياسي لم تتزايد، كما أنَّ التصوّرات بشأن ما يجب أن تكون عليه الدولة لم تجد

(166)

سبيلها إلى الحياة. فالذي حصل بالفعل هو أن الليبرالية الجديدة أدخلت مفهوم الدولة الوطنية ذات السيادة في لجّةٍ هائلةٍ من الأزمات الاقتصادية والتفسّح المجتمعي.

لقد كان من أبرز وأخطر نتائج عولمة العالم ودوله، أن العالم وجد نفسه حيال قوّةٍ قاهرةٍ وسالبةٍ لقانون الجماعة الدولية. على أنَّ فلسفة عبور الحدود الوطنية واستباحة الدول التي جاءت بها «العولمة» لا تحتاج إلى كثير عناءٍ لإقناع الدول والمجتمعات بنظرية الاستتباع. فهي ـ أي العولمة بصيغتها النيوليبرالية ـ مزوَّدة بموارد وافرة، حيث يرتكز توحيد النظام الدولي الذي تنبري لتشييده على إمكاناتٍ تقنيةٍ راسخةٍ تساعد على سهولة الحركة، وعلى الاتصال، والاختراق المتبادل[1].

اضمحلال دولة الرعاية

أدّى التطوّر المطّرد لآليات «العولمة» إلى فقدان النظام الدولي لمعناه. وفي ظلّ هذا المسار بدت صورة الفوضى الدولية مزدوجةً: فهي تنبع من نتائج منهج الاستيراد التي تزعزع الاستقرار، كما تتفاقم بسبب نتائج امتداد الحروب والمنازعات الداخلية إلى المسرح العالمي. كل هذا يعود ليطرح التساؤل من جديدٍ عما يلقي بدولة الرعاية كمقولةٍ ذهبيةٍ لمفهوم الدولة/ الأمة على شفا هاوية.. فما الذي بقي الآن من هذه المقولة؟

مرَّ زمن لم يعد الكلام فيه عن الدولة (الأمة) يحظى بمساحة النقاش التي اعتاد العالم عليها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. وذلك بسبب التحوّل المدوِّي الذي عصف بالسيادات

(167)

الوطنية. آنذاك كانت كل الدلائل التي رافقت ظهور الاندماجات العالمية بصيغتها الجديدة تشير إلى تراجع مفهوم الدولة، مثلما تدلّ على تهافت مكانتها على الصعيدين القومي والعالمي. وهذه الحقيقة لم تقتصر على دولٍ بعينها، وإنما طالت جميع الدول، وإن بنِسَبٍ متفاوتةٍ ومتباينةٍ تبعًا لدرجة تطوّر كل دولةٍ وانخراطها في النظام العالمي.

وإذا كانت «العولمة» قد أدخلت الغرب في مواجهةٍ مع نفسه، لا سيّما لجهة التصادم بين مفهوم الدولة القومية وحرّية السوق، فقد بدا مبدأ السيادة في الدول النامية أو الفقيرة هزيلًا للغاية. وذلك عائد إلى أن النظريات السياسية التي أطلقتها العولمة الغربية، عمَّمت قيمها على نُظمٍ سياسيةٍ طرفيةٍ لم تكن ثقافاتها تتوافق دائمًا مع التكوين الثقافي للقانون الدستوري الغربي. وهي الدول نفسها التي كشف سير عملها الحقيقي عن علامات التبعية والموالاة. لعلّ أهمّ ما في ظواهر عالم التنمية الجديد ما يجد ترجمته في الدول الطرفية، فهناك يبرز الوهن والتداعي على أشدهما. وتكشف المعطيات إلى أي حدّ ستعيش الدول هذه في تناقضات: بين أن تسعى إلى التكيُّف وموجبات تسارع الزمن، وبين أن تحتفظ بخصوصيّتها الوطنية وهويّتها القومية. ويكشف الجدل حول تدفّق الاتّصال عن تناقضٍ بقدر ما يكشف عن عجز. التناقض بين منهج موالاة الدول التي لا تستطيع الذهاب إلى حدّ المجازفة بأدنى حدٍّ من إشراف الحكّام على تنشئة المحكومين، وبالتالي تربيتهم سياسيًا. أما العجز فهو إخفاق الدول الطرفية في منع تدفّقات الاتّصال التي تتعلّق إلى حدٍّ كبيرٍ بفاعلَين خاصَّين منتشرَين إلى حدٍّ ما، ولا يتحلُّون بصفات

(168)

المشاركة الدولية، كما لا يوجد لديهم باعث على الامتثال للنظام الجديد المبتغى.

انكفاء الدولة السيدة

دلَّت الوقائع على أن زوال الحدود والضوابط بين الدول ـ بسببٍ من استشراء الغزوات الاقتصادية والمالية ـ سيؤدّي إلى نضوب أموال الدولة. ذلك أن فعالية الاقتصاد العابر للحدود لا تنعكس في جانب الإيرادات فحسب. فالأممية الجديدة تستحوذ على حصّةٍ متزايدةٍ من الإنفاق الحكومي أيضًا [...]. ثم إن التسابق المدمِّر والجنوني على إعطاء الدعم المالي للشركات الكبرى، مقرونًا بالتنافس على دفع أدنى الضرائب، يميطان اللثام عن تخبُّط السياسات الحكومية في متاهات الاقتصاد المعولم، في حين أن الضغط الذي تعزّزه المنافسة الدولية، يدفع تلك الحكومات إلى تقديم إغراءاتٍ ماليةٍ لا تبرّرها المعايير الموضوعية، حسب ما أكّد مؤتمر منظّمة الأمم المتّحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، في وقت سابق. في حين كان خبراء الأمم المتّحدة يؤكّدون أن إيجاد طرقٍ جديدةٍ «تقي من هذا الشطط»، قد أمسى غايةً ملحّةً جدًا[1].

لقد أصبح من الأمور البديهية، بعد التحوّل العالمي الذي أشرنا إليه، أن مبدأ السيادة لم يعد يخضع للمعايير نفسها التي حدّدتها قواعد اللعبة الدولية بعد الحربَين العالميّتَين الأولى والثانية. إذ ليس من الضروري أن يكون أحد المجتمعات مستعمَرًا لكي يمكننا إثبات أنه تابعٌ لمجتمع آخر.  ولا يكفي لإحدى الدول أن تحوز على مقعدٍ

(169)

في الأمم المتّحدة لكي تدَّعي ـ بعيدًا عن الشكليات القانونية ـ أنها تمارس سيادةً كاملة. هذا الشرخ العميق الحادث في مجموعة مواد القانون الدولي يتجاوز حدود الجدل الأكاديمي المجرَّد بكثير.  وفي اعتقاد عددٍ من خبراء السياسة الدولية، فإن عوامل مركزيةً عدّةً ساهمت في تعزيز التدهور الذي أصاب سيادات الدول في الحقبة الأخيرة، ويمكن هنا ملاحظة ثلاثة عوامل منها:

أولًا؛ الاضطراب المتعاظم في كل مفردات حياتنا، بما في ذلك الاضطراب الذي تواجهه الدولة، ينبع أساسًا من فقدان الاتّساق المعرفي، إذ تسيطر على الفرد ثلاثة أبعادٍ متفاعلة: أولها، البيئة التي ينتمي إليها، وثانيها، نمط السلوك الذي اعتاده والذي يقوم به، ثم المعلومات التي ترسَّبت في داخله وتلك التي يحصل عليها، وتبعًا لهذا يظهر المأزق عندما تتضارب المعطيات الثلاثة المذكورة. فالبيئة بمعناها الواسع هي نتاجٌ متداخلٌ لثلاثة عصورٍ لا تزال قائمةً، ولا يزال كل منها يملك مؤسّساته ومقوّماته وقيمه ومفرداته الحضارية، وهي العصر الزراعي، والعصر الصناعي، وعصر المعلومات.

ثانيًا؛ نزعة التمركز الاقتصادي التي تستند إلى سيطرة الشركات متعدّدة الجنسية على حركة التجارة العالمية وعلى الإنتاج العالمي، فهناك نحو 500 شركة تسيطر على 80 % من إنتاج العالم و75 % من تجارته، ثم جاءت الفضاءات الاقتصادية التي ارتكزت على التكتّلات الاقتصادية الإقليمية لتعزّز هذه النزعة في التمركز الاقتصادي، وهي التي أسفرت بالتالي عن انتزاع قدرة الدولة على

(170)

القيام بوظيفتها الأساسية لجهة تشكيل مجتمع الرفاه، مثلما أفقدتها القدرة على تحقيق التوزيع العادل.

ثالثًا؛ إنّ ما يقابل نزعة التمركز الاقتصادي ويسير إلى جانبها، هو نزعة التثبّت الاجتماعي التي أفقدت الدولة قدرتها على تحقيق التماسك، وكذلك على إحداث الشلل في سلطاتها المختلفة. لقد أنتجت تحوّلات الربع الأخير من القرن الماضي دولةً واهنةً مضطربة، تطوّقها غزوات رأس المال من كل جانب، بينما تظهر على خطٍ موازٍ مشاعر الخوف العام من اضمحلال الدولة، بوصفها مملكة الضرورة لمجتمعاتٍ عالمية، لا تزال ديناميات العنف والفوضى واحدةً من أبرز وأخطر ما ستواجهه في القرن الحادي والعشرين[1]..

وهم الدولة العالمية المنسجمة

لم يدم السِّجال طويلًا على نطاق عالمي وفي الغرب على وجه الخصوص حول الدولة والسيادة حتى انفتحت آفاقٌ جديدةٌ من النقاش، جرى توظيفها في ما ذهب عددٌ من المنظّرين إلى تسميته بـ «الدولة العالمية المنسجمة».

يشير المفكّر السياسي الأميركي ريتشارد رورتي (1931-2007) في هذا الصدد إلى وجوب صياغة نظامٍ فلسفيٍ سياسيٍ يسوِّغ للدولة المنتصرة شرعية القبض على العالم برمّته. يبيِّـن رورتي بطلان ما أكّده منظِّرون محافظون مثل فوكوياما وهاننغتون وبرنار لويس وسواهم حول ضرورة استخدام منطق القوّة في إعادة تشكيل دول العالم

(171)

الجديد. لقد حملت القوّة مراكز صناعة القرار في الولايات المتّحدة في العقد الأخير من هذا القرن، إلى ضربٍ من التخييل الفلسفي، مؤدّاه أنَّ تاريخ العالم بلغ نهائياته الكلاسيكية عندما استولت أميركا على كل تيّارات القوّة المتنازعة فيه وعليه: من إسقاط الإمبراطورية الشيوعية وتفكيكها، إلى احتواء أوروبا والقارة الصفراء، إلى الهيمنة المطلقة على منابع النفط في الشرق الأوسط[1].

لكن ما صلة الهيغلية بالحقيقة المدَّعاة للأمركة.. ولماذا استعيدت هذه النظرية في ختام القرن العشرين وبعد انقضاء أكثر من قرن على ارتحال هيغل. وهو الفيلسوف الذي قيل عنه إنه أرسطو العصر الحديث، وعن مذهبه بأنه النظام الفلسفي الأكثر اكتمالًا وإحاطةً بجميع ميادين المعرفة الإنسانية في الغرب.

لقد أظهرت أحداث التاريخ وتطوراته، أنَّ القوة إذ تؤكِّد ذاتها بالنصر على الآخر تصبح المُثل بالنسبة إليها حاجةً لا مناص منها، فهذه المُثل سلطةٌ إضافية، بل أساسيةٌ لتوطيد النصر الذي حلَّت نعمته على المنتصر. ومنذ سنين طويلةٍ خلت، بيَّـن زبغنيو بريجنسكي[2] تلك الحاجة، حين رأى أنه في العصر التكنوتروني الذي تجتازه أميركا، تصبح الفلسفة والسياسة أمرين حيويَّين. ذلك أنَّ العقل والإيمان والقيم ستتفاعل بشدَّةٍ مؤكِّدةٍ على أولوية تحديد الغايات بوضوح أكثر من أي وقت مضى[3].

(172)

لم تكن نظرية فوكوياما حول ضرورة إيجاد مبرّرٍ فلسفيٍ/ سياسيٍ لانتصار القوّة الأميركية، إلا استئنافًا راهنًا وحديثًا لأهمية حضور القيم في السياسة التي سبق وأكَّد بريجنسكي عليها. وفي سعيه إلى إقامة هذه الضرورة الفلسفية، لم يجد فوكوياما غير الهيغلية لاستعارة مفاهيمها حول الدولة والتاريخ والمجتمع.

ولسوف يظهر لنا ونحن نقرأ سيرة صاحب «نهاية التاريخ» أنَّه كان قاسيًا على هيغل بقدر قسوته على النص المكتوب. فهو استغرق في خيلاء الانتصار العسكري والسياسي إلى درجة إغراق نصّه بإسقاطاتٍ فلسفيةٍ لا تخلو من طبائع العنف، ومُطلقات الأحكام. يقول فوكوياما:

«لقد انتصرنا.. ونحن الأفضل»؛ تلك خلاصة الاستنتاج مما قد شاهده بعد نهاية الحرب الباردة، تلك التي نظر إليها على أنها ليست فقط نهاية الحرب الباردة بين الرأسمالية والاشتراكية، بل نهايةً للتاريخ بالذات: أي نهاية التطوّر الإيديولوجي للبشرية كلّها، وتعميم الديموقراطية الليبرالية الغربية كشكلٍ نهائيٍ للسلطة على البشرية جمعاء[1].

من قبل أن يستعير من هيغل نظريته حول مفهوم الدولة العالمية المنسجمة، يرى فوكوياما أنَّ التاريخية الهيغلية أصبحت جزءًا من تراث أميركا الفكري المعاصر. ولا سيما تلك التي ترمي للإيحاء بأنَّ الأمركة الحديثة هي الحاملة الوحيدة لفكرة الدولة العالمية المنسجمة

(173)

ومجسّدتها الحصرية: أي الإيحاء الصريح بأنَّ نهاية التاريخ لن تستقر إلاَّ إذا سادت هذه الدولة في المجتمعات الإنسانية كلها.

لكن كيف قارب منظِّرو الأحادية الأميركية حلم هيغل في الدولة العالمية المنسجمة؟

في البيِّـن أن هؤلاء المنّظرين، ولا سيما منهم فوكوياما وهانتغتون وسواهما من تيار المحافظية الجديدة، لم يأخذوا من هيغل ما يعينهم على صوغ أطروحتهم سوى الجرعة التي يحتاجون إليها في سياق التوظيف الإيديولوجي للعقيدة الأميركية.

فلقد حُشر الحلم الهيغلي بدولة العدالة الشاملة ضمن الزاوية الحادة من مشروع السيطرة الأحادية المطلقة على العالم. أما أطروحة الدولة العالمية المنسجمة، فلم تسفر إلا عن أطوارٍ مستأنفةٍ من التجزئة والتفتيت والتشظّي للوحدات الدولية، وكذلك لوحدة الدول نفسها. ولعل الذي حصل في مستهلّ القرن الحادي والعشرين تدخّلاتٌ خارجيةٌ وحروبٌ أهليةٌ وفتنٌ داخليةٌ بين الطوائف والمذاهب والأعراق التي تمتلئ بها جغرافيّات الشرق الأوسط، ليس سوى شواهد فائقة الدلالة على تصدّع مفهوم الدولة في بُعده الكلاسيكي. كما يدلّ من وجهٍ آخر على الضرورة التاريخية لوجود الدولة العادلة في تدبير الاجتماع الإنساني المعاصر.

(174)
المؤلف في سطور محمود حيدر مفكر وباحث في الفلسفة السياسية ، لبنان . المؤلفات : 1- لغة التماس (نقد أدبي) - دار الكتاب الحديث - بيروت 1995 . 2- تحولات المشروع الاسرائيلي في لبنان . المجلس الثقافي للبنان الجنوبي ، 1994 . 3- اللايقين السلمي - (فكر سياسي) دار الفارابي - بيروت 1997 . 4- نهاية الجدار الطيب - دار رياض الريس للكتب ، بيروت (2001) . 5- الأرض المغلولة - دار رياض الريس للكتب والنشر - بيروت - 2002 . 6- الدولة المستباحة - من نهاية التاريخ الى بداية الجغرافيا.دار الريس - 2004 . 7- الإعلام والأخلاق - إصدار خاص - بالعربية والإنكليزية . 1996 . 8- لاهوت الغلبة - التأسيس الديني للفلسفة السياسية الأمريكية - دار الفارابي ومركز دلتا - بيروت - 2009 . 9- فقه التعرف - لقاء المسيحية بالاسلام - تحت الطبع . 10- ترجمة الوحي ، مركز دلتا ، بيروت ، 2017 . 11- الفقه الأعلى - معهد المعارف الحكمية - بيروت 2014 . 12- نهاية الجدار الطيب - فكر استراتيجي - طبعة فارسية (مركز الدراسات الاستراتيجية للشرق الأوسط) طهران 2003 . 13- الحكمة البالغة في الحكمة المتعالية - القرآن في فلسفة ملا صدرا - مركز دلتا للأبحاث المعمقة - 2017 . 14- نقد المواطنة الطائفية - مركز دلتا ودار ابعاد - 2017 . 15- فلسفة المتحيز - تحت الطبع . 16- مفهوم الدولة - المركز الاسلامي للدراسات الاستراتجية - بيروت - 2017 . (هذا الكتاب) . 17- ثورات قلقة (تأليف وإعداد) مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي - 2012 .
هذا الكتاب الدولة حظيت فكرة الدولة بعناية استثنائية منذ الإغريق وإلى أزمنة الحداثة المعاصرة . ويجوز القول إن هذه العناية لم تكن متأتية فقط عن حاجة الكيانات البشرية إلى منظومة تدبر لها عيشها وديمومتها ، وإنما أيضا وأساسا عن حاجتها إلى ما يشعرها بهويتها الجمعية ، وبحضورها كمتحد اجتماعي وحضاري . تجيب الدراسة على جملة من الأسئلة تتعلق بماهية الدولة ودواعي نشوئها ، وكيفية تشكل أبنيتها الفلسفية والسياسية والحقوقية ، وبيان وظائفها وأنواعها تبعا لما اختبرته الحضارات الإنسانية المتعاقبة . من المقدمة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف