فهرس المحتويات

مقدمة المركز | 7

مقدمة | 9

تأصيل المفاهيم | 9

أولاً: الفهم الأصولي في اللغة العربيّة والتراث: | 9

ثانياً: في اللغة الإنكليزيّة وفي الفكر الغربي: | 10

المعاجم العربيّة المعاصرة: | 18

الفصل الأول: بنية الأصوليّة الصهيونيّة | 22

المبحث الأول: بذور الأصوليّة اليهودية | 22

المبحث الثاني: الأصوليّة الصهيونية | 32

الطائفة الحريديّة: | 39

الفصل الثاني: بنية الأصوليّة المسيحية | 44

المبحث الأول: بذور الأصوليّة المسيحية | 44

العلاقة التاريخيّة بين الإسلام والغرب: | 53

وقائع الحرب ونتائجها على الغرب: | 59

المبحث الثاني: الأصوليّة المسيحية المعاصرة | 62

الفصل الثالث: بنيّة الأصوليّة الإسلامية | 100

المبحث الأول: بذور الأصوليّة الإسلامية | 100

المبحث الثاني: الأصوليّة الإسلاميّة المعاصرة | 102

الأصوليّة الوهابيّة من خلال منهجها العقائدي: | 122

1ـ الأصوليّة الجهاديّة: | 132

2 ـ تنظيم القاعدة الإرهابي: | 135

تنظيم داعش الإرهابي: | 137

 3ـ أهم سمات الأصوليّة الجهاديّة: | 141

الخاتمة: | 145

العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية سلسلة مصطلحات المعاصرة 13 الأصولية نماذج مختارة من اليهودية-المسيحية-الإسلامية عامر زيد كاظم الوائلي
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها ،وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار ، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظكة الفكرية المختلفة. ثانيا:ازالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لاسيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ،ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الاخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية
(4)

الفهرس

مقدمة المركز7

مقدمة9

تأصيل المفاهيم9

أولاً: الفهم الأصولي في اللغة العربيّة والتراث:9

ثانياً: في اللغة الإنكليزيّة وفي الفكر الغربي:10

المعاجم العربيّة المعاصرة:18

الفصل الأول: بنية الأصوليّة الصهيونيّة22

المبحث الأول: بذور الأصوليّة اليهودية22

المبحث الثاني: الأصوليّة الصهيونية32

الطائفة الحريديّة:39

الفصل الثاني: بنية الأصوليّة المسيحية44

المبحث الأول: بذور الأصوليّة المسيحية44

العلاقة التاريخيّة بين الإسلام والغرب:53

وقائع الحرب ونتائجها على الغرب:59

المبحث الثاني: الأصوليّة المسيحية المعاصرة62

(5)

الفهرس

الفصل الثالث: بنيّة الأصوليّة الإسلامية100

المبحث الأول: بذور الأصوليّة الإسلامية100

المبحث الثاني: الأصوليّة الإسلاميّة المعاصرة102

الأصوليّة الوهابيّة من خلال منهجها العقائدي:122

1ـ الأصوليّة الجهاديّة:132

2 ـ تنظيم القاعدة الإرهابي:135

تنظيم داعش الإرهابي:137

 3ـ أهم سمات الأصوليّة الجهاديّة:141

الخاتمة:145

(6)

مقدمة المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً إلى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برمجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الاجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحو التالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أويجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

(7)

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص المركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

 *   *    *

ترصد هذه الحلقة في "سلسلة مصطلحات معاصرة" كلمة الأصولية وهي واحدة من أبرز الكلمات التي تحوّلت إلى مفهوم شاع خلال العقود المنصرمة وأخذ مساحة واسعة من التداول على مستوى العالم الإسلامي والعالم.

تدخل الأصولية Fundamentalism ضمن المفاهيم الأكثر التباساً وإثارة في حقل الفكر السياسي والاجتماعي، ومع أنها قديمة العهد في الأدبيات الفكريّة والمعرفيّة أنها تكتسب دلالات مختلفة ومتفاوته في ميدان الاستخدام سواء في العالم العربي الإسلامي وفي الثقافة السياسية الغربية.

 

 والله ولي التوفيق

(8)

مقدمة

تأصيل المفاهيم

لكل مفهوم ظروف وحاجات موضوعيّة كانت وراء انبعاثه وتركت أثراً عميقا في ملامحه وتشكله الثقافي من زاويّة أيديولوجيّة ومعرفيّة، وانطلاقا من هذه المظاهر نجد أن الحفر الإيكولوجي في دلالة المفهوم يعدُ أمراً ضرورياً من أجل تحديد ملامح المفهوم واشتغالاته التي من الممكن أن تكون ضروريّة من أجل نقله وتبيئتهِ في الثقافة العربيّة فإن مفهوم «الأصوليّة - Fundamentalism «من المفاهيم الإشكاليّة التي تثير كثيراً من المشاكل المفهوميّة والفلسفيّة معا؛ فهي وليدة إطار ثقافي غربي له موضعاته الثقافيّة تكاد تكون مختلفة بين الغرب، والعالم العربي الإسلامي.

أولا: الفهم الأصولي في اللغة العربيّة والتراث:

إذ نجد أن للمفهوم معنىً في العربيّة وعلومها مختلف عنه في اللغة الإنكليزيّة، ففي اللغة العربيّة: «الأصول» المتعلقة بعلوم الدين، ويطلق لفظ «الأصول» على مصطلحات مختلفة من أشهرها ما يدل على ثلاثة من العلوم الإسلاميّة هي: (أصول الدين وأصول الحديث وأصول الفقه)، ويسمى علم أصول الفقه، غالباً، بـعلم الأصول، ويعرَّف بأنه العلم بقواعد الفقه الإسلامي، وبالأدلّة التي تؤدي

(9)

إلى تقرير الأحكام الشرعيّة[1] ففي الإسلام يرجعون في أحكامهم ومسائلهم الاجتهاديّة إلى الأصول[2]. ويعرّف علم الأصول بأنّه «العلم بالعناصر المشتركة في عمليّة استنباط الحكم الشرعي»[3]، فقد نشأ علم الأصول في أحضان علم الفقه كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث [4] ويختلف منهج الفقه عن منهج علم الكلام فهناك منهجان لتشخيص الأصول واستنباطها: (منهج الأحناف، ومنهج المتكلمين)؛ ولكل منهما وجهة نظر ألِّفت على أساسها جملة من الكتب، أما منهج الأحناف فقد ركز على أساس اعتبار الفروع الفقهيّة لإمام المذهب هي المنطلق إلى التماس الضوابط الأصوليّة العامة.... أما منهج المتكلمين فيختلف عن ذلك المنهج اختلافاً كبيراً إذ يقوم «على تجريد قواعد الفقه والميل إلى الاستدلال العقلي ما أمكن فما أيّدته العقول والحجج أثبتوه [5]». . .

ثانياً: في اللغة الإنكليزيّة وفي الفكر الغربي:

الأصوليّة (Fundamentalism) هي اصطلاحٌ سياسي فكري مستحدَث يحاول توصيف سلوكيات متنوعة بوصفها: «تمتلك نظرة متكاملة للحياة بكافّة جوانبها: (السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة

(10)

والثقافيّة)، وهي ناجمة عن قناعة متأصِّلة نابعة عن إيمانٍ بفكرةٍ أومنظومة قناعات، تكون في الغالب تصوراً دينياً أوعقيدةٍ دينيّة». ويمكن متابعة هذا المصطلح على النحو الآتي:

ظهر في الثقافة الغربيّة في توصيف ظواهر دينيّة مسيحيّة ظهرت أول ما ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكيّة في مطلع القرن العشرين بعد أن تمكّن مجموعة من البروتستانت من طبع اثني عشر مجلداً في الحقبة ما بين (1910-1915 م) بعنوان (أصول شهادة على الحقيقة) انتشرت في وقت وجيز بين المسيحيين الأمريكيين. ويؤيد هذا التأويل للحدث توصيف هربر بركمجيان - أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة نيويورك : «فيرجع أصل الأصوليّة إلى فرقة من البروتستانت التي تؤمن بالعصمة الحرفيّة لكل كلمة في الكتاب المقدّسة ويدعي أفرادها التلقي المباشر عن الله، فضلاً عن معاداتهم للتفكير العلمي وميولهم إلى استعمال العنف والقوّة؛ لغرض فرض معتقداتهم»[1] وبهذا ارتبط المفهوم بضبط تلك المظاهر للسلوكيّة ثقافياً ودينياً من ضمن حدود المجتمع الأمريكي.

وهناك من يؤكد أنّ مصطلح الأصوليّة كمفهوم لم يبرز في المعاجم والموسوعات الغربيّة إلا حديثاً، فهو لم يظهر في معجم روبير الكبير عام 1966م، ولم يظهر في الموسوعة العالميّة في عام 1968م، سوى ما ورد في قاموس لاروس الصغير سنة 1966م، وبكيفيّة عامة إذ يقول: «إن الأصوليّة هي موقف أولئك الذين يرفضون تكيف العقيدة مع الظروف الجديدة «وهذا ما

(11)

أرَّخه الفيلسوف الفرنسي «رجاء جارودي» لهذا المصطلح وتاريخ ظهوره في المعاجم اللغويّة في فرنسا، وبيَّن أنَّ أول ما ظهر هذا المصطلح كان في معجم «لاروس الصغير» 1966م، وكان معناه عامّاً غير محدد ولا دقيق، وكان يُرمز به إلى: «مواقفَ عامةٍ لمجموعة الكاثوليك الذين دأبوا على التَّمَسُّك بالماضي، ورفْضِ كل جديد، وعدم القدرة على تكييف عقيدتهم مع ظروف الحياة وتطوراتها الجديدة في فرنسا»، وبعد ذلك بثلاث سنوات ظهرت الكلمةُ في معجم «لاروس الجيب» سنة 1969م، يقصد بها الكاثوليك وحدهم، وبخاصة الذين كانوا يتميزون بالاستعداد الفكري؛ لرفض التكيف مع ظروف الحياة الحديثة.

لعل هذا الانتقال بين الثقافتين الأمريكيّة والفرنسيّة تشير إلى أنّه مفهوم حديث اعتمد من أجل توصيف مظاهر الثقافيّة ودينيّة تتسم بإعراض وسلوكيات متقاربة مما جعلت المفهوم ينمو في الثقافة الغربيّة ففي سنة 1984م ظهر «المعجم الكبير» في اثني عشر جزءًا «لاروس»، وقد أخذ المصطلح يتحدد معناه بشيء من الدقة والضبط والوضوح، فهو يعني داخل الحركة الدينيّة: «موقف الجمود والتصلب، والمعارضة والرفض لكل جديد ولكل تطور»، وكل الأمثلة التي ذكرها «لاروس» في معجمه توضيحًا لمفهوم مصطلح الأصوليّة، كانت مأخوذة من مواقف الكاثوليك في فرنسا، والتي جسّدت حركة الكفاح في ظل يبوس العاشر بفرنسا، من سنة. (1903-1914م)، وفي عصر الحداثة شهد المصطلح تطوراً كبيراً، وبخاصة بعد مؤتمر الفاتيكان الثاني، ثم انتقل المصطلح من مجال

(12)

الدراسات الدينيّة الكاثوليكيّة، إلى مجال السياسة والاجتماع، إذا أريد به «المذهب المحافظ والمتصلب في موضوع المعتقد السياسي».  وكان جاك ديبور يطلقه على «جماعة الكاثوليك الذين يرفضون كلَّ تطور وجديد، ويعلنون تمسكهم بالتراث».

إن المفهوم يبقى محاولة من قبل الباحثين في توصيف ظاهرة غربيّة دينيّة أوراديكاليّة تتسم بالشموليّة كانت في البدايّة تجتهد في توصيف الحركات الدينيّة المسيحيّة في الغرب سواء كانت من الكاثوليك أم البروتستانت. والعلامة الدالة على إنهما ينطبق عليهما مفهوم الأصوليّة هي لوازم الأصوليّة، رفضُ التطور، ومحاربة العلم، وعدم التكيُّف مع ظروف الحياة المعاصرة، طبعاً الحياة المعاصرة كما تراها المنظومة العلمانيّة التي تتخذ من الحداثة الصلبة معياراً لها في توصيف خصومها الذين تراهم لا يتوافقون من موجهاته في الرؤيّة والمنهج ولعل هذا ما وصفه ونقده هابرماس بمجتمع ما بعد العلمانيّة؛ لكن هذا الوصف العلماني يرى أن تلك المظاهر الدينيّة المسيحيّة تتسم بكونها تلتزم التشبث بالماضي التراثي، والمطالبة بالعودة إليه كمرجع أساس في مواجهة الحداثة المعاصرة. وهذا يعاكس مفهوم القطيعة والنسبيّة التي ترفضه الحداثة. وتصفه بأنه يحمل خطاب إقصائي يرفض الآخر ولا يقر بذهنيّة التسامح والحوار ويستعمل بدلهما القوة والعنف الرمزي. وهناك قراءاتٌ أخرى تنتمي إلى المرجعيّة الحديثة نفسها، وقد حاولت أن تتوسع في تطبيق الأٌنموذج الغربي للأصوليّة فنجد غارودي مثلا يوسع المفهوم فيأخذ أبعاداً جديدة

(13)

في توصيف ونقد أشكال من الأصوليات بقوله: «في الغرب ظهرت أمُّ الأصوليّات، وهي الأصوليّة الصِّهْيَوْنِيّة، وتحت عباءتها ظهرت الأصوليّة الماركسيّة والأصوليّة الرأسماليّة، ومن باطن هاتين الشرارة الأولى لنشاط هذه الأصوليّات هي إسقاط الخلافة العثمانيّة، بتدبير الأب الروحي للأصوليّة، وهوتيودور هرتزل[1]».

توسع المصطلح إلى خارج الخطاب الديني إذ حاول «غارودي» أن يوسع دلالة المفهوم في الربط بين نشاطات سياسة تتسم بكونها تحتكر الحقيقة وتمارس العنف الثوري من أجل الوصول إلى غاياتها على الرغم من كونها متعارضة دينيا بين البروتستانت واليهود الصهاينة على الرغم من كون خطابهم علماني؛ إلا إنهم مارسوا تأويل ديني وبين الماركسيّة والرأسماليّة على الرغم من كونهما خطابان شموليان بيد أنهما لا تعدان فرقاً دينيّة [2]. بعد أن كان مفهوم الأصوليّة يطلق (على وجه الخصوص لدى المسيحيّة (البروتستانتيّة) الأصوليّة تعني التركيز على المعنى الحرفي في تفسير الكتاب المقدّسة الذي يقابل التفسير الرمزي الكاثوليكي. واليوم هناك حركات دينيّة أصوليّة بروتستانتيّة تلتزم بحرفيّة النصوص وتحاول العيش على أسس تعاليم الكتاب المقدّسة. كمقابل للفكر العلماني في الغرب[3].

(14)

الأصوليّة تعتمد على معايير تصنيف للآخر بوصفه مختلفاً عنها ولهذا تنتهج معه سلوك إقصائي، فإن هذا السلوك قد ألحق تشوهات من خلال أنواع البتر التي ألحقها هذا التراث الأرثوذكسي بنفسه من جراء حذفه وتصفيته لكل المدارس والمؤلّفات والشخصيّات الفكريّة. . . التي عدّت «زندقة» أومنحرِفة [1].

أمّا عن تلك القواسم المشتركة التي صنّفت الأصوليّة الدينيّة فهناك ثلاثة ملامح تُكَوِن الأصوليّة المتطرفة منها:

ـ «هيمنة النزعة المحافِظة» وعلى هذا الأساس نجدها تعارض النزعة التحرريّة أو الاجتماعيّة أوالتنويريّة والحداثة. هكذا؛ فهي تعني الحفاظ على تقليد «الأصول» من دون تجديد ومن دون تطبيق معاصر،  فالأصولي المتشدد يمارس حياته اليوميّة وفقًا لنظرة تاريخيّة قديمة مرتبطة بالماضي، إلا إنه يستعمل بعض وسائل الحداثة، مثل الوسائل الحديثة في النقل والعلاج والبناء»، بيد أنه عندما تتحدث معه عن الأسس الحديثة لنظريات الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة فإنه يرفضها بشدّة؛ لأنّها تتعارض مع فهمه للحياة من خلال موروث سلفي لا يصلح للإنسان المخلوق بحسب صورة الله ومثاله، تاج الخليقة.   

ـ طغيان الخطاب الديني:  فالتدين يكون بمثابة العنصر المثبِّت للنزعة المحافظة التقليديّة، والمادة المتماسكة، والقويّة لأصول التقليد في الدين التي تُخضع كل ما هو علماني (الدولة، المجتمع، الاقتصاد)، لكل ما هوديني، وتُخضع الخاص (الحياة الشخصيّة

(15)

للفرد) إلى العام (القيَّم الأخلاقيّة الدينيّة «الشرع المقدّسة»). هكذا الأصوليّة الدينيّة المتطرفة تتخذ مواقف متشددة وغير متفهمة للسلوك البشري، وترفض المرونة الاجتماعيّة في التعامل مع هذا السلوك، فهي دائماً تتصلب في فهمها لكل مجالات الحياة؛ فالفنون والموسيقى تُعد بالنسبة للأصوليّة مفسِدات، إلا إذا كانت تساعد على نشر رسالة الجماعة الأصوليّة وكما يغلب عليها التشدد وعدم ترجيح العقل المعاصِر في أحكامها.

ـ بروز الخطاب العنيف بحق المختلف: فهذا السلوك العنيف مقارنةً مع الملامح المشتركة السابقة يُعد العنصر الأكثر إثارة للأصوليّة المتطرِّفة، إن استعمال العنف باسم النزعة المحافظة في خدمة كل ما هو مقدّس، هوما يلخص الحركة الأصوليّة، استعمال السلاح وسفك الدماء، والقتل الجماعي، وبتر الأعضاء كعقاب وطرد وعزل الأقليات التميّزات القبليّة، التطهير العرقي والإرهاب، كل هذا يندرج في بنود الأجندة اليوميّة للأصوليين في كل العالم وفي كل عصر. وهي مظاهر أُصوليّة متنوعة الأديان إذ (على طوال عقد الثمانينيّات، قلما شهد العالم أزمة سياسيّة ذات شأن في أحد أرجاء العالم لا تقف وراءها يد الدين غير المتواريّة تماما. ففي الشرق الأوسط، تصادمت كل الأديان والحركات الأصوليّة في هذه المنطقة يهوديّة كانت أم مسيحيّة أومسلمة على خلفيّة صراعات قديمة حول السلطة في إطار حروب أهليّة وغير أهليّة)[1].

ـ الانسحاب والانفصال عن الثقافة المعاصِرة والعلاقات

(16)

الاجتماعيّة، والترويج لأيديولوجيا على إنها واحدة وساميّة تفسير شامل يمكن من خلاله تفسير جميع الظواهر ومعالجتها. عدم الاقتصار في النظام الجديد على السعي نحو تحويل النظام السياسي والاجتماعي فبحسب، بل صميم فكر الفرد أيضاً ، ورفع الحقوق الجماعيّة على حساب الحقوق الفرديّة، وتصنيف الحقوق بحسب الولاء للنظام الاعتقادي، وخفض الحقوق الكونيّة، وقمع التنوّع، ومعارضة الديمقراطيّة والتعدديّة والفكر المتحرِّر بشدّة، والدعوة لإقامة دولة شموليّة توسعيّة

ـ تصنيف الأصوليّة الدينيّة: فضلاً عن تلك العناصر هناك من الباحثين من يضع تصنيفاّ للأصوليّة الدينيّة بذكره ثلاثة عناصر مشتركة تطبع الأصوليّة وهي: (الشموليّة، والنصوصيّة، والانحياز المطلق). أمّا «الشموليّة» فهي مفهوم مأخوذ عن الكاثوليكيّة تعني: أن جميع الأسئلة التي تفرضها الحياة الخاصة والعامة تجيب عنها تعاليم الدين أوالأيديولوجيّة. أمّا «النصوصيّة» فتعني: أن النصوص المقدّسة تؤخذ حرفياَ من دون الدخول في تأويل أوتفسير بما يعنيه من استكشاف ملابسات أوطرح تساؤلات وغير ذلك. أمّا السمة الثالثة فهي «الانحياز» يعني: الرفض المطلق؛ لأي مساءلة لتلك المبادئ التي يعتقدها الأصولي، ورفض كل ما عداها.

ـ وقد أخذ المصطلح يصف مظاهر متنوعه عالميّة أو ما يعرف بوصفها «الأصوليّة الدينيّة» «بجميع طوائفها (الهندوسيّة والإسلاميّة واليهوديّة والمسيحيّة والبوذيّة). ويبشر الأصوليون وكل مَنْ يلتزم

(17)

بتعاليمهم، بالنجاة، ولا مجال في عالمهم لإثارة تساؤلات تنم عن حالة من الحيرة والقلق، أما مَنْ لا يتبع التعاليم، فيستحق العذاب»[1].

ـ وفي الحقبة الأخيرة يحاول الغرب تطبيق مفهوم الأصوليّة على الخطاب الإسلامي المعاصر بوصفه خطاباً أصولياً ينطبق عليه ما ينطبق على غيره من ضمن سياسة الحرب على الإرهاب.

المعاجم العربيّة المعاصرة:

التي يبدو أنها تخلط بين المعنى التراثي والمعنى الغربي المعاصرة، تعريف ومعنى أصوليّة في المعجم الوسيط، للغة العربيّة المعاصر. قاموس عربي «أصوليّة «تدل الكلمة عادة على أنماط معيّنة من المحافظة الدينيّة سواء أكانت إسلاميّة أم مسيحيّة. وتتبع الأصوليّة الإنجيل أوالقرآن حرفياً وتدعو إلى اتباع تعاليمهما وقيمهما في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة بما في ذلك الحياة الشخصيّة. فيدعو الأصوليّون المسيحيّون على سبيل المثال إلى تعليم ما يسمونه علم الخلق في المدارس وهو خلق الكون كما ورد في الإنجيل وبالضبط في سفر التكوين كونه حقيقة علميّة وتاريخيّة لا جدال فيها. ويُتّهم النقاد الأصوليين بعدم التسامح وتحريم كل شيء فيرد الأصوليون بأنّ لا مسعى لهم سوى العودة ببلدانهم إلى أصول الحضارة المسيحيّة وقيمِها الأخلاقيّة.

وأيضا نجد في «المعجم: عربي عامة «أُصوليّة، اسم مؤنَّث منسوب إلى أُصول، على غير قياس، جماعة أصوليّة. مصدر صناعيّ

(18)

من أُصول، الأصوليّة، التمسُّك بكلّ اتِّجاه فكريّ أودينيّ قديم. موقف فريق من المؤمنين يتشبّثون بالأصول والتقليد: «أصوليّة مسيحيّة، أصوليّة إسلاميّة».

 

(19)
(20)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

بنية الأصوليّة الصهيونيّة

 

المبحث الأول: بذور الأصولية الصهيونية

المبحث الثاني: الأصولية الصهيونية

 

(21)

الفصل الأول

بنية الأصوليّة الصهيونيّة

المبحث الأول: بذور الأصولية اليهودية

 

إن البحث عن الأصول الأرثوذكسيّة في المدوّنة اليهوديّة سواء كانت توراة أم تلمود، سوف يجعلنا نقف عند سلطة النص بكل حمولتها التيولوجيّة وتوظيف مؤسسة الكنيسة منذ بابل إذ تمّ تشكيل جهد الكتاب في سعيهم إلى المحافظة على الهويّة اليهوديّة في ظل مجتمع بابلي متقدِم حضاري على الأصول الرعويّة لليهود إذ سعى كتّاب التوراة والتلمود فيما بعد إلى الموروث الشفوي، فأخذ هؤلاء بجمع الموروث القديم من (بابلي أومصري أوكنعاني) وتوظيفه من لغاياتهم الشخصيّة؛ من أجل بلورة الهويّة اليهوديّة عبر الخطاب التوراتي التي تعود بالأصل إلى «أصول الحضارات الجزريّة وليست إرثاً لليهود، وإنما ارثٌ قديم الذي استظلت به الوجوه الملوّثة بالدم والحقد والكراهيّة.»[1]؛ فهذه النصوص تحمل أقنعةً واستعارات تعبِّر عن أهداف ومرامٍ عدوانيّة تنفي الآخر وتحلل إزاحته وقتله وسلب

(22)

مقتنياته وأرضه. كما تتجسد في القراءات الأحيائيّة الأصوليّة في الصهيونيّة والأصوليّات الدينيّة الأخرى، فهي تحاول أنْ تجعل من الذات اليهوديّة أن تؤسس الاختلاف عن أعدائها، وتجعلهم خارج مورد الحق، وفي النهاية قتلهم واستباحة دمائهم.

لكن تبقى العوالم التي شكلتها النصوص المقدّسة ومنها التوراة والتلمود بمثابة عوالم تخيليّة تحوي كثيراً من الأقنعة والاستعارات فإن«التخيّل يمكن أن يقدم عالم الهجاء المنحط، أوعالم الأنشودة العاطفيّة البطولي، أوعالم الحكايّة المحاكي؛ لكنّ العالم الحقيقي محايد أخلاقياً، أمّا العوالم التخيليّة فإنها محملة بالقيّم، وهي تقدم لنا وجهة نظر عن وضعنا ذاته بطريقة تجعلنا ونحن نحاول تبين موضعها نلتزم في وضعنا الخاص»[1] في التأويل والقراءة اليهوديّة للنصوص نحاول دائماً أن نتخذ منها نماذج في العمل اليومي وبخاصة في تقليد النماذج المتخيّلة في التلمود والتوراة وتحولها إلى نماذج للفرد اليهودي يحاول تقليدها في علاقته بأخيه اليهودي أوبالآخر، متخذين من تلك النصوص فوق إرث الإنسانيّة؛ بحجة كونها نصوص مقدّسة تعود إلى الله، فإن الوصايا الإلهيّة للشعب اليهودي تسمو على الأفكار الإنسانيّة وبالآتي «يفترض ويفرض الانكفاء على الذات؛ والاقتناع بحيازة الحقيقة الإلهيّة؛ والخوف من التأثيرات الخارجيّة؛ والرجوع باستمرار للنصوص المقدّسة؛ والاشمئزاز من أي نصوص قد تؤثر في العقيدة. ويقدّم الإيمان دائماً

(23)

على القواعد الدينيّة، فالإيمان بإله كلي القدرة هو وحده المبرر لكل الأوامر والنواهي الموجهة للإنسانيّة»[1].

عقيدة الصفاء العرقي والديني: من الممكن أن نرصد بعض تلك النصوص في توصيفها للعلاقة بين اليهود والآخر، كما جاءت في التلمود مثلاً، «يجب ترك غير اليهودي إذا وقع في البئر» ويشرح الراباي جوزيف هذا القول : «فيما يخص عبدة الأصنام ورعاة الأغنام ليس هناك إجبار على إخراجهم من الحفرة التي يقعون فيها وإنما لا يجب إلقائهم في الحفرة»[2] فإنّ هذا التشريع يخفي رغبه قويّة في إزالة الآخر وإقصاءه بوصفه مختلف سواء كان يعبد الأوثان أم راعي يختلف عنهم بالمدنيّة؛ فهو أقل ولا يستحق أن يكون نداً، ولعل هذا ما تظهر التشريعات التاليّة: «إذا أقدمَ غير اليهودي على ضرب يهودي؛ فإن غير اليهودي يستحق القتل، لكن لا يقتل اليهودي إذا قتل غير اليهودي، وإذا قتل شخص يهودي شخص غير يهودي فإن اليهودي لا يعاقب بالقتل، ما يسرقه من غير اليهودي يمكنه الاحتفاظ به»[3]؛ فهذه النظرة إلى الآخر تقوم على الإقصاء؛ لأنّه مختلف وأقل من اليهودي؛ فإنهم بهذا يفسرون المختلف للانسياق معهم وقهره لصالح ألأنا المتضخمة للمتجبر في حيز المتاح لها في التعبير عن نزعتها الإقصائيّة لإلغاء التنوع بقصد إرضاء جبروتها المدمِّر لكل أشكال التنوع. مشكلتنا إذاً

(24)

تكمن في التخلص من سطوة أيديولوجيا المتجبِّر وتطرفه الفكري. وهذا ما يظهر بنظرتهم إلى الآخر بأنّ «أبناء غير اليهود حيوانات وإنّ بنات غير اليهودي قذرات منذ مولدهن»[1]، ويظهر بنظرتهم إلى المسيح وأتباعه «المسيح وتلاميذه كانوا يمارسون السحر الأسود وكانوا حلفاء لغير اليهود؛ لكي يبدِّلوا الدين اليهودي»[2] وبالآتي فإنّ «الذين يقرؤون العهد الجديد لا نصيب لهم في الآخرة»[3] وانطلاقاَ من هذا يرى التلمود أنّ على اليهود «تدمير كتاب العهد الجديد». [4]؛ فهم يصفون غير اليهودي بـ(عابد الأوثان) أو اجنبي ومعناها يشمل المسيحي فهم يسمون الأمم الأخرى (أكيم)؛ لأنه قيل «إذا صلى يهودي وتقابل في طريقه مع (أكيم) يحمل صليباً وكان اليهودي وصل للنقطة الواجب الانحناء فيها؛ فعليه ولوكان قصده وموجها لله، الذي يحمل صليب لا شك أنه المسيحي»[5]. طبعاً هذه النصوص المقدّسة عند اليهود تجد ترجمتها في حياة اليهود إذ يقول إسرائيل شاحاك: «إذ شهدت بأم عيني يهودياً متطرفاً دينياً يرفض أن يستخدم هاتفه يوم السبت لاستدعاء سيارة إسعاف لشخص غير

(25)

يهودي صادف أن وقع مريضاً في حارته في القدس [1].

فهذه التفسيرات التلموديّة مهمّة في تفسير التوراة وبالآتي فإن الحكيم (التلمودي) له أهميّة، «تفوق أهميّة النبي؛ لأنه هو الذي يفسر رسالة الوحي وهو الذي يدمجها في حياة البشر، ومن دون التأثير الراسخ للفهم التقليدي للكتاب المقدّسة (أي التوراة)، تصبح تعاليمه أي تعاليم الكتاب المقدّسة عرضة لتفسيرات قد تؤدي إلى تحطيم وحدة الثقافة اليهوديّة»[2].

العودة إلى الأصول: فكرة العودة إلى الأصول فكرة عميقة الحضور في الفكر الأسطوري فهناك دائما حياء دوري للأصول الأولى في السنة البابليّة وغيرها، يبدو أن الفكرة انتقلت إلى اليهوديّة مع جملة تأميمها للأساطير القديمة، وأصبحت فكرة راسخة في الدين اليهودي إذ هناك أصل نقي لابد من إحياءه وتمثله والصراع عن من يمثله تمثيلاً كاملاً (فالأصوليّة تعني تبني فكرة العودة إلى العقيدة القديمة الخاليّة من شوائب اندماج اليهود بغيرهم من الشعوب وأتباع الديانات الأخرى)[3].  فالاندماج وإن كان يجعل المواطن اليهودي يتخلص من أسر رجال الدين؛ إلا أنهم يبقون يطاردون بالتكفير وذوبانه في (أكيم) عبدة الأوثان قديماً وحديثاً، وبالآتي فهو السبب في ضياع دولة

(26)

إسرائيل التاريخيّة بسبب الذنوب وعبادة آلهة الوثنيين جعلت الرب يسلِط الأقوام الجبابرة على إسرائيل وهذا حاضر بعمق في التوراة والتلمود وهذه المطاردة التي يقوم بها رجال الدين من اجل استعباد اليهودي؛ بحجة التكفير والطرد من الجنة، أولكونه السبب في سقوط إسرائيل، أوالسبب بعدم ظهور المخلص وهذا ما جاء في التلمود (سمعت صوتاً مقدساً ينوح كالحمامة يقول: «تباً للأبناء الذين بسبب خطاياهم دمّرتُ بيتي وأحرقتُ معبدي وشرّدتهم بين أمم الأرض)[1]. فهذا النص الذي يرويه هذا الرابي يعبّر عن تفسير تلمودي للتوراة ويمارس ضغط على الضمير اليهودي ويحمِّله أسباب دمار دولة إسرائيل المتخيّلة، ويجعله مسؤول عن ما حدث عبر خروجه على العهد وباندماجه مع الأمين من غير شعب إسرائيل أو قصوره في الطقوس والحقوق الشرعيّة التي يدفعها للمعبد. وقد واصل الكنيس اليهودي والحاخامات المحافظة على نقاء الشعب من الاندماج مع الأغيار، وجاءت الأصوليّة الصهيونيّة وقدّمت تأويلاً عنصرياً أيديولوجياً يستثمر الميراث التلمودي والحاخامات؛ من أجل توظيفه في بناء دولة إسرائيل المعاصرة.

عقيدة الخلاص (المشيح المنتظر اليهودي): هذا المفهوم ظهر في السبي عندما كان الشعب يرزح كان هناك من يؤسس لفهم جديد متأثراً فالفكر الفارسي (ربما أثارت الزرادشتيّة قبل ذلك ظهور فكرة المخلص في البوذيّة في صورة «متريابوذا» كما قامت إيران بدور

(27)

هام بصفة خاصّة في حدوث تطور الإيمان المسيحي اليهودي)[1]. وما قدّمه من عقيدة عن الخلاص وجدت تأثيرها في الفكر اليهودي خصوصا بعد أن قام قورش بإرجاع اليهود إلى فلسطين؛ فإنّ عقيدة الانتظار تصبِّر اليهود وتجعلهم ينتظرون ظهور المخلِّص الذي سوف يدمِّر الأعداء ويعيدهم من الشتات إلى دولة صهيون، إذ يعد المشيح عندهم يمثل نهايّة التاريخ اليهودي وقد تم تصوير هذا التاريخ على أساس الثنائيّة المانويّة بين الخير الذي يمثله اليهود والشر يمثِّله الأغيار؛ ( فهم يرون في ظهوره هو الخلاص الدنيوي، وأنه مرتبط بهزيمة قوى الشر وهم كل الأقوام من غير اليهود؛ لذلك فان المسيانيّة تحظى باهتمام كبير في اللاهوت اليهودي)[2].

لقد جاءت كثير من النصوص التي وعد بها اله إسرائيل على جمعهم من كل شتاتهم إلى القدس، وإلى أرض إسرائيل، إذ سيحكمون بالعدل والسلام ويباركون بمحبة الله، ويتحقق هذا من خلال الشخص الموعود الذي يحكم في آخر الزمن بالعدل هومن نسل داود حصراً؛ لكنّ يهودا وحده هو الذي سيحقق النصر والخلاص، علماً بأنه لم يرد في العهد القديم ما يشير إلى أن شخصاً بطلاً منقذاً سيقوم بمعجزة؛ لتحقيق هذا الخلاص[3]. وهذا الخلاص يتحقق من خلال «فكرة الحرب» فالتاريخ لا يتغير إلا بالحرب

(28)

لهذا تجد فكرة الحرب، والصراع الدموي حاضرة في كتب اليهود المقدّسة عندهم ثابتة ومستمرة ومتصلة، تكاد تشمل من أوله إلى آخره؛ لهذا فإن العنصريّة اليهوديّة تحققت بفعل نفس اليهود المسبوكة بنيران الحروب[1]. وتبقي مقاومتهم لكل أشكال الاندماج هي التي تقودهم إلى تغيير دينهم تلاقي مقاومة عنيفة منهم وفي هذا يقول بن ميمون: القول إنه على اليهودي الهجرة إذا ما أُجبر على انتهاك الشرع الإلهي: «عليه أن لا يبقى في دنيا ذلك الملك؛ وان يجلس في بيته حتى يهاجر». ويقول مرة أخرى، بإلحاح أشد: «عليه أن لا يبقى في منطقة التحول القسري بأي شكل؛ وكل من يبقى في مكان كهذا إنما يجدّف على اسم الله وهو شرير كالآثم عن قصد؛ أما بالنسبة لأولئك الذين يضللون أنفسهم بالقول: إنهم سيبقون حتى يأتي المشيح (المسيح المنتظر) ويقودهم في حرب إلى القدس؛ فلا أعرف كيف سيطهِرهم (المشيح) من وصمة عار تبديل الدين»[2].

 التأصيل العرقي للدين اليهودي (شعب الله المختار): وهذا قد عبرت التوراة عنه مثل سفر التثنيّة بشأن الوعد «لأنّ أعينكم هي التي أبصرت كل صنائع الرب العظيمة التي عملها، فاحفظوا كل الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم؛ لتتشددوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي

(29)

عابرون إليها لتمتلكوها ولتطيلوا الأيام على الأرض التي أقسم الرب لآبائكم أن يعطيها لهم ولنسلهم أرض تفيض لبنا وعسلاً».  تبدو هذه الأصوليّة على الرغم من طابعها الدنيوي وصراعاتها على الأرض كأي صراع بدوي إلا إنها تحاول أن تمارس دمجاً دنيوياً بآخر غيبي مقدّس من أجل جعل الصراع مقدس؛ فالمؤمن هنا يمنح كل ما هو نسبي ودنيوي طابعاً كونياً مقدساً على حساب الإنسان وكرامته من أجل خرافات أوأضغاث أحلام، فـ«إن بني إسرائيل سيكونون طرفاً في علاقة تعاهديّة مع يهوذا فهو الإله الذي تصوِره التوراة بصورة الملك وهم الشعب الذي تصوِره التوراة بأنه شعب خاص بذلك الإله، ويلاحظ أن هذه النصوص تثير في النفوس شعوراً بالتفوق والعلو والتمييز على الأمم الأخرى»[1].

يبدو أنّ غاية اليهود حرمان العالم من الأمن والاستقرار وأساس تلك الغاية الرؤية التلموديّة التي تقول «يجب على كل يهودي أن يسعى لأن تظل السلطة على الأرض لليهود من دون سواهم وقبل أن يحكم اليهود باقي الأمم يجب أن تقوم الحرب على قدم وساق، ويهلك ثلثا العالم، وسيأتي المسيح الحقيقي، ونحقق النصر القريب، وحينئذ تصبح الأمة اليهوديّة غايّة في الثراء؛ لأنها تكون قد ملكت أموال العالم جميعاً ويحقق أمل الأمة اليهوديّة بمجيء إسرائيل، وتكون هي الأمّة المتسلِطة على الأمم الأخرى عند مجيء المسيح»[2]. فهذا النص مثلما يسوِغ تقبل الصعوبات بالأسر

(30)

أوالشتات؛ فهو أيضا يواصل الضغط على الفرد وجعله مذنب بحق المقدّسة؛ لكونه لم يمارس الطقوس وطاعة رجال الدين؛ فهذا يجلب الذنب، ويقود إلى انتقام الإله من ذنب الإنسان، فالكتب المقدّسة اليهودية تطارد الإنسان وتحاول تطويعه من أجل غاياتها الماديّة؛ لهذا فهي ترسم له أصل متخيل متعالي على الأجناس الأخرى عرقيا ودينيا؛ من أجل المحافظة على وحدة الجماعة اليهوديّة في مواجهة التأثيرات السلبيّة للأغيار، فالجيتو على الرغم من كونه سلب اليهود في (الحقوق والعدالة وحق الدفاع عن النفس)، إلا إن هذا الوضع أرحم في نظر السلطة الدينيّة من الذوبان في الواقع الاجتماعي للأغيار؛ لأنه في هذه الحالة يخرج من هيمنة رجال الدين والمؤسسة الدينيّة. واليوم في المجتمع الإسرائيلي هناك صورة متشددة لتعريف اليهودي فإنّ أتباع المذهبين (المحافظين والأرثوذكسي) لا يجيزون الزواج من هؤلاء المتهودين أومن يمثلهم بل يعدون النسل عن مثل هذا الزواج أبناء زنى[1]، أكيد يمكن القول لا توجد ديانة معصومة عن التعصب، ولكننا وجدنا إن هذه الترسانة من النصوص التي تحض على نفي الآخر وتجوز قتله وتصوره بصور نمطيّة، فهذه المؤسسة غير المتسامحة بل الأصوليّة غير المنفتحة وغير متحاورة، ولا تقبل مراجعة نفسها، وتعتقد أنها تمتلك الحقيقة وتريد إخضاع الآخرين لها أكيد هي سبب كل المحن التي خلقتها لليهود على اختلاف أجناسهم وأوطانهم ومذاهبهم، واليوم نجد هذه الأصوليّة تجد ترجمتها في دولة إسرائيل.

(31)

المبحث الثاني: الأصولية الصهيونية

يبدو أن الأمر لا يتعلق بالفكر القديم ومدى أصوليته؛ لأنّه يبقى ارث مختلف عن الحديث والمعاصر لان الحديث والمعاصر هو بمثابة أيديولوجيا تنتمي إلى الواقع الحديث وهو مختلف عن المتن الأسطوري أو التيولوجي، وهنا تكمن اختلاف الأصوليّة المعاصرة بكل الأرثوذكسيّة، التي هي تحويل الدين من المتن التيولوجي إلى الأيديولوجيا تحمل أهداف سياسيّة واجتماعيّة وهذا جاء مع الحداثة على الرغم من نفي تلك القراءات للحداثة وبخاصة الأرثوذكسيّة الدينيّة. وهنا نرصد بعدين الأول غربي فاعل، والثاني يهودي منفعل.

أمّا البعد الأول الغربي: يبدو أن الأصوليّة المعاصرة جاءت من الفكر الغربي وقد كانت منطلقها الأول من داخل الفكر المسيحي إذ في أواخر القرن السادس عشر الميلادي أطلق لفظ «الصهيونيّة» على النظرة التي ظهرت في أوروبا تجاه اليهود خصوصاً في الأوساط البروتستانتيّة في انجلترا، باعتبارهم لا يمثلون جزءاً عضوياً من التشكيل الحضاري الغربي، بل باعتبارهم شعباً عضوياً مختاراً

(32)

وطنه المقدّس في فلسطين، ولذا يجب أن يُهجّر إليه واطلق على هذه النزعة اسم «الصهيونيّة المسيحيّة»[1] ويبدو أن الصهيونيّة حركة غربيّة بامتياز ارتبطت به وبخطابه المتمركز حول الغرب «فالصهيونيّة هي إفرازات تشكيل حضارة محددة وجغرافية محدّدة، ولا يمكن دراستها خارج هذا التشكيل»[2] وبالآتي لا يمكن فهم هذه الظاهرة الأصوليّة خارج هذا المحيط وحاجاته وفضاءه السياسي والفكري وانطلاقا من تلك الحاجات التي تم اختلاقها من قبل الكولونياليّة الغربيّة؛ من اجل أهدافها وغاياتها في الهيمنة الغربيّة إذ تعاضدت القوة والمعرفيّة واستثمرت الاستعداد النفسي العدائي لدى اليهود، فتمّ اختلاق تاريخ وثقافة، من أجل مشروع استيطاني غربي قال به نابليون في صراعه مع بريطانيا ثم استثمرته بريطانيا كأداة للهيمنة الكولونياليّة، وهذا ما يمكن أن نفهمه من قول العقيد جورج غاولر: «إن العناية الإلهيّة هي التي وضعت سورية ومصر على طريق إنكلترا إلى أكثر مناطق تجارتها الخارجيّة الكولونياليّة أهميّة وينبغي أن تجدد بريطانيا سورية بوساطة الشعب الوحيد الملائم للقيام بهذه الرسالة والذي يمكن لهذه الأرض، أبناء إسرائيل»[3] ويبين مسؤول بريطاني آخر طبيعة هدفه الغاية بوضوح اكثر هو السير ايموي: «نحن نرى من وجهة النظر البريطانيّة الخالصة، أن إقامة شعب

(33)

يهودي ناجح في فلسطين يدين بوجوده وفرصته في التطور إلى السياسة البريطانيّة هو كسب ثمين لضمان الدفاع عن قناة السويس من الشمال دور محطة الطرق الجويّة مع الشرق»[1]. وقد بلور لورد شافسبري (1801-1885م) لورانس أولينانت (1829-1888م)، وقد لخّص شافسبري التعريف الغربي لمفهوم الصهيونيّة في عبارة أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض[2]؛ فهذه اللغة الكونياليّة هي التي غيبت الشعب الفلسطيني وكأنه غير موجود.

أما على الصعيد اليهودي الغربي المنفعل:

نجده في الأصوليّة اليهوديّة المعاصرة إذ استغلت الصهيونيّة خوف اليهود الأرثوذكس من الذوبان في مجتمعاتهم؛ لتشجيع الهجرة إلى فلسطين التي باتت تضم أكبر تجمع يهودي أرثوذكسي في العالم إذ تقدر نسبة هؤلاء بنحو40 % من المستوطنين في فلسطين المحتلة. وتحمل هذه المدرسة عداوة عميقة للمسلمين بوجه عام، وللعرب من (مسيحيين ومسلمين) بوجه خاص. وقد كتب بن غوريون في يوم ما: «على اليهودي، من الآن فصاعداً، ألا ينتظر التدخل الإلهي لتحديد مصيره، بل عليه أن يلجأ إلى الوسائل الطبيعيّة العاديّة مثل الفانتوم والنابالم. فالجيش الإسرائيلي هو خير مفسِّر للتوراة»، وهنا تنتقل الأصوليّة من بعدها الأسطوري وسردياتها الكبرى إلى أيديولوجيا سياسيّة توظف أساطير اليهود؛ من أجل خلق أيديولوجيا تدفع الناس إلى استهلاكها كحقائق وهي

(34)

بهذا تحاول تغيير العالم بدلاً من انتظار البطل الأسطوري الذي يحقق العدل الإلهي، ويقتل أعداء اليهود على اليهود أن يقوموا بهذا كما جاء في قول بن غوريون، ولكن كيف تحقق هذا؟ في بحثنا عن إجابة تبدأ رحلتنا مع ملامح هذه القراءة الأصوليّة اليهوديّة المعاصرة التي يمكن تلخيصها بأنها أيديولوجيا صهيونيّة وظفّت الدين بكل تأويلاته وأخرجتها من انحيازه التاريخي من أجل توظيفها في بناء وطن استيطاني حتى تهجِر أهل وتوطّن يهود الشتات؛ فهذه القراءة الأيديولوجيّة تبدأ من أفكار الحاخام يهودا القلعي (1798-1878م)[1] وهي تمثل اليوم، على اختلاف منظماتها، ضرباً من أصوليّة يهوديّة متطرِفة قضت بأنّ الاستيطان في فلسطين واجب ديني. وقد تجلت القراءة الأصوليّة لديه بدعوته:

1ـ  الدعوة إلى الهجرة كما جاءت في كتابه «اسمعي يا إسرائيل» إذ دعا فيه إلى الهجرة إلى فلسطين التي أسماها أرض الميعاد من دون انتظار المسيح المخلص، بحسب ما تقوله المعتقدات الدينيّة لليهود.

2 ـ أنشأ القلعي عام ألف وثمان مئة وواحد وسبعين جمعيّة للاستعمار في القدس داعيا أغنياء اليهود إلى دعمها.

3 ـ دعا إلى إحياء اللغة العبريّة، إذ نشر في سنة 1839م كتاباً في تعليم قواعد اللغة العبريّة.

(35)

4 ـ ودعا إلى إقامة المستعمرات اليهوديّة في فلسطين، ومن أجل هذا كتب كتابه الثاني سنة 1840م، سماه «شلوم يروشالايم» سلاما يا أورشليم حثّ فيه اليهود على دفع عشر مدخولهم؛ لمساعدة يهود القدس، ونشر منذ سنة 1843م سلسلة من الكتيبات والمقالات ركّز فيها على أهميّة الطلب من شعوب العالم؛ كي تسمح لليهود بالعودة إلى وطنهم، كما طالب اليهود بدفع العشر من أجل العودة.

5 ـ  كان برنامجه هو«الخلاص الذاتي»؛ لتحقيق العودة الجماعيّة إلي فلسطين وإن النشاط الاستعماري علـى مستـوى البشـر سـوف يمهـد السبيـل إلـى مجيء المسيح المنتظر. وقد تبنّى هرتزل أفكارها في كتابه الصادر عام 1896م، تحت عنوان «الدولة اليهوديّة العلامة الأبرز في تبلور مفهوم الوطن القومي لليهود»[1].

الحاخام أبراهام إسحاق كوك (1865-1935م)[2] وهو حاخام يهودي أورثوذكسي، «فهو كان قد عرف بتشدده الأخلاقي والديني؛ فهو أصولي بامتياز وربما هذا ما جعل هنا الكثير من النقود قد وجهت له نتيجة لتشدده الديني ولعل هذه جلب ضده نقد الكثير من التيارات الشابّة التي تجد في رؤيته أصوليّة»[3].  لكن على الرغم من هذا؛ فقد تحولت لديه أفكار الحاخام يهودا القلعي، إلى نوع من فلسفة شاملة إذ أسس أول مدرسة صهيونيّة دينيّة في إسرائيل

(36)

تخرج فيها آلاف من دعاة الصهيونيّة الدينيّة كان كوك يعتقد أن جيل المستوطنين الصهاينة في فلسطين هو الجيل الذي تتحدث النبوءات في التوراة عنه وأنه هو الذي ينتمي إلى عصر الماشيَّح، وأن الرواد على الرغم من كونهم علمانيين إلا أنهم ينفذّون تعاليم الدين باستيطانهم الأراضي في فلسطين.

فهو القائل «إنّ الأتقياء الصالحين من أصحاب بصيرة، بالتأكيد لا يعاني من الشعور بالنقص، بل ستزيده عدالة وإنصافه؛ ومن لا يشكو من بدعة، سوف يغنيه الإيمان، ومن لا يعاني من الجهل تزداد حكمته»[1].

وهناك مجموعة من المفكرين العلمانيين تحولوا إلى مناصرين إلى الخطاب الأصولي الصهيوني من أمثال:

أولاً: الفيلسوف (موسى هس: 1812 1875 م)

الذي تتلمذ روحياً على فلسفة وتراث الفيلسوف (باروخ سبينوزا) (1632 1677م) ونهل من فلسفته العقلانيّة والعلميّة ما وضعه على عتبة الرؤيا الموضوعيّة في المحاكمة واقترب كثيراً من تقويم «التوراة» واعتبارها «هرطقة»، مما فتح له الآفاق الرحبة للولوج إلى «الهيجليّة» بعد التعديل في الموقف «التكيفي»، والدليل على ذلك كتابه الأول الذي صدر وهو موشّح بتوقيع «شاب من أتباع الفيلسوف سبينوزا» وحمل عنوان «تاريخ الإنسانيّة المقدّسة»،

(37)

علان للحريّة باسم الروح القدس». الذي تضمن مواقف وسطيّة بين العقل المجرد والمثاليّة المطلقة وبذلك مهّدت السبل لـه للولوج إلى صومعة «هيجل» برفقة (ماركس وإنجلز ولسل).

انفصل (هس) بعد صدور البيان الشيوعي عن مجموعته، الاشتراكيّة اليساريّة بانعطافه ارتكاسيّة شديدة الانفعال نحو أقصى اليمين، وأعاد «تقييم» مسيرته ليجد نفسه منساقاً بقوى لا شعوريّة نحو اليهوديّة التوراتيّة توجهاً في كتابه «روما والقدس». والذي وصفه (تيودور هيرتزل) إنه يتضمن كل الأفكار التي طرحتها الحركة الصهيونيّة لاحقاً.

«المثاليّة» الوصوليّة عند معظم الكتاب والأدباء والفلاسفة اليهود كانت المنهج، وليس (هس) سوى الأنموذج المتقدم في الفهم يُسار على هديه ويعطي الانطباع بالصيغة واجبة الإتباع، فكان (يوسف حاييم برنر) (1881 1921م) في روايته القصيرة «سنة واحدة» الأقرب إلى تقمص صورة هس في تلونها الأيديولوجي والسلوكي، أو ربما هو التطبيق العملي لأطروحات هس النظريّة في الحياة؛ فكانت الرواية انطباعاً لتجربة خاضها الكاتب في الجيش الروسي وقت المعايير الاستعلائيّة الموروثة من التوراة «شعب الله المختار» والوهم إن اليهوديّة قائدة التقدم، وليس من أفكار تقدميّة تلك الفترة إلا اليسار!!

ثانياً: (نحمان سيركين)

بدأ إفراغ الشحنات العاطفيّة على المسرح (اليديشي) في لندن بعد تركه روسيا متخذاً هذا النمط من الفن وسيلة للإيحاء بأفكاره

(38)

«اليساريّة» التي بدأت تنمو مشكِّلة لونه العقائدي، إذ خلّف هذا العمل نوعاً من التواصل ساعده في بلورة منهجه التنظيمي. واستكمالاً لطموحاته غادر لندن إلى برلين لمتابعة دراسته في حقل الاقتصاد والفكر الاشتراكي. ولما اكتملت «نظريته» بدأ بالتحرك لنشرها بين الطلاب اليهود والعمال اليهود.

كتب (سيركين) كثيراً حول الموضوعات الصهيونيّة. الاشتراكيّة فصار من روادها النظريين ثم نشر أطروحته للدكتوراه عام 1898م في كراس بعنوان «المسألة اليهوديّة والدولة اليهوديّة الاشتراكيّة»، وفيها يعمد إلى تسخير المفاهيم الاشتراكيّة لخدمة الأهداف الصهيونيّة.

الثالث: القطب الاشتراكي الآخر (دوف بر برخوف)

 الأكثر نشاطاً والأبعد أثراً في صهينة الفكر الاشتراكي والماركسي تحديداً إذ أدّى دوراً فعالاً بين العمال اليهود لإشاعة الفكر الاشتراكي الماركسي بينهم. وفي عام 1906م نجح في تشكيل «حركة عمال صهيون» بالاشتراك مع (اسحق بن تسفي) رئيس الكيان الصهيوني الأسبق. وبذلك يكون الأب الروحي للتيارات الاشتراكيّة في الكيان الصهيوني وعلى وجه الخصوص حزب العمل والحزب الشيوعي[1].

الطائفة الحريديّة:

بالمقابل هناك من رفض تلك القراءة الأيديولوجيّة الأصوليّة والتأويلات الدينيّة والعلمانيّة للصهيونيّة، وتوظيفها للدين في خدمة الأيديولوجيا واحتفظت بأصولها الموروثة.

(39)

ويطلق هذا المصطلح على اليهود المتدينين المغالين الذين يعادون الصهيونيّة ويكفّرون الدولة ويعيشون في عزلة. والحريديم تعني الورع والتقى. «والحريديم» ليسوا كالمتدينين العاديين الذين يضعون على رؤوسهم الطاقيّة اليهوديّة «هاكيبا» أوالمتدينين التابعين «للمفدال» أوحتى الأحزاب الأكثر تطرفاً الرافضة للصهيونيّة مثل «اجودات إسرائيل». إن الحريديم، خلافاً لكل هؤلاء يلبسون ملابس ذات لون أسود، ويرتدون غطاءً أسود للرأس أسفل قبعة سوداء ويرسلون ذقونهم ويتحدثون اليديش. وهم يعتقدون إنهم يعرفون الحقيقة؛ لإطِلاعهم على الكتب اليهوديّة المقدّسة وبخاصة التلمود وهم يستعملون وسائل الإكراه الديني والتدخل في حياة الآخرين، وكل الوسائل بالنسبة لهم مشروعة حتى استعمال السلاح والمتفجرات ضد اليهود الآخرين الضالين.

لم تكن «ناطوري كارتا» الحركة الوحيدة التي تعارض الصهيونيّة بل قد سبقتها مجموعات صغيرة أخرى، وقد برز دور هذه المجموعات عند تأسيس «الحاخاميّة الرئيسيّة» عام 1921م كإطار رسمي مسؤول عن شؤون اليهود في فلسطين؛ فقد رفضت هذه المجموعات الاعتراف بالحاخاميّة؛ لأنها مؤسسة صهيونيّة، وأقامت هذه المجموعات «لجنة المدينة للطوائف الاشكنازية» في مدينة القدس. وفي عام 1945م انشقت هذه اللجنة بعد فشل المعتدلين الذين كانوا ينادون بحد أدنى من التعاون مع الحركة الصهيونيّة في الانتخابات الداخليّة للجنة. وكان معظم هؤلاء المعتدلين من «أجودات إسرائيل».

(40)

وتتكون الطائفة الحريديّة من تآلف عدة جماعات أهمها طائفة «ذريّة أهارون» وطائفة «ساطمر» والمدرسة الدينيّة «اليشيفا» التابعة لتلاميذ دوشنسكي وقسم من سكان القدس. ويُقدّر عدد اتباعها بحسب مصادرها 30 ألف نسمة، فيما تقدرهم مصادر «أجودات إسرائيل» بثمانيّة آلاف نسمة يعيش معظمهم في حي «ماته شعاريم».

والحريديم لا يشتركون في انتخابات الكنيست ولا يتلقون الأموال من الصهيونيّة. ولعل أهم انشقاقين شهدتهما هذه الطائفة كان انفصال «ناطوري كارتا» فرع الحاخام (عمير بلوي) عام 1965م؛ بسبب رفض محكمة الطائفة عقد زواج الحاخام المذكور على مطلّقة فرنسيّة متهوِدة. والانشقاق الثاني انفصال طائفة «بعلاز» عام 1980م بعد أن أصدر الحاخام الأكبر للطائفة (يتسحاق فايس) أمراً يمنع فيه تعليم الأولاد في مؤسسات تتلقى الأموال من الدولة. ويقارن الحريديم بين الشيوعيّة كعقيدة ملحدة وبين الصهيونيّة كعقيدة علمانيّة كافرة نادى بها ملحد هو(هيرتسل).

إنّ النظرة الاجتماعيّة إلى هذا المزيج بين (اليوتوبيّة والأيديولوجيّة) للصهيونيّة كخطاب أصولي يريد أن يتحول إلى واقعه الاجتماعي نجد أنّ «السلطة قبل 1948م أي قبل قيام الدولة كانت بمجرد وسيلة؛ فالسعي نحو السلطة آنذاك كان يتم بغيّة تحقيق الأهداف والغايات الاستعماريّة والاستيطان وإنجاز المثل العليا لرواد الصهيونيّة [1]» أي إنّ ذلك قبل قيام الدولة ما كان يحرك

(41)

تلك المنظّمات الأصوليّة سواء كانت دينيّة أم علمانيّة هو البعد اليوتوبي في بناء الفكرة المتخيّلة؛ ولكن بعد قيام الدولة اليهوديّة اتسعت الهوة بين النخبة والقياديّة من جهة وعامة الشعب من جهة أخرى لقد تحوّل مجتمع «اليشوف» اللاطبقي إلى مجتمع تعددي وأكثر تسيطر عليه التناقضات المصلِحة بكل تعقيداتها وتنوعاتها، وقد كان التمايز قائماً على أساس المكانة الاجتماعيّة والسلطة السياسيّة والإقامة في فلسطين[1]. وقد شهد هذا المجتمع سوء توافق طبقي وأيديولوجي بين الأصوليين سواء كانوا دينيين أم علمانيين وإذا «تمّ التكامل بين المتدينين والعلمانيين وسط مشقّة عسيرة، وسلسلة من التسويات والتنازلات وغالباً ما نعثر بها انفجارات من التعصب وضيق الصدر»[2].

(42)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

بذور الأصوليّة المسيحيّة

 

المبحث الأول: بذور الأصولية المسيحيّة

المبحث الثاني: تكوّن الأصولية المسيحيّة المعاصرة

 

(43)

الفصل الثاني

بذور الأصوليّة المسيحية

 

المبحث الأول: بذور الأصولية المسيحية

المطلب الأول: في مجال تحليلنا التكويني للديانة المسيحيّة نجد أنّ هذه الديانة ارتبطت بشخص المسيح من خلال مدونة أولها بولص وبتوجيه من أستاذه (حنانيا)[1] وهي رواية من كان يعد العدو الأصوليّة للمسيحيّة، إلا إنّه تحوّلَ من هنا جاء التأويل الرسمي للمسيحيّة، ومن خلال هذا التأويل تم تشكيل محور سرد للإحداث يكون بطله المسيح الرب، بالاعتقاد القائل: «أن يسوغ لم يكن يسعى لتأسيس ملك أرضي، بل جاء لهذا العالم بصورة مخالفة لأي صورة بشريّة؛ لأنه ليس من البشر ويحمل رسالة خاصة وفريدة، تتمثل بالموت على الصليب؛ ليفدي ذنوب البشر. فهو مسيح لم يأت ليخلص الإسرائيليين من حكم الرومان؛ ولكن ليخلص كل الناس من ذنوبهم، ويضمن لهم مملكة سماويّة دائمة في الحياة الأخرى»[2].  وهكذا ولد بعد المسيح دين اسمه (المسيحيّة) له أسس يقوم عليها

(44)

منها: أولاً، الإيمان بأن هناك ثلاثة آلهة هم: (الأب ويسوع الابن وروح القدس)، كما جاء في كتاب متى: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس»[28:19]، وثانياً أن يسوع، الابن الوحيد للأب، قد قتل على الصليب؛ لكي يفتدي ذنوب البشر بدمه، كما جاء في كتاب يوحنا «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد؛ لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة. لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم؛ ليدين العالم بل ليخلِص به العالم»[3:16-17]، وإذا ما آمن بهاتين العقيدتين فهو مسيحي، كما يقول يوحنا: «الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد أدين؛ لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد»[3:18]، فضلاً عن معتقدات أخرى ومناسبات وأعياد وثنيّة الأصل، مثل: (صلاة الأحد، وعيد الكريسماس وشجرة الميلاد وسانتاكلوس، والأيسر) وغيرها[1]. فهذه الأفكار جزء من الثقافة الهلنستيّة، التي وجدت دعم السياسة الحاكمة الرومانيّة وخلقت وجود لها بين الأوساط اليهوديّة المستنيرة، وقد تجلّت في تأويلات بولص للثورة التي قادها المسيح، وقد جاءت استجابة للعقائد اليهوديّة التي تنتظر المخلص، لكن هذا التأويل يتقاطع مع قوى الثورة ضد الاحتلال التي كانت قائمة في وقتها من قبل اليهود وانتظارهم للمسيح المنتظر الذي سوف يقود الثورة ويغير الحال، وقد أظهرت بعض الدراسات الحديثة أنّ يسوع كان يمثل المسيح المنتظر بنظر نفسه وبنظر( الإسرائيليين في زمانه، من غير اليهود، من كان لا يزال ينتظر ظهور «مسيح» من بيت

(45)

داود يعيد الملك إلى الشعب الإسرائيلي في شتاته، فاعترف بيسوع على كونه ذلك المسيح، وهبّ لنصرته. لكن مطالبة يسوع بعرش إسرائيل وهي التي حدثت في «اليهوديّة» بفلسطين في زمن الرومان اصطدمت بمقاومة شديدة من المؤسسة الكهنوتيّة اليهوديّة، وهي المؤسسة نفسها التي سبق لها أن تصدّت لمسعى جد يسوع زربابل إلى الملك على إسرائيل قبل خمسة قرون تقريباً؛ فأفشلته بطريقة أو بأخرى»[1]. ولعل قصة ولادة المسيح كما يذكرها متى، وهي تشير إلى توقعات المجوس لولادته، على أنه ملك اليهود المنتظر وليس ابن الله الذي سيقتل من أجل خطايا الناس. [انظر: متى: 1:1-2].

 كان للدولة الرومانيّة دور كبير في اختلاقها وتشكيلها ونقل الوحي من رحم اليهوديّة إلى الغرب اللاتيني لغة وثقافة عبر بولص الذي كان يشكل خطاباً متكاملاً في أود حركة المخلِص (المسيح) من أجل إزاحة ثورة المسيح وتشويه حركة أنصاره من بعده، وهو بتأويله حول حركة المسيح من بعدها اليهودي كمخلِص وملك من نسل داود، إذ بعث إلى اليهود «لم أرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة». [متى: 15-24]، إلى يوتوبيا دينيّة «لكنّه جاء؛ ليخلِص الناس من ذنوبهم ويؤسس لهم مملكة في السماء وليس في الأرض. وهذا يعني أن يستكين الناس ومنهم الإسرائيليون، أتباع يسوع، لحكم الرومان ولا يقوموا بثورات ضدهم كما حاول يسوع»[2]. وكل هذا جاء بفعل اليهودي حنانيا، إذ جاء يسوع في

(46)

الحلم وأخبره بأن يلتقي بشاؤول[1]. . . على أساس هذه الروايّة اعتمدت سلطة الكنيسة التي أسسها بولص. وقد تكوّنت الأصوليّة من يومها ومارست نفي أيّ مخالف لهذه الرواية وعدّت تأويلها هو الأساس واعتبار كل مختلف معها بمجرد هرطقة. أوبدعة Secte؛ فإن البدعة: هي بالمعنى الواسع مجموعة من الأشخاص الذين يعتنقون المذهب نفسه. ويتم أحياناً تطبيق المصطلح على المدارس الفلسفيّة في الزمن القديم بدعة الرواقيين والمشائين. . . إن البدعة الدينيّة مطبوعة بواقع أنّ أتباعها يلتحقون برأي تعدّه خاطئاً سلطة كهنوتيّة أوغالبيّة أعضاء كنيسة معينة. فالأمر ليس رأياً وبحسب، بل هو انحراف. وهذا الانحراف يتناول إما العقائد، أوالطقوس أوالنظام ويشكل في هذه الحالة الأولى هرطقة. 

فالهرطقة يقابلها وجود أصوليّة؛ فلكي تكون هناك هرطقة، يجب أن تكون هناك مبادئ إيمانيّة أساسيّة، حقائق موحى بها، وأن تكون ثبتت هذه المبادئ وقنتها كنيسة شرعيّة، تمتلك سلطة مطلقة على صعيد الإيمان. . . . وبتعبير آخر يجب أن يكون هناك عقيدة رسميّة وإلزاميّة ولِنضِف أن العقيدة تضمّ بالنسبة للاهوتيين الكاثوليك، فضلاً عن المبادئ المحددة من التعاليم المعدة للتبشير العادي، بموافقة أكيدة من سلطة الكنيسة العقيديّة؛ فالمبدأ الإيماني يفترض، بالفعل، تدخلاً صريحاً من جانب الكنيسة، التي تحدد موقفها بخصوص نقطة من عقيدتها وتترجم بلغة دقيقة إحدى معطيات الوحي الإلهي، أوتعاليم الكتاب المقدّسة أوالتراث المسيحي البدائي[2].

(47)

يبدو أنّ الديانة المسيحيّة هي التي سوف يقيض لها أن توضح مفهوم المبدأ الإيماني (الدوغما الأصوليّة) والهرطقة، علماً بأن هذه الأخيرة سوف تتبدل بشكل محسوس على وفق المكان والزمان.

إن التعريف الكاثوليكي، أوخطأ إرادي ومتشبث به، متعارض مع مبدأ إيماني موحى به، وتعلمه الكنيسة هذه. ومن وجهة النظر التاريخيّة، ينبغي التوسع بالتعريف؛ لأنّ مفهوم الهرطقة موجودة، وإن كان بطريقة أكثر غموضاً، في كنائس أخرى غير الكاثوليكيّة. الرومانيّة. هكذا يعد الروم الأرثوذكس «اللاتينيين» هراطقة؛ لأنهم تبنّوا المبادئ الإيمانيّة التي لم تكن قد تحدثت عنها المجاميع المسكونيّة السبعة الأولى (كمبدأ وجود المطهِر). أما الكنيسة البروتستانتيّة؛ فكان لديها هراطقتها، على الأقل في البدايات. فلقد أدان ميشال سيرفيه، بهذه الصفة، وفعل لوثر الأمر نفسه مع القائلين بتجديد العماد[1].

الفرق بين الهرطقة والبدعة: لا يصبح الفرد منتسباً إلى بدعٍ دينيّة إلا حين يستمر في أخطائه وينفصل بشكل مكشوف عن الكنيسة مع عدد من الأشخاص الذين يفكِرون مثله على صعيد الإيمان.؛ فالمرء لا يشكل بدعة لوحده، ولكن يمكن شخصياً، لوحده، أن يؤمن بهرطقة من دون أن يكون عضواً في جماعة هرطقيّة أوزعيماً لها[2].

على وفق هذه الرواية تشكّلت نظرة الكنيسة إلى الآخر، وقد جاءت اللحظة التي تشكّلت بها الأصوليّة الكنسيّة عندما فرضت

(48)

رؤيتها للإيمان بكل أصولها التي جاء بها «بولص» وتمّ فرضها على الآخرين وبهذا تم اتِهام المختلفين معها كونهم مبتدعة كمجموعات أوهرطقة كأفراد ونفذ بهم، وكانت أول حالة تمت مواجهتها هي في طبيعة العلاقة مع اليهوديّة، إذ كان هناك موقفان منها: الأول «يعتبر أن الإنجيل لم يلغ الناموس، وينبغي الحفاظ على سبيل المثال، على طقس الختام؛ والثاني، الأكثر اعتدالا، فكان يقبل، بخصوص الوثنيين المهتدين إلى المسيحيّة، بإمكانيّة عدم الالتزام بالأنظمة القانونيّة الخاصة بشريعة موسى؛ لكنّ الالتزام بالرأي الأول، كان ذلك يقضي بجعل المسيحيّة بدعة دينيّة يهوديّة؛ أما في الحالة المعاكِسة؛ فكان ذلك يعني خلق فئتين من المسيحيين، فئة «التامين» وفئة «المتهودين[1].

هذا الصراع قائم منذ ظهور «بولص» وتأويله للمسيح تأويل مختلف كل الاختلاف، فالذين واصلوا الالتزام بالعقيدة الأصليّة للمسيح اتُهموا بكوهم متهودين وإنهم الابيونيين وهم يذهبون إلى الاختلاف مع تأويل بولص؛ فيقولون إن المسيح ليس مولودا من الله الأب، بل مخلوقاً، وهو أحد رؤساء الملائكة، المالك على الملائكة وعلى كل أعمال القدير[2]، ويقولون إن المسيح نزل على يسوع يوم عماده في الأردن، وفارقه قبل استشهاده[3]؛ وهذه الهرطقة المتكونة من التوفيقيّة اليهو مسيحيّة سريعة العطب جداً إذ لن

(49)

تصمد أمّا الاندفاع للديانة الكوسموبوليتيّة الجديدة، صحيح أنها بقيت موجودة في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، ولكن سرعان ما اختفت بعدئذ؛ لعجزها عن حل مأزق الانتماء: إلى اليهوديّة أوالى المسيحيّة[1].

ولعل التلمود قام بالمهمة نفسها عندما وجّهَ نقداً عنيفاً للمسيحيّة، وهو يتناول شخصيّة المسيح وعائلته وتأويلاته للأحداث تظهر الزاوية نفسها التي قامت بها المسيحيّة على خصومها يوم اتّهمتهم بالهرطقة كأفراد وبالبدعة كجماعات؛ فهي بنظر التلمود البابلي الذي كان بعيداً عن سلطان الكنيسة الرومانيّة إذ يعيش في أجواء حريات دينيّة في ظل الحكم الفارسي «حيث يقدم التلمود البابلي. . بكلمات قليلة وأسلوب استطرادي مميز للنص البابلي قصة مناقضة مدمرة وطموحة للغاية ضد قصة الرضيع في العهد الجديد»[2]. إذ تمّ معاقبة يسوع كمهرطق وعدو لليهوديّة فـ «تخبرنا كيف يتشارك يسوع مكانه في العالم الآخر مع طيطس وبلعام، العدوين الأسوأ سمعةً للشعب اليهودي. وفي حين يعاقب طيطس على تدميره للهيكل بإحراقه حتى يصير رماداً، ومن ثم تجمع أعضاؤه ويحرق من جديد، وفي حين يعاقب بلعام برميه في سائل منوي حار، فإن مصير يسوع يتجلى بوضعه إلى الأبد ضمن براز يغلي»[3].

هنا يظهر كما هي متجذرة الأصوليّة في اليهوديّة في التلمود والتي أثارت ردود فعل عنيفة أشد أصوليّة من المسيحيّة؛ فالحرب

(50)

الأصوليّة المسيحيّة كانت تأخذ بعدين الأول: في الداخل مع الهرطقة المسيحيين، والثانيّة مع الخارج ضد اليهود والمسلمين.

المطلب الثاني: موقف الأصولية المسيحية من الخارج معاداة الإسلام

متنوع وبخاصة في العصر الوسيط، وقد تأخذ هذه العلاقة مع الآخر بعداً غير واقعي بل تخيلي اصطناعي، فهناك كثير من الصور النفسيّة أسقطها الآخر (الغرب) على الشرق الإسلامي هي مجرّدة من الحقيقة بل مختلقة إذ يرتبط بها اختراع الآخر؛ لأن الخطاب حول الآخر هو بالأساس يعد خطاباً حول الاختلاف؛ «فإن التساؤل فيه ضروري حول ألأنا أيضاً، ذلك إن هذا الخطاب لا يقيم علاقة بين حدين متقابلين، وإنما علاقة بين آخر وأنا متكلمة عن هذا الآخر)[1]. فإن تحديد العلاقة بين ألأنا والآخر على الرغم من بعدها التاريخي والسياسي إلا إنها كانت علاقة غير مفكر بها تبدو مضمرة؛ لكن الدراسات المعاصرة في مجال الخطاب هي من أتاحت لها الظهور من خلال بحثها في تلك العلاقة، وارتباطها بالهويّة والاختلاف من خلال البعد الظاهرات الذي أخذ تحولاً يراعي الجوانب النفسيّة في كشف صورة الآخر، وهذا ما يمكن ملاحظته في «اختلاف بين السياقين الوسيط والحديث في العلاقة بين ألأنا والآخر، إنما يعكس اختلافاً جلياً في صورة الآخر في الثقافة العربيّة، وفي مجال الآخريّة، فإن كان مجال الآخريّة في السياق الحديث قد اختزل في الغرب وحده،

(51)

فإن مجال الآخريّة في السياق الوسيط كان متشعباً ومتعدداً وممتداً بامتداد المعلوم من العالم آنذاك»[1]؛ فإن التصور عن الآخر كما قلنا هو فعاليّة نفسيّة مثلما هي سياسيّة تحاول أن تمنح الآخر توصيفاً أو تنميطاً؛ وهو قد يكون سلبياً أو إيجابياً، وعلى الرغم من أنه قد يكون سلبياً؛ وقد ظهرت كثير من الدراسات كشفت عن علاقة الغرب المستعمر بالآخر، وهي دراسات تدخل في نطاق يهتم بدراسة الاستعمار الكولونيالي، وما يحمله من تنميطات هومي بابل (Homi K. BahBah)؛ فهو يرى أن المستعمر يميل إلى تنميط المستعمر، من خلال وصفه بصفات ثابتة ومبالغ فيها، ويحرص على تكرارها، مثل وصف المستعمر بالوحشي والانحراف الجنسي[2]. من هنا نستطيع الاستدلال على طبيعة العلاقة «الغرب والإسلام»، لها كثير من المضامين الإيديولوجيّة والنفسيّة والوجدانيّة؛ بل تركت أثرها في كثير من الصور النمطيّة في تصوير  الطرفين كليهما أحدهما للآخر، وهذا جزء من علاقة الصراع الطويلة بين الطرفين في أثناء العصر الوسيط وحقبة الاستعمار، شكّلت حضوراً وراسباً عميقاً في الخطاب الجمعي بكل حمولاته المعنويّة. إذ نستطيع من أن نعرض إلى تحولات في تلك العلاقة وتحولاتها، التي صاحَبت الصراعات في العصر الوسيط (الحروب الصليبيّة)، ويمكن إجمال تلك الصراعات مع الإسلام بالآتي:

(52)

العلاقة التاريخيّة بين الإسلام والغرب:

دخل الإسلام إلى أوروبا فاتحاً في العصر الوسيط؛ لكنّه جاء ثانية بعد الاحتلال الاستعماري الغربي إلى ديار الإسلام جاء الإسلام مع المهاجرين كعمال في الغرب. وقد تكون تلك العلاقة القائمة على النزاع قد تركت آثاراً نفسيّة وثقافيّة ما زالت حاضرةً في النفوس وتظهر بأشكال متنوعة، وقد تحوّل إلى نزاع أو إلى صدام عنيف قد يصل إلى درجة الصراع الدموي. يظهر بأشكال متنوعة من الممارسات السلوكيّة أوالإعلاميّة اتجاه الآخر؛ لهذا نجد أن العنفُ بين الطرفين سواء أكان اعتداءا ضد المسلمين أم العكس يعد سلوكاً عنفياً يُعرَّف بأنه: أيّ عمل أولفظ أواتجاه سلوكي أوبنيّة أونظام يُلحق ضرراً جسدياً أونفسياً أواجتماعياً أومحيطياً بالأشخاص أويعيقهم عن تحقيق كامل إمكانياتهم البشريّة. من هنا تأتي ضرورة التأصيل من أجل تبيان الأحداث وأشكالها المتنوِعة بين التواصل والعنف.

 كان الغرب يحضر بقوة في الشرق وإفريقيا من خلال الوجود الروماني لكن بعد حضور الإسلام انزوى الوجود الروماني وتحوّل الغرب من مهاجم إلى مدافع إذ حضر الإسلام فاتحاً إلى أجزاء من الجزر والسواحل الأوروبيّة الواقعة على البحر الأبيض المتوسط خلال القرن السابع عن طريق الفتوحات الإسلاميّة. إذ دخل الإسلام إلى أوروبا منذ سنة 670 بعد الميلاد؛ لكن لم يكن هناك انتشار واسع جدا له، تأسست في شبه الجزيرة الأيبيريّة دول إسلاميّة في الأندلس وهي تسميّة عادةً ما يُقصد بها فقط الإشارة إلى الأراضي الأيبيريّة التي فتحها المُسلمون وبقيت تحت ظل الخِلافة الإسلاميّة

(53)

والدُويلات والإمارات الكثيرة التي قامت في رُبوعها وانفصلت عن السُلطة المركزيّة في دمشق ومن ثُمَّ بغداد، مُنذ سنة 711م حتَّى سنة 1492م حينما سقطت الأندلس خلال حروب الاسترداد بيد اللاتين الإفرنج وأُخرج منها المُسلمون، علمًا أنَّه طيلة هذه الحقبة كانت حُدودها تتغيَّر، فتتقلَّص ثُمَّ تتوسَّع، ثُمَّ تعود فتتقلَّص، وهكذا، تغير إلى هجوم، استنادًا على نتائج الحرب بين المُسلمين والإفرنج. وقد ارتكبت الفظائع بحق المسلمين من محاكم فتيش، والتحول إلى المسيحيّة في ظل ضغط الكنيسة وقسوتها وعنفها الرمزي والجسدي يطارد العرب الموريسكيّة كان عنف رمزي يقوم على محو الهويّة الإسلاميّة وقد تجلّى بأشكال متنوعة من منع اللغة العربيّة وكتابتها في وقت كانت بمثابة ميراث معنوي «الحديث بالعربيّة كان يعني المخاطرة بجذب انتباه محاكم التفتيش»[1]. وكان الختان ممنوع كعلامة تميز للهويّة لهذا (كانت عقوبة الختان هي النفي الدائم وخسران جميع الممتلكات، وبذلت جهود لتعقب أولئك الذين كانوا يقومون بعمليات الختان)[2] كانت تلك الأوضاع قد عكست موقفا غربيا عنيفا وعصابي اتجاه الآخر.

 لكن سرعان ما عاد الإسلام؛ ليشكل تحديا من جديد إذ خلال التوسع العثماني انتشر الإسلام في دول البلقان ودول جنوب شرق أوروبا فأخذ الإسلام في هذه المناطق طابعا أوروبيا ذا صبغة تركيّة خصوصاً بين المسلمين الألبان والبوشناق والأتراك والغوراني. إذ

(54)

خلال التوسع العثماني انتشر الإسلام في دول البلقان ودول جنوب شرق أوروبا؛ فأخذ الإسلام في هذه المناطق طابعاً أوروبياً ذا صبغة تركيّة وبخاصة بين المسلمين الألبان والبوشناق والأتراك والغوراني. وتواجدت جاليات تاريخيّة مسلمة من التتار ومن الشيشان في كل من روسيا وشبه جزيرة القرم.

المطلب الثالث: الحروب الدينية وتكون الأصوليات المسيحية

يطلق اسم الحروب الدينية في أوروبا على سلسلة من المعارك الأوربية التي حدثت في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين بعد ظهور حركة الإصلاح البروتستانتية. إذ (بدأ في ألمانيا الإصلاح الديني وانفصل عن الكنيسة في شان الغفرات وسلطة البابا والتبتل وإكرام القديسين والمظهر والقداس، نقل التوراة إلى الألمانية فكانت الترجمة حدثاً دينياً)[1] على الرغم من أن الدين هو على العموم يشير إلى السلام والمحبة؛ إلا انه قد يوظف من قبل أهل السياسة سواء بشكل مباشر أم غير مباشر؛ إلا أِن جميع هذه الحروب كانت مرتبطة بالتغير الديني في تلك الحقبة والصراع والتنافس الذي أدى إليه. وكان رواد الإصلاح ينطلقون في نقد الأصولية الكاثوليكية من، ( قانون الأيمان اوجسبرج Augesbarg Confession الصادر سنة 1530. . . إذ ترتبط المملكتان بالإنجيل والشريعة، معتبراً المملكة الأرضية جزء من الإلهية، لذلك على المؤمن. . . الطاعة للسلطة مهما كانت بشرط عدم ارتكاب

(55)

الخطيئة[1]. وهذه العلاقة بين السياسة والدين منحت السياسة إسباغ الشرعية على أفعال مناقضة إلى جوهر الدين نفسه حتى بات مناقضاً لنفسه بشكل خاص، وللأخلاق بشكل عام. هذا جعل الاحتجاج أيضاً ينطلق من الدين ذاته من اجل كسب المشروعية وسلبها من سلطات الكنيسة الرومانية التي كانت تخضع الأمراء إلى سلطانها الروحي وجاء الاحتجاج حتى يشكك باحتكارها للدين فهي لا تمثل الجانب الحقيقي في الدين مما شكك في حاكميتها ورمزيته، (وقد نجم عن هذا إن الأمير أصبح متحررا من كل مراقبة روحية منظمة من جهة خارجية بالنسبة له)[2]. وبالتالي الإصلاح كان يحاول تجريد الكنيسة من سيطرتها الكبيرة على مجريات الأمور في أوروبا، لم يكن نفوذها دينية فقط، بل كان لها نفوذ ورؤى وقرارات سياسية واقتصادية وعسكرية أيضاً، حيث كان في إمكانها عزل الملوك والأمراء عن طريق سحب الثقة منهم وفصلهم من الكنيسة، ما يعني افتقادهم لثقة وطاعة الشعب الذي يثق كل الثقة بالكنيسة؛ ولهذا استثمر الاحتجاج الديني البرتستاني هذا الأمر وحاول استثمار غضب الأمراء وخصوصا الألمان في حربه ضد الكنيسة الرومانية ولهذا قال قادة الإصلاح ( ليس هناك أي شخص مؤهل أكثر من هذا الأمير، ومن هذه السلطة المدنية من أجل قيادة الإصلاح وحمايته من البابا وأنصاره)[3] وهكذا ظهرت أصولية احتجاجية تقوم على

(56)

مسلمات عامة هي تنفي بالنتيجة شرعية الكنيسة الرومانية وهي:

1 ـ المسيح وحده: أِن المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والإنسان؛ فإذا كان الأصل في الإنسان الخطيئةُ، فإن إيمانه بالمسيح «رباً وإنساناً» هو الكفيل بتخليصه منها وتحصيل الخلاص عن طريق النعمة الإلهية.

2 ـ  النعمة الإلهية وحدها: ما دام الإنسان كائناً خطاء ناقصاً ضعيفاً، فإنه لا يستطيع تحصيل خلاصه؛ إلا بالحصول على النعمة الإلهية، التي يرى «كالفن» أنها «هبة» إلهية يعطيها لمن يختار من عباده.

3 ـ الإيمان وحده: يرفضون نظرية «التبرير بالأعمال» التي كانت سائدة بعدما وظفتها الكنيسة على مدى قرون من الزمن، ليؤسس لنظرية أي التبرير بالإيمان وحده، أي بتلك الثقة التي يضعها المؤمن في ربه.

4 ـ الكتاب المقدس وحده: كما أسلفنا، يرى كالفن أن الكتاب المقدس هو المرجع الحصري الوحيد الذي يتأسس عليه الإيمان المسيحي وتستمد منه الأشياء قيمتها بما في ذلك الكنيسة المطالبة بتجديد الإيمان وتحيين أفكارها ونظرتها إلى العالم باستمرار[1].

بالمقابل كانت الأصولية التي مثلتها الكنيسة الرومانية تحاول شن حرب شعواء قائمة على الإجراءات الآتية:

1 ـ  مجمع ترانت: وهو تجمع يعرف أيضًا باسم «المجمع

(57)

التريندي». عقد في مدينة تورنتوفي إيطاليا، وتعده الكنيسة الكاثوليكية المجمع المسكوني التاسع عشر. عقد بين 13 ديسمبر 1545 و4 ديسمبر 1563 على ثلاث دورات. دعا إلى انعقاده البابا بولس الثالث؛ انعقد لما يفوق العقدين، على ثلاث دورات منفصلة، خلال هذا التجمع تجد أن هناك مواقف تبدو متشددة في أول الدورات السنوية ثم أخذت تقترب من الإصلاح وقبول الأخر. وقد كانت كل المراسيم التي صدرت عن المجمع، قد شكلت ما يعرف بالإصلاح المضاد
(Counter- Reformation)[1].

وهذا الإصلاح هو بمثابة محاولة من البابا والمؤسسة من اجل احتواء الانشقاقات الداخلية، وقد تكون هذا المجلس من لجنة من الكرادلة كلفت بالإصلاح المؤسسي، ومعالجة القضايا الخلافية مثل فساد بعض الأساقفة والكهنة، وصكوك الغفران، والتجاوزات المالية الأخرى.

2 منظمة اليسوعيين Societas Iesu كل أخر من أشكال الإصلاح الكاثوليكي في إحياء القواعد الروحية الكاثوليكية العتيدة وكانت هذه المنظمة قد مثلت مرحله من الفتوة في الكنيسة في مواجهة خصومها وقد أسسها جندي في أثناء تحوله إلى رجل دين يدعى «أغناطيوس دولويولا» سنة 1534 وقد ضمت مجموعةً من رجال الدين الذين دافعوا عن البابا والكنيسة والقيام بالتبشير الديني، في

(58)

أسبانيا التي كانت تحالف البابا وتخالف انجلترا[1].

3 ـ  محاكم التفتيش: كانت إحدى الوسائل التي اعتمدتها الكنيسة الرومانية في محاربة خصومها ممن تعدهم هرطقة أو كفر؛ لأنهم يختلفون مع الأصولية التي تعتمدها.

وقائع الحرب ونتائجها على الغرب:

بدأت الكنيسة الكاثوليكية بما يسمى الحرب الدينية المقدسة ضد البروتستانية، التي أصبحت هي الأغلبية في ألمانيا بعد حركة الإصلاح الديني، وقد استمرت الحروب الدينية بصورة متعاقبة لمدة مئة وإحدى وثلاثين سنة بين عامي (1517 - 1648 م)، وجرت في سويسرا، فرنسا، ألمانيا، النمسا، بوهيميا، هولندا، إنكلترا، إسكتلندا، إيرلندا، والدنمارك[2].

 وقد هيمن الطابع الديني على الحرب في أوروبا في القرون الوسطى، فكانوا يرون أنها تطبيق لإرادة الرب، وأنها طاعة للرب واستجابة لنداءه عليك خوض هذه الحرب. ومن أهم الحروب الدينية في هذه الحقبة:

حرب الـ 30 عاماً ألمانيا (البروتستانت والكاثوليك)، وانتهت

(59)

بأوبئة ومجاعات وتدمير شامل بكافة النواحي عام 1648 م، حيث أبادت 40 % من شعوب أوروبا الذين ينتمون للبروتستانت، وما يقرب من نصف سكان ألمانيا تحديداً.

كان الكنيسة الكاثوليكية قد استخدام محاكم التفتيش لبث الرعب في نفوس الناس ردعهم عن الخروج من الكاثوليكية، ومحاكمة الهراطقة والمرتدين والمخالفين لأوامر الكنيسة، سواء من المسلمين قديما[1] أومن البروتستانت، فقامت بإبادة الملايين بالخنق والإحراق والإغراق والإعدام شنقا وكافة وسائل التعذيب المروعة المتبعة في محاكم التفتيش آنذاك.

قسمت الحرب الغرب المسيحي على قسمين: قسم كاثوليكي وقسم بروتستانتي، ودارت بينهما المعارك والحروب التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من القتلى. ومن الأمثلة على هذه الحرب الوحشية ما جرى في فرنسا مثالا صارخ لها ففي 1562 وقد استمرت الحرب أربعين عاما كانت الحرب عبارة عن عملية إبادة يقوم بها رجال الدولة والكنيسة الرومانية ضد الأقلية البروتستانتية، إذ قضت الحروب الثماني على مملكة فرنسا،

(60)

عندما هجمت الجماهير الكاثوليكية على الأقلية البروتستانتية في مختلف المدن والأرياف الفرنسية.

ونتج عن هذه المواجهة كثير من المعارك، من اشهرها تلك المجزرة الشهيرة باسم مجزرة سانت بارتيليمي التي ذهب ضحيتها أكثر من خمسة آلاف شخص، فما كان من البروتستانت الفرنسيين إلا الفرار إلى مختلف أنحاء أوروبا.

(61)

المبحث الثاني: تكوّن الأصولية المسيحية المعاصرة

 

المطلب الأول: تكوّن الأصولية الإنجيلية

هناك جملة من التعريفات حاولت توصيف هذه الأصوليّة منها (هي دعوة انتشرت في بعض الأوساط البروتستانتيّة المتطرفة لإعادة اليهود إلى فلسطين، وتستند على العقيدة (الألفيّة الاسترجاعيّة) المتطرفة)[1].

تعد الأصوليّة المسيحيّة عنصراً أساسياً في التاريخ (الديني والاجتماعي والسياسي الغربي) إذ انتعش في البيئات البروتستانتيّة، وبلغ ذروته في القرن التاسع عشر مع بداية التوسع الاستعماري والإمبريالي، وقد كان مركزها في البداية أوربا؛ لكنها انتقلت إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة لاحقا، وأصبحت نصيرة إلى الحركة الصهيونيّة العالميّة، وهي تعمل على تحقيق أهدافها. ويمكن أن نتلمس أهم سمات هذه الأصوليّة الإنجيليّة:

يقوم اللاهوت الإنجيلي على مركزيّة الإنجيل ومن أجل فهمه لابد من استبعاد الوساطة بين الله والناس طالما كان الله حاضراً من خلال النص الذي يفترض أن يؤخذ بحرفيته بعيدا عن تأميل الكنيسة،

(62)

ويتحقق هذا أيضاً من خلال التواصل مع التوراة أيضا إذ كان المسيح هو البشارة التي بشّر بها أنبياء بني إسرائيل، وكانت تلك المبادئ قد رافقت ولادتها ككنيسة بروتستانيّة، منشقّة على الكنيسة الرومانيّة، هي تلك المبادئ الإصلاحيّة التي بشّر بها لوثر، وهي مبادئ سوف تتحول إلى أصوليّة جديدة رافقت تلك الحروب الطويلة في أوربا حتى دفعت أتباعها إلى الفرار بدينهم إلى الغرب الأمريكي إذ أقاموا تقارباً بينهم وبين اليهود على سبيل المماثلة يوم هربوا من بطش فرعون إلى فلسطين، كذلك الإنجيليين اعتقدوا أوسوغوا هذه المماثلة التي أقيمت على أساسها أورشليم الجديدة أو أمريكا الجديدة عبر، مماثلة خلقت مخيالاً عقائدياً كسفر للنجاة توحّدت حوله الكنائس الإنجيليّة التي توحدهم جملة من المبادئ قائمة على التمسك بالإنجيل وتفسره حرفياً، وإعادة التربيّة الأخلاقيّة المسيحيّة[1].

فضلاً عن إيمانهم بعقيدة عودة المسيح إلى أورشليم؛ من أجل تأسيس مملكة الله، وهي عقائد تمركز حول القول بمقولات «بالألفيّة» اذ هناك ثلاث حركات تنطلق من هذا التصور التيولوجي المستنبط من تفسيرات للنبوءات الدينيّة الواردة في التوراة؛ لكن هناك تباين فيما بينها، فهي ثلاث حركات: أما الحركة الأولى فهي مهتمّة أساسا بقضيّة مؤشرات نهايّة الزمن، فيما تنشغل الثانيّة بقضيّة التقرب من اليهود من أجل المسيح، أما الحركة الثالثة فإن اهتمامها يتركز على الدفاع عن إسرائيل وعلى مباركتها، فعلى الرغم من تباينها

(63)

إلا إنها تجتمع على ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين من أجل هدفها التيولوجي المتمثل بعودة المسيح بأسلوب يقوم على التصور المعجز وحضور المسيح، مرتبط بوجود المدينة اورشليم ووجود اليهود باعتبارهم القوم الذي كانوا يمثلون زمن المسيح إذ تعد الدولة إسرائيل كل هذا بمثابة تشكل الأصوليّة المتطرفة الإنجيليّة، وهي تسعى إلى تحويل خطابها الأصولي المتخيّل إلى وقائع على الأرض، كل هذا خلق تحالفاً مع اليهود، تحالف صبّ في مصالح إسرائيل ووحّد صفوفهم ضد الآخر الذي يمثل الشر، بالتأكيد التحالف قديم هو الموقف القديم من الإسلام ودين وبشر، في موقف تغذيه الصور الصراعيّة النمطيّة باتجاه الآخر؛ وهذا ما يتجلى في دعم هذا المذهب المتطرِف الذي يقوم على «دعم حق إسرائيل في الوجود ودعم استمرارها»[1]. وقد كان لهذا البعد العقائدي حضور المهيمن في مخيال هذه الجماعة المتصهينة والمتأثرة بالواقع الكونيالي وقتها فأسهمت بشكل مهوس في تحول تلك الأفكار الأسطوريّة إلى واقع على الأرض إذ (تعد الكنائس المسيحيّة في أمريكا من أقوى المشجعين لقيام «إسرائيل» وبقائها، ومن ثم على إعادة بناء الهيكل اليهودي في فلسطين فوق قبة الصخرة في المسجد الأقصى؛ لأن هذا هو موضع الهيكل‏ كما يزعمون؛ وذلك لاعتقادهم أن المسيح لن يعود إلاّ إذا عاد اليهود جميعهم إلى أرض الميعاد، ويستشهدون على ذلك بالنصوص التوراتيّة وامتدت هذه الفكرة بين المثقفين والأكاديميين الذين لا يؤمنون بحرفيّة التوراة، «لاهوت ملكوت

(64)

اللّه» ساعدت في نشرهِ الجامعات ووسائل الإعلام التابعة للكنائس. وتشير كتابات القساوسة المؤمنين بهذه الحركة إلى مدى تشددهم في ربط الفكر الديني بالموقف السياسي من إسرائيل ومن القضيّة الفلسطينيّة. وهذا ما اكده «توماس براتيمان» بقوله: «إن اليهود كشعب سيعودون ثانيةً إلى فلسطين وطن آبائهم الأوائل، لا من أجل الدين، كما لو إن الله لا يمكن أن يعبد في مكان آخر، بل كي لا ليكافحوا كغرباء ونزلاء لدى الأمم الأجنبيّة)[1].

وقد وجد هذا القول ترجمته عندما انطلقت منذ عام 1814م الدعوات الأميركيّة الإنجيليّة لتوطين اليهود في فلسطين، وهاجر بعض الإنجيليين وأسسوا مستوطنة زراعيّة يهوديّة ضمّت يهوداً وإنجيليين أمريكيين عام 1850م، ثم أسست مستوطنات أخرى، لكنّ الإنجيليين كانوا أكثر حماساً من اليهود للإقامة فيها، أوللهجرة من أمريكا أصلاً، وقد قامت عام 1867م، أول بعثة مسيحيّة أمريكيّة للاستيطان في فلسطين مع 150 قسيساً إنجيلياً أمريكياً وفي العام الثاني أقيمت مستوطنة بمشاركة 70 شخصيّة دينيّة إنجلينيّة[2].

الأمر الآخر في الأصوليّة الإنجيليّة يتمثل في كونها تستثمر الخطاب التوراتي في السرد، فقدم نفسه بوصفه شعب الله المختار؛ وبالآتي يخلق تطابقاً بينه وبين اليهود وكان لهذه الرؤيّة أثرها العميق في نشأة أمريكا ونظرتها إلى نفسها وعلاقتها بالآخرين، مما جعل هذه الرؤيّة السياسيّة شديدة الارتباط بالمتن التيولوجي للتوراة في ارتباط

(65)

التراث اليهودي بالخطاب الديني من شعب وأنبياء وخطاب نخبوي للشعب اليهودي كلها حاضرة في الأصوليّة الإنجيليّة[1]. وهذا ما نتلمّسه في مجريات الحياة الدينيّة والسياسيّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة، ومنذ لحظة الاستقلال، لدرجة أنه بلغ بالرئيس توماس جيفرسون واضع وثيقة الاستقلال أن يقترح بأن يمثل رمز الولايات المتحدة الأميركيّة، على شكل أبناء إسرائيل تقودهم في النهار غيمة وفي الليل عمود من النار، وهذا الأمر يتفق مع النص التوراتي الوارد في سفر الخروج، والذي يقول: «كان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب يهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نور ليضيء لهم». في نهايّة النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التعاطف الأمريكي مع اليهود يتحول إلى عمل ملموس لتحقيق النبوءات التوراتيّة، سواء عن طريق أفراد أم جمعيات أوكنائس وهذا ما سيرد توضيحه في ثنايا ورقتنا البحثيّة.

وذهب كثير من الباحثين إلى أن المهاجرين الجدد من المسيحيين المتصهينين بما يحملونه من أفكار ومفاهيم قد أسهموا بشكل مباشر في تكوين الشخصيّة الأمريكيّة في ضوء هذه المفاهيم والأفكار التي تمثل لقاءا حيا للمسيحيّة والصهيونيّة الأصوليّة، كما تؤكد رجينا الشريف ويوسف الحسن ورجيّة غارودي.

هذا الكلام نجد مصداقه يتجلى بشكل دور منحاز دينيا وسياسيا إلى جانب إسرائيل الذي قامت وتقوم به الولايات المتحدة الأمريكيّة لصالح إسرائيل بالكامل، والأسباب الكامنة وراء انتهاج

(66)

الولايات المتحدة لذلك الخط، والبعد العقائدي الذي أصبح يصبغ السياسة الخارجيّة الأمريكيّة بشأن هذا الصراع. إلى جانب رغبتها الكونياليّة بالهيمنة ووجدت بالبعد الرمزي حافزاً له أثره في الواقع الجماهيري، وهوامر انتبهت إليه الدوائر الصهيونيّة فاستثمرته من أجل قيام كيانه في فلسطين إذ كان «ثيودور هرتزل» أول من استعمل تعبير «الصهيونيّة المسيحيّة»، وهوهنا يشير إلى الأصوليّة المسيحيّة الداعمة إلى قيام دولة إسرائيل، وقد تطور مفهوم الصهيونيّة المسيحيّة فيما بعد ليأخذ بعدا دينيا، وهو أن المسيحي الصهيوني يعد: إنساناً مهتم بمساعدة الله لتحقيق نبوءاته من خلال الوجود العضوي لإسرائيل، بدلا من الوجود الجسدي للمسيح. إذ يعتبر الصهيونيون المسيحيون أنفسهم كمدافعين عن الشعب اليهودي وخاصة «دولة إسرائيل» ويتضمن هذا الدعم معارضة كل من ينتقد أويعادي «إسرائيل»، كما وتعرف بأنها «مجموعة من المعتقدات التي تهدف إلـى تأييد قيام دولة قوميّة يهوديّة في فلسطين بوصفها حقا لليهود، باعتبار أن عودة اليهود إلي ارض الميعاد، برهان على صدق التوراة، وعلى اكتمال الزمن، وعودة المسيح ثانية». أما ملخص اعتقادات المسيح الصهاينة، فهي: المسيح قادم ليحكم اليهود في فلسطين مدة ألف عام. ومن أجل تحقيق هذا الخطاب التيولوجي المتطرف والأصولي رفعت هذه الحركة جملة من الدعوات منها تجميع كل يهود العالم في فلسطين من أجل بناء الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى المبارك. على أن تكون القدس هي العاصمة الأبديّة لإسرائيل. . وقد أيّد جل الإنجيليين والأصوليين

(67)

العقيدة القائلة إن إنشاء دولة يهوديّة بفلسطين يعد تتميما لبعض النبوءات الكتابيّة، إلا أن المؤمن العادي لم يكن ليفكر فيما تنطوي عليه هذه العقيدة من فرضيات كتابيّة وسياسيّة ولا ما ينجر عنها من تشعبات، وبذلك بدأت المقاربة «القدريّة السابقيّة» تتنامى في العديد من طوائف التيار الأصولي في البروتستانتيّة، ولاسيما في صفوف جمهور المؤمنين وفي دوائر القساوسة المحافظين[1].

الأصوليّة الإنجيليّة من سمات نشاطها كونها تمزج بين الدين والسياسة على الرغم من أن أمريكا دولة علمانيّة أحدثت تغييراً في دستورها عام 1801م، إلا إن الحضور الديني في السياسة واضح؛ لأن الفصل بين الدين والدولة لم يكن فصلاً بين الدين والمجتمع الذي لابد أن يفرز مؤثراً على الدولة بشكل غير مباشر[2]. ، وهذا السلوك السياسي يدخل ضمن نشاطات جماعات الضغط (خاصة إذا علمنا إن طيف السياسات الضاغطة واسع جدا تبعا لتوسع نشاطات أنماط العمل كالزراعة والمهن كالطب والتعليم والأقليات والأديان. . .)[3] لهذا نجد أنها تستثمر ثقلها المجتمعي والجماهيري من أجل تسخير طاقة الدولة لخدمة عقائدها، وهذا يظهر جليا في توظيف ثقلها في دعم إسرائيل وتسخر الخطاب الرسمي من اجل الاعتراف إسرائيل وتعارض أي مقاطعه لها كعقوبات على سلوكها

(68)

العدواني ضد الفلسطينيين، لأنه تلك الأصوليّة بالأساس لا تؤمن بحريّة الآخر بل هي تؤمن بخيار الإقصاء والإزاحة لهذا تسهم بدعم الهجرة إلى فلسطين وتدعم نقد السفارة الأمريكيّة إلى القدس من أجل جعلها عاصمة أبديّة[1] ومن هنا جاء وعد الرئيس الأمريكي الأخير بنقل السفارة أثناء حملته الانتخابيّة الأخيرة.

6 ـ  التوسع والانتشار عبر التنصير: وقد استثمرت هذه الطائفة المتطرفة ممكنات العولمة التي أتاحت سوق للترويج الديني، ومن شروط هذا السوق أنه مرتبط بالتداول ويعرض للأفكار الدينيّة للتسويق العالمي؛ فكان هناك جهد حثيث تقوم به هذه الطائفة في الانتشار وحركة التنصير العالميّة في هذه المنافسة بين حركات مختلفة تحاول الترويج لأفكارها الدينيّة كانت الطائفة الإنجيليّة تحاول نشر خطابها عالميا وإن تخلّت عن العلاقة التي تقيمها مع بقيّة الفرق المسيحيّة بين الثقافة والدين، نجد هذه الأصوليّة تحاول التمدد عالمياً وإن تخلّت عن الثقافة الغربيّة من أجل التوسع والانتشار مما جعل منها أصوليّة متشددة مثلها مثل الأصوليات المسيحيّة الأمريكيّة المتمثلة بـ: (مورمورتيين، وشهود يهوه، والإنجيلين، والمعمدانيين، والخمسينيين والسبتيين وأعضاء جيش الخلاص).

وكانت تؤكد هذه الطائفة على البعد العملي على حساب البعد الفكري وهذا ما نلمسه بقولهم: «إن لدينا الإيمان، فينبغي أن يكون في صميم حياتنا، ولا أهميّة للمعرفة والثقافة إذا كانتا لتجاهل دعوة

(69)

المسيح»، ويعلِق أوليفييه بقوله: «إنه زمن المؤمن المنطقي وزمن الجهل المقدّس»[1].

المطلب الثاني: الأصوليّة المسيحيّة:(شهود يهوه) أُنموذجاً

أولا: تحديد التسمية

البحث عن التسمية ( شهود يَهْوَه - Jehovah’s Witnesses)، يظهر لنا إننا بإزاء مذهب مسيحي حديث مختلف بأشياء كثيرة عن الكنائس المسيحيّة الأرثوذكسيّة ( الشرقيّة والكاثوليكيّة الغربيّة والبروتستانتيّة)، وإن كانت تقترب في اتخاذها الكتاب المقدّس مصدرا مباشرا وقراءته قراءة حرفيّة، وعدم اعترافها بالمؤسسة الكهنوتيّة والنذور وأشياء سوف نقف عندها في مقالنا هذا، فنحن بإزاء إحدى الطوائف المسيحيّة والتي لا تعترف بالطوائف المسيحيّة الأخرى؛ لوجود اختلافات كثيرة جاءت بفعل قراءتها للنصوص المقدّسة قراءة مختلفة، ولعل هذا الاختلاف وليد طابعها الحرفي في تأويل النص فضلاً عن كونها تقوم على سريّة التنظيم على الرغم من كونها تعتمد على العلنيّة في عرض أفكارها؛ إلا إنها لا تعلن كل ما تؤمن به، كانت البداية شأن اغلب الطوائف المسيحيّة الجديدة أن ظهرت في أمريكا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي متمسكة في انتسابها إلى المسيحيّة، وإن انتهجت منهجاً مختلفاً وكانت اقرب إلى التراث اليهودي منها إلى التراث الكنسي وتأويلاته

(70)

التي عرفت بالرمزيّة للعهد القديم[1]، فكانت على تواصل مع اليهود من خلال اطلاعها على التوراة بوصفه نصاً مقدساً؛ إلا إنها لم تختلف عن غيرها من الأصوليات في موقفها من اليهود وان كان ظهور دولتهم وتجبرها مقدمة إلى عودة المسيح بالروح وليس بالجسد، وسوف نبين موقفهم من المعركة الفاصلة التي تحدث بعد ذلك.

 وهي تعرف باسم (جمعيّة العالم الجديد) إلى جانب (شهود يهوه) الذي عرفت به ابتداءا من سنة 1931م، وقد اعترف بها رسمياً في أمريكا قبل ظهورها بهذا الاسم وذلك في سنة 1884م[2]. إذ تعرضت إلى كثير من النقد واتهمت كونها مرتبطة باليهود والماسونيّة وتعدها مؤامرة يهوديّة[3]. على الرغم من أنها أكثر قربا من المسيحيّة إلى التوحيد إلا إن تهمة الماسونيّة والصهيونيّة تفند هذا؛ بسبب دعوتها إلى عودة اليهود إلى فلسطين، وهذا ما دعا له مؤسس المجموعة

(71)

يوم زار فلسطين في عام 1911م وأكّد على إنّ العودة متحققة؛ ولعل هذا جعل اليهود يتعاطفون معه.

أما على صعيد التسميّة فقد جاءت؛ بفعل تطور خطابها اللاهوتي ولم تكن تعرف به منذ البدايّة تسمت في البدايّة باسم ثم جاء اسمها اليوم أي شهداء يهوى بوصفهم شهود يهوه، وهم يفضلون أن يُدْعوا به تمييزاً لهم عن الطوائف المسيحيّة الأخرى. فهو وان كان مستمداً من الإنجيل (كولوسي) (1)» الذي هو صورة بكر كل خليقة فإنه فيه خلق الكل ما في السماوات ، وما على الأرض ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشاً أم سيادات أورئاسات أوسلاطين، الكل به وله وقد خلق الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل)».

إلا إنه يبقى يؤشر على اختلاف خطابهم اللاهوتي الكبير عن التثليث وعبادة المسيح بوصفها إلهاً متجسداً بجسم بشري كما تقول به المسيحيّة عامة أما هم؛ فيختلفون ويعودون إلى التوحيد اليهودي بوصف المسيح ليس إلهاً بل أحد مخلوقات الإله أو أول المخلوقات، وفي هذا اختلافهم الكبير ويقتربون به إلى اليهود والمسلمين. كون المسيح مخلوقاً وليس رباً. فالمسيح هو المخلوق الكامل وهو مخلوق لله بل أول المخلوقات من الله رأسا وبكراً، قبل أن يوجد العلم، وان كانت هذه الفكرة تقترب من نظريّة الفيض الأفلاطونيّة المحدثة في مسعى أفلوطين يومها إلى التوحيد في مواجهة قول أفلاطون بالصانع، والمثل، والهيولى[1]. إلا إن هذا احتمال بعيد؛ لأنهم أخذوا رؤيتهم من الإنجيل والتوراة.

(72)

ثانيا: تكوين الخطاب اللاهوتي لدى شهود يهوه:

في متابعة نمو التأملات اللاهوتيّة ندرك أن هذه الطائفة كانت منفتحة على تأمل رؤسائها وتدبرهم للنصوص المقدّسة، وطريقتهم وتجاربهم التأويليّة الدينيّة وإذا ما أخذنا بمواد أبحاثهم في مجال ديني محدد وحللناها بمنظور فرداني أرستقراطي، وبحسب بروتستانتيّة ليبراليّة. فإننا سوف نلاحظ أن لاجتهادات زعماء هذه الجماعة أثرها في تطور هذه الطائفة.

1ـ تشارلز تاز راسل (1852 -1916 م)

يبدو أنّ لهذا الرجل أثراً عميقاً في ظهور أكثر من طائفة ومنهم شهود يهوه، منذ إقباله على دراسة الكتاب المقدّس في عام 1870م، في بنسلفانيا؛ إذ اعترضته العديد من معتقدات المسيحيّة السائدة، يومها وكان يملك شعوراً حساساً بإزاء مواضيع: ( الموت والثواب والعقاب وعودة المسيح)، تبدو مع تلك الموضوعات أثراً في وجدانه؛ وتجربته الدينيّة وزاد من أثرها في دفعه إلى التأمل في النص المقدّس باحثاً عن شكل من الخلاص.

هو ابن عائلة تجاريّة مثرية من أمريكا كانت ديانتها من جماعةPresbiterian الّتي لا تعترف بسلطة أي رئاسة بابويّة أوأسقفيّة أوكهنوتيّة، إذ تقول كلّ معمّد هو كاهن. هذه الفكرة وُلدت على يد Calvin كالفن السّويسري خليفة لوثر والمصلح المتشدّد في الكنيسة البروتستانتيّة، إذ ألغى كلّ ما تركه لوثر من عقائد مرتبطة مع الكنيسة الكاثوليكيّة[1].

(73)

منذ صغره كان شارل روسِّل مؤمناً مُتردداً، تدور في رأسه سؤالات جمّة تُشكِّك بالدّين، وآخر سُؤال كان يزعجه كثيراً، كما كانت أيضاً مشكلة لوثر بالذّات) هو سؤال الـ (Predestination): أي مسألة القضاء النّهائي المُحدّد من الله سلفاً قبل الموت. فلكي يجد حلاً يريحه اشترك في سن السابعة عشر مع فريق الشبيبة الدّيني في بلده[1]. وكان ذلك في عام 1876م، التقى «وليم ميلر» عام 1930 م، وكان صاحب حركة اسمها «المجيئيّة» أو«السبتيّة» ([2])، وكان من «راسل» أن دمج أهم معتقدات «المجيئيّة» في حركة جديدة أطلق عليها بـ«دارسي التوراة»، وذلك عام 1873م.

إلا إن السمة البارزة لدى «وليم ميلر» هوانه كان يقدم رؤيّة عن مجيء المسيح ويعتمد على جداول وطرق مصريّة تتحدث عن مواعيد ظهور المسيح من جديد، وهذه الأفكار الخلاصيّة كانت تستهوي «تشارلز تاز راسل» وجعلته يشعر بالأمان وجعلته يتوجه بعمق إلى النص؛ ولعل هذا أثمر عن تشكيله للجماعة الجديدة وأثّر فيها تأثيراً عميقاً ، وقد طبع تصوراته وتأويلاته في مخيال ديني عميق الحضور لدى الجماعة التي ما زالت حاضرة في وعيها المسيحي إن «المسيحيّة تدّعي وجود الذنب الذاتي للإنسان وإن المسيح جاء؛ لحل هذه المشكلة التي يعيشها الإنسان في واقعه النفسي»[3]؛ لأنّ هناك تصور مثلوجي يقوم على إنه ليس للأفعال الإنسانيّة بالمعنى

(74)

المخصوص، ولا قيمة ذاتيّة مستقلة لأشياء العالم الخارجي مستقلة، فالشيء أوالفعل يكتسب قيمته ويصير بالآتي «حقيقياً»؛ لأنه يشترك، على نحو أو آخر، في حقيقة تعلو عليه. . . لأن أفعال البشر هي تكرار لفعل قدسي قديم[1]. من ضمن هذه المرجعيات يمكن النظر إلى كل الأفكار الحديثة التي تقول بعودة المسيح من جديد من ضمن تصور يقوم على دراسة النصوص واستخراج ما يشير إلى علامات الظهور وهي علامات تعبر عن توقعات قدّمها «وليم ميلر» عزاء نفسي إذ كان قد توقع عودة المسيح على وفق حساباته في عام 1874م، وهي حسابات مستقاة من تأملات في نصوص تعود إلى التوراة أوالإنجيل، والتي مكنته من تقديم توقعات عن عودة المسيح؛ لكنّ هذه العودة التي لم تتحقق في ثلاثة توقعات قد أفقدته المصداقيّة بنظر أتباعه، إلا إن ذلك ترك تأثيره اللاهوتي والذي اختلف به مع التوقعات الكنسيّة عن شكل عودة المسيح؛ فهو توقع عودته «كروح غير مرئيّة «وعلى الرغم من كسر هذا التوقع للتوقع الكنسي إلا إنه أثّر في «تشارلز تاز راسل» وهو يقرأ الإنجيل إذ كان يعتقد بشكل باطني فيه العلم الحقيقي أي: الذي «أتت الرسائل السماويّة والنبوءات بمفاتيحه وبيانه»[2] ويبحث به عن علامات هذا الخلاص، الذي توقعه إنه سوف يحدث بعد ظهور المسيح وحدوث المعركة الفاصلة بين الخير والشر في استعادة للثنائيّة المانويّة القديمة، ففي ذلك

(75)

الوقت سيتم استبدال المجتمع العالمي بالتأسيس الكامل لمملكة الله على الأرض[1].

قد أثمرت هذه الرؤيّة المشتركة بين الاثنين إلى تعاونهما في تأسيس مجلة دينيّة مشتركة عام 1878م. إلا إنهما سرعان ما دب بينهما الخلاف واختلف عقائدياً في( المنهج والرؤيّة)، فانفصل كل منهما عن الآخر في عام 1879م فأسس «تشارلز تاز راسل» مجلته الخاصة التي حملت رؤيته التنبئية عن ظهور المسيح وإن العالم في أيامه الأخيرة وإن عصراً جديداً على وشك الوقوع وهذا العالم جديد تستعد به الأرض إلى حكم المسيح وقد أصبح وشيكا.

استطاع من تجميع بعض الزّبائن، الّذين أقنعهم أن ينضمّوا إليه وبدؤوا بالبحث في التوراة عن الحقيقة، تحت اسم «جمعيّة باحثي التوراة الحقيقيّين» الّتي كانت أرضيّة الجمعيّة الّتي اتّخذت اسم «شهود يهوه» فيما بعد. [2]، أما الأفكار التي أسس الجماعة عليها أي الأفكار المؤسسة:

الفكرة الأولى: نفي وجود جهنم، وهي فكرة لم تكن موجودة في الكالفينيّة Calvin التي كانت جماعته القديمة إلا إنه بعد تعرفة على جماعة الـ Adventist التي كانت تنكر وجود جهنم وجد بها العزاء؛ وهي تؤصل لهذا التصور من نص في الإنجيل(قول بولس إلى أهل روما 21:6 «إنّ جزاء الخطيئة هو الموت» لا جهنّم).

(76)

الفكرة الثانيّة: الّتي بنى عليها نظريّته هي مُلكُ المسيح الألفي. فلقد افتكر أنّه وجد لها حلاًّ بهذه الفكرة: إنّ البشر، الّذين لم يُكمِلوا في حياتهم الأرضيّة الأعمال الّتي تمكّنهم من الدّخول في ملكوت الله، ستُعطى لهم مناسبة ثانيّة بعد مرور 1000 سنة؛ ليقوموا من الموت ويكمِّلوا ما بقي ناقصاً عليهم من أعمال صالحة تُمكِّنهم أخيراً من الدّخول إلى ملكوت المسيح. وفي السّنين اللاحقة تعمّق في هذه الفكرة؛ فوجد نظريّة ثانيّة هي نظريّة عودة المسيح الثانيّة إلى الأرض. . [1] بعد خيبة الأمل بعدم تحقق النبوءة القائلة بعودة المسيح في عام 1874م، وما أعقب تلك الحالة من انشقاقات ومنها انشقاق «شارل روسِّل» وتأسيسه جماعته على تأويل جديد لعودة المسيح جاء فيه إن المسيح جاء فعلا؛ لكن كروح لامرئ وليس كجسد، ووضع لهذا هو وجماعته من الباحثين في التوراة.

يبدو واضحا جانب عبادة الأسرار التي طبعتها المسيحيّة عامة وبخاصة هذه الجماعات، ومنها شهود يهوه، إذ كانت هذه الجماعة تحاول أن تستعيد الزمن الدائري الأسطوري الذي تعود به الأزمنة، وتحدث بدايات جديدة تكون الأرض بها تحت سلطة السماء في علاقة عموديّة تخضع إلى الأمر الإلهي كل هذا بانفصال كامل عن الزمن، والحداثة الغربيّة في كل منجزاتها التي عدّت من وجهة نظر «تشارلز تاز راسل» مدنسة ضالة، وقد أثمرت تلك العلاقة؛ عن تأسيسه جماعته التي أطلق عليها بـ«دارسي التوراة»[2]،

(77)

وذلك في عام 1873م. إذ انشغل بإعداد مرجعياتها اللاهوتيّة التي كانت مختلفة مع ما هو مهيمن في الخطابات الكنسيّة، فكانت جماعة تعمل من دون نذور وهدايا، ومن دون رجال دين إذ في عام 1884م، تمّ إدراجها كجماعة تقوم على التعاون والتبرعات كمؤسسة مجتمعيّة دينيّة وبحلول عام 1900م تقريبا، كان راسيل قد نظم الآلاف من المبشرين بعقيدة الجماعة الجديدة وأقام لها فروعاً للدعوة . وبحلول عام 1910م، حافظت منظمة راسل على، وكانت مؤلفاته الأكثر توزيعاً في الولايات المتحدة. إذ اهتم بالإعلام لأفكاره وقد أسس مجموعة من الدعاة إلى فكرة وكانت البدايّة إذ «أسسوا في سنة (1879)م مجلة (برج المراقبة) وفي سنة (1881)م أسس روسل (جمعيّة برج المراقبة) المعدة بترويج مطبوعاته. . . وأقام روسل فريقاً للمحاضرات الكتابيّة مؤلفاً من سبعين عضواً، شغلهم الشاغل هو أن يجوبوا العالم كحجّاج؛ لنشر أفكاره وتوزيع مؤلفاته، كما أنه أضاف إليه مكتباً مساعداً يضم (700) عضواً، يشدّون أزر الحجّاج السبعين. . أطلق عليه مشايعوه بـ(القس)، وأغدقوا عليه الألقاب الأكثر فخراً كـ (مصلح القرن العشرين) أو(المعلم الأعظم بعد الرسول بولس) الخ. . .»[1]، وهي تعد الظروف من أجل عودة المسيح.

(78)

2: «راذرفورد»:

وبعد وفاة «راسل» عام 1916م، قاد الحركة محام أسمه «راذرفورد»، وكان هومن أطلق عليها عام 1931، أسم «شهود يهوه». انفصلت الجماعة عن الجماعة الأصليّة إذ تولّد الاسم الجديد عن رئيس الجماعة الجديد؛ لتمييز أنفسهم عن غيرها من مجموعات الكتاب المقدّس للطلاب وترمز إلى كسر إرث تقاليد راسل. وقد أخذت الجماعة الجديدة تتميز أيضاً بجملة من المواقف والمعتقدات منها: رفضها الخدمة العسكريّة يوم كانت الحرب مشتعلة؛ لأنها وجدت نفسها جماعة تتجاوز الانتماء الوطني نحو الكونيّة وهذه من أهم سمات أغلب الأصوليات الدينيّة[1]، فضلا عن رفض الخدمة العسكريّة رفضت أيضاً نقل الدم. ثم إن الجماعة بعد تغير اسمها وجدت أنّ استعمال اسم يهوه حيويا للعبادة المناسبة. إنهم يرفضون التثليث، حتى اتّهموا من قبل بقيّة المسيحيين بأنهم مرتبطون باليهوديّة أكثر من ارتباطهم بالمسيحيّة بالقول: إن «شهود يهوه يرتبطون باليهوديّة بشكل أعمق مع اليهوديّة أكثر من المسيحيّة نفسها الذين يزعمون بأنهم ينتمون لها. فهم لا يؤمنون بتثليث اله المسيح، الخلاص، الثالوث الأقدس، روح القدس، والغفران، ويفسرون التثليث بالديانة المسيحيّة على إنه يهوه، الابن، الروح القدس». أي: أنهم يتقرّبون إلى موسى بتثليث إله المسيح اعتقادا راسخا بأنّ المسيح قد أرسل لخدمة اليهود. الخلود الأصيل للروح،

(79)

والجحيم، التي يعدونها عقائد غير علميّة. إنهم لا يلاحظون عيد الميلاد، عيد الفصح، أعياد الميلاد أوغيرها من العُطَل والعادات التي يعدونها أصولاً وثنيّة تتنافى مع المسيحيّة. ويبدو هذا من خلال نقدهم للاهوت المسيحي يذكرني بنقد أوغسطين للاهوت الأسطوري بحسب وصف أوغسطين عند الرومان «إن كان الشعراء يخترعون تلك الروايات ويمثلها المهرجون قال الناس بكل تأكيد إنها مرتبطة باللاهوت الأسطوري ولا علاقة لها البتة بجلال اللاهوت المدني»[1].  هكذا يغدو ما انتقده أوغسطين عند اليونان اليوم ينتقده شهود يهوه عند الكنيسة، ويقدِمون رؤيّة نقديّة بديلة، إلا إنها رؤيّة جعلتهم أكثر خصوصيّة وأكثر ابتعاداً عن باقي الكنائس المسيحيّة؛ فهم خلقوا قطيعة عميقة مع المجتمعات المسيحيّة من حولهم وأصبحوا أكثر أصوليّة وتشدداً بإزاء المختلف بادعائهم امتلاك الحقيقة، ويعدون أنفسهم «في الحقيقة». منفصلين عن غيرهم سواء المجتمع الديني بعد أن خلقوا معه قطيعة بتأويلاتهم التي باتت معتقدات أم المجتمع المدني والعلماني الذي وصفوه بالفساد الأخلاقي، وقد وقع تحت تأثير الشيطان[2].

وقد الزمت الجماعة أعضاءها بإجراءات كان من شأنها أن تقيّد معظم تفاعلهم الاجتماعي مع غير الشهود. واعتمدت على إجراءات تعدُ أكثر قسوة مع من يخالف التعاليم، إذ تشمل هذه الإجراءات

(80)

التأديبيّة الجماعيّة التي تحتمل العقوبات والطرد والتهجير.؛ لأن من يخالف التعاليم يعدونه من المعارضين أوالمنشقين، حتى يتوبوا ويعودوا عما فعلوه.

وكانت تلك المواقف الأصوليّة قد جعلت الجماعة منظمة متطرفة أصوليّة بحق كثير من الدول وكان من نتائج ذلك تعرض بعض شهود يهوه للاضطهاد؛ وحظرت أنشطتهم أوفرضت قيودا عليها في بعض البلدان. وقد أثّرت التحديات القانونيّة المستمرة من جانب شهود يهوه في التشريعات المتعلِقة بالحقوق المدنيّة في عدة بلدان[1].

وقد تلقت المنظمة انتقادات بشأن القضايا المحيطة بترجمة الكتاب المقدّس، والمذاهب، والتعامل مع حالات الاعتداء الجنسي، والإكراه المزعوم لأعضائها. ويرفض زعماء الدين هذه الادعاءات، كما أن المحاكم وعلماء الدين خالفوا بعضهم[2].

3 ـ ناثان ن. نور (1905-1977م):

لقد أصبح مشرفاً على ترجمة خاصة بالكتاب المقدّس في نسخة كاملة صدرت في عام 1961م. وأحدث تنظيم للجمعيات في مختلف أرجاء العالم إذ تنتشر الجماعة ثم وضعت برامج تدريبيّة جديدة للأعضاء، وتوسيع النشاط التبشيري والمكاتب الفرعيّة

(81)

في جميع أنحاء العالم. كما تميزت رئاسة كنور بزيادة استعمال التعليمات الصريحة التي توجه الشهود في أسلوب حياتهم وسلوكهم، وزيادة استعمال الإجراءات القضائيّة الجماعيّة؛ لإنفاذ قانون أخلاقي صارم.

من عام 1966م، نشرت منشورات الشهود ومحادثات الاتفاقيّة توقعاً لاحتمال أن يبدأ عهد ألف سنة المسيح في أواخر عام 1975م أوبعد ذلك بوقت قصير. زاد عدد التعميد بشكل ملحوظ، في عام 1966م، تجاوز عدد الأعضاء الناشطين مليوني شخص. وانخفضت العضويّة خلال أواخر السبعينيات بعد أن أثبتت التوقعات لعام 1975م خطأها. ولم يشر الأدب في برج الساعة إلى أن عام 1975م سيشهد نهايّة المطاف، ولكن في عام 1980م اعترفت جمعيّة برج المراقبة بمسؤوليتها في بناء الأمل في ذلك العام. لكن حدث تحول مهم إذ في عام 1995م، تخلى شهود يهوه عن الفكرة القائلة إن هرمجدون يجب أن تحدث خلال حياة الجيل الذي كان على قيد الحياة في عام 1914م، وفي عام 2013 م غيِر تعليمهم على «جيل»[1].

ثالثاً : أصوليّة شهود يهوه:

ونستطيع تعريف «الأصوليّة Fundamentalism» لدى شهداء يهوه بوصفها موقفاً يرفض التكيّف مع الكنائس المسيحيّة من ناحيّة، والمجتمع العلماني من ناحيّة أخرى وبهذا الموقف يمكن الاستدلال عليها من خلال جملة من المقولات والمواقف العقائديّة

(82)

وبالمقابل هناك جملة من المواقف الأصوليّة ترفضهم وتتهمهم وتخونهم وتبدعهم، وكان جاك ديبور يمثل هذا الموقف المضاد، إذ يطلقه على «جماعة الكاثوليك الذين يرفضون كلَّ تطور وجديد، ويعلنون تمسكهم بالتراث». وثمة اختلاف وتخاصم بين التيارات الجديدة والقديمة، ولعل هذا يظهر في مواقف كل منهما من قضايا معينة سوف نقف عندها فهم يتنازعون في المرجعيّة نفسها: (المسيح والكتاب المقدّس)؛ لكن بتأويلات مختلفة إلى حد ما؛ لأنهما ما زالا جزءاً من التيارات الأصوليّة التي تعتني بالتركيز على المعنى الحرفي في تفسير الكتاب المقدّس؛ فشهداء يهوى إحدى الحركات المعاصرة المسيحيّة التي تلتزم بالتفسير «بحرفيّة النصوص وتحاول العيش على أسس تعاليم الكتاب المقدّسة. كمقابل للفكر العلماني في الغرب»[1]. وهذا احد الملامح التي اتخذوها كمعتقد راسخ في تعاملهم سواء فيما بينهم أم في تعاملهم مع الآخرين، وقد تناولنا عرضها كما هي لديهم مع مقارنتها بالنصوص المسيحيّة، وعرض النقود المسيحيّة ضدهم من أجل تبيان ملامح الجماعة الفكريّة والتي شكلت أصوليته، ويمكن إجمالها بالآتي:

تفسير الكتاب المقدّس: إحدى سمات الأصوليّة كما مر بنا النصوصيّة: وهي السمة التي التصقت بهم منذ لحظة الظهور للجماعة، فقد كانوا عبارة عن مجموعة صغيرة؛ لدراسة الكتاب المقدّس وتوسعت هذه المجموعة فيما بعد لتصبح «تلاميذ الكتاب

(83)

المقدّس».؛ لهذا كانوا قد تناولوا الكتاب المقدّس وأكدوا على صدقه وتماسكه؛ لأنهم يعدونه المرجع الأساس للدين، وهم بهذا يشبهون المسيحيّة (البروتستانتيّة) التي عدّت الصلة المباشرة بالله عبر الكتاب المقدّس وأكدت على ضرورة ترجمته إلى اللغات المعاصرة، وهو نفسه ما اعتمدته هذه المجموعة وهم بهذا يرفضون احتكار الكنيسة للكتاب ويختلفون مع تأويلاتها. إذ يؤكدون على قولهم:«نؤمن أنّ الكتاب المقدّس هو رسالة إلى البشر موحى بها من الله‏. ‏ (‏يوحنا 17:‏17؛‏ 2 تيموثاوس 3:‏16‏)‏ ونحن نؤسس معتقداتنا على كامل أسفاره التي يبلغ عددها 66 سفراً وتشمل «العهد القديم» و«العهد الجديد» معا»[1]. وهم يشيرون إلى هذا الأمر بالعودة إلى «جايسون دايفيد» قائلا: «إن شهود يهوه يؤسسون لـ«مجموع معتقداتهم وممارساتهم عليه [الكتاب المقدّس] كما هو، ‏ لا كما يريدون أن يكون»»[2]‏، وهم بهذا يؤكدون على كونهم يتقبلون الكتابيّة كما هي أي ( ما هو مدوَّن في الكتاب المقدّس، ‏ لا نتمسك بحرفيته‏. ‏ فنحن ندرك أن أجزاء منه مكتوبة بلغة رمزيّة ولا يجب أن تُفهم حرفياً. ‏ رؤيا 1:‏1‏. ‏)، فهم يتقبلونه في شكله ويختلفون في تأويله؛ لأنه نص رمزي وما زالوا يتبعون المنهج الرمزي في تفسيره، وهذا ما يجعلهم يختلفون في النتائج أي مخرجات التأويل؛ ولعل هذا سوف يظهر في موقفهم من مفهوم الله والمسيح، فهم يختلفون

(84)

مع القراءة الرسميّة في هذا الأمر اختلافاً بينا إلى حد كبير. في أول الأمر يميزون بينه وبين يهوه الإله التوراتي فيقولون: «نحن نعبد الإله الحق الوحيد، ‏ الخالق القادر على كل شيء، ‏ الذي يدعى يهوه‏. ‏ (‏مزمور 83:‏18؛‏ رؤيا 4:‏11‏)‏ وهو إله إبراهيم وموسى ويسوع. ‏ خروج 3:‏6؛ ‏ 32:‏11؛ ‏ يوحنا 20:‏18)، وهم بهذا يميزون يهوه ويعدونه الإله الوحيد ولا شريك له ويعتمدون على الاسم التوراتي، ومن هذا الإله اتخذوا اسمهم. إلا إنهم يختلفون في هذه الناحية مع الكنائس المسيحيّة في التثليث، وهوما عرّضهم إلى النقد. ولعل هذا يظهر في تبيان رأيهم من المسيح كيف يفهمون النص، وما يمكن أن يوصف به المسيح بحسب تأويله: (نحن نتبع تعاليم يسوع المسيح ومثاله، ‏ ونكرمه بصفته مخلِّصنا وابن الله‏. ‏ (‏متى 20:‏28؛‏ أعمال 5:‏31‏)‏، وهذا يعني إننا مسيحيون‏. ‏ (‏اعمال 11:‏26‏)‏ غير إننا تعلَّمنا من الكتاب المقدّس أن يسوع ليس الله القادر على كل شيء وإن عقيدة الثالوث ليست مؤسسة على الأسفار المقدّسة. ‏ ـ‏ يوحنا 14:‏28‏. ‏) وكأنهم هنا يريدون القول إن عقيدة التثليث ليس لها وجود في الإنجيل ثم يؤكدون على فهمهم للمسيح: (ملكوت الله. ‏ هو حكومة حقيقيّة في السماء، ‏ لا حالّة في قلوب المسيحيين‏. ‏ وهو سيحل محل الحكومات البشريّة ويتمم مشيئة الله للأرض‏. ‏ (‏دانيال 2:‏44؛‏ متى 6:‏9، ‏ 10‏)‏ وسيحدث هذا قريبا؛ لأن نبوءات الكتاب المقدّس تشير إلى إننا نعيش في «‏الأيام الأخيرة‏». ‏ ـ‏ 2 تيموثاوس 3:‏1-‏5؛‏ متى 24:‏3-‏14‏. ‏ويسوع هو ملك ملكوت الله السماوي، ‏

(85)

وقد بدأ حكمه عام 1914‏م. ‏ ـ‏ رؤيا 11:‏15‏‏)[1].

نجد أن الكنيسة تنتقد هذا التأويل الذي تقدمه «جماعة شهود يهوه» مؤسس الجماعة على كونه مجرد رسول كاذب؛ فهو يدعي كذب معرفته باللغة اليونانيّة لغة الإنجيل الأصليّة وهذا الوسيلة الإقصائيّة تمارسها اغلب الكتابات الأصوليّة المسيحيّة ضد جماعة شهود يهوه ولعل هذه اللغة الإقصائيّة بحقهم وبحق مؤسس الجماعة تأتي عبر إسقاط معاني جاهزة في الإنجيل قالها المسيح في الرسل الكذبة الذين يظهرون في المستقبل (: ألم ينبّه المسيح أن احذروا الأنبياء الكذبة (متى 7. (أي إن ( رسل منافق ومختلس = وهو تاجر إنّ قمحه عجائبيّ فباعه بأسعار باهظة من فلاحّين بسطاء فحكمت عليه المحكمة بالردّ بداعي الغشّ والخداع)[2]؛ فهذه الاستعارة التي عرفت عن الإنجيل هي ذات طابع رمزي، إلا إنهم يسقطونها على مؤسس الجماعة وأتباعه بل أنهم يوغلون في ذمهم، والبحث عن نواقص قد تكون كذب عليه وعلى أسرته نظرا؛ لعدم وجود مصدر محايد يؤكد أوينفي، وهي وسائل اتبعتها الكنيسة تعتمد على الاغتيال المعنوي بعد أن كانت تقوم بقتل المخالفين إلا إن الزمن تغير. ويقدّمون توصيفاً حجاجياً منتزعاً من سياقه لما أسموه تعاليم شهود يهوه، وقد كثّفوها: بـ«إن الإنسان حيوان تموت نفسه بموت جسده». ويستنتجون من هذا: «إذاً لا نعيم ولا جحيم، لا عبادة ولا صلاة للموتى». ويذكرون تعليم آخر: «المسيح خلق لله؛ لكنّه ليس

(86)

ابن لله». وهوما سبق عرضه في موقفهم من المسيح؛ لكونه مخلوقاً أول لله يهوه وليس إله، ويقولون إن شهود يهوه يعدون هذا التحريف الذي تحوّل بموجبه المخلوق المسيح إلى خالق هو نتيجة؛ لأنّ «الكنيسة شوّهت وجه المسيح الحقيقي. أمّا هم أي: شهود يهوه فقد أظهروا وجههم الحقيقي عندما أنكروا لاهوته وعجائبه وموته وقيامته وتأسيسه للكنيسة».

وهنا كأنما الكنيسة باستعراضها هذه التعاليم، تحاول تنميطهم وتكفيرهم كونهم خارجين عن الأصوليّة التي يعد التثليث ركنها الأبرز وإن الواجب الوحيد على الإنسان هو التبشير «بملكوت لله»[1].

يأتي مخيال جماعة شهود يهوه ومؤسسها على وجه الخصوص، فهم بما يتعلق بالميعاد بالعالم الآخر كونهم لا يرون البعث إلا في هذه الأرض والناجين هم، وهذا الموقف جلب عليهم نقداً من قبل مثقفي الكنائس المسيحيّة وقد اتهموا؛ لأنهم يرفضون التأويل الرسمي إنهم يهتمون بالملذّات الحسيّة والذي لا يحصل عليه إلا(144، 000 شخص) من شهود يهوه. أمّا سائر الناس فيتلاشون شأن البهائم. وهذا تأويل كنسي يعود إلى العصر يرى أن الميعاد يخص البشر؛ فالحيوانات لا خلود لها فهي ستضمحل وتفنى أي تعدم، وقد تم إسقاط هذا التأويل على الفكر الألفي لدى شهود يهوه الذي يعطي تصوراً للميعاد، فهو يكون بمثابة عودة إلى الحياة لمن آمن بما يقولون أما الكفرة فيعدمون، وهوما سوف نقف عنده هنا.

(87)

وهي تظهر تصوراً تخيلياً يحاول تصور عالم بديل عما هو موجود على أساس تأمل حرفي في النصوص فاستعمال الخيال في هذا المجال الديني قريب مما يقوله كانت: «إن القائد في ميدان السياسة مثله مثل الفنان في ميدان علم الجمال، يقود الناس بواسطة صور يتقن عرضها. .»[1] ورجل الدين هنا مهمته شبيهة بمهمة السياسي في تصوير عالم متخيل مستقبلي عبر الصور وهذا يظهر واضحاً في لاهوت شهود يهوه إنه يقدم عالم من الصراع بين الخير ممثلاً بالمسيح والمؤمنين والشر، إذ يدور الصراع والحرب والبعث ومن هو خالد بهذه الدنيا. ويبدو هذا السرد واضحا في التصور الملحمي الذي يقدمه مؤسس الجماعة وهو يدخل في تناصات كثيرة تتمثل في مفهوم الأفكار الألفيّة، فالسرد بشكل عام وفي الأمور الدينية يسهم في تقريب الفكرة المجردة إلى الناس عبر الحكاية والمثال ثم إن للسر وظيفة مهمة جداً؛ «فالسرد يعمل على تجميع التبعثر وتنسيق التناقض الظاهر أويعيد تشكيل الأحداث المعاشة والمبعثرة في وحدة التاريخ ويمنحها الصرامة الزمنيّة. بوصفه حكايّة «عن» الزمن، فإن السرد يجوب هذه الصفة الجامعة بين التاريخ والتخيل»[2]، فالسرد هنا ينتمي إلى بنية من الأفكار الألفيّة ظهرت بأشكال متنوعة في تاريخ المسيحيّة وهي تتحدث بلغة أسطوريّة عن«نهاية الكون وبنفس الوقت الميلاد الجديد للبراءة الكبرى والغبطة الكبرى، فكلما أصبحت الدورة الكونيّة أكثر اتساعاً وأكثر

(88)

رحابة مالت فكرة كمال البدايات كما يقول الياد: إلى انطوائها على فكرة: إن كنا نرغب في الحصول على بداية مطلقة، لابدّ أن تكون نهاية العالم نهاية جذريّة. وما الاسكاتولوجيا (نهاية العالم)، إلا تصور سابق لولادة الكون (-كوسموغونيا)، في المستقبل[1]. تلك الأفكار التي ولدت في كتابي التوراة والتلمود تريد انتظار المخلص الذي يعيدهم من الشتات وهم في لحظة انتظار، جاء بعدهم المسيحيون وهم يستعيرون تلك النصوص ويتأولونها بشكل رمزي يجمع بين الأسطورة واليوتوبيا على الرغم من كون الأسطورة كان لها تأثيرها ولا يزال على ثقافات الشعوب؛ لأنها بمثابة عامل توجيه فكر الإنسان نحو مسار تأريخي ما وتفسيرات بدائيّة للكون والحياة لكنها تختلف عن اليوتوبيا التي هي «حالة عقليّة تتناقض مع حالة الواقع الذي تحدث فيه»[2]؛ فالجمع بين أسطوريّة التوراة واليوتوبيا كحلم بعوالم بديلة، وقد هيمنت هذه الأفكار لدى «تشارل روسِّل» بشكل واضح في كتابه الأول الذي حمل عنوان «هدف وكيفيّة رجوع المسيح الثاني» والصادر في 1874م، وهو كتاب يحاول تقديم تفسير لظهور المسيح؛ فيقول: إن الظهور حدث إلا إنه ظهور علني كما كان متوقعاً بل سري؛ وهنا يقدِم دليله مأخوذ من الإنجيل فيقول: إنه ليس ثمة موجبة لأن يكون المسيح منظوراً حتى نثبت مجيئه الثاني، إذ يعتمد على نص من الإنجيل، (أعمال 1: 11) هكذا «إن يسوع الذي

(89)

ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء. . .»، وقد فهم الآية على إن المسيح سوف يعود، كما ذهب من دون ضجّة أومهرجان أوصوت بوق، بل بهدوء وسكينة مثل اللص، وقبل انطلاقه قال لتلاميذه: «وتكونون لي شهوداً. . .» (أعمال1: 8،)(فشهوده فقط رأوه يذهب، ولا غروفي أن الشهود الأمناء (أي شهود يهوه) يكون لهم امتياز رؤيته. إن رجوعه سيكون منظوراً من عيون القلوب المستنيرة بإعلانات الكلمة الإلهيّة، محتجين بالآية (مستنيرة عيون أذهانكم. . .) (أفسس1: 18)[1].

فهذه الآية تؤكد على تفسيرهم وتسهم في بنية خطابهم اللاهوتي والسردي المتخيل عن الأزمنة القادمة. إذ الخلود يختص فقط بالمؤمنين وبخاصة الجماعة في الدنيا وليس في عالم بديل أخروي؛ لأن الكفرة يزولون مثل الأنعام ولا خلود لها، أي: لا رجعة لهم. وهذا ما يستنتجونه من النص الآتي في الإنجيل إذ الحوار الذي دار بين المسيح واللص الذي كان بقربه معلقاً على العمود: «قال ليسوع (أي اللص على الصليب) اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك فقال له: يسوع الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس. . .» (لوقا23: 42- 43).

فقد تم تفسيره؛ نفياً لمفهوم الخلود في العالم الآخر إلى «. . . فقال له يسوع: الحق أقول لك اليوم، ستكون معي في الفردوس. . .»، فوضعوا (،) بعد كلمة اليوم وأضافوا السين (س) إلى كلمة

(90)

(تكون) فتغير كل معنى الآية، وفُهمت بهذا الشكل، أي أن يسوع الذي كان يُكلِم اللص في ذلك الحين، وعده بأنه سيفتقده في المستقبل الأرضي، فمن غير المعقول أن يكون ذلك اللص من ضمن العدد البالغ (144000) شخصاً[1]. إذ نجده يقوم بتقديم توصيف سردي للأحداث المتخيلة عبر تقديم براهين على حدوث الرجعة إلى الدنيا إذ لمُلكيّة المسيح الألفيّة، التي تصورها في أكتوبر 1914م.

وقد أقام حجاجه اللاهوتي على حسابات تعتمد على مدوّنات اليهوديّة التاريخيّة وما سردته في سرداتها آخر ظهور علني له كان في سنة 30. ؛ لكن زوال اليهوديّة لم يحصل إلاّ في عام 70 بعد طرد المسيح لليهود من القدس على يد القائد الرّوماني تيطس[2]. ، وهذا يعني مرور 40 سنة بين التّاريخين، أطلق عليها شارل روسِّل بـ(سنين الحصاد)، وهكذا يحتاج التّاريخ المسيحي إلى مدّة الحصاد هذه، أي ال 40 سنة من سنة 1874م الّتي كان شارل روسِّل يعتقد فعلا بأن المسيح رجع فيها بالخفية إلى الأرض، وحتّى سنة 1914م إذ سيبدأ مُلكُ المسيح الألفي بالاكتمال، إذ سيسود السّلام بانتهاء كل الحروب وسيزول كل ألم وظلم ومعاناة على الأرض. هذا ما

(91)

سيُكرِّس شارل روسّل له نفسه؛ ليبثّه بجميع الوسائل وفي كلّ أنحاء المعمورة. معتمداً على وسائل متنوعة؛ من أجل نشر دعوته وتأويلاته لما نسج عن حياة المسيح «التي مرت دون أن يهتم بها أحد آنذاك ما عدا الحفنة القليلة من تلاميذه الحليليين»[1]، إلا إن تلك الحياة أحيطت بها كثيرا من التأويلات والشروحات حتى أصبحت حاجزاً سميكاً كانت محاولة شهود يهوه تجتهد في معرفتها، لكنها ما تزال أسيرة الميراث النصي والتفسيرات اللاهوتيّة التي حجبت الواقع في بعدها التاريخي وما جاء به مؤسس الجماعة لا يعدو سوى تأويلاً جديداً يغرق في تأويلات متنوعة تحجب بقدر ما تدّعي أنها تكشف وبخاصة كونها تستعين بتأويلات توراتيّة غارقة في الإبهام والترميز:

إن كلّ الأموات المسيحيّين القُدامى الرّاقدين في قبورهم سيُصبحون كاملين، ليس مرّة واحدة بل أوّلا بأوّل، وسيرافقون المسيح أيضا بشكل غير منظور عام 1914 م إذ سيبدأ مُلكُ المسيح الألفي السّلمي، ثم سينضمّ إليهم الّذين سيموتون كقدّيسين كاملين ما بين (1874-1914 م)حتّى يبلغ عدد المختارين الّذين سيكتملون مع بدايّة مُلكُ المسيح عام 1914م إلى المختارين الصّديقين ال 144000 (المذكورين في كتاب الرؤيا 4. 7)؛ فهؤلاء سوف يكونون خالدين؛ بفعل منحه من يهوه وهم «المجدِّدين؛»؛ لأنهم سوف يُجدِّدوا العالم السّاقط. من هنا اسمهم «المجدِّدين»[2].

(92)

لكن ماذا عن الأموات يأتي الجواب: أمّا الأموات الّذين لم يكونوا قد اكتملوا في عام 1914م فسيعطيهم يهوى مناسبة؛ ليكتملوا بالسّر وينضمّوا إلى ال 144000 الكاملين قبل بداية الحرب العالميّة الأولى.

ويبدو أنه كان يقدم فهمه للنصوص التوراتيّة ويقدم هذا الفهم في خطاطة سرديّة تكتنز خلفيّة الأفكار الألفيّة، فيقسِم مراحل الظهور على ثلاثة مراحل تحدث في زمن الظهور إذ يتم فيها تجديد أزمنة العالم:

المرحلة الأولى: من الخلق وحتى الطوفان، كان البشر تحت إدارة الملائكة. وكما اكتشف كان هذا أكبر خطأ، إذ انتصر في هذه الحقبة الشيطان على الإنسان في الفردوس[1].

أمّا المرحلة الثّانيّة: فهي من الطوفان إلى بدايّة الألفيّة لمُلكُ المسيح وقد مرّت في ثلاث حقب زمنيّة:

 الحقبة الأولى هي عصر الآباء(بطاركة العهد القديم من الخطيئة الأصليّة إلى موت يعقوب).

الحقبة اليهوديّة(من موت يعقوب إلى موت يسوع).

الحقبة المسيحيّة الّتي ابتدأت بقيامة يسوع وستمتدّ حتى عام 1914م. هذه الحقبة المسيحيّة يسمّيها شارل روسِّل بـ»وقت التبشير». ، وهي حقبة طويلة حتّى 1914 م، لكنّها مدّة التنقيّة الحقيقيّة. ، فكلّ المختارين فيها سيؤلِّفون فوج العذارى، الّذين

(93)

سيسيرون خلف المسيح، حينما يظهر وسيكونون من ضمن ال 144000 الأنقياء المذكورين في كتاب الرّؤيا.

وهو يستفيض في شرح هذه المرحلة التي تمثل حقبة العصر الوسيط والحديث عام 1874م إذ شهدت عودة المسيح غير الخفي كما عرضنا لها من قبل وتعد الحقبة من (1874 - 1914م) هي مدّة موتهم الذي  يعد بمثابة نوم عميق، إذ سيستعدون في الأربعين سنة المتبقيّة ما بين( 1874 – 1914)م للانضمام إلى صفوف الّذين يتجمّعون لمرافقة المسيح، إذ هو سيلبسهم الطبيعة الإلهيّة، لكي لا يموتوا من جديد، وتعود لهم طبيعة آدم وحوّاء قبل سقوطهما بالخطيئة. وأمّا الباقون، أي الّذين ماتوا بخطاياهم، ولأنّهم لا يستأهلون أن يسيروا مع المسيح حينما يأتي، فقد قرّر لهم المسيح ألّا يفرحوا بمرافقته بل أن يبقوا راقدين في نوع «نوم لا واعي» حتى مجيئه وبداية مُلكه الألفي عام 1914م.

عندها سيقوم المسيح بإيقاظهم من سُباتهم وعندها تبدأ حقبة تنقيتهم من الآثام وتُرجّع لهم طبيعة آدم وحوّاء قبل الخطيئة؛ لأن الشّرّ والقوّة الشّيطانيّة في هذه الألفيّة ستكون مقيّدة، ولن يكون لها أيُ أثر عليهم.

أمّا المرحلة الثّالثة، فهي حقبة الألفيّة الأولى الّتي ستتجدّد كل ألف سنة، وتبدأ في عام 1914 م، وتمتد إلى نهايّة العالم. في هذه الألفيّة الأولى من ملك يسوع أي من (1914-2914)، سيُنهِض الأموات، الّذين لم يُسمح لهم بالقيامة مع الصّالحين ما بين 1874 و1914 خفيّة وأوّلا بأوّل، ابتداءً من أموات العهد القديم، لكنّه لن يلبسهم طبيعته الإلهيّة

(94)

غير القابلة للموت كالأبرار 144000 بل سيخلق لهم جنّة تختلف عن جنّة الفردوس الأولى يتجمّعون فيها فرحين فلن يشعروا فيها بنقص أوبحاجة إلى الفردوس الأوّل. وأمّا الخطأة الّذين لم يعجبهم المسيح ولا يريدون مرافقته، فهم القسم القليل، الّذي سيهلك، إذ سيأخذ منهم طبيعته الإلهيّة الّتي خلقهم فيها، ولعدم وجود جهنّم فهم سيزولون عن الوجود البشري ويهفون[1].  ويبدو أنه هنا يكرر مع بعض التعديلات مفهوم الرجعة التي أقرّ بها اليهود، وهي تستنسخ الأفكار الألفيّة في الديانات القديمة ومفاهيم التجديد الدوري للعالم[2]؛ فهم يختلفون في دور المسيح وفعاليته، فهم يقولون: ( نعم، ‏ نحن نؤمن بيسوع. ‏ فهو قال:‏ «‏انا الطريق والحق والحياة. ‏ لا يأتي أحد إلى الأب إلا بي‏». ‏ (‏يوحنا 14:‏6‏)‏ ونؤمن أيضاً أنه نزل من السماء إلى الأرض، ‏ وقدّم حياته كإنسان كامل فديّة عن البشر. ‏ (متى 20:‏28‏)‏، بموته وقيامته أتاح لكل المؤمنين به فرصة العيش إلى الأبد. ‏ (يوحنا 3:‏16‏)‏، كما نؤمن بأنّ يسوع يحكم الآن ملكاً لحكومة الله السماويّة التي ستحقق عما قريب السلام في كل أرجاء الأرض. ‏ (‏رؤيا 11:‏15‏)‏، لكننا لا نؤمن بأنه هو الله الكلي القدرة وبالآتي لا نقدّم له العبادة. ‏ فهو نفسه قال:‏ «‏الأب أعظم مني‏». ‏ (يوحنا 14:‏28‏. ‏)‏[3] والخلاص الذي توقعوه هو خلاص يتحقق عبر عدالة أرضيّة إذ يؤمنون بأن 144 ألف مسيحي ممّن يدعونهم

(95)

«ممسوحين بالروح «سيملكون مع المسيح في الملكوت (بحسب مفهومهم، الملكوت هو حكومة سماويّة برئاسة المسيح، وبأن بقيّة الأشخاص الصالحين سيعيشون في فردوس أرضي إذ سيرثون الأرض ويتمتعون بالعيش إلى الأبد بفضل تلك الحكومة السماويّة. وهم بهذا يعتقدون بأنّ تدمير النظام العالمي الحالي في هرمجدون[1] وشيك، وإنّ إنشاء مملكة الله على الأرض هو الحل الوحيد لجميع المشاكل التي تواجه البشريّة. إلا إنهم يختلفون مع بقيّة المسيحيين إذ يقولون إن المسيح لم يمت على صليب كما تعتقد طوائف العالم المسيحي بل على عمود أوخشبة (الكلمة الأصليّة اليونانيّة staurَs) كما هو موجود في أسفار الكتاب المقدّس؛ لذلك فهم لا يضعون الصليب على الصدور وفي البيوت، كما إنهم لا يستعملون الصور والتماثيل في عبادتهم. وفي حين يؤمنون بأنّ مريم وَلدت المسيح وهي عذراء، إذ يفسّرون نصوص الإنجيل التي تتحدث عن «إخوة يسوع» بالقول إن مريم أنجبت أولاداً آخرين من زوجها يوسف بعد ولادة المسيح (وقد خصصت مجلّتهم «برج المراقبة» عدد 1 يناير 2009م مقالات حول الاستفادة من مثال مريم والاقتداء بها، وكل هذه الأسباب تعتقد بها طوائف العالم المسيحي بأنّ شهود يهوه هي بدعة واتباعها ليسوا بمسيحيين.

وقد تميز فكر جماعة «شهود يهوه «بما يأتي:

(96)

بحسب أدبيات الجماعة فهي تعد نفسها عابرة للعرقيات فتقول: يتميز الشهود بروابطهم المتينة من دون أي حواجز عرقيّة، أوقوميّة، ووعظهم التبشيري الدؤوب في الذهاب إلى أصحاب البيوت وعرض دروس بيتيّة مجانيّة في الكتاب المقدّس.

2  ورفضهم لمظاهر الاحتفالات التي يزاولها أغلب المسيحيين إن لم يكن كلهم في مناسبة ميلاد المسيح، ولا يحتفل الشهود بأعياد الميلاد الفرديّة.

لا يخدم الشهود في الجيش، وهم محايدون سياسيا إذ لا يتدخلون بأي شكل من أشكال السياسة.

 ويكنّ الشهود مقداراً كبيراً من الالتزام بعقيدتهم وحرصاً أشدّ في حضور الاجتماعات التي تعقد لمرتين في الأسبوع في القاعات العامّة وفي حضور المحافل التي تعقد لثلاث مرات في السنة في قاعات أكبر أوملاعب رياضيّة.

يؤمن شهود يهوه بأن الكتاب المقدّس هو كلمة الله ويعدون أسفاره الـ 66 موحىً بها ودقيقة تاريخياً. وما يُدعى عموما العهد الجديد إذ يفضّلون الإشارة إليه بعبارة «الأسفار اليونانيّة المسيحيّة»، ‏ والعهد القديم بعبارة «الأسفار العبرانيّة». وفي حين يقولون إن المسيحيين غير ملزمين بحفظ شرائع التوراة الواردة في «الأسفار العبرانيّة» وإنما يخضعون لتعاليم «الأسفار اليونانيّة»، إذ يقتبس شهود يهوه من الأسفار اليونانيّة والعبرانيّة على حد سواء، ويفهمون نصوصها حرفيا إلا حين تدل التعابير أوسياق الكلام على نحو

(97)

واضح إن المعنى مجازي أورمزي[1].

أيضا يحرِمون عمليّة التبرع بالدم؛ بسبب قدسيته فكل إنسان بحسب اعتقادهم يمتلك حياته في دمه ولا يجوز أن تنتقل تلك الحياة لإنسان آخر حتى لوكان مشرفاً على الموت ويحتاج لمتبرع بالدم، وان الدم الوحيد القادر على الإنقاذ هو دم المسيح الكريم. غير إنهم يقبلون بالبدائل الطبيّة للدم.

كما إنهم يمنعون أتباعهم من التدخين باعتبارهِ مؤذياً للجسم ويخالف كلمات القديس بولس «لنطهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح» (2 كورنثوس 7: 1).

ليس لديهم مؤسسة كهنوتيّة، بل يقوم شهود يهوه بتوجيه مجلس إدارة أطلق عليهِ بـ( مجلس إدارة شهود يهوه)، وهو مجموعة من الشيوخ في وارويك، نيويورك، التي تضع جميع المذاهب

لا وجود لشيء اسمه جهنّم، في تعاليم شهود يهوه، كمكان عذاب أبدي أعدّه الله للذين عصوا. وقد أبدى شهود يهوه رأياً في الجحيم في العهد القديم، إذ قالوا عنه، إنه بيت منام مؤقت للأموات بانتظار يوم القيامة. وفي العهد الجديد، إن جهنّم أووادي (هنّم)، وادٍ في أورشليم، كانت تحرق فيها النفايات في أيام المسيح وقبله، وكانت ناره لا تهدأ نهاراً وليلاً، وكان يسوع يتّخذه رمزاً لعقوبات جهنّم الأبديّة، أي الفناء التام والاضمحلال[2].

(98)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

بنية الأصوليّة الإسلاميّة

 

المبحث الأول: بذور الأصوليّة الإسلاميّة

المبحث الثاني: الأصوليّة الإسلامية المعاصرة

 

(99)

الفصل الثالث

بنيّة الأصوليّة الإسلامية

 

المبحث الأول: بذور الأصوليّة الإسلامية

المطلب الأول: تمفصل الأصوليّة: هناك تصنيفات معاصرة تحاول التأكيد على فرضيتين لكل منهما آفاقها: الأولى ترى إن خطاب الأصول بكل أنغلاق هو خطاب منبعه التراث الإسلامي حصرا؛ فتحاول هذه الفرضيّة أن ترجع كل التعصب إلى أحداث ونصوص موجودة في التاريخ الإسلامي والنصوص المقدّسة وهذه الفرضية فيها موقفان:

الأول علماني يحاول نقد الفكر الإسلامي ويعمل على تأصيله أنه ينتمي إلى التراث ومن هنا يطالب بإعادة قراءة التراث وتأويل النصوص بما يتفق مع الراهن وعلى هذا الأساس هناك قراءة متنوعة للتراث الإسلامي ذات توجه نقدي علماني، وهذه القراءة لها مستويات منها استشراقيّة، وأخرى عربيّة تحاول كشف المسكوت عنه في فهم التراث والأمر ليس مرتبط بالإسلام؛ فهناك قراءات علمانيّة تناولت الفكر اليهودي إذ يرجع أحد الباحثين العلمانيين عودة الأصوليّة من اليهود من خلال تراجع الفكر التنويري مما

(100)

منح (العالم الأرثوذكسي الذي كان مهمشاً لمدة طويلة قد ازداد عددياً، وأصبح ذا تأثير لم يسبق له مثيل في صفوف اليهوديّة الحديثة)[1] وعلى هذا الأساس يبدو أن الأصولية – على وفق هذه الفرضيّة - هي ظاهرة معاصرة لا تهدم الجذور التراثيّة إذ تقوم على تقديم النقل والنص على العقل وهي موجود في التراث العالمي ومنها الإسلام؛ فالسلفيّة: هي منهج إسلامي يدعو إلى فهم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وهم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بعده يمثل نهج الإسلام الأصيل والتمسك بأخذ الأحكام من القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة ويبتعد عن كل المدخلات الغريبة عن روح الإسلام وتعاليمه، والتمسك بما نقل عن السلف. وهي تمثل في إحدى جوانبها إحدى التيارات الإسلاميّة العقائديّة في مقابلة الفرق الإسلاميّة الأخرى[2]. ومن الآراء التي ترجع إلى حركات حديثة ومعاصرة إلى مبانٍ سلفيّة مثل حركة محمد بن عبد الوهاب السلفيّة التي أثّرت في سائر الحركات السلفيّة التي ظهرت في العالم الإسلامي ومن ثم ازدهرت الدعوة إلى العودة للأصول التي قامت عليها الحضارة الإسلاميّة من خلال الدعوة إلى ما يسمونه نبذ البدع والخرافات. وتأثر بهذه الدعوة طائفة من الدعاة الأصوليين وأخذوا

(101)

ببعض مبادئها وإن ظلت العديد من معتقداتهم وآرائهم السياسيّة والدينيّة مخالفةً للمنهج السلفي التقليدي المعروف. ومن أبرز هؤلاء الدعاة الشيخ حسن البنا[1] وحركته المعروفة بجماعة الأخوان المسلمين.

المبحث الثاني: الأصولية الإسلامية المعاصرة

يمثل الأصوليّة الإسلاميّة فهي الأخرى ترفض أي توصيف لها كونها مستقلة عن التراث؛ فهي ترفض أي تواصل لها مع الفكر الغربي لهذا نجدها تدعي أنها تمثل العودة إلى التراث الإسلامي الصافي بعدما تقوم بإخراج جزء كبير منه من التيارات: الفلسفيّة، والصوفيّة، والمذاهب المختلف معها مع اتهامها الغالبيّة من طائفتها والذي يختلفون معها في المذهب الفقهي والكلامي فتصفهم بالانحراف عن جادة الصواب، وهذا نجده في الفكر السلفي وعند الشيخ ابن تيميّة وامتداداته في السلفيّة الجهاديّة، وصولا إلى تنظيم القاعدة وداعش، فهذه البلاغة القديمة تجذرت في كل الخطابات التي تناسلت بين الأخوان من الوهابيّة والأخوان المسلمين، إذ جاء فكر ابن لادن الذي أعاد ترديد هذه البلاغة «على نحو يعيد إلى الذاكرة أصداء زمن كانت الأمة فيه تزداد قوة ونفوذا. . . . . تأكيده الحاسم على إمكانيّة إعادة بناء خلافة شاملة؛ فقد كان يجسد الهويّة الإسلاميّة التي ترتبط ارتباطا سياسيا معقّدا بالتفسير السلفي للإسلام»[2].

(102)

والذي جاءت تلك النصوص والمواقف استجابة للتحديات التي واجهها المسلمون على طول تاريخهم؛ فكل مرحلة طرحت رؤيّة تتناسب مع واقعها مع استلهامها التراث والنصوص المقدّسة فيه؛ لهذا تنوعت القراءات بعده نتيجة إلى تلك التحديات، ومن تلك التحديات:

الأسباب السياسيّة:

1ـ الاستعمار الغربي الذي احتل العالم العربي، ومارس الهيمنة والتقسيم وصولاً إلى احتلال فلسطين إذ كان مشجعاً إلى ظهور هذه الحركات الجهادية في مقاومة الاستعمار.

2 كان الصراع بين الاتجاه القومي ممثلاً بمصر والاتجاه اليميني ممثلاً بالسعوديّة، إذ أسهمت الأخيرة في دعم التطرف وتغذيته، وهنا يشير صاحب كتاب» لعبة الشيطان «إلى الدور الغربي في دعم الإسلام السياسي إذ يقول:»وبالرغم من اغتيال «الحسن البنا» عام 1949م إلا إن الأخوان تمكنوا من تجاوز الأزمة، والحفاظ على تَرَاصِّ صفوفهم داخل مصر بل وخارجها أيضاً وبفعل؛ الحرب الباردة سوف يستمد الأخوان المسلمون الطاقة والنفوذ من الحملة العالميّة ضد الشيوعيّة. في غضون ذلك ووسط أوزار الحرب العالميّة الثانيّة ستقوم أمريكا بأولى خطواتها نحو الشرق الأوسط من خلال لقاء الرئيس الأمريكي «روزفلت» الشهير بالملك «عبد العزيز» آل سعود في الباخرة وإعلانه الحماية على السعوديّة[1].

(103)

وازداد المجال في التعاون والدعم السعودي بعد هزيمة 1967م، إذ كانت نقطة تحول من الخطابات القوميّة اليساريّة إلى خطاب الإسلام السياسي، مما أدّى إلى غياب الحضور الرمزي للخطاب الناصري القومي.

3 ـ طرح الأخوان المسلمون مشروعاً ينص على إن الإسلام هو الحل وهذا يتحقق من خلال أسلمة المجتمع والدولة، واتّخذوا من الأخلاق أفقاً للحل عبر إصلاح الفرد النفسي عبر الإيمان وصولا إلى حمل السلاح بوصفه طريقاً للسلطة؛ فهي المجال الرحب من اجل تحقيق هدفهم، وهم بهذا يتشابهون مع الخطاب القومي واليساري اللذين كانا يعتمدان على العنف الثوري؛ فأصبح الجهاد هو المقابل الموضوعي.

4 ـ  الحرب الباردة وما خلقته من انقسامات دولية كان يقابلها أنقسام عربي إذ تحوّل الوطن العربي إلى دول مع الخطاب اليساري وخطاب يميني المتحالف مع الغرب وكانت هناك حروب فيما بينها مثل الذي حدث في اليمن بين مصر والسعوديّة. وهذا ما ظهر في مجال الدعم الأمريكي للإسلام السياسي من اجل مواجهة الشيوعيّة.

5 ـ الحرب في أفغانستان بعد احتلاله من قبل الاتحاد السوفيتي؛ أدى إلى دفع الغرب وحلفائه في العالم العربي إلى تشجيع المجاهدين وتم تدريبهم من قبل الدوائر المخابراتيّة الغربيّة والعربيّة ودعمها من اجل مواجهة الاتحاد السوفيتي.

6 ـ يبدو أن الدعم الغربي للاحتلال الإسرائيلي وفشل الدول العربيّة في إيجاد حلول سواء أكان على صعيد المواجهة مع إسرائيل

(104)

أم على الصعيد المحلي تفاقم الاستبداد والفساد واحتلال العراق، كلها شجعت على ظهور أشكال جديدة من الأصوليّة ممثلة بالقاعدة وفيما بعد داعش وأخذت التحولات طائفيّة عنيفة بعد المواجهات بين إيران والسعوديّة وصراعهما الإقليمي .

يبدو أنّ تلك الظروف تبين أن الأصوليّات الإسلاميّة هي حركات معاصرة تقدِم توظيفاً أيديولوجي معاصر للدين عبر التركيز على قراءة النصوص قراءة تكفيريّة للآخر«هوالدول أوالطوائف المسلمة المختلفة مذهبياً»، والآخر الغربي (المسيحي اليهودي).

الأصوليّة الإسلاميّة ورهان قاتل:

1 ـ يبدو أن الجهاد وهو المقابل للموضوعي للعنف الثوري وهو ممارسة القتل على أساس الشرعيّة الثوريّة، أما الحركات الإسلاميّة فهي نسخت هذا المفهوم إلا أنها استعارة الشرعيّة الدينيّة بكل حمولتها السلفيّة القائمة على العنف الذي سحب معه الصراعات مع الخوارج ومع الطوائف الأخرى.

2 ـ التوحش واليات الانهاك: فقد قدمت تصور معاصر لمفهوم الجهاد الإسلامي من خلال زرع ثقافة التوحش التي عبرت عنها استراتيجياتها القائم على ممارسة «الانهاك «أي زرع الفوضى في جسم الدولة المستهدف أضعافها وجعلها تصاب بالضعف من أجل هز سلطتها في مناطق معينة ثم العمل على إدارتها كإدارة توحش وهي ساعتها تحول إلى مرحلة أولى من اجل تطبيق الشريعة الإسلاميّة فيها وإقامة الحدود وهي اهم مطالب الأخوان منذ حسن البنا

(105)

وصولا إلى الحكميّة الإلهيّة على الأرض التي تقتضي تكفير السلطة والشعب معا لأنهما كفار خارجين على الشريعة كما تصورها سيط قطب. حيث تاريخ ممارسة العنف مرافق للأصوليّة طيلة تاريخها فهي، ذات الطبيعة الراديكاليّة المتشددة بطبيعتها، التي أصبحت تمثل خطر داهم يهدد السلم العالمي والنظام العالمي الجديد الذي يؤكد على القيم ألديمقراطيّة لعل هذا دفع بعض المراقبين الغربيين، بما في ذلك صانعي السياسة من عد الأصوليّة الإسلاميّة بوصفها أيديولوجيّة سياسيّة شموليّة أكثر خطورة من الشيوعيّة بعد أنهيار الاتحاد السوفيتي.

3 ـ محاربة المجتمعات الإسلاميّة: أطلقت الجماعات الأصوليّة الإسلاميّة المتطرفة حربا شرسة ضد السلطة ألقائمة من خلال ثلاث وسائل: الخطف والاغتيال والتفجير، ولم تقتصر مهاجمتهم على المسؤولين الحكوميين والمباني الحكوميّة، ولكن أيضا شملت العمليات الإجراميّة من الخطف واغتيل: المسافرين الأجانب، والصحفيين، والدبلوماسيين، لعل هذا جعل العديد من السياسيين والباحثين الغربيين يعدون الأصوليّة الإسلاميّة تمثل تهديدا عالميا جديدا. من أجل زرع الفوضى والانهاك من أجل بناء الدولة الإسلاميّة التي تسير على نهج الأصوليّة بمختلف أشكالها من الوهابيّة إلى القاعدة وداعش.

4 ـ التأويل المتطرف للنصوص والتاريخ الإسلامي: في وقت كان مفهوم الجهاد له أهميّة المعاصرة بوصفه من المبادئ الدفاعيّة التي تعمل من أجل الإنسان ودوام حريته.  إذ يمكن استعمال

(106)

الجهاد شرعيا من أجل مقاومة الاحتلال الأجنبي وهو مبدأ يدعمه الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس وله أساس في القانون الدولي؛ لكن هنا علينا أن نميز بين الجهاد بوصفه دفاع عن النفس وبين الإرهاب المعتمد من قبل الحركات التكفيريّة الأصوليّة الإسلاميّة، لأن هذا الأخير يترك آثار سلبيّة بحق المدنين والأبرياء ممن لا علاقة لهم بالجهاد الدفاعي بوصفه عملا من أعمال الحريّة والقائمين به يعدون أبطالا وقادة تحرير مرتبطين بفئات محليّة وطنيّة يدافعون عن حريتها بالعدالة والتحرر وهوامر شاع في العالم الثالث من خلال حركات التحرر هناك.

5  ـ لكن الفهم الاجتهادي لدى الحركات الأصوليّة ليس مرتبط بهذا النوع من الجهاد الدفاعي بل في كثير من الحالات ويعد الإرهاب بوصفه عملاً من أعمال العنف، وليس عملا سياسيا، لأنه يستهدف المدنيين الأبرياء فضلاً عن ذلك حتى لو كان لها ما يبررها أهداف الإرهاب فهو عمل إجرامي لأنه لا يلتزم بالإجراءات القانونيّة.

6 ـ تدعي أنها تحارب أمريكا: لكن ما يبدو أن هذا العدو يساهم بشكل كبير في إدامة النزاع والإرباك في هذه المنطقة من العالم وبالتالي فهذا يصب في مصلحة الولايات المتحدة التي تعود عليها بالفائدة التجاريّة بما يتعلق بتجارة الأسلحة لكنها تترك نتائج غير جيدة على التنميّة في منطقة الشرق الأوسط التي بدل عملها على توظيف تلك الأموال في رفع مستويات المعيشة في تلك المناطق. وهذا لا يتحقق إلا من خلال وضع نهايّة للحرب ضد الإرهاب وبالتالي تحقيق السلام الدائم في جميع أنحاء العالم.

(107)

الأصوليّة الإسلاميّة «صناعة العدو» الدور الغربي في اختلاقها

يرى بعض المراقبين الغربيين، بما في ذلك صانعي السياسة، أن الأصوليّة الإسلاميّة الإيديولوجيّة والسياسيّة حركة أكثر خطرا من الشيوعيّة بعد أنهيار الاتحاد السوفياتي.

فهذا الخطر جاء بعد تطور الحركات الإسلاميّة الراديكاليّة في الشرق الأوسط منذ نهايّة الحرب الباردة في هذه ألحالة نجد أن الأصوليّة تميز نفسها في أنها تمثل كل المسلمين الذين يلتزمون الثوابت الإسلاميّة وتسمى الأصوليين نتيجة هذه الرؤيّة السلفيّة التي تميزها عن غيرها سواء أكانت داخل الخطاب السني أم مع بقيّة المذاهب الإسلاميّة. فهذه السلفيّة تجمع بين طيات خطابها الرؤيّة المعاصرة للخطابات والممارسات السياسيّة ومن ناحيّة ثانيّة تقدم رؤيّة تنتمي إلى ميراث سلفي[1] له مقوماته الكلاميّة أي العقيدة او المذهب الفقهي الذي تنتمي إليه ومن ثم يعبر إلى العلاقة بين التراث حيث الأصل الصافي لهذا عندما يتحدث الناس عن الأصوليّة الإسلاميّة، وغالبا ما تتساوى مع العودة إلى القرون الوسطى فهي تحاول أن تعبر عن واقعها بقراءة تقوم على قياس بالنص أو السنة أو التاريخ فهناك استعارات تاريخيّة وأخرى قراءة سلفيّة متشدده للتاريخ من قبل القراءات المعاصرة المتشددة التي تعتمد: التطرف،

(108)

والإرهاب، وعدم التوافق مع النظم الديمقراطيّة الغربيّة، وفي العصر الحديث الخبراء السياسيين الذين يتحدثون عن «التهديد» إلى «القيم الغربيّة» التي تطرحها «المتعصبين الدينيين» من المسلمين حصرا وهذا يكشف أن هذه التوصيفات والتحليلات محكومة بالأحكام المسبقة، وهذا يجعل من تلك المناهج والمعتمدة من قبل الخبراء العلميين تفتقر للمسوغات العلميّة في تحليل الأسباب المباشرة والكامنة خلف ظاهرة الأصوليّة عامة والإسلاميّة خاصة من خلال كشف أليات التفكير التي لا تزال مجهولة لدى هؤلاء الخبراء سواء أكأن هذا على صعيد المنهج العلمي أم الرؤيّة الموجه لهؤلاء الخبراء على مستوى تحديد الأولويات على أساس المنطق العلمي الذي فشل في تعزيز طرق البحث، والنماذج الجاهزة التي تم وراثتها عن برامج العلوم الاجتماعية[1].

هنا سوف نختار أنموذج واحد هو الحركات الأصوليّة الجهاديّة المعاصر نختار ثلاث كتب ونختار منها نصوص:

النص: يعود إلى عمر عبد الحكيم أبو مصعب السوري[2]:

(109)

ويعتمد على استراتيجية: «مقاتلة العدو القريب» المتمثل بالنظم السياسيّة العربيّة والإسلاميّة التي تنعتها بالمرتدة.

يقول في وصف الأصوليات التي أنظمت إلى الحراك السياسي في دولها ( أن معظم مدارس الصحوة ولاسيما المتسيسة منها، ومن أجل دفع ثمن دخولها مجال (المشروعيّة القانونيّة) للممارسة السياسيّة لدى الحكومات قامت بالتخلي عن عقيدتها الجهاديّة القتاليّة تدريجياً، بل ألتفت كثير من رموزها وقادتها، لمحاربة أولئك الذين تمسكوا بتلك العقيدة من أبنائهم. وفصلوهم من تنظيماتهم. وضيقوا عليهم. فضلاً عن محاربة التيار الجهادي دعوياً وفكرياً وإعلامياً. بل وأمنياً في بعض الأحيان حيث تولى بعض الدعاة إبلاغ الأمن عن نوايا الجهاديين !!

(110)

لقد حمل التيار الجهادي عبر تنظيماته وأدبيات مفكريه وكتابه وإعلامه تلك العقيدة بمقتضى الشعار الأول للصحوة، قولاً وعملاً. وقامت الجماعات والتنظيمات الجهاديّة المختلفة على تلك الأسس وتفاوت عطائها ومدى وضوح وتجذر تفاصيل تلك العقيدة في مناهجها).

فهذا النص يبين أن الجماعة تختلف عن الواقع السياسي ومن ثم أي أنخراط في هذا الواقع هو بمثابة خروج على الثوابت، التي تقوم الجماعة على تلقينها إلى اتباعها كحقائق فيما يتعلق بالدين والدنيا فهو يقول: (وبشكل إجمالي يمكن القول أن معظم التنظيمات الجهاديّة تبنت العقيدة الجهاديّة وكأن لها فكراً ومنهجاً جهادياً مكتوباً وتبعاً لذلك كأن لها برنامجها التربوي الذي رسخ تلك العقيدة الجهاديّة في عقول عناصرها، وقد مرت كافة تلك التنظيمات بمرحلتين من الناحيّة المنهجيّة والتربويّة وتربيّة الأعضاء على ذلك: مرحلة ما قبل الصدام مع السلطات في بلادها، ومرحلة ما بعد الصدام. وبالإجمال استطاعت تلك التنظيمات والجماعات أن تربي في مرحلة الأعداد قبل الصدام كادراً طيباً كماً ونوعاً على تلك العقيدة والمناهج وخرجت نماذج ناضجة نموذجيّة كمجاهدين عقائديين يحملون عقيدة جهاديّة راسخة واضحة، وهم الرعيل الأول والثاني في كل حركة وتنظيم جهادي تقريباً. ولكن معظم تلك الجماعات بعد فتح الصدام المسلح عجزت للأسباب التي مر ذكرها عن تربيّة الطبقات التاليّة من الاتباع، ورغم أن المناهج معروفة ومدونه إلا أن نوعيّة ومستوى التربيّة أنخفض فيما بعد.

 

(111)

فالنص هنا يبين العلاقة مع الأنظمة السياسيّة والمجتمع قد مرت بمرحلتين:

الأولى: سلميّة تعايشت مع النظام تم استغلالها في إعداد الكادر وتدريبه وتلقينه الرؤيّة والمنهج.

أما المرحلة الثانيّة القائمة على المواجهة العسكريّة فهي قائمة على المفاصلة والتكفير الفعلي عبر الفعل العسكري فأن لهذا الواقع اثر على التثقيف؛ لأنه اصبح الوضع القلق بعيد عن أجواء السلم.

ولما هاجرت تلك التنظيمات. حاولت استئناف المسيرة واستطاعت أن تبني شيئاً من ذلك ولاسيما من خلال مرحلة الجهاد الأفغاني في شوطين الأول والثاني وبالإجمال يشكل عناصر التنظيمات الجهاديّة النموذج الأفضل للمجاهد العقائدي الذي يحمل عقيدة جهاديّة في ظاهرة الصحوة الإسلاميّة المعاصرة[1].

هنا يكشف الكتاب عن مساحة حضور الخطاب الأصولي الجهادي في أفغانستان (تكون الجمع العربي من زهاء 40 ألف مجاهد، ارتادوا بيشاور ومعسكرات التدريب وجبهات القتال 1992). ولا شك أن أكثر من ثلثيهم قد تلقى تدريباً عسكرياً معقولا. وأن أكثر ممن ما بين 1985 نصفهم دخل جبهات القتال. وأن ربعهم على الأفل شارك في معارك حقيقيّة بشكل فاعل جعل منه مقاتلاً محترفاً)[2].

(112)

لقد كأن هذا الحضور مؤثر في اتساع الحراك الإسلامي الجهادي الأصولي في البلدان العربيّة؛ فهو يدرك أهميّة هذه المرحلة في مقارنته بين الحركات الجهاديّة والأخرى الغربية وما أطلق عليهم بـ «المرتدين» و«المنافقين».

 وهو يصف الواقع بلغة وسيطة أي تنتمي إلى التراث الوسيط (أن العدو الصليبي اليهودي بقيادة أمريكا وحلفائها اليوم من الكفار والمرتدين والمنافقين. . يتفوقون علينا بشكل ساحق غير قابل للمقارنة في كل تلك الميادين والمناحي. مما يوفر لهم أسباب النصر الماديّة في كل خطوط هذه المواجهات. ولذلك غزونا في هذا الوقت. ولكنهم أدركوا أيضاً أننا نتفوق عليهم في خط المواجهة على جبهة العقيدة الجهاديّة والقيم المعنويّة[1].

فهو هنا يعول على الجانب المعنوي الذي وأن قال أنه ضعيف فالاندفاع كأن عاطفي في الحرب إلا أنه هنا يعتبره مصدر قوة في التأسيس إلى الجانب التضحوي، أي القائم على التضحيّة بالنفس من اجل نصرة الحركة التي ينتمي لها على أنها تمثل الإسلام. بالمقابل الآخرين يمثلون عنصر الشر من خلال إسقاط توصيف صليبين مرتدين ومنافقين فهو يوظف أحكام وتوصيفات من تاريخ الإسلام نصوص أو كتب تاريخ في توصيف ناس معاصرين لا علاقة لهم بالتراث؛ فالمرتدين هم كل من كأن من الطوائف الأخرى الإسلاميّة اومن كأن يعمل في أجهزة الدولة الأمنيّة والخدميّة فهو مرتد أو منافق.

(113)

ويرد أيضا تحديد موقف من نظام حكومته في سوريا فيصف «ويحدد فيه ما يعتبره أعداء المشروع الجهادي في سوريا وهم: اليهود، الصهاينة والعلويون، والشيعة، والدروز»[1].

يحدد مصادر العقيدة الجهاديّة التي تتعرض اليوم بنظرة الضغط تحت دعاوى الحوار والاعتدال والوسطيّة ونبذ الإرهاب، ويصف لنا هذه المرجعيّة في ثلاث تيارات معاصرة ممثلة:

المطلب الثاني: السلفية الوهابية النجدية

ظهرت حركة أصوليّة معاصرة ترتبط برهانات السياسة والصراع الأوربي مع الدولة العثمانيّة فقد دعمت بريطانيا حركة انفصاليّة دينيّة تشبه البروتستانيّة الانجليزيّة ترفض المؤسسات القائمة وتقدم رؤيّة تنطلق من عقيدة مفادها بأنهم أهل السنة الحقيقيون وهم من أتباع الفرقة الناجيّة، على الرغم من كونهم قد تعرضوا في بداية ظهورهم إلى رفض رسمي وعلمي وشعبي، ولعل هذا ما يمكن أن نستنتجه من «أنه في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي بدأت الوهابيّة بالظهور في نجد. وبعد سنوات قليلة من ظهورها أرسل الوهابيون ثلاثين من علمائهم إلى مكة لمناظرة علمائها. يقول دحلان صاحب كتاب «خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام» إن الشريف مسعود أمر علماء الحرمين أن يناظروا علماء الوهابيّة، فناظروهم، فوجدوا عقائدهم فاسدة، وكتب قاضي الشرع حجة بكفرهم وحبسهم

(114)

فسجن الشريف مسعود بعضهم وفر الباقون»[1].

لعل هذه الحادثة تبين المنهج التكفيري الذي اتبعه المؤسس محمد بن عبد الوهاب بعد أن عدّ عامة المسلمين كفاراً ومشركين ومرتدين إلى الجاهليّة الأولى، كان لا بد أن يأمر أتباعه بالانفصال نفسيا وجسديا عن «المجتمع الجاهلي «والهجرة إليه من أجل البدء في تأسيس «المجتمع الإسلامي الموحد «من جديد، والدعوة إلى «دين الإسلام والتوحيد».

فقد جاءت الأخبار عن هذا المؤسس تروي إن محمد بن عبد الوهاب، هومن بني سنان قبيلة من تميم[2].

وهم يعدون السلفيّة هي الإسلام على الرغم من كونها صغيرة مقارنةً بعموم السنّة وهي تعد طائفةً متشددةً، فجاءت الوهابيّة؛ لكي تستثمر التراث السلفي كما أقامه السلفيون الأوائل، وقد عرفوا بسمات منها:

أولاً: عقيدة التشبيه والتجسيم في حق الله سبحانه وتعالى.

إذ يعتقد الوهابيّة بأنّ الله تعالى جسم له حد وغاية، وله صورة ووجه وعينان وفم وأضراس وأضواء لوجه هي السمجات ويدان وكف وخنصر وإبهام وأصابع وصدر وجنب وساقان ورجلان وقدمان، وإنه جالس على العرش وهو ينتقل من مكان إلى مكان فينزل في النصف

(115)

الثاني من الليل إلى السماء الدنيا وينادي ثم يصعد[1].

وقد وصلت السلفيّة الوهابيّة إلى منطقة نجد وسط شبه الجزيرة العربيّة في القرن الثامن عشر الميلادي على يد محمد بن عبد الوهاب (1703 – 1792م) ومحمد بن سعود، حتى يقوما بإحياء فكر ابن تيميّة، الجامع بين التجسيم والتشبيه ويؤصلا له الأصول ويقعدا له القواعد في كتبه فهو الجامع بين التشبيه والتجسيم من عند الحنابلة الذين كانوا قبله خير، فجاءا ودافعا عنه وحاولا أن ينفيا عنه الشناعة بعبارات إنشائيّة مردودة[2]. ، وهو الأمر الذي تم تبنيه في مشروع السلفيّة النجديّة بقوة حتى بات هو تراثهم الأكبر.

ثانياً: الأساس الثاني لدى هذه الجماعة السلفيّة (النصب):

إذ كان أحد مبانيهم الأساسيّة وموطن انطلاقهم في تكفير الآخرين، «فالنصب هو عدم احترام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا آله بيته الأطهار عليهم سلام الله تعالى ومناصبتهم العداء ولو بطرق خفيّة. ومن مظاهر النصب أيضاً محاربة الوهابيّة والألباني واتباعه على وجه الخصوص إطلاق لفظ السيادة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومثل طعن ابن تيميّة إمامهم الذي أصّل لهم الأصول وقعّد لهم القواعد بسيدنا علي رضوان الله تعالى عليه وبالسيدة فاطمة الصديقة بنت سيدنا رسول الله، وهذا ثابت في كتب ابن تيميّة ومؤلفاته خاصة في كتابه (منهاج السنة)،

(116)

الذي هو منهاج البدعة حقيقة»[1].

ومن المعلوم أن الاختلاف في وجهات النظر والاختلاف بين المذاهب والفرق سواء أكانت في فروع الاعتقاد أم في الفقهيّات والأمور الأخرى؛ فهي لا توجب التضاد والفرقة والتنافر على التحقيق خلافا لما يصفه ويسلكه المتمسكون بالوهابيّة اليوم[2].

إلا إن الوهابيّة اتخذت من هذه الأقوال باباً لمحاربة المختلفين مع تأويلها وخصوصا الدولة العثمانيّة ومناطقها إذ شنّت حملات بتحالف مع الغرب الذي كان يحشِد الفتن من أجل تجزئة هذه الدولة وإضعافها وكانت الوهابيّة قد وجدت لها داعما بحسب ادعائها كونها تحارب الانحراف والكفر، ومن أجل هذا انطلق الوهابيان: (محمد بن حنبل وبن سعود)من الدرعيّة فشنّا سلسلة من الحروب (وكانا يطلقان عليها بالغزوات)، وقد صادرا فيها أموال خصومهم من سكان شبه الجزيرة (وكانوا يسمونها بالغنائم) وخسر فيها العديد من عوام المسلمين أرواحهم؛ نتيجة لهذه الحروب، ولهذا السبب فقد اعتبرتهم مصادر عديدة أنهم بذلك خرجوا على الخلافة الإسلاميّة التي كانت تحت حكم العثمانيين.

ثالثاً: من أهم أفكار السلفيّة والوهابيّة ادعاءهم أنهم هم الفرقة الناجيّة من دون جميع المسلمين اعتماداً على حديث الافتراق إلى ثلاث وسبعين فرقة[3]. ونستطيع الاستدلال على موقفهم من ابن

(117)

تيميّة وتلميذه ابن القيم وقولهم فيهما: «ومما يبين غربة الإسلام ما جرى من الملوك والقضاة والرؤساء على شيخ ابن تيميّة من العداوة والحبس وشدة الإنكار عليه لما دعاهم إلى ما تتضمنه لا إله إلا الله ومعناها، وعن أمثاله من العلماء. . . . فلم يعرفوا التوحيد الذي أثبتته ولا الشرك الذي نفته هذا معنى كلامه، ولتلميذه ابن القيم في بيان أنواع التوحيد والرد على أهل البدع المصنفات الكثيرة»[1].

فإن الوهابيّة تعد نفسها الوريثة الشرعيّة للسلفيّة في حربها ضد الدولة العثمانيّة وكان شعارهم في بناء دولتهم أنهم يريدون إقامةً لدولة التوحيد والعقيدة الصحيحة؛ وتطهيراً لأمة الإسلام من الشرك، الأمر الذي جعل من العلماء السنّة يردون في اتهام محمد بن عبد الوهاب ومريديه للآخرين بالشرك مواصلةً لطريقة الخوارج في الاستناد على نصوص الكتاب والسنة التي نزلت في حق الكفار والمشركين وتطبيقها على المسلمين[2].

وكان من نتائج هذا العنف أن دافعت الدولة العثمانيّة عن نفسها عبر الإيعاز إلى محمد علي في مواجهة غزوات الوهابيّة وهذا ما حدث في عام 1818م؛ فقد حاصرت القوات المصريّة بقيادة إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الدرعيّة عاصمة الدولة السعوديّة الأولى ودمّرتها فيما عرف بالحرب السعوديّة العثمانيّة[3].

رابعاً: رمي مخالفيهم من المذاهب الأخرى بالابتداع والشرك

(118)

والجهميّة والتعطيل والإلحاد وإنهم أعداء السنة والتوحيد، ويدخل في ذلك اختراع تقسيم التوحيد إلى: (توحيد ألوهية وتوحيد ربوبيّة)[1]، ونجد تفسير هذا القول في فكر عبد الوهاب إذ يتخذ الأبعاد الآتيّة بقوله: «وإذا أردت أن تعرف هذا معرفة تامة فذلك بأمرين: الأول أن تعرف إن الكفار الذين قاتلهم رسول الله (ص)، وقتلهم ونهب أموالهم واستحل نساءهم كانوا مقرين لله سبحانه بتوحيد الربوبيّة، وهو أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمور إلا وحده. . . . وهذه مسألة عظيمة مهمة، وهي أن تعرف إن الكفار شاهدون بهذا كله ومقرون به، ومع هذا لم يدخلهم ذلك الإسلام ولم يحرم دماءهم ولا أموالهم وكانوا أيضاً يتصدقون ويحجون ويعتمرون ويتعبدون ويتركون أشياء من المحرمات؛ خوفا من الله عز وجل.

الأمر الثاني: هو الذي كفّرهم وأحل دماءهم وأموالهم وهو إنهم لم يشهدوا لله بتوحيد الألوهيّة لكونه لا يدعى ولا يرجى إلا وحده ولا شريك له ولا يستغاث بغيره ولا يذبح لغيره، لا لملك مقرب ولا نبي مرسل. فمن استغاث بغيره، فقد كفر ومن ذبح لغيره، فقد كفر ومن نذر لغيره، فقد كفر وأشباه ذلك. . . . ومن انتخا بنبي أومَلَكٍ أوندبه أواستغاث به؛ فقد خرج من الإسلام، وهذا هو الكفر الذي قاتلهم عليه رسول الله (ص)[2]. هكذا كان التكفير إذ لا فرق بين الكافرين والمسلمين يوحدون الربوبيّة ويكفرون بالألوهية ويجوز

(119)

عليهم ما يجوز على الكفار.

هكذا تشكّلت الأصوليّة الوهابيّة الحديثة انطلاقا من تلك القواعد البسيطة التي تم توظيفها في حربها مع خصومها مع السنّة والشيعة وهي حرب ما زالت متناسلة بأشكال متنوعة تستنزف المسلمين لصالح غيرهم.

وعلى الرغم من أنّ ادعاء احتكار الحقيقة لابد أن يقود الجماعة إلى العنف والصراع الدموي مع الخصوم. فقد «جاءت الدعوة الوهابيّة بالمنهج السلفي بهدف ما تعتبره؛ تنقية لعقائد المسلمين والتخلص من العادات والممارسات التعبديّة التي انتشرت في بلاد الإسلام وتراها الوهابيّة مخالفة لجوهر الإسلام التوحيدي مثل التوسل، والتبرك بالقبور وبالأولياء، والبدع بكافة أشكالها. ويصفها أتباعها بأنها دعوة إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والرجوع إلى الإسلام الصافي وهو طريقة السلف الصالح في اتباع القرآن والسنّة . أوالرجوع إلى التأويل السلفي التجسيمي التيمي الوهابي؛ ولهذا اتخذوا من هذا الشعار وسيلةً من أجل استباحة دماء المسلمين ونهب أموالهم بحجه كفرهم ولعل هذا يظهر بالمجازر الدمويّة التي ارتكبها هؤلاء فعندما قام ابن عبد الوهاب باحتلال الكعبة قام فخطب بخطبة الرسول يوم فتح مكة وكأنه يدخلها الإسلام لأول مرة، وفي صباح اليوم التالي بادر الوهابيون، ومعهم كثيرون من أهل مكة، ومعهم المساحي، فهدّموا القبب في المصلّى، ثم هدّموا قبة مولد النبي ومولد أبي بكر ومولد علي بن أبي طالب وقبة السيدة خديجة،

(120)

وظلوا كذلك حتى لم يبق في مكة أثر من قبة. وكانوا في أثناء الهدم يرتجزون ويضربون الطبول ويشتمون القبور ويقولون «ماهي إلا أسماء سميتموها» ويقال إن أحدهم بال على قبر السيد المحجوب[1]

وبطلب من الدولة العثمانيّة قام محمد علي بحرب على الوهابيّة حتى تمكّن «إبراهيم من التغلب على الوهابيّة وطاردهم حتى وصل في عام 1818م إلى عاصمتهم الدرعيّة. وبعد أن حاصر الدرعيّة طيلة ستة اشهر استسلمت له. فقتل إبراهيم علماءها ثم أرسل عبد الله بن سعود الذي قد خلف أباه في إمارة الوهابيين، إلى إسطنبول إذ نفذ فيه حكم الإعدام بأمر من الدولة العثمانيّة وفي حزيران 1819م وصل إلى إبراهيم أمر من أبيه محمد طلب منه بتدمير الدرعيّة تدميرا تاما، فقام إبراهيم بما أمر به، وأصبحت الدرعيّة مجموعة من الأطلال»[2].

عودة الوهابيّة: عادت الحياة إلى هذه الجماعة المتشددة بعد أن أخضعها المصريون إلى نفوذهم بطلب من العثمانيين؛ إلا إن الخلاف بين الاثنين:(المصريين بقيادة محمد علي والعثمانيين) قاد إلى الحرب وكاد محمد علي أن يسقط السلطنة لولا تدخل الأوربيون

(121)

بقيادة بريطانيا وأجبرت محمد علي على الاكتفاء بمصر فقط بعد معاهدة لندن 1840 م إذ انسحب الجيش المصري من الحجاز. وهكذا عادت الوهابيّة إلى نهجها الأول، وسرعان ما سيطرت على معظم شبه الجزيرة العربيّة مما أدّى إلى انتشار دعوتها في الجزيرة العربيّة وبعدها انتقلت أفكارها إلى بلدان أخرى، إذ تأثر بها بعض علماء مصر والشام والعراق وغيرها من البلدان القريبة.

الأصوليّة الوهابيّة من خلال منهجها العقائدي:

1 ـ تكفير المسلمين من غير الوهابيّة والسلفيّة إذ يرى أتباع محمد بن عبد الوهاب أن منهجهم هو منهج أهل السنة والجماعة إذ اعتمدت أفكار ابن عبد الوهاب بشكل عام على إحياء فكر ابن تيميّة وابن قيم الجوزيّة في نبذ العادات التي رآها الشيخان ملتبسة بالشرك والتي كانت منتشرة في الأوساط المسلمة وتنقية العقيدة الإسلاميّة المبنيّة على التوحيد الكامل لله، أما في مجال الفقه فقد اتبعوا منهج ابن تيميّة الذي سلك بشكل عام مذهب الإمام أحمد بن حنبل في الفقه، وخالفه في بعض المسائل منها ما يتعلّق بباب الطلاق ومسألة التوسل[1].

حتى عد ابن عبد الوهاب مجددا للبراءة الأصليّة بنظر اتباعه وكأنه في ديار كفر وليس في ديار الإسلام فقولهم فيه: «فدعا الناس من أهل قريته وما قرب منها أن يتركوا عبادة أرباب القبور والطواغيت وعبادة الأشجار والأحجار والذبح للجن ونحر ذلك وكل هذا قد

(122)

وقع في قرى نجد وغيرها حتى البوادي)[1] يظهر حالة التشدد التي تلبست الفكر والمنهج حد كفر المسلمين وعاملهم معاملة عصر الجاهليّة يوم جاء النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، فمنهج البراءة والتكفير عميق الحضور.

2 ـ الوهابيّة كنظام للحكم: إذ يتبنى أتباع الوهابيّة فكرة الدولة الدينيّة ويرون أن الدولة لابد أن تُحكم بالشريعة الإسلاميّة ويطبقون ذلك من خلال بعض الآليات منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ تأسست هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمملكة العربيّة السعوديّة الحديثة، أتباعها هم طائفة من الموظفين المدنيين يجوبون الشوارع ويفرضون ما يعد في باقي البلدان الإسلاميّة بأنه خيار شخصي، وإن كانت قد تفاوتت درجة فرضهم للعبادات والأخلاق بحسب الحقبة، ففي الرياض قديماً إذا مر أحد المطوعين بجانب منزل وشم رائحة تبغ كان لا يتورع عن اقتحام المنزل وضرب المدخن؛ لانتشار الجهل آنذاك، أما الآن فقد اقتصر عملهم على حدود أضيق مثل إغلاق المحلات أوقات الصلوات.  ويعد السلفيون نظام الهيئة الحالي هو التطبيق الأمثل لنظام الحسبة المستوحى من الآية القرآنية: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ»[2]، والذي كان متبعاً بالعصور الإسلاميّة. وكلمة المحتسب أوالمطوع مشتقة من الاحتساب لوجه الله (المحتسب) أوالتطوع لوجه الله (المطوع).

(123)

3 ـ انتقادات ضد الوهابيّة من باقي المسلمين، تعرّضت الوهابيّة منذ ظهور حركتها للنقد من قبل كثير من علماء السنة (حنابلة) و(أشاعرة ومالكيّة وشافعيّة) و(ما ترديّة، أحناف)ـ، ومن هؤلاء الأعلام الذين انتقدوا الوهابيّة الباحث أحمد زيني دحلان مفتي الشافعيّة في مكة في كتابيه «فتنة الوهابيّة» و»الدرر السنيّة في الرد على الوهابيّة» (والذي ردّ عليه عالم حديث من الهند اسمه محمد بشير عبد الباقي السهسواني في كتابه صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان)، فضلا عن ابن عابدين الحنفي، والصاوي المالكي صاحب الحاشيّة على تفسير الجلالين، ويوسف الرفاعي في كتابه «نصيحة لإخواننا علماء نجد» والبوطي في كتابه «السلفيّة مرحلة زمنيّة مباركة لا مذهب إسلامي»، ومحمود سعيد ممدوح في مقدمة كتابه «كشف الستور عما أشكل من أحكام القبور»، وكذا الصنعاني، وأبو الهدى الصيادي، ومصطفى صبري، ومحمد زاهد الكوثري، علاوةً على علماء آخرين من الأزهر والزيتونة والقرويين.

ومن تلك الانتقادات هي «تزوير التراث»، وذلك بحذف وتغيير ما كان يخالف منهجهم من كتب التراث الإسلامي التي لا يستطيعون منع دخولهما إلى لسعوديّة؛ لأن عامة المسلمين يحتاجون إليها، مثل ما فعلوا في كتاب الأذكار للنووي، وحاشيّة ابن عابدين الحنفي، وحاشيّة الصاوي على تفسير الجلالين، وحذف الجزء العاشر في بعض النسخ من الفتاوى لابن تيميّة وهو الخاص بالتصوف:ص10 [1].

(124)

ومن الانتقادات في بعض مسائل من فروعه التي مش فيها غير مذهب الإمام أحمد ألا فهو حنبلي المذهب بحسبها: مسألة مما أوجبه محمد بن عبد الوهاب عينا لصلاة جماعة. ولم ينقل هذا من مذهب الإمام أحمد ولا غيره. ومسألة مما أفتى به تحريم شرب التتن ووضع له حدا في شرع: من قدر أربعين سوطا أوأقل، ومن حلق لحيته ومن سب بحسب ما يقتضي رأي القاضي من أحد هذه الثلاث، وهذه بدعة ما رويت عن مذهب أحمد. . . ومسألة وكان يوجب على الناس دفع زكاة أموالهم الباطنة كالنقود ومال التجارة إلى الإمام أي سلطات المسلمين، وهو يفرقها لمستحقيها، وكان يأمر بالتجسس عما عند الناس من الأموال الباطنة؛ ليأخذ الإمام زكاتها قهرا منهم. . . . ومسألة وَقد حَكَم فيها بتحريم ذبيحة من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله (ص) وأحلها أحمد بن حنبل[1]. . . .

(125)

المبحث الثاني: الأصوليّة الإسلاميّة المعاصرة

المطلب الأول: الأصولية المعاصر من حيث النظرية والممارسة

الأصوليّة المعاصرة الإسلاميّة اتخذت من الإرهاب منهجا لها في فرض تصوراتها للدين على الآخرين من أمثال التنظيمات التكفيريّة التي تعد امتداداً طبيعياً للسلفيّة الوهابيّة، وهي قد ظهرت في العقيدة السلفيّة القتاليّة الجهاديّة على المستوى الإقليمي والأممي في أفغانستان، وقد تمظهرت في حركات تكفيريّة كثيرة منها القاعدة وداعش.

إذ يعد الأفغان العرب هم السلف الذي ورث التكفير السلفي الوهابي في أفغانستان حتى بات ظاهرة تخترق حياة جيل من شباب العرب والمسلمين، لو لم يكن الأمر كذلك لما انبرى هؤلاء الشباب؛ لأسباب ودوافع متناقضة أحياناً إلى اختيار النزاع الأفغاني وأراضي أفغانستان انتماء وتجربة حياة وموتا كانوا مهيأين للذهاب إلى أي مكان طالما أن أرضهم ومجتمعهم مستعدان لطردهم[1]؛ لأن من عوامل الطرد ذلك التعصب الذي أظهرته هذه الجماعات ومنهجها المنحرف من ناحيّة، ومن ناحيّة أخرى الفشل السياسي والاجتماعي الذي أدى إلى ظهور العنف فهو يُعد استعمالاً غير قانوني لوسائل

(126)

الإكراه المادي من أجل أغراض شخصيّة أواجتماعيّة؛ قصد إرغام الآخرين على اتخاذ مواقف لا يري من دونها أو على القيام بأعمالٍ ما كانوا قد قاموا بها لولا هذا الضغط والعنف بأدواته الحادة الذي يقف سدا منيعا أمام الفهم الصحيح لحركة الإصلاح والتجديد عبر تزييف للوعي؛ ولإنشائه خطابا منفعلا قائما على التسطيح والقفز على منطق التاريخ وتجاوز الزمن التاريخي للحضارات، فالعنف فعل غير عقلاني ينبع من الانفعالات الفوريّة، والعنف قادر على إحداث شرخ كبير في الوحدة الوطنيّة، ويمكن تمييز تعدين للعنف هما:

أولاً: بوصفه ممارسة: هو كل عمل من أعمال الخروج على النظام أوالتدمير أوالإصابة تكون آثاره واختيار أهدافه وضحاياه وظروف تنفيذه ذات مدلول سياسي فهذا الفعل يرمي إلى تغيير في سلوك الآخرين في وضع من أوضاع المساومة له تأثير على النظام الاجتماعي[1]، أي أنه ممارسة إجراميّة ذات أهداف سياسيّة تتخذ من العنف وسيلة ومن الأفراد أداة للضغط على الكل الاجتماعي وبالآتي على السلطة السياسيّة المهيمنة التي لا يعتقد بشرعيتها ممارسو العنف؛ لهذا يوصف بنظر الدولة ومفكريها كونه (مظهر لخلل موضوعي في بنيان المجتمع وشبكة العلاقات المتنوعة التي يقوم عليها فتزداد عناصر الخلل وعدم التوازن في العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة يظهر العنف السياسي بوصفه ظاهرة حتميّة

(127)

ويبدو كرد فعل ونتيجة لتلك الأوضاع[1]، فالعنف بوصفه ممارسة يقود الدولة إلى اعتماد القوة العسكريّة في الرد عليه، فيزداد العنف والعنف المضاد، وهو الأمر الذي نجده يظهر اليوم بوصف كل أعمال العنف التي تصفها أجهزة الأعلام (إرهاب) بغض النظر عن دوافعها. وهو فعل وممارسة يذكرنا بالعنف الثوري لدى الحركات اليساريّة؛ فهو يحمل الدلالة نفسها ويعبر عن ممارسة الإكراه في فرض إرادته على المنافسين أوالخاضعين له، وهو يوصف بأنه إسلام سياسي[2] وهو مفهوم يستعمل منذ ثلاثة عقود وهي العقود التي شهدت ظهور حركات تكفيريّة تعتمد على مقولات سلفيّة تكفِر الآخر وتمارس أشكالاً مشابهة لما كانت موجودة في الفكر الوهابي حتى إنها تعد تنويعاً على الظاهرة السلفيّة الوهابيّة نفسها فهي تنادي بتطبيق الإسلام، وشرائعه في الحياة العامة والخاصة[3].

ثانياً: بوصفه أيديولوجيا: فإذا كانت الأيديولوجيا تمثل حقل دراسة المعاني والظواهر النفسيّة عاملة على اكتشاف أصلها فهي أيضا نسق من الأفكار السياسيّة والخلقيّة والجماليّة والدينيّة[4] وبهذا فإن العمل السياسي الذي يعتمد على العنف وسيلة للوصول إلى

(128)

السلطة أو التأثير في السلطة؛ فإنه ينطلق من منظومة سياسيّة، وعلى هذا فإن أعمال العنف التي تدفع الأفراد إلى إرادة القتل والإزاحة أساساً تنطلق من منظومة أيديولوجيّة تدفع الأفراد إلى التضحيّة بالنفس من أجل تحقيق ما يؤمنون به؛ فهذا العنف لا يمكن اختزاله إلى مجرد ممارسة إجراميّة بل بحاجة إلى كشف الأوهام الإيديولوجيّة من ناحيّة والدوافع التي خلفتها من ناحيّة أخرى؛ لأنها توفر القناعة باعتبار العنف  الطريقة الوحيدة أمامهم. ونحن نجد العنف سواء كان ممارسة من دون منطلق فكري أم كان ذا منطلق فكري فإنه إرهاب دموي يقلب كثيراً من المفاهيم الراسخة في الوعي السليم إلى فوضى مشوشة تنتشر إذ تجتمع الممارسة والنظريّة في الأفعال الإرهابيّة اليوم في المنطقة ومنها العراق سواء أكانت مع«القاعدة» أم مع «داعش» فهي قد ارتكبت كثيراً من الأفعال التي توصم بالجرائم ضد الإنسانيّة وهي أفعال إرهابية من حيث الممارسة والنظريّة وتنتمي إلى ذلك السلف الذي استعرضناه.

ثالثاً: مسوغات الفعل الإرهابي: طبعا للإرهاب أسباب داخليّة وخارجيّة إلا إننا هنا نود التركيز على الإرهاب الذي جاء في الأحداث الأخيرة على الرغم من علمنا أن الإرهاب هو جريمة في كل أشكاله سواء كان يمارس بشكل شرعي أم غير شرعي في ظل الدول الطائفيّة ودول الحزب الأوحد والتي تمارس الإبادة الجماعيّة سواء كانت مدعومة من الخارج أم غير مدعومة.

إلا إن الإرهاب الذي تمارسه حركات أصوليّة يقوم على منظومة عقائديّة تتخذ من التكفير والهجرة أساساً لها عبر أقصاءها المجتمع

(129)

والدولة وأحكامه بالكفر؛ فهي تستبعد مقولات صراعيّة تراثيّة وطائفيّة لتصفها في بناء مخيال جهادي يتمركز حول تلك القراءات السلفيّة ويحاول إسقاط الخصم في الكفر أوتفسيقه حتى يبيح سفك دمه باعتباره خارج عن طبيعة هذه المنظومات الأصوليّة بوصفها أيديولوجيات، فهي بهذا ينطبق عليها هذا التعريف (الأيديولوجيا) التي تدين بنيتها ووظائفها النوعية للشروط الاجتماعيّة؛ لإنتاجها وتوزيعها وتداولها، أي الوظائف التي تؤديها.

فهذه المنظومات الأصوليّة تدين إلى مصلحة الطبقة التي تعبر عنها بالتوصيف الغربي بحسب مجتمع المدن والطائفة بالتوصيف العربي العرفي بل للمصالح الخاصة لأولئك الذين ينتجونها، أي تلك القراءات الأصوليّة للماضي، وللمنطق النوعي الذي يتحكم في مجال الإنتاج. فالفكر السلفي مرتبط بالطائفة بشكل عام، وبالمتدينين الأصوليين بشكل خاص والفضاء الذي يعملون داخله. أما عن عمل ما يطرحه هؤلاء المفكرين الأصوليين، وهوما يعرف بالمنظومة الرمزيّة والفكريّة التي تعتمد على ألفاظ تعبويّة وعلى الإبانة الموصلة إلى الإقناع بإمكانيّة تغير العام من السلب إلى الإيجاب أي المؤمنون وإن هذا الكلام لا يعدو ممكناً إلا إذا اكتسبت اعترافاً شعبياً؛ «لأن الرموز تتجسد بالأشخاص وفي الفضاء الحماسي الذي يوافق الموقف» والطقوس تجعل المجردات تجسد، ( فالطقوس هي تحقيق وحدوي لهذه المجردات، كما إن المجردات هي تصور خيالي لما هو ممكن حدوثه بالفعل، وهذا معناه وهنا نجد أنّ دراسة الإرهاب بوصفه بنية قائم على بعدين الأول النظريّة

(130)

التي يقوم عليها الفكر والذي يسرق وجوهنا ويجعل قتل الآخر أمراً طبيعياً إنه فكر يجمع بين أمرين توظيف تاريخ بكل أبعاده النفسيّة والذاكرة التي شكلها المؤرخون عنه والتي تم تبنيها في المنظومات الفقهيّة والكلاميّة والأمر الآخر هو التوظيف الأيديولوجي وهو ممارسة سياسيّة معاصرة، فضلاً عن توظيف الخوف عبر استعمال القوى المتوحشة؛ وهذا ما سوف نحاول تحليله من خلال دراسة الفكر وآليات التلقي عند الناس إذ تتحول إلى حواضن له تزوده بالرجال والمال.

وهذا يدفعنا إلى تعريف الإرهاب كممارسة قائمة على متن عقائدي منحرف وجدناه عند الوهابيّة وقد تمظهر عنف إرهابي واكتسب هذا البعد كونه تنطبق عليه تعريفات الإرهاب، على الرغم من كونه كلمة صعبة التعريف، وهناك عدد كبير من الصيغ المتعارضة والمتنافسة، والتي بحسب الباحثين، تجعل من الكلمة محاطة بحالة من التشويش المفهومي، وإحدى هذه المشاكل هي كونها مفردة انفعاليّة ومشحونة عاطفيا، إلا أن إحدى المحاولات لتعريف ظاهرة الإرهاب هي كونه «استعمالاً متعمداً للعنف، أوالتهديد باستعماله، ضد الأبرياء، مع قصد تخويفهم أو تخويف غيرهم بهم، ببرنامج عمل وأفعال مخصصة لهذا)[1].

وقد عرف فقهاء القانون الإرهاب «أنه فعل من أفعال العنف واستعمال القوة بالاعتداء على الحريات العامة أو الممتلكات أو

(131)

الأرواح وله طابع سياسي»[1]. والإرهاب بحسب الأمم المتحدة في 1980م(يعد الإرهاب الدولي عملاً في أعمال العنف الخطيرة يصدر من فرد أو جماعة بقصد تهديد هؤلاء الأشخاص أوالتسبب في إصابة أوموتهم سواء كان يعمل بمفرده أو بالاشتراك مع أفراد آخرين ويوجه ضد الأشخاص أوالمنظمات أوالمواقع السكنيّة أوالحكوميّة أو الدبلوماسيّة أو وسائل النقل والمواصلات أوضد أفراد الجمهور العام من دون تمييز أوالممتلكات أوتدمير وسائل النقل والمواصلات بهدف إفساد علاقات والأفراد والدول المختلفة أوابتزاز أوتنازلات معينة من الدول»[2].

المطلب الثاني: أبرز المنظمات الأصوليّة الإسلامية الجهاديّة المعاصرة:

لو نظرنا من خلال هذه التعريفات إلى ثلاث منظمات تناسلت من السلفيّة الوهابيّة النجديّة، وهي الأصوليّة الجهاديّة للعرب في أفغانستان، التي ظهرت في تنظيم القاعدة، وعنها ظهرت داعش، يظهر واضحا مدى إجرامية هذه المنظمات الإرهابية، وما قامت به من أفعال موجوده من ضمن التعريفات السابقة؛ فهي منظمات أصوليّة تكفيريّة إرهابية.

1 ـ الأصوليّة الجهاديّة:

وهي الشكل المعاصر للوهابيّة وتنوع من تنوعاتها وفرع من

(132)

فروعها؛ فهي تبقى أيديولوجيا متشددة تفكر بمنطق كلي لا يقيم للخصوصيّة المحليّة اعتبارا، تنطبق مقولاتها على كل واقع على حد سواء، على الرغم من كونها مقولات تجافي المنطق الواقعي وتحدث عنف وإكراه لا يخلِف إلا مزيداً من الكراهيّة. لكن من هي الأصوليّة الجهاديّة؟ نجد الجواب الأصولي لدى اتباعها فهم يعرفونها بوصفها «السلفيّة هم من اتبعوا الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح من القرون الخيريّة الثلاثة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيريّة، والجهاديّة: نسبة لجهاد أعداء الله من الكفار والمنافقين)[1] فهذا التعريف يذكرنا بالتعريفات السلفيّة الميالة إلى التجسيد وموقفها المناصب إلى البيت كما مر بنا في أثناء تعريف الوهابيّة[2]، إلا أن هذه السلفيّة اليوم لها مواصفاتها المعاصرة كما تجلت في أثناء الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفيتي، ثم حرب الشيشان، يومها كانت تقدم ما تدعيه ممارسة الجهاد على حساب العلم والتربيّة؛ «. . .لأنهم لا يعتبرون العلم والتربيّة من شروط وجوب الجهاد. . . . وثانيها إن طريق الخلاص من حياة الذل التي يحياها المسلمون هو طريق الجهاد. . . .»[3]. لقد كان سلوك هذه الجماعة السلفيّة يخالف ما هو سائد عند علماء السنة إذ (رغم إن علماء السنة يجتنبون الآثار السياسية، ولا سيما عند العوام، فلماذا

(133)

خالفوا وجعلوا. ؟)[1] هناك جملة من العوام وراء ظهور هذه الجماعة منها سعي الدول إلى التخلص من هؤلاء وأعمالهم الإرهابيّة الأمر الثاني سعي الولايات المتحدة إلى استعمالهم من أجل انهاك الاتحاد السوفيتي في حرب عصابات؛ لهذا اعتمدت مهمة التدريب والقيادة[2]. وقامت دول الخليج بالدعم المالي والمعنوي وأعطت الحرب بعدا دينيا جهاديا، وقد كان هؤلاء يصدِقون مقولاتهم ولا يدركون أن هوسهم العقائدي فوّت عليهم إدراك أنهم مستغفلون من قبل أنظمتهم والأمريكيين معا، وعندما انتهت الحرب تم التعامل معهم كإرهابيين؛ وأيضا تبدو الأصوليّة في نظر المحللين بوصفها انعكاسا سياسيا في بعض الدول العربيّة.

إلا إن التدريب الأمريكي والإعداد الوهابي القائم على مخيال عقائدي يحاول إحياء خطاب الجهاد معتمدا على العناصر الآتيّة: التأكيد على إن النصر بيد الله تعالى، معتمدين في ذلك على توظيف الخطابات الدينيّة خارج مناسبة النزول. وإن الله تعالى وعد عباده المؤمنين بالنصر على عدوهم في الدنيا وعدا صادقا لا ريب فيه وسنة قدريّة لا تتخلف، ثم إن هذا الوعد هو لأهل الإيمان الكامل. وإن تخلف هذا الوعد القدري بنصر الله تعالى للمؤمنين معناه تخلف شروطه وذلك بتقصير العبد في القيام بالإعدادين الإيماني والمادي أواحداهما، فلا يصبح العبد مستحقا له إلا إذا غيّر حاله

(134)

ليستكمل شروط الوعد[1]. يبدو أن هذا المخيال والتطويع المعنوي استنفذ مهمته بعد تحرير أفغانستان إذ انخرطت الفصائل الإرهابيّة في حروب على السلطة ولم تجد السلفيّة خياراً لها سوى الانقلاب على الدول الداعمة لها فعادت على شكل تنظيمات إرهابية ومنها القاعدة تحارب في المنطقة العربيّة[2]. وقد كان ابن لادن «يتنقل بين السعوديّة وأفغانستان في التواصل مع العائلة السعوديّة الملكيّة التي كانت تحول الأموال إلى المجاهدين وكانت الولايات المتحدة الأمريكيّة هي أيضا تموِل الحملة على القوات السوفياتيّة وتوفر للمجاهدين وتدربهم وتزودهم بالأسلحة، ويذكر أن صفوف المجاهدين آنذاك كانت تضم بجزء كبير منها الرجال أنفسهم الذين ينفذون اليوم عمليات إرهابية»[3].

2 ـ تنظيم القاعدة الإرهابي: إحدى تجليات عودة الأفغان العرب الى المنطقة العربيّة ظهور تنظيم إرهابي دموي يدعى تنظيم القاعدة أوقاعدة الجهاد، هي منظمة وحركة متعددة الجنسيات، تأسست في المدّة بين (أغسطس 1988م وأواخر 1989م / أوائل 1990م)، وهي تدعو إلى الجهاد الدولي. والمسمى بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب. هاجمت القاعدة أهدافاً مدنيّة وعسكريّة في مختلف الدول، من أبرزها هجمات 11 سبتمبر 2001م، تبع هذه الهجمات

(135)

قيام الحكومة الأمريكيّة بشن «حربٍ على الإرهاب»[1].  أما أصل التسميّة فيبدو أنها وليدة الصدفة هذا ما يمكن فهمه من إجابة زعيمها عن أصل التسميّة إذ قال إنها جاءت من اتخاذ:«أبوعبيدة البنشيري أسس معسكرات تدريب لمكافحة إرهاب روسيا. كنا نسمي معسكرات التدريب بالقاعدة، وبقي الاسم كذلك»[2]؛ على الرغم من كون الوقائع تخالف هذا القول وتؤكد على أن هناك خطة وتدبير للساسم وشروط الانتساب للجماعة الإرهابيّة، وقد طرأت تغيرات، على الاسم عام 2002م كنتيجة للاتحاد بين جماعة بن لادن، وجماعة الجهاد في مصر بقيادة أيمن الظواهري فأصبح الاسم «قاعدة الجهاد».

ويبدو أن هناك أجنحة متصارعة قبل هذا الاندماج بين من يريد أن يجاهد في المنطقة العربيّة ضد الأنظمة العربيّة وبين من يرغب بأن يكون الأمر محصور بمجاهدة أمريكا وهو أمر قبل مجيء ابن لادن؛ «وقد شكل تأسيس القاعدة انقساما لا رجعة فيه بين بن لادن ومرشده السابق عبد الله عزام. وهذا الانقسام سيكون له عواقب وخيمة. دعا عزام إلى مفهوم الجهاد الذي كان في الأساس تفسير أصولي تقليدي لطبيعة الجهاد. واستصلاح الأراضي التي كانت مسلمة مرة واحدة من حكم غير مسلم في أماكن مثل فلسطين، وما كان آنذاك الاتحاد السوفياتي، وحتى جنوب إسبانيا، التي كانت تحت حكم المسلمين قبل خمسة قرون. كان المقاتلون المصريون

(136)

الذين حاصروا بن لادن في نهاية الثمانينيات يدعون إلى شيء أكثر تطرفا: الإطاحة العنيفة بالحكومات في العالم الإسلامي التي اعتبروها «مرتد»، وهو مفهوم الجهاد الذي رفضه عزام والعديد من أتباعه كما أرادوا لأي جزء من الصراعات بين المسلمين. الانقسام بين عزام والجهاديين المتطرفين حول بن لادن قد كلّف عزام حياته؛ تم اغتياله من قبل مهاجمين مجهولين في تشرين الثاني / نوفمبر 1989م، أي بعد عام من تأسيس القاعدة سراً»[1].

لقد مارست القاعدة الإرهاب بأشكال بشعة إلى حد كبير فقد كان الإرهاب يقوم على أيديولوجيا التكفير بحق المختلف، وهي تبقى أمينة إلى السلفيّة الجهاديّة وتصوراتها اتجاه الآخر، تكفيره وتستحل قتله واستباحة ماله وممتلكاته. ولعل هذا يظهر بأشكال مروعه وبشعة التفجيرات التي تطول الأبرياء في الأسواق العامة وعمليات الخطف والقتل على أساس كتاب التوحش الذي كان يشكل بنية خطابها باتجاه الآخر؛ ولعل هذا يظهر واضحا عندما نتحدث عن داعش.

تنظيم داعش الإرهابي:

تعود جذور التنظيم في العراق مع بدايات مظاهر القاعدة الأولى المتمثل في «تنظيم التوحيد والجهاد»، يؤكد على أن جذور نشأة وتأسيس تنظيم الدولة تعود إلى العام 2004م، عندما أسس أبو مصعب الزرقاوي جماعة «التوحيد والجهاد» على خلفيّة الغزو

(137)

لأنجلوا أميركي للعراق عام 2003م. ثم مجلس شورى المجاهدين الذي كان اللبنة الأولى لتنظيم الدولة، وضم عددا كبيرا من الفصائل الجهاديّة المسلحة، من بينها جيش أهل السنة وجيش الطائفة المنصورة. ويقرر أن الزرقاوي كان دائما ومنذ أن كان في أفغانستان وحتى قتله في العراق في يونيو/حزيران 2006م، يحاول أن يكون مستقلا عما عداه من تنظيمات، بما في ذلك تنظيم القاعدة. واللافت أيضا أن الزرقاوي استطاع بالسياسة التي تبناها، أن يحتوي ممثل تنظيم القاعدة في العراق وهو تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين ضمن مجلس شورى المجاهدين)[1]. وقد اعتمد التنظيم إدارة التوحش وهو كتاب ألفه شخص يُدعى أبو بكر ناجي، وقدم فيه صورة «وحشيّة» عن تصورات التنظيمات الجهاديّة للتعامل مع الأمور في الأقاليم والمناطق التي توجد فيها، من خلال منطق العنف والفوضى، حتى يتحول التنظيم إلى الأمل الوحيد في الاستقرار لقاطني هذه الأقاليم. وقد تجلّت هذه الوحشيّة في أشكال بشعة من العنف الرمز تمثل بحمامات الدم التي أقامها بحق المختلفين معه مذهبيا ودينيا وسياسيا، على مستوى المذهب فقد أقام مجازر في طلاب أكاديمية القوة الجويّة والمنسحبين من معسكر سبايكر إذ وصل عديد الشهداء إلى 1700 طالب لا ذنب لهم بعد أن تعرّضوا إلى خيانات القادة المحليين من تلك المناطق والمتواطئين مع داعش فضلا عن قتل كل من اختلف معهم مذهبيا عبر الطرق إذ نصبت السيطرات الإرهابيّة ومثال ذلك إبادة وتهجير التركمان

(138)

والشبك فضلاً عن قتل نزلاء سجن بادوش؛ لكونهم من مذهب عقائدي آخر، علاوة على الاستيلاء على ممتلكات المسيحيين وتهجيرهم ونهب ممتلكاتهم، وقتل الرجال وسبي الأطفال والنساء والتعامل معهن كجوارٍ بأسلوب وحشي، اذ «تشن عناصر داعش حرب إبادة وتهجير معلنة على التركمان والشبك الشيعة في منطقة نينوى وبخاصة في الموصل وتلعفر، وقد نزح بسبب هذه الحملة عشرات الآلاف من الشبك والتركمان باتجاه مدن سهل نينوى ومدن جنوب العراق[1]. والأمر نفسه حدث للمسيحيين الذين خيروا بين البقاء بدفع الجزيّة أودخول الإسلام أوالرحيل وتم الاستيلاء على ممتلكاتهم وهم من أبناء البلد الأصليين من الكلدان والآثوريين فكان العدد مائة وخمسين أسرة مفقودة، «تناول التقرير بشكل مفصل انتهاكات حقوق المسيحيين، وأشار فيه إلى تهديد الوزن الديموغرافي للمسيحيين، فمن أصل مليون وأربعمائة ألف مسيحي قبل العام 2003 م لم يتبق اليوم سوى (250-300) ألف مسيحي، والرقم الأخير مهدد بالذوبان التدريجي؛ بسبب الهجرة اليوميّة»[2].

إن ما حدث يدخل فعلا من ضمن حدود مفهوم الإبادة الجماعيّة genocide التي قامت بها داعش والمليشيات الداعمة لها، والتي تمتلك

(139)

خلفيات سابقة في ممارسة العنف ضد الأبرياء من العراقيين[1]. إن العنف الذي تقوم به الجماعة موجهٌ إلى الجميع وجعل الذين دعموه من رجال القبائل والسياسيين يخسرون النفوذ والسلطة إلى جانب المواطنين الذين هجروا في المناطق الأخرى. قتل رجال الشرطة والجيش من السنة ومن كان منخرط بالعمليّة السياسيّة حيث تم قتلهم في مجازر جماعيّة، إذ ما زالت هذه الجماعة تطبق سياسة معتمدة في القاعدة أنها سياسة إدارة التوحش [2] إذ تم وضع قواعد ورسم أهداف تقوم على اعتبار هذه المرحلة هي مرحلة شوكة والنكايّة والإنهاك بوصفها تهدف إلى إنهاك العدو ثم إدارة المناطق التي يترك فيها فراغ يتم تسميتها بإدارة التوحش وفيها يتم إتقان فن الإدارة السياسيّة عبر تحديد من يقود ومن يدير من خلال استثمار القواعد العسكريّة المجرّبة ممن كانوا لديهم خبرة عسكريّة سابقة، وفي الوقت نفسه يوصي باعتماد الشدة مع المخالفين والمجاورين والتحرك في مواجهتهم باعتماد السياسة الشرعيّة.

(140)

3 ـ  أهم سمات الأصوليّة الجهاديّة:

توفر الأوضاع السياسيّة والأمنيّة في سوريا والعراق، اليوم، فرصة ذهبيّة لأفكار السلفيّة الجهاديّة لنسج خطاب قائم على القول إن ما يجري في هذين البلدين هو«صراع عقائدي ديني طائفي» لا حل له إلا بالعنف المسلح، وهذا النوع من الصراعات والحروب هو البيئة الخصبة لأيديولوجيا «القاعدة»، وأخواتها بوصفها حركات طائفيّة، وتتأسس على فكرة «الطائفة المنصورة»، و«الفرقة الناجيّة». وهي مقولات مستمدة من التراث ومن ضمن ظروف لم تعد قائمة، إلا إنها تحاول استثمار الظروف المحليّة من تهميش وإقصاء، من أجل التحريض على الدولة؛ إلا إنها بالأساس أيديولوجيا عابرة للحدود، وتتعاطى مع فكرة «الأمة»، بوصفها كيانا سياسيا وجغرافيا، غافلة عن كونها معنى ثقافي، ورمزي، ومعنوي ليس إلا. ولقد أكّد الباحث الفرنسي أولفييه روا في كتابه «الجهل المقدس[1] زمن دين بلا ثقافة» أن الأصوليّة هي شكل الدين الأفضل تكيفا مع «العولمة»؛ لأنه يضطلع بإزالة هويته الثقافيّة الخاصة (المحليّة)، ويتخذ من ذلك أداة لطموحه إلى  العالميّة.

اذ تستثمر الخلافات الطائفيّة، فتقدم نفسها بوصفها المكافح والمدافع عن «الطائفة السنيّة» في وجه الطوائف الأخرى، خصوصا حين تتوافر علي قدرات عسكريّة، وخبرات ميدانيّة وخطاب عقائدي مبسط ومختصر، يبدو معهودا لتوظيفه القرآن الكريم، والسنة النبويّة

(141)

في تبريراته وفتاواه، والأهم أن صدام هذا الخطاب العقائدي مع الأنظمة الحاكمة، وقد استثمرت الحاجة النفسيّة لدى شرائح معينة من الجمهور المستهدف الذي يعاني غضباً وتهميشاً وفراغاً ناجماً عن الشعور بانكسار الذات الناشئ عن الصعوبات المعيشيّة.

في ظل هيمنة الخطابات الطوباويّة على الأصوليّة الجهاديّة في استراتيجيات التجنيد، والتأطير، والاستقطاب من قبل الجماعات الجهاديّة، التي تقوم دعايتها على كونها تحمل «خلاصا» للمهمشين والراغبين بمغادرة «الهامش» الاجتماعي الذي يحتويهم. وهي تستهدف المناطق المحرومة من التنمية المجتمعية أوتلك التي تعيش خلافات مع الدولة على أسس مناطقيّة. أي تمن دون ضمن جغرافيّة الصراع ستتمدد إلى  الجوار، وسينتشر «الفكر القاعدي» معتمدا في انتشاره على الفوضى، والنزاع الطائفي، وحالة الإحباط العام في أوساط المجتمعات السنيّة.

اذ يلاحظ أن أغلب المنخرطين في قيادات هذه الجماعات أوالمناطق التي ينتشرون بها مرتبطة بالمدة التي شهدت الجهاد الأفغاني

وقد لوحظ أن أغلب هذه الحركات الإرهابيّة تعتمد على هذه الجماعات التي تستعمل العنف المفرط مع الخصوم على أسس مذهبيّة أوتختلف معهم أيديولوجيا أويعارضون لهيمنته وننقل عن كارلا ديل بونتي، عضو لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، بخصوص انتهاك حقوق الإنسان في سوريا، والمدعي العام السابق في المحكمة الجنائيّة الدوليّة، أن عدد المجموعات

(142)

المتطرفة المقاتلة في سوريا في تزايد مستمر، ووصل إلى  700 مجموعة مختلفة.

الأصوليّة العابرة للحدود على الرغم من بعد الخصوصيات إلا إن الصفة الغالبة كونها جماعات تعتمد على تجنيد المقاتلين من جنسيات مختلفة؛ فإن الفكرة القائلة بأن ظاهرة السلفيّة الجهاديّة، في صلب تركيبها وبنيتها الفكريّة والتنظيميّة والتمويليّة، هي ظاهرة «معولمة» عابرة للدول والكيانات الوطنيّة والقوميات ولا تعترف بها، وهي تجتمع على فكرة الإمارة الإسلاميّة أوالخلافة، ومرشحة للظهور في الأماكن التي تكون فيه سلطة الدولة واهنة، وتعاني فراغا سياسيا، وتسود بعض مناطقها الفوضى أوتعاني التهميش والإقصاء والتمييز، خاصة إذا كان على خلفيات طائفيّة، ومذهبيّة.

الأصوليّة تعد الدولة عدوة لها وتعد الصدام معها أمر حتمي فإن «القاعدة» وأخواتها لا تتبلور رسالتها من خلال «خصومة» سياسيّة، وهي لا تريد أن تكون «معارضة» بالمفهوم التقليدي للكلمة، بل هي تريد أعداءا، وكفارا، وأشرارا «تشيطنهم» لتقول إنه لا خلاص منهم إلا بقتلهم والعمل العسكري الذي ينال من قوتهم.

 هيمنة الفقه المتشدد؛ وهو يتعارض مع الواقع المدني في العالم العربي في مجتمعات عرفت بالاعتدال والوسطيّة في طابعها العام، وهي تأنف التطرف، والتشدد، والانغلاق الفكري والاجتماعي، وهذا الأمر يظهر أن فكر التكفير والعنف المسلح هوفكر «أقلوي» في المجتمعات العربيّة، من دون التقليل من خطر هذه القلة على أمن الأفراد والمجتمعات واستقرار الدول وتقدمها.

(143)

فإن هذا لا يعني عدم الاعتراف بأن هذا الفكر إنما يستمد قراءاته للدين وشئون الناس من نصوص دينيّة، وتراث ديني عقيدي وفقهي قد يؤسس للتشدد إذا ما قُرئ قراءة مغلقة، لا تعترف بحركة الحياة وتطورها وتخلط بين الدين والتدين، وبين ما هو اجتماعي في التراث الديني، وما هو متعال على الاجتماع في النصوص المقدّسة، ويمثل روح الدين ومبادئه الأبديّة.

 

(144)

الخاتمة:

إن مفهوم «الأصوليّة Fundamentalism» من المفاهيم الإشكاليّة التي تثير كثيراً من المشاكل المفهوميّة والفلسفيّة معا؛ فهي وليدة إطار ثقافي غربي له موضعاته الثقافيّة تكاد تكون مختلفة بين الغرب، والعالم العربي الإسلامي.

ظهرت أول ما ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكيّة في مطلع القرن العشرين بعد أن تمكّن مجموعة من البروتستانت من طبع اثني عشر مجلداً في الحقبة ما بين (1910-1915 م)بعنوان (أصول شهادة على الحقيقة).

هي اصطلاحٌ سياسي فكري مستحدَث يحاول توصيف سلوكيات متنوعة بوصفها: «تمتلك نظرة متكاملة للحياة بكافّة جوانبها: (السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة)، وهي ناجمة عن قناعة متأصِّلة نابعة عن إيمانٍ بفكرةٍ أومنظومة قناعات، تكون في الغالب تصوراً دينياً أوعقيدةٍ دينيّة».

إن المفهوم يبقى محاولة من قبل الباحثين في توصيف ظاهرة غربيّة دينيّة أورادكاليّة تتسم بالشموليّة كانت في البدايّة تجتهد في توصيف الحركات الدينيّة المسيحيّة في الغرب سواء كانت من الكاثوليك أم البروتستانت. إلا إن المصطلح

(145)

توسع إلى خارج الخطاب الديني في الربط بين نشاطات سياسة تتسم بكونها تحتكر الحقيقة وتمارس العنف الثوري من أجل الوصول إلى غاياتها على الرغم من كونها متعارضة دينيا بين البروتستانت واليهود الصهاينة على الرغم من كون خطابهم علماني؛ إلا إنهم مارسوا تأويل ديني وبين الماركسيّة والرأسماليّة على الرغم من كونهما خطابان شموليان بيد أنهما لا تعدان فرقاً دينيّة.

تصنيف الأصوليّة الدينيّة: فضلاً عن تلك العناصر هناك من الباحثين من يضع تصنيفاّ للأصوليّة الدينيّة بذكره ثلاثة عناصر مشتركة تطبع الأصوليّة وهي: (الشموليّة، والنصوصيّة، والانحياز المطلق). وهذا تم متابعته في اليهودية والمسيحية والإسلام.

الأصولية اليهودية: إن البحث في أحد الخطابات المركزيّة في الدراسات للتوراتيّة أو الإسرائيليّة التي هي بالتأكيد محكومة بعلاقة المعرفة بالقوة التي جاءت مع خطاب الكونياليّة الغربيّة وتوصيفها للتاريخ «انطلاقاً من المركزيّة الغربيّة وقد تجاهلت تلك الدراسات تاريخ فلسطين القديمة وأسكتت هذا الصوت؛ لأن مجال اهتمام هذه الدراسات التوراتيّة يتمثّل في تاريخ إسرائيل القديمة التي تم فهمها وتصورها على إنها منبع الحضارة الغربيّة»

إن البحث في الظاهرة الأصوليّة في الفكر اليهودي تظهر لنا بوصفها ظاهرة أصوليّة ثقافيّة واجتماعيّة.

(146)

إن البحث عن الأصول الارذوذكسيّة في المدوّنة اليهوديّة سواء كانت توراة أم تلمود، سوف يجعلنا نقف عند سلطة النص بكل حمولتها التيولوجييّة وتوظيف مؤسسة الكنيسة منذ بابل إذ تمّ تشكيل جهد الكتاب في سعيهم إلى المحافظة على الهويّة اليهوديّة.

التفسيرات التلموديّة مهمّة في تفسير التوراة وبالآتي فإن الحكيم (التلمودي) له أهميّة، «تفوق أهميّة النبي؛ لأنه هو الذي يفسر رسالة الوحي وهو الذي يدمجها في حياة البشر، ومن دون التأثير الراسخ للفهم التقليدي للكتاب المقدّسة (أي التوراة).

يبدو أن  الأمر لا يتعلق بالفكر القديم ومدى أصوليته؛ لأنّه يبقى ارث مختلف عن الحديث والمعاصر لان الحديث والمعاصر هو بمثابة أيديولوجيا تنتمي إلى الواقع الحديث وهو مختلف عن المتن الأسطوري أو التيولوجي، وهنا تكمن اختلاف الأصوليّة المعاصرة بكل الأرثوذكسيّة، التي هي تحويل الدين من المتن التيولوجي إلى الأيدولوجيا تحمل أهداف سياسيّة واجتماعيّة وهذا جاء مع الحداثة على الرغم من نفي تلك القراءات للحداثة وبخاصة الأرثوذكسيّة الدينيّة. وهنا نرصد بعدين الأول غربي فاعل، والثاني يهودي منفعل.

الظاهرة الأصوليّة خارج هذا المحيط وحاجاته وفضاءه السياسي والفكري وانطلاقا من تلك الحاجات التي تم اختلاقها من قبل الكولونياليّة الغربيّة؛ من اجل أهدافها وغاياتها

(147)

في الهيمنة الغربيّة إذ تعاضدت القوة والمعرفيّة واستثمرت الاستعداد النفسي العدائي لدى اليهود، فتمّ اختلاق تاريخ وثقافة، من أجل مشروع استيطاني

نجده في الأصوليّة اليهوديّة المعاصرة إذ استغلت الصهيونيّة خوف اليهود الأرثوذكس من الذوبان في مجتمعاتهم؛ لتشجيع الهجرة إلى فلسطين التي باتت تضم أكبر تجمع يهودي أرثوذكسي في العالم إذ تقدر نسبة هؤلاء بنحو 40 % من المستوطنين في فلسطين المحتلة.

الأصولية المسيحية: فالهرطقة يقابلها وجود أصوليّة؛ فلكي تكون هناك هرطقة، يجب أن تكون هناك مبادئ إيمانيّة أساسيّة، حقائق موحى بها.

أنّ الديانة المسيحيّة هي التي سوف يقيض لها أن توضح مفهوم المبدأ الإيماني (الدوغما الأصوليّة) والهرطقة، علماً بأن هذه الأخيرة سوف تتبدل بشكل محسوس على وفق المكان والزمان.

يظهر كما هي متجذرة الأصوليّة في اليهوديّة في التلمود والتي أثارت ردود فعل عنيفة أشد أصوليّة من المسيحيّة؛ فالحرب الأصوليّة المسيحيّة كانت تأخذ بعدين الأول: في الداخل مع الهرطقة المسيحيين، والثانيّة مع الخارج ضد اليهود والمسلمين.

أولاً: صراع الكنيسة مع النزعة الإنسانيّة: التي كانت تمثِل

(148)

مجموعة من الفلاسفة والأدباء، كانوا يرون من الضرورة الدفاع عن ماهيّة الإنسان المتمثِلة في الصفات التي يتميز بها النوع الإنساني.

ثانياً: أما الجانب الآخر من صراعات الكنيسة فقد كانت مع العلماء.

ثالثاً: إرهاب أهل الإصلاح الديني: يُستفادُ مما سبق أنَّ الكنيسة حاصرت العقول الحرّة وحاولت جاهدةً أن تحجر عليها وإنها لم تعترف بالحريّة الفكريّة.

تعد الأصوليّة المسيحيّة عنصراً أساسياً في التاريخ (الديني والاجتماعي والسياسي الغربي) إذ انتعش في البيئات البروتستانتيّة، وبلغ ذروته في القرن التاسع عشر مع بداية التوسع الاستعماري والإمبريالي، وقد كان مركزها في البداية أوربا؛ لكنها انتقلت إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة لاحقا، وأصبحت نصيرة الى الحركة الصهيونيّة العالميّة

الأصولية الإسلامية: هناك تصنيفات معاصرة تحاول التأكيد على فرضيتين لكل منهما آفاقها:

أما الفرضيّة الأولى: فهي إن خطاب الأصول بكل أنغلاق هو خطاب منبعه التراث الإسلامي حصرا؛ فتحاول هذه الفرضيّة أن ترجع كل التعصب إلى أحداث ونصوص موجودة في التاريخ الإسلامي والنصوص المقدّسة وهذه الفرضية فيها موقفان:

الأول علماني يحاول نقد الفكر الإسلامي ويعمل على

(149)

تأصيله أنه ينتمي إلى التراث ومن هنا يطالب بإعادة قراءة التراث وتأويل النصوص بما يتفق مع الراهن وعلى هذا الأساس هناك قراءة متنوعة للتراث الإسلامي ذات توجه نقدي علماني، وهذه القراءة لها مستويات منها استشراقيّة، وأخرى عربيّة تحاول كشف المسكوت عنه في فهم التراث والأمر ليس مرتبط بالإسلام؛ فهناك قراءات علمانيّة تناولت الفكر اليهودي إذ يرجع أحد الباحثين العلمانيين عودة الأصوليّة من اليهود من خلال تراجع الفكر التنويري مما منح (العالم الأرثوذكسي الذي كان مهمشاً لمدة طويلة قد ازداد عددياً، وأصبح ذا تأثير لم يسبق له مثيل في صفوف اليهوديّة الحديثة) وعلى هذا الأساس يبدو أن الأصولية على وفق هذه الفرضيّة هي ظاهرة معاصرة لا تهدم الجذور التراثيّة إذ تقوم على تقديم النقل والنص على العقل وهي موجود في التراث العالمي ومنها الإسلام؛ فالسلفيّة: هي منهج إسلامي يدعو إلى فهم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وهم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بعده يمثل نهج الإسلام الأصيل والتمسك بأخذ الأحكام من القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة ويبتعد عن كل المدخلات الغريبة عن روح الإسلام وتعاليمه، والتمسك بما نقل عن السلف. وهي تمثل في إحدى جوانبها إحدى التيارات الإسلاميّة العقائديّة في مقابلة الفرق الإسلاميّة الأخرى.

- الأصوليّة الإسلاميّة فهي الأخرى ترفض أي توصيف لها كونها مستقلة عن التراث؛ فهي ترفض أي تواصل لها مع

(150)

الفكر الغربي لهذا نجدها تدعي أنها تمثل العودة إلى التراث الإسلامي الصافي بعدما تقوم بإخراج جزء كبير منه من التيارات: الفلسفيّة، والصوفيّة، والمذاهب المختلف معها مع اتهامها الغالبيّة من طائفتها والذي يختلفون معها في المذهب الفقهي والكلامي فتصفهم بالانحراف عن جادة الصواب، وهذا نجده في الفكر السلفي وعند الشيخ ابن تيميّة وامتداداته في السلفيّة الجهاديّة، وصولا إلي تنظيم القاعدة وداعش، فهذه البلاغة القديمة تجذرت في كل الخطابات التي تناسلت بين الإخوان من الوهابيّة والإخوان المسلمين، إذ جاء فكر ابن لادن الذي أعاد ترديد هذه البلاغة على نحو يعيد إلى الذاكرة أصداء زمن كانت الأمة فيه تزداد قوة ونفوذا.

ـ يرى بعض المراقبين الغربيين، بما في ذلك صانعي السياسة، أن الأصوليّة الإسلاميّة الإيديولوجيّة والسياسيّة حركة أكثر خطرا من الشيوعيّة بعد أنهيار الاتحاد السوفياتي.

(151)
المؤلف في سطور ا.د.عامر عبد زيد كاظم الوائلي ، أستاذ الفلسفة ، جامعة الكوفة ، العراق . الاصدارات : الكتب الصادرة للباحث 12 كتابا فرديا : 1- كتاب اثر ابن سينا على الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط ، دار العارف ، بيروت 2010 . 2- المخيال السياسي في العراق القديم ، دار ينابيع ، دمشق ، 2010 . 3- من أجل أخلاقيات التسامح في ظل ثقافة اللاعنف ، بيت الحكمة ، بغداد ، 2010 . 4- نقد العقل العربي عند محمد عابد الجابري ، مكتبة مدبولي ، ط 1 ، القاهرة ، 2014 . 5- قراءات في الخطاب الهرمنيوطيقي ، دار ابن النديم ، ط 1 ، بيروت 2012 . 6- مهيمنات السلطة واثرها في تشكيل الوعي الغربي ، دارنيبور ، ط 1 القادسية ، 2014 . 7- الفكر السياسي في بلاد ما بين النهرين ، الشركة العربية المتحدة ، ط 1 ، القاهرة 2016 . 8- مقاربات في الديني والسياسي ، مركز التفكير الحر ، ط 1 ، بيروت ، 2014 . 9- الحداثة ومأزقها في خطاب مدرسة فرانكفورت ، دارتموز ، ط 1 ، دمشق ، 2013 . 10- نظرية المعرفة ، دارتموز ، ط 1 ، دمشق ، 2016 . 11- الأدب الفلسفي ، دار تموز ، ط 1 ، دمشق ، 2016 . 12- تجليات العقلانية ، دار ابن النديم ، ط 1 ، بيروت ، 2016 .
هذا الكتاب الأصولية ترصد هذه الحلقة في (سلسلة مصطلحات معاصرة) كلمة الأصولية وهي واحدة من أبرز الكلمات التي تحولت إلى مفهوم شاع خلال العقود المنصرمة وأخذ مساحة واسعة من التداول على مستوى العالم الإسلامي والعالم . تدخل الأصولية fundamentalism ضمن المفاهيم الأكثر التباسا وإثارة في حقل الفكر السياسي والاجتماعي ، ومع أنها قديمة العهد في الأدبيات الفكرية والمعرفية أنها تكتسب دلالات مختلفة ومتفاوته في ميدان الاستخدام سواء في العالم العربي الإسلامي وفي الثقافة السياسية الغربية . المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف