ـ الفصل الأول: أصل المصطلح ومعناه | 9
ـ الفصل الثاني: الشوفينيّة ومفاهيمها الفرعية | 17
ـ الفصل الثالث: الشوفينيّة في فضائها العربي | 43
ـ الفصل الرابع: الشوفينيّة في فضائها الغربي | 49
ـ الفصل الخامس: الشوفينيّة في النظرية والتطبيق | 55
ـ الفصل السادس: شخصيّات شوفينيّة | 79
ـ مقدمة المركز7
ـ الفصل الأول: أصل المصطلح ومعناه9
ـ مدخل10
ـ الفصل الثاني: الشوفينيّة ومفاهيمها الفرعية17
ـ الفصل الثالث: الشوفينيّة في فضائها العربي43
ـ الفصل الرابع: الشوفينيّة في فضائها الغربي49
ـ الفصل الخامس: الشوفينيّة في النظرية والتطبيق55
ـ الفصل السادس: شخصيّات شوفينيّة79
ـ شخصيّات شوفينيّة:80
ـ الفصل السابع: الشوفينيّة في ميزان الإسلام93
مراجع البحث:106
تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.
وسعياً إلى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.
أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحوالتالي:
أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.
ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أويجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.
(7)ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.
رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.
***
تسعى هذه الحلقة في "سلسلة مصطلحات معاصرة" إلى تأصيل مصطلح الشوفينيّة في نشأته وتطوراته المعرفية والاختبارات التاريخية التي شهدتها أوروبا في خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
كما تُجيب هذه الدراسة على جملة من الأسئلة تتعلق بماهية الدولة الشوفينيّة والظروف التي أدت إلى نشوئها وكيفية تشكل أبنيتها الفلسفية والسياسية والحقوقية، وكذلك بيان وظائفها وأنواعها تبعاً لما اختبرته الحضارة المعاصرة بتنوعاتها القومية والوطنية والأيديولوجية المختلفة.
والله ولي التوفيق
(8)
أولاً المعنى اللغويّ: شاف الشيء صقله وزيّنه. وشاف الجمل بالقطران طلاه، وشاف يشوف شوفاً فهو شائف. وشاف الرجل أي صعد إلى مكانٍ عالٍ ونظر. وشوّف الجارية أي زيّنها، وشوّف شاف الشيء جلاه، ودينار مشوف مجلوّ، وتشوّف للشيء أي تطلّع( ). والشوف مصدر شاف، وكذلك هي آله تُشوَى بها الأرض المحروثة وهي عبارة عن كتلة من الخشب يركبها رجل ويجرها ثور. من معاني كلمة شوفينيّة في المعجم العربيّ أيضاً:
أنّها إفراط في الوطنيّة ينتهي إلى معاداة الدول والثقافات الأخرى. وتستعمل الكلمة بمعنى سلبيّ، فقد يدعو رجل سياسيّ إلى سياسة خارجيّة شوفينيّة.
2- وهي وطنيّة مفرطة وعدوانيّة لا تستند إلى منطق معيّن، وتعني أيضاً موقفًا محتقراً تجاه جنس أو أمّة أو ذكر أو أنثى وهذه هي حال شوفينيّة الرجال تجاه النساء(
).ثانياً المعنى الاصطلاحيّ: الشوفينيّة هي الاعتقاد المغالي في الوطنيّة، وتعبّر عن غياب رزانة العقل والاستحكام في التحزّب لمجموعة ينتمي إليها الشخص والتفاني في التحيّز لها، وخاصّة عندما يقترن الاعتقاد أو التحزّب بالحطّ من شأن جماعات نظيرة والتحامل عليها، وتفيد أيضاً معنى التعصّب الأعمى. أمّا الكلمة الانجليزيّة (Chauvinism) في مدلولها الأصليّ فهي تحمل معنى الوطنيّة المفرطة الغيورة والعدائيّة، والإعجاب الحصريّ لدى الشخص بوطنه والحميّة العمياء للمجد العسكريّ، والاعتقاد المتحمّس بأنّ وطنه هو أفضل الأوطان وأمّته فوق كلّ الأمم. وينسب لفظ الشوفينيّة إلى جنديّ فرنسيّ اسمه (نيقولا شوفان) كان شديد الغيرة على فرنسا، ومتفانياً في القتال في جيش الجمهوريّة مع نابليون في حروبه، دونما التفات أو شكّ بحصافته، أو مساءلة لجدارة قضيته ( ).
كما يقصد بها أيضاً الإشارة إلى التفاني الأعمى للجنديّ المتحمّس والمتزمّت بعنجهيّة برأيه بقضية ما. ولقد أشاع التسمية مسرحية هزليّة للإخوان (كونيار) اسمها بالفرنسيّة (La cocarde tricolored) أي الشريط ذو الألوان الثلاثة، وفيها دور نيقولا شوفان مفعم بالوطنيّة المفرطة، وبالتبعيّة أضحى المصطلح في الوقت الحاضر له دلالات تتضمّن التحيّز المفرط اللاعقلانيّ للجماعة
التي ينتمي إليها الشخص، وخاصّة عندما يتضمّن التحزّب والحقد والكراهية تجاه الجماعات المنافسة مثل الشوفينيّة الدينيّة.
ثالثاً نشأة الشوفينيّة وميلادها: يبدأ الموضوع في القرن الثامن عشر عندما كان (Nicolas Chauvin) في القرن الثامن عشر جنديّ في جيش نابليون بونابرت، وبالرغم من إصاباته الكثيرة والمتعدّدة والتشوّهات التي حدثت له في المعارك والحروب التي كانت بسبب أطماع النظام، إلّا أنّه كان مدافعاً شرساً عن نابليون ونظامه، وكان أيّ شخص يعارض الجمهوريّة الفرنسيّة آنذاك كان نيقولا يهاجمه ويتطاول عليه بدون أيّ منطق. ومن هنا اتّسمت ظاهرة العنجهيّة والدفاع غير العقلانيّ عن أيّ نظام أو فكرة مع تحقير أيّ رأي مختلف تُسمّى شوفينيّة، ومن هنا ظهرت المغالاة في الوطنيّة والحماسة والدفاع عن الأفكار بصورة لاعقلانيّة( ).
رابعاً الأسباب النفسيّة للشوفينيّة: سؤال هامّ يُطرَح بقوة ما الذي يدفع إنساناً ليس مستفيداً من نظام، بل إنّه قد يكون مُتضرّراً منه ويلحقه بسببه أذى كبير، ما الذي يجعله يدافع عن هذا النظام باستماتة وعصبيّة؟ ما الذي يجعله شخصاً يتفاخر بتحقيره للآخر ويتطرّف في الاحتقار لمجرّد الاختلاف؟ ما الذي صنع نيقولا شوفان؟ والإجابة عن ذلك نتلقاها ويجيب عنها عالم النفس الأخلاقيّ (Jonathan Haidt) يشرح أسباب وجود أشخاص مصابين بالشوفينيّة، أو كما يدّعون هم (الوطنية المفرطة). يقول إنّ الموضوع أصله لما اختبر أو أحسّ الإنسان ولأول مرّة في حياته مفهوم الخطر، لما أحسّ أنّه
محتاج لكيان ينضمّ إليه لكي يشعر بالأمان، وجد هذا الكيان في جماعة ساكنة بجواره ولها أهدافه نفسها وكونوا الوطن، وطن له بعد حضاريّ وثقافيّ وجغرافيّ. ومع بداية خلق الانتماء لمجموعة الوطن هذه تزرع بداخله مفاهيم الولاء والخيانة، التي تترجم داخله إلى ولاء يعني شعوره بمجموعة عريقة تحتضنه وتُشعرهُ بالأمان والفخر. والخطورة تظهر وتتّضح عندما يصبح الانتماء للمجموعة هذه في المطلق مجرّد التفكير في الانفصال عن آراء المجموعة أو حتّى الاختلاف بسبب الاضطراب. فوطني أفضل وطن بالعنجهيّة والصوت العالي. ويعتقد (جوناثان هادت) أنّ نيقولا شوفان لم يكن يتخيّل أنّه بحبّه المفرط لجيش نابليون بونابرت أنّه يفعل شيئاً خطأً، بل على عكس ذلك كان يتخيّل أنّه بحبّه المفرط لجيش نابليون أنّه من يعارض هذا هو المخطئ، مشكلته أنّه لا يرى إلّا ما يريد أن يراه، ولا يسمع إلّا ما يريد أن يسمعه، مشكلته أنّه شخص أعمى().
ويؤكّد أيضاً علماء النفس السياسيّ أنّ الشوفينيّة هي نوع من التكتيك الدفاعيّ يلجأ إليه الفرد غير المؤهّل نفسياً لأن يقيم علاقات سويّة متكافئة مع الآخرين بصفة عامّة أو مع جماعة محدّدة منهم. ومن ثمّ فهو يخفي عدم قدرته على التفاعل والاندماج وراء ادعاءات بالكراهية للآخرين بشكل عامّ ولأعضاء جماعة محدّدة وذلك حتّى يحمي عجزه من الافتضاح، فهو يقنع نفسه بأنّ العالم بناء قائم على علاقات غير متساوية لا يمكن تجاهلها أو تغييرها. ومن ثمّ يرى كثير من المنظّرين السياسيّين أنّ العديد من الأشكال العنصريّة
(13)هي أيضاً أشكال من الشوفينيّة، ويؤكّد هؤلاء وجهة نظرهم قائلين إنّ الشوفينيّة عادة توجد بين طبقات المجتمع التي يمثّل الأجانب تهديداً آنياً لمصالحها، فيكون صراع المصالح هو السبب المباشر في ظهور مشاعر الشوفينيّة بين المواطنين وتصل الكراهية للأجانب إلى حدّ العنف لنجد أنفسنا أمام ظاهرة الشوفينيّة. وبالتالي فإنَّ مشاعر الشوفينيّة عادة تنعدم في المجتمع نفسه بين الطبقات التي لا يمثّل الأجانب تهديداً آنياً لمصالحها(
).خامساً صفات الشوفينيّة وخصائصها وسماتها: للشوفينيّة خصائص وسمات متعدّدة ومتنوّعة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: 1- من عادة الشوفيّنين أنّهم يتعمّقون في دراسة تاريخ بلادهم وشعوبهم وبالتالي فإنّ تغنيهم بسيادة أمّتهم أو رسالتها الخالدة أو كونها أمّة مختارة من قبل الله وما إلى ذلك من الأفكار التي تكون قائمة على الاستناد إلى مجموعة من التفسيرات والشواهد التاريخيّة أو الثقافيّة، كما أنّهم يدرسون تاريخ الأمم الاخرى وثقافتها التي يقلّلون من شأنها للبحث عن أسانيد تاريخيّة وثقافيّة تدعم توجّهاتهم الشوفينيّة.
2- من سمات الشوفينيّة أيضاً المبالغة في تطهير الذات الثقافيّة وتنقيتها من العيوب والخطايا.
3- احتقار الآخرين وهذا يتّضح في تجاهل آراء الآخرين وتهميش وجهة نظرهم وأحيانا عدم الاعتراف بوجود الأخرى ن.
4- التحيّز الفجّ شيء طبيعيّ في الشوفينيّ.
5- إنكار على الأمم الاخرى الحقوق والتطلّعات التي يعتبرونها شرعيّة لشعوبهم، كلّ هذا يؤدّي في نهاية المطاف إلى تبنّي المفاهيم العنصريّة والتمييز العنصري(
).سادساً أنواع الشوفينيّة: تنقسم الشوفينيّة إلى عدّة أقسام وأنواع منها: 1-الشوفينيّة الذكوريّة وترى أنّ الذكور جنس أرقى من الإناث، وظهر مصطلح الشوفينيّة الذكوريّة في الستينيّات على يد الحركة النسويّة التي استخدمته لمحاربة الرجال الذين يضطهدون النساء على أساس أنهنّ أقلّ مرتبة من الذكور، بخاصّةٍ الآباء الذين يعتبرون البنات الصغار أطفالاً من الدرجة الثانية، وأنّ إنجاب البنات يجلب العار، وهي الأفكار التي ما زالت سائدة في الكثير من الأماكن الريفيّة.
2-الشوفينيّة الأنثويّة: هي الانتصار للمرأة على حساب الرجل أي مناصرة حقوق المرأة، ويرى الكثيرون أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة وبسبب الحركة النسويّة قد تحوّلت إلى دولة شوفينيّة أنثويّة، بسبب المزايا والحقوق الهائلة التي تحصل عليها.
3-الشوفينيّة الجديدة: هو تيار معاصر ينسب إلى الشوفينيّة ويسير على الخط نفسه والنهج الشوفينيّ في التعصّب والمغالاة في الوطنيّة واحتقار الآخر. وحملة راية الشوفينيّة في الوقت المعاصر يتشكّلون من الجهلة والأميّين فهم إمّا أنّهم لا يقرأون وإمّا يقرأون
ولا يفهمون، ويعاني هؤلاء الإحباط الشديد. ومن أهمّ الصفات التي تميّز الشيفونيّ الجديد أي الذي ينتمي إلى تيار الشوفينيّة الجديدة هو الجهل والتخفّي تحت الأسماء المستعارة أو نشر مقالات وقصائد دعم وتأييد لنفسه. كما يتّصف الشيفونيّ المعاصر بأخلاقيّات مقارعة الحجّة بالشتائم والمكاشفة بالتخفّي والشفافيّة بالضبابيّة، والشجاعة الأدبيّة بالجبن. ويحاول هذا الشيفونيّ الجديد أحياناً تمثيل صفة العالم والباحث ولكن دون فائدة، لأنّه مغرور ويزعم امتلاك الحقيقة، وكذلك من صفاته الكذب والكذب حتّى النهاية.
4- شوفينيّة العسكر الوطنيّة: هؤلاء لم يجعلوا من أنفسهم منتسبين للوطنيّة، بل جعلوا من أنفسهم الوطنيّة ذاتها، فهم الوطن والوطنيّة مجسّدة في الواقع وموالاتهم موالاة للوطن، ومعارضتهم خيانة له، وما يتّخذونه من قرارات هو مصلحة الوطن(
).
الشوفينيّة والشعوبيّة: بداية نشير إلى أنّ علاقة الشوفينيّة بالشعوبيّة هي علاقة وثيقة وتربط بينهما صلات حميمة وواضحة وأواصر روابط لا تنفكّ ولا تنفصم. كما أنّ بينهم الكثير من القواسم المشتركة التي لا يستطيع أحد أن يغفلها، والتي تصبّ في النهاية إلى معنى المغالاة في حبّ الوطن والتعصّب والتحيّز لجماعة من الجماعات أو أمّة من الأمم أو جنس من الأجناس أو لقوميّة من القوميّات أو لفكرة من الأفكار. أمّا إذا ألقينا الضوء على مصطلح (الشعوبيّة) وأردنا أن نتعرّف إليه بصورة دقيقة، فسوف نرى أنّ هذا المصطلح من الناحية التاريخيّة شاع وانتشر في العصريين الأمويّ والعباسيّ، وكان يراد به أبناء القوميّات غير العربيّة ومن أيّدهم من العرب في المطالب السياسيّة والاقتصاديّة، بمعنى التعصّب لجنس معيّن غير العرب والتحيّز لهذا الجنس على حساب الجنس العربيّ. أمّا اعتماد هذا المصطلح في الخطاب العروبيّ الشوفينيّ فإنّه سينطوي على مفارقة كبرى تثبت مدى تخلف رموز هذا الخطاب وجهلهم. وإذا أردنا تعريف دقيق للشعوبيّة فإنّها تمثّل صراع الشعوبيّة المغلوبة ضدّ التسلّط الأمويّ والعباسيّ. فالشعوبيّة هي صراع شعبيّ في المرحلة الأولى ومنافسة أرستقراطيّة في المرحلة الثانية، والشعوبيّة بوجه عامّ تحمل في طيّاتها العنصريّة الشوفينيّة( ).
أمّا إذا رجعنا إلى تاريخ مصطلح الشعوبيّة فإنّه كان يعني في البدء التسوية بمعنى أفضليّة قوم على قوم آخرين، لذا كانت فكرة التسوية غطاءً سياسياً وعقائديّاً للشعوبيّة. والشعوبيّة حين طالبت بالمساواة كانت ضدّ التسلّط، كانت حركة جماهيريّة أعجميّة، وحين احتقرت العرب أصبحت حركة مرتبطة بالعجم. ويجب أن نشير هنا ونحن في سياق الحديث عن الشعوبيّة إلى أنّها حركة ظهرت بوادرها في العصر الأمويّ، إلّا أنّها أصبحت واضحة للعيان وبقوة في بدايات العصر العباسيّ. ومن أهمّ من منطلقات الشعوبيّة في فكرها أنّه لا فضل للعرب على غيرهم من العجم، إلّا أنّهم في الوقت نفسه يتعصّبون للعجم والموالي. ومن أسباب هذه النزعة الشعوبيّة أنّ الفرس كانوا يرون أنّهم أكثر تحضّراً من العرب وأكثر مدنيّة منهم، لذا شعروا بالاستعلاء بعمق نزعة التعصّب لديهم. ومن هنا نرى أنّها هي أفكار وطبيعة الشوفينيّة نفسها، من التعصّب لجنس على حساب جنس أو أمّة على حساب أمّة أو عرف على حساب عرف.(
)إذن يتّضح لنا أنّ هناك صلة وثيقة وعلاقة حميمة بين الشوفينيّة والشعوبيّة كالمغالاة والتعصّب لجنس معيّن أو أمّة معيّنة، وهذا واضح جليّ في تعصّب الشعوبيّة للعجم على حساب العرب، بل التطرّف في ذلك من خلال محاولة تحطيم كلّ ما هو عربيّ من أجل تحطيم وهدم الإسلام في نهاية المطاف. إذن كلّ من الشوفينيّة والشعوبيّة يسيران في الاتجاه نفسه وينتهجان المنهج نفسه من
المغالاة في الوطنيّة وتفضيل جنس على آخر والتعصّب المقيت لتلك الأفكار التي تهمّش الآخر.
الشوفينيّة والتعصّب: إنّ الإسراف في المشاعر الوطنيّة إلى درجة التعصّب واعتبار الوطن الذي ينتمي إليه الشخص المتعصّب هو الأفضل مقارنة بغيره من البلدان، وعادة تصاحب هذه النزعة المتطرّفة مشاعر الكراهية والازدراء للشعوب الاخرى. ويجب أن نشير إلى أنّ المعنى الشائع للشوفينيّة يقترن عادة بمغزىً سلبيّ حيث تتجاوز الوطنيّة مرحلة الاعتدال وتقع في دائرة التعصّب المرذولة، ولعلّ النموذج الأكثر أهميّة في هذا التوجّه هو ما نجده في النازيّة الألمانيّة التي تمثّل قمّة التعصّب الشوفينيّ. أمّا إذا أردنا أن نلقي الضوء على معنى التعصّب لنرى العلاقة والارتباط بينه وبين الشوفينيّة. التعصّب يعني عدم قبول الحقّ عند ظهور الدليل بناء على ميل إلى جانب. والتعصّب يمثّل ظاهرة قديمة حديثة في الوقت نفسه، وترتبط بها العديد من المفاهيم كالتمييز العنصريّ والدينيّ والطائفيّ والجنسيّ والطبقيّ. وهي المفاهيم والمنطلقات نفسها التي تنطلق منها الشوفينيّة وتؤكّدها، وتبرزها وترفع رايتها. والتعصّب أيضاً هو شعور داخليّ يجعل الإنسان يتشدّد فيرى نفسه دائماً على حقّ ويرى الآخرين على باطل بلا حجّة أو برهان. ويظهر هذا الشعور في صورة ممارسات ومواقف متزمّتة ينطوي عليها احتقار الأخر وعدم الاعتراف بحقوقه الإنسانيّة.( )
من هنا نجد صلة وثيقة بين التعصّب والشوفينيّة من حيث المنطلقات وهي التعصّب لرأي معيّن والميل إليه والدفاع عنه بل المغالاة في التعصّب لهذا الرأي. والتعصّب أنواع عديدة منها:1- التعصّب الدينيّ أو الطائفيّ ويقصد به التحيّز والتحزّب لدين أو معتقد بعينه أو طائفة بعينها تحيّزاً أعمى، مع رفض كلّ ما سواه مثلما فعل الكفّار حين اعتنقوا الوثنيّة ديناً.
التعصّب العرقيّ أو القوميّ أو القبليّ: وهو التعصّب على أساس النوع البشريّ سواء اختلفت الألوان أو اتّفقت.
التعصّب الفكريّ: وهو التفكير دائماً بصفة أُحاديّة مع إلغاء الرأي الآخر ورفض تقبّله أو نقاشه.
التعصّب للنوع الاجتماعيّ كتعصّب النساء للنساء والرجال للرجال.(
)الشوفينيّة والانتماء: الانتماء هو الانتساب إلى شيء ما، فهو يمثّل الارتباط الحقيقيّ والاتّصال المباشر بأمر معيّن تختلف طبيعته بناء على الطريقة التي يتعامل بها الفرد معه. ونشير إلى أنّ للانتماء أنواعا كثيرة ومتعدّدة من أهمّها الانتماء للوطن، فعندما يحافظ الإنسان على انتمائه لوطنه وأرضه يتمكّن من تحقيق الانتماء بأوسع معانيه.( )
من هنا نرى أنّ الانتماء في معناه العامّ هو علاقة شخصيّة إيجابيّة وحميمة في بعض الأحيان. ولقد ارتبط الإنسان منذ وجودة بشيئين الزمان والمكان، فالإنسان منذ وجوده مرتبط بالمكان. وكذلك يمثّل الانتماء تعلّق الإنسان بوطنه وأسرته ومجتمعه. كذلك يمثّل الانتماء الارتفاع بالشيء والاعتزاز والفخر به. والانتماء إلى الوطن من الثوابت التي ليس فيها مراء أو جدال أو شك.(
)من هنا تتّضح لنا تلك العلاقة الوثيقة والصلة الحميمة بين مصطلح الشوفينيّة ومصطلح الانتماء، لأنّ المنطلقات واحدة وهي حبّ الوطن والدفاع عنه والانتماء إليه. لكن أحياناً يكون الانتماء متجاوزاً ومفرطاً فيه بمعنى التعصّب للوطن والمبالغة في هذا التعصّب، هنا يتحوّل الانتماء إلى شوفينيّة بغيضة. لذا لا بد من عدم تجاوز الحدّ في الانتماء للأوطان، وتهميش الأخرى أو التعصّب للجماعة التي ينتمي إليها الشخص مع عدم الاعتراف بالآخرين وحقوقهم. الانتماء صفة جميلة لكن في حدود الاعتدال وإلّا تحولّت إلى شوفينيّة.
الشوفينيّة والوطنيّة: إذا أردنا أن نعرف الوطنيّة في أبسط تعريف لها لكي تتّضح تلك العلاقة بينها وبين الشوفينيّة، فهي تعني الفخر القوميّ، والتعلّق العاطفيّ بأمّة يعترف بها الفرد وطناً له. والوطنيّ هو من يحبّ بلاده، ويدعم سلطتها ويصون مصالحها، ويمكن النظر إلى هذا الارتباط بين الشوفينيّة والوطنيّة من خلال العلامات المميّزة للأمّة والتي قد تتضمن جوانب أثنيّة وثقافيّة وسياسيّة تاريخيّة. وتنبع
المشاعر الوطنيّة من حسّ الارتباط والانتماء والتضامن والالتزام، كما أنها تتضمّن مجموعة من مفاهيم ومدارك ترتبط بحبّ الوطن.(
)كما أنّ الوطنيّة تمثّل مفهوماً أخلاقياً وأحد أوجه الإيثار لدفعها المواطنين إلى التضحية براحتهم، وربّما بحياتهم من أجل بلادهم. ولقد وصفها هيجل بالمشاعر السياسيّة، واعتبر تضحية المرء بفرديّته لمصلحة الدولة أعظم اختبار للوطنيّة. ويجب أن نشير إلى حقيقة هامّة وهي أنّ الوطنيّة قد اقترنت بالحركات القوميّة اليمينيّة أكثر من اليسار. فالوطنيّة هي شعور بالانتماء والتفاني وتقدّم للمواطنين غرضاً حياتياً يرتكز عليه النظام، وبرغم عالميّة اعتبار الوطنيّة فضيلة ضروريّة، فإنّه قد تعدّدت مظاهر معاداة الوطنيّة والحجج التي قد تتّخذ أشكالاً متطرّفة مثل الشوفينيّة.(
)إذن يتّضح لنا من تعريف الوطنيّة أنّها مرتبطة بالشوفينيّة في الانطلاق من حبّ الوطن والدفاع عنه والولاء له وحماية مصالحه. لكن يمكن أن تتحوّل الوطنيّة إلى شوفينيّة بغيضة لو تجاوزت حدود الاعتدال والتوسّط، لأنه يجب ألّا تكون الوطنيّة متجاوزة للإفراط في حبّ الوطن على حساب الأوطان الأخرى. ويمكن بناءً على ذلك أن نميّز بداخل الوطنيّة نوعين أساسين: 1-الوطنيّة السلطويّة وهذه تتّفق تماماً مع الشوفينيّة بل هي صورة طبق الأصل عن الشوفينيّة، لأنّها تروّج أنّ البلد بطبيعته ولذاته قبل أيّ شيء آخر متفوّق على البلدان الأخرى، ويتوقّع من المواطنين الولاء الكامل غير المشكوك فيه.
الوطنيّة الديمقراطيّة: تتميّز باعتقاد مواطنيها أنّ القيم والمثل العليا للبلد جديرة بالاحترام والإعجاب، وبذلك يكون الولاء للقيم المؤسّسة للديمقراطيّة، واهتمامها نابع من مبادئ مثل الحريّة والعدالة(
). بناءً على ما سبق نرى أنّ الوطنيّة ترتبط بالشوفينيّة بعلاقة وثيقة لأنّهما ينطلقان من حبّ الوطن والانتماء والإخلاص له، بل أحياناً ينحيان منحى أبعد وهو التعصّب للانتماء للوطن.الشوفينيّة والمواطنة: بداية هناك صلات ووثيقة وحميمة بين مصطلح الشوفينيّة والمواطنة، تنطلق هذه الصلات والروابط من حبّ الوطن والتضحية من أجله. بل أحياناً تقديسه وتهميش الأوطان الأخرى وعدم الاعتراف بحقوق مواطنيها. لذا من الضروريّ ونحن نلقي الضوء على تلك العلاقة بين الشوفينيّة والمواطنة، أن نعرف مفهوم المواطنة وأهمّ منطلقاتها. فالمواطنة لغة مأخوذة من الوطن: المنزل الذي نقيم به، وهو موطن الإنسان ومحلّه. وطن يطن وطناً، هو إقامة الإنسان ولد فيه أم لم يولد.(
)أمّا المعنى الاصطلاحيّ للمواطنة فهو التزامات متبادلة بين الأشخاص والدولة، فالشخص يحصل على حقوق مدنيّة وسياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة نتيجة انتمائه لمجتمع معيّن وعليه في الوقت نفسه واجبات يتحتّم عليه أداؤها.(
)ويتجلّى البعد السياسيّ للمواطنة في مدى إحساس الفرد بانتمائه إلى الوطن كجسم سياسيّ يتمثّل في مؤسّسات الدولة والأحزاب والنقابات والجمعيّات، وأفكار حول الشأن العامّ ومدى سعي الفرد للتأثير فيه عن طريق الولاء أو المعارضة. ويهتّم البعد الثقافيّ بما يوفّره الوطن من إحساس بالانتماء إلى جماعة تتمثّل في الهويّة وتتجسّد هذه الهويّة فيما يجمع الفرد مع غيره.(
)من هنا نجد أنّ المنطلقات الفكريّة مشتركة بين الشوفينيّة والمواطنة، ولكن مع الفارق أنّ الشوفينيّ يغالي في حبّ وطنه أو عرقه أو مذهبه، كذلك نظرته الاستعلائيّة التي تزدري الآخر والأنا المتضخّمة التي تعتقد بالأفضليّة وامتلاك الحقيقة، لتجلب هذه المغالاة الكراهيّة والعدوانيّة تجاه الأجنبيّ أو الغريب أو أيّ شخص آخر. لذا يعتقد الشوفينيّ بوجوب نشر رسالته السامية للعالم، بل فرضها في أحيان كثيرة. لذا برزت الشوفينيّة بشكل واضح وجليّ في النصف الأول من القرن العشرين مع صعود فاشيّة موسوليني ونازيّة هتلر اللذين تعصّبا لجنسهما وأصلهما. وحاولت النازيّة والفاشيّة فرض هذه القيم على العالم، واستعباد الشعوب واستقطابها لفكرهما. لذا ظهرت قيم المواطنة وتجذّرها في ضمير الشعوب التي وقفت في وجه الفاشيّة والنازيّة. فالمواطنة وقيمها المعتدلة والرزينة تعارض الشوفينيّة على طول الخطّ. أمّا إذا كان هناك مغالاة وتطرّف في الوطنيّة أي حبّ الوطن وتقديسه إلى حدّ التعصّب، هنا فقط سوف تتحوّل
المواطنة إلى شوفينيّة بغيضة وممقوتة، بل تصل إلى حدّ الاستعلاء على الشعوب والأوطان والأمم الأخرى، هنا فقط ترفض هذه المواطنة لأنّها تحوّلت إلى شوفينيّة. لأنّ الأصل في المواطنة المساواة في الحقوق والواجبات، والاعتدال في حبّ الوطن.
الشوفينيّة والعنصريّة: من خلال تعريف العنصريّة ومنطلقاتها الفكريّة سوف نجد وشائج قرب وصلات كبيرة بينها وبين مصطلح الشوفينيّة. فكلاهما يعتمد على التعصّب لجنس على حساب آخر أو لقوميّة على حساب آخرى أو لمذهب على حساب مذهب آخر. وهذا يتّضح بجلاء من خلال تعريف العنصريّة وهي مذهب قائم على التفرقة بين البشر بحسب أصولهم الجنسيّة ولونهم. وهي مصدر صناعيّ من عنصر أي مذهب يفرّق بين الأجناس والشعوب بحسب أصولها وألوانها ويترتّب على هذه التفرقة حقوقاً ومزايا، بمعنى أنّ العنصريّة في جوهرها تمثّل مذهب المتعصّبين لعنصرهم أو أصلهم العرقيّ( ). من هذا التعريف للعنصريّة نجد العلاقة الوطيدة بينها وبين الشوفينيّة من التعصّب لجنس على حساب جنس آخر أو أمّة على حساب أمّة. إذن العنصريّة تنطلق من فكرة جوهريّة هي الاعتقاد بأنَّ هناك فروقاً وعناصر موروثة بطبائع الناس أو قدراتهم وعزوها لانتمائهم لجماعة أو لعرق ما بغضّ النظر عن كيفيّة تعريف مفهوم العرق، وبالتالي تبرير معاملة الأفراد المنتمين لهذه الجماعة بشكل مختلف اجتماعيّاً وقانونيّاً. كما يستخدم مصطلح العنصريّة
للإشارة إلى الممارسات التي يجري من خلالها معاملة مجموعة معيّنة من البشر بشكل مختلف ويجري تبرير هذا التمييز باللجوء إلى التعميمات المبنيّة على الصور النمطيّة. كما أنّ العنصريّة تشير إلى كلّ شعور بالتفوّق أو سياسة تقوم على الإقصاء والتهميش والتمييز بين البشر على أساس اللون أو الانتماء القوميّ أو العرقيّ .(
)ويجب أن نشير إلى أنّ هناك مصطلحاً مهمّاً مرتبطاً بالعنصريّة وهو مصطلح التمييز العنصريّ الذي يعني معاملة الناس بتفرقة وشكل غير متكافئ وتصنيفهم اعتماداً على انتماءاتهم إلى عرق أو قوميّة معيّنة وإنشاء جوّ عدائيّ. وهناك عدّة صور للتمييز العنصريّ منها: التمييز المباشر وهو التعامل بأسلوب دونيّ والتقليل من شأن الشخص واحتقاره وتفضيل شخص آخر عليه في المقابل. هناك أيضاً التمييز غير المباشر ويكون عند وضع شروط وقوانين يجري تطبيقها على فئة معيّنة من المجتمع دون أخرى وبدون سبب واضح لذلك، وتكون هذه الشروط لمصلحة فئة آخرى ممّا يسبّب إيذاءً وضرراً للفئة الأولى.(
)من كلّ ما سبق يتّضح لنا العلاقة الوثيقة بين الشوفينيّة والعنصريّة في تشابه منطلقات كلّ منهما في الانطلاق من التعصّب والتمييز بين أمّة وأمّة وشعب وشعب، والمغالاة في هذا التعصّب والتمييز.
والتفرقة بين الناس في الحقوق والواجبات على أساس العرق والجنس واللون، ومعاملة البشر على أساس هذا اللون والعرق ممّا يؤدي إلى وجود كراهية وعداء بين الناس. كما أنّ الشوفينيّة والعنصريّة يؤكّدان النظرة الدونيّة في النظر إلى البشر وتميّز بني جنسهم أو شعبهم وتفضيلهم على الشعوب الأخرى ووجود نظرة استعلائيّة تفضيليّة. من هنا تتشابه كلّ من الشوفينيّة والعنصريّة في القواسم المشتركة والمنطلقات الفكريّة التي تقوم على التمييز على أساس العرق ـ الجنس ـ اللغة.
الشوفينيّة والتطرّف: في البداية نلقي الضوء على تعريف التطرّف لكي نرى العلاقة الوثيقة مع مصطلح الشوفينيّة، فكلاهما يمثّل مجاوزة حدّ الاعتدال والتوسّط، والابتعاد عن الوسطيّة سواء في التعامل مع الآخرين وتهميش الآراء والأفكار. ويجب أن نشير هنا إلى أنّ للتطرّف معاني مختلفة ومتعدّدة منها: أنّه الابتعاد عن متوسّط ما، سواء يمينه أو عن يساره، والوسطيّة إذا لم تكن نهج الاستقامة كانت انحرافاً، والسلوك المنحرف هو سلوك ينحرف عن المعمول به في مجتمع ما.( )
من معاني التطرّف أيضاً أنّه موقف عدائيّ تجاه أي نظام اجتماعيّ قائم أو سواه، ويحبّذ تغييراً جذرياً عنيفاً لذلك النظام. كما أنّ التطرّف في جوهره يعتبر حركة في اتّجاه القاعدة الاجتماعيّة
أو الأخلاقيّة، ولكنّها حركة يتجاوز مداها الحدود التي وصلت إليها القاعدة وارتضاها المجتمع.(
)كذلك من معاني التطرّف التي تقترب في جوهرها من الشوفينيّة في الانطلاق من المبالغة في التعصّب للآراء ورفض تقبّل الآخر. هو أنّ التطرّف يمثّل اتّخاذ الفرد أو الجماعة موقفاً متشدّداً إزاء فكر أو أيديولوجيا أو قضية، ويحاول أن يجد له مكاناً في بيئة هذا الفرد أو الجماعة. فالتطرّف يمثّل الشطط في فهم مذهب أو معتقد أو فلسفة أو فكر، والغلوّ في التعصّب لذلك الفهم والرأي، وليس هذا فحسب بل الاندفاع في محاولة فرض هذا الفهم والتوجّه إلى الآخر بكلّ الوسائل ومنها العنف والاكراه.(
)من هنا وبناءً على تعريف التطرّف وأنّه يمثّل مجاوزة حدّ الاعتدال والتوسّط، وأنّه تعصّب للآراء وللأفكار بل محاولة فرضها على الآخرين، يتّضح لنا ارتباط التطرّف بمصطلح الشوفينيّة ارتباطاً كبيراً، لأنّ لهم المنطلقات والركائز من التعصّب للرأي ومجاوزة الحدّ في التعصّب لمذهب أو جنس دون آخر نفسها، وهذا ما تنطلق منه الشوفينيّة من تعصّب ومغالاة وتجاوز للحدّ في الانتماء لفكرة أو جنس أو عرق أو للوطن. ويجب أن نشير إلى حقيقة هامّة وهي أنّ جوهر التطرّف أيضاً يتشابه مع جوهر الشوفينيّة، لأنّ التطرّف يرتبط بالتعصّب والانغلاق الفكريّ، فحين
يفقد الفرد أو الجماعة القدرة على تقبّل أيّة معتقدات تختلف عن معتقداته أو معتقدات الجماعة أو مجرّد تجاهلها، فإنّ هذا يعدّ دليلاً على تعصّب هذا الفرد أو الجماعة أو انغلاقه على معتقداته، ويتجلّى شكل هذا الانغلاق بأنّ كلّ ما يعتقده الفرد أو الجماعة هو صحيح تماماً، وأنّ موضوع صحّته غير قابل للنقاش. وغالباً ما يكون المتطرّف مشحوناً بصبغة تعصبيّة وغالباً ما ينعزل عن الفكر السائد وخاصّة في الحالات التي يتمثّل فيها الأقليّة بالأغلبيّة، وقد يصل التطرّف إلى نهاية مقياس الاعتدال، وذلك بسبب الشطط في الفكر. وبهذا المعنى يمكن أن تكون الذات الفاعلة سواء كانت فرداً أو جماعة متطرّفة في عنفها أو سلميّتها وتتجاوز حدّ الاعتدال والتوسّط.(
)من هنا نرى أنّ التطرّف ينطلق في جوهره من نظرة تنزيه للذات وكذلك النظرة السوداويّة والعدائيّة للآخر، وهذا ينسحب على المعرفة، والعرف وكلّ مكوّنات هذه الذات. وهذا التشكيل النفسيّ هو ما يحكم نظرة الفرد للمواقف والتغيّرات المحيطة به. وللتطرّف أنواع كثيرة منها التطرّف الفكريّ وهو المبالغة في التمسّك بجملة الأفكار التي قد تكون دينيّة عقائديّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة، وتشعر القائم بها بامتلاك الحقيقة المطلقة. وتخلّف فجوة بينه وبين النسيج الاجتماعيّ الذي يعيش فيه وينتمي إليه.(
)من كلّ ما سبق يتّضح لنا وجود علاقة بين التطرّف والشوفينيّة لأنَّ كلّاً منهما ينطلق من منطلقات مشتركة وهي التعصّب للرأي أو الفكرة أو المذهب أو العقيدة، ومحاولة فرض هذا بالقوة وتهميش الآخرين وتسفيه آرائهم وعدم الاعتراف أحياناً بحقوقهم.
الشوفينيّة والغلوّ: يوجد صلة وعلاقة بين مصطلح الغلوّ والشوفينيّة لأنّ كلّاً منهما ينطلق من المغالاة والتعصّب والتشدّد في الفكر والآراء. وإذا رجعنا إلى تعريف مصطلح الغلوّ لغة نجد أنّه مأخوذ من غلا الشيء أي زاد وارتفع، ويدلّ على مجاوزة الحدّ والقدر. يقال غلا السعر غلواً وغلاء، وغلا الرجل في الأمر أي جاوز حدّه. ويعرّفه ابن منظور أيضاً في لسان العرب بأنّه الارتفاع ومجاوزة القدر في كلّ شيء.( )
ومن هنا فالغلوّ يمثّل مجاوزة الحدّ سواء في الأقوال والأفعال، وله أنواع كالغلوّ الاعتقاديّ مثل غلوّ النصارى في عيسى بن مريم، وغلوّ عمليّ وهو يتعلّق بالأمور العمليّة التفصيليّة. ومن مظاهر ومنطلقات الغلوّ اعتقاد انحصار الحقّ في شخص أو فئة وتعظيم أقوالهم وأفعالهم. والتعصّب لهذه الأقوال والأفعال وعدم رؤية الآراء الأخرى أو الأفكار الأخرى.(
)من هنا تتّضح لنا العلاقة بين الغلوّ والشوفينيّة فكلاهما يقوم على التعصّب ومجاوزة الحدّ والمغالاة في الرأي والتعصّب للأفكار،
ومحاباة مذهب أو عرق أو جنس على حساب الآخر، ويترتّب على تلك المغالاة والتعصّب تهميش الآراء الأخرى والوقوف منها موقفاً سلبيّاً، وهذا هو جوهر الشوفينيّة التي تنطلق من المغالاة لمذهب أو جنس أو فكرة على حساب الأخرى. لذا هناك علاقة بينهما وقواسم مشتركة.
الشوفينيّة والفاشيّة: بداية نشير إلى ملمح هامّ وهو وجود علاقة بين مصطلح الشوفينيّة والفاشيّة، في تشابه منطلقات كلّ منهما وهي حبّ الوطن وتمجيده والمغالاة في الانتماء لهذا الوطن. وهذا يتّضح بجلاء في تعريف الفاشيّة وإلقاء الضوء على هذا المصطلح الذي يحمل كلّ معاني التعصّب للقوميّة الإيطاليّة. نشير بداية إلى أن الفاشيّة أو الفاشستيّة كلمة أُخذت من رمز إيطاليّ قديم كان يحمله الأباطرة والقضاة الرومان، وهذا الرمز عبارة عن حزمة من العصيّ أو القضبان، تدعى باللاتينيّة (فاشس) وفي وسطها بلطة أو فأس ومن هنا جاء مصطلح الفاشيّة وهي كناية عن الاتّحاد لأفراد الشعب الرومانيّ، وهذا الرمز الرومانيّ القديم يمثّل الوحدة والقوّة. والفاشيّة حركة إيطاليّة شموليّة نادت بحبّ السياسات والمثل والقيم الإيطاليّة إلى حدّ التعصّب لها. والفاشيّة صفة الوطنيّة والقوميّة الإقليميّة التي تهدف إلى جعل الشعب الإيطاليّ متعلّق بوطنه.( )
من هنا نلاحظ وجود قواسم مشتركة بين الفاشيّة والشوفينيّة من تمجيد للأوطان والتعصّب لعرق معيّن وقوميّة معينّة، والمغالاة في هذا
الانتماء ومحاولة جعل وطن أو قوميّة معيّنة فوق القوميّات الأخرى.
كذلك تمثّل الفاشيّة وصف شكل راديكاليّ تمثّلت تاريخيّاً في تجارب لحركات سياسيّة قوميّة أو وطنيّة ونظم أسّستها تلك الحركات، وتبلورت عبر تجارب الفوهرر. بمعنى أنّها سياسة سعت الحركات الفاشيّة لتوحيد الأمّة التي ينتمون إليها عبر الدولة الشموليّة. ولقد اشتركت الحركات الفاشيّة بملامح مشتركة تتضمّن تبجيل الدولة والتشديد على التعصّب الوطنيّ والعسكريّ. كما يقرّ الفاشيّون بالتعصّب الوطنيّ والعسكريّ، ويرون أنّ الأمم القويّة لها الحقّ في مدّ نفوذها بإزاحة الأمم الأضعف، بمعنى أنّ جوهر فكرهم قائم على تمجيد الوطنيّة وازدياد الروح العسكريّة، وكذلك مشاعر التعصّب الأعمى للحاكم وللنظام والدولة، حتّى إنّ كلّ من يشكّ في الزعيم والقائد أو ينتقد ويعارض سياسات النظام يستحقّ عقوبة الإعدام.(
)من هنا نرى أنّ منطلقات الفاشيّة والشوفينيّة واحدة تقريباً لأنّهما ينطلقان من تمجيد الوطن إلى حدّ التعصّب، وكذلك تمجيد شخصيّة الحاكم والقائد كشخصيّة تمثّل رمزاً للأمّة وللشعب والمغالاة في تمجيد تلك الشخصيّة بدون النظر إلى العواقب، وهذا تماماً ما فعله نيقولا شوفان في التعصّب لوطنه وشخصيّة قائده نابليون.
كذلك يتّضح لنا من خلال عرض الفاشيّة أنّها ترتكز على مبادئ جوهريّة من أهمّها السموّ بالأمّة ورفع مجدها، لكنّها تمارس الديكتاتوريّة، كما أنهّا تؤمن بعدم السلام بين دول العالم وهذا
يمثّل التعصّب في قمّته، فالفاشيّة تمثّل نظاماً فكريّاً وأيديولوجيّاً عنصريّاً يقوم بتمجيد الدولة والتعصّب للقوميّة الإيطاليّة على حساب القوميّات الأخرى. ويركّز الفاشيون في منطلقاتهم في الشموليّة لتغليف سعيهم لتحقيق صفة القوميّة، والقوميّة المتطرّفة تمثّل جوهراً للأيدولوجيا الفاشيّة. فهي شكل من أشكال التعصّب القوميّ الشعوبيّ، يهدف إلى إعادة بناء الدولة، فهي تمثّل محاولة لإحياء القوميّة وتمجيد العرق واستخدام الديكتاتوريّة لتحقيق هذه الأهداف. وتوضح النظريّة الشموليّة أنّ التعصّب القوميّ مكوّن أساسيّ في رؤية العالم من المنظور الفاشيّ.(
) فالفاشيّة أيضاً تؤكّد أنّ الجنسيّة يجب أن تستعيد هيمنتها، أو تصبح مهيمنة داخل دولة معيّنة، وتمارس الفاشيّة أشكال التعصّب القوميّ فكراً وممارسة، كما تسعى إلى خلق مجتمع وطنيّ مستنفرّ لا تكفّ جميع قطاعات الشعب فيه عن إظهار حبّها للنظام. من هنا يتّضح لنا أنّ الفاشيّة تمثّل مجموعة من الأيديولوجيّات والممارسات التي تسعى لوضع الأمّة فوق مصادر الولاء الأخرى، وهذا تقريباً هو جوهر الشوفينيّة التي تتعصّب للانتماء للوطن وتمجد الوطن إلى حدّ التعصّب.الشوفينيّة والنازيّة الألمانيّة: بداية نودّ الإشارة إلى أنّ النازيّة هي حركة سياسيّة أُسِّست في ألمانيا بعد الحرب العالميّة الأولى، حيث تمكّن المنتمون للحزب القوميّ الاشتراكيّ العماليّ بزعامة هتلر من السيطرة على مقاليد الأمور. وكلمة(Nazism) هي اختصار
حزب العمال الاشتراكيّ القوميّ. كما أصبح مصطلح النازيّة وصفاً للأيديولوجيّة التي اتّخذها ذلك الحزب في عشرينيّات وثلاثينيّات القرن العشرين، والمبنيّة على العنصريّة والتشدّد ضدّ الأعراف الأخرى، وكذلك على علوّ أجناس بشريّة معيّنة على أجناس أخرى، وآمنت بقمع الأعراف الدنيا وإبادتها، وبالمقابل الحفاظ على طهر الأعراق العليا. ولقد وصل الحزب النازيّ إلى الحكم في ألمانيا عام 1933 بقيادة (أدولف هتلر) وشرع في استعمال القوّة لتحقيق أيديولوجيّته، وكان اليهود بالنسبة لهتلر في أدنى سلّم الأعراق البشريّة.(
) من هنا يتّضح لنا من خلال منطلقات النازيّة الألمانيّة أنّها تتّفق مع الشوفينيّة في التعصّب لجنس بعينه والدعوة إلى محاباة ذلك الجنس حتّى لو على باقي الأجناس الأخرى، وهذا واضح من تفضيل النازيّة الألمانيّة للجنس الآريّ أو الألمانيّ على بقيّة الأجناس الأخرى ونرى في ذلك دعوى شوفينيّة تدعو إلى التطهير العرقيّ، والتعصّب لعرق على حساب آخر، وهذا ما تنطلق منه الشوفينيّة. فالنازيّة الألمانيّة دعت إلى تفضيل للأمّة الألمانيّة على بقيّة الأمم، والتعصّب ضدّ جنس بعينه وهم اليهود وغيرهم والتي كانت تنظر لهم نظرة دونيّة استعلائيّة وتحقّر من شانهم بل تبخسهم حقوقهم الطبيعيّة وهذا هو جوهر النظرة الشوفينيّة. ويجب أن نلفت الانتباه إلى أنّ المناخ الثقافيّ والسياسيّ في أوروبا كان مفعماً حينذاك بالدعوات المذهبيّة والعرقيّة والأفكار القوميّة الاشتراكيّة. لذا ليس بغريب أن نرى أنّ أهمّ ما يميّز النازيّةهو إعلاء النزعة القوميّة وجموحها نحو التمجيد العرقيّ والقوميّ، وإحياء العرقيّة أساساً للقوميّة، ممّا عزّز دعوتها للعنصريّة. ولقد أضفى عليها هتلر بشخصيّته أفكاراً تنزع إلى تمجيد الدولة وترسيخ فكرة الزعيم والشخصانيّة. إذن النازيّة الألمانيّة تمثّل أيديولوجيا شموليّة تقوم على التراتب العرقيّ وتضع العرق الآريّ في قمّة هرم البشريّة وتنطلق النازيّة من فكرتين رئيستين: تصنيف المجموعة البشريّة وترتيبها وفق تقسيم عرقيّ، كذلك نادت النازيّة بالقوميّة الجرمانيّة والتعصّب لألمانيا والعادات الألمانيّة، وتفوّق الجنس الآريّ وكرّست فكرة ديكتاتوريّة الفرد (الفوهرر) أو قائد الشعب الألمانيّ.(
)هنا نلاحظ تقارباً كبيراً في منطلقات كلّ من الشوفينيّة والنازيّة في تمجيد الأعراق أو عرق على حساب آخر والتعصّب له وتهميش الأعراق الأخرى وبخسها قدرها وحقوقها.
الشوفينيّة والتحيّز: من خلال إلقاء الضوء على تعريف التحيّز سوف تتضح لنا العلاقة بينه وبين مصطلح الشوفينيّة، لأنّ كلا المصطلحين ينطلق من المنطلقات نفسها وهي التعصّب في الانتماء والميل إلى تفضيل الجماعة التي ينتمي إليها الشخص. والنظرة باستعلاء على باقي الأجناس الأخرى أو الأعراق. وكلاهما يغالي في تمجيد العرق أو الوطن أو الرأي الذي يعتنقه. وإذا أردنا أن نعرف التحيّز فسوف نرى
أنّه حكم مسبق في موضوع أو قضية خاصّة أو عامّة وعادة يكون عن طريق تبنّي وجهة نظر أو عقيدة أيديولوجيّة. والانحياز يؤدّي بالإنسان إلى عدم قبول صحّة ادّعاء ما، ليس بسبب قوّة الادّعاء وبراهينه، لكن لأنّ الادّعاء لا يلائم معتقداته وأفكاره المسبقة. والانحياز يعني في معناه العامّ التعصّب واعتماد وجهة نظر واحدة، وكذلك عدم الحياديّة وتفكير منغلق، ويمكن للمرء الانحياز مع أو ضدّ أفراد عرقيّة، دين، طبقة اجتماعيّة أو حزب سياسيّ.(
)من التعريف السابق للتحيّز نجد أنّه ينطلق من منطلقات الشوفينيّة نفسها، من التعصّب لجنس على حساب آخر، والتعصّب للرأي وتهميش الآراء الأخرى، والافتخار بالذات والميل إلى تصديق كلّ ما يؤيّد وجهة نظر الفرد أو جماعته التي ينتمي إليها. لذا كانت العلاقة وثيقة بين التحيّز والشوفينيّة، لأنّ التحيّز هنا يمثّل تعصّباً ونظرة مغلقة للأشياء وعدم تقبّل الآراء الأخرى. ممّا يجعله يتطابق ويتشابه مع الشوفينيّة التي تمجّد الآراء وتتعصّب لها على حساب آراء أخرى، بل تتعصّب للآراء ولعرق ولوجهة نظر دون الأخذ في الاعتبار وجهات النظر الأخرى. فالتحيّز يمثّل ميلاً نحو نظرة ذاتيّة تكون أحياناً حكماً ظالماً، وقد نقع في التحيّز دون أن ندرك ذلك فاعتياد شيء والتآلف معه قد يجعلنا نتحيّز له وننكر ما عداه، ولكنّنا نكتشف تحيّزاتنا حينما نجد ما يشبهها عند غيرنا من الأمم والشعوب. وهناك أنواع عديدة من التحيّز من أهمّها التحيّز اللغويّ أي تحيّز أمّة إلى لغتها. كذلك تحيّز بعض الناس إلى منطقة
معيّنة وهذا هو التحيّز لموطن الإنسان. وهناك التحيّز لعرق معيّن ولفئة عمريّة معيّنة أو لقبيلة أو لثقافة بعينها. وقد يظهر التحيّز عندما لا يقتصر المرء على الإعجاب بما يتحيّز له فحسب، وإنّما لا يرى سوى القبح في غيره. ومن أهمّ أنواع التحيّز أيضاً التحيّز الفكريّ وهو التحيّز لمجموعة أو جماعة معيّنة بسبب انتماء الشخص لها. وهناك التحيّز الجنسيّ أي تحيّز الرجال مثلاً ضدّ النساء.(
)من هنا نرى أنّ هناك قواسم مشتركة بين التحيّز والشوفينيّة، منها التعصّب لعرق دون آخر أو جنس أو جماعة دون أخرى. ومن هنا يتحول التحيّز إلى تحيّز بغيض إذا تجاوز الحدّ وأصبح يمثّل تعصباً للآراء دون الاعتدال، ويتحول التحيّز هنا إلى شوفينيّة منفّرة لأنّه يتجاوز حدود الاعتدال. ويبالغ في الانتماء والتعصّب للجماعة أو المذهب الذي يعتنقه وهو ما ترفضه الفطرة البشريّة السويّة، التي ترى في كلّ ما يتجاوز حدّ الاعتدال عملاً غير مقبول من المجتمع، ويتنافي مع الأعراف والتقاليد السويّة. لذا التحيّز يكون مرفوضاً إذا كان مبالغاً فيه وتحوّل إلى تعصّب أعمى بدون رؤية الآخرين وحقوقهم.
الشوفينيّة والقوميّة: بداية نشير إلى تعريف القوميّة وكيف نشأت وما أهمّ منطلقاتها الفكريّة لكي نرى أواصر العلاقات بينها وبين الشوفينيّة. إذا أردنا أن نلقي الضوء على معنى القوميّة لغوياً أي من المعجم، نرى أنّها اسم مؤنّث منسوب إلى قوم. وهي صلة اجتماعيّة عاطفيّة تنشأ من الاشتراك في الوطن واللغة ووحدة
التاريخ والأهداف. أمّا في مجال السياسة فالقوميّة تعني مبدأً سياسيّاً اجتماعيّاً يفضل معه صاحبه كلّ ما يتعلّق بأمّته على سواه ممّا يتعلّق بغيرها. وتمثّل القوميّة الاعتقاد السائد لدى الشعب في أنّه يشكّل جماعة متميّزة ذات خصائص تميّزه عن الأخرين، مع توفّر الرغبة في حماية هذا التميّز والارتقاء به ضمن حكومة ذاتيّة. فهي تمثّل رابطة وصلة اجتماعيّة تنشأ من الاشتراك في الوطن والجنس واللغة والمنافع. لذا تمثّل القوميّة مبدأً يجمع بين دفّتيه أمّة ذات تاريخ مشترك وأمانٍ مشتركة، وتعني أيضاً مجتمعاً طبيعياً من البشر يرتبط بعضه ببعض بوحدة الأرض والأصل والعادات واللغة ويجمعهم مصير مشترك وثقافة مشتركة ونفسيّة مشتركة.(
)من هذا التعريف لمصطلح أو مفهوم القوميّة نرى وجود صلة ورابطة مشتركة مع الشوفينيّة من الانتماء إلى وطن واحد أو أمّة واحدة يجمع بين أفرادها قواسم مشتركة من لغة وتاريخ واحد ومصالح اقتصاديّة واحدة، وتراث ثقافيّ واحد وهي تقريباً منطلقات الشوفينيّة نفسها. بل يوجد مغالاة وتعصّب أيضاً لهذه الأمّة ولهذا الوطن وللتاريخ المشترك، مع التقليل من شأن الأمم الأخرى والثقافات الأخرى إلى حدّ عدم الاعتراف بها، ومن هنا تنقلب القوميّة في تعصّبها إلى شوفينيّة جديدة في المغالاة في الانتماء والتعصّب لأبناء الوطن الواحد. أمّا إذا رجعنا إلى جذور نشأة القوميّة لنتعرّف إلى ما تتضمّنه من منطلقات فكريّة فسوف نرى كما تشير الوقائع التاريخيّة إلى أنّ القوميّة نظريّاً لم تُعرَف بمعناها الحديث إلّا في نهاية القرن
الثامن عشر وتطوّرت في القرن التاسع عشر لدرجة إنشاء دول على أساس الهويّة القوميّة. ولقد أصبح المنظار إلى الحضارة في نهاية القرن الثامن عشر هو المنظار القوميّ، وأصبحت اللغة القوميّة وحدها هي لغة الحضارة. ويجب أن نشير إلى أنّ هناك نظريات كثيرة ومتعدّدة في نشأة القوميّة وتعريفها وتنقسم هذه النظريات إلى ثلاث نظريّات: 1- النظريّة الأولى التي ترى أنّ القوميّة تقوم على وحدة اللغة وتسمّى النظريّة الألمانيّة بسبب تبنّي المفكّرين الألمان لتلك النظريّة.
2- نظريّة وحدة الإرادة (مشيئة العيش المشترك) أوّل من دعا إليها هو (ارنست رينان) في محاضراته ما هي الأمّة.
3- النظريّة التي ترى أنّ القوميّة تقوم على وحدة الحياة الاقتصاديّة ومن أبرز دعاتها ماركس.(
)ولقد اختلف الباحثون في نشأة مصطلح القوميّة إلى فريقين: الفريق الأوّل يرى أنّ القوميّة والشعور القوميّ ظاهرة طبيعيّة ملازمة للإنسان منذ وجد المجتمع البشريّ، وأنّ بعض سمات القوميّة قديمة قدم الإنسانيّة نفسها. فيذهب (كون) مثلاً إلى أنّ التاريخ على مرّ العصور شهد بذور الشعور القوميّ في التمسّك العميق من جانب الناس بأرضهم وتقاليدهم والسلطة القائمة في إقليمهم.
أمّا الفريق الثاني: فيذهب إلى أنّ القوميّة هي ظاهرة حديثة نسبياً لم تعرفها المجتمعات البشريّة القديمة. يقول (رسل) إنّ معظم الناس في العصر الحديث يقبلون القوميّة على أنّها طبيعيّة ولا يدركون إلى أيّ حدّ هي جديدة، ولعلّها أي القوميّة بدأت أول ما
بدأت (بجان دارك) في حرب المئة عام، ثمّ تلاشت في فترة الحروب الدينيّة، وولدت من جديد في عصر الثورة الفرنسيّة.(
)ويجب أن نشير هنا ونحن في سياق الحديث عن القوميّة إلى أهم مكوّنات القوميّة، لكي تتضح لنا العلاقة مع الشوفينيّة. للقوميّة مكوّنات أساسيّة ومنطلقات تحدّد صفاتها وخصائصها من أهمّ هذه المكوّنات:
1- الوطنيّة: بمعنى وجود شعور قويّ بالحبّ والتقدير لأمّتهم.
2- السياسة العسكريّة: الحكومات القوميّة تصل إلى السلطة السياسيّة من خلال السيطرة العسكريّة.
3- الشوفينيّة: الأفراد الذين يتصرّفون بحماسة بسبب الانتصار العسكريّ.
4- الكرامة الوطنيّة: الأفراد الذين لديهم شعور قويّ بالفخر ببلدهم.(
)من المكوّنات الأساسيّة السابقة للقوميّة والتي من أهمّها الشوفينيّة تتّضح لنا العلاقة الوثيقة المصطلحين، فكلاهما تقريباً ينطلق من المنطلقات والمكوّنات نفسها، وهي التعصّب للوطن والمبالغة في الانتماء لهذا الوطن، وكذلك تفضيل هذا الوطن والأمّة على غيرها من الأمم والأوطان. كما أنّ هناك قواسم مشتركة بين أفراد هذا الوطن من تاريخ واحد وثقافة واحدة ولغة وتراث مشترك. كلّ هذا يوضح لنا الصلة بين القوميّة والشوفينيّة.
إذن القوميّة جوهرها إيثار المصالح القوميّة على كلّ شيء، ويظهر هذا الإيثار في اتّجاهات الأفراد، أو في منهج حزبيّ سياسيّ يناضل في سبيل قوميّة، ويدافع عن هؤلاء الأفراد. ونستطيع أن نقسم القوميّة إلى نوعين: ضيقة وواسعة، القوميّة الضيقة تضع نفسها فوق كلّ شيء وتتعصّب لجنسها أو دينها أو لغتها أو ثقافتها أو تاريخها تعصّباً أعمى. وهذا هو جوهر الشوفينيّة من هنا تتّفق هذه القوميّة مع الشوفينيّة في الأهداف والمنطلقات. أمّا القوميّة الواسعة التي تمثّل نظرة معتدلة مستقيمة فهي التي تمدّ بصرها إلى العلم للاقتباس منه وللإسهام في تقدّمه الحضاريّ. وهذا ما يجب أن تكون عليه القوميّة لا تغالي في الانتماء للوطن ولا تغالي في التعصّب للأفكار. من هنا نرى أنّ القوميّة تعبّر عن حالة عقليّة تجمع بين مجموعة من البشر تؤلف بينهم صلة اجتماعيّة عاطفيّة تتولّد من الاشتراك في الوطن والجنس واللغة والثقافة والتاريخ والحضارة والمصالح المشتركة.(
)من كلّ ما سبق يتبيّن لنا وجود علاقة وثيقة بين الشوفينيّة والقوميّة في المنطلقات التي تؤكّد حبّ الأوطان بل التعصّب لها وتفضيلها على غيرها من الأوطان والأمم. كما هناك المغالاة والتعصّب لكلّ ما يجعل الوطن فوق الأوطان الأخرى، بل تصل المغالاة إلى حدّ تهميش الآخرين والتحقير من شأنهم وعدم الالتفات إلى حقوقهم، من هنا تتحوّل القوميّة إلى شوفينيّة بغيضة، بل لا نتجاوز ونتعدّى الصواب إذ نعتبر الشوفينيّة نتاجاً طبيعياً للقوميّة، لأنَّ جوهر القوميّة الشعور بالفخر والاستعلاء والنظرة الدونيّة لباقي الشعوب.
إذا أردنا أن نعرف علاقة وصلة القوميّة بالشوفينيّة فعلينا في البداية أن نعرف مفهوم القوميّة العربيّة، لنرى أهمّ منطلقاتها الفكريّة، وما يربطها بمصطلح الشوفينيّة. تعرف القوميّة العربيّة بأنّها الإيمان بأنَّ الشعب العربيّ شعب واحد تجمعه اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، وبأنّ دولة عربيّة واحدة ستقوم لتجمع العرب ضمن حدودها من المحيط إلى الخليج. ولقد تجسّد مفهوم العرب وشعورهم بأنّهم أمّة واحدة قديماً في الشعر العربيّ، وفي عصر الإسلام تجسّدت القوميّة بشعور العرب بأنّهم أمّة متميّزة ضمن الإسلام وزاد هذا الشعور خلال العصر الأمويّ.(
)أمّا في العصر الحديث فقد جُسِّدت هذه الفكرة بأيديولوجيات مثل الحركة الناصريّة والتيار البعثيّ اللذينِ كانا الأكثر شيوعاً في الوطن العربيّ خصوصاً في أواسط القرن العشرين حتّى نهاية السبعينيّات. ولقد اكتسبت القوميّة العربيّة مدّاً جديداً شعبياً نتيجة ثورات الربيع العربيّ وظهور تيار شعبيّ عربيّ يدعو لوحدة عربيّة يقودها الشعب لا الأنظمة المتسلّطة التي ركبت موجة القوميّة دون أن تنجز بذكر في هذا الاتّجاه. ويؤمن القوميّون العرب بالعروبة كعقيدة ناتجة من تراث مشترك بين اللغة والثقافة والتاريخ إضافةً
إلى حريّة الأديان. ويرى عزمي بشارة أنَّ القوميّة العربيّة ليست رابطة دم ولا عرق بل هي جماعة متحلّية بأدوات اللغة.(
)بناء على التعريفات السابقة نرى أنّ جوهر مصطلح القوميّة العربيّة ينطلق من مبادئ أساسيّة هي اللغة والتاريخ والثقافة والانتساب للأمّة العربيّة، ومن هنا تتشابه القوميّة العربيّة مع الشوفينيّة في الانتماء إلى أمّة أو قوم أو جنس، وفي المغالاة في التعصّب أيضاً لهذه الأمّة وهي هنا الأمّة العربيّة، بكلّ ما تحمله من تراث ثقافيّ وحضاريّ ولغة واحدة هي اللغة العربيّة، والقوميّة العربيّة أيضاً تجمع بين المنتسبين لها قواسم اللغة والتاريخ والجغرافيا أي الأرض الواحدة الممتدّة من المحيط إلى الخليج. وليس ذلك فحسب بل الفخر بكلّ ما هو عربيّ على حساب الجنسيّات الأخرى وهذا هو جوهر الشوفينيّة، التي تنطلق من المغالاة في الانتماء والتعصّب للوطن وتهميش الآخرين، بل أحيانا الاستعلاء على الآخرين.
ويرجع الباحثون نشأة فكرة أو مفهوم القوميّة العربيّة وصعودها إلى فترة الجمعيّات الأدبيّة والعلميّة أي من 1847 إلى 1868. ويذكر (جورج انطونيوس) في كتابه (يقظة العرب) أنّ العودة إلى القوميّة العربيّة كانت في القرن التاسع عشر كردّ فعل على سياسة جمعيّة الاتّحاد والترقّي القمعيّة للعرب والتي عملت على تتركيهم (أتراك) وإلغاء وجودهم الثقافيّ في ظلّ فشل الرابطة الإسلاميّة والقمع المتزايد والأزمة الاقتصاديّة.(
)ويجب أن نلفت الانتباه هنا إلى أنَّ العرب دخلوا إلى الفكر القوميّ من باب إحياء الإسلام ذلك أنّ العرب اعتبروا دائماً أنّ لهم الفضل الأكبر في الحضارة الإسلاميّة. لذا رأوا وجوب إحياء التراث العربيّ كمقدّمة لمشروع النهضة، وليس مصادفة أنّ أوّل مهمّة للإحياء العربيّ كانت متّجهة إلى إحياء اللغة العربيّة وآدابها، لذا غالباً ما نجد الفكر القوميّ العربيّ ما يركّز في التراث اللغويّ.
ومن أهمّ منطلقات الفكر القوميّ العربيّ أنّه يعلي من شأن رابطة اللغة والجنس وأنّهما أقدر على جمع العرب من رابطة الدين. ويرون أنّ العرب أمّة واحدة لها مقوّمات الأمّة وأنّها تعيش على أرض واحدة هي الوطن العربيّ الواحد الذي يمتدّ من المحيط إلى الخليج. ويرى دعاة الفكر القوميّ أنّ من الإجرام أن يتخلّى العربيّ عن قوميّته ويتجاوزها إلى الإيمان بفكرة عالميّة. ونشير إلى أنّ مصطلح القوميّة العربيّة نشأ ليعبّر عن الضرورات التوحيديّة لهويّة أبناء الأمّة العربيّة، وليعكس حقائق الواقع الجديد الزاخر بالمصالح الموحّدة لأبناء هذه الأمّة. أي يجمع بينهم لغة مشتركة ووطن واحد وأهداف ومصالح واحدة.(
)من هنا نجد قواسم مشتركة ومنطلقات متشابهة بين القوميّة العربيّة والشوفينيّة. فالقوميّة العربيّة تنطلق من التعصّب للجنس العربيّ وتمجّد هذا الجنس، وتعترف بأنّه الصانع الأوحد للحضارة الإسلاميّة، وتقلّل من شأن الأجناس الأخرى في صنع هذه
الحضارة، بل أحياناً يُحقَّرون ويُحطّ من شأنهم. وهذا تقريباً هو النظرة الشوفينيّة الدونيّة إلى الأجناس الأخرى نفسها، والتقليل من شأنهم وتحقير آرائهم. والنظر إليهم نظرة استعلائيّة. من هنا يوجد صلة وثيقة ورابطة قويّة بين مفهوم القوميّة والشوفينيّة. إذاً القوميّة العربيّة كمفهوم يمثّل حركة سياسيّة فكريّة متعصّبة تدعو إلى تمجيد العرب، وإقامة دولة موحّدة لهم على أساس رابطة الدم واللغة والتاريخ. فهي حركة تُعنى في المقام الأوّل بالاهتمام بالجنس العربيّ وتفضيله على ما عداه من أجناس وتغالي في هذا التفضيل، حتّى لو على حساب بقيّة الأجناس وهذه النظرة تعتبر نظرة شوفينيّة متعصّبة ويرفضها العقل السويّ والتفكير المنطقيّ. ومن هنا تتشابه المنطلقات والأسس الفكريّة في القوميّة العربيّة والشوفينيّة.
(47)
بداية نشير إلى أنّ مصطلح القوميّة الغربيّة يطلق على دول أوروبا الغربيّة التي تشكّلت في تكتّلات واحدة يجمع بينها أواصر وعلاقات ومصالح اقتصاديّة. تحاول من خلال هذه التكتّلات أن تصهر وتذيب كلّ الفوارق وتبحث عمّا يجمعها من قواسم مشتركة، سواء كانت هذه القواسم دينيّة أو عرقيّة أو سياسيّة. ويجب أن نلفت الانتباه إلى أنّ التشكيل القوميّ في أوروبا الغربيّة والولايات المتّحدة يتّسم بأنّه ظهر في مرحلة لم يكن هناك تشكيلات قوميّة بالمعنى الحديث في أسيا وأفريقيا، تتحدّاه حضارياً أو عسكرياً. وانطلاقاً من نماذج إدراكيّة اختزاليّة تتّسم بدرجة عالية من التجانس والتحدّد نكاد نقترب من الانغلاق على الذات. ويلاحظ أنّ صياغة رؤية الجماعات القوميّة في غرب أوروبا لنفسها قد استغرق وقتاً طويلاً جدّاً جرى أثناءه صهر أعضاء الأقليّات الاثنيّة التي لا تنتمي للأسطورة القوميّة أو إبادتها، ثم ظهرت الإمبرياليّة فزادت من تحدّد الأُسطورة ومن عدوانيّتها وتجانسها وانغلاقها، ليس ذلك فحسب بل أضافت لها مقولات التفوّق والنقاء العنصريّ التي تختزل الآخر في عنصر متدنٍّ، حتّى يمكن تحويله إلى مادّة استعماليّة. وحين بدأت التشكيلات القوميّة في شرق أوروبا ووسطها أخذت طابعاً أكثر تطرّفاً في صبغتها السلافيّة والجرمانيّة، حيث طرحت الفكرة القوميّة كانتماء عضويّ يكاد يكون أيديولوجيا. ولقد حصلت الثورة
(50)القوميّة في الغرب تحت راية الطبقة المتوسّطة وقيمها، وبخاصّة الملكيّة الفرديّة والعقد الاجتماعيّ، وهي قيم انطلقت من مفهوم الفرد لا الجماعة.(
)من هنا نلمح تقارباً كبيراً وعلاقة بين مصطلح الشوفينيّة والقوميّة الغربيّة، لأنّهما ينطلقان من التعصّب للوطن والعرق والمبالغة في هذا الانتماء، مع وجود نظرة دونيّة للأجناس الأخرى وتهميشها. يرتكز مفهوم القوميّة الغربية أيضاً على قواسم مشتركة مع الشوفينيّة منها الانتماء العضويّ للأمّة أو الوطن ونظريّة التفوّق والنقاء العنصريّ، وهذه المفاهيم هي جوهر الشوفينيّة ومنطلقاتها. لذا لا نجانب الصواب إذا قلنا إنّ بينهما وشائج قُربي وعلاقة كبيرة تركّز في النقاء العنصريّ والتعصّب لجنس أو أمّة بعينها مع نظرة استعلاء على بقيّة الأمم والأجناس والأعراق.
الشوفينيّة والمركزيّة الغربيّة: بداية تعرّف المركزيّة الغربيّة بأنّها الممارسة غير الواعية التي ترتكز على الاهتمامات الأوروبيّة أو الغربيّة عموماً في مجالات الثقافة والقيم على حساب باقي الثقافات.(
)بمعنى التمركز في مجالات الثقافة والقيم، فالمركزيّة الغربيّة
هي الممارسات التي ترتكز على فرض الحضارة والمصالح الغربيّة عموماً في جميع مجالات الحياة على حساب باقي الثقافات والحضارات والشعوب وبكلّ الوسائل المشروعة وغير المشروعة. وذلك لأنّ مفهوم المركزيّة الغربيّة مبنيّ على السيطرة، سيطرة الذات على ما تتّخذه موضوعاً لها، سواء كان هذا الموضوع أشياء طبيعيّة أو كان أناساً آخرين، فمن يهدّد مصلحتي هو الآخر. ولقد رسّخ هيجل في كتاباته في فلسفة التاريخ وبنى نظريّته على أنّ الحضارات تعاقبت الواحدة بعد الأخرى منذ القدم، زالت كلّها وامّحت ولم يبقَ منها إلّا الحضارة الأوروبيّة التي تمثّل خلاص العالم.
من خلال هذا التعريف للمركزيّة الغربيّة يتّضح لنا ارتباطها بمصطلح الشوفينيّة من حيث المرتكزات والمنطلقات الفكريّة التي تتضمّن التعصّب لجنس معيّن وهو هنا الجنس الأوروبيّ، فالمركزيّة الأوروبيّة تنطلق من التعصّب للحضارة الأوروبيّة وترى فيها حضارة متفوّقة ومتميّزة على غيرها من الحضارات الأخرى. وليس هذا فحسب بل تنظر للحضارات الأخرى نظرة دونيّة استعلائيّة وتهمّش كلّ منجزاتها. وهذا يذكّرنا بالنظرة الشوفينيّة التي تتعصّب لجنس على حساب آخر وعرق على حساب آخر، وتقلّل من منجزات الآخرين. فالمركزيّة الغربيّة يعتقد مفكّروها أنّ الغرب له سلسلة نسب مستقلّة بذاتها، تبعاً لهذا النسب أنجبت اليونان القديمة روما، وتولّد من روما أوروبا المسيحيّة.
وتبدأ جذور مصطلح المركزيّة الأوروبيّة في مجالات المعرفة والاكتشافات الجغرافيّة، وقيام مؤسّسة الدولة القوميّة بصفة خاصّة
(52)وركائزها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة والحداثة والعلمانيّة التصقت بالمضمون الأيديولوجيّ الذي أشاعته الثقافة الغربيّة من منظورها، فيما يخصّ العالم والإنسان وقد أفضى كلّ ذلك إلى نوع من التمركّزِ حول الذات وإحالة الآخر إلى مكوّن هامشيّ، لا ينطوي على قيمة بذاته إلّا إذا اندرج في سياق المنظور الذي يتّصل بتطوّرات الذات المتمركزة حول نفسها.
و تحاول المركزيّة الغربيّة أن ترسّخ في العقول نظريّة قطع العمليّة الحضاريّة وتهميش دور الحضارات الأخرى والتقليل من منجزاتها الحضاريّة وعطائها الحضاريّ. وترى في الحضارة الغربيّة هي الحضارة العُليا وهي فوق الحضارات وفوق كلّ الأجناس الأخرى. ويجب أن نشير إلى أنّ المركزيّة الغربيّة قد مرّت بمراحل ثلاث هامّة توضح نظرتها للحضارات واستعلائها من هذه المراحل الهامّة: مرحلة فجر الحضارة ـ مرحلة الحداثة ـ مرحلة ما بعد الحداثة. وكلّ هذه المراحل تسعى إلى تزييف التاريخ وإحداث قطيعة حضاريّة من خلال تبنّي أنّ الحضارة الغربيّة هي المتفوّقة وهي المسيطرة وهي لها السيادة. وباقي الحضارات ليس لها أيّ قيمة حضاريّة.(
)و يوجد للمركزيّة الغربيّة سمات وخصائص تكشف عن التعصّب وتكشف عن المغالاة في الانتماء ونظرة الاستعلاء والتفوق التي
تجعل من الحضارة الغربيّة فوق جميع الحضارات الأخرى. ومن هذه السمات والخصائص: التمحور حول الذات، والمكر والخداع، واللاأخلاقيّة. وإذا نظرنا إلى سمة التمحور حول الذات نجد أنّ هذه السمة ممتدّة في جذور الحضارة الغربية منذ قول ديكارت المشهور (أنا أفكّر إذاً أنا موجود) هنا إعلاء لشأن الفرد على حساب الآخرين وتهميش الآخرين وإسقاط الآخرين وكذلك حقوقهم. من هنا أصبح الإنسان مركز كلّ شيء ومقياساً لكلّ شيء وتحوّل مركز الكون من الله إلى الإنسان، ومن هذه المركزيّة كان فهم الكون، فالغرب هو محور الدنيا كلّها والعالم أطراف للمركز الأوروبيّ، ومن هنا كانت الهيمنة الأوروبيّة والاستعلاء الأوروبيّ. فالتاريخ يبدأ في أوروبا والعصور الإنسانيّة تبدأ في أوروبا. ومن هنا نرى أنّ هذا التصوّر لبداية الحضارات والتاريخ عند الأوروبيّين يغلب عليه العنصريّة والطابع غير الموضوعيّ، فلا أثر لوجود حضارات أخرى غيرهم، فكلّ الشعوب الأخرى تبدو متخلّفة وبدائيّة في نظرهم.(
)خلاصة القول إنّ هذه النظرة الاستعلائيّة الغربيّة التي تجعل من الغرب مركزاً لكلّ الحضارات، مع التقليل من شأن الحضارات الأخرى، وعلى اعتبار كلّ قيمة إنسانيّة للآخرين لا تمثّل شيئاً، وربّما خرج من دائرة الإمكانات البشريّة. وتقوم هذه النظرة الاستعلائيّة على احتقار الآخرين وتهميشهم. وهي منطلقات الشوفينيّة نفسها والنظرة التي تقدّمها في التعامل مع الآخرين من منظور الاستعلاء والتعصّب والمبالغة في الانتماء.
(55)
الشوفينيّة والقوميّة التركيّة: القوميّة التركيّة هي الأيدلوجيّة السياسيّة التي تعزّز وتمجّد الشعب التركيّ، كجماعة قوميّة أو لغويّة. وترتبط القوميّة التركيّة ارتباطاً وثيقاً مع مفهوم الوحدة التركيّة التي دعت إلى وحدة الشعوب التركيّة حول العالم.(
)ويجب أن نشير إلى حقيقة هامّة هي ارتباط القوميّة التركيّة ارتباطاً وثيقاً بالزعيم مصطفى أتاتورك الذي حاول أن يجمع شتات الأتراك وقام بتغيير جذريّ في الأمّة التركيّة، بدأ بالمظاهر العامّة في تغيير أشكال الناس، حيث منع اعتماد الطربوش والعمامة، ومنع المدارس الدينيّة، وألغى المحاكم الشرعيّة، والألقاب المذهبيّة وتبنّى التقويم الدوليّ، وكان مُتعصّباً لفكرةِ تمجيد الأتراك.
ولقد انبثق من القوميّة التركيّة والتعصّب للشعب التركيّ مصطلح آخر يُسمَّى الطورانيّة. والطورانيّة هي حركة عنصريّة تدعو إلى اتّحاد الشعوب التركيّة وإحياء أمجاد الأتراك الأوائل، وربط الأتراك المعاصرين بتراثهم الحضاريّ القديم، وسيادة العنصر التركيّ على غيره من الشعوب.(
)من هنا نرى ارتباط الشوفينيّة والقوميّة التركيّة بروابط وثيقة، لأنّ لهم المنطلقات الفكريّة والقواسم المشتركة نفسها، من التعصّب لجنس على حساب الآخر ولعرق على حساب الآخر، ليس هذا فحسب بل تهميش الجنسيّات الأخرى وعدم الاعتراف بحقوق هذه الجنسيّات، وهذا ما يتّضح جلياً في موقف القوميّة التركيّة من الأرمن وعدم الاعتراف بهم وتهميشهم، بل عدم الاعتراف بهم في العيش المشترك داخل حدود الدولة التركيّة. وهي مبادئ الشوفينيّة نفسها التي تتعصّب لأمّة أو عرق إلى درجة عدم الاعتراف بالأعراق الأخرى.
ولقد بدأت القوميّة التركيّة كعقيدة متمرّدة لها تعاليم ثوريّة ومبادئ محضة تركيّة عبّر عنها (زيا كوكالب) بأنّ جميع الأفراد الذين يتكلّمون اللغة التركيّة ويتقاسمون حضارة واحدة ويتلّقون ثقافة واحدة ولهم دين واحد مشترك، يجب أن يتّحدوا في وطن واحد سياسياً. ولقد عملت النزعة الطورانيّة على تأجيج مشاعر القوميّة عند الشعب التركيّ، وإضعافها عند الأقليّات الأخرى مثل الأرمن. والقوميّة التركيّة أيضاً تمجّد التاريخ والبطولات العسكريّة للغزاة الأتراك القدماء أمثال جنكيز خان- تيمورلنك- هولاكو. وتشدّد على التعصّب للأتراك على حساب باقي الجنسيّات والأعراق.(
)من كلّ ما سبق نرى النظرة المتعصّبة والمغالاة في الانتماء من جانب القوميّة التركيّة وتهميش باقي الأجناس والأعراق وعدم الاعتراف بحقوقها. وهي منطلقات الشوفينيّة نفسها في النظرة الدونيّة للأجناس الأخرى وتهميشها والنظرة الاستعلائيّة وكلّها
أفكار مرفوضة. لذلك يجمع بين القوميّة التركيّة والشوفينيّة أواصر قويّة وصلات كبيرة، لأنّهما ينطلقان من المنطلقات الفكريّة نفسها.
الشوفينيّة والطائفيّة: بداية نودّ الإشارة إلى وجود أواصر وروابط مشتركة بين مصطلحي الطائفيّة والشوفينيّة حيث يجمع بينهما التعصّب لطائفة أو جماعة من الجماعات. وإذا ألقينا الضوء على مصطلح الطائفيّة فسوف نرى أنّه مفهوم مشتقّ من طاف يطوف فهو طائف، فالبناء اللفظيّ يعني تحرّك الجزء من الكلّ دون أن ينفصل عنه بل يتحرّك في إطاره وربّما لمصلحته. والطائفيّة هي الانتماء لطائفة معيّنة سواء كانت دينيّة أو اجتماعيّة، ولكن ليست عرقيّة فمن الممكن أن يجتمع عدد من القوميّات في طائفة واحدة بخلاف أوطانهم. ولقد جرى مزج وخلط مفهوم طائفيّة ذات المكوّن العدديّ مع مفاهيم أخرى ذات مضمون فكريّ أو فلسفيّ أو عرقيّ أو مذهبيّ. ولقد أصبح مفهوم الطائفيّة يستخدم بديلاً لمفاهيم الملّة والعرق والدين التي كانت قبل ذلك، واختلطت هذه المفاهيم جميعاً في بيئة متزامنة فكريّاً وسياسيّاً وأنتجت الطائفيّة باعتبارها تعبيراً عن حالة أزمة تعيشها مجتمعات مثل العراق واليمن ولبنان، حيث أصبحت الطائفيّة مذهباً وأيديولوجيّات وهويّة حلّت محلّ الهويّات الأخرى والانتماءات الأعلى وبدأت تتعالى عليها.( )
ويجب أن نشير إلى حقيقة هامّة وهي أنّ هناك اتّفاقاً بين كلّ
الدول في أنّ من حقّ كلّ البشر الانتماء والتصريح بالانتماء لأيّ دين أو اعتقاد أو طائفة، بشرط أن تكون أفكار الشخص لا تحضّ على أيّ أذى أو إجرام أو ضرر بالآخرين. والشخص الطائفيّ هو الذي يتّبع بشكلٍ متعنّت طائفة معيّنة. والطائفيّة في عصرنا الحاضر ترتكز على مفهوم جوهريّ هو التمييز بالعمل أو الكره حتّى القتل على أساس طائفة الشخص أو دينه.(
)من هنا يتّضح لنا التقارب الشديد في المنطلقات والأسس الفكريّة بين الشوفينيّة والطائفيّة، لأنّ كليهما ينطلق من التعصّب للانتماء لجماعة أو أمّة أو عرق أو مذهب أو طائفة، والمبالغة في هذا التعصّب، ممّا يجعله تعصّباً مقيتاً ومكروهاً بل مرفوضاً. لأنّ الطائفيّة والشوفينيّة ليس لديهما أسباب ومبرّرات منطقيّة في المغالاة في التعصّب والانتماء، ويصل الحدّ إلى تهميش الأعراق والأمم الأخرى وعدم الاعتراف بحقوقها.
ويجب أن نلفت الانتباه إلى أنّ النظرة الشاملة لمفهوم الطائفيّة تكشف عن وجهين متضادّين: الأوّل يتمثّل في التعامل مع الانتماء المذهبيّ بشكل طبيعيّ كحالة فطريّة متجذّرة في التركيبة الإنسانيّة، والثاني يرتبط بالتعصّب الطائفيّ وما ينجم عنه من انحراف وأوهام. وهناك صلة وثيقة وعلاقة وطيدة بين السياسة والطائفيّة أي ما يسمّى الطائفيّة السياسيّة وفي معظم الأوقات تكون هذه الطائفيّة السياسيّة مكرّسة من ساسة ليس لديهم التزام دينيّ أو مذهبيّ بل هو موقف انتهازيّ للحصول
على عصبيّة كما يسمّيها ابن خلدون أو شعبيّة كما يطلق عليها في عصرنا هذا ليكون الانتهاز السياسيّ قادراً على الوصول إلى السلطة. إنّ مجرّد الانتماء إلى طائفة أو فقرة أو مذهب لجعل الإنسان المنتمي إلى تلك الطائفة يتعصّب لطائفته على حساب طائفة أُخرى. وتنقسم الطائفيّة إلى أنواع عديدة أشهرها الطائفيّة الدينيّة. وهي تمثّل مجموعة فرعيّة تنتمي لدين معيّن وتتميّز باسم محدّد ولها تقاليد وهويّة مستقلّة. وينضوي تحت هذا المفهوم ما يعرف باسم التعدديّة الطائفيّة ويشير هذا المصطلح إلى الطقوس الدينيّة التي تتضمّن العديد من الطوائف الدينيّة التي لا ترتبط بعضها مع بعض في ظلّ ديانة واحدة تشمل العديد من الفعاليات والطقوس، هذه الطقوس يقوم بها زعماء العديد من هذه الطوائف الدينيّة. وتنشأ الطوائف الدينيّة على مدى فترات زمنيّة طويلة وببطء شديد، وتنشأ هذه الطوائف الدينيّة تحت تأثيرات جغرافيّة وثقافيّة بين مختلف المجموعات ممّا يؤدّي إلى جنوح مجموعة معيّنة من معتنقي ديانة بأفكارهم بعيداً عن المعتقدات الأساسيّة لهذا الدين.(
)ونستطيع أن نلمَح بعض السمات المميّزة للطائفيّة التي في جوهرها أي في هذه السمات تنطلق من منطلقات الشوفينيّة نفسها، من أهمّ هذه السمات والخصائص التي تميّز الطائفيّة أنّها جماعة منظّمة لها تقاليدها وثقافتها المميّزة، وأنّها ذات طبيعة إقصائيّة، بمعنى أنّها تستبعد الآخر وتهمّشه ولا تعترف بوجوده أحياناً وهي
مبادئ الشوفينيّة نفسها التي تتعصّب لعرق أو أمّة أو أفكار معيّنة على حساب الأخر.(
)من كلّ ما سبق يتّضح لنا وجود رابطة وعلاقة بين الشوفينيّة والطائفيّة على أساس انطلاقهم من المنطلقات والأفكار نفسها من خلال التعصّب في الانتماء لطائفة أو عرق أو جنس أو مذهب، ومن خلال تهميش باقي الأعراق والأفكار والمذاهب، وهنا تتحوّل الطائفيّة إلى شوفينيّة بغيضة ما دامت لا تعترف بحقوق الآخرين وتبالغ في التعصّب.
الشوفينيّة والاستعلاء العرقيّ: الاستعلاء العرقيّ هو اعتقاد الإنسان بأنّ أمتّه أو الجنس الذي ينتمي إليه الأحسن والأكثر اتّساقاً مع الطبيعة. كذلك يشير هذا المفهوم إلى الاعتقاد بأنّ جماعة الفرد هي الأفضل بين كلّ الجماعات، وأنّ الحكم على الآخرين يجري على أساس أنّ جماعة الفرد هي مرجع هذا الحكم إيماناً بالقيمة الفريدة والصواب التّامّ للجماعة التي ينتمي إليها والترفّع عن الجماعات الأخرى إلى الحدّ الذي يعتبرها نوعاً من غير نوع جماعته. ولا شكّ في أنّ هذا التمركز العرقيّ يُعدّ عاملاً هامّاً في نشأة الصراعات العرقيّة والتعصبيّة. فالاستعلاء العرقيّ يعطي الناس شعوراً بالانتماء والكبرياء والرغبة في التضحية من أجل خير الجماعة، ولكنّه يصبح ضارّاً إذا بلغ حدّ التعصّب.( )
من التعريف السابق للاستعلاء العرقيّ يتّضح لنا وجود علاقة وثيقة وصلة قويّة بينه وبين الشوفينيّة، من خلال التعصّب لجنس على حساب آخر، والمبالغة في الانتماء لعرق على حساب آخر. وليس هذا فحسب بل تهميش الجنسيّات الأخرى والأعراق الأخرى، والاستعلاء عليها والنظرة إليها نظرة دونيّة. وهذا هو جوهر الشوفينيّة التي تنطلق من التعصّب لجنس أو وطن أو عرق على حساب الأعراق الأخرى، وأحياناً عدم الاعتراف بالآخر وعدم تقبّله. من هنا نجد القواسم المشتركة نفسها بين المصطلحين والأفكار الأساسية نفسها من المبالغة والتعصّب في الانتماء مع وجود النظرة الاستعلائيّة. وليس هذا فحسب بل قد يصل الأمر إلى رفض الأفكار والآراء القادمة من الثقافات الأخرى وعدم تقبّلها، واضطهاد الجماعات الأخرى واعتبرها أقليّات ليس لها حقوق.
ولقد ارتبط بمفهوم الاستعلاء العرقيّ عدد من المصطلحات التي تصبّ في مجموعها في التعصّب والاستعلاء والتمييز العرقيّ وتفضيل جنس على حساب الآخر. من أشهر هذه المصطلحات الإثنيّة، التي تعتبر ظاهرة تاريخيّة تعبّر عن هويّة اجتماعيّة تستند إلى ممارسات ثقافيّة معيّنة، ومعتقدات متفرّدة والاعتقاد بأصل وتاريخ مشترك وشعور بالانتماء إلى جماعة تؤكّد هويّة أفرادها في تفاعلهم بعضهم مع بعض ومع الآخرين. وهناك تفرقة بسيطة يجب أن نلفت الانتباه إليها وهي أنّ العرقيّة تختلف عن الإثنيّة في أنّها قائمة على الأصل السلاليّ أو العرقيّ المشترك فهي تعبّر عن شعب أو قبيلة بغضّ النظر عن الثقافة والمعتقدات العرقيّة أو الإثنيّة. هناك مفهوم
(62)الجماعة الإثينيّة أيضاً (Ethnic) ولقد ظهر هذا المفهوم في الأساس للدلالة على مفهوم الأقليّة التي تشير إلى القلّة العدديّة، وكذلك على ميراثه التاريخيّ الذي يشير ولو بطريقة لاشعوريّة في التراث إلى جماعة متميّزة لها أسس مشتركة ثقافيّة ولغويّة ودينيّة أو سمات سلوكيّة أو بيولوجيّة.(
)نلمح هنا أيضاً في مفهوم الإثنيّة التعصّب لعرق على حساب آخر، والمبالغة في الانتماء لهذا العرق ولهذا الجنس، وتهميش الأعراق الأخرى، وهي منطلقات الشوفينيّة نفسها من التعصّب والمبالغة في الانتماء والنظرة الاستعلائيّة.
من المفاهيم المرتبطة بالاستعلاء العرقي أيضاً مصطلح التفوّق العرقيّ الذي ينطلق من التعصّب لعرق ولجنس معيّن ووضعه فوق الأعراق والأجناس الأخرى، وتفضيله على الأعراق الأخرى. بداية نشير إلى حقيقة هامّة وهي أنّ كلّ الأمم تنتمي إلى أعراق والتعصّب للعرق أو للأمّة أمر طبيعيّ في حدود الاعتدال أمّا إذا تجاوز حدّ الاعتدال فإنّه يصبح خطراً ويصبح مرفوضاً، بل يتحوّل إلى شوفينيّة بغيضة.
إنّ نظريّة التفوّق العرقيّ تؤسّس لثقافة تقول بتفوّق عرق على آخر بناء على جملة الفرضيّات الخاصّة باللون، أو الشكل أو المناخ أو الذكاء أو العقيدة. وتعود جذور هذه النظريّة أو هذا المصطلح إلى أرسطو الذي تعصّب للعرق اليونانيّ واعتبره أفضل الأعراق وكذلك
ميّزه عن الأعراق الأخرى وجعل فيه من السمات والخصائص ما يتفوّق به على الأعراق الأخرى. كما أنّ نظريّة التفوّق العرقيّ ترى أنّ الشرقيّين هم الأعراق الدنيا ودونيّتهم العرقيّة موافقة لنظام الطبيعة الذي أقرّ مبدأ التفاوت في الأجناس، وعليه فلا يرجى منهم أيّ شيء، ولا مكان للتاريخ حيث يوجد الشرقيّون لأنَّ السلالة الشرقيّة عقيمة. أمّا الأعراق الغربيّة فهي أعراق عليا ولهم ميزة التفوّق لأنّهم سلالة نقيّة وخصبة وحاملة للإمكانات التاريخيّة والعرق الأبيض ولد ناضجاً، ليس له طفولة بدائيّة، وهو يملك كلّ إمكانات التفوّق والتميّز.(
)من كلّ ما سبق نرى الصلة الوثيقة والعلاقة القويّة بين الشوفينيّة والاستعلاء العرقيّ والإثينيّة والجماعات الإثينيّة وكلّ المصطلحات التي تنطلق من النظرة الاستعلائيّة لعرق على آخر أو جنس أو مذهب، مع التعصّب لهذا العرق والمبالغة في الانتماء له ورؤية بقيّة الأعراق في مستوى أدنى وأقلّ. ومع إعطاء الأفضليّة لهذا العرق واعتباره أنّ الحضارة تبدأ به وتنتهي به. وأنّ له العطاء الحضاريّ والتفوّق الحضاريّ على باقي الأعراق والأجناس. وهي النظرة الشوفينيّة نفسها التي تفضّل وتتعصّب لجنس على حساب آخر وتؤمن بالتمييز العرقيّ وتبالغ في الانتماء لهذا العرق.
الشوفينيّة والقبيلة: بداية تعرف القبيلة بأنّها جماعة من الناس تنتمي في الغالب إلى نسب واحد يرجع إلى جدّ أعلى يعتبر بمثابة جدّ. وتتكوّن القبيلة من عدّة بطون وعشائر، وغالباً ما يسكن أفراد القبيلة إقليماً مشتركاً يعدونه وطناً لهم، ويتحدّثون بلهجة مميّزة،
ولهم ثقافة متجانسة أو تضامن مشترك (أي عصبيّة) ضدّ العناصر الخارجيّة.(
)أمّا تعريف اللغة من ناحية الاصطلاح فهي جماعة أو بنو أب واحد، كما أنّها نظام اجتماعيّ وجد من العصور القديمة لعصرنا الحاليّ. فالقبيلة تنظيم اجتماعيّ لأفراد ينتمون إلى جماعة واحدة للتعرّف بينهم. ومن أهمّ ما يميّز تلك الجماعة التفاخر بالأحساب والأنساب والتعصّب للقبيلة.(
)من هنا نرى قواسم مشتركة وعلاقات كبيرة بين مصطلح الشوفينيّة والقبيلة، لأنّهما ينطلقان من المنطلقات الفكرية نفسها من الانتماء إلى أرض أو وطن مشترك، يجمع بينهما الانتماء لمكان واحد ويجمعهم عوامل تاريخيّة وجغرافيّة واحدة، كما أنّ هناك التعصّب لهذا المكان أو الأرض أو الوطن. فالقبيلة يجمعها عوامل مشتركة من العيش على أرض واحدة والانتماء إلى عادات وتقاليد وتراث مشترك. كما أنّ هناك لغة وتاريخاً واحداً مشتركاً ولهجات تجمع بين أبناء القبيلة الواحدة.
نرى أن التفاخر بالاحساب والأنساب والتعصّب لتلك الاحساب أيضاً من أهمّ خصائص النظام القبليّ وهنا دعوة شوفينيّة أيضاً من التعصّب والمبالغة في الانتماء. إذاً القبيلة تمثّل تنظيماً اجتماعياً يقوم على إقليم واحد تجمع بينهم علاقات اجتماعيّة واقتصاديّة مشتركة.
ويمكن أن نلمح مصطلح هامّ ومفهوم أساسيّ داخل القبيلة وهو مصطلح العصبيّة القبليّة للأقارب وذوي الأرحام، وهذا النوع من العصبيّة يكون داخل إطار القبيلة ذاتها. فعلى الرغم من أنّ أفراد القبيلة يربطهم نسب واحد إلّا أنّ الرباط الكائن بين ذوي القُربى من أمثال أبناء العمومة والخؤولة يكون أمتن من النسب العامّ، وأفراد القبيلة يشعرون بنصرة من يشترك معهم في البيت (الفصيلة) ثمّ تأتي بعد ذلك نصرة من يشترك معهم في الفخذ، فالبطن، فالعشيرة. وعصبيّة القبيلة تطغى على ما سواها بمقدار الخطر الذي يهدّد القبيلة، كما يمكن أن يتجاوز هذه العصبيّة نظام القبيلة إلى القبائل الأخرى المتحالفة، أو عصبيّة الولاء.(
)بناءً على ذلك نرى أنّ القبيلة هي وحدة تكوين اجتماعيّ تتميّز بالأصل الواحد، وتمتاز أيضاً بوحدة الجنس. ويربط بين أعضائها المصالح الاجتماعيّة والسياسيّة المشتركة، ومن خلالها تنتظم الحقوق والواجبات المترتّبة على الأفراد بوصفهم أعضاء ضمن هذا التنظيم. وتمثّل الروابط الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة عوامل فّعالة في تنظيم العلاقات بين أفراد القبيلة.
ويجب أن نلفت الانتباه إلى أنّ النظام القبليّ الاجتماعيّ يمتاز بمجموعة من السمات والخصائص أهمّها:
1- وحدة اللغة والثقافة والمكان، فيلاحظ أنّ أفراد القبيلة الواحدة يستخدمون لغة واحدة ولهجة تميّزهم عن القبائل الأخرى.
إضافةً إلى تشكّل منظومة ثقافيّة عبر تاريخها أي القبيلة تحدّد هذه المنظومة أوجه التكامل في الحقوق والواجبات بين أفراد القبيلة.
2- يسود الشعور بين أفراد القبيلة الواحدة بالهموم المشتركة والمصير المشترك، ولهذا يزداد إحساسهم بالانتماء لقبيلتهم الواحدة.
ويجمع بين أفراد القبيلة وحدة اجتماعيّة تقوم على عشائر بمعنى أنّ القبيلة الواحدة تنتظم في عشائر، وتنتظم العشرة في بطون والبطون في أفخاذ والأفخاذ في حمولات والحمولات في أُسر ممتدّة والأسر في أسر صغيرة. وتقوم السلطة في القبيلة على تسلسل هرميّ، فيعدّ شيخ القبيلة وزعيمها ممثّلاً لها في علاقتها مع غيرها من القبائل والتنظيمات الاجتماعيّة الأخرى، ويحظى شيخ القبيلة بالاحترام والتقدير داخل القبيلة وخارجها.(
)من كلّ ما سبق تتّضح لنا العلاقة الوثيقة بين الشوفينيّة والقبيلة لأنّ بينهما قواسم مشتركة تتمثّل في الانتماء لمكان واحد والتعصّب لهذا الانتماء. كما يجمع بينهم لغة واحدة وتاريخ مشترك، لذا تمثّل القبيلة بطريقة غير مباشرة دعوة إلى الشوفينيّة لأنّها تتعصّب لجماعة على حساب الأخرى، وتهمش باقي الجماعات وتقلّل من حقوقها لذا هذه الأفكار تكون مرفوضة لأنّها تدعو إلى تعصّب مقيت. وتدعو إلى المبالغة في الانتماء للوطن أو الأرض أو الأفراد أو الأفكار.
الشوفينيّة والأمّة: من خلال إلقاء الضوء على تعريف الأمّة وكيف تجمع بين دفّتيها أفراداً وجماعات يعيشون على أرض واحدة يجمع
بينهم تاريخ مشترك وأهداف ومصالح مشتركة، سوف يتبيّن لنا مدى العلاقة بين مصطلح الشوفينيّة والأمّة وأنّه يجمع بينهم روابط مشتركة ومنطلقات واحدة.
إذا أردنا أن نعرف الأمّة فسوف نرى أنّها عبارة عن جماعة من الناس يرتبط أفرادها بروابط معيّنة مثل اللغة أو الجنس أو الدين من ناحية، والمصالح المشتركة والغايات الواحدة من ناحية أخرى، ويقطنون رقعة من الأرض حتّى لو لم يخضعوا لنظام سياسيّ. والأمّة وفق هذا الاصطلاح تمثّل حقيقة وكياناً مجرّداً له وجود مستقلّ. فالأمّة هي التركيبة التي يتحقّق فيها وبموجبها الامتداد القانونيّ والمتضامن بين الأجيال المتعاقبة ودوام المصالح المشتركة وثباتها.(
)فهي تمثّل مجموعة من الناس الذين يرتبطون فيما بينهم بعامل مشترك أو عدّة عوامل كاللغة والأصل المشترك والدين والتاريخ، إضافةً إلى ارتباطهم بالمصالح المشتركة التي تجمع شملهم، لذا وجب على الفرد الإخلاص في الانتماء لأمّته والولاء لها.(
)من تعريفات مصطلح الأمّة أيضاً التي تلقي الضوء على وجود رابطة قويّة مع مصطلح الشوفينيّة، هو تعريف (محمد رشيد رضا) أنّ الأمّة هي مجموعة أفراد من عنصر واحد ولغة واحدة وحضارة واحدة وإرث تاريخيّ مشترك. فضلاً عن وجود مصالح مشتركة بين أفرادها.(
)من هنا يتّضح لنا أن الأمّة هي جماعة من الناس يقطنون في وطن أو أرض مشتركة يجمع بينهم قواسم مشتركة من اللغة والدين والحضارة والتاريخ. وهي منطلقات الشوفينيّة نفسها التي تؤكّد المبالغة في الانتماء للوطن وللعرق أو الأفكار. ويتّضح لنا عمق العلاقة بين الأمّة والشوفينيّة من التركيز في المصالح المشتركة والأهداف الواحدة والغايات المشتركة، هذه المصالح والأهداف تجعلهم يتعصّبون أي الأفراد ويبالغون في الانتماء لأمّتهم والتعصّب لإرثهم الثقافيّ والتاريخيّ، ما داموا يجمعهم قواسم مشتركة من لغة وتاريخ ودين وأهداف واحدة. هنا نرى تشابه المنطلقات الفكريّة بين الشوفينيّة والأمّة. ولقد تمثّلت تلك القواسم المشتركة في الأمّة الإسلاميّة بوضوح حيث يجمع بين أفراد الأمّة الإسلاميّة الأرض واللغة الواحدة والدين الواحد ووحدة التاريخ والأهداف والغايات المشتركة. ويوجد عدّة سمات وخصائص تميّز الأمّة الإسلاميّة عن غيرها من الأمم من أهمّ هذه السمات والخصائص:
1- النظام: من أهمّ سمات الأمّة الإسلاميّة وهذه السمة تجعل الأمّة الإسلاميّة أمّة نظام يقوم على جوهر الإسلام وهو الدين الإسلاميّ.
2- الوسطيّة: من أدقّ خصائص الأمّة الإسلاميّة الوسطيّة، فالأمم السابقة كانت تغلو غلواً ماديّاً مثل اليهود، أمّا النصارى كانت تغلو غلوّاً روحيّاً، أمّا الأمّة الإسلاميّة فهي أمّة وسط تجمع بين الماديّة والروحيّة.(
)من كلّ ما سبق تتّضح لنا العلاقة المتشابهة بين مصطلح الأمّة والشوفينيّة من خلال الانتماء للوطن والقواسم المشتركة من لغة وتاريخ وأهداف واحدة تجمع بين أفرادها.
الشوفينيّة والهويّة: بداية لقد حرصت شعوب العالم منذ بداية البشريّة حتّى اليوم على المحافظة على تميّزها وتفرّدها اجتماعيّاً وقوميّاً وثقافيّاً، لذلك اهتّمت بأنْ يكون لها هويّة تساعد في إعلاء شأن الأفراد في المجتمعات، وساهم وجود الهويّة في زيادة الوعي بالذات الثقافيّة والاجتماعيّة ممّا ساهم في تمييز الشعوب بعضها عن بعض. فالهويّة جزء لا يتجزّأ من نشأة الأفراد منذ ولادتهم حتّى رحيلهم عن الحياة.
وإذا أردنا أن نُعرّف الهويّة فإنّها تمثّل مجموعة من المعالم والخصائص والسمات التي يمتلكها الأفراد وتجعلهم يحقّقون صفة التفرّد عن غيرهم. تمثل الهويّة أيضاً كلّ شيء مشترك بين أفراد مجموعة محدّدة أو شريحة اجتماعيّة تساعد في بناء محيط عام لدولة ما.(
) من التعريف السابق للهويّة نرى أنّها تمثّل مجموعة من السمات والخصائص العامّة التي تميّز مجموعة من الأفراد أو الجماعات عن غيرها، وهذا يقترب إلى حدّ بعيد من منطلقات الشوفينيّة التي يجمع بين أفرادها قواسم مشتركة من التاريخ واللغة والتراث الثقافيّ الواحد. والهويّة هي التي تميّز أمّة أو جماعة عن أخرى ويبالغ أفراد هذه الجماعة في الانتماء للوطن أو لتلك الجماعة ويتعصّبون لجماعتهم أو وطنهم وهي منطلقات الشوفينيّة نفسها.ويمكن توضيح تلك العلاقة بين الشوفينيّة والهويّة من خلال إلقاء الضوء على أنواع الهويّة وتقسيماتها، تنقسم الهويّة إلى الهويّة الوطنيّة، والهويّة الثقافيّة.
1- الهويّة الوطنيّة: فالهويّة الوطنيّة في كلّ أمّة هي الخصائص والسمات التي تتميّز بها، وتترجم روح الانتماء لدى أبنائها ولها أهميّتها في رفع شأن الأمم وتقدّمها وازدهارها وبدونها تفقد الأمم كلّ معاني وجودها واستقرارها. إذاً الهويّة الوطنيّة في كلّ أمّة هي التي تتميّز بها وتترجم روح الانتماء لدى أبنائها. وللهويّة الوطنيّة عناصر رئيسة وأساسيّة من أهمّها: 1- التاريخ وهو التاريخ المشترك الذي يربط بين من يشتركون في الهويّة الوطنيّة الواحدة، ويمثّل الأحداث التي مرّت بآبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم.
2- الحقوق المشتركة بحيث يتمتّع أبناء الهويّة الوطنيّة الواحدة بالحقوق ذاتها كحقّ التعبير عن الرأي وحقّ العمل.
3- الواجبات وهي الواجبات الفرديّة والجماعيّة التي يتعيّن على المجموع الوطنيّ العام القيام بها بصفة فرديّة.(
)ومن هنا نرى أنّ الهويّة الوطنيّة هي التي تحثّ المشدودين بها وإليها على بناء الوطن وتنميته والعمل على تقدّمه وحفظ كرامته. ونرى كذلك أنّ الهويّة الوطنيّة تمثّل منظومة اجتماعيّة وأخلاقيّة ترتبط بتفاصيل حياة الشعب ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، تقوم على استحضار جوهر وجوده واستقراء أسباب بقائه، حفاظاً على هذا الوجود من التشتّت والتفكّك والإلغاء، وذلك من خلال تعزيزه
بمقوّمات الانتماء والمواطنة والعمل. والهويّة الوطنيّة تجمع بين دفّتيها القيم الحضاريّة والعادات والتقاليد واللغة والعقيدة لأيّ شعب أو أمّة من الأمم(
).من هنا نرى تشابهاً وعلاقة بين مصطلح الهويّة الوطنيّة والشوفينيّة من حيث المنطلقات الفكريّة المتمثّلة في وحدة اللغة والتاريخ والعقيدة، ليس هذا فحسب بل في الانتماء لهذه القواسم المشتركة والعمل على تعزيزها والاهتمام بها.
كما أنّ الشوفينيّة والهويّة الوطنيّة تؤكّد الانتماء للوطن والحفاظ على أرضه. من أنواع الهويّة أيضاً ما يعرف باسم الهويّة الثقافيّة، والتي تمثّل مجموعة من الملامح والأشكال الثقافيّة الأساسيّة الثابتة، كما أنّها تمثّل مركباً متجانساً من التصوّرات والذكريات والرموز والقيم والإبداعات والتعبيرات والتطلّعات لشخص او مجموعة ما.(
)إذاً الهويّة الثقافيّة عبارة عن ثقافة ما أو هويّة لمجموعة ما أو شخص ما، كما أنّها المُعبّر الأساسيّ عن الخصوصيّة التاريخيّة لأمّة من الأمم، وتحتوي على التراكمات الثقافيّة والمعرفيّة، والعادات والتقاليد. إذاً الهويّة الثقافيّة تمثّل هويّة لمجموعة ما أو شخص ما، كما أنّها تعني التفرّد الثقافيّ بكلّ ما تتضمّنه معاني الثقافة من عادات وأنماط سلوك وميل وقيم ونظرة إلى الكون والحياة. فهي
جملة المعالم المميّزة للشيء التي تجعله هو لا غيره، فكلّ إنسان له نسقه القيميّ ومعتقداته وعاداته التي تميّزه عن غيره وكذلك الشعوب والأمم(
).من كلّ ما سبق يتّضح لنا وجود علاقة وصلة بين مصطلح الشوفينيّة والهويّة بوجه عام والهويّة الوطنيّة والثقافيّة بوجه خاصّ، لأنَّ هناك منطلقات فكريّة مشتركة بين المصطلحين أي الهويّة والشوفينيّة، كلاهما يعتمد على التفرّد والتميّز والانتماء للوطن أو الجماعة أو الأمّة، ويبالغ في هذا الانتماء. والقواسم المشتركة بين المصطلحين هي التاريخ المشترك الأرض اللغة الدين المصالح المشتركة، وتأكيد مبدأ الانتماء للجماعة أو الوطن أو العرق أيضاً وتعزيز هذا الانتماء بكلّ السبل. لذا هذه المنطلقات تؤكّد وحدة الانتماء وتؤكّد التميّز والتفرّد الذي يعتبر سمة مشتركة بين الشوفينيّة والهويّة.
الشوفينيّة والأيديولوجيا: يوجد بداية علاقة بين مصطلحي الشوفينيّة والأيدولوجيا في المنطلقات الفكريّة من التعصّب لجماعة معيّنة أو أفكار وقيم معيّنة. وإذا أردنا أن نلقي الضوء على هذه العلاقة فإنّنا يجب أن نُعرّف الأيدولوجيا. أحد أشهر التعريفات أنّها تمثّل نظاماً من الأفكار المتداخلة كالمعتقدات والأساطير التي تؤمن بها جماعة معيّنة وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعيّة والأخلاقيّة والدينيّة والسياسيّة. كذلك تمثّل الأيدولوجيا نسقاً من الأفكار يبرّر خضوع جماعة من
الجماعات أو طبقة من الطبقات لجماعة أو طبقة أخرى مع إضفاء نوع من الشرعيّة على هذا الخضوع.(
)من التعريف السابق نرى وجود علاقة بين الشوفينيّة والأيدولوجيا من حيث التعصّب في الانتماء إلى طبقة معيّنة أو جماعة، وهذا الانتماء يكون على حساب الجماعات الأخرى والجماعات الأخرى مما يجعل كلا المصطلحين ينطلقان من التعصّب لمصالح الطبقة التي ينتمي إليها، وهذا يكون على حساب الطبقات الأخرى، وتهميشها والتقليل من أهميّتها وبخسها حقوقها والتقليل من شأنها.
ولقد قسم (كارل مانهايم) الأيدولوجيا إلى نمطين:1- الأيدولوجيا الخاصّة التي تتعلّق بمفهوم الأفراد وتبريراتهم للمواقف التي تهدّد مصالحهم.
2- الأيدولوجيا الكليّة التي تتعلّق بالتفكير السائد داخل الطبقة والحقبة التاريخيّة كما هي الحال لنمط التفكير السائد لدى البرجوازيّة أو البرولتاريا(
).إذاً الأيدولوجيا تمثّل مجموعة من الأفكار والقيم والمعتقدات التي تخفي وراءها مصالح طبقة معيّنة على حساب طبقة أخرى. كذلك تمثّل الأيدولوجيا مجموعة الأفكار التي تفرضها طبقة معيّنة من أجل السيطرة على طبقة أخرى، وكذلك من أجل تحقيق
مصالحها الشخصيّة، فهي منظومة من الأفكار المرتبطة اجتماعيّاً بمجموعة اقتصاديّة أو سياسيّة أو عرقيّة أو غيرها. منظومة تعبّر عن المصالح الواعية بهذا المقدار أو ذاك لهذه المجموعة على شكل نزعة مضادّة للتاريخ.
ومن أشهر استخدامات الأيدولوجيا في عصرنا الحاليّ التي يتّضح من خلالها ارتباطها بالشوفينية في المنطلقات الفكريّة هو مجال المناظرة السياسيّة، والتي تعبّر عن الوفاء والتضحية وترى في أيديولوجيا الخصوم أقنعة تستتر وراءها نيّات خفيّة حقيرة. ولقد استخدم ماركس الأيدولوجيا بمفهوم التعصّب لطبقة معيّنة هي طبقة البرولتاريا ويعلّل قوله آستناداً إلى تطوّر التاريخ. أمّا نيتشه فيرى أنّ القيم هي أوهام ابتدعها المستضعفون لتغطية غلّهم ضدّ الأسياد، ويعلّل قوله استناداً إلى قانون الحياة. فالأيدولوجيا هي قناع لمصالح فئويّة إذا نظرنا إليها في إطار مجتمعيّ يقوم على المصالح المشتركة.(
)من كلّ ماسبق نرى وجود علاقة وصلة بين مصطلحي الشوفينيّة والأيدولوجيا، تقوم هذه الصلة وتلك العلاقة على تغليب المصلحة والمبالغة في الانتماء والتعصّب للأفكار وتهميش باقي الجماعات، ومحاولة فرض الأفكار بالقوّة واستخدام هذه الأفكار من أجل السيطرة، وتغليب مصالح الطبقة التي تريد أن تسيطر على الطبقات الأخرى أو الجماعات الأخرى. في الوقت نفسه محاولة تهميش باقي الجماعات والتقليل من شأنها وأهميّتها والنظرة الاستعلائيّة من
جانب الطبقة المسيطرة، وكلّها أفكار تمثّل لبّ الشوفينيّة، من هنا نرى تلك العلاقة الوثيقة بين الشوفينيّة والأيدولوجيا. إذاً الأيدولوجيا تمثّل قناعاً خفيّاً من أجل السيطرة ومن أجل تحقيق المصالح لفئة دون فئة أخرى أو على حساب فئة أخرى، وكان هذا واضحاً في مجال السياسة حيث الصراعات من أجل السيطرة وتحقيق المصالح الاقتصاديّة خصوصاً، لأنّ المنطق الذي يحكم الأيديولوجيّات هو الذاتيّة أي المنطق الذاتيّ في الحكم على الظواهر والأفكار، فعندما يجري تبنّي الأيدولوجيا من قبل فئة معيّنة من الناس، فإنّها تسعى من أجل تحقيق السيطرة وفرض ذلك الفهم على المجتمع بأكمله. وعند نجاحها ينتقل ذلك المنطق الداخليّ إلى المجتمع فيؤدّي انغلاق الفئة وديكتاتوريّتها في الفهم إلى انغلاق المجتمع وديكتاتوريّته مثلما حدث معَ النازيّة.
الشوفينيّة والنرجسيّة: النرجسيّة في أبسط تعريفها تعني حبّ النفس، وهو اضطراب في الشخصيّة حيث تتميّز هذه الشخصيّة النرجسيّة بالغرور والتعالي والشعور بالأهميّة ومحاولة الكسب حتّى لو على حساب الآخرين. وهذه الكلمة نسبة إلى أسطورة يونانيّة خلاصتها أنّ (نركسوس) كان آية في الجمال، وقد عشق نفسه حتّى الموت عندما رأى وجهه في الماء. وتتميّز الشخصيّة النرجسيّة بأنّها شعور غير عاديّ بالعظمة ويسيطر على صاحبها حبّ الذات، وأنّه شخص نادر الوجود وهو غيور متمركز حول ذاته. ويميل النرجسيّون إلى إعطاء قيمة عالية لأفعالهم وشخصيّاتهم.( )
من هنا نرى أنّ الشخصيّة النرجسيّة تهتّم بذاتها وتتّسم بالغرور
وإهمال الآخرين ولا تتقبّلهم، وكذلك ترى نفسها الأفضل في كلّ شيء وما عداها الاسوأ والأقلّ. وهذه الفكرة أو الانطباع عن الذات بالنسبة للشخصيّة النرجسيّة لا يستطيع أحد مناقشتها في ذلك فلديها اقتناع تامّ بأنّها على حقّ دائماً. وهنا نرى بعض التداخل والتشابه مع الشوفينيّة في تفخيم الذات والإحساس بالعظمة، وإهمال الآخر وأحياناً عدم تقبّله. بل تشعر بأنّ الآخرين أقلّ مستوى في الذكاء. كما أنّ الشخصيّة النرجسيّة شخصيّة عنيدة في التعصّب لذاتها ومحاولة جعل شخصيّتها هي المركز بالنسبة للآخرين، وهذا يتشابه إلى حدّ كبير مع الشوفينيّة التي ترى في نفسها أنّها أهمّ شخصيّة وأنّ الآخرين يدورون في فلكها. وتقلّل من شأن الآخرين دائماً وتتعصّب لأفكارها ومذاهبها التي تعتنقها. كما أنّ الشخصيّة النرجسيّة تنظر إلى الآخرين من منظور نرجسيّ بعيد عن الإحساس بالآخرين، كما أنّها ذات طبيعة استغلاليّة وانتهازيّة. كلّ هذا يوضح التشابه بين مصطلحي النرجسيّة والشوفينيّة في المنطلقات من حبّ الذات والتعصّب للأفكار وعدم تقبّل الآخرين، ورؤية الذات أنّها على حقّ في كلّ شيء، وعدم تقبّل النقد من الآخرين.
(77)
هو ديكتاتور إيطاليّ حكم ما بين (1922- 1943) وهو من مؤسّسي الحركة الفاشيّة في إيطاليا وزعمائها سُمّي الدوتش (Duce) أي القائد. دخل حزب العمال الوطنيّ، ولكن خرج بسبب معارضة الحزب لدخول إيطاليا الحرب. ولقد عمل موسوليني في تحرير صحيفة افانتي (إلي الأمام) ثمّ أسّس ما يعرف بوحدات الكفاح التي أصبحت النواة لحزبه الفاشيّ الذي وصل به إلى الحكم بعد المسيرة التي خاضها في ميلانو في الشمال حتّى روما في الوسط.
التوجّه الفكريّ لموسوليني: خلال دراسته في جامعة لوزان تأثّر بأفكار تشارلز بيجوي الماركسيّة التي كانت تركّز في ضرورة إسقاط الديمقراطيّة الليبراليّة والرأسماليّة عن طريق استخدام العنف (نلاحظ هنا البدايات الأُولى عند موسوليني في استخدام العنف والقوّة وتجذّرت لديه رؤية أستاذه للتغيير بالعنف فجسّدها في تأسيس حركة شوفينيّة عرفت بالفاشيّة، وأصبحت على يديه تياراً يمارس العنف دون حدود في كلّ اتّجاه) ولقد أسّس جماعة متشدّدة في ميلانو عرفت باسم الفاشيّة تصاعد نفوذها وأصبحت حركة سياسيّة منظّمة استطاعت إيصاله إلى البرلمان عام 1921، ثمّ شكّل فرقاً مسلّحة من المحاربين القدامى سمّيت (سكوادريتشي) لإرهاب الاشتراكيّين، وفي عام 1922 صعد حملة وبدأ بتنظيم مظاهرات كبرى شارك فيها
آلاف من أصحاب القمصان السود (شعار الفاشيّة الايطاليّة) رافعاً خلال هذه المسيرة شعار إمّا (أن تُعطى لنا الحكومة وإمّا سنأخذ حقّنا بالمسير إلى روما) وبعد الوصول للسلطة ألغى الأحزاب والمنظّمات النقابيّة ومنع كلّ نشاط لغير الفاشيّين ومارس العنف والقمع ضدّ كلّ خصومه ونصب نفسه القائد الأوحد. وفي الشأن الخارجيّ استخدم أيضاً الديكتاتوريّة والعنف وغيّر سياسة إيطاليا تجاه ليبيا فنقض الاتّفاقات والمعاهدات مع الليبيّين ورفض الاعتراف بالمحاكم الشرعيّة في المناطق التي يسيطر عليها الإيطاليّون.(
)ودعا موسوليني إلى اجتماع وفيه أسّس حزباً سياسيّاً أسماه الحزب الفاشستيّ، لكنّهم لم يتصرّفوا كحزب سياسيّ وإنّما كرجال عنف وعصابات وقد لبسوا القمصان السود، وقال لهم موسوليني إنّ عليهم معالجة مشاكل إيطاليا وإنّ عليهم أن يكونوا رجالاً أقوياء. وهكذا أصبحت القمصان السود والهراوة علاقتين تميّزان حركة موسوليني حتّى أعيدت تسميتها لتصبح الفاشيّة. وبعد ذلك عمل على نشر مبادئ الفاشيّة في الشعب الإيطاليّ وخصوصاً الشباب وكان يقول لهم (أن تعيش يوماً واحداً أسداً خير من أن تعيش مائة عام مثل الخروف) لذا كان على الشباب أن يُعَدّوا كجنود صغار وعليهم الإيمان بالمبادئ الفاشيّة والسمع والطاعة. وكان الفاشيّون ينظّمون غارات في الأرياف وهم في شاحناتهم ويدخلون المزارع المعروفة بأنّها اشتراكيّة، فيقتلون الناس أو يعذّبونهم. وبعد أن شتّتوا الحزب الشيوعيّ واغتالوا العديد من قادته، وأزاحوا موسّساته النقابيّة بدأوا
في حربهم الثقافيّة في صبّ كلّ النزعات والاتّجاهات والأساليب في الأدب والفنّ في وعاء الاتّجاهات القوميّة، الذي تختلط فيه الفنون والآداب والدعاية باتّجاه منغلق ومعادٍ لأيّة قوميّة أخرى، أو اتّجاه آخر يخالف تلك الفاشيّة، وهذا يمثّل الهدف الجوهريّ عند موسوليني وهو تحرير الثقافة الايطاليّة وتوحيد أشكالها ومقاييسها لتتطابق وتتجانس مع الفكر الفاشستيّ. لذا بدأت حملة شرسة من جانب موسوليني ضدّ الصحافة والصحفيّين لتجريدهم من هُويّاتهم في النقابات الصحفيّة، كما أغلقت جميع المجلّات والصحف، كما صدرت قوائم سوداء بالمثّقفين وبأسماء الكتب المعادية التي يجب حرقها وإتلافها ومنعها من التداول.(
)ويجب أن نشير هنا إلى حقيقة هامّة وهي أنّ الفاشيّة عند موسوليني تتشابه مع الشوفينيّة إلى حدّ بعيد في المبادئ والأفكار، والتي تتمثّل في التعصّب لفكرة أو جنس أو شعب أو أمّة على حساب أُخرى، استخدام العنف والقوة وأيضاً في تغيير الأفكار، وتهميش الآخر وعدم التعامل معه أحياناً.
والفاشيّة التي يتبنّاها موسوليني تتميّز بعدّة خصائص منها العنصريّة والعسكريّة والقوميّة والتوسعيّة. أمّا وسائل عملها فمن خلال ديكتاتوريّة الحزب الواحد الممثّل بزعيمه. أمّا الفرق بين الفاشيّة وما تبقّى من الديكتاتوريّات الأخرى فيعود لمحاولة الأولى التأثير في الجماهير وكسب عطفهم بالخداع تارة وبالعنف تارة
أخرى، ومعالجة شعور الجماهير لتخديرها بالشعارات وغيرها من الوسائل البرّاقة كالعنصريّة أو تجديد أمجاد إمبراطوريّة.(
)وترتكز الفاشيّة عند موسوليني على عدّة مبادئ واضحة من أهمّها، العصبيّة القوميّة الإيطاليّة، والنزعة الاشتراكيّة التي تهتمّ بالعمال والطبقات الشعبيّة، ونجد أيضاً التوجّهات الفوضويّة والعدميّة. ولقد استطاع موسوليني أن يفرض النظام الفاشستيّ على البلاد ممّا أدى إلى خنق الحريّات في إيطاليا وإرهاب الناس، وعاشت البلاد ظروفاً عصيبة وعمّ الخوف الناس. وتقوم الأيدولوجيا الفاشيّة على أساس عبادة الزعيم الأوحد وعلى تقديس الهيئة العليا للسلطة وعلى الخضوع لها بشكل كامل من قبل الشعب ومن لا يخضع فإنّه يُصفّى جسدياً إذا لزم الأمر. وهكذا أصبح النظام الفاشيّ مفروضاً على إيطاليا منذ عام 1925 بعد أن أُلغي البرلمان والانتخابات الديمقراطيّة الحرّة في البلاد، فالديمقراطيّة هي ألدّ أعداء الفاشيّة. ولقد قام موسوليني بتطهير جهاز الدولة من كلّ العناصر التي لا تؤمن بالفاشيّة ولا تقدّم السمع والطاعة للحزب الفاشستيّ الحاكم، وسيطرت الثقافة الفاشيّة على عقول الناس وهي ثقافة تقوم على تمجيد الرجولة والفحولة والعنف والعصبيّة القوميّة الشوفينيّة وكره النقاش الديمقراطيّ والتعدديّة، كما أنّها ثقافة تقوم على فرض الرأي الأوحد على الجميع وكره كلّ القيم الليبراليّة القائمة على التسامح وحقّ الاختلاف في الرأي والمناقشات البرلمانيّة.(
)من هنا نرى أنّ مرتكزات ومنطلقات الفاشيّة تتشابه إلى حدّ بعيد مع الشوفينيّة في تأكيد العصبيّة والقوميّة وفرض الرأي الواحد وعدم الاهتمام بالآراء الأخرى وتمجيد قوميّة معيّنة هي القوميّة الإيطاليّة، وتهميش الآراء الأخرى، وهي تقريباً منطلقات الشوفينيّة نفسها.
لذا كان الفاشيّون يقولون نحن في حاجة إلى زعيم قويّ لا يتردّد عن سفك الدماء وفرض هيبته وسطوته على الجميع. وكلّما كان عنيفاً قوياً مرعباً كلّما خاف منه الناس، وعلى هذا النحو حكم موسوليني. فالفاشيّة أيديولوجيّة تضرب على وتر الغرائز القوميّة والعصبيّات الشوفينيّة الضيقة، كما أنّها تقوم على النزعة الشعوبيّة لا الشعبية لأنّها ديماغوجيّة غوغائيّة. لذا ليس بعجيب أن نرى شخصيّة موسوليني تحمل كلّ التناقضات، فقد عرف بالطغيان والقسوة منذ بداية حياته، ولقد كان معلّماً قاسيّاً حتّى أطلقوا عليه طاغية. وتحمل الفاشيّة في طيّاتها عدّة مبادئ منها: الدولة فوق الجميع أي يحقّ للدولة أن تتدخّل في حياة الفرد الخاصّة، وظيفة الفرد هي خدمة المجتمع.(
)ولقد اتّخذت الحركة الفاشيّة من الشعارات العقديّة نقطة انطلاق لها وهذه الشعارات تدعو إلى الطاعة والتعصّب الأعمى،آمن ـ أطع، كافح ولا مناقشة. كان موسوليني يقول لأتباعه إذا تقدّمت فاتّبعوني، أمّا إذا تراجعت فاقتلوني وأثأروا لي، وهي دعوة متعصّبة للفرد والحزب كذلك. على الصعيد السياسيّ المحليّ لجأ موسوليني إلى تقييد الحريّات الأساسيّة،
وظهرت عنصريّته في إلغاء كلّ ما هو غير فاشيّ. فالفاشيّة فوق الجميع، وتستخدم الفاشيّة من أجل تحقيق أهدافها حملات دعائيّة عرقيّة وحملات عنصريّة شوفينيّة والعداء للساميّة. فالدعوة الفاشيّة ترى أنّ القوميّة الإيطاليّة فوق الجميع وتتعصّب لهذه القوميّة وأحياناً كثيرة تلجأ إلى العنف والقوّة في سبيل تحقيق هذه المبادئ الفاشيّة. وتمجّد الحاكم الفرد الديكتاتور الذي يحكم بالدم والنار وكان موسوليني خير مثال على تطبيق هذه المبادئ العنصريّة التي تدعو إلى كبت الحريّات واستخدام العنف والقوّة.(
)من هنا نرى أنّ مبادئ الفاشيّة وسماتها هي تمجيد العرق والقوميّة الإيطاليّة مع تهميش كلّ القوميّات الأخرى، كذلك استخدام العنف والقوّة وسائل من أجل تحقيق هذه المبادئ والأهداف. وكان موسوليني يضع القوميّة الايطاليّة فوق القوميّات الأخرى ويتعصّب لهذه القوميّة إلى الحدّ الذي لايرى أيّ شيء آخر غيرها، ويدعو كذلك موسوليني من خلال الفاشيّة إلى التمييز العرقيّ والعنصريّ، وكبت الحريّات وتكميم الأفواه. مع استخدام العنف والانفراد بالسلطة. كلّ هذا يتطابق ويتشابه مع مبادئ الشوفينيّة من تمجيد الأعراق والتعصّب العنصريّ، والانفراد بالرأي وتهميش الآخرين وعدم الاعتراف بالآخر. لذا ليس مُستغرَباً أن نجد تلاقيّاً فكريّاً بين كل من الفاشيّة والشوفينيّة في المنطلقات والأفكار.
هتلر ثانياً: هو من الشخصيّات الشوفينيّة أيضاً أدولف هتلر الذي يمثّل شوفينيّة عنصريّة تمجّد أيضاً القوميّة الألمانيّة وتدعو إلى نزعة
شموليّة وديكتاتوريّة وفاشيّة. ونلقي بعض الضوء على حياته لنتعرّف إلى مفاتيح هذه الشخصيّة التي أثارت الكثير من الحيرة والدهشة في كلّ من عرفها أو قرأ عنها.
حياته: هو سياسيّ ألمانيّ ولد عام 1889-1945 في النمسا، وكان زعيم حزب العمال الألمانيّ الاشتراكيّ الوطنيّ المعروف باسم الحزب النازيّ والذي حكم ألمانيا في الفترة ما بين 1933-1945. ويشير هتلر إلى أنّ إيمانه بالقوميّة الألمانيّة يرجع إلى سنوات المراهقة الأولى التي قرأ فيها كتاب من كتب والده عن الحرب الفرنسيّة البروسيّة والذي جعله يتساءل عن الأسباب التي جعلت والده وغيره من الألمان ذوي الأصول النمساويّة يفشلون في الدفاع عن ألمانيا أثناء الحرب. ولقد صرح هتلر بأنّ فكرة معاداة الساميّة ظهرت لأول مرّة في التي كانت تعيش فيها جالية يهوديّة كبيرة.( )
أهم أفكار هتلر الشوفينيّة: كتب هتلر في كتابه (كفاحي) إنّ الاختلاف بين الأجناس والأفراد أمر فرضته الطبيعة في نظامها الأزليّ وأنّ (العنصر الآريّ) هو العنصر الوحيد الخلّاق في تاريخ البشريّة، وأنّ الشعب الجرمانيّ هو أعظم الشعوب قاطبة، وإنّما الماركسيّة والشيوعيّة بتأكيدها للعالميّة والصراع الطبقي، تجسّد عدوّاً حقيقيّاً، ويأتي من بعدها اليهود وهم العدو الأكبر والأخطر الذين يجسّدون الشرّ على الإطلاق ويريدون تدمير العنصر الآريّ، لذلك يجب تطهير الرايخ منهم والحفاظ على نقاء الدم الآريّ. وصل هتلر إلى السلطة عبر سلسلة من الإجراءات التي أزاح بها خصومه من
المسرح السياسيّ وثبّت دعائم ديكتاتوريّته الشخصيّة، ولقد سيطر على مقاليد الحكم وعلى المؤسّسات في ألمانيا وتركّزت السلطات في شخص الفوهرر (الزعيم) ويعتبر هتلر رمز لديكتاتوريّة والحكم العنصريّ الفاشيّ والدمويّ. ولقد سيطرت على أفكار هتلر مسالة العرق والأجناس إلى درجة التعصّب. وتقوم الأيدولوجيا النازيّة على صفاء العرق وسموّ الجنس والتسلسل العنصريّ، إذاً يجب أن يكون المبرّر الرئيسيّ لوجود الدولة هو حفاظها على دم الشعب نقيّاً طاهراً بعيداً عن الأجناس الأخرى وفي هذا المجال كان للنازيّين إجراءات وسياسات مشدّدة، فالعرق هو الذي يعطي الدولة الشرعيّة عند الشعب ويحفظ وجودها من التدهور والاندثار.(
)من أهمّ الأفكار الشوفينيّة التي اعتنقها هتلر أيضاً وعمل على تنفيذها فكرة التوسّع، فهو يرى أنّه لا يمكن لدولة أن تصبح عظيمة دون أن تملك المدى الحيويّ الذي يغذّي قدرتها على النموّ والتطوّر والعظمة. لم تكن فكرة التوسعة مجال نقاش عند هتلر، إذ إنّها الفكرة التي جرت على العالم جرياً وراح ضحيّتها ملايين البشر. ولم يقبل هتلر فكرة التوسّع على الطريقة الانجليزيّة والفرنسيّة، إذ رأى فيها هدراً للموارد، بناءً على ذلك قرّر التوسّع في أوروبا نفسها حيث يمكن لألمانيا اكتساب مساحات في العمق الأوروبيّ. ومن أهم الأفكار العنصريّة التي اعتنقها هتلر أيضاً هي المقت الشديد لليهود، وبرّر هتلر ذلك الكره لليهود بأنّه وجدهم جنساً لا يعير النظافة أدنى اهتمام، وما إن سنحت لهم الفرصة حتّى طعنوا ألمانيا
في الظهر وذلك في الحرب العالميّة الأولى، ممّا جعل خروج ألمانيا أمراً ملحّاً، وهو حصل فعلاً بعد وصول النازيّين للحكم، حيث لم يتورّعوا عن استخدام الدعاية والتحريض لعزل اليهود عن المجتمع. ومن أهمّ أفكار هتلر الشوفينيّة كما وردت في كتابه كفاحي، حرصه على تربية الأطفال تربية قوميّة يكون التركيز في الجسم كما في العقل تماشيا مع القاعدة التي تقول إنّ العقل السليم في الجسم السليم.(
)ويجب أن نشير إلى حقيقة مهمّة هي أنَّ النازيّة التي أسّسها هتلر تنطلق من أفكار الشوفينيّة ومبادئها نفسها، فالنازيّة التي أسّسها هتلر تمثّل شكلاً من أشكال الحكم الديكتاتوريّ، وترى أنّ هناك عرقاً بشرياً واحداً هو النقي وأنّ بقيّة الأعراق ملوّثة أو هي أقلّ أهميّة. وتقوم الأيدولوجيا النازيّة على العنصريّة والتشدّد ضدّ الأعراق الأخرى على أساس أنه يوجد أجناس بشريّة أعلى وأخرى درجة ثانية، بل تؤمن النازيّة بالتسلّط والمنع حتّى بإبادة الأعراق الضعيفة والملوّثة.
ومن هنا يرى هتلر أنّه لا يوجد ما يُسَّمى مساواة بين البشر لأنّ العرق المتفوّق هو العرق الوحيد القادر على الإبداع. ولقد صاغ هتلر خطّة عمليّة لتنقية العرق الألمانيّ، حيث لا مكان للمعتوهين أو المُعوَّقين أو اليهود أو الزنوج في دولة عظيمة، حيث ارتكزت العنصريّة التي دعا إليها على منع الاختلاط بشكل كامل مع أعراق أدنى من العرق الآريّ. كذلك منع المعوّقين جسديّاً وعقليّاً من الإنجاب لتكون الأجيال القادمة خالية من أيّ شائبة.(
)ولقد فسّر هتلر العالم تفسيراً عنصريّاً وقدّم الآريّة فيه على أنّها خلق لثقافات، وأنّ العرق اليهوديّ هو تدمير لها. كذلك قدّم نظرة اجتماعيّة دارونيّة للحياة من خلالها القوي يبقى حيّاً والضعيف يموت، وهذا ينطبق على الرجل وكذلك على بقيّة الطبيعة. ورأى هتلر أنّ نقاء الدم والعرق شرط أساسيّ لعظمة الشعب الألمانيّ. ويؤكّد هتلر أيضاً العنصريّة التي لعبت دوراً فاصلاً في الأيديولوجيّة النازيّة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، لذا يرى أنّ بلده ألمانيا أعلى وأرقى وفوق أيّ بلد آخر. ويجب أن نشير إلى أنّ هتلر قد وضع شروطاً للإنسان الآريّ المثاليّ، من هذه الشروط أنّه يجب أن يكون طويلاً وسيماً ورشيقاً ويمتلك آنفاً مستقيماً وعيوناً زرقاء وشعراً أشقَر، وهذه الشروط تنطبق على الجنسيين الرجال والنساء. وللنازيّة سمات من أهمّها: الشموليّة بحيث تتحكّم الدولة في جميع السلطات، وتمنع أيّ تعدّديّة حزبيّة وأيّ شكل من أشكال الحريّة الفرديّة والجماعيّة. كذلك من سماتها وخصائصها أنّها توسُّعيّة أي تعمل على توسيع المجال الحيويّ. لذا نرى أن ّالنازيّة آمنت بأنّ من حقّ الشعوب القويّة الكبيرة أن تسيطر وتفرض سيطرتها على الشعوب الصغيرة. وكذلك على الشعب الألمانيّ ألّا يهتمّ بالشعوب الأخرى وأن لا يتعاون مع الشعوب البسيطة.(
)من هنا نرى خيوطاً مشتركة بين النازيّة عند هتلر والشوفينيّة في التعصّب لجنس على حساب آخر واستخدام القوّة والعنف في سبيل
تحقيق الأهداف والتعصّب والعنصريّة والتمييز العرقيّ، كلّ هذه تمثّل قواسم مشتركة بين النازيّة والشوفينيّة.
ولقد اعتنق هتلر تلك النظريّة العرقيّة التي تقوم على التمييز العرقيّ، واعتقد أنَّ خصائص الشخص والمواقف والقدرات والسلوك تتحدّد بتركيبته العرقيّة حسبما يطلق عليه. وفي رأيه أنّ جميع المجموعات أو الأعراق أو الشعوب حملت بالتبادل صفات تنتقل من جيل إلى آخر وغير قابلة للتغيير ولا يمكن لأحد التغلّب على الصفات الفطريّة للسلالة، ويمكن تفسير جميع تاريخ البشريّة من حيث الصراع العنصريّ. ولقد استند هتلر والنازيون في صياغة أيديولوجيّتهم العرقيّة إلى أفكار الدارونيّة الاجتماعيّة الألمانيّة، ويعتقد النازيّون كما هي الحال في أفكار الدارونيّة الاجتماعيّة أنّه يمكن تصنيف البشر مجتمعين باسم الأجناس، حيث يحمل الجنس خصائص مميّزة تنتقل وراثياً منذ أوّل ظهور للبشر في عصور ما قبل التاريخ وهذه الخصائص الموروثة المتعلّقة لا بالمظهر الخارجيّ والهيكل الجسميّ فحسب، ولكنّها تشكّل الحياة النفسيّة الداخليّة وطرائق التفكير لدى البشر وقدراتهم الإبداعيّة والتنظيميّة أيضاً. وتبنّى النازيّون أيضاً مبادىء الدارونيّين الاجتماعيّة المعتمدة على نظريّة الارتقاء الدارونيّة فيما يتعلّق بالبقاء للأصلح. بالنسبة للنازيّين فإنَّ بقاء السلالة اعتمد على قدرتها على الإنتاج والمضاعفة وتراكم الأراضي لدعم هذا التوسّع السكاني وتغذيته واليقظة في الحفاظ على الجينات وبالتالي الحفاظ على الخصائص الفريدة العرقيّة
(90)التي تزوّدت بها الطبيعة للنجاح من أجل الحفاظ على البقاء على قيد الحياة.(
)ومن أهمّ أفكار هتلر أيضاً أنّ القيمة العليا للإنسان ليست في شخصه ولكن في عضويّته ضمن جماعة محدّدة من الناحية العنصريّة. ويشير هتلر إلى أنّ الحفاظ على نقاء الجنس البشريّ مهمّ جدّاً، لأنّ الاختلاط بالأعراق الأخرى يؤدّي بمرور الوقت إلى إفساد وانحطاط الجنس ووصوله إلى مرحلة يفقد فيها خصائصه المميّزة وفي الواقع يفقد القدرة على الدفاع بفاعليّة عن نفسه، وهكذا يصبح مصيره الانقراض. وافترض النازيّون أيضاً فكرة التسلسل الهرميّ النوعيّ للأجناس، واعتقد هتلر أنّ الألمان أعضاءً في مجموعة متفرّقة من الأجناس يطلق عليها الآريّة، فالجنس الآريّ الألمانيّ منح هبات وعطايا تفوق جميع الأجناس الأخرى. ولكنّ هتلر حذّر من أنّ الجنس الآريّ الألمانيّ مهدّداً بالحل داخليّاً وخارجيّاً، فالتهديد الداخليّ يكمن في الزاوج بالألمان الآريّين وأفراد من أجناس أدنى مثل اليهود والأفارقه والغجر.(
)من كلّ ما سبق نرى تقارباً كبيراً وقواسم مشتركة بين النازيّة والشوفينيّة من حيث المنطلقات الفكريّة التي ترتكز على العنصريّة والتعصّب لجنس على حساب الآخر، ومحاولة فرض الآراء بالقوّة واستخدام العنف في تحقيق الأهداف، فالنازيّة وعلى رأسها هتلر قام بتبنّي أفكار شوفينيّة لتحقيق أهدافه السياسيّة.
بداية يقف الإسلام موقف النقيض للأفكار والمبادئ الشوفينيّة ويرفض هذه الأفكار الضارّة بالفرد والمجتمع، ويعمل على تقويض هذه الأفكار وإظهار عدم ملائمتها للفرد وللمجتمع. لأنّ الإسلام دين يحرص على مصلحة الفرد والمجتمع، ويعمل على تبنّي الأفكار المعتدلة التي تسهم في إصلاح الفرد والمجتمع. لذا وقف الإسلام موقف الرفض للأفكار والمبادئ الشوفينيّة، مثلاً جاء الإسلام ينبذ العنف ويحذّر منه ويبيّن سوء عاقبته، كما جاء بالحثّ على لزوم الرفق في الأمور كلّها وعدم استخدام العنف وسيلة لتغيير الأفكار. لذا حفل القرآن الكريم والسنّة النبويّة بالكثير من الآيات والأحاديث التي تدعو إلى الرفق واللين في التعامل ونبذ العنف والقوّة. على سبيل المثال جاء في آيات القرآن الكريم ما يدعو إلى اللين والرفق حتّى مع أعداء الدين والكافرين قال الله تعالى في خطاب موسى وهارون (اذهبا إلى فرعون إنّه طغي فقولا له قولاً ليّناً لعلّه يتذكّر أو يخشى) (طه 43-44). ولقد مَنَّ الله على نبيّنا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن جبله على الرفق ومحبّة الرفق، وجنّبه الغلظة والفظاظة قال تعالى في محكم التنزيل (فبما رحمةٍ من الله لِنتَ لهم ولو كنتَ فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فآعفُ عنهم وآستغفرْ لهم وشاورهم في الأمر) (أل عمران 159). ولقد كانت سيرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحوار وكلّ
تعاملاته حافلة بهذا الخلق الكريم الذي مكّنه من بسط سلطانه على القلوب. ولقد حفلت السنّة المطهّرة بكثير من الأحاديث التي تدعو إلى الرفق واللين وعدم العنف منها قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (إنّ الله رفيق يحبّ الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على غيره). فالإسلام ضدّ العنف الذي يعتبر من أهمّ منطلقات الشوفينيّة في تحقيق أهدافها، ينبذ الإسلام العنف ويرفض القمع لأنّه دين التسامح والرحمة والعفو. إنّ جوهر المنهج الإسلاميّ يقوم على الرفق واللين والرأفة والرحمة لا على العنف والشدّة والقسوة. من هنا نرى أنّ القرآن رسم منهج الدعوة إلى الله (اُدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) والدعوة بالحكمة تعني الخطاب الذي يقنع العقول، والموعظة الحسنة تعني الخطاب الذي يستميل العواطف ويؤثّر في القلوب. وكما دعا الإسلام إلى الرفق فقد حذّر كذلك من العنف في الدعوة والتعامل، واعتبر ذلك من جوهر أخلاقه ونهى عن القسوة وذمّها وذمّ من اتّصف بها أشدّ الذمّ. وذكر القرآن أنّ قسوة القلوب عند بني إسرائيل كانت عقوبة إلهيّة على عصيانهم. والتوراة وصفتهم بأنّهم الشعب الغليظ، أمّا أمّة الإسلام فإنّها مأمورة بالرحمة موصوفة بها، بل رسالتها نفسها قائمة على الرحمة. وإذا كان التطرّف والغلوّ في الأفكار والمبادئ أيضاً من سمات الأفكار الشوفينيّة ومنطلقاتها الأساسيّة، فإنَّ الإسلام يرفض جميع أشكال التطرّف وينبذها سواء كان التطرّف الفكريّ أو الدينيّ أو الاجتماعيّ أو السياسيّ، لأنّ التطرّف يمثّل أحد أشكال الفتنة ويجب تركه.
(95)ولقد نهى الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم عن التطرّف الدينيّ والله تعالى وضّح وبيّن أنّ القرآن الكريم هو أساس الدين وأصله حيث قال (تبياناً لكلّ شيء) والسنّة المطهّرة حذّرت من التطرّف قال رسول الله (هلك المتنطّعون) ولقد وضّح الرسول لأمتّه أنّ التطرّف والغلوّ في الدين يعني خروجاً عن قاعدة الوسط في الإسلام إلى حدّ الانحراف والتفريط وهو أمر مرفوض في الإسلام. فالإسلام دين توحيد وقد نهى الله عزّ وجلّ عن التفرّق والاختلاف الذي يعدّ التطرّف في الدين أحد أسبابه قال تعالى في محكم التنزيل (إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء).
فالتطرّف فيه مشقّة وهو يتعارض مع تعاليم الإسلام الداعية إلى اليُسر ورفع الحرج. وقد شرّع الإسلام العبادات لتزكية النفس والارتقاء بها، وكذلك ما ينهض بالجماعة ويقيمها على أساس الأخوّة والتكافل، فأركان الإسلام عبادات لا تعزل الإنسان عن الحياة ولا عن المجتمع، بل تزيده ارتباطاً به شعوريّاً وعمليّاً ومن هنا تعتبر الأرض كلّها محراباً للمؤمن، والعمل فيها عبادة وجهاداً، ولقد أغلق الإسلام أبواب الفتنة وحذّر منها، وخصوصاً التطرّف فقد حرّم الله التفرقة في الدين وأمر بالاجتماع، ونهى عن الاختلاف. لذا دعا الإسلام إلى الآخذ بالمنهج الوسطيّ، فالوسطيّة هي وسام شرف الأمّة الإسلاميّة (وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) فالأمّة الإسلاميّة هي أمّة وسط وهي الأمّة التي من أهمّ سماتها العدل والقسط، إنّ يسر الإسلام وتيسيره من أهمّ سمات الإسلام، واليسر من مقاصده قال
(96)تعالى (يريد الله بكمُ اليسر ولا يريدُ العُسر). ويجب أن نشير هنا إلى أنّه لا يوجد حكم شرعيّ يكلّف المسلم بأعمال التطرّف والعنف، لأنّها أعمال خطيرة وآثارها فاحشة وفيها اعتداء على الإنسان وظلم له. ولقد قاوم الإسلام كلّ اتّجاه ينزع إلى التشديد ويميل إلى الغلوّ في الدين. ومن أهمّ التشريعات القرآنيّة والنبويّة القائمة على نبذ استعمال العنف تجاه الآخر وتعزيز ميزان الأخوّة بين المسلمين والتعايش بينهم وبين غيرهم النهي عن الاعتداء على الأرواح.
وإذا كان التعصّب للرأي أيضاً من أهمّ سمات الشوفينيّة والتعصّب لرأي معيّن على حساب الآراء الأخرى، فإنّ الإسلام ينبذ التعصّب بكل أشكاله وصوره، لأنّ التعصّب للرأي هو أوّل دلائل التطرّف، فالتعصّب للرأي تعصّباً لا يُعترَف معه للآخرين بوجود كما تفعل الشوفينيّة يمثّل جموداً في الفهم وضيقاً في الرؤية لا يُسمحَ معها برؤية المصالح وتَبيُّن المقاصد واستحضار ظروف العصر وفق الواقع. ولقد حذّر الإسلام من عواقب التعصّب وحذّر من التعصّب الأعمى ونهى عنه لما له من آثار سيّئة مدمّرة كإثارة الفتن وغرس مشاعر الحقد والكراهية وسفك الدماء بين الناس ومنع الآخرين من ممارسة حقوقهم المشروعة كحقّ التعبير وإبداء الآراء. ولقد أرسى الإسلام من خلال مبادئه الإنسانيّة السامية أحكاماً وقواعد للتعامل بين الناس والتعارف بينهم، تقوم على العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، وأكّد الإسلام أنّ أصل الإنسان واحد، وأنّ الناس مُتساوون في الحقوق العامّة وهذا ما أكّدته السنّة المطهّرة قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (أيّها الناس ألا إنَّ ربّكم واحد وأباكم
(97)واحد ألا لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا لعجميّ على عربيّ ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلّا بالتقوى) والإسلام لم يمنع أن يكون الإنسان له روابط وصلات غريزيّة كرابطة الدم والمصالح الشخصيّة، إلّا أنّه يريد أن يجعل ولاء المسلم لعقيدته ودينه أولاً، ولا يجوز تفضيل أيّ رابطة عليها. فولاء المسلم لعقيدته لا يتعارض مع مشاعره الفطريّة في الميل إلى الأصل والعشيرة والوطن، وعندما سئل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أمن العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه قال لا لكن من العصبيّة أن يُعيّن الرجل قومه على الظلم. وليس من التعصّب المذموم أن ينتصر المسلم للحقّ ويعمل على رفع الظلم عن إخوانه. ولقد حارب الإسلام التعصّب بجميع أشكاله وصوره لما له من آثار سلبية في الفرد وعلى المجتمع ومن أبرز هذه الآثار التعصّب بصاحبه يدفع إلى سلوكيّات غير مقبولة تتنافي مع الفضيلة، كما يؤدّي التعصّب الفكريّ إلى التطرّف والغلوّ والتشدّد، كما يؤدّي إلى التمييز على أساس العرق أو الجنس أو اللون.
كذلك نرى أنّ الطائفيّة من أهمّ سمات الشوفينيّة ومن أهمّ منطلقاتها الفكريّة أي التعصّب لطائفة على حساب أخرى، وتهميش باقي الطوائف وعدم الاعتراف بها أحياناً. وهذا يتنافي تماما مع مبادئ الإسلام السمحة، لأنّ كلّ طوائف المسلمين يجب بذل الولاء والنصرة لهم كلّ بحسبه، فكلّ مسلم من أهل القبلة يجب بذل الولاء العامّ له ولا ينتفي عنه مطلق الولاء إلّا بخروجه عن الإسلام، ولكنّ الولاء يكون بحسب ما يكون عليه المسلم من الالتزام بعقيدة أهل السنة والجماعة فله بذلك الولاء المطلق. وإذا كان الولاء العامّ يبذل
(98)لكلّ طوائف المسلمين فإنّ القتال بينهم محرّم لأنّه قتال فتنه. ولقد حذّر الإسلام من آفة الطائفيّة التي لم توجد في مجتمع إلّا دمرّت وحدته وتماسكه، فالإسلام ينبذ الطائفيّة بكلّ صورها وأشكالها، ويحرّم كلّ سلوك أو فعل أو قول أو فكر أو رأي يؤدّي إلى إثارة الفتنة في المجتمع الإسلاميّ، ولقد أوضح علماء المسلمين أنّ نبذ الإسلام للطائفيّة ورفضه لها ودعوته للوحدة يتّضح في أسمى صورة في العقيدة والعبادات، فربّ المسلمين واحد وهم يجتمعون على قرآن واحد وسنّة نبويّة واحدة وقبلتهم واحدة والأحكام الشرعيّة التي تنظّم العلاقات بينهم واحدة. ولقد منع الإسلام نشر الأفكار الطائفيّة لأنّ اختلاف الناس سنّة من سنن الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك يقول المولى عزّ وجلّ في محكم قرآنه ( ولو شاء ربّك لآمن مَنْ في الأرض كلّهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتّى يكونوا مؤمنين). من هنا جاءت تعاليم الإسلام التي ترفض رفضاً قاطعاً كل أنواع الطائفيّة والعنصريّة والتمييز بكلّ أنواعه، لأنّ هذا يُولّد الفرقة والشقاق والعداوة والبغضاء والحقد والحسد بين أفراد المجتمع الواحد، وهذا يتنافي مع مبادئ الإسلام السمحة التي تدعو للتعاون والتكافل والتماسك، حتّى تسود العدالة والمودّة والحبّ بين أفراد المجتمع الواحد.
وإذا كانت النعرات القوميّة أيضاً من أهمّ مبادئ الشوفينيّة ومن أهمّ منطلقاتها الفكريّة والتي تؤكّد التعصّب لقومية على حساب أخرى، وتعمل على المحاباة والتحيّز لقوميّة معيّنة، وتهميش باقي القوميّات، فإنَّ الإسلام يرفض ذلك تماماً وينبذه، فلا مكان للنعرات القوميّة داخل الإسلام، ولا تشجيع لهذه القوميّات،
(99)الولاء لله وللدين فقط. ومن المعروف أنّ مبادئ الإسلام ومبادئ القوميّة متباينة ومختلفة تماماً، ويوجد بَون شاسع بين مبادئ الإسلام ومبادئ القوميّة، فالذي يعتبره القوميّون مصدر قوّة هو مصدر الضعف والخذلان عند الأمّة الإسلاميّة، فقوّة المسلمين على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وأوطانهم هي في وحدتهم التي تُوجِدها آصرة الدين وليس للوطن أو النسب أو اللغة أو غير ذلك من الأمور التي يلتفّ حولها القوميّون، وآصرة الدين هي التي كانت سبب قوتّهم وعزّتهم وسيادتهم للدنيا طوال قرون عديدة، ولذا كان من غير المعقول ولا الممكن أن توجد في الأمّة الإسلاميّة قوميّات على أساس الألوان والأجناس واللغات والأوطان، كما لا يمكن أن توجد في داخل دولة دول كثيرة. ومن كان مسلماً حقّاً وأراد أن يبقى على إسلامه فلا بد له من أن يبطل في نفسه الشعور بأيّ أساس غير الإسلام، ويقطع العلاقات والروابط القائمة على أساس اللون، ولا يمكن بقاء الرابطة الإسلاميّة مع نشوء الشعور بالقوميّة العنصريّة ومن المغالطة الزعم بأنّ إحداها تساير الأخرى ولا تغايرها. فعندما بدأ المسلمون في هذا الزمان يتغنّون بالعنصريّة والوطنيّة في كلّ قطر من أقطارهم متأثّرين بالأوروبيين صار العربيّ يتغنّى بالعروبة ويجعلها ديناً والتركيّ يتيه إعجاباً بتركيّته ويحاول أن يصل نسبه بجنكيز خان، وبدأ مسلمو الهند يفخرون بالانتساب إلى القوميّة الهنديّة، بل منهم من يدعو للانقطاع عن ماء زمزم والاتصال بنهر جنجا. يمكن القول إنَّ الدعوة إلى القوميّة العربيّة أو غيرها من القوميّات باطل ويكاد يكون ذلك معلوماً في دين الإسلام طبعاً،
(100)لأنّها منكر ظاهر، وجاهلية نكراء وكيد سافر للإسلام وأهله وذلك من عدّة وجوه أهمّها: إنّها تفرّق بين المسلمين وتفضل المسلم العجميّ عن المسلم العربيّ، بل تفرّق بين العرب أنفسهم وتقسمهم أحزاباً. ولأنّها أيضاً أمر من أمور الجاهليّة وتدعو إلى غير الإسلام، وكلّ ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب ومذهب أو طريقة فهو عودة إلى الجاهليّة. والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حين كادت أن تنشب حرب بين الأوس والخزرج غضب وقال (أبدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم) وهو القائل أيضاً ليس منّا من دعا إلى عصبيّة. ولا ريب في أنّ كلّ ما يفعله من دعاة القوميّة من أجل العصبيّة هذا يخالف الإسلام والدين فهي تدعو إلى الجاهليّة في كلّ شيء وهذا مخالف لتعاليم الإسلام. من أضرار الدعوة إلى القوميّة أيضاً أنّها تؤدّي إلى موالاة الكفّار العرب ومَلاحدتِهم من أبناء غير المسلمين واتّخاذهم بطانة والاستنصار بهم على المسلمين (يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم) والقوميّون يدعون إلى التكتّل حول القوميّة العربيّة فيوالون لأجل ذلك كلّ عربيّ من يهود ونصارى ومجوس وملاحدة ووثنيّين تحت لواء القوميّة العربيّة ويقولون إنّ نظامها لا يفرّق بين عربيّ وعربيّ، وإن تفرّقت أديانهم. (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون). بل إنّ دعاة القوميّة يقولون افصلوا الدين عن القوميّة، وافصلوا الدين عن الدولة والتفّوا حول قوميّتكم حتّى تدركوا مصالحكم وتستردّوا أمجادكم. كما أنّ الدعوة للقوميّة كذلك تفضي بالمجتمع إلى رفض حكم القرآن
(101)الكريم لأنّ القوميّين غير المسلمين لن يرضوا بتحكيم شرع الله فيوجب هذا على زعماء القوميّة أنّ يتّخذوا أحكاماً وضعيّة تخالف القرآن حتّى يستوي مجتمع القوميّة في تلك الأحكام. من هنا دعا الإسلام إلى نبذ القوميّات والالتفاف حول الدين وحول رابطة الإسلام فهي الوحيدة التي ترفع شأنهم عرباً وعجماً، كما رفعت أسلافنا من قبل فسادوا الدنيا شرقاً وغرباً. من هنا نرى رفض الإسلام أيّ دعوة للقوميّة مهما تعدّدت الأسماء والأشكال، لأنّها من وجهة نظر الإسلام هي دعوة إلى جاهليّة ودعوة إلى تعصّب، والإسلام يرفض التعصّب بكلّ أشكاله ويرفض الانضواء تحت أيّ دعوات قوميّة جاهليّة، لأنّ مثل هذه الدعوات تسبّب الحقد بين أفراد المجتمع الواحد وتسبّب البغض والكراهية وتهدم أسس هذا المجتمع، وتضعف أفراده، لذا حارب الإسلام كلّ دعوة للخلاف والفتنة مهما كانت مُسميّات هذه الدعوات.
يجب أن نشير كذلك إلى أنّ من أهمّ منطلقات الشوفينيّة التعصّب للوطن والمغالاة في هذا الانتماء للوطن وعدم رؤية أيّ شيء غير الوطن، وهذا أيضاً يرفضه الإسلام تماماً، برغم أنّ الإسلام يدعو إلى تمجيد الأوطان وحبّها وهذا الحب شيء فطريّ وغريزي داخل كلّ إنسان، لأنّنا نشأنا على أرض الوطن وشربنا من مائه وتمتّعنا بخيراته، فالواجب حبّ الوطن والدفاع عنه، إلّا أنّ الشيء المرفوض من جانب الإسلام هو التعصّب والمغالاة في الانتماء لهذا الوطن إلى الحدّ الذي لا ترى فيه شيئاً آخر. وحبّ الوطن والمغالاة فيه أو ما يسّمى في عصرنا الحاضر باسم الوطنيّة. ويجب أن نوضح عدّة أمور بالنسبة
(102)للوطنيّة وحبّ الوطن من أهمّها: 1-حبّ الإنسان لبلده أمر فطرت عليه النفس البشريّة ولا ينكره الإسلام لأنّه لا يتعارض مع الفطرة السليمة، ولقد قرن القرآن الكريم قتل الأنفس بالإخراج من الديار قال تعالى في محكم التنزيل (ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلّا قليلٌ منهم) (النساء66) ولكنّ الإسلام يعضد هذه الفطرة ويربط حبّ الوطن بالعقيدة وبذلك سما بهذه الفطرة.
2- إنّ دفاع المرء عن بلده أمر يدعو إليه الإسلام فقد جُعِلَ الجهاد فرض عين على أهل البلد إذا ما هُوجِمَ وهذا الفرض يكون على الرجال والنساء والشباب والشيوخ القادرين.
3- حبّ البلد ينبغي أن يكون مقيّداً بأحكام الشرع، فلا يجوز أن يكون البلد أحبّ إلى المسلم من الله ورسوله والجهاد في سبيل الله. إنّ محبّة الوطن والدفاع عنه وابتغاء رفعته هذه كلّها أمور طيّبة ومطلوبة والإسلام يدعو إليها، ولكنّ هذا شيء وإحلال الوطن محلّ العقيدة شيء آخر، فالإسلام ربط أتباعه بعقيدة التوحيد، قال تعالى (إنّ الدين عند الله الإسلام) (أل عمران19) وأقام إخوة المسلمين على الإيمان قال تعالى (إنّما المؤمنون إخوة) ولما ربط الإسلام حبّ الوطن بالعقيدة رأينا على مرّ التاريخ أنّ الذين يصونون أوطانهم ويدافعون عنها ويرفعون سمعتها هم المؤمنون الصالحون، إنّ هذه الأوطان هي ديار الإسلام، والمسلمون هم حماتها. لذا يدعو الإسلام إلى حبّ الأوطان والدفاع عنها وهذا أمر فطريّ طبيعيّ لا شكّ فيه، ولكنّ ما يرفضه الإسلام هو التعصّب في الانتماء للأوطان، والمغالاة في هذا الحبّ للأوطان كما تفعل الشوفينيّة.
من المنطلقات الرئيسيّة في الشوفينيّة أيضاً تمجيد الفرد والمغالاة في هذا التمجيد ورؤية أفعال هذا الفرد على أنّها كلّها صواب وتمجيد الذات الفرديّة وهذا ما يعرف باسم النرجسيّة، أي عبادة الذات ومحاولة رؤية كلّ الآراء من خلال شخص بعينه. وهذا أيضاً يرفضه الإسلام لأنّ الإسلام ينبذ الأنانيّة والفرديّة المطلقة ويدعو إلى التوازن بين الفرد والمجتمع، وإنّه لا صلاح لأيّ أمّة إلّا بإحداث هذا التوازن بين حاجات الفرد وحاجات المجتمع والعمل على تحقيق مصالح الفرد والمجتمع بدون طغيان لأيّ مصلحة على أخرى. ومن المعلوم أنّ الهدى الإسلاميّ يسهم في سعادة الفرد والمجتمع وفي تمتّع الفرد بالصحّة العقليّة والنفسيّة الجيدة ويحميه من كلّ الأمراض والعلل ومن وجوه الانحراف والعدوان أو الغرور والكبر والصلف والتعالي وهذه كلّها من أدواء النرجسيّة المفرطة وتقديس الذات. إنّ إسلامنا الحنيف يربّي الإنسان والفرد المسلم على التوسّط والاعتدال وعلى التواضع والكرم والجود والسخاء والتعاون، كما يربّي أبناءه على الواقعيّة والبعد عن الغلوّ والشطط أو الغرور والمباهاة الزائفة. والإنسان اجتماعيّ بطبعه وقد عزّز الإسلام ذلك في الإنسان ودعاه إلى الاختلاط بالناس وحضور جمعهم وجماعاتهم والتعاون معهم وحضور مجالس الخير ومواساة المحتاجين. كما يدعو الإسلام إلى التواضع وعدم التكبّر والغرور قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إنّ الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتّى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد) وقال رسول الله صلّى الله عليه
(104)وآله وسلّم أيضاً (ثلاث مهلكات شحّ مطاع وهوى متّبع وإعجاب المرء بنفسه) من هنا يرفض الإسلام كلّ مظاهر التكبّر والإعجاب بالذات والغرور.
من كلّ ما سبق يتّضح لنا أنّ الإسلام ضدّ مبادئ الشوفينيّة ويعارضها تماماً، فهو ضدّ التعصّب للآراء وضدّ التطرّف البغيض وضدّ العنصريّة والتمييز العِرقيّ والطبقيّ، فهو دين يدعو إلى التعاون والتكافل وخير شاهد على ذلك العبادات في الإسلام كلّها تدعو إلى التعاون والتكافل الاجتماعيّ ونبذ الخلاف والتعصّب والعنف، الإسلام يدعو إلى الحبّ والتآلف ونبذ الشقاق والطائفيّة.
(105)
1-المعجم الوسيط: إصدار مجمع اللغة العربيّة، ط1، القاهرة، 1998، مادة شوف، ص:12.
2- محمد بن محمد الزبيدي تاج العروس من جواهر القاموس، منشورات دار كتب الحياة، ج2، ص:630.
3- د.إمام عبد الفتاح إمام: الفلسفة وقضايا العصر، المجلة العربيّة للعلوم الإنسانيّة، مجلس النشر العلميّ، جامعة الكويت، العدد 124، 2013، ص:14.
4- شوفينيّة ar-Wikipedia-org
5- إمام عبد الفتاح إمام: الفلسفة وقضايا العصر، ص:14.
6-Jonathan Haidt: The Righteous Mind p:123
7- Ibid p:124
8- جبار قادر: الحوار المتمدن، العدد 664، 2003.
9- د. أحمد المومني: دراسات ومفاهيم حديثة، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، 2009، ص:261.
10- فاروق فوزي: قراءات ومراجعات نقدية في التاريخ الإسلامي، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، 2006، ص:7.
11- المرجع السابق: ص:92.
12-حسن الجوجو: التعصّب المذهبيّ والتطرّف الدينيّ وأثره في الدعوة الإسلاميّة، مؤتمر الدعوة الإسلاميّة ومتغيّرات العصر، الجامعة الإسلاميّة، ص:25.
13-عماد عبد السلام عبد الرؤوف: التعصّب بواعثه وآثاره في
(106)التاريخ العربيّ، ضمن كتاب قضايا إشكاليّة في الفكر العربيّ المعاصر، العدد2، 2014، ص:47.
14- مصطفى بيومي: اعرف، دار كنوز للنشر والتوزيع، ص:193.
15- المرجع السابق: ص:95.
16-patriotism: The Stanford Encyclopedia of philosophy p: 78.
17- Daniel Druckman: Nationalism and patriotism p:40.
18-Jeremy smith: Can patriotism be compassionate p:206.
19- ابن منظور: لسان العرب، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، ط2، 1993، ص:15.
20- ميشيل مان: موسوعة العلوم الاجتماعيّة، تعريب عادل الهواري، سعد مصلوح، مكتبة الفلاح، الكويت، 1984، ص:110.
21- سعيد عبد الحافظ: المواطنة حقوق وواجبات، مركز ماعت للدراسات الحقوقيّة والدستورية، القاهرة، 2007، ص:13.
22- حسن الباش: زحف العنصريّة ومواجهة الإسلام، دار قتيبة، بيروت، 1994، ص:75.
23- حلمي الشعراويّ: رياح العنصريّة تعصف ببلدان الجنوب، مركز البحوث العربيّة للدراسات العربيّة والأفريقيّة، القاهرة، ص:10.
24- د.أحمد إمام: الإثنيّة والنظم الحزبيّة في أفريقيا، المكتب العربيّ للمعارف، القاهرة، ص:23.
25- بدر محمد مللك، لطيفة حسين الكندري: دور المعلم في
(107)وقاية الناشئة من التطرّف الفكريّ، مجلّة كلية التربية جامعة الأزهر، القاهرة، العدد 142، 2009، ص:14.
26- فريد النجار: المعجم الموسوعيّ لمصطلحات التربية، مكتبة لبنان، بيروت، 2003، ص:838.
27- راشد المبارك: التطرّف خبز عالميّ، دار القلم، دمشق، 2006، ص:21.
28- عزمي بشارة: في ما يسمّى التطرّف، مجلّة سياسات عربيّة، المركز العربيّ للأبحاث ودارسات السياسة، الدوحة، ص:125.
29- وفاء محمد البرعي: دور الجامعة في مواجهة التطرّف الفكريّ، تقديم.شبل بدران، دار المعرفة الجامعيّة، الإسكندريّة، 2002، ص:25.
30- ابن منظور: لسان العرب،131/15.
31- عبد الرؤوف محمد عثمان: محبّة الرسول بين الأتباع والابتداع، رئاسة إدارة البحوث العلميّة والإفتاء والدعوة، الرياض، ص:203.
32- فؤاد كامل –جلال العشري- عبد الرشيد صادق: الموسوعة الفلسفيّة المختصرة، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2016، ص:245.
33- محمد الحديدي: خفايا المستقبل إلى أين تمضي البشريّة، مركز الحضارة العربيّة للنشر، 1999، ص:73.
34- كيفن باسمور: الفاشيّة مقدّمة صغيرة جدا، ترجمة: رحاب صلاح الدين، تقديم ضياء ورار، مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014، ص:82.
35- نازية ar-Wikipedia-org-wiki-
36- جواهر لال نهرو: لمحات من تاريخ العالم، ترجمة: لجنة
من الأساتذة الجامعية، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1983، ص:473.
37- تحيزar-Wikipedia-org-wiki-
38- مجلّة التدريب والتقنيّة، المؤسّسة العامّة للتدريب التقنيّ والمهنيّ، الرياض، العدد 98، مارس، ص:56.
39- المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربيّة، القاهرة، 1998، ص:423.
40- سامي خشبة: مصطلحات الفكر الحديث، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2006، ص:156.
41- عبد الكريم احمد: القوميّة والمذاهب السياسيّة، الهيئة المصريّة العامّة لنشر، القاهرة، 1970، ص:86.
42- منيف الرزاز: تطوّر معنى القوميّة، دار العلم للملايين، بيروت، 1960، ص:16.
43- ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنيّة والقوميّة، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1984، ص:65.
44- عبد العزيز الدوري: الجذور التاريخيّة للقوميّة العربيّة، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، ص:24.
45- عزمي بشارة: أن تكون عربيّاً في أيّامنا، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 2009، ص:13.
46- جورج انطونيوس: يقظة العرب، ترجمة: ناصر الدين الأسد، إحسان عباس، دار العلم للملايين، بيروت، 1987، ص:95.
47- هادي حسن علويّ: الاتّجاهات الوحدويّة في الفكر العربيّ، مركز دراسات الوحدة، بيروت، 2000، ص:93.
48- سامي خشبة: مصطلحات الفكر الحديث، ص:158.
49- بيتر جران: ما بعد المركزية الأوروبية، ترجمة: عاطف أحمد وآخربن، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1990، ص:20.
50- محمد عزيز الحباب: مفاهيم مبهمة في الفكر الغربيّ، دار المعارف، القاهرة، ص:204.
51- محمد أسد: الإسلام في مفترق الطرق، ترجمة: عمر فرّوخ، دار العلم الملايين، بيروت، 1971، ص:52.
52- محمد علي الصلابي: الموسوعة الميّسرة في التاريخ الإسلاميّ، ص:235.
53- عضيد جواد الخميسيّ: مفهوم القوميّة التركيّة (الطورانيّة) وجرائم الإبادة، الحوار المتمدّن، العدد 4694.
54- المرجع السابق.
55- برهان غليون: الطائفيّة من الدولة إلى القبيلة، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت، 1995، ص:245.
56- المرجع السابق: ص:246.
57- المرجع السابق: ص:258.
58- عبد الله السوري: المسألة الطائفيّة من منظور وطنيّ، الموقع الإلكترونيّ لرابطة أدباء الشام، لندن.
59- هاشم حسين المحنّك: الاستعراقيّة، موسوعة المصطلحات الإداريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التجاريّة، مطبعة المساحة، القاهرة، 2000، ص:187.
60- أثينية ar-Wikipedia-org-wiki
61- هاشم المحنك: موسوعة المصطلحات الإداريّة والاجتماعيّة، ص:256.
62- قبيلة ar-Wikipedia-org
63- سلمه بن مسلم العويني: الصحاري، الأنساب، دار قتيبة، 1945، ص:45.
64- المغيري بن زيد-عبد الرحمن بن حمد: المنتخب في ذكر قبائل العرب، 1997، ص:153.
65- محمد جواد رضا: صراع الدولة والقبيلة في الخليج العربي، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت،1992، ص:76.
66- امة ar-Wikipedia-org
67- نصيف نصار: مفهوم الأمّة بين الدين والتاريخ، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 2003، ص:79.
68- محمد رشيد رضا: مجلة المنار، 23/441
69- لؤي صافي: العقيدة والسياسة معالم نظريّة عامّة للدولة الإسلاميّة، دار الفكر، 2002، ص:67.
70- عباس الحراري: الثقافة من الهويّة إلى الحوار، الرباط، 1993، ص:5.
71- المرجع السابق: ص:6.
72- عباس الحراري: هويّتنا والعولمة، الرباط، 2000، ص:37.
73- محمد عمارة: مخاطر العولمة على الهويّة الثقافية، دار نهضة مصر، القاهرة، 1992، ص:11.
74- مصطفى التيير: الهويّة الثقافيّة العربيّة في ظلّ العولمة، مجلّة الفكر العربيّ، العدد97، معهد الإنماء العربيّ، ص:19.
75- دينكفين ميتشل: معجم علم الاجتماع، ترجمة: إحسان محمد الحسن، دار الطليعة، بيروت، 1981، ص:145.
76- ديفيد هوكس: الأيدولوجيا، ترجمة: إبراهيم فتحي، المشروع القوميّ للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2008، ص:87.
77- المرجع السابق:128.
78-symingto Neville:narcism NewHeaven 1993 p:263
79- موسوليني: خواطر زعيم، دار مجتبى للنشر، ص:175.
80-عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، مجلد2، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، ص:218.
81- عمر عمر- القوزي محمد: دراسات في تاريخ أوروبا الحديثة والمعاصر، دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر والتوزيع، 1999، ص:237.
82- سعاد الشرقاوي: النظم السياسيّة في العالم المعاصر، بدون دار للنشر، ص:219.
83- محمد الحديدي: خفايا المستقبل، ص:123.
84- سعاد الشرقاوي: النظم السياسيّة في العالم المعاصر، ص:34.
85- Hilter: A study in Tyranny London 195 p:55
86- أدولف هتلر: كفاحي، ترجمة. لويس الحاج، مكتبة النافذة، ص65.
87- المرجع السابق: ص75.
88-Shirer: The Rise and fall third Reich Germany publishing 1990 p:54.
89-Rees Laurence: The Nazis A warning From History New York 1976 p: 78.
90- Robrtson: Hilter prewar policy London 1963 p: 35.
91-Ibid p:45.
(112)