فهرس المحتويات

مقدمة المركز | 7

المقدمة | 9

■ الفصل الأول: الرومانسيّة والمهاد الحضاريّ | 11

الرومانسيّة وتأطير المصطلح | 12

أصول كلمة (رومانسيّ) وآراء المنظّرين فيها | 17

الرومانسيّة والتعريفات العربيّة للمصطلح | 23

المهاد الحضاريّ | 26

المهاد السياسيّ والاقتصاديّ | 26

المهاد الفكريّ والفلسفيّ | 36

المهاد الأدبيّ | 40

■ الفصل الثاني: الرومانسيّة عند الغرب | 49

القضايا الرومانسـيّة | 52

الرومانسيّة وحال الإنسان في المجتمع | 52

الرومانسيّة والمشاعر الإنسانيّة | 56

الرومانسيّة والعاطفة | 61

الرومانسيّة والخيال | 63

الرومانسيّة والأحلام | 67

الرومانسيّة والطبيعة | 71

تجليّات الفكر الرومانسيّ في الأجناس الأدبيّة والنقد الأدبي | 76

الرومانسيّة والشعر | 76

الرومانسيّة والقصة | 82

الرومانسيّة والمسرحيّة | 85

الرومانسيّة والنقد الأدبيّ | 90

■ الفصل الثالث: الرومانسيّة عند العرب | 97

عوامل ظهور الرومانسيّة عند العرب | 99

تأثيرات الغرب | 99

التجمّعات الأدبيّة | 99

حلقات اسكندر العازار | 100

مدرسة الديوان | 100

الرابطة القلميّة في المهجر | 100

مدرسة أبولو | 101

عصبة العشرة | 101

المجلّات والصحف الداعية إلى التجديد | 102

الانتقادات التي وُجّهت إلى الأدب الكلاسيكي | 103

معاناة الجيل بعد الحرب العالميّة الأولى | 103

الجماعات الأدبيّة والتأثيرات الرومانسيّة | 103

الرابطة القلميَّة | 103

الرابطة الأدبيّة | 104

مدرسة الديوان | 106

جماعة أبولو | 107

■ الفصل الرابع: نقد الرومانسـيّة | 109

الرومانسيّة ووجهات النظر | 111

الرومانسيّة والمذاهب الأدبيّة | 121

الرومانسيّة وامتدادها | 130

قائمة المصادر والمراجع | 133

سلسلة مصطلحات معاصرة 10 العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية الرومانسية بحث في المصطلح وتاريخه ومذاهبه الفكرية تأليف نغم عاصم عثمان
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها ،وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار ، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظكة الفكرية المختلفة. ثانيا:ازالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لاسيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ،ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الاخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

الفهرس

مقدمة المركز7

المقدمة9

الفصل الأول: الرومانسيّة والمهاد الحضاريّ11

الرومانسيّة وتأطير المصطلح12

أصول كلمة (رومانسيّ) وآراء المنظّرين فيها17

الرومانسيّة والتعريفات العربيّة للمصطلح23

المهاد الحضاريّ26

المهاد السياسيّ والاقتصاديّ26

 المهاد الفكريّ والفلسفيّ36

 المهاد الأدبيّ40

الفصل الثاني: الرومانسيّة عند الغرب49

 القضايا الرومانسـيّة52

 الرومانسيّة وحال الإنسان في المجتمع52

 الرومانسيّة والمشاعر الإنسانيّة56

الرومانسيّة والعاطفة61

الرومانسيّة والخيال63

(4)

الفهرس

الرومانسيّة والأحلام67

الرومانسيّة والطبيعة71

تجليّات الفكر الرومانسيّ في الأجناس الأدبيّة والنقد الأدبي76

الرومانسيّة والشعر76

الرومانسيّة والقصة82

 الرومانسيّة والمسرحيّة85

الرومانسيّة والنقد الأدبيّ90

الفصل الثالث: الرومانسيّة عند العرب97

عوامل ظهور الرومانسيّة عند العرب99

تأثيرات الغرب99

التجمّعات الأدبيّة99

حلقات اسكندر العازار100

 مدرسة الديوان100

 الرابطة القلميّة في المهجر100

مدرسة أبولو101

(5)

الفهرس

عصبة العشرة101

المجلّات والصحف الداعية إلى التجديد102

الانتقادات التي وُجّهت إلى الأدب الكلاسيكي103

معاناة الجيل بعد الحرب العالميّة الأولى103

الجماعات الأدبيّة والتأثيرات الرومانسيّة103

 الرابطة القلميَّة103

الرابطة الأدبيّة104

مدرسة الديوان106

جماعة أبولو107

الفصل الرابع: نقد الرومانسـيّة109

الرومانسيّة ووجهات النظر111

الرومانسيّة والمذاهب الأدبيّة121

الرومانسيّة وامتدادها130

قائمة المصادر والمراجع133

(6)

مقدمة المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً إلى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحوالتالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أويجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام

(7)

الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

 ** *

تسعى هذه الحلقة في "سلسلة مصطلحات معاصرة" تأصيل مصطلح الرومانسية في مناشئه الفكرية والأدبية، وكذلك في ظهوره وتطوراته في الثقافتين العربية الإسلامية والغربية.

لقد سعت الباحثة السورية الأستاذة نغم عثمان مقارباتها لمفهوم الرومانسية على أبرز المرجعيات المعرفية التي أسست لهذا المصطلح ولا سيما في مرحلة الحداثة في أوروبا ابتداءً من القرن الحادي عشر الميلادي.

والله ولي التوفيق

(8)

المقدمة

يعمل النتاج الثقافيّ لأيّ أمّة على بلورة فكرها ووعيها، ويأخذ ذلك النتاج أشكالاً وأنماطاً ترصد بمجملها تطوّر الفكر والوعي الثقافيّ للأمّة نحو الوجود والطبيعة وعلاقة الإنسان بمحيطه الاجتماعيّ والماديّ. وتعدّدت المذاهب الأدبيّة التي عرفتها الذاكرة الثقافيّة، والمذاهب تاريخ جوهريّ لأهمّ العطاءات الإنسانيّة الحضاريّة.

 وتعدّ الرومانسيّة من أهمّ المذاهب الأدبيّة في تاريخ الآداب الأوروبيّة؛ لأنّها كانت استجابة لواقع حضاريّ متأزّم، فاستطاعت بما اشتملت عليه من مبادئ أن تيسِّر للإنسان الحصول على حقوقه، إذ مهدّت للثورات وعاصرتها، ثمّ كانت خطوة في سبيل نشأة المذاهب الأدبيّة فيما بعد. فبدأنا بمحاولة تأطير المصطلح؛ لأنّه من أكثر المصطلحات التي أثارت جدلاً بين النقّاد، وذلك لاتّساع المعنى الذي تشير إليه. ثمّ بحثنا عن الأصل الذي استقى منه الرومانسيّون هذه الكلمة، وعمّا كانت تعنيه ـ في البداية، كما توقّفنا عند التعريفات العربيّة للمصطلح بالاستناد إلى المعجمات العربيّة والموسوعات النقديّة.

 وقد ارتبطت الرومانسيّة بجملة من الظروف التي كانت سائدة في فرنسا، وتأتي في مقدّمتها الثورة الفرنسيّة، لذلك لا بدّ من التعرّف إلى المهاد السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والفلسفيّ والفكريّ

(9)

والأدبيّ الذي أسهم في حدوث الثورة الفرنسيّة، والتي أفرزت بدورها الفكر الرومانسيّ.

 وكانت لنا وقفة ـ في الفصل الثاني ـ عند أبرز القضايا الرومانسيّة؛ فبيّنا أهميّة المشاعر الإنسانيّة والخيال والأحلام لديهم. كما وضّحنا موقفهم من الطبيعة. ثمّ أفردنا مبحثاً لدراسة تجلّيات الفكر الرومانسيّ في الأجناس الأدبيّة ـ من مثل: الشعر، القصّة، المسرحيّة ـ والنقد الأدبيّ.

 وقد تأثّر الأدب العربيّ بالرومانسيّة الغربيّة تأثُّراً كبيراً، وتكاد السمات العامّة تتفّق في نظرتها إلى الفنّ الأدبيّ. لذلك أفردنا الفصل الثالث للتعرّف إلى أبرز العوامل التي أسهمت في ظهور الرومانسيّة في عالمنا العربيّ. ثمّ فصّلنا القول في أهمّ القضايا التي عُني بها الرومانسيّون العرب في شعرهم. وعرضنا أبرز الجماعات الأدبيّة التي عُرفت في أدبنا العربيّ وتأثيراتها الرومانسيّة في الأدب. كما توقّفنا عند الرومانسيّة في مرحلة نضجها، وألقينا الضوء على أبرز الأعلام الرومانسيّين في الأدب العربيّ.

 كما يحدث لأيّة حركة أدبيّة فقد تعرّضت الرومانسيّة لجملة من الانتقادات أدّت إلى انحسارها، لذلك آثرنا أن نخصّص الفصل الرابع للحديث عن النقد الذي وُجّه للرومانسيّة؛ فتوقّفنا عند وجهة النظر الغربيّة، ووجهة النظر العربيّة. هذا وقد عُني البحث بتسليط الضوء على المذاهب الأدبيّة التي ظهرت كردّ فعل على الرومانسيّة.

(10)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

الرومانسيّة

والمهاد الحضاريّ

 

(11)

الفصل الأول

الرومانسيّة والمهاد الحضاريّ

أوّلاً: الرومانسيّة وتأطير المصطلح:

 تُعدّ الرومانسيّة من أكثر المصطلحات التي أثارت جدلاً واسعاً بين نقاد الأدب ودارسيه في تعريفها بشكلٍ محدّد ودقيق؛ وذلك لاتّساع المعنى الذي تشير إليه كلمة (الرومانسيّة)[1] كمصطلح ذي

(12)

مفهوم محدّد في النقد الأدبيّ. وهذا ما أشار إليه الدكتور محمد غنيمي هلال بقوله:»ومن العسير أن نعطي تعريفاً قصيراً لهذا المذهب الأدبيّ المعقّد الجوانب، وكثيراً ما يؤدّي تعريف الأشياء على هذا النحو إلى تنكيرها والتضليل في مفهومها»[1]. وورد في (معجم المصطلحات الأدبيّة): «لا يمكن أن ينطبق مصطلح الرومانسيّة بدقّة على حالة ذهنيّة نوعيّة أو على زاوية نظر معيّنة أو على تكنيك أدبيّ محدّد والرومانسيّة ـ كحركة ـ نشأت بطريقة مُتدرِّجة جدّاً بأوجه متباينة جدّاً في أجزاء كثيرة جدّاً من أوروبا، بحيث أصبح الوصول إلى تعريف جامع لها ضرباً من المستحيلات»[2].

 ومن هنا نلاحظ صعوبة التوصُّل إلى تعريف محدّد للمصطلح. وقد أدلى الأدباء والباحثون بدلائهم، إذ أحصى بعض مؤرّخي الأدب عام 1925م مائة وخمسين تعريفاً. وقد سبقتها محاولة على يد الألمانيّ فريدريش شليجل الذي جمع محاولات تعريف الرومانسيّة في مائة وخمس وعشرين صفحة كما قدّم ي.برنباوم مقطعاً عرضيّاً من ذلك في (دليل الحركة الرومانسيّة) ممّا يحسن تقديمه هنا؛ لأنّه يبيّن تنوّع المعاني التي نُسبت إلى هذا المصطلح[3]:

(13)

. الرومانسيّة مرض، الكلاسيكيّة صحّة. (كوته).

. حركة تكرّم ما رفضته الكلاسيكيّة. الكلاسيكيّة هي انتظام العقل ـ كمال في اعتدال، الرومانسيّة هي اضطراب الخيال، ـ هياج الشطط موجة عمياء من الغرور الأدبيّ. (برونتيير).

. الفنّ الكلاسيكيّ يصّور المحدود، الفنّ الرومانسيّ يوحي كذلك باللامحدود. (هانيه).

. توهّم رؤية اللامحدود خلال مسار الطبيعة ذاتها، بدل أن يكون في معزل عن ذلك المسار. (مور).

. رغبة في إيجاد اللامحدود خلال المحدود، للتوفيق بين الحقيقيّ وغير الحقيقيّ، التعبير في الفنّ عمّا يدعوه اللاهوت حماسة لوحدة الوجود. (فيرجايلد).

. العودة إلى الطبيعة. (روسو).

. يكون الشيء رومانسيّاً عندما يكون عجيباً أكثر لكونه محتملاً، أو بعبارة أخرى عندما يخالف المألوف في سياق السبب والنتيجة حبّاً بالمغامرة. الحركة جميعاً تمتلئ بمدح الجهل، وبأولئك الذين مازالوا ينعمون بمزاياها التي لا يمكن تقديرها، ـ المتوحّش، الريفيّ، وقبلهم جميعاً الطفل ـ. (بابيت).

. النقيض، ليس من الكلاسيكيّة، بل من الواقعيّة، ـ انسحاب من الخبرة الخارجيّة للتركيز في الداخليّة ـ . (آبركرومبي).

(14)

. تحرريّة في الأدب. خلط الغريب بالمأساويّ أو الرفيع (ممّا تحرمه الكلاسيكيّة)، حقيقة الحياة كاملة. (فيكتور هوكو).

. إيقاظ حياة وفكر القرون الوسطى. (هانيه).

. الوَلَه بالمنقرض. (جفري سكوت).

. المزاج الكلاسيكيّ يدرس الماضي، والرومانسيّ يهمله. (شيلنك).

. جهد للهروب من الواقع. (ووترهاوس).

. سوداويّة عاطفيّة. (فيلبس).

. تشوّف مبهم. (فيلبس).

. الرومانسيّة، في كلّ وقت، هي فنّ اليوم، الكلاسيكيّة هي فنّ اليوم السابق. (ستندال).

. عاطفة أكثر منها عقل؛ القلب في واجهة الرأس. (جورج ساند).

. تحرير مستويات من العقل أدنى في الوعي، حلم مسكر. الكلاسيكيّة سيطرة بالعقل الواعي. (لوكاس).

. خيال في تناقضه مع العقل وإدراك الحقيقة. (نيلسون).

. تطوّر يفوق المألوف لحساسيّة الخيال. (هيرفورد).

(15)

. بروز مكثّف للحياة العاطفيّة، تستثيرها أو توجيهها ممارسة الرؤيا الخيالية، وهي بدورها تحرّك أو توجّه تلك الممارسة. (كازميان).

. انبعاث العجب. (واتس ـ دنتن).

. إضافة الغرابة إلى الجمال. (بيتر).

. الطريقة السحريّة في الكتابة. (كير).

. الروح أكثر أهميّة من الشكل. (كريرسن).

. في الأعمال الكلاسيكيّة يجري التعبير عن الفكرة مباشرة وبما يمكن من دقّة في اتّخاذ الشكل، وفي الرومانسيّة تترك الفكرة لقدرة القارئ على الكشف يساعده في ذلك الإيحاء والرمز. (سانتسبري).

 وثمّة تعريفات جديدة في تعقيد متزايد يمكن أن تضاف كلّ سنة. وإنّ هذا العرض للتعريفات المحتملة يُظهر خاصيّة بارزة في الرومانسيّة الأوروبيّة: ما فُطرت عليه من تعقيد وتعدُّد. فحركة فنيّة لها من العمق وتعدُّد الأوجه وطول العمر ما للرومانسيّة، عليها أن تقدِّم نفسها في عدد من الاتّجاهات.

 وبعد هذا العرض الشامل للآراء التي قُدّمت في تعريف الرومانسيّة يمكنني أن أضع تعريفاً للرومانسيّة ينسجم ومهادها وفكرها وطموحها: إنّ الرومانسيّة تأكيد فكريّ وفنيّ ذو طابع

(16)

إيجابي لنقائض النفس البشريّة، إذ تعبِّر عن مجالات التجربة الكامنة خلف العقل والمنطق بأسلوب مباشر وصادر عن القلب، وتُعدّ هذه الاهتمامات الجديدة استجابة موائمة للتغيّرات الحادّة وعدم اليقين الذي تجلّى في ذلك العصر.

ثانياً: أصول كلمة (رومانسيّ) وآراء المنظّرين فيها:

 ـ يجدر بنا أن نبحث عن الأصل الذي استقى منه الرومانسيّون هذه الكلمة، وعمّا كانت تعنيه في البداية. وثمّة استقصاء قيّم حول هذا الموضوع قام به لوكال بيرسال سمث، في مقالته (أربع كلمات رومانسيّة) وهو ما لا يستغني عنه أيّ باحث. وتعدّ الجداول التلخيصيّة التي أعدّها ف.بولد نسبركر إضافة إلى مقالته (من أجل تفسير عادل للرومانسيّة الأوروبيّة) ممّا يلقي ضوءاً على الموضوع.

 كانت إنكلترا أوّل مكان أصبح فيه المصطلح مألوفاً وواسع الانتشار، فقد ارتبط المصطلح ـ أوّل الأمر ـ بقصص الخيال القديمة، وحكايات الفروسيّة، والمغامرات والحبّ، ممّا يتميّز بالعواطف الجامحة، وعدم الاحتمال والمبالغة واللا واقعيّة. وباختصار تقف على النقيض من نظرة رزينة معقولة إلى الحياة. وهكذا استعملت كلمة (رومانسيّ) في عبارات؛ مثل: (حكايات رومانسيّة وحشيّة) لتفيد معنى (مُتخيَّل)، و(وهميّ)[1].

 ويرى بعض الباحثين أنّ كلمة (رومانسيّة) ترجع في الأصل إلى

(17)

كلمة (Roman)؛ وهي كلمة فرنسيّة قديمة كانت تدلّ في العصور الوسطى على قصّة من قصص المخاطرات شعراً ونثراً، وكانت تُكتب أحياناً (Romant)، وانتقلت إلى اللغة الانكليزيّة في شكل (Romaunt)، ثم نُسب إليها في الانكليزيّة ( (Romantic، وهي صفة تدلّ على ما يُنسب إلى قصص المخاطرات، أو ما يثير في النفس خصائصها وما يتّصل بها. وظلّت الكلمة في الانكليزيّة تُثير في الذهن منظراً أو أثراً من آثار العصور الوسطى. ويُعدّ 1760م بداية التحوّل الحقيقيّ، فقد بدأ يتبلور في المحيط الأدبيّ؛ فأصبحت تُطلق للدلالة على أدب مغاير للأدب الكلاسيكي. وانتقلت هذه الصفة إلى اللغة الألمانيّة Romantisch؛ فكان معناها ـ أوّلاً ـ ما يمتّ بصلة إلى عالم الفروسيّة في العصور الوسطى، أو ما يثير ذكراه[1]. وكان لهذا الفهم صدى في الأدب الرومانسيّ في انصرافه إلى إحياء العصور الوسطى في القصص التاريخيّة، وفي عناية كلّ أمّة ببعث ماضيها التاريخيّ في أدبها.

 ثمّ انتقلت تلك الصفة إلى اللغة الفرنسيّة Romantique أولاً

(18)

في أدب روسو؛ وكانت تُطلق هذه الصفة على المناظر والأشخاص التي تذكر بالقصص أكثر ممّا كانت تُطلق على الأحداث التي تُحكى في القصص. واتّسع معناها فصارت تّطلق على المناظر الشعريّة والأحداث الخرافيّة، والقصص الأسطوريّة.

 لقد أدلى المنظّرونفلاسفة وأدباء ـ الأوروبيّون بدلائهم حول فكرة الاعتراف بالرومانسيّة بوصفها مذهباً أدبيّاً، إذ وجدوا أنّ الألمانيّ ويلهم شليجل (AW.schlegel) أوّل مَنْ بدأ بمعارضة الرومانسيّة بالكلاسيكيّة على أنّها اتّجاه جديد في الأدب[1]. فقد وازن بين المذهبين، وخَلَصَ إلى أنّ الرومانسيّة اتّجاه جديد في الأدب يتميّز عن الكلاسيكيّة. وكان لهذا المفهوم أثر كبير في عناية الأدباء ببعث تراث الأدب الأوروبيّ.

 وتأثّرت به مدام دي ستال، فدعت إلى الرومانسيّة في فرنسا؛ ورأت أنّها الشعر الذي يحيا فيه الماضي الوطنيّ، وأنّها أدب الفروسيّة، وعارضتها بالمذهب الكلاسيكيّ في مبادئها الفنيّة والعاطفيّة. وبهذا المعنى انتقلت الكلمة إلى إيطاليا حوالَ عام 1815م، ثمّ إلى إسبانيا. وبقي للكلمة إلى جانب معناها المذهبيّ

(19)

شيء من معناها الاشتقاقيّ. فكانت تدلّ على الإنسان الحالم ذي المزاج الشعريّ المنطوي على نفسه، ثمّ امتدّ معناها إلى ما يشمل شبوب العاطفة والاستسلام للمشاعر، والاضطراب النفسيّ، والفرديّة، والذاتيّة، وتمثّلت هذه الاتّجاهات في الأدب الرومانسيّ. تقول مدام دي ستايل: «إنّ الشعر الكئيب هو الشعر الأكثر ائتلافاً مع الفلسفة. وينسجم الحزن انسجاماً قويّاً مع مزاج الإنسان وقدره أكثر من أيّ مزاج آخر. والشعراء الإنكليز الذين هم ورثَةُ الشعراء الاسكتلنديّين، دمجوا في تمثيلاتهم التأمّلات والأفكار التي استلهموها بتأثيرهم، ولكنّهم احتفظوا بالخيال الشماليّ الذي يبتهج عند شاطئ البحر، بصوت الريح، وبالمروج البريّة، ذلك الخيال الذي يطوّف بالروح القلق في آفاق المستقبل، وفي رحاب عالم آخر. إنّ خيال الشماليّين يحلّق فوق هذه الأرض التي يعيشون عليها، يحلّق في غيوم فوق الأفق، تشبه بوابة سحريّة في عالم الحياة إلى عالم الأبديّة»[1].

 ـ ويرى فيليب فان تيغيم أنّ معظم تعريفات الأدب الرومانسيّ قد وُضعت في فترة كان الأدب الجديد فيها يفتّش عن ذاته، ولم يكن قد وجدها بعد، أو في فترة لم يكن قد أعطى فيها أوفر ثماره غنى[2].

 أمّا ستاندال ـ Stendhal فقد تكلّم من ناحية أدبيّة محضة عندما كتب: «إنّ الرومانسيّة هي الفنّ الذي بموجبه نقدّم للشعوب، في

(20)

حالتها الراهنة من العادات والمعتقدات، أعمالاً أدبيّة جديرة بأن تعطيها أكبر قدر ممكن من المسرّة»[1].

 أمّا (إميل ديشان) في مقدّمته (دراسات فرنسية وأجنبية) (1828م) فإنّه يعلن من جهته أنّ الرومانسيّة هي كلّ ماهو جديد، في جميع العصور الأدبيّة. ويتساءل الناقد (ديبريه) ماهي إذاً (هذه المدينة الجديدة التي ينبغي أن يكون الأدب تعبيراً عنه). وقد عبّر (هوغو) في مقدمة (هرناني) سنة 1830م عن رأيه بقوله: إنّ الرومانسيّة هي الليبراليّة في الأدب. وهي بالنسبة لـ (ديشان) الروح الشعريّة مقابل الروح النثريّة. وهي بحسب (سوميه) الأدب الذي يتوخّى التوغُّل أكثر فأكثر في أسرار قلوبنا. وقد كتب (هوغو) في سنة 1824م عن L’Eloa ـ لفيني، ـ فاقترح المثال الأعلى: (فلنجرؤ على القول بصوت مرتفع. لا ينهل الشاعر عبقريته، في الحقيقة، من ينابيع Hippocrène ، ولا من ينبوع كاستالي Castalie، ولا من ساقية بارميس Permesse، بل إنّه ينهلها ـ بكلّ بساطة ـ من روحه وقلبه)[2]. لقد كان فيكتور هوغو وحده تقريباً هو الذي أكدّ الصفة الشكليّة للأدب الجديد، والذي فهم وجوب تغيير قواعد الذوق في الوقت الذي تغيّر فيه مضمون الأعمال الأدبيّة، وفهم أنّ التفصيل في التعبير يعادل في أهمّيته النفس المعبّر عنها، وأنّه يجب تخليص الإنشاء والمفردات من هذه العناصر المأخوذة من عادات وديانات، أو من عصور غريبة جداً عن الموضوع، ولكي نصنع شيئاً

(21)

حقيقيّاً يجب وصف حالة نفس حقيقيّة، ويجب كذلك ألّا نُعبّر عنها بأسلوب وكلمات مأخوذة من عصور انتهت، ومقلّدة من أدب فانٍ.

 إنّ الفكرة الأساسيّة التي تبرز من هذه النصوص وآراء المنظّرين هي أنّ الرومانسيّة أدب مجتمع جديد. وكانت هذه فكرة مدام دي ستال. أمّا الخلاف في الآراء فيصدر عن الحيرة التي كان يتخبّط فيها الكتّاب لا يميز بشكل أفضل هذا المجتمع الجديد من وجهة النظر الأخلاقيّة والفكريّة. ولمّا كان العصر الحديث يعارض العصر الكلاسيكيّ شكلاً ومضموناً، يجب أن تكون الرومانسيّة ـ قبل كلّ شيء ـ أدباً عاطفيّاً، ولمّا كان الانفعال العاطفيّ في أعمق ما فيه من حرارة، لا يستطيع الخضوع لقانون خارجيّ ـ دون أن يخون ذاته ـ وجب كذلك أن يكون الأدب المعبَّر عنه حرّاً.

 وأكّد فيليب فان تيغيم أنّ طبيعة الحياة الاجتماعيّة تؤثّر في فكر كلّ شعب تأثيراً عميقاً، أو هي تخلقه تقريباً، وهذه الطبيعة نفسها تتوقّف على المناخ والنظم السياسيّة، والديانة، والقوانين، فإذا تغيّرت هذه الأوضاع بمجموعها، فإنّ على الأدب الذي يتوقّف ـ هو نفسه على عقلية الجمهور، وخصوصاً على عقليّة الطبقات الموجّهة، أن يتطوّر بدوره هو أيضاً. لقد قلبت الثورة الفرنسيّة أوضاع المجتمع الفرنسيّ رأساً على عقب، فبديهيّ أن يقترح من أجله أدب جديد، تختلف مادّته والمبادئ التي قام عليها تمام الاختلاف عن تلك التي كانت سائدة من قبل، إنّ التجديد الذي كانوا يشعرون بضرورته منذ زمن طويل، وجد أخيراً ما يسوّغه، ولم يجرؤ أحد من الشعراء الفرنسيّين أن يطلق على نفسه نعت رومانسيّ حتّى عام 1818م حين أعلن ستندال: (أنا رومانسيّ؛ إنّني مع شكسبير

(22)

ضدّ راسين، ومع بايرون ضدّ بوالو)[1] . وبذلك يُعدّ ستندال أوّل من أسس فكرة اعتماد هذا المصطلح، والسير وفقاً لهذا المذهب الجديد. فقد ابتدع مصطلح (الرومانسية) في بحثيه المسمّين (راسين وشكسبير)؛ إذ عالج إمكانيّات تشخيص الأدب الجديد في عصره، وتمييزه عمّا سمّاه بالأدب الكلاسي.

ثالثاً: الرومانسيّة والتعريفات العربيّة للمصطلح:

 ورد في موسوعة المصطلح النقديّ: (إنّ التغيّرات الحيويّة التي قادت إلى ظهور الحركة الرومانسيّة في الأدب قد حصلت ليس بسبب ظهور الكلمة كمصطلح في النقد الأدبيّ، بل بسبب تحويرات جذريّة في المواقف جرت في غضون القرن الثامن عشر. وإنّ المصطلح (رومانسيّ) وما يتّصل به مثل (أصالة)، (خلق)، و(نبوغ)، استطاعت أن تصل إلى المقدّمة كنتيجة لإعادة نظر جذريّ في القيم البشريّة ممّا أثّر ليس في أساليب الكتابة وحدها بل في النظرة الشاملة للإنسان والطبيعة، الحركة الرومانسيّة هي جماع عمليّة طويلة في التغيّر، وإذا شئنا استيعاب معناها الجوهريّ، علينا النظر إلى تطوّرها دون النظر إلى شعار بارع في هيئة تعريف)[2]. وجاء في (معجم المصطلحات العربيّة في اللغة والأدب): (Romanticism

(23)

الرومانسيّة.... ويُراد بها بصفة عامّة حالة نفسيّة أهمّ خصائصها زيادة الحساسيّة، وعدم القناعة بما يُمليه العقل والحكمة، ويندرج تحت هذا المعنى أزمات الإرادة، والقلق، والإفراط في الاهتمام بالذات، وحِدّة الانفعالات والرغبة في الهروب من الواقع الحاضر.

أمّا في الأدب فإنّه يُقصد بها ثلاثة مذاهب متشابهة في بلاد مختلفة: فيُراد بها مدرسة الكتّاب الألمان في أواخر القرن الثامن عشر ... ثانياً مدرسة الشعر والنقد الإنجليزيّة... وأمّا المدرسة الثالثة فقد ازدهرت في فرنسا، وأهمّ خصائصها شدّة العناية بـ (الأنا)، والتعبير عن الشعور بالوحدة والحزن الناشئ عن القلق ... وهناك ـ لا شك ـ نزعة رومانتيكيّة في الأدب العربي الحديث يمكن إدراكها في روايات المنفلوطيّ والمازنيّ وشعر أحمد رامي وعلي محمود طه)[1].

وعُرِّفت الرومانسيّة في (معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة) بأنّها (مذهب أدبيّ يُمثِّل ردّ فعل تجاه تعقيدات الكلاسيكيّة. والرومانسيّة نزوع ذاتيّ إلى استنطاق الــ(الأنا)، وتغليب تصوّر للعالم، كما أنّ الرومانسيّة هي مخاصمة للواقع ومصالحة للأحلام)[2].

 وقد ورد في (معجم المصطلحات الأدبيّة) : (ومن ناحية التأثير

(24)

نجد الرومانسيّة موقفاً أدبيّاً وفلسفيّاً يتّجه نحو وضع الفرد في مركز الحياة والتجربة، وهي تُمثِّل تحوُّلاً من الموضوعيّة إلى الذاتيّة. وقد أسهمت تلك التصوُّرات الرومانسيّة في تأسيس عالم حديث دافع عن درجة من درجات الديمقراطيّة)[1].

وجاء في (قاموس المصطلحات اللغويّة والأدبيّة): إنّ الرومانسيّة (تيار أدبيّ ظهر في إنكلترا وألمانيا في القرن الثامن عشر، أهمّ مميّزاته: طلب الحريّة، الإغراق في الغنائيّة، وتقديم الخيال على العقل، والإفراط ـ في الاهتمام بالذات، والقلق والتشاؤم، والتمزّق والشعور بالجبريّة، والإصابة بما يُسمَّى داء العصر، وإحياء الطبيعة، والرغبة في الهروب من الواقع الحاضر. وداء العصر؛ حالة نفسيّة سيطرت على الشباب الفرنسيّين بعد سقوط نابليون سنة 1815م، تميّزت بأزمة في الإدارة، ورهافة في الحسّ، والسخط والتمرّد، والشكوى والأنين، والشكّ في العقل وفي المفاهيم الاجتماعيّة. وكان كلّ ذلك نتيجة صدام آمالهم ـ بالواقع بعد انهيار الامبراطورية. وخير مَنْ ـ وصف هذا الداء الشاعر الفرنسيّ ألفرد ديس موسيه (1857-1810م) AlFred de Musset)[2].

 ـ ولقد حُدّدت الرومانسيّة كعلاقة ثابتة بين الأدب والمجتمع[3]،

(25)

وكما نلاحظ أنّ الرومانسيّة قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بجملة من الظروف التي كانت سائدة في فرنسا، وتأتي في مقدّمتها الثورة الفرنسيّة لذلك لا بدّ من التعرُّف إلى المهاد الحضاريّ الذي أسهم في قيام الثورة الفرنسيّة.

ثالثاً ـ المهاد الحضاريّ:

أخفقت ملكيّة البوربون في أن تُلاحق تطوّر الشعب الاقتصاديّ والفكري. ونشبت الثورة في فرنسا بأسرع ممّا نشبت في غيرها، إذ فرض فكر مواطنيها اليقظ المتنبّه مطالب على الدولة أكثر حدّة ممّا كان على أيّ حكومة في ذلك العصر أن تلبّيه. وقد كانت الرومانسيّة وليدة الثورة الفرنسيّة؛ لذلك لا بدّ لنا من التعرُّف إلى المهاد السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والفلسفيّ والفكريّ والأدبيّ الذي أسهم في حدوث الثورة الفرنسيّة، والتي أفرزت بدورها الفكر الرومانسيّ.

1- المهاد السياسيّ والاقتصاديّ:

كانت السلطة الملكيّة في فرنسا مُطلقة؛ فالملك وفقاً للتقليد البوربونيّ هو المشرِّع الأوحد، وهو السطلة التنفيذيّة الرئيسة وهو المحكمة العليا. وقد ورث الملك مؤسَّسة غالية التكلفة، تعدّ نفسها هيئة لاغنى عنها لإدارة الحكومة وهيبتها. ففي عام 1774م كان بلاط فرساي يضمّ الأسرة المالكة، و886 نبيلاً، هم ونساؤهم وأبناؤهم، يُضاف إليهم 295 طاهياً، و56 صيّاداً، و47 موسيقيّاً، وثمانية معماريّين، وكهنة القصر، والأطبّاء والسعاة، والحرس وغيرهم.

(26)

يبلغون في مجموعهم ستة آلاف شخص، مع عشرة آلاف جنديّ يرابطون عن كثب. وكان لكلّ عضوّ في الأسرة المالكة بلاطه أو بلاطها الخاصّ، وكذلك كان لبعض النبلاء، من أمثال: أمير مونديه، وأمير كونتي، ودوق أورليان ودوق بوربون، واحتفظ الملك بعدّة قصور في فرساي، ومارلي، ولامويت، ومودون، وشوزاي وسان ـ أوبير، وسان ـ جرمان، وفونتنبلو، وكومبين، ورامبوييه. وفي عام 1780م بلغت نفقات مائدة الملك 366049 جنيهاً. وكلّ هذه المعاشات والهبات والرواتب والمناصب الشرفيّة كانت تدفع من إيرادات تؤخذ من حياة الأمة الاقتصاديّة. وقد كلّف البلاط في فرنسا مبلغاً جملته خمسون مليون جنيه في العام، وهو عُشْر مجموع إيرادات الحكومة.

 وكانت الملكة ماري أنطوانيت أكثر أعضاء البلاط إسرافاً، إذ كانت تتسلّى بالغالي من الثياب والجواهر والقصور والأوبرات والمسرحيّات. وأتاها مصمّمو الأزياء بالغريب والطريف من الأثواب المسمّاة (المباهج الطائشة) أو (العلامات المكبوتة) أو (الرغبات المقنعة). وكانت مصفّفات الشعر يعكفن الساعات فوق رأسها؛ يصعّدن شعرها حتّى يبلغ ارتفاعات يبدو ذقنها فيها وقد توسّط قامتها، وقد قرّرت التسريحة العالية. كما قرّرت معظم الأشياء التي ابتدعتها، من مثل: زي نبيلات البلاط، وزي عواصم الأقاليم. أمّا شغفها بالحليّ والجواهر فقد أوشك أن يكون هوساً. ففي عام 1774م ابتاعت من بومر ـ وهو الجواهري الرسميّ للتاج ـ أحجاراً كريمة قيمتها 360000 جنيهاً. وأهداها لويس السادس عشر

(27)

طقماً من العقيق والماس والأساور ثمنه 200000 جنيهاً[1].

لقد كان أوّل همّ الملك لويس السادس عشر أن يعثر على وزراء أكفاء أمناء يصلحون الفوضى التي استشرت في الإدارة والماليّة. لذلك عيّن طورجو وزيراً للماليّة.

آمن طورجو مع الفزيوقراطيّين بتحرير الصناعة والتجارة ما أمكن من التنظيم الحكوميّ أو النقابيّ، وبأنّ الأرض مصدر الثروة الوحيد، وبأنّ ضريبة واحدة على الأرض هي أعدل الطرق وأكثرها عمليّة لجمع إيراد الدولة، وبأنّه ينبغي إلغاء جميع الضرائب غير المباشرة، ثمّ إنّه أخذ عن جماعة الفلاسفة تشكّكهم الدينيّ وتسامحهم، وثقتهم في العقل والتقدّم، وأملهم في إصلاح الأمور عن طريق ملك متنوِّر[2].

أمر طورجو بشتّى ضروب الوفر، وأصدر التعليمات بألّا يُصرف مبلغ من الخزانة لأيّ غرض دون علمه أو موافقته، وكان هدفه تنشيط الاقتصاد؛ فبدأ بمحاولة لإصلاح الزراعة. وبدا إصلاح الزراعة في نظر طورجو أول خطوة في إحياء فرنسا؛ إذ إنّ إطلاق يد المُزارع في بيع غلّته بأيّ سعر يستطيع الحصول عليه سيرفع من

(28)

دخله، ويحسِّن وضعه الاجتماعيّ، ويزيد قوّته الشرائيّة، وينهض به من الحياة البدائيّة.

وفي عام 1774م ـ استصدر طورجو من المجلس الملكيّ مرسوماً أطلق فيه تجارة الغلال، وهدفه من ذلك تنشيط وتوسيع زراعة الأرض، والاحتفاظ بوفرة الغلال عن طريق مخازنها، واستيراد الغلال من الخارج، والقضاء على الاحتكار، وإيثاراُ للمنافسة الحرّة. وتُعدّ هذه الخطوة تجديداً يُبرز ظهور الرأي العامّ كقوّة سياسيّة. ورحّب فولتير بالمرسوم، الذي عدّه فاتحة لعصر اقتصاديّ جديد، وتنبّأ بأنّه سيزيد ـ بعد قليل ـ من رخاء الأمّة[1].

أثارت مراسيم طورجو غضب جميع الطبقات ذات النفوذ عليه، باستثناء التجّار ورجال الصناعة. والواقع أنّه كان يُحاول أن يُحدث بطريق سلميّ تحرير رجال الأعمال، وهو النتيجة الاقتصاديّة الأساسيّة التي أسفرت عنها الثورة الفرنسيّة، وكرهته بطانة الملك؛ لأنّه سخط على إسرافهم ومعاشاتهم ووظائفهم الفخريّة. ولم يثق به رجال الدين؛ لأنّه يدافع عن الحريّة الدينيّة. وعارضه الأشراف؛ لأنّه أراد أن يفرض كلّ الضرائب على الأرض، ولأنّه يستعدي الفقراء على الأغنياء. وأبغضه البرلمان؛ لأنّه أقنع الملك بإبطال قرارات نقضه.

وكان للويس السادس عشر أسبابه الخاصّة لفقد الثقة في الوزير الثوريّ؛ فقد كان الملك يحترم الكنيسة، وطبقة النبلاء،

(29)

حتّى البرلمانات وكانت هذه المؤسّسات قد رسّخت في التقاليد وتقدّست بمرور الزمن فإقلاقها معناه خلخلة ركائز الدولة. ولكنّ طورجو كان قد أقصاها كلّها. وفي عام 1776م أرسل الملك إلى طورجو أمراً بأن يستقيل.

خلف طورجو في رقابة الماليّة كلوني دنوي الذي ردّ السخرة والكثير من النقابات الحرفيّة، ولم ينفذ مراسيم الغلال، وألغى المصرفيّون الهولنديّون موافقتهم على إقراض فرنسا ستين مليوناً من الجنيهات بفائدة مقدارها أربعة في المائة، ولم يكتشف الوزير الجديد طريقة لاجتذاب المال إلى خزانة الدولة خيراً من إنشاء يانصيب قوميّ[1].

وفي عام 1776م عيّن الملك لويس السادس عشر (نكير) مديراً للخزانة الملكيّة.[2] دعم نكير بعض الإصلاحات الصغيرة، فخفّف من المظالم في فرض الضرائب، وحسّن المستشفيات، ونظّم بنوك الرهونات لتقرض الفقراء المال بفائدة منخفضة، وواصل جهود طورجو للحدّ من نفقات البلاط، والبيت الملكيّ، والملكة.

وقد دارت أحداث الحرب الأمريكيّة في ذلك الوقت؛ إذ اتفقت الفلسفة هذه المرحلة مع الدبلوماسيّة، فمؤلّفات فولتير، روسو، وديدرو، ورينال، وعشرات غيرهم أعدّت الذهن الفرنسيّ لمناصرة تحرير المستعمرات، كما ناصر التحرير الفكريّ. وكان الكثيرون من

(30)

الزعماء الأمريكيّين؛ من مثل: واشنطن، وفرانكلين، وجفرسن أبناء التنوير الفرنسيّ. فحين قدم سيلاس دين إلى فرنسا ـ في عام 1776م ـ ملتمساً قرضاً للمستعمرات الثائرة، كان الرأي العامّ الفرنسيّ شديد التعاطف معه.

واصلت فرنسا إرسال الإمداد إلى المستعمرات، وضبّاط الجيش الفرنسيّون يتطوّعون للقتال تحت إمرة واشنطن.

وفي 20 مارس استقبل لويس السادس عشر المبعوثين الأمريكيّين. وأحبّ الفرنسيّون كلّهم تقريباً هذه الحرب، عدا نكير؛ فقد كان عليه أن يجمع الأموال الطائلة التي أقرضتها فرنسا لأمريكا.

وفي 12 أكتوبر 1779م انضمّت إسبانيا إلى إنكلترا، وأوشك الأسطولان الفرنسيّ والإسبانيّ ببوارج مجموعها (140) بارجة أن يُعادلا بوارج البحرية البريطانيّة وعددها (150) بارجة. وقطعا على بريطانيا سطوتها على البحار. وقد أثّر هذا التغيير في ميّزات القوّة البحريّة تأثيراً حيويّاً في الحرب الأمريكيّة.

وفي 5 سبتمبر 1781م هزم أسطول فرنسيّ أسطولاً إنكليزيّاً وطلبت إنكلترا الصلح، واستطاع المفاوضون الأمريكيّون ـ جون جاي وفرانكلين خاصّة ـ أن يتعاطوا المباحثات الدبلوماسيّة بمهارة فائقة؛ إذ لم يكسبا للولايات المتّحدة الاستقلال فحسب، بل أكسباها حقّ استعمال المصايد النيوفوندلنديّة، ونصف البحيرات العظمى، وكلّ المنطقة الشاسعة الغنيّة الواقعة بين جبال الليجاني

(31)

والمسسبي. وكانت هذه الشروط أفضل كثيراً ممّا توقّع الكونجرس الأمريكي الحصول عليه[1].

وقلد أفلست الحكومة الفرنسيّة نتيجة للحرب، وأفضى ذلك الإفلاس إلى الثورة. فقد بلغ مجموع ما أنفقته فرنسا على الصراع بليوناً من الجنيهات. وكانت الفائدة على الدين القوميّ تجرّ الخزانة يوماً بعد يوم إلى هاوية العجز عن السداد.

أمّا جماعة الفلاسفة فقد هللّوا للنتيجة ورأوها انتصاراً لآرائهم، والحقّ كما يقول توكفيل: ( إنّ الأمريكيّين بدوا كأنّهم نفّذوا ما حلمت به كتاباتنا) ورأى الكثير من الفرنسيّين في الإنجاز الذي حققّته المستعمرات إرهاصاً يبشِّر بانتشار الديمقراطيّة في أوروبا كلّها. وسرت الأفكار الديقراطيّة في الطبقات المختلفة وصولاً إلى الطبقة الارستقراطيّة والبرلمانات. وأصبح إعلان الحقوق الذي أصدره مؤتمر فرجينيا الدستوريّ في 12 يونيو 1776م، وقانون الحقوق الذي أُلحق بالدستور الأمريكيّ نموذجين حذا حذوهما إعلان حقوق الإنسان الذي أعلنته الجمعيّة التأسيسيّة الفرنسيّة في 23 أغسطس 1789م. بذلت فرنسا المال والدم لأمريكا، ونالت لقاء ذلك دفعة جديدة قوية للحريّة[2].

(32)

ـ أمّا السبب الأساسيّ للثورة فهو تلك المفارقة بين الواقع الاقتصاديّ والنظم السياسيّة، بين أهميّة الطبقة البرجوازيّة في إنتاج الثروة وتملُّكها وبين إقصائها عن القوّة السياسيّة.

وقد رأى البرجوازيّون أنّ طبقة النبلاء تستنزف مال الدولة في الإنفاق المسرف والولائم الباذخة، في الوقت الذي أنكر فيه المنصب أو الترقية السياسيّةأو الحربيّة على الرجال الذين وسّعوا بجرأتهم وابتكارهم اقتصاد فرنسا الجالب للضرائب، والذين تدعم مدّخراتهم الخزانة الآن، ثم رأوا الأكليروس يسيطرون على ثلث دخل الأمّة في الإبقاء على لاهوت عدّه كلّ الفرنسيّين المتعلّمين تقريباً أثراً متخلّفاً في تراث العصر الوسيط.

كان هدف الثورة الفرنسيّة هو إطاحة البرجوازيّة بالنبلاء والأكليروس وهي برجوازيّة استخدمت سخط الفلّاحين للقضاء على الإقطاعيّة، وسخط جماهير المدن لشل جيوش الملك[1].

وهكذا تضافرت عشرات القوى المتنوّعة لأحداث الثورة الفرنسيّة، وهو ما يحدث في معظم الأحداث البالغة الأهميّة في التاريخ. وكان من العوامل الأساسيّة نمو الطبقات الوسطى عدداً وتعليماً وطموحاً وسلطاناً اقتصادياً، ومطالبتها بوضع سياسيّ واجتماعيّ يتناسب وإسهامها في حياة الأمّة وماليّة الدولة.وخشيتها من أن تجعل الخزانة سنداتها الحكوميّة عديمة القيمة بإعلانها

(33)

الإفلاس، وممّا لحق بهذا العامل استخدمه مساعداً ومهدّداً فقر ملايين الفلّاحين الذين يستصرخون طلباً للتخفّف من الرسوم والضرائب والعشور. ورخاء عدّة ملايين من الفلّاحين لهم ـ من القوّة ما يكفي لتحدّي الإقطاعييّن وجباة الضرائب والأساقفة وأفواج الجند، والسخط المنظّم الذي استشعرته جماهير المدن التي عانت من التلاعب في إمدادات الخبز، ومن تخلّف الأجور عن الأسعار في التصاعد التاريخيّ للتضخّم[1].

يُضاف إلى ذلك مجموعة من العوامل المساعدة: إسراف البلاط المُكلف، وعجز الحكومة وفسادها، وإضعاف الملكيّة نتيجة لصراعها الطويل مع البرلمانات وطبقة النبلاء، وانعدام المؤسّسات السياسيّةالتي يمكن عن طريقها التعبير عن المظالم على نحو قانونيّ وبنّاء، ومستويات من الإدارة الرفيعة التي يتوقّعها مواطنون شحذت عقولهم المدارس والكتب والصالونات والعلم والفلسفة وحركة التنوير أكثر من أيّ شعب من الشعوب المعاصرة، إضافة إلى زوال الرقابة على المطبوعات أيّام لويس السادس عشر، وبثّ أفكار الإصلاح أو الأفكار الثوريّة على يد فولتير، وروسو، وديدرو، ودالامبير، وميرابوا الأب، وطورجيو، وكوندورسيه، وبومارشيه، وميرابوا الابن، ومئات غير هؤلاء من الكتّاب الذين لم يكن لهم نظير من قبل عدداً وقوّة.

يُضاف إلى هذا كلِّه ذلك التقلُّص الذي أصاب الإيمان في صدق كنيسة كانت قد ساندت الأوضاع الراهنة، وحقّ

(34)

الملوك الإلهيّ، وبشّرت بفضائل الطاعة والاستسلام،وكدّست قدراً هائلاً من الثروة. في الوقت الذي لا تستطيع الحكومة أن تعثر فيه على وسيلة لتمويل واجباتها المتّسعة. ثمّ انتشار الإيمان بـ( قانون طبيعيّ) يتطلّب عدالة إنسانيّة لكلّ عاقل دون نظر للمولد أو اللون أو العقيدة أو الطبقة، و بـ(حالة طبيعيّة) معطاءة، كلّ الناس فيها متساوون أحرار سقطوا منها نتيجة لنموّ الملكيّة الخاصّة، والحرب، والقانون الذي يوجَّه لخدمة الطبقة المميزة. إضافة إلى ظهور المحامين والخطباء المستعدّين للدفاع عن الوضع الراهن أو مهاجمته. ولإثارة مشاعر الشعب وتنظيمها، وتكاثر كتّاب النشرات، والنشاط السرّيّ للأندية السياسيّة، وطموح الدوق أورليان إلى التربّع على عرش فرنسا مكان ابن عمّه. لقد اجتمعت هذه العوامل كلّها معاً في حُكم مَلِك ضعيف ومتردّد، حيّره تشابك الصراعات من حوله، والدوافع المتضاربة في داخله، وتركها تفعل فعْلها في شعب أشدّ وعياً بمظالمه، وأخصب خيالاً من أيّ شعب آخر تقريباً وعاه التاريخ.

كما أسهم كلّ من القحط الذي أصاب فرنسا عام 1788م ومجاعته، وشتاء عام 1788م القاسي في إشعال لهيب الثورة. وتنبّأ المركيز دجيراردان في عام 1781م بأنّ (الجوع وحده سيولِّد هذه الثورة الكبرى) فقد وصل الجوع إلى الريف، وإلى المدن، وإلى باريس، وأنشب أظفاره في الجماهير، لذلك فقد أسهم فقر البرولتاريا إسهاماً كبيراً في اندلاع الثورة الفرنسيّة. وبذلك

(35)

نلاحظ تضافُر عوامل كثيرة حملت الجماهير على الانتقال من الغليان إلى مرحلة العمل[1].

وفي صباح 14 يوليو الباكر أغار الحشد من ثمانية آلاف رجل على الأوتيل ديزنفاليد، واستولوا على 32000 بندقيّة، وبعض البارود، واثنتي عشرة قطعة من المدفعيّة، وفجأة صاح أحدهم إلى (الباستيل). ولكن لِمَ الباستيل بالذات؟.

لم يكن الهدف من ذلك إطلاق سراح سجنائه، ولكنّ هذه القلعة الضخمة التي بلغ ارتفاعها مائة قدم وسمْك أسوارها ثلاثين قدماً، والتي أحاط بها خندق عرضه خمس وسبعون قدماً ظلّت رمزاً للاستبداد زمناً طويلاً. وكانت ترمز في ضمير الشعب إلى مئات السجون والزنزانات الخفيّة.

2 - المهاد الفكريّ والفلسفيّ:

 لقد وفّر الفلاسـفة الإعداد الأيديولوجيّ للثورة ، وكانت أسـبابها اقتصاديّة وسـياسيّة ـ كما مرّ معناوعباراتها فلسفيّة، وقد تيسّر للأسباب الأساسيّة للثورة أن تفعل فعلها بفضل عمل الهدم الذي قام به الفلاسفة لإزالة العقبات القائمة في طريق التغيير؛ من مثل: الإيمان بالامتيازات الإقطاعيّة، وسلطة الكنيسة، وحقّ الملوك الإلهيّ، وغير ذلك.

 وكانت الدول الأوروبيّة حتّى عام 1789م تعتمد على الدين

(36)

في غرس قدسيّة الحكومات في النفوس، وحكمة التقاليد، عادات الطاعة، ومبادئ الأخلاق. كتب شامفور والثورة تدور رحاها: (الكهانة كانت أوّل معقل للسلطة المطلقة، وقد أطاح به فولتير). وذهب توكفيل في عام 1856م إلى أنّ( سوء السمعة العامّ الذي انحدر إليه الإيمان الدينيّ كلّه في نهاية القرن الثامن عشر كان له ولا ريب أعظم الأثر في سير الثورة برمته).

 يُعدّ روسو من أبرز المفكّرين والفلاسفة في ذلك العصر، فقد ساعدت فلسفة روسو في تشكيل الأحداث السياسيّةالتي أدّت إلى قيام الثورة الفرنسيّة، فقد أثّرت أعماله في التعليم والأدب والسياسة.

انتقد روسو المجتمع في مسائل متعدّدة، ففي رسالته التي بعنوان (بحث في منشأ عدم المساواة وأسسه) (1755م) هاجم المجتمع والملكيّة الخاصّة بوصفهما سبباً من أسباب الظلم وعدم المساواة[1].

وكتابه (هلويز الجديد) (1761م) مزيج من الرواية الرومانسيّة والعمل الذي ينتقد بشدّة زيف المبادئ الأخلاقيّة التي رآها روسو في مجتمعه[2]. وفي كتابه (العقد الاجتماعيّ) (1762م) وهو علامة بارزة في تاريخ العلوم السياسيّة؛ قام روسو بعرض آرائه حول الحكم وحقوق المواطنين.

(37)

وفي روايته ـ الطويلة (إميل) 1762م أعلن روسو أنّ الأطفال ينبغي تعليمهم بأناة وتفاهم، وأوصى بأن يتجاوب المعلّم مع اهتمامات الطفل، وحذّر من العقاب الصارم ومن الدروس المملّة، و لكنّه أحسّ أيضاّ بوجوب الإمساك بزمام الأمور.

ويرى روسو أنّ الناس ليسوا مخلوقات اجتماعيّة بطبيعتهم، معلناً أنّ الذين يعيشون منهم على الفطرة، وبعزلة عن المجتمع يكونون رقيقي القلب، خالين من أيّة بواعث أو قوى تدفعهم إلى إيذاء بعضهم بعضاً، ولكنّهم ما إن يعيشون معاً في مجتمع واحد حتّى يصيروا أشراراً، فالمجتمع يُفسد الأفراد؛ من خلال إبراز ما لديهم من ميل إلى العدوان والأنانيّة. لم يكن روسو ينصح الناس بالعودة إلى حالة الفطرة، بل كان يعتقد أنّ الناس بوسعهم أم يكونوا أقرب ما يكونون إلى مزايا هذه الحالة إذا عاشوا في مجتمع زراعيّ بسيط، حيث يمكن أن تكون الرغبات محدودة، والطاقات كلّها موجّهة نحو الانهماك في الحياة الجماعيّة.

وقد رسم في كتاباته السياسيّةالخطوط العريضة للنظم التي يُعتقد أنّها ضروريّة لإقامة ديمقراطيّة يشارك فيها جميع المواطنين. ويرى أنّ أشكال الحُكم كافّة تتّجه في آخر الأمر إلى الضعف والذبول، ولا يمكن كبح التدهور إلّا من خلال الإمساك بزمام المعايير الأخلاقيّة، إسقاط جماعات المصالح الخاصّة[1]. وقد تأثّر روبسبيير وغيره من زعماء الثورة الفرنسيّة بأفكار روسو بشأن الدولة، كما أنّ هذه الأفكار كانت مبعث إلهام لكثير من الاشتراكيّين وبعض الشيوعيّين.

(38)

كما شارك فولتير[1] في إنجاب الثورة الفرنسيّة؛ بإضعاف احترام الطبقات المثقفة للكنيسة، وإيمان الطبقة الارستقراطيّة بحقوقها الإقطاعيّة لاقت أفكار روسو وفولتير قبولاً في أوساط الفلاسفة والمفكّرين، فقد أثنى جان ـ أنطوان ـ نيقولا كاريتا على فولتير لإطلاقه الفكر من عقاله، وعلى روسو لإلهامه الناس بأن يقيموا نظاماً اجتماعيّاً عادلاً. وصوّر الخير العميم الذي سيفيض بهما القرنان التاسع عشر والعشرون وبفضل جهود القرن الثامن عشر: التعليم العامّ، وحريّة الفكر والتعبير، وتحرير المستعمرات، والمساواة أمام القانون. وإعادة توزيع الثروة. وقد وضع مبدأ (دولة الرفاهية)، قال: (يجب أن يكون هدف جميع المؤسّسات الاجتماعيّة تحسين الأحوال البدنيّة والفكريّة والأخلاقيّة لأكثر طبقات السكان عدداً وأشدّها فقراً). وقد تنبّأ بصعود الصحافة ضابطاً لطغيان الحكومة؛ وبتطوّر دولة الرفاهية بفضل التأمين والمعاشات الاجتماعيّة؛ وبإطالة عمر الإنسان بفضل تقدّم الطبّ، وبتطبيق البحوث الإحصائيّة على إنارة السياسات وصياغتها، وبازدياد ارتباط العلم بالحكومة[2].

 شكّلت أفكار روسو المنبع الرئيس للحركة الرومانسيّة[3]، ونقصد بها تمرّد الوجدان على الفكر، والغريزة على العقل، والعاطفة على الحكم، والذات على الموضوع، والنزعة الذاتيّة على الموضوعيّة، والوحدة على التجمّع، والخيال على الواقع، والخرافة والأسطورة

(39)

على التاريخ، والحبّ الرومانسيّ على زواج المصلحة، و(الطبيعة) و(الطبيعيّ) على المدينة والتكلّف، والتعبير العاطفيّ على الضوابط العرفيّة، والحريّة الفرديّة على النظام الاجتماعيّ، وتمرّد الشباب على السلطة، والديمقراطيّة على الارستقراطيّة، وباختصار تمرّد القرن التاسع عشر على الثامن عشر، أو بعبارة أكثر تحديداً الفترة 1760-1859م على 1648-1760م: هذه كلّها أمواج للمدّ الرومانتيكيّ العظيم الذي اكتسح أوروبا.

لبّت أفكار روسو حاجات العصر وروحه؛ فقد ملّت فرنسا الفكر الكلاسيكيّ والانضباط الارستقراطيّ؛ فأتاح تمجيد روسو للوجدان تحرّراً للغرائز المكبوتة، والعاطفة المكظومة، والأفراد والطبقات المظلومة، وأصبحت (الاعترافات) كتاب الوجدان المقدّس ولا يعني هذا أنّ روسو رفض العقل؛ فهو ـ على العكس ـ وصفه بأنّه عطية إلهيّة، وقبله حكماً نهائيّاً. ولكنّه أحسّ أنّ نوره البارد في حاجة إلى دفء القلب، ليلهم العمل والعظمة والفضيلة. وأصبحت (الحساسيّة) شعار النساء والرجال. وتعلّم النساء الإغماء، والرجال والبكاء، بأسرع من ذي قبل، وتذبذبوا بين الفرح والحزن، ومزجوا الاثنين في دموعهم.

3 - المهاد الأدبيّ:

 عرف الأدب الفرنسيّ مجموعة من الأعمال الأدبيّة التي شكّلت إرهاصات الرومانسيّة نذكر منها: (الحكم) لشامفور، و( بول وفرجيني) لبرناردان دسان ـ بيير، و(مجلّدات) رستيف دلابريتون وغيرها من الأعمال التي توِّر في القرّاء إلى يومنا هذا.

(40)

ظهرت هذه الأعمال وغيرها في بيئة أدبيّة خصبة؛ فقد كثرت المدارس، والمكتبات، ومجموعات القرّاء، والمحاضرات، والصحف، والمجلّات ، والنشرات، والكتب. ولم يكن يلمّ بالقراءة من الشعب الفرنسيّ غير قلّة من الناس. ومع ذلك كان الملايين منهم متعطّشين إلى المعرفة. واتّسع الطلب على الموسوعات، وخلاصات العلم الوافية، وملخّصات المعرفة، وكان جماعة الفلاسفة، ـ والمصلحون يعلّقون الآمال على نشر التعليم.

لقد سخر شامفور من العقل، فقد رأى أنّ الإنسان في حالة المجتمع الراهنة يبدو أكثر فساداً بسبب عقله منه بسبب عواطفه المشبوبة. ولمّا خرج شامفور من القصور والبيوت الفاخرة إلى شارع باريس اشتدّ تشاؤمه فباريس ـ كما رأى ـ مدينة اللهو واللّذة، حيث يموت أربعة أخماس الناس حزناً.... المكان الذي يفوح نتنه، وليس فيه إنسان ينبض قلبه بالحبّ. فكرّس نفسه للثورة، وبدا له أنّ شعار الثورة (الحريّة، والمساواة، والإخاء).

وإذا كان تأثير فولتير هو الغالب عند شامفور، فإنّ تأثير روسو كان كاملاً في جاك-هنري برناردان دسان- بيير؛ ففي الحادية والثلاثين (1768م) كُلِّف ـ بوصفه مهندساً بمهمّة حكوميّة في الأيل دفرانس، المسمّاة الآن موريتبوس. وجد ـ في تلك الجزيرة ـ ما خاله (حالة طبيعيّة) التي تخيّلها روسو؛ حيث يعيش الرجال والنساء ملتصقين بالأرض، لم تلوّثهم رذائل المدينة. فوصف في كتابه (رحلة إلى الأيل وفرانس) (1773م) حياة سكان الجزيرة البسيطة. كما ألّف

(41)

(دراسات للطبيعة) (1784م)، و(توافقات الطبيعة) (1796م)، وصف حياة النبات والحيوان، وقد فاق روسو في تمجيده للوجدان وتقديمه على العقل، (كلّما تقدّم العقل أتانا بدليل على تفاهتنا، وبدلاً من أن يهدّئ أحزاننا بأبحاثه، ـ فهو كثيراً ما يزيده بنوره ... أمّا الوجدان فيعطينا دافعاً سامياً، وهو إذ يخضع يصبح أنبل الغرائز وأكثرها إشباعاً في حياة البشر)[1].

 وقد ألحق برناردان بالطبعة الثانية من الدراسات (1788م) رواية سمّاها (بول وفرجيني) ظلّت واحدة من عيون الأدب الفرنسيّ خلال التقلّبات الكثيرة التي اعترت الذوق الأدبيّ؛ وخلاصتها أنّ امرأتين فرنسيّتين حبليّين تذهبان إلى موريتيوس، إحداهما مات زوجها، والأخرى هجرها حبيبها، وتلد إحداهما (بول) والأخرى (فرجيني). ويشبّ الطفلان ويترعرعان في وادٍ وسط مناظر رائعة ينتشر فيها أريج الأزهار الطبيعيّة، ويُشكِّل أخلاقهما: حبّ الأم، وتعاليم الدين. حتّى إذا بلغا الحلم أحبّ أحدهما الآخر. وتُبعث (فرجيني) إلى فرنسا لتتسلّم إرثاً، وهو أمر لا يحدث كثيراً في الحالة الطبيعية، فيُعرض عليها هناك الزواج والثراء إن أقامت في فرنسا، ولكّنها ترفضهما لتعود إلى موريتيوس وبول. ويعدو (بول) إلى الشاطئ ليرى سفينتها، وهي تدنو إلى البرّ، وتغمره الفرحة بخواطر الحبّ والسعادة. ولكنّ السفينة تجنح إلى مياه ضحلة فترتطم بالقاع، وتغرق (فرجيني) ـ وهي تحاول الوصول إلى البرّ، ويموت (بول)

(42)

حزناً عليها. والكتيّب قصيدة منثورة؛ رواها المؤلّف ـ ببساطة في الأسلوب، ونقاء وموسيقى في اللغة، لا يفوقها كتاب في الأدب الفرنسيّ. ووافقت رقّة عاطفته مزاج الجبل. وهلّلَ القوم لبرناردان خلفاً أصيلاً لروسو.

 وقد كان نيقولا ـ إدمون رستيف دلا بريتون من أبرز أعلام الأدب الفرنسيّ، وألّف ما يُقارب مئتي كتاب، يصوِّر في معظمها عادات الطبقة الدنيا في عهد لويس السادس عشر وأخلاقها. بدأ حياته الأدبيّة بقصّة (قدم فانشيت) (1767م)، وكانت قدم الصبيّة هي أبرز ملامحها، وكان أوّل عمل أدبيّ ناجح له هو (الفلّاح المنحرف) (1775م)، إذ يقصّ بالرسائل كيف انحرف الفلاح إدمون بعد انتقاله إلى باريس متأثّراً بحياة المدينة وفسوقها. فيُعلِّمه ملحد يُدعى جودي داراس أنّ الله أسطورة، وأنّ الأخلاق أكذوبة، وأنّ كلّ اللّذات مشروعة، وأنّ أوّل واجباتنا أن نعيش ملء حياتنا ما استطعنا العيش. ويقبض على آراس، فيقول له أدمون يوجد الله، ويشنق آراس غير نادم ولا تائب. وسمّى أحد معاصري المؤلِّف هذا الكتاب (علاقات الناس الغراميّة الخطرة). وواصل في كتاب (الفلّاحة المنحرفة) (1784م) هجومه على انعدام المسؤوليّة الأخلاقيّة ومفاسد حياة المدينة[1].

 أمّا أهمّ أعمال رستيف فهو (المعاصرات) الذي بلغ خمسة وستين مجلّداً (1780-1791م)، وكان لهذه القصص القصيرة عنوان

(43)

فرعيّ هو (مغامرات أجمل نساء عصرنا)؛ وفيه وصف لحياة بائعات الزهر وغراميّاتهن، وبائعات الفحم، والخيّاطات، والحلّاقات. كما سجّل رستيف في (ليالي باريس) (1788-1794م) الأحداث التي شهدها أو تخيّلها في جولاته الليليّة؛ فقد حرص على تصوير حال الشحّادين، والحمّالين، والنشّالين، والمهرّبين، والمقامرين، والسكارى، وخاطفي الأطفال، واللصوص، والمنحرفين، والبغايا، والقوّاد، والمنتحرين، وغيرهم من أصحاب الطبقة السفلى في باريس.

 ولعلّ من أبرز أعلام الأدب الفرنسيّ في تلك الفترة بيير ـ أوجستن كارون الذي عُرف بـ(بومارشيه). وتجلّت عبقريّته في تصوير شخصيّة (فيجارو) بقيثارته المعلّقة على كتفه وذهنه المتوقّد، وهو على استعداد لتذليل أيّ صعوبة، وذكاؤه يخترق حجب النفاق، والأكاذيب والمظالم التي تلوِّث عصره. ثم تحدّاه الأمير كونتي أن يكتب تتمّة للمسرحيّة، يبدو فيها فيجارو أكثر تطوّراً ونضجاً، فألّف (زواج فيجارو)، وأطلق من خلالها العبارات الثورّية؛ ففي المناجاة التي جعلها روسيني تدوّي في جنبات العالم كلّه يخاطب نبلاء إسبانيا وفرنسا ـ باحتقار يوشك أن يكون ثوريّاً بقوله: (ما الذي صنعتموه لتنالوا هذا الحظّ الوفير؟ لقد كلّفتم أنفسكم مشقّة أن تولّدوا، لا أكثر، وفيما عدا ذلك ـ فأنتم قوم عاديّون تماماً، في حين أننّي أنا، التائه وسط الجماهير كما عليّ في سبيل تحصيل قوتي فقط أن أستعين بقدر من العلم والحساب يفوق ما أنفق في ـ حُكم إسبانيا كلّها هذه السنين المائة المنقضية). كما انتقد بيع

(44)

الوظائف العامّة، وسلطة الوزراء التعسّفية، وإخفاقات العدالة، وحالة السجون، والرقابة على الفكر واضطهاده، بقوله: (مسموح لي أن أنشر ما أشاء، شريطة ألّا أذكر في كتاباتي لا الحُكّام، ولا دين الدولة، ولا السياسة، ولا الأخلاق، ولا الموظّفين، ولا المالية، ولا الأوبرا، ولا... أيّ شخص ذي خطر، على أن أخضع لتفتيش رقيبين أو ثلاثة). أمّا حبكة التمثيليّة فلم تكتفِ بإظهار الخادم أذكى من سيدّه، فهذا تقليد مألوف جدّاً، إذ لا يسيء لأحد، لكنّها أظهرت الكونت النبيل رجلاً زانياً ـ وقَبِل الكوميديّ فرانسيز (زواج فيجارو) (1781م)، ولكن لم يتيسّر إخراجها حتّى عام (1784م)، لأنّها عندما تُليت على مسامع لويس السادس عشر احتملَ بروح الفكاهة المتسامحة ما تخلّلها من هجاء، ولكنّه عارض حين سمع المناجاة، وما اشتملت عليه من هزء بطبقة النبلاء وبالرقابة، فقد أحسّ أنّه لا يسعه أن تُهان هذه المؤسّسات الأساسيّة علانية، فصاح قائلاً: (هذا شيء بغيض، ويجب ألّا يُمثّل أبداً، إنّ السماح بعرضه ليعدل تدمير الباستيل، فهذا الرجل يسخر من كلّ شيء يجب احترامه في أيّ حكومة). ثمّ حظر تمثيل المسرحيّة، وقرأ بورماشييه أجزاء منها في بيوت خاصّة، فأثار هذا فضول القوم، ورتّب بعض الحاشية أن تُمثّل أمام البلاط، ولكنّ هذا أيضاً حظر في اللحظة الأخيرة. وأذعن الملك أخيراً للاحتجاجات والالتماسات، ووافق على اعتماد تمثيلها علناً بعد أن يخضع النصّ للرقابة، وكانت حفلة العرض الأولى (1784م) حدثاً تاريخيّاً، وبدت باريس كلّها مُصممّة على حضور هذه الحفلة الأولى، واقتتل الأشراف والعامّة على دخول المسرح، وحُطِّمت

(45)

الأبواب الحديد، واختنق ثلاثة أشخاص. وكان بورمارشييه موجوداً، وقد سَعِد بهذا الشجار، وبلغ من نجاح المسرحيّة أنّها مُثِّلت ستين مرّة دونَ انقطاع، وكان المسرح يغصّ بالناس في كلّ حفلة. وقد رأى التاريخ في (زواج فيجارو إرهاصاً ـ بالثورة، ووصفها نابليون بأنهّا (الثورة وقد أخذت تفعل فعلها)[1]..

 لم يقتصر هذا التغيير المُلاحظ في الذوق الأدبيّ على الأدب الفرنسيّ وحسب، فقد ظهر صدى هذه الومضة الفكريّة في الأدب الأوروبيّ. فالانتشار الكبير الذي حققّته مسرحيّات كيبر وستيل بما فيها من مشاهد مؤثّرة، وخطب حماسية، يدلّ على التغيّر في الذوق والموقف. وهذا ما يُلاحظ ـ في الشعر العاطفيّ عند (كلوبستوك) في ألمانيا. أمّا الرواية الانكليزيّة فوجدت الحساسيّة تعبيرها الرئيس من منتصف القرن الثامن عشر، من مثل: أعمال بريفوست: مانون ليسكو (1735م)، روسو: إيلويز الجديدة (1762م)، وكوت: آلام الفتى فرتر (1774م). إضافة إلى عدد من الرويات الانكليزيّة، من مثل: رجاردسن: باميلا (1740م)، كلاريسا هالو (1747م)، سير جالدز كرانديسن (1754م)، كولد سميث: أسقف ويكفيلد (1766م)، ستيرن: رحلة عاطفيّة (1768م)، هنري ماكنزي: رجل ذو مشاعر (1771م)، وهنري بروك: جوليت كرنفيل، أو: حكاية القلب البشريّ (1774م). تتحدّث معظم هذه الروايات عن مشاكل الفضلاء، وتقصد إلى ـ التحريك والتعليم بإثارة الشفقة على الضحايا الأبرياء. فالحبكات والمواقف في هذه الحكايات الطويلة

(46)

غالباً ما تكون أقلّ أهميّة في حدِّ ذاتها، فالهدف الرئيس يكمن في عرض العواطف والمشاعر.

 إنّ هذه الأفكار الجديدة التي بدأت بالظهور أسهمت في تشكيل نظريّة جديدة في الشعر. أوضح لو كان بيرسول سمث في تحليله (أربع كلمات رومانسيّة)، إذ ذكر سلسلة من الدراسات النقديّة التي نُشرت بين 1751-1774م بأقلام كتّاب، من مثل: جوزف وتوماس وآرتن، رجارد هرد، ويليام دف، إدموند بيرك، ويليام شارب، حول موضوعات، من مثل: نبوغ بوب، الأصالة في الكتاب، النبوغ الأصيل، نبوغ شكسبير....

 ـ ولعلّ من أبرز الأبحاث ما قدّمه يونك: ( أقوال في التأليف الأًيل) (1759) وهذا لا يعني أنّ أفكار يونك كانت جديدة في جوهرها؛ ولكنّها تبقى ذات أهميّة؛ لأنهّا تلخّص خطوط الفكر الجديد وتبلوره، فتضعها في ـ صيغة أكثر إقناعاً وحيويّة.

 يضع يونك خطوطاً واضحة بين المحاكاة والأصالة، المعرفة والنبوغ، القواعد والخلق الحرّ، وغيرها من الأفكار التي بشرت بالنظريّة الشعريّة الرومانسيّة. ويبدو أنّ المنهاج الجماليّ الذي قدّمه يونك قد ناسب حركة (الصخب والاندفاع) التي شاعت في بدايات (1770م)، فهؤلاء الكتّاب الشباب: كوته شيلر هردر، كلينكر لنتنر، وبركر كانوا في ثوؤة؛ فقد كانوا ضدّ أيّ مذهب أدبيّ اجتماعيّ، سياسيّ أو دينيّ. ففي اندفاعهم للتخلّص من قيود الماضي رفضوا جميع مظاهر الوضع الراهن. وكلّ ما كان يهمّ في الحياة ـ كما في

(47)

الفنّ ـ هو النبوغ الأصيل الخلّاق لدى الفرد الذي يجب أن يكون حرّاً للتعبير عن خبرته الشخصيّة تلقائيّاً.

وبعد أن وضّحنا المهاد الحضاريّ الذي نشأت فيه الرومانسيّة، فإنّنا سنتابع ـ في الصفحات القادمة ـ التعرُّف إلى مبادئ الفكر الرومانسيّ عند الغرب.

 

(48)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

الرومانسيّة عند الغرب

 

(49)

الفصل الثاني

الرومانسيّة عند الغرب

تُعدّ فرنسا المهد الأوّل ـ للرومانسيّة، فقد كان للأحوال السياسيّةوالاجتماعيّة والاقتصاديّة التي عاشتها فرنسا ـ كما مرّ معنا ـ أثر كبير في تكوين تلك الحالة النفسيّة، والتمزُّق الداخليّ والتغّني بالآلام الفرديّة التي هي من ميزات الرومانسيّة. ولعلّ من عوامل نشوء الرومانسيّة في فرنسا ما كان من هجرة بعض كبار كُتّابها إلى إنكلترا وألمانيا إثر قيام الثورة الفرنسيّة سنة 1789م، وتأثّرهم ـ بآداب تلك البلاد ومعطياتها الفكريّة والثقافيّة، ممّا جعلهم يصدرون عن وحيها بكلّ حماسة وإعجاب؛ من مثل: الحماسة التي أظهرها شاتوبريان عندما عاد من مهجره في إنكلترا، وتسنّى له أن يُترجم إلى الفرنسيّة (الفردوس المفقود) لجون ملتون.

وكذلك الإعجاب الذي أبدته مدام دي ستايل عندما عادت من منفاها (ألمانيا) بهذا الأسلوب الجديد السائد، بقولها: (شعر الشمال أكثر ملاءمة من شعر الجنوب لعقليّة أمّة حرّة)[1]. وكتبت

(50)

مدام دي ستايل عن ألمانيا كتاباً فريداً؛ أشادت فيه بالروح الألمانيّة، وعرّفت الفرنسيّين بروائع الأدب الألمانيّ.

كما أثّرت آراء الفلاسفة في الحياة العقليّة والأدبيّة في أوروبا، إذ مهدّت لظهور الرومانسيّة، ـ فقد دعا روسو إلى العودة إلى الطبيعة والحياة الفطريّة، وأمّا فولتير فقد كان ناقداً اجتماعيّاً في نقده، ساعد على نشر أدب متحرّرٍ من النظام الإغريقيّ.

كذلك أخذ بعض الفلاسفة يُمهدّون لهذا المذهب ويُبشّرون بعالم أفضل، من مثل : الفيلسوف الفرنسيّ ديدرو، والفيلسوف الألمانيّ كانت، ولا شكّ في أنّ هؤلاء الفلاسفة أثّروا في الأدبِ ونقده عندما خالفوا أفلاطون في نظريّته المشهورة (المُثل) وغيرهم من الفلاسفة.

وقد انصرف هؤلاء الفلاسفة في أبحاثهم الفلسفية إلى سبْر طبيعة الجمال وحقيقته، والفرق بين الجميل والنافع، واستطاعوا أن يحدّدوا نظريّاتهم وآرائهم نحو الجمال، ثمّ أتى فلاسفة بدأوا من حيث انتهى أولئك، وفي مقدّمتهم الفيلسوف الألمانيّ نيتشه، والفيلسوف الألمانيّ شوبنهور؛ الذي زرع فسلفة التشاؤم.

إنّ هذه الأسباب لم تصنع بين عشيّة وضحاها الظروف التي نبتت فيها الرومانسيّة حتّى غدت مذهباً أدبيّاً قائماً بذاته، كما أنّ ـ تلك المؤثّرات الانكليزيّة والألمانيّة ـ التي أشرنا إليها ـ لا تستطيع وحدها تشييد صرح الرومانسيّة لو لم تتضافر ظروف الحياة في فرنسا لتهيئة الحالة النفسيّة التي منها الرومانسيّة، ولا شكّ وُجد في

(51)

فرنسا عدد من الأدباء الناشئين، استجابوا لنداء هذه الأحداث وكانوا الانطلاقة للرومانسيّة.

ولم تقيِّد الرومانسيّة نفسها بمبادئ فنيّة، كما حدث في الكلاسيّة، إلّا أنّها قد بلورت بطريقة عفويّة تلقائيّة بعض الاتّجاهات التي أصبحت من مميّزاتها. سنحاول ـ في الصفحات الآتية ـ التعرُّف إلى أبرز القضايا الرومانسيّة، ومن ثمّ سندرس تجليّات الفكر الرومانسيّ في الأجناس الأدبيّة والنقد الأدبيّ.

ـ أوّلاً : القضايا الرومانسـيّة:

1 - الرومانسيّة وحال الإنسان في المجتمع:

 خلقت الشخصيّة الرومانسيّة لها آمالاً جعلتها تضيق ذرعاً بالمجتمع الذي تعيش فيه، وبما يسوده من تقاليد. ويتطلّع الرومانسيُّون إلى سعادة حرمهم إيّاها المجتمع وماله من قوانين. ومن الطبيعيّ أن يصحب هذا الشعور أفكار وآراء تتّصل بالمجتمع والثورة ومركز الفرد[1]. ويعتقد روسو أنّ الإنسان الفطريّ كان سعيداً عندما كانت حاجاته محدودة في حياة تحقّقت فيها المساواة بين الناس، تهديهم فيها غرائزهم، دون أن تفسد عليهم أطماعهم صفاء هذه الحياة وسعادتها. ولقد اختفت المساواة عندما دخلت الملكيّة، ممّا أدّى إلى شعور الناس بالبؤس والمعاناة.

(52)

ويرى الرومانسيّون أنّ المجتمعات ظالمة آثمة وكانوا يعطفون على ضحاياهم من البائسين، متأثّرين في ذلك بآراء روسو؛ هذه الآراء التي لقيت رواجاً ـ وخاصّة بعد الثورة الفرنسيّة ـ إذ شعر الرومانسيّون بالنقمة من المجتمع وما فيه من مظالم، فهم يدعون إلى خلْق فطريّ سمح، تتوافر فيه سعادة لأبناء وطنهم. يقول فيكتور هوغو في مقدّمة (البائسين) : (نتيجة لقيام القوانين والعادات يوجد نوع من اللعنة الاجتماعيّة التي تصطنع أنواعاً من الجحيم فتعوّق بمقدور الناس المقدور الإلهيّ لمصير الفرد)[1] .

ويرى بعض الرومانسيّين أنّ المجتمع مسؤول عن ضحاياه، ولا لوم على هؤلاء في بؤسهم إذا أتوا في المجتمع بما يعدّ شراً أو خبثاً؛ لأنّ ما يفعلونه في هذا أثر لجناية المجتمع عليهم ولا اختيار لهم فيه، يقول ألفرد دي فيني على لسان شخصيّة من شخصيّاته الأدبيّة وكان قد استمع من محدّثه لمآسٍ اجتماعيّة: (أحسّ في نفسي بشفقة تفوق الوصف على هؤلاء المساكين العظماء الذين حدّثتني أنّك رأيتهم يتحضّرون، ولا شيء ـ يقف نحوي على هؤلاء الموتى الأعزّاء. وأرىويا للأسى!نظائر لهم من البائسين، هم أنواع مختلفة في تحمّل مصائرهم المريرة. فمنهم مَنْ يحيلون حزنهم إلى دعابات ومرح عظيم، وهؤلاء فيما أرى أعمق حزناً، وآخرون يرتدّ اليأس إلى قلوبهم فيصبحون شريرين. ولكنْ أهُم حقّاً آثمون فيما أصبحوا به شرّيرين؟. أصارحك بالحقيقة: (إنّ الفرد قلّما يخطئ ولكنّ النظام الاجتماعيّ هو المخطئ دائماً) . فمن يُخطئ المجتمع في حقّه

(53)

فيسوء حظّه فيه فله (أن يوجّه الضربات أينما شاء!. إنّي لأشعر نحوه ـ حتّى لو صوّب ضرباته نحوي أنا نفسي ـ بحنوّ الأم نحو طفلها المصاب في مهده ظلماً بداء عضّال أليم، فتقول له الأم: اضربني، أي ولدي! وعضّني بأسنانك أيّها المسكين البريء! لم تفعل سوءاً تستحقّ به كلّ هذا العذاب ! عضّ صدري، فهذا يخفّف بعض ما بك! عضّ أيّها الطفل، لتطيب نفساً)[1] .

ويحكم الرومانسيّون على المجتمع باسم المبادئ الإنسانيّة الخيّرة التي يؤمن بها الفرد الصالح . وهذا ما سمّاه من قبل (الإرادة العامّة)، وثمّة فرق عنده بين الإرادة العامّة وإرادة ـ المجموع؛ لأنّه إذا كان الإنسان طيباً بطبعه، وكانت الطبيعة في وفاق مع العقل، نتج من ذلك أنّ الإنسان يعبّر في رأيه عن (العقل العالميّ) على شرط أن تتوافر له مع تلك الطبيعة الطيّبة حريّة التعبير عنها.

وقد أساء الرومانسيّون بمجتمعهم الظنون، إذ يصِّرح فيكتور هوجو في مقدّمة مسرحيّته (أنجيلو) Angelo قائلاً: ( المجتمع في واقعه أحمق). ولذا يسمو الفرد عندهم بمقدار تحرّره من آثار المجتمع وتقاليده. وسمو الفرد لا يتوافر إلّا لصفوة؛ هم الكتّاب، ورجال المثل العليا. ويرى شيلي الإنسانيّة سعيدة في المستقبل من ثنايا تفكير الحكماء، والشعراء، والمضحّين في سبيل الإنسانيّة.

وكان سخط الرومانسيّين عامّاً على مجتمعاتهم. ولذا ترفّعوا عن الاندماج في الشعب، وتعالوا عن الاشتراك في شؤونه إلّا ثائرين.

(54)

وهذا مصدر كبرياء ينتقمون بها من مجتماتهم. وبها تكتسب حياتهم نوعاً من جلال الغموض ومن ارستقراطية ـ التفكير، ومن مهابة العبقرية لدى معظم الناس.

وقد وُصف الأدب الرومانسيّ بأنّه أدب الثورة، فالثورة هي الموجّهة به والمسيطرة عليه. والرومانسيّون هم أبناء الثورة، ورويت أفكارهم بدمائها. ويُعرِّف لامرتين الثورة بأنّها: (افتتاح عهد ثلاث سلطات خلقيّة: سلطة الحقّ على القوّة، وسلطة التفكير على المزاعم، وسلطة الشعوب على الحكومات. فهي ثورة ـ في الحقوق بالمساواة، وثورة في الأفكار بالمنطق عوضاً عن التحكُّم، و ثورة ـ في الواقع بإقرار سلطان الشعب، وهي إنجيل الحقوق الاجتماعيّة، وإنجيل الواجبات، وهي وثيقة الإنسانية)[1].

 ويرى فكتور هوجو أنّ بحصول الثورة ( أشرق فجر جديد، وتحطّم القيد الثقيل في قدم الجنس البشريّ.... وبَرِئ الإنسان من المخاوف والأحقاد والأوهام، واختفى الطغيان، ومع ركام الميراث القديم المنهار هوى الجهل، والضلال والبؤس والجوع وحقّ الملوك الإلهيّ)[2] .

ويُعدّ بيرون وشيلي من أبرز الرومانسيّين الإنكليز، فبيرون يأسى إلى ما آلت إليه الثورة الفرنسيّة، بقوله: (لا يقهر الظلمة سوى الظلمة... ولكنّ فرنسا ثملت بالدماء حتّى طفحت الجريمة... لأنّ

(55)

أيّام سفك الدماء التي شهدناها والأطماع المسفّة التي أقامت سدّاً نحاسيّاً بين الإنسان و آماله .. وهكذا سيطلع ربيع جديد بثمار أقلّ مرارة)[1].

فكان بيرون ضعيف الأمل في نتائج الثورة الفرنسيّة بعد انحرافها، ولكنّه كان يعترف بأثرها الطيّب في توجيه الشعوب إلى عهد جديد أقل بؤساً. ويؤكّد شيلي عقيدته في مستقبل خيّر للإنسانيّة في الأرض[2]، إذ تختفي المظالم، وتتحقّق بالعدالة سعادة الناس في هذا العالم بفضل جهود الحكّام والشعراء والمصلحين الذين يرشدون الإنسانيّة إلى مثلها.

2- الرومانسيّة والمشاعر الإنسانيّة:

 تُشكِّل العاطفة الإنسانيّة عماد الأدب الرومانسيّ، فقد أطلق الرومانسيّون العنان لإحساسهم الفرديّ حتّى جاء أدبهم صورة لذات أنفسهم، ويرى وليم وردورث أنّ الشعر الجيّد كلّه فيض تلقائيّ ـ للمشاعر القويّة، إذ إنّ القصائد التي يمكن أن يُعلّق عليها أيّة أهميّة لم تُنظم إطلاقاً على أساس أيّ تنوّع في الموضوعات، بل نُظمت من جانب إنسان قد فكّر طويلاً ـ وبعمق، لكونه ذا حساسيّة ـ أكبر من المألوف، ولأنّ التدفّق المتواصل لشعورنا تعدّله وتوجّهه أفكارنا، التي هي الواقع الممثِّلات لمشاعرنا السابقة جميعاً، وبِفعْل تأمّل العلاقة بين هذه الممثّلات العامّة، نكتشف ما هو مهمّ للناس

(56)

حقيقة؛ لذلك فإنّ مشاعرنا ـ بتكرار هذه العمليّة ومواصلتها ـ ستكون متّصلة بموضوعات على قدرٍ من الأهميّة[1].

 ويرى بول فان تيغيم أنّ هذه الأصالة المنعتقة من التقاليد الأدبية ستتيح للشعر أن يغدو تعبيراً مباشراً وصادقاً عن العواطف الشخصيّة. لقد كان الكلاسيكيّون ـ أيضاً ـ يستلهمون انفعالاتهم، ولكنّهم يعدّونها مادّة للبناء ينبغي للعقل أن يستمدّ منها العمل الفنيّ، أمّا الرومانسيّون فيؤثرون أن ـ يُسلموها ـ كما هي ـ إلى الجمهور الذي لن يُجهد ذاته في البحث عن الإنسان خلف الشاعر؛ لأنّ الإنسان هنا يُعبّر عن نفسه. ويوضّح موسيه أنّ الشعر عاطفة أكثر منه عقلاً، وأنّه ـ ينبغي التعبير عن هذه العاطفة تعبيراً مطبوعاً وصادقاً، ويقول لامارتين عن أشعاره سنة (1830م) : (إنّها تنمُّ عن الإنسان أكثر مما تنمّ عن الشاعر). و يؤكّد سنة (1834م) أنّ الشعر ـ وهو أسبق الفنون وأكملها ـ صوت النفْس الذي يتدفّق بأدنى قدرٍ في الصنعة، يتدفّق ارتجالاً، وهو صوت النفْس أيضاً لدى هوغو مؤلّف (الأصوات الداخليّة)؛ إنّه (تصوير عميق للأنا)، وأضاف سنة 1856م رادّاً على هؤلاء الذين انتقضوا من موقفه: (ولكنّي عندما أتكلّم عن نفسي فإنّما أتكلّم عنكم)[2].

 وتتجلّى الذاتيّة الرومانسيّة في عدم الرضا بالحياة في عصرهم،

(57)

وفي القلق أمام عالمهم وما يعجّب به من أحداث، وفي الحزن الغالب على أنفسهم في كلّ حال دون أن يجدوا له سبباً. وهذه الحال ناشئة من عدم توازن القوى النفسيّة عند هؤلاء إذ طغى الشعور عليهم بذات أنفسهم ـ طغياناً دفعهم إلى النقمة على كلّ ما هو موجود، والتطلُّع إلى ما لا يستطيعون تحديده، خاصّة في عالم السياسة والخلق والأدب. ولا بدّ أن يصدر هذا الاضطراب النفسيّ من عصر تزلزت فيه الأسس الاجتماعيّة، وضعفت فيه سيطرة العقائد الدينيّة كما أتت بها الأديان السماويّة، ووهن سلطان العقل لتنطلق الحساسيّة والشعور دون عناء .

 عمد الرومانسيّون إلى الانطواء على أنفسهم ونشدان مثال لهم، لذلك اتّسعت الهوّة بينهم وبين الواقع وما ينشدون من مثال؛ فالرومانسيّ غريب في عصره بشعوره وإحساسه، ولذا كان عصبيّ المزاج، ونفسه سريعة التأثّر، وعقله جسور ولوع بالجري وراء المتناقضات وبالتطرُّف في كلّ أحواله، وقلبه عامر بعواطف إنسانيّة عمادها الوطنيّة، أو الحريّة، أو الحبّ القويّ الذي يعلو ـ بنفوس ذويه. وهو في كلّ ذلك معتّد بذاته، يعتقد أنّها مركز العالم من حوله، ولذلك يجب أن يتميّز عمّن يحيطون في خلقه وعاداته ومبادئه وفي ملابسه ولهجته. وكان أدبه ذلك التفرُّد وتلك الأصالة[1].

 لم يكن الرومانسيّ عادة بالمرح ولا بالمتفائل، وإنمّا كان فريسة ألم مرير بسبب الجفوة بينه وبين مجتمع لا يُقدّر ما فيه من نبل الإحساس، ونتيجة انهيار آماله الواسعة، وتعذّر ظفره بالمثال

(58)

المنشود. ولذا كان الحزن[1] طابع الرومانسيّين، وهو حزن يدّل على عزلتهم الروحيّة ونفورهم من المجتمع، كما يدلّ على رهافة الشعور إلى درجة لا تستقرّ في قصصهم ومسرحيّاتهم، إذ يتمنّون الموت في أسعد لحظات حياتهم؛ لشعورهم بأنّ هذه السعادة لن تدوم. وهذا ما نجده عند شاتوبريان ـ وهو من أوائل الرومانسيّين الفرنسيّين ـ في كتابه (مذكرات ما وراء القبر) في قوله: (في فترة شبابي كثيراً ما كنت أتمنّى ألا أعيش بعد لحظات سعادتي: فكان في بشائر الفوز درجات السعادة تدفعني إلى تمنيِّ الموت)[2].

 ولم يكن تمنيّ الموت ضعفاً يسوقه الخوف من خوض غمار الحياة، بل كان فيضاً من الحيويّة التي تدفع بأصحابها إلى الانطلاق في عالم مثاليّ لا يلبثون معه أن يكرهوا ما حولهم من عالم الناس ويضيقون به؛ فيرون أنّ الحياة كما يفهمها غيرهم لا تساوي شيئاً، فينزعون إلى طلب الراحة من جهاد كبير، ولكنّه جهاد في سبيل آمال فسيحة الرحاب تدفع بذوي العواطف إلى بذل الجهد وإلى الاستجابة لأنبل الدوافع. وكان إحساسهم بأنّهم على سموّ في النفس لا يفضُلهم فيه غيرهم، وأنّهم لن ينالوا في الحياة ما هم أهل له، وأنّ فيهم مواهب عالية لا مكان لاستخدامها في عالم الواقع، وعواطف قوية لا تجد ما يغذيها ، من أكبر البواعث على ضيقهم بالحياة. لذلك نجد روسـو ـ في اعترافه ـ يظلّ في يقين أنّه لم يكن دون أحد

(59)

من الناس، على الرغم من إقراره بما ارتكب من آثام ونقائض. ولذا يصف الرومانسيّون أبطالهم في قصصهم وصفاً لا ينطبق إلّا على أنفسهم هم، زاعمين أنّ السبب في تفرُّدهم دون الناس هو ما رزقوه من عبقرية، وما يملكون من عواطف كانت سبب أرزائهم، يقول شاكتا لرينيه في قصة شاتوبريان: (لا يدهشك أن تقاسي من شؤون الحياة أكثر من الآخرين. فالنفس الكبيرة تحوي من الآلام أكثر من النفس الصغيرة)[1].

 وإذا كانت السعادة بعيدة المنال لمثل تلك النفس، فإنهّا تجد فيما تفرّدت به من الألم لذّة، يقول ـ شاتوبريان: (كانت دموعي أقلّ مرارة حينما أنثرها فوق الصخور وفي مدارج الرياح، حتّى إنّ حزني نفسه في طبيعته العجيبة كان يحمل فيه بعض الدواء، يتمتّع المرء بما تفرّد به دون الناس، حتّى لو كان ما تفرّد به هو الشقاء)[2]. وكقوله: (وقد وجدت في فيض حزني نوعاً من الرضا غير المتوقّع، وفي هزّة سرور خفية أدركت أنّ الألم ليس عاطفة عابرة مآلها إلى الفناء كالسرور)[3] .

 ولقد كان الشعور السائد عند الرومانسيّ نتيجة لرهافة إحساسه بظلم المجتمع وقيوده هو ولوعه باعتزال الناس، فهو على حدّ تعبير بيرون: (أقلّ الخلق استعداداً ـ ليكون من عصابة الناس، وهو بينهم ولكنّه لا يُحسب في عداد قطيعهم)[4] .

(60)

وتعالي الرومانسيّ على الجماهير لا يعني أنّه عدوّ لهم بوصفهم من الناس؛ لأنّ همّه العطف على المظلومين، والثورة من أجلهم، ولكنّ العبقريّة لا يلائمها أن تنغمس في سواد الناس، يقول بيرون: (الهرب من الناس لا يعني ضرورة أنّ المرء يبغضهم، إذ ليس كلّ امرئ مهيّأ لمشاركتهم في حركاتهم وأعمالهم)[1] .

 ولشدّة شعور الرومانسيّ بالعزلة والجفوة في سواد الناس ينطوي على نفسه، ويستغرق في تفكيره في ذاته. وإنّ توقّد إحساسه يسبّب له القلق والضيق، إذ لا ينظر إلى الواقع إلّا ليتجاوزه، ويأسى على أن لم يُخلَق للجسم جناحان كما للفكر جناحان؛ ليسمو بها الجسد سموّ الروح، فهو متطِّلع إلى الأعلى، إلى عالم خلقه لنفسه، وأبدع في وصفه، فتراءت لنا فيه أوهام عقله وقلبه. ويشوق المرء أن يتسطيع ذلك العالم ليستشفّ جانباً مهمّاً من جوانب الشخصيّة الرومانسيّة. لذلك لا بدّ من التعرُّف إلى أهميّة العاطفة عند الرومانسيّ.

3 ـ الرومانسيّة والعاطفة:

كان الحبُّ موضوعاً رئيساً في الآداب المختلفة على مرّ العصور، فكان حديث الشعراء، وموضوع كثير من القصص والمسرحيّات. ولكنّه لم يبلغ ما بلغه في عصر من عصور الآداب الأوروبيّة ما بلغ في عهد الرومانسيّين، والنظر إليها نظرة جديدة ، كما في أدب ستيرن ورتشاردسن الانكليزيّين، وفي نادي مدام دي لمبير وكثير من الفرنسيّين في باريس . فقد كان الحبّ في بعض الإنتاج الأدبيّ

(61)

فضيلة أو طريقاً إلى الفضيلة. وإذا اتّخذ الحبّ عند الرومانسيّين أهميّة خاصّة؛ ـ فمرّد ذلك ـ أولاً ـ إلى غلبة العاطفة على العقل والإرادة، غلبة الحياة العاطفيّة على المظاهر الأخرى للشخصيّة، وذلك طابع جوهريّ للنفس الرومانسيّة، كان يسيطر على الأدب شيئاً فشيئاً منذ روسو. وأيّ العواطف أعظم قسراً لهؤلاء الشباب، لتلك النفوس الرقيقة أو المضطرمة المشبوبة، وأشدّ استئثاراً من الحبّ؟ ومردّ ذلك أيضاً إلى أنّ الكتّاب لم يجرؤوا في أيّ عصر من العصور الأدبيّة على أن يقدّموا أنفسهم إلى هذا الحدّ، وأن يُحدِّثوا القارئ عن أنفسهم، وأن يخبروه عن حياتهم العاطفية ومغامرات قلبهم. وهل كان بوسعهم أن يرووا عن أنفسهم حكاية أشدّ خصوصيّة وإمتاعاً وتأثيراً من حكاية حبّهم؟ نجد الكاتب الرومانسيّ يخبر القارئ باللقاءات، وباعترافات الحبّ وبمشاهد الغرام، في ملابساتها وإطارها.

 وإنّ مثاليّة العديد من الرومانسيّين كانت تكسو الحبّ نُبلاً وسُمَّواً، وترى فيه شكلاً من أشكال عبادة الله أو الطبيعة. وتجعل منه ديناً، لقد كان لهذه العاطفة بسبب طابع القداسة هذا الحقّ بمكانة الصدارة في الأدب الرفيع[1].

لقد كان للمرأة في الأدب الرومانسيّ مكانة كبيرة، لم تظفر بمثله من قبل، فقد أدّى السموّ بالعواطف والصدق فيها إلى نوع من تقديس المرأة والإشادة بها والخضوع لسلطانها. ولم يكن خضوع

(62)

ضعف بل كان مصدر صدق العاطفة، وأحسّت المرأة بمكانتها في ذلك الأدب. وأجمع معظم الرومانسيّين على أنّ المرأة مَلَك هبط من السماء ليطهِّر قلوبنا.

 وهناك قلّة من الرومانسيّين يرون في المرأة رأياً مناقضاً؛ فهي عندهم شيطان يضلّ الناس ويغويهم[1]. وما كانت ثورة الرومانسيّين على مجتمعاتهم إلّا رغبة في خلْق مجتمع مثاليّ ينشدونه دائماً. وهذا المجتمع يقوم على دعائم؛ منها: التقدُّم العلميّ، ومنها المساواة، ثمّ الحبّ وهو أساس الإخاء المنشود، وهو أساس مجتمع صالح لا بغض فيه.

4 ـ الرومانسيّة والخيال:

لقد أدّى انطواء الرومانسيّ على نفسه وطغيان شعوره وعاطفته إلى أن يضيق ذرعاً بعالم الحقيقة، فأطلق العنان لخياله ليعوّض بها ما فقده في عالم الناس من حوله، فقد وجد في هذا الانطلاق إشباعاً لآماله اللامحدودة. فصار عالم خياله أحبّ إليه من عالم الحقيقة المحدود.

 ويرى الرومانسيّون أنّ الخيال يكشف نوعاً ما من الحقيقة، فعندما ينشط الخيال يرى أشياء يعمى العقل العاديّ عن رؤيتها، وأنّه يتّصل اتّصالاً وثيقاً بالبصيرة أو الشعور أو الحدس. إنّ الخيال والبصيرة لا ينفصلان في الواقع وإنّما يكوّنان موهبة واحدة في كلّ الأغراض العمليّة. فالبصيرة توقظ الخيال لتعمل، وهو بدوره ـ يزيد

(63)

حدّتها عندما ينشط. وهذا هو الغرض الذي كتب الشعراء الرومانسيون على أساسه. وهو يعني أنّه عندما تكون ملكاتهم الإبداعيّة متضامنة، فإنّ حاسّتهم تلهمهم سرّ الأشياء فيسبرون غورها ببصيرة خالصة، ثم يصوغون كشوفهم في أشكال من صنع الخيال. وليست هذه العمليّة بالعسيرة الفهم. فالغالبيّة منا تثيرها، فنحن إذ نستخدم خيالنا نجد في أول الأمر لغزاً ـ شائقاً يتطلّب حلّاً، ثمّ بعد ذلك تمكنّنا تصوّراتنا الخاصّة في عقولنا من رؤية الكثير ممّا كان يكمن وراء الظلام أو العقل. وكما يأخذ تصوّرنا شكلاً محدّداً، نرى بمزيد من الوضوح ما حيّرنا وأثار عجبنا[1]. وهذا ما يفعله الرومانسيّون فهم يربطون بين الخيال والحقيقة؛ لأنّ مخلوقاتهم وليدة إلهام البصيرة الخاصّة وتحت قيادتها. وقد بيّن كوليريدج هذه النقطة في حسم وهو يمتدح وردزورث:

(كانت وحدة الشعور العميق بالفكر الثاقب، والتوازن الدقيق للحقيقة في الملاحظة مع ملكة الخيال في تشكيل ـ المادّة الملاحظة، وهي فوق ذلك الهبة الأصليّة لنشر النغمة وتهيئة الجوّ، مصحوباً بالعمق والارتفاع لأشكال العالم المثاليّ وحوادثه ومواقفه، تلك أطفأت شرارتها وجفّفت أنداءها في نظر الشاهد العاديّ)[2] .

 يُعدّ الخيال ـ كما رأينا ـ استجابة ملحّة في نفس الرومانسيّ، ولكنّه مصدر ألم وحزن، يقود التأمُّل فيه إلى آفاق فسيحة في جوانب النفس الإنسانيّة[3].

(64)

ومن الرومانسيّين متفائلون ومنهم متشائمون، ويدفع الخيال بكلا الفريقين إلى سلوك طرق متباينة، ولكن يجمع بينها أنّ فيها جميعاً هروباً من الواقع بضرب من أوهام القلب، وفيها جميعها تتمثّل أزمة من أزمات الإحساس والفكر كأشدّ ما عرف الإنسان من أزمات الفكر والشعور. فهذا الخيال الرومانسيّ هو الذي يجعلهم يشعرون بفراغ في وجودهم لا سبيل إلى ملئه. يُعبّر عن ذلك شاتوبريان في قصة (رينيه) بقوله: (يتّهمونني بأنّي قلب في ميولي لا قدرة لي على التمتّع طويلاً بوهم من أوهامي، وأنّي نهب خيال لا يلبث أن يفسد مسّراتي كأنّه ينوء بعبئها، ويتّهمونني كذلك بأنّي أتجاوز دائماً الغاية التي ـ يتيسّر لي الحصول عليها ... وما جريرتي في أنّي ـ أصادف حدوداً تحيط بي من كلّ مكان، وفي أنّ كلّ ما يتناهى لا قيمة له عندي؟... وكانت عزلتي التامّة بين مشاهد الطبيعة سبب استغراقي في حالة تستعصي على الوصف... فكنت أحسّ كأنّما يسيل في قلبي ما يشبه جداول من سيول بركانيّة متأجّجة. فأحياناً كنت أطلق صيحات على الرغم منّي، كما كانت ليالي مضطربة بأحلامي ويقظاتي. وكان يعوزني شيء أملأ به هوّة ـ الفراغ في وجودي، فكنت أهبط الوادي وأتسلّق الجبل مهيباً بالمثال الذي ينشده قلبي بكلّ قواه) .

 وقد دفع هذا الشعور بعض الرومانسيّين إلى الاستعاضة عن قوى الإنسان المحدود بتخيُّل قوى غير محدودة ليملأوا بذلك ما

(65)

يحسّون به من فراغ وما يشعرون به من رغبات لا تقنع بما في الأرض من علم وقوى، ويُعدّ بيرون أبرز مثال لهؤلاء الرومانسيّين حين يصف هذه الحال في شخصيّة (مانفرد Manfred) ؛ الذي هرب من عالم لم تُروَ فيه رغباتُه متخيّلاً أنّ السحر سخّر له عالم الأرواح لتستجيب إليه[1].

ويُمثّل فكتور جماعة المتفائلين من الرومانسيّين الذين يرون بعين خيالهم مستقبلاً سعيداً للإنسانيّة جمعاء افتتحته الثورة الفرنسيّة بما أقرّته من سيطرة الحقّ على القوّة، ويعمل خيال فكتور هوغو على تصوير هذا المستقبل، فالتاريخ كلّه مطمور منذ وجد الإنسان، لا يبصر المرء فيه أينما بحث أيّ شعاع إلهيّ، وأمّا في القرن التاسع عشر فهناك أمل، وهناك يقين، ففي الأفق البعيد أمامنا تبدو نقطة مضيئة، وهي تنمو وتنمو كلّ لحظة وهي نهاية كلّ بؤس، وهي فجر المسّرات، وهي الأرض الموعودة، ففي مقام لن يكون حول المرء فيه إلّا إخوة، وليس فوقه سوى السماء[2] .

 لقد كان خيال الرومانسيّ طموحاً جموحاً، يتطلّب مثالاً له أينما وجده في غير زمانه ومكانه، ولكنّه لا يستوحيه إلّا من ذات نفسه، إذ فيها الشرارات الأولى التي تهديه الطريق وترسمه له. ولا يتاح لهم فهم ما تجيش به عواطفه وآماله إلّا بالصور والأخيلة التي يضفيها على الحقائق. ولم تكن تلك الصور والأخيلة عند الرومانسيّين إلّا مظهراً لظمأهم في تعرّفهم إلى مثلهم من خلال ما تجيش في

(66)

نفوسهم من عواطف ومشاعر، وقد دفع ذلك كثيراً منهم إلى محاولة التعرُّف إلى ذات أنفسهم بالغوص في أعماق النفس، وما توحي به الصور الشعوريّة من صور لا شعوريّة تتجلّى في النوم والأحلام. ولا بدّ من أن نتحدّث عن هذا الجانب لتُرسَم بذلك صورةٌ للشخصيّة الرومانسيّة.

5 ـ الرومانسيّة والأحلام:

اتّسع المجال للأحلام عند الرومانسيّين، حتّى صارت مشغلة لعقولهم، وجانباً مهمّاً من جوانب شخصيّاتهم، وموضوعاً خصباً لفلسفتهم، إذ ينزع الحلم ـ كما يرى بول فان تيغيم[1] ـ إلى أن يختلط بالحياة، وإنّ الأديب ليغوص في هذه الحياة الداخليّة الثانية التي هي الحلم؛ وهي حياة مليئة بالإمكانات التي لا حدود لها، لا يظهر الواقع فيها إلّا في موضعٍ ناءٍ ضبابيّ، ويغدو الشعر تحديداً هو المفتاح الذهبيّ الذي يفتح قصر الأحلام.

 ولقد كان للرومانسيّين الألمان ـ فلاسفة و شعراء ـ فضل السبْق في هذا الميدان والتعمُّق فيه، ثمّ تبعهم الرومانسيّون الفرنسيّون. ويُعدّ الكاتب هردر (Herder) ـ من أوائل مَنْ اعتدّوا بالأحلام من وجهة نظر رومانسيّة؛ فقد اعترف بأنّ الأحلام قوّة عجيبة فيها تتكشّف ثنائيّة أنفسنا، لأنّها حوار نقوم به ونمثّل فيه (المتكلّم والسامع معاً). والأحلام مملكة مجهولة المعالم ولكنّ منشأها فينا[2].

(67)

ويبسط القول في تعليل ذلك شوبرت Schubert ـ في كتابه (رمزيّة الأحلام)، ويرى أنّ الروح تتكلّم في الحلم بلغة مغايرة كلّ المغايرة للغتنا العاديّة، إذ تتمثّل فيها الأفكار والأشياء في صور مختلفة، بينما يعمد فهمنا في اليقظة على الكلمات التي خلقتها العلاقات الاجتماعيّة مع الناس، فلغة الأحلام شبيهة باللغة الهيروغليفيّة، ولغة الأحلام أسرع وأقوى تعبيراً وأفسح مجالاً من لغة اليقظة، فهو أكثر تلاؤماً مع طبيعة الروح. ولغة الأحلام لغة طبيعيّة، تنبعث من ذات أنفسنا وللأحلام كذلك لغة مجازية، فقد تخبرنا عن الشيء بضدّه: ربّما يدّل المأتم ـ مثلاً ـ على الزواج، أو تدلّ الدموع على الفرح، وفي هذا ما يربط لغة الأحلام بالطبيعة ذاتها[1].

يُعدّ جان بول ريشتر Jean – Paul Richter في طليعة الرومانسيّين الذين اهتمّوا في أدبهم بالأحلام، وما أحلامه العدديّة في قصصه إلّا تجارب نفسيّة تدلّ على إحساسه المشبوب بالنعيم المفقود في هذا العالم وعلى ـ ضيقه بالعالم والناس، ونشدانه المعرفة الكاملة لنفسه. يقول جان بول: ( الحلم موطن خيال ... ولا يمكن بحال مقارنة ما يتجلّى فيه من مناظر بما تجود لنا به الأرض. وكثيراً ما قلت لنفسي: إذا كان لا بدّ أن يستيقظ المرء من أحلام كثيرة جميلة، أحلام الشباب والأمل والسعادة والحبّ، فيا ليته يستطيع أن يبقى زمناً طويلاً في أحلام النوم، إذ فيه تعود إليه كلّ تلك الأحلام المفقودة)[2] .

(68)

وكان جان بول يشعر براحة وسعادة بعدما يرى من أحلام؛ يمارس فيها تجاربه النفسيّة. وهذا حلم سجّله في يوميّاته الخاصّة، على أنّه حلم واقعيّ وهو أقرب الأحلام شبهاً بأحلامه التي ألّفها في قصصه: (بفضل تجربتي النفسية ... استسلمت للنوم قريباً من الفجر ... وسرعان ما استغرقت في النوم، فحاولت أن أطير، فاستطعت. وفي هذا الطيران أحلّق أحياناً، وأصعد صعوداً أفقيّاً أحياناً أخرى، أضرب بذراعي في الهواء كأنّهما مجدافان، فأشعر براحة كأنّما استحمّ ذهني بفيض من الأثير ممتع ومريح. إلّا دوران أذرعتي السريع في الحلم يجعلني أشعر بدوار أخاف معه أن أصاب بانسداد في المخّ ... وفي سعادة محضة، وفي نشوة جسميّة وفكريّة، أصعد أفقيّاً إلى السماء، وأحيي بأناشيدي العالم المشيّد من حولي .... وعلى يقين بقدرتي العظيمة في أثناء الحلم، كنت أتسلّق بسرعة جدراناً عالية كالسماء، لتظهر لي من ورائها مروج رحيبة وافرة، وأقول لنفسي حينذاك: إنّ الخيال، على حسب قوانين الفكر ومطالب الحلم، يغطّي كلّ ما حول المرء بجبال ومروج، وقد كان يفعل ذلك كلّ مرّة . وأصعد قمم الجبال لأتذوّق لذّة الهبوط. ولا أزال كذلك أتذوّق اللّذة الطريفة من نوعها التي كنت أشعر بها حين كنت ألقي بنفسي من أعلى منار إلى البحر، فأتأرجح وأذوب بين الأمواج المزبدة الممتدّة إلى ما وراء الأفق)[1] .

 وظلّت محاولات جان بل مستمرّة في اكتناه ذاته، وهذا ما جعل جان بول يقول عن ـ نفسه في سخريّة مريرة ذات معنى عميق لما

(69)

يضيق به من حدود معرفته: ( لم يرعني شيء أكثر ممّا راعني السيد جان بول، لقد جلس على منضدته، وبمطالعاته أفسد عليّ كلّ شيء. والآن اضطرم حيرة من أجل ذاتي)[1] .

ويُعدّ العالم الألمانيّ هوفمان من أبرز الذين صوّروا عالم الأسرار والأحلام، فقد ترجم في أدبه الجانب العجيب من النفس الإنسانيّة. كما اهتمّ الكاتب الفرنسي جيرار دي نرفال بالأحلام؛ فقد فَقَدَ أمّه في سنّ مبكّرة، ولذلك طغى عليه الحنين إلى العالم الآخر، وقد توالت الأحداث في حياته فنمّت فيه الشعور بعالم الغيب، حتّى كانت حياته مأساة تدور حوادثها في حدود ما بين الحلم والحقيقة، والحلم هو الوسيلة إلى الانتقال من أحد العالمين إلى الآخر، وإلى (النفوذ في الأبواب العاجيّة التي تفصلنا من عالم الغيب )[2] ، وفي حلم من أحلامه تظهر له روح تقول له: (أنا أمّك، أنا حبيبتك، أنا ممثّلة جميع الأشكال والصور التي أحببت فيها مخلوقات هذا العالم، وفي كلّ بلاء قاسيته كنت أرفع نقاباً من النقب التي تستر ملامحي، وعمّا قريب ستراني على حقيقتي)[3] .

 كان همّ الرومانسيّين في فلسفتهم ودراساتهم للأحلام كشف جوانب الشخصيّة، وصلة هذه الحياة بعالم الغيب وظلّت شخصيّاتهم هي شغلهم الشاغل في ذلك كلّه. وإنّ بيان هذه

(70)

الشخصيّة لا يلبث أن يكتشّف عن أفكار وآراء فلسفيّة في صلتهم بالطبيعة. وهذا ما سنتحدّث عنه في الصفحات التالية.

6 ـ الرومانسيّة والطبيعة:

إنّ الإحساس بالطبيعة أبسط أشكال الحاجة إلى الفرار التي تستحوذ على الرومانسيّين[1]. ويتجلّى ـ أولاً ـ بالبحث عن الوحدة التي يتفتّح فيها كيانهم بحريّة، من غير أن يكبحه أو يفسده الاتّصال بالناس؛ الوحدة البعيدة عن المدن، في قلب الطبيعة، حيث تتدفّق (الأنا) في مونولوج غنائيّ لا يعكِّر نشوته شيء. وقد دفع حبّ الوحدة الرومانسيّين إلى الحقول والغابات والجبال أو البحر، لا لوصف جمالها كما كان يفعل مَنْ سبقهم من الأدباء، بمقدار ما هو لتغذية أحلام يقظتهم فيها، ولهَدهدة كآبتهم، فتغدو الطبيعة بالنسبة إليهم ـ صديقة و نجيّة؛ يسبغون عليها العواطف التي ـ تتفّق وعواطفهم[2].

ويُعدّ جان جاك روسو رائد الرومانسيّين جميعاً في هذا الشعور؛ فهو عاشق الطبيعة وداعيتها الأول، يقول روسو: ( كنت أضرب على غير هدى في الغابات والجبال .... لا أجرؤ على التفكير في شيء خوف أن تتّقد جذوة آلامي، ومن آن لآخر كانت تتولّد في نفسي فكرة

(71)

ضعيفة قصيرة الأجل حول تغيُّر الأِشياء في هذا العالم، كانت تتمثّل لي في صورة حركة المياه، ولكن سرعان ما تمحى هذه المشاعر الخفيّة في وحدة الحركة الدائبة التي تهدهدني... فتستسلم ـ لها روحي دون أن تنشط أيّ نشاط فتجاريها في حركتها)[1]. كما يقول: (كنت أحبّ أن أغيب عن نفسي في فسيح خيالي في الفضاء... وكان قلبي المنقبض يكاد يختنق في حدوث الموجودات... وأعتقد أنّي لو استطعت الكشف عن أسرار الطبيعة لكنت في موقف أقلّ مجلبة للسرور من هذه النشوة)[2].

 ويقول شاتوبريان : (في زمن الجليد تصير المواصلات بين سكان الريف أقلّ يسراً، فينقطع ما بين سكّانه، ويشعر المرء بأنّه أحسن حالاً وهو بمعزل عن الناس)[3] . ولذا كَثُر في أدبهم التحدُّث عن الحياة الفطرية، وساكني الأدغال، وعن الشعوب البدائيّة التي تنعم بالسعادة في حياتها البسيطة الساذجة.

 ويألف الرومانسيّ مناظر الطبيعة الوحشيّة وينشد فيها وحدها العزاء، وخاصّة إذا ظفر بين مناظر الطبيعة بحبيب يجد فيه العوض عن الجنس الإنسانيّ كلِّه. ويقول بيرون: (لو أمكن أن تكون

(72)

الصحراء موطن إقامتي، مع نفس واحدة تسيطر بجمالها عليّ، لو أمكنني أن أنسى كلّ النسيان الجنس الإنساني، ودون أن أبغض أحداّ لا أحب إلّا هي! أيّتها العناصر الكونية ـ يامَنْ في صوتها القدسيّ وبين أحضانها أشعر بنشوة الهيام، أتستطيعين أن تهبيني مثل هذا المخلوق؟... ـ في الغابة العذراء متعة، وفي الضفاف المنعزلة جذبة سحر، فهنا أنسى الغابة حيث لا دخيل من الناس، بجانب البحار العميقة وموسيقى أمواجها، ليس حُبّي للإنسان قليلاً، ولكن حبّي للطبيعة أكثر)[1].

 وحبّ الطبيعة هو الذي جعل بعض الرومانسيّين يشيدون بالريف وأهله ويختارون أبطالهم من بين الفلّاحين، وهذا ما فعله وردزورث، فأثار ضجّة من النقد، ردّ عليها بقوله: (آثرت الحياة الريفيّة الجاريّة، إذ في هذه الحالة تلقى عواطف القلب الجوهريّـة أرضاً أكثر موتاة لبلوغهـا درجة النضج، ... ولأنّ العادات الريفيّة ترجع في الأصل إلى هذه العواطف الأوليّة، وهذه العواطف ـ بفضل طابع الضرورة للمشاغل الريفيّة ـ أيسر إدراكاً وأبقى، ثمّ لأنّ عواطف الناس والحالة هذه تكون وحدة مع صور الطبيعـة الجميـلة الخالدة)[2]. وحبّ الطبيعة والهيام عند وردزورث ـ كما عند الرومانسـيّين عامّة ـ ينبوع الشعر الحقّ ومصدر الحياة الخلقيّة الصحيحة، وبفضل تأمّله الدائم في الطبيعة، وملاحظته الدقيقة للحياة الريفيّة، نفذ أدبه من صميم هذه الحياة، فصوَّر مناظرها المختلفة بقوّة وصدق، يقول :

(73)

(يثب قلبي حين أنظر إلى قوس قزح في الجوّ، هكذا كان شأني في بدء حياتي طفلاً، وهكذا شأني الآن رجلاً، ولو أستطيع أن أبقى كذلك شيخاً! وإلّا فدعني أموت)[1].

ويقول لامارتين: (سلاماً أيّتها الغابات المتوّجة ببقايا الخضرة! وأيّتها الأوراق الفاقع لونها المنثورة على العشب! سلاماً أخريات الأيام ـ الجميلة! إنّ حداد الطبيعة يتجاوب والألم، ويروق لنظراتي! أتبع في خطاي الحالمة الطريق المهجور، وأحبّ أن أرى ـ من جديد وللمرّة الأخيرة، هذه الشمس المصفّرة ذات الأشّعة الواهنة، لا أكاد تنفذ إلى قدمي في ظلام الغابات. نعم، في هذه الأيام من الخريف حيث تحتضر الطبيعة، أجد في نظرتها المقنعة ما يجذبني إليها اجتذاباً، ففيها يتمثّل وداع حبيب، والبسمة الأخيرة من شفاه يطبقها الموت إلى الأبد)[2].

 ويحبّ الرومانسيُّون الليل؛ لأنّه مليء ـ بالأسرار التي لا تدرك، ولأنّه مثار الأحلام، ولأنّهم يعتقدون أنّ الحقائق الكبرى تتجلّى في ظلمات الأحلام. فالليل معبر إلى النهاية، وهذه ناحية صوفية في أدب الرومانسيّين وليس الليل الرومانسيّ صورة الموت، خالياً من كلّ أمارات الحياة، ولكنّه مليء بالأسرار، ففيه تطوف الأرواح حول قبورها، وفيه تتحرّك أشباح الخيال و(فيه تتأرجح النسمات فوق العشب في قناعها العطري .... وتعبق الطبيعة الخالدة بالأريج،

(74)

وبالحبّ والهمسات كأنّها السرير الهنيء لزوجين في عهد الشباب .. وفيه تعتق خمر الشباب في عروق الخليقة)[1]. كما يقول يانج: (مرحباً أيّتها الظلمات، مرحباً أيّها الليل، وأنت أيّتها الغابات العذراء حيث الدجنة الظلماء! وأحبب بزيارة القبور في منتصف الليل حيث يطبق الظلام جفون الدهماء)[2].

كما يُفضِّل الرومانسيُّون مناظر العواصف، وأمواج البحر، والأديرة الصامتة والقصور العتيقة المهجورة، ويبكون على الأطلال والآثار لإثارتها ذكرى الأحياء أو القدامى من العظماء. وقد عمد كثير من الرومانسيّين إلى التغنِّي بأمجاد آبائهم وإحياء مآثرهم، كان في مقدّمة هذا الاتّجاه ولتر سكوت في انكلترا، وشاتوبريان، وفيكتور هوجو، وميشليه في فرنسا. ويتخيّلون في المخلوقات أرواحاً تحسّ مثلهم، فتحبّ وتكره وتحلم، فيشركونها مشاعرهم، لذلك نجدهم يخاطبون الأشجار والنجوم والورود والصخور وأمواج البحار، وذلك لرهافة إحساسهم ورقّة مشاعرهم. ويختلي الرومانسيّون في الطبيعة بذاتهم ليحلموا ويستسلموا لمشاعرهم كما كان يفعل روسو. وقد تعتريهم أمامها نشوة مشوبة بشعور دينيّ عميق، وفيكتور هوجو ينشد عزاءه في الطبيعة بعد فقدان ابنته، وسجّل خواطره في قصيدة خالدة. ومنهم مَنْ يضفي على المناظر الطبيعيّة مظاهر إلهيّة ، فيتحوّل حبّه إلى عبادة؛ إذ يزعم أنّه يرى الله في الأشجار والرياح

(75)

والصخور والأزهار والبسمات والأمواج، وينتهي من ذلك إلى أنّ الطبيعة هي الصورة المحسوسة للألوهيّة. ومن هؤلاء مَن يزعمون أنّ الله في الطبيعة، أو هو الطبيعة؛ ومنهم بيرون وشيلي، وهوجو يشاطرهم الرأي في كثير من الأحيان. ومن الرومانسيّين ـ مَن كانوا يضيقون ذرعاً بالطبيعة، ويرون أنّها لا تأبه لهم، ولا تتأثّر بشعورهم، فتظلّ كما هي مهما أصابهم من حزن أو موت[1].

 وبعد أن بينّا أبرز القضايا الرومانسيّة التي تحدّث عنها الرومانسيّون، سنتعرّف إلى تجلّيات هذا الفكر الأجناس الأدبية والنقد الأدبي.

ثانياً ـ تجليّات الفكر الرومانسيّ في الأجناس الأدبيّة والنقد الأدبيّ:

 ـ كان للأفكار الرومانسيّة تأثير كبير في الأجناس الأدبيّة والنقد الأدبيّ، سنحاول التعرُّف إلى تجليّات هذه الأفكار الرومانسيّة والفلسفة التي كانت عمادهم في أبرز الأجناس الأدبيّة:

1ـ الرومانسيّة والشعر:

 نهض الشعر الرومانسيّ على فلسفة العاطفة، التي تُعنى بالفرد في آماله ونزعاته، وكان همّها الكشف عن النواحي الذاتيّة. ففي سنة 1799م يدعو فريدريك شليغل إلى شعر أحرص على الشائق منه على الجميل، أقرب إلى الشخصيّة منه إلى الموضوعيّة، وكان

(76)

نوفاليس يتمنّى لو يَجدُ فيه اللغة المباشرة للانفعال الشخصيّ، وهو يقول: (ليس الشعر ثوباً يكسوه المؤلِّف فكرتَه بعد أن يتصَّور هذه الفكرة، فالشعر لا يروي، ولا يبحث بل إنّه ينبجس مباشرة من القلب؛ ليس الشعر لغة صالحة لنقل الأفكار بين الناس إنّه يهدف إلى أن يوِّلدَ لدى القارئ انفعالات شبيهة بالتي شعرَ بها المؤلِّف. إنّنا نحوَّل بعض القصائد إلى لحن؛ وكم من قصيدة تحتاج إلى تُحَوِّل إلى شعر!)[1]. وقد أكّد القرن الثامن عشر أنّ مصدر الشعر الحقّ هو في النفس، وأن ّ القلب وحده ـ هو الشاعر. ولا تريد مدام دي ستال أن تجد في الشعر سوى العاطفة أو الحماسة حتّى لو عَرَض أفكاراً فلسفيّة، إذ ليس هناك تقاليد ولا قواعد جائرة تكبح الحساسية والخيال. وقد سخر (كيتس) في عام 1817م من مقلِّدي الكلاسيّين، الذين (يظنّون وهم يتمايلون على حصانهم الخشبيّ، أنّ القوانين المتعفّنة، والرايات البالية التي يحملها مَنْ يمشون وراء(بوالو)، إنّما هي الحصان المجنّح الذي يرد بهم موارد الإلهام الشعريّ الحقيقيّ)[2].

 إنّ هذه الأصالة المنعتقة من التقاليد الأدبيّة ستُتيح للشعر أن يغدو تعبيراً مباشراً وصادقاً عن العواطف الشخصية. إذ يمدح الرومانسيّون الشعر الذي ينبعث مباشرة عن الحساسيّة؛ أمام مشاهد الطبيعة، كما يقترح وردزورث، ويوافقه كولودج، وأمام لغز الحياة

(77)

الإيطاليّ لوندونيو في عام 1817م والإسبانيّ سولر في عام 1830م ـ وكلاهما وضع برنامجاً للشعر الرومانسيّ أنّ هذا الشعر سيكون في الأغلب كئيباً، شاكياً؛ لأنّه ينبعث مباشرة من القلب. وفي رأي غيرهم فإنّ الحقيقة هي العنصر الجوهريّ. يقول نوفاليس: (الشعر ما كان حقيقياً بشكل مُطلق. وكلّما كان الشيء شعريّاً، كان حقيقيّاً)[1]، ويقول نوفاليس: (الجمال هو الحقيقة)[2]. هؤلاء النقّاد وغيرهم يشيرون على الكاتب أحياناً بالمضي في دروب غير مطروقة تفتح للأدب الرومانسيّ آفاقاً جديدة.

لقد جدّد الشعر الرومانسيّ في موضوعاته ومعانيه وقوالبه الفنية، وكان موضوع الحبّ[3]كما مرّ معنا ـ من أبرز الموضوعات التي عُني بها الشعر الرومانسيّ، وقد كان طابعه الحزن والشكوى من عدم وفاء الحبيب. وقلّما عُني الرومانسيّ بلذائذ الحبّ الحسّية، وإنّما كان حبّه عاطفيّاً حالماً، يمتاز بأنّه يضيق بالعقبات التي تعترض طريقه، ويثور عليها ولو كان مصدرها القوانين أو نظم المجتمع.

ولم يعد لأجناس الشعر القديم حدودها الفاصلة، كما جدّد الرومانسيّون أوزان هذه الأجناس الشعريّة، وجدّدوا في أغراضها،

(78)

ولم يُسجَّل النصر للرومانسيّين في هذا التجديد إلّا حوالي عام 1830م. ففي عام 1819م بحث لامارتين عمّن يطبع له ديوان (تأمّلات)، فرفضته دار كبيرة للنشر؛ لأنّ شعره لا يندرج تحت جنس من الأجناس الأدبيّة الشعريّة[1]، ومن تحديد الأوزان القديمة وموضوعاتها. فتظهر الأوزان قريبة من الأوزان القديمة ولكن في حريّة لا تلتزم حدودها المنيعة التي كانت في الأدب الكلاسيكي. ومن الأوزان التي لقيت اهتماماً لدى الرومانسيّين الوزن المسمَّى سونيت (sonnet)؛ وهو مكوّن من أربعة أجزاء، اثنان منهما رباعيّان؛ أي يحتوي كلٌّ منهما على أربعة أجزاء، والآخران ثلاثيان، ويرجع هذا الوزن إلى الشاعرين الإيطاليّين: دانتي وبترارك من شعراء عصر النهضة[2].

 وكان الشعر الفلسفيّ الدينيّ ميدان تجديد آخر، إذ قام مقام (الأشعار التعليميّة)، فصار في أدب الرومانسيّين ذاتياً عاطفيّاً بعد أن كان موضوعيّاً عقلياً. ومنه ينتقل الرومانسيّ من وصف منظر أو حلم وقصص، إلى الحديث عن الحياة والموت، وعن المسائل الخلقيّة والاجتماعيّة، وقلّما يبقى في حدود المعاني الدينيّة، وكثيراً ما يتجاوزها إلى تأويل فرديّ، أو إلى قلق وتمرّد وفي هذا كلّه تختلط المعاني الفلسفيّة بالمعاني الدينيّة والتصوفيّة، ويلجأ الشاعر إلى شخصيّة تكون رمزاً لأفكاره، أو يبعد عن حقيقتها التاريخيّة ليبثّ فيها

(79)

آراء وفلسفة. ومن أبرز الرومانسيّين في هذه المعاني الرمزيّة: ألفرد دي فيني. وهذه الأشعار الطويلة يمكن أن نطلق عليها (الملحمة الفلسفيّة)، وهي من أهمّ خصائص الأدب الرومانسيّ؛ وفيها سار الرومانسيّون وراء غوته في مسرحيّته (فاوست). إذ ـ يعرض الرومانسيّون الشعر لوصف مصير الإنسان وجهاده ضدّ قوى الشرّ الطبيعيّة والاجتماعيّة ويصفون سموّ النفس الإنسانيّة وما يتهدّدها من عوامل البؤس والشقاء، في نوع المثاليّة الحماسيّة. ووراء الحزن العاطفيّ يبدو نوع من التفاؤل الميتافيزيقيّ في وصف الجانب الروحيّ قويّاً متعالياً، ينتصر في آخر جهاده المرير، ويرتقي إلى عالم الخير، ويسمو الإنسان نحو خالقه أو من نشدان مثل عليا للإنسانيّة والمجتمعات، ومثال ذلك الملحمة الفلسفيّة للامارتين وعنوانها (زلة ملك)، وفيها يعبّر تعبيراً فلسفيّاً رمزيّاً عن صراع الإنسان بعد نفيه من عالم السماء.

ولعلّ من أبرز الموضوعات الجديدة في شعر الرومانسيّين وصفهم للأسرة ولشؤون الحياة اليوميّة، وأوّل مَن تناول مثل هذه الموضوعات هو (وردزورث)؛ وقد تناول في شعره الطبقات الصغيرة، فوصف الفلّاحين وحياتهم، ومواطن الجمال في معيشتهم، وتبعه الرومانسّيون، ومن أبرزهم فيكتور هوجو. ويندرج في هذا النوع من الشعر وصف الخدم، الريفيّين، وبخاصة الطفولة والأطفال. ويبثّ الرومانسيّون في هذه االموضوعات آراءهم الديمقراطيّة وشعورهم الوطنيّ وحلمهم بعالم مثاليّ يسوده الإخاء والمساواة، وكان على رأس هؤلاء شيلي وهوجو. وفي هذه الأغراض كان يصف

(80)

الرومانسيّ ما يراه من حوله، ويرسم صورة للمجتمع، ويعِّبر عن شعور هذا المجتمع وآماله. وتجاوز الرومانسيّون ذلك إلى وصف مناظر لا يرونها، وأطلقوا العنان لخيالهم، والولوع بالفرار من الواقع، والهجرة الروحيّة إلى بلاد يحلمون برؤية مناظرها[1].

واستعار الرومانسيّون أكثر موضوعاتهم من تاريخهم الوطنيّ وأساطير أجدادهم، ويُعدّ ولترسكوت من السّباقين في نظم الملاحم الوطنيّة الشعبيّة؛ ويثور في مقدّمة أشعاره على القواعد الكلاسيكيّة للملحمة، وقد راج هذا النوع من الشعر في أوروبا، وفيه تغنّت كلّ أمّة بماضيها، وقد ظهر هوجو في كتابه (أساطير الأوّلين)، وفيه ملحمة (رولان)، وفي بعض هذه الملاحم كان موضوعه مأخوذاً من الشرق[2]. وتكثر الأمثلة في ملاحم بيرون القصيرة. وقد تأثّر في هذا كوليردج. وكان من أبرز المجدّدين الشاعر الأسباني زوريلا وخاصّة في ملحمته (غرناطة)، وفي (أغاني التربادور).

وهكذا كان تجديد الرومانسيّين عامّاً شاملاً في ميدان الشعر، إذ جدّدوا في أغراضه، وخاضوا في معانٍ كثيرة، وظهرت بذور اتّجاهات جديدة، وظلّت نزعاتهم الإنسانيّة وميولهم الشعبيّة ظاهرة في أغراض الشعر بصفة عامّة.

(81)

2 - الرومانسيّة والقصة:

عُني الرومانسيّون بالقصّة التاريخيّة، فقد اتّسعت حدودها، وشملت أغراضاً جديدة. وكان لهم فضل في فتح مجالات هذا التطوُّر ممّا أدّى إلى رفع ـ شأن القصّة؛ فقد حظيت بمكانة خاصّة تفوّقت بها على الأجناس الأدبيّة الأخرى في الأدب الحديث[1].

 يصف الكاتب في القصص الرومانسيّة عاطفته، وغالباً ما تكون عاطفة حبّ ـ ويشيد بحقّها ـ في المجتمع ـ ويُعبَّر عن ضيقه من قيود المجتمع ومظالمه. ويمتاز أسلوب الكاتب الرومانسيّ ـ ما عدا القصّة التاريخية ـ بالصور المحسوسة وصفاً يساعد على تحريك المشاعر والأحاسيس.

 وهناك القصص الشخصيّة؛ يقصُّ فيها المؤلّف حياته مباشرة تحت اسم مستعار، وكان روسو أوّل مَنْ افتتح هذا النوع من القصص، وتبعه شاتو بريان في (رينيه)، وموسيه في (اعترافات فتى العصر)، وبيرون في كثير من قصصه الشعريّة القصيرة. وقد ورث الرومانسيّون كثيراً من هذه القصص من القرن الثامن عشر، وتأثّروا بها وبخاصّةٍ (آلام فرتر) لغوته.

وأهمّ القضايا التي يثيرها الرومانسيّون: الحبّ ـ واليأس ـ والانتحار ـ وفشل الزواج غير المؤسَّس على الحبّ، والضيق بالمجتمع وقيوده، والفرار من الواقع من بلاد بعيدة، أو إلى حلم

(82)

مثاليّ، والاعتداد بالفرد، ويصبغون تجربتهم بصبغة الشاكي الثائر المتوقّد المشاعر، الذي يتّجه بأسلوبه إلى القلب لا إلى العقل.

وهناك قصص يمكن تسمتيها بـ(القصص ذات القضايا) من اجتماعيّة وفلسفيّة وخلقيّة، ويقلّ فيها الطابع الفرديّ، ويرجع أصل هذا النوع إلى فولتير وأمثاله من المفكّرين في فرنسا وإنكلترا وألمانيا. وصبغه الرومانسيّون بصبغتهم المثاليّة الحالمة، وبثُّوا شعورهم القويّ الثائر وظهروا بآرائهم مصوّرة تصويراً ينفذ إلى القلب، وبالغوا في التصوير، ويعدّ فيني وهوجو من أبرز هؤلاء الكتّاب.

وقد عُرف بعض القصص بـ(القصص الأجنبيّة)؛ وتدور أحداثها في بلاد أخرى، ولا يصف الكاتب من البلد الآخر إلّا بقدر ما يساعده على تصوير الأحداث وعرض الآراء، ومنهم من لا يعرف شيئاً عن البلد الذي يصفه[1]. وقد أولع الرومانسيّون بهذا النوع من القصص هروباً من الواقع، ورغبة منهم في إشباع الخيال، وذلك بوصف أغنى مناظر، وأحفل بالمخاطرات، وأكثر حيويّة ممّا ألفوا في وطنهم.

وكان بعض هؤلاء الكتّاب على علمٍ بالبلاد التي يصفونها، وكان من أبرزهم: مريميه؛ الذي استفاد ممّا رآه في إسبانيا وكورسيكا في قصّتيه: (أتالا) و(رينيه)، وما رآه في غرناطة في قصّته في غرناطة في قصّته (آخر بني سراج). وكذلك ستاندال ؛ فقد وصف في قصصه مناظر إيطاليا وعاداتها. كما يُطلق آخرون العنان لخيالهم في وصف

(83)

ما لم يروه من بلاد، فنراهم يُجرون الأحداث، ويُحدّدون صورها على حسب ما يتخيّلون، ويحيطون هذه الصور بهالة من الأسرار تزيد القارئ تشويقاً. وذلك في القصص الشعريّة لبيرون. وقصّة (أنديانا) لجورج صاند. ومن قصص المخاطرات قصّة (القرصان) للكاتب الأمريكيّ ف.كوبر؛ وهو نوع من القصص بلغ فيه جول فرن الفرنسيّ شأواً بعيداً.

وتعدّ (قصص العجائب) من أبرز أنواع القصص التي عني بها الرومانسيّون، ومن أهمّ هؤلاء الكتّاب: جاك كازوت الفرنسيّ، ومدام آن راد كليف الإنكليزيّة؛ فقد رسم هذان الرائدان المناظر العجيبة التي كانت تجري فيها مخاطرات غريبة، وتظهر أشباح في قصور عتيقة، وجبال خياليّة وسراديب أرضيّة وغابات وأديرة رهيبة وسط أهوال تثير الرعب[1]. فقصدوا إلى وصف موضوعيّ لحالات غير عاديّة، تتحكّم فيها أسرار نفسيّة، والرعب واليقظة ولحلّ الحالات المرضيّة للشعور. ومن أوائل المبدعين في هذا الفن: هوفمان الألمانيّ، ونودييه الفرنسي، وكذلك هندرسن الدنماركيّ. وفي قصصهم تختلط الحقائق بعالم الخيال. وفي القصص تجلّت نواة الأدب الرمزيّ.

وكان للرومانسيّين الفضل في خلْق نوع جديد من القَصص، هو (القَصص التاريخيّ)، ويُعدّ والترسكوت رائد هذا الجنس الأدبيّ الجديد، وقد سنّ لمَنْ بعده أصولاً ظلّت هي المتّبعة من دون تغيير

(84)

كبير في مختلف الآداب الأوروبيّة، فكان يختار أبطاله من الماضي البعيد، وكان يجعل للشخصيّات التاريخيّة المكان الثاني في قصصه لئلّا يتقيّد بحقائق التاريخ، ثم يخلق شخصيّات أخرى يُمثِّل كلّ منها طبقة أو اتّجاهاً في العصر الذي يصفه، ويجتهد في إحياء ذلك العصر بعاداته وتقاليده وملابسه ومقوّماته المختلفة، ويختار كثيرٌ منهم موضوعات هذه القصص من تاريخهم الوطنيّ، لذا كان هذا النوع من القصص مجالاً للتغنَي بالوطنيّة إلى جانب القضايا الاجتماعيّة[1].

وهكذا فقد انفرد الرومانسيّون بجنس القصص التاريخيّة، وكانت القصص جميعها تحمل آراءهم، وتنشر قضاياهم، وتشفّ عن شخصيّة مؤلّفيها.

3 - الرومانسيّة والمسرحيّة:

 لقد ثار الرومانسيّون على قواعد المأساة الكلاسيكيّة كما دعا بوالو الفرنسي ومَنْ اتّبعوا في مختلف الآداب الأوروبيّة حتى ضاق الناس ذرعاً بها، كما ضاقوا ذرعاً بالقواعد الفنيّة والتزام نوع واحد من الشعر، ومن اتّباع الوحدات الثلاث، والتزام الأسلوب التقليديّ الذي لا يسمح باستخدام الألفاظ والكلمات المألوفة أو المبتذلة، بل يفرض أسلوباً رفيعاً جادّاً لا يختلط ـ بشيء من الهزل؛ لأنّ شخصيّات المآسي الكلاسيكيّة كانت تُختار من بيئات أرستقراطيّة. وكان الأسلوب خالياً من الألوان التي تصبغ المسرحيّة بالطابع المحلِّي التي تدور فيها الأحداث، كما كانت المسرحيّة الكلاسيكيّة

(85)

موضوعيّة لا يظهر المؤلِّف في شخصيّاته الأدبيّة، وينصرف إلى التحليل النفسيّ[1].

 وقد بدت بوادر الثورة على الكلاسيكيّة في القرن الثامن عشر، وتنحصر في اتّجاهين: أوّلهما؛ المناداة بالدراما البرجوازيّة النثرية وتأخذ موضوعاتها من الحاضر، ولا تُعنى بالوحدات الثلاث، ولكنّ الغاية منها خلقيّة، وظهرت هذه الدراما على يد ديدرو الفرنسيّ وكثير من الألمان.

والاتّجاه الثاني، ويُسمّى (الميلودراما)؛ وهي مسرحيّة شعبية تختلط فيها المأساة بالملهاة، ولا تلتزم بالوحدات الثلاث، وأسلوبها نثريّ شعبيّ، وموضوعاتها حديثة مستقاة من الحاضر أو من البلاد الأجنبيّة. كما نادوا بمعالجة موضوعات تاريخيّة حديثة، والانصراف عن الموضوعات اليونانيّة والرومانيّة.

وقد استجاب كثير من الرومانسيّين الفرنسيّين، فعالجوا موضوعات أخذوها من الأدب الإسبانيّ، ـ مثل: مسرحيتي ( روي بلاس)، و(هرناني)، أو من إنكلترا مثل مسرحية (كرمويل)، أو من ألمانيا، ـ مثل: (البرجراف). وهذه المسرحيّات لفيكتور هوجو. ولكن سرعان ما دعا كثير من الرومانسيّين إلى معالجة موضوعات من تاريخ الوطن، مقتدين بشكسبير. واقتضت طبيعة هذه الموضوعات ترك وحدة الزمن ووحدة المكان الكلاسيكيّينِ،

(86)

وعرض الأحداث في زمن طويل و أمكنة مختلفة، وقد ثارت مدام دي ستال[1] على هاتين الوحدتين. وحدّد ستاندال وحدة الزمن بسنة. ويرى غيره متابعة حياة البطل ولو استغرقت سنوات طويلة تقليداً لشكسبير؛ الذي كان يعرض الأحداث متتالية حسب حدوثها، وقد تستغرق أكثر من عشرين عامّاً، حتى هذه ـ قد توسّع في معناها؛ ففسّرها هوجو بوحدة الحدث، وفسّرها غيره بوحدة الانفعال، أو وحدة الموضوع، وكما يرى مانزوني الإيطاليّ ـ يجب أن تكون وحدة المسرحيّة (عضويّة)؛ أي حيّة لا (آليّة) غير طبيعيّة بخضوعها لقوانين تفصل ما بينها وبين الحياة، فبالتحرّر من وحدتي الزمان والمكان تصبح المسرحيّة صورة صحيحة للحياة وللحقيقة الحيّة في جميع نواحيها.

 وبذلك يمكن عرض الأحداث في أماكنها؛ فالأبطال يموتون على المسرح، وكان الرومانسيّون يقصدون إلى وصف الأماكن وطبيعة البلدان التي تجري فيه الأحداث، وتصوير العادات والأخلاق وخصائص العصر وهو مايُطلق عليه اسم (اللون المحلّي).

 لقد حطّم الرومانسيّون قوالب الشعر وأغراضه كما كان في القديم، وحطّموا الحدود الفاصلة ـ بين المأساة والملهاة، وذلك لتواكب المسرحيّة الحياة؛ لأنّ الحياة يتجاور فيها العنصران: الوضيع والرفيع، والقبيح والحسن، والجدِّ والهزل والقبيح والساخر لهما مكانهما من الفن، ولا ينبغي عزلهما في الملهاة، لأنّ في الإنسان

(87)

العنصرين معاً. فإذا فُصل الجدِّ عن الهزل ضاعت الحقيقة الحيّة. والدراما الرومانسيّة ذاتيّة أكثر منها موضوعيّة[1]. ويتّخذ الرومانسيّون الشخصيّات قناعاً لعرض عناصر شخصيّة وشرح قضاياه، وفي المسرحيّات التاريخيّة كانوا يختارون الشخصيّة الأولى فيها من الشعب، بينما تظهر شخصيّة الملك فيها محتقرة هيّنة الشأن.

 ويتّخذون مسرحيّاتهم منفذاً لقضاياهم وفلسفتهم، ولم يكن الرومانسيّون يحافظون على تقاليد المجتمع ونظمه، بل كانوا يهاجمونها في عنف لاهوادة فيه. ولهذا كثيراً ما تتّخذ الشخصيّات في مسرحياتهم معاني رمزيّة؛ فهي تمثِّل إلى جانب معانيها التاريخيّة طبقة أو فكرة أو اتّجاهاً عامّاً. ففي مسرحيّة (روي بلاس) ـ مثلاً ـ لفيكتور هوجو نجده يمثّل الشعب نشأته المتواضعة وآماله العظيمة، وانتصاره على القوى المناهضة له كلّها. ويُفضّل الرومانسيّون أن تُكتب الدراما نثراً لا شعراً؛ لأنّ النثر أقرب إلى الطبيعة، وأطوع في رسم الشخصيّات بلغتهم المألوفة.

 وهناك مسرحيّات للقراءة لا للتمثيل؛ لأنّ الأحداث تدور في السماء، أو الجوّ، أو البحار، والقصد من هذه المسرحيّات إطلاق العنان لخيالهم وأحلامهم وفلسفتهم دون أن تحدّها حدود المسرح وتقاليده، ولا شكّ في أنّ لمسرحيّة (فاوست) لجوته أثراً كبيراً في ظهور هذا النوع من المسرحيّات. وذلك مثل (مانفريد)، و(قابيل) لبيرون، ومثل (تحرير برومييتس)، و(هلاس) لشيلي. ومسرحيّة (الكأس

(88)

والشفاه) لألفريد دي موسيه. وقد راجت في الأدب الرومانسيّ الألمانيّ والإسكندنافيّ في مسرحيّات موضوعها: أساطير، أو خرافات شعبيّة، ولكنّها أصبحت رموزاً ذات معانٍ دقيقة[1].

واقتبست معظم هذه المسرحيّات كثيراً من القصص الشرقيّة[2]، وأهمّها: (علاء الدين والفانوس السحريّ) من (ألف ليلة وليلة)، ولكنّها كانت ذات معانٍ رمزيّة؛ فنور الدين رمز المفكّر المحتال، وعلاء الدين رمز الشاعر الملهم، والمصباح رمز العبقريّة التي يصل بها الإنسان إلى كنوز المعرفة عن طريق الإلهام[3].

أمّا الملهاة عند الرومانسيّين فتنقسم إلى: الملهاة التاريخيّة/ والملهاة الخياليّة الشعريّة. وقد أخذت الأولى موضوعاتها من التاريخ، وخير مثال نذكره : (كوب الماء) للكاتب المسرحيّ سكريب؛ إذ بيّن فيها كيف وقعت أزمة حادّة في السياسة الانكليزيّة بسبب كوب ماء أريق عن غير عمد.

والنوع الثاني من الملهاة يكاد الإنتاج فيه يكون مقصوراً على الأدب الألمانيّ ثمّ الفرنسيّ. وممّن برعوا فيه الألمانيّ تيك في ملاهيه الساخرة، ومنها ( الشاة المنتعلة)، والأمير (زريينو). ومن خير مؤلّفي الملاهي الرومانسيّة ألفرد دي موسيه في مثل: (بم تحلم

(89)

الفتيات؟)، و(لا مزاح مع الحبّ)، و(المسرجة والشمعدان)، كما كانت عناية الرومانسيّين بالمسرحيّات التاريخيّة في الدراما والملهاة على السواء. وعالجوا موضوعات حديثة، كما كان يسلك ديدرو في مسرحيّاته البرجوازيّة مثلاً[1].

لقد نشر الرومانسيّون في هذه المسرحيّات آراءهم وقضاياهم الاجتماعيّة والثوريّة، وسنّوا في المسرحيّات أصولاً فنيّة، مثل: المسرحيّات النثريّة، وخلط المأساة بالملهاة، واللون المحلّيّ للمكان الذي تجري فيه هذه الأحداث، وإثارة الماضي التاريخيّ بخصائصة وألوانه.

لقد استطاع الرمانسيّون أن يطوِّعوا الأدب لتجاربهم الفرديّة وآرائهم الإنسانيّة، وطابعهم الذاتيّ، وقد كان لهذا كلّه أثر في الإدراك العامّ للأدب.

4 - ـ الرومانسيّة والنقد الأدبيّ:

إنّ أخصب مظاهر التجديد وأبعدها أثراً في الآداب العالميّة يتجلّى في النقد الأدبيّ، وفي هذا التجديد يتجلّى النقد الرومانسيّ الخلّاق، وهو نقد الفنانين حين يشرحون طرائق ابتكارهم ويعطون نماذج عليها في إنتاجهم. وهذا هو أخصب أنواع النقد وأبعدها أثراً ؛ لأنّ النظريّات مقترنة بتطبيقها، فهي نظريّات حيّة منذ ظهورها إلى الوجود.

(90)

ضاق الرومانسيّون ذرعاً بالقوانين الكلاسيكيّة للأجناس الأدبيّة، إذ كان الكلاسيكيّون متأثّرين بأرسطو وهوراس ثمّ ببوالو في تقسيم الأدب إلى أجناس ينفصل بعضها عن بعض فلكلّ جنس قواعد معيّنة يجب أن يخضع لها الفنان. ومن هذه القواعد ما يتعلّق بالأفكار الأدبيّة التي تُعالج في كلّ جنس من مأساة وملهاة وشعر وجدانيّ وخطابة...، ثمّ بترتيب هذه الأفكار، وبالألفاظ الخاصّة بكلّ موقف؛ فهناك ألفاظ للمأساة، وهناك ألفاظ للملهاة، ومن المعيب استعمال أحدهما مكان الآخر، ثمّ إنّ لكلّ موضوع أسلوبه الخاص به، فوصف الملوك ـ مثلاً ـ يجب أن يكون في أسلوب رفيع وعبارات سامية، بينما يُستعمل الأسلوب العاديّ، والألفاظ المبتذلة في وصف الطبقات الدنيا، كالفلّاحين ومَن في حكمهم. وهذه الأساليب محدودة معيّنة بأجناسها، لا يصحّ أن يحيد عنها كاتب.

 لقد ثار الرومانسيّون على هذه القيود ـ التي وضعها الكلاسيكيّون ـ التي تحدّ من حرية الكاتب وتمحو شخصيته، ففسحوا أمامهم مجال الخلق الأدبّي محطّمين القواعد الكلاسيكيّة، ومؤمنين بالفرد وما رُزق من موهبة، ونادوا كذلك ببحث العبقريّة الفرديّة في وجه كلّ ما يحدّ منها. وهذا السبب في ضيق جميع الرومانسيّين بكلّ أنواع النقد إلّا النقد الخلّاق الذي يدعو إليه الكاتب ليفسّر إنتاجه فصار الرومانسيّون ينظرون إلى الأدب على أنّه من نتاج الفرد وعبقريّته، لا أنّه آراء وأفكار تصبّ في قوالب مصنوعة. فأصبحت مهمّة النقد تفسير ذلك الإنتاج تفسيراً علميّاً على أنّه تجربة حيّة للفرد في بيئته الخاصّة، بعد أن كانت وظيفة النقدّ الكلاسيكيّ بيان

(91)

مدى اتّباع الكاتب للقواعد المفروضة عليه، وقياس براعته بمقدار خضوعه لها[1].

ومن الطبيعيّ أنّ قواعد الذوق السليم لم يعد لها مكان في الأدب الجديد؛ لأنّ الذوق يتغيّر من أمة لأمة ومن فرد لفرد، وقد كان لنقّاد القرن الثامن عشر ـ مثل ديدرو و روسو ـ أثر في هذا الإدراك، ويُعدّ شليجل في طليعة النقاد الرومانسيّين، لا في دعوته إلى تقليد الطبيعة وخلط المأساة بالملهاة فحسب، بل في إدراكه للنقد ونظرته إلى الكتب الأدبيّة نظرته إلى (مناظر الجمال في الطبيعة)، ووصفها وصفاً دقيقاً، ومحاولته ما استطاع (بعث عبقريته المؤلّف) ورسم الحقائق الأدبيّة كما هي في أمهاتها من الإنتاج الأدبيّ، لتفسيرها والإعجاب بها أيضاً.

وكان هناك اتّجاهان كبيران لهذا التفسير: أحدهما ينظر إلى الأدب في علاقة بالبيئة والمجتمع، ومن أبرز الداعين إليه كانت مدام دي ستال، وتين. و الاتّجاه الثاني ـ ينظر إلى الأدب في علاقته بمؤلّفه، ومن أبرز الداعين له من الرومانسيّين سانت بوف. فالأدب نتاج اجتماعيّ يتأثّر بالبيئة التي نشأ فيها، وبالنظم السياسيّةوالاجتماعيّة، فالدين والقوانين يطبعان الشعب الذي يخضع لهما بطابعها، وبعبارة أوجز: (الأدب صورة للمجتمع). تقول مدام دي ستال: (إلى الشرائع والقوانين يكاد يرجع كلّ التخالف أو التشابه الفكريّ بين الأمم، وقد يرجع إلى البيئة كذلك شيء من هذا الاختلاف، ولكنّ

(92)

التربية العامّة للطبقات الأولى في المجتمع هي دائماً وليدة النظم السياسيّةالقائمة)[1]. وقد انصرفت مدام دي ستال في دراستها إلى ربط الآداب بالمجتمعات ونظمها والديانة وطابعها. والبيئة وما توحي به. ويتّصل بهذا اتصالاً وثيقاً ما قام به تين في محاولة لتفسير اختلاف الآداب؛ فأرجع هذا الاختلاف إلى عوامل ثلاثة: الجنس والبيئة والميراث الثقافيّ للأمّة أو تأثير الماضي في الحاضر. واتّجه تين في تفسيره اتجاهاً تجميعيّاً لا أثر للتحليل فيه، ممّا أودى بنظريّته وجعلها غير ذات أهميّة في النقد فيما بعد[2].

ويعدّ سانت بوف من أبرز النقاد الرومانسيّين، إذ له الفضل في سموّ النقد الأدبيّ. وقد تحرّر من العبارات التقليديّة المأخوذة من البلاغة القديمة. وكان همّه الأكبر أن يصف العمل الأدبيّ ويشرح كيفيّة تكوينه، ويميّز طابعه دون أن يولي الحكم عليه اهتماماً كبيراً، وهو أوّل مَن نادى بأن يضع الناقد نفسه مكان الكاتب، ليستطيع أن يفهمه حقّ المعرفة: (يجب أن يؤخذ من دواه كلّ مؤلّف الحبر الذي يراد رسمه به)[3].

وقد نادى بوف ببناء على معرفة حياة المؤلف، (لا في التواريخ الضئيلة الجافّة... و لكن بالنفاذ في دقائق المؤلف وتقمّصه، وجلائه في مظاهره المختلفة، وبعثه ليتحرك و يتكلّم.... و تتبّعه في

(93)

دخيله لنفسه، وفي عاداته المعهودة في قدر المستطاع ... والمسائل الجوهريّة.. هي الإحاطة بالإنسان وتحليله في اللحظة التي تضافرت فيها عبقريّته وثقافته وظروفه الأخرى كلّها، فجعلته ينتج كتابه القيّم. فإذا فهمت الشاعر في هذه اللحظة، وإذا حلّلت هذه العقدة التي فيها يتجمّع كلّ شيء في نفسه، وإذا ـ وجدت مفتاح هذه الحلقة الغامضة التي تربط وجود الثاني الشاعر المتألّق الجليل بوجوده الأول الغامض المتروي المتواري الذي قد يريد الشاعر محو ذكراه، آنذاك يمكن أن يقال إنّك نفذت في جوانب شاعرك وأنّك على علمٍ به)[1]. ويعتمد سانت بوف على حياة الإنسان ليفسّر إنتاجه، ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يقرّر إذا بحثت طبائع العقول المختلفة تبيّن أنّها (تنتمي إلى بعض مُثل، وبعض أصول رئيسة، فمعرفة أحد كبار المعاصرين تشرح لك وتبعث أمامك طبقة من الموتى، بسبب ما بينهم من تشابه واضح، ومن بعض خصائص للأسرة الفكريّة التي ينتمون إليها، وهذا مطابق تماماً لما في علم النبات بالنسبة للنباتات، وما في علم الحيوان بالنسبة لأنواع الحيوانات. فهناك إذاً تاريخ طبيعيّ.. لأسر الفكر الطبيعيّة)[2].

ينصح سانت بوف بموازنة النصّ الأدبيّ ينظائره، لتتّضح خصائصه، فبجانب قصّة أتالا لشاتوبريان تقرأ قصّة بول وفرجيني لبرناردين دي سان بيير، وقصّة ليسكو لبريفو وبذلك يتكوّن الحكم الناضج الناشيء عن الموازنة التي يتربّى الذوق الأدبيّ الحقّ. فالنقد

(94)

على حدّ تعبيره: يعلّم ـ الآخرون كيف يقرؤون). وبهذا فتح سانت بوف مجالات للنقد كانت مغلقة قبله. ولهذه النظرات النافذة في عالم النقد يرجع الفضل في ميلاد تاريخ الأدب بمعناه الحديث.

ومن فروع الأدب نشأ الأدب المقارن وهو قمّة النقد الحديث، وكان للرومانسيّين ـ وخصوصاً مدام دي ستال ـ فضل في التمهيد لميلاد الأدب المقارن، كما كان لهم فضل النهوض بالنقد وتاريخ الأدب.

وكان الأسلوب الكلاسيكيّ مُكبَّلاً بقيود الماضي، وطبيعيّ أن يثور الرومانسيّون على مثل هذا الإدراك للأدب والتعبير عنه، وقد رأيناهم يحلون مثلهم الأعلى في الحاضر أو المستقبل لا في الماضي. ويمحون ما للآداب القديمة من قداسة نالت بها السيطرة في العصر الكلاسيكيّ[1].

وقد ثار الرومانسيّون على البلاغة القديمة ـ لم يضعوا أصولاً تخلفها ـ واكتفوا بأن أطلقوا لكلّ كاتب حريته في التصوير واختيار الألفاظ وصياغة المعاني، على أن يكون صادق التعبير فيما يشعر به وفيما يفكّر فيه. وقد اجتهد النقّاد أمثال مدام دي ستال وسانت بوف وستاندال في وضع مقاييس جديدة للنقد، ولكنّها لم تبلغ عند ناقد ما في الآداب الأوروبيّة كلّها درجة التقنين والدراسة المنهجية، وظلّت الحال كذلك حتّى أواخر القرن التاسع عشر، فنشأ (علم الأسلوب الحديث) ليخلف البلاغة القديمة ويشارك مشاركة حيّة في النقد الأدبيّ الحديث.

(95)

وعلى الرغم من أنّ الرومانسيّين لم يضعوا قواعد لما يدعون إليه من أسلوب، إلّا أنّهم قد التزموا بمبادئ عامّة طبّقوها جميعاً، ويمكن القول: ينكر وردزورث استعمال العبارات والصيغ التقليديّة، وكلّ الوسائل التي تجعل الأسلوب آليّاً، مثل صور المجاز التقليديّة، ويحتّم استعمال الكلمات والصور من اللغة الحيّة، التي يلجأ إليها للتعبير الصادق عمّا يشعر به الإنسان في موقف خاصّ. ويذهب موليردج إلى أنّ اللغة الشعريّة الحقّ نجدها في لغة الريفيّين والفلّاحين، وهم أصدق، وأقرب إلى الطبيعة.وينوِّع الرومانسيّ في أسلوبه ما بين استفهام وتعجّب ونداء، ـ تشخيص ـ للأشياء ـ مع مبالغة ـ وجرأة في التصوير، والأسلوب الرومانسيّ لا يسير على نمط واحد، إذ يتنوّع عند الكاتب الواحد.

 هذه هي وجوه التجديد للثورة الرومانسيّة. وقد رأينا كيف اتّسعت حدودها فشملت قضايا الأدب وميادنه المختلفة، كما امتدّت إلى عبارات اللغة وألفاظها. وكان تحريرها للعقول والأفكار مصحوباً بتطرّف ومغالاة، ولكنّه مقترن بتحرير قوالب هذه الأفكار من كلّ ما يتعلّق بجوانب الصياغة الأدبيّة. وإذا كانت ثورتهم الاجتماعيّة وفلسفتهم العاطفيّة من الأمور التي ربطتهم بعصرهم، وفنيت بزوال أسبابها الاجتماعيّة، فإنّ كثيراً من مبادئهم العامّة وقضاياهم الفنيّة خلدت بعدهم في المذاهب الأدبيّة التي خلفتهم، وتطرّقت إلى جميع الآداب الحيّة العالميّة.

سنتعرَّف ـ في الصفحات القادمة ـ إلى التلّقي لهذا الفكر الرومانسيّ وتجلّيات ذلك في الأدب العربيّ.

(96)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

الرومانسيّة عند العرب

 

(97)

الفصل الثالث

الرومانسيّة عند العرب

 تأثّر الأدب العربيّ بالرومانسيّة الغربيّة تأثُراً كبيراً، وتكاد السمات العامّة تتّفق في نظرتها إلى الفنّ الأدبيّ؛ إذ نجد أنّ النزعة الذاتيّة مسيطرة على الأعمال الشعريّة التي صنعها الرومانسيّون العرب، وأنّهم يحتفون بالنفس الإنسانيّة ويرفعونها إلى مرتبة التقديس. كما يُمجدّون الألم الإنسانيّ والذاتيّ، ويلجؤون إلى الطبيعة في غاباتها البكر، وقد ألهمتهم هذه الطبيعة صوراً خياليّة منحت أشعارهم الحيويّة والجِدّة. وشحنوا صورهم المبتكرة بعواطف رقيقة نبيلة. ولكن عواطفهم الذاتيّة جاءت متباينة، فقد نلمح فيها الفرح الغامر عند بعضهم، وقد نشعر بالسوداويّة والتشاؤم عند بعضهم الآخر.

 سنحاول ـ في هذا الفصل ـ التعرُّف إلى أبرز العوامل التي أسهمت في ظهور الرومانسيّة في عالمنا العربيّ. وسندرس أهمّ القضايا التي عُني بها الرومانسيّون العرب في شعرهم. كما سنفصِّل القول في الجماعات الأدبيّة التي عُرفت في أدبنا العربيّ وتأثيراتها الرومانسيّة في الأدب.

(98)

أوّلاً: عوامل ظهور الرومانسيّة عند العرب:

 لقد تضافرت جملة من العوامل التي أسهمت في ظهور المدرسة الرومانسيّة في الشعر العربيّ الحديث، ومن أبرز هذه العوامل:

1ـ تأثيرات الغرب:

 قوي الاتّصال بالثقافة الغربيّة في منتصف القرن الثامن عشر، فقد أخذت البعثات تقصد أوروبا للتزوّد بالعلوم الجديدة فتأثّرت بها، وعادت تحمل هذا التأثير[1]. وفي هذا الوقت وصل إلى المثّقفين ما توّصل إليه الغرب من أسرار الصياغة الشعريّة و وسائل التصوير، وكثرت الترجمات والمطالعات المباشرة في كتب الغربيّين، وتأثَّر بها الأدباء والنقّاد[2]، وهدتهم ثقافتهم الواسعة إلى أنّ هناك أغواراً في النفس الإنسانيّة وأسراراً في الطبيعة. وبهذا أثّرت هذه التيّارات الفكريّة والشعوريّة في تطوّر الشعر العربيّ الحديث[3].

2ـ التجمّعات الأدبيّة:

 ظهرت دعوات تجديديّة منظّمة في تجمّعات أدبيّة لها أسس وأركان محدّدة، ومن ذلك:

(99)

1 ـ حلقات اسكندر العازار:

 يذكر النقّاد الشيخ اسكندر العازار (1916-1855م) وحلقته الأدبيّة، التي مثّلت فئة الأدباء الذين تأثر شعرهم بالرومانسيّة الغربيّة، ومن أبرزهم: سليمان البستاني، وشبلي الملاط، ووديع عثل (1882-1933م) ، وأميـن تقي الدين (1884- 1937م) ، ونـقولا فياض ، وإلياس فيـاض ( ....-1945م)، ونقولا رزق، وسليم عازار، وبشارة الخوري (1890-1968م) .

2 - ـ مدرسة الديوان:

 حصل العقاد والمازنيّ على مجموعة المختارات المشهورة التي جمعها (بالجريف) أستاذ الشعر بجامعة أكسفورد، والتي عُرفت باسم (الكنز الذهبيّ) (The Golden Treasurt) ؛ وهي مجموعة تضمّ أفضل ما كتبه الشعراء الانكليز من شعر غنائيّ و وجدانيّ، فنهل منها العقاد والمازني. وفي هذا الوقت ظهرت (مدرسة الديوان). وتبيَّن أنّ المنهج الشعريّ الذي اختارته هذه المدرسة ودعت إليه هو المنهج الذي صدر عنه جامع (الكنز الذهبيّ) نفسه. ولاحظ النقّاد كثيراً من المعاني الشعريّة التي تخلّلت شعر هذه المدرسة كانت موجودة في هذه المجموعة[1].

3 - الرابطة القلميّة في المهجر (1920-1931م) :

 وكانت الرابطة القلميّة أوّل مدرسة أدبيّة منظّمة تنزع إلى تكوين

(100)

جماعة ذات طابع خاصّ في التفكير والتعبير. ويّعدُّ جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة من أبرز أعلام هذه الرابطة. كما كان لأعضاء الرابطة القلميّة الآخرين الفضل في تحرير الشعر من القيود التي فُرضت عليه.

4 - مدرسة أبولو (1932-1934م):

 لقد كانت مدرسة أبولو في مصر تعبيراً عن ملامح التطلُّع نحو الغرب وموازنة آدابه بآداب الشرق. وانتظم فيها معظم الشعراء الرومانسيّين؛ الذين تبلور على أيديهم هذا المذهب. ومن أبرز أعلام هذه المدرسة: على محمود طه، وأبو القاسم الشابي.

5 - عصبة العشرة:

 أُسِّست (عصبة العشرة) في لبنان (1898-1959م) . ومن أبرز أعلام هذه الجماعة: إلياس أبو شبكة، والشيخ خليل تقي الدين، وفؤاد حبيش، وميشال أبو شهلا.

وهكذا نجد الأدباء في هذه المرحلة يميلون إلى التجمُّع في جماعات أدبيّة. توحّد بينهم نظرة كليّة إلى طبيعة العمل الأدبيّ وأدواته، فيضعون لأنفسهم أسساً تقوم في أكثر الأحيان على ما تبنّاه الغربيّون من آراء المدرسة الرومانسيّة. فقد أسّس عقل الجرّ (النادي الفينيقيّ) في البرازيل. وأنشأ ميشال معلوف وشكر الله الجرّ (العصبة الأندلسيّة) (1933-1946م) في البرازيل أيضاً (ساو باولو). ـ

(101)

ودعا وليم صعب إلى تأليف (الرابطة الأدبيّة) (1949-1951م) في بونس آيرس لتجمّع شمل الأدباء في الأرجنتين. وأسّس الشاعر بلند الحيدري جماعة (الوقت الضائع) في العراق. وظهرت (المدرسة التيجانيّة) في السودان وغيرها من المنتديات الأدبيّة التي ساعدت على تبلور المذهب الرومانسيّ.

3 - المجلّات والصحف الداعية إلى التجديد:

 أسهمت المجلّات الأدبيّة في هذه الحركة التجديديّة الحديثة. وحملت صفحاتها الأعمال الأدبيّة التطبيقيّة لهذا التجديد. فقد أصدر إيليا أبو ماضي ـ في المهجر الشماليّ ـ مجلّة (السمير) في عام 1929م. وأسّس عبد المسيح حداد مجلّة (الفنون) في عام 1913م، ثمّ راح ينشر إنتاج الرابطة القلميّة في مجلّة (السائح). كما أنشأ ميشال معلوف مجلّة (العصبة الأندلسيّة) في المهجر الجنوبيّ.

 وانطلقت ـ في مصر ـ مجلة (أبولو) تحمل قصائد مختلفة لجميع الاتّجاهات. ولكنّ مسحة من التجديد كانت تبدو على صفحاتها. وأنشأ أحمد شاكر كرمي ـ في مصر ـ مجلّة (الميزان) في عام 1933م. وصدرت مجلّة (الحديث) (1927-1959م) ، وكانت تحمل رسالة التجديد في محاولة لمجاراة التيارات الفكريّة التي تبنّاها زعماء التجديد. وكتبت (عصبة العشرة) بلبنان في جريدة (المعرض)؛ لتعبّر المفاهيم الحديثة في عالم الأدب.

(102)

4 - الانتقادات التي وُجّهت إلى الأدب الكلاسيكي:

 تعرّض الأدب الكلاسيكي ـ الذي تزعّم مدرسته الباروديّ وشوقي ـ إلى جملة من الانتقادات، وقد تركّز الهجوم على الأغراض الشعريّة، وقالب التعبير، والصنعة، وتفكّك القصيدة. كما امتدّ ذلك إلى النثر.

5 - معاناة الجيل بعد الحرب العالميّة الأولى:

 ويعزو بعض النقّاد أسباب ظهور هذا المذهب إلى ما كان يعانيه الجيل العربيّ في أثناء الحرب العالميّة الأولى ـ وفي أعقابها ـ فقد عانى الجيل من العذاب، وكبت الحريّات والعواطف والقيود، فانطوى الشاعر على ذاته، واتجّه إلى دنيا الأحلام متقلّباً بين اليأس والأمل، يعيش في غربة حالماً بالطفولة والطبيعة، منشداً أناشيده المفعمة بالأنّات، والحسرات، والدموع، والرغبة المكبوتة، والشكوى، واليأس

ثانياً: الجماعات الأدبيّة والتأثيرات الرومانسيّة:

 دعت هذه الجماعات الأدبيّة إلى التجديد في الأدب شكلاً ومضموناً ، فقد اطّلع روّادها على الآداب الغربيّة، وتأثروا بالأفكار الجديدة فيها : ومن أبرز هذه الجماعات التي أثّرت في حركة التجديد التي شهدها الأدب العربيّ أيّما تأثير :

*- أوَّلاً: الرابطة القلميَّة:

 أُسِّست هذه الرابطة الأدبيّة في عام 1920م، وكان عدد

(103)

أعضائها عشرة، وهم: جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، ووليم كاتسفليس، ونسيب عريضة، وإيليا أبو ماضي، وعبد المسيح حداد، ورشيد أيوب، وندرة حداد، ووديع باحوط، وإلياس عطا الله.

وكان لأشعارهم تأثيرات كبيرة في الأدب العربيّ؛ لما تحويه من أفكار جديدة وعواطف جيّاشة، وخيال سانح، وأسلوب ـ جديد. وقد ثاروا على كلِّ سلطة تقريباً، كما فعل الفرنسيّون قبلهم، وكانت لهم آراء جديدة في الكاتب والشاعر، إذ عدّوا الكتابة وحياً يوحى. فقد تذوّقوا الأدب الغربيّ، وأُشربوا الروح الرومانسيّة، لذلك رفعوا لواء الثورة في الأدب، وهاجموا المحافظين هجوماً عنيفاً.

 وصف المهاجرون لوعة الهجرة، ووجْد الشوق، والأحاسيس الإنسانيّة التي يحسّها المفكّر الحرّ، وصفوا الكون والحياة بما في أسرارها من قوى زاخرة ، كما وصفوا طبيعة الإنسان الحائر الذي حاول التفلسف، وصفوا الجمال في روائع الطبيعة، فكانت نزعاتهم التجديديّة بدء الانطلاق إلى فهم رسالة الأدب على حقيقتها.

 وكان لهذه الأغراض الشعرية الجديدة تأثيرات واضحة في البنية الفنيّة للشعراء الشبان، الذين عاصروا الأدب المهجريّ.

*-ثانياً: الرابطة الأدبيّة :

 ـ بذل شعراء المهجر الجنوبي جهودهم لتقديم الأدب الحيّ، وأضافوا إلى تاريخ الحضارة الحديثة أنماطاً من الأحاسيس الإنسانيّة الرفيعة التي تغني تجارب الإنسان في حياته العامّة والخاصّة.

(104)

وكانت لهم نزعاتهم الإنسانيّة والقوميّة والتأمليّة والواقعيّة ورحلاتهم الخياليّة. وبذلك رفدوا التاريخ الأدبيّ العربيّ بفنون جديدة كانت في أشدّ الحاجة إليها لصنع نهضته الأدبيّة القادمة.

 لقد كان أسلوبهم رومانسيّاً في معظم الأحوال، تدلّ عليه معظم دواوينه الشعريّة؛ فقد سمّى جورج صيدح ديوانه الأول (النوافل) 1947م، و(النبضات) 1953، و(حكاية مغترب) 1957-1960م، وسمّى شكر الله الجر ديوانه الأوّل (الروافد) 1934م، وله ديوان (زنابق الفجر) 1954م.

 ازدهر الأدب العربيّ في البرازيل ـ خلال سنوات الحرب العالميّة الأولى وما بعدها ـ على يد مجموعة من الأدباء، الذين حفّزت أحداث أمّتهم العربيّة ـ إضافة إلى أحداث العالم كلّه. على الإبداع. والذين تجّمعوا في (العصبة الأندلسيّة)، ولم يُعرف دستور هذه العصبة الأدبيّة بشكل محدّد كما كانت الحال في (الرابطة القلميّة) بنيويورك. ولكنّ أعضاءها أخذوا على أنفسهم أن يناضلوا في سبيل الأدب، وتركوا لكلّ واحد أن يختار السبيل الذي يتّفق مع مزاجه وطبيعة إنتاجه، وأجمعوا على توسّم أساليب العربيّة الفصحى والتقيُّد بأحكامها ما استطاعوا. ولكنّ أبرز أهدافها يتّضح في مبدأ المطالبة برفع مستوى العقليّة العربيّة. ونقض التقاليد التي تنافي روح العصر، وتؤدي إلى الجمود الفكريّ والأدبيّ[1].

(105)

ظهرت النهضة الأدبيّة العربيّة ـ في المهجر الجنوبيّ ـ في (ساو باولو) بالبرازيل، والتي توضّحت في (العصبة الأندلسيّة) ونمت وترعرت، وأصبحت راسخة الجذور، وما لبثت أن امتدّت ووصلت إلى (بونس آيرنس) بالأرجنتين؛ حيث أُلِّفت (الرابطة الأدبيّة)، فكان لها أثر كبير في تدعيم أركان الأدب العربيّ هناك ولو إلى عهد قصير من الزمن.

*- ثالثاً: مدرسة الديوان:

 ـ يُعدّ عباس محمود العقّاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، وعبد الرحمن شكري من أبرز مؤسّسي مدرسة الديوان التي تزعّمت الدعوة إلى الشعر الجديد، واستمدّت مبادئها من الأدب الانكليزيّ.

 ـ لقد بدأ العقّاد والمازنيّ ـ في أواخر الحرب العالميّة الأولى ـ بنشر كتابهما (الديوان)، وعمدوا فيه إلى تحطيم الأصنام، ومثل: شوقيّ والمنفلوطيّ وغيرهما؛ وذلك بنقد أدبهم، حتّى إذا تمّت عمليّة الهدم، أخذا في بسط آرائهما البنائيّة في الأدب. وعبّرت آراء العقّاد عن فهم صحيح لحقيقة الشعر كما يفهمه الغربيّون، فقد فتح هو وزميله ـ المازني ـ آفاقاً جديدة لهذا الفن.

 عزّز أدباء المهجر هذه الحملة العنيفة التي قادها العقّاد و زملاؤه على الشعر التقليديّ، فظهر كتاب (الغربال) النقديّ، وضع فيه نعيمة مقاييس عامّة للأدب، تلزمه بالتعبير عن أحاسيس النفس وجمال الحياة تحت جرس الموسيقى الشعريّة، ثمّ وجّه انتقاداً

(106)

قاسياً لأحمد شوقي، وذلك بقوله : (الذي يسمّونه بالأمير وليس في شعره سوى الزركشة والرّنّة وأصداف يحسبها الناس درراً)[1].

 ويُعدّ (الغربال) مُتمماً لكتاب (الديوان) في الحملة على الشعر التقليديّ والدعوة إلى الشعر الجديد، فقد حمل حملة ـ شديدة على الأدب العربيّ كلّه ـ قديمه وحديثه ـ في فصل (الحباحب). كما حمل على القيود اللغويّة كلّها، وعلى الجزالة ونقاء الأسلوب في (نقيق الضفادع)، إضافة إلى حملته على الأغراض التقليديّة وشعر المناسبات.

*- رابعاً: جماعة أبولو:

 نادى أحمد زكي أبو شادي بضرورات التجديد، وسار على نهجه مجموعة من الأدباء، في حين تمسّك آخرون بالإطار القديم. ولم يكن مبعث النزعة الرومانسيّة التي غلبت على الشعراء حينئذ الاطّلاع على نماذج الجيل الجديد وشعراء المهجر، بل كان المبعث الحقيقيّ الواقع الحضاريّ المتأزّم الذي كانت تعيشه مصر آنذاك؛ فقد حَكَم الملك فؤاد والإنكليز مصر، وعانى الشعب المصريّ الظلم والجور، فكان طبيعيّاً أن ينطوي الشعراء على أنفسهم، وأن يشعروا بالحزن والألم، وعكسوا ذلك على ما حولهم من الطبيعة، لذلك غلبت النزعة الرومانسيّة على أشعارهم. ويبدو ذلك جليّاً من عناوين دواوينهم: فأبو شادي له (الشعلة) و (فوق العباب). ولإبراهيم ناجي (وراء الغمام). ولعلي طه (الملاح التائه).

(107)

ولحسن الصيرفي (الألحان الضائعة) ومحمود أبو الوفا له (الأنفاس المحترقة). ويعتقد بعضهم أنّ الرومانسيّة في الوطن العربيّ بلغت ذروة مجدها في (مدرسة أبولو).

 واتخذت جماعة أبولو لنفسها مجلّة فنيّة جعلتها لسان حال الجمعيّة بغية خدمة الشعر الحيّ، واسمتها (أبولو)، ورئيسها أحمد زكي أبو شادي، صاحب امتيازها، فراحت هذه المجلّة تروّج لشعر الفريد موسيه، وشلر، وجورج ملتون، والشاعر الفرنسي أرنولت، ولودلير، و ولتر سكوت. وعرضت على صفحاتها نتاج الشعراء الشبّان المجدّدين؛ وكان في مقدمتهم : حسن كامل الصيرفي، وأحمد زكي أبو شادي، وخليل شيبوب وسيد قطب وإبراهيم ناجي، وعلي محمود طه المهندس وأبو القاسم الشابي ... ـ كما نشرت للمحافظين خيرة أشعارهم وكان من هؤلاء: محمود عماد، ومصطفى صادق الرافعي.

 وقد أثّرت مدرسة أبولو في شعراء بلاد الشام والحجاز وتونس ومصر، وشجّعت الأقلام الناشئة، واهتمّت بالشعر الجيّد المجدّد.

(108)

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

نقد الرومانســيّة

 

(109)

الفصل الرابع

نقد الرومانســيّة

 لقد غمرت الرومانسيّة نفوس الشباب وأقلام كتّاب أواخر القرن الثامن عشر حتّى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ لأنّها كانت نتاج عصر قلق حائر المصير، آثر فنّانوه أن يهربوا على مطيّة الخيال ليبتعدوا عن مواجهة الواقع. وما إن انتصف القرن التاسع عشر حتّى انقسمت الرومانسيّة على نفسها إلى مدارس واتّجاهات مختلفة. وتعرّضت إلى انتقادات كثيرة، كان من أبرزها الانطواء الذاتيّ المطبق، والتقوقع الذاتيّ المفرط، والانغلاق العامّ دون مشكلات المجتمع، ودون كلّ حقيقة خارجيّة إلّا ما ينبع من حقيقة (الذات)، فالنظرة الرومانسيّة المبنيّة على التحرّر والانطلاق، وبعث روح الفرد من رقادها الطويل، قد أصبحت أكثر إمعاناً في الفرديّة، وطغياناً للذاتيّة على حساب الحقيقة الموضوعيّة الخارجيّة.

 ـ تناولت الاتجاهَ الرومانسيَّ في الأدب والفنّ دراساتٌ نقدية متعدّدة ، وذلك في أعقاب انحسار الموجة الرومانسيّة في أوروبا، نذكر منها[1]:

(110)

1 ـ كتاب (ف.ل. لوكاس) حول (مصرع المدرسة الرومانسيّة)؛ وهو دراسة مقارنة مهمّة، تصوِّر الرومانسيّة تصويرها لمرض أصاب العقل الأوروبيّ طوال القرن التاسع عشر.

2 ـ كتاب (ماريو براتز) في (الأوجاع الرومانسيّة).

3 ـ كتاب (البروفيسور إرفنج بابيت) عن (روسو والرومانسيّة).

4 ـ كتاب المفكّر (ت.أ. هيوم) بعنوان (خواطر) الذي هاجم فيه الرومانسيّة من الناحية الفلسفيّة.

5 ـ مقال (وظيفة النقد) الذي هاجم فيه الشاعر الانكليزيّ (ت.س إليوت) الرومانسيّة من الناحية الأدبيّة. وغير ذلك من المؤلّفات.

 سنتعرّف ـ في الصفحات الآتية ـ إلى أبرز وجهات النظر التي أشارت إلى الهنات التي أضعفت الرومانسيّة، وحدّت من تألّقها عند الغرب والعرب. كما سنتوقّف عند جملة من المذاهب الأدبيّة التي ظهرت كردّ فعل على الرومانسيّة.

 ـ أوّلاًـ الرومانسيّة ووجهات النظر:

1 ـ وجهات نظر غربيّة: ـ لقد اتّفق أبرز شعراء الرومانسيّة ـ بليك وكولردج ووردزورث وشيلي وكيتس ـ على نقطة جوهريّة؛ هي أنّ الخيال الإبداعيّ مرتبط أشدّ الارتباط بالبصيرة الخاصّة النافذة في نسق غير مرئيّ يقع وراء الماورائيّات. وقد أكسب هذا الاعتقاد

(111)

نتاجهم سمة خاصّة، وحدّد الجهود الرئيسة التي أسهموا بها في الشعر تنظيراً وتطبيقاً.

وقد اختلف عدد من الشعراء الرومانسيّين معهم في هذا الرأي؛ فعلى سبيل المثال: أنكر بايرون قيمة الخيال ولم يؤمن بأيّ نسق سامٍ للأشياء. ورأى ادجار آلا نبو أنّ الخيال يُعنى بـ (الماوراء)، ولا يرتبط بعالم الواقع. كما بحث دانتي روزيتي عن عالم آخر، ولكنّه ضيّق من جماله فبحث عنه في الحبّ. أمّا سوينبرن فيكاد ألّا يؤمن بأية محاولة لتحديد ما يعنيه ذلك عنده. وعلى الرغم من اتفاق كرستينا روزيتي مع كولردج وكيتس، إلّا أنّها تجاوزتهما حين نذرت ولاءها للعالم السماويّ الذي تحدّده العقيدة المسيحيّة، وبينت أنّ الأفكار المطلقة عن (الما وراء) مخالفة لمعتقداتها.

وربّما نستطيع القول: لم يكن كلّ الشعراء موفّقين مثل: وردزورث وكيتس في إمكانيّة معالجة ما فيهم من إحساس بالحرمان عن طريق الاتّصال بالطبيعة، إذ يستطيعون عن طريق حبّهم الفطريّ للمرئيات أن يجدوا أنفسهم في حضرة ما يسمّونه (الأبديّة). ولكنّ أحلام بعض الشعراء كانت معتمدة على الحظّ في تحقّقها ذات يوم، ولم يكترثوا بأن تتحقّق هذه الأحلام أو لا تتحقّق. ويعدّ ادجار آلان بو أبرز مَن يمثّل هذا الاتّجاه؛ فالدافع إلى الهروب فيه كان قويّاً لدرجة أنّه استسلم له، ولم يحرص على إدراك العلاقات التي قد تكون لأحلامه بعالم الواقع، لذلك لم تلامس أشعاره الواقع إلّا ما ندر. ولعلّ موقف بو إنّما هو تفسير لموقف الرومانسيّة الذي يجعل

(112)

من الممكن للإنسان أن يستغرقه (الما وراء) حتّى إنّه لا يولي الزمان والمكان الماثلين سوى عناية ضئيلة.

 ويوجد ـ في المقابل ـ عدد من الشعراء الذين أفسدوا نتاجهم الأدبيّ بطريقة مضادّة؛ وذلك بادّعائهم القدرة على استشفاف الرؤى على الرغم من افتقارهم لها، وهذا ما حدث لبيرون ـ في سنيه الباكرة ـ حين لم يكن شعره يقوم على أساس ذاته الحقّة، وإنما حين كان مبنيّاً على ما يجب من العالم أن يظنّ به. وما كان سيّئاً في بيرون كان أشدّ سوءاً في من هم أقلّ موهبة منه من الناس.

 ولعلّ ذلك يعود إلى تلك الحالة من خداع الذات في أنّ الخيال قد يسيطر على الإنسان إن لم يكن مزوّداً بالقدرة على معرفة ذاته ونقدها. فهو في هذه الحالة يؤمن بالأماني، ولا يكترث إن كانت حقيقة أم لا. فهو قد يخدع نفسه عن الواقع ويبني لنفسه عنه صورة خاصّة بدلاً منه، أو قد يخدع نفسه عن القيم ويقنعها بأنّ طريقه ذوقه ـ فحسب ـ هو المعيار الحقيقيّ للقيمة.

 وقد جازفت وجهة النظر الرومانسيّة بالسماح للناس بأن يعيشوا عوالمهم الخاصّة دون أن يولوا ما يحدث حولهم عناية كافية، وذلك لأنّها خلعت على الذات الفرديّة قيمة عالية جدّاً، وهم في تلك الظروف يضعون قوانينهم الخاصّة ويحاولون تطبيقها على الواقع. وقد لا يحول ذلك بينهم وبين خلق أعمال فنيّة كاملة، بيد أنّ هذه الأعمال منحرفة. لذلك فإنّ روح الرومانسيّة سُمّ ناقع حين يترك لها أن تنطلق متحرّرة دون قيد، ولا غرابة في أنّ مصطلح (رومانسيّ)

(113)

يستخدم في لوم الأفعال والأفكار التي تنحرف عن النظام القيميّ المقبول أو تبدّله بنظام مقزّز.

 وقد تعرّضت الرومانسيّة لنقد كبير لتأكيدها ضرورة ارتياد الإنسان لكلّ ما يتّصل به وبذاته إلى أقصى الحدود، وخاصّة رؤياه الفرديّة الخاصّة فهي لاتثق إلّا قليلاً بالأشكال والأساليب الفنيّة التي جاء بها الشعراء الآخرون وفيما تحقّقه من فائدة عامّة، كما لا تعني عندها التقاليد إلّا قليلاً. وهذا أمر من شأنه أن يضع الشعراء الرومانسيّين في وضع غير متكافئ مقارنةً مع شعراء مثل: فرجيل وملتون؛ اللذين كانا على تمكُّن من الكتابة لتقبّلهما وجهة النظر كلّها القائلة بما ينبغي أن يكون عليه الشعر. وربّما يكون مبعث نجاحهما وشهرتهما تلك التقاليد التي منحتهما الثقة ومكّنتهما من القيام بأعمال لولاها لما بلغته من قيمة كبيرة.

 ولم يكن للرومانسيّين مثل هذه الدعامة؛ إذ اعتمدوا على الإلهام اعتماداً رئيساً، والإلهام وحده كحلّ، أمر غير موثوق به، فالذين يضعون فيه كلّ آمالهم ويشكّلون حياتهم على أساسه قد يجدون أنفسهم فجأة وقد سُلبوا قوّته وأصبحوا عاجزين عن استعادتها. وقد حدث هذا لكولردج بطريقة ما، ولوردزورث بطريقة أخرى. إذ تمكّن التقاليد الشاعر من الاحتفاظ بقدرته، كما أنّها تستطيع أن تمدّ قدراته هذه بمزايا أخرى حين يكون عاجزاً عن الصدور عن ذاته، بل إنّه لتعينه على اقتحام ميادين جديدة وتمكّنه من تحقيق شيء جدير بالاهتمام. والرومانسيّون يعتمدون في أنفسهم على كلّ

(114)

ما يختلف عن غيرهم اختلافاً شديداً، إذ يعتمدون على مواهبهم الفردية الخاصة. وقد استهلكوا تلك المواهب ولم يجدوا لها بديلاً، نتيجة لتركيزهم الطويل فيها.

 ونقد آخر وجِّه للرومانسيّة يتعلّق بالغموض الذي يكتنف أشعارهم[1]، ويعود هذا إلى مفهومهم حول (الما وراء)؛ ذلك العالم الآخر الذي وجدوه في الرؤى عن طريق استخدام الخيال. وقد كانوا في تناولهم لهذا العالم غامضين دائماً، ولغموض كهذا مخاطره، ومن الأمور التي قد تكون مثاراً للجدل ألّا يستطيع الشعراء أن يكونوا محدّدين إزاء أمور تقع وراء إدراك العبارة الوصفيّة، وأن يكونوا صادقين في سعيهم لطلب الوضوح فيها، وهذا وضوح لا يملكونه. ولكنّ الغموض في الرومانسيّة يبلغ حداً قد لا تحمل معه الرموز لنا سوى القليل.

 ولعلّ المشكلة قد نشأت منذ عهد بعيد، منذ استخدام الشعراء الأسطورة أو ابتكروها لكي تناسب احتياجهم. وعلى الرغم من القضايا التي صوّرت في (قوبلاي خاي)، أو (برميثيوس طليقاً)، أو (هيبرمان)، وهي قضايا واسعة، إلّا أنّها ذكية ومثيرة إذ قدّمت في أشكال محدّدة ذات جمال حيّ. ولكنّ الخطر يتّضح أكثر حين لا تستخدم الأسطورة، وذلك حين يقول الشاعر كلّ ما يستطيع قوله في وصف تقريريّ مباشر.

(115)

كما توقّف النقّاد عند قضية مهمّة عند الرومانسيّين تتعلّق بالتجربة الشعريّة عندهم؛ فقد حدّد الرومانسيّون مجال شعرهم في زاوية محدودة من التجربة[1]. وقد كشفوا في هذا المجال عن آثار متعدّدة مجهولة. فالمنظر الطبيعيّ الذي فتن وردزورث، والسرّ الذي يقيمه ضوء القمر بين النوم واليقظة عند كولردج، وتأمّل شيلي الحافل بالنشوة للمعاني، ومحاولة كيتس العثور على نعمة الخلق الصافي، كلّ هذه الموضوعات لم يحاولها إلّا قلّة من الشعراء. وهذا ما يمكن أن يقال عن سعي روزيتيّ عن الجمال في الحبّ وإحساس سوينبرن بالشعر المطلق الجوهريّ في الأشياء. ولكن هذا التركيز الشديد فيما أثار خيالهم إنّما يعني أنّهم رفضوا أو تجاهلوا مواضيع متعدّدة ربّما وجد فيها غيرهم من الشعراء سحراً مذهلاً، ومن الواضح أنّ بيرون ـ وهو لم يشاركهم في معتقداتهم ـ كان قادراً على كتابة الشعر بتنوّع أكبر. فقد كتب في الصفحات الواقعيّة من (دون جوان) عن الحياة المعاصرة له دون خضوع للأفكار التقليديّة عن الجمال، وبيرون جدير بثقتنا حين رأى أنّ أغلب النشاط العاديّ النثريّ في بانوراما الحياة العصريّة المزدحمة قد يثير الشعر الحقيقيّ. حتّى قصائد وردزورث التي قوبلت أول الأمر بالسخرية على أنّها أشبه بالبساطة غير الفنيّة، حتّى هذه القصائد تتناول الحياة المتوحّدة في أجواء خاصّة تستبعد ما في حياة الريف من تعقيدات. والثورة الجديـدة على الرومانسـيّة إنّما ترجـع ـ في بعـض أسـبابها ـ إلى الاعتقـاد بأنّ شـعراءها لم يكتبـوالإيمانهم بالوحدة والاغتراب

(116)

ـ شعراً واقعيّاً عن العالم الذي خبروه. وربّما لم يتمكّنوا من ذلك؛ فقد بعثوا الشعر بإدامة النظر إلى داخل أنفسهم وعزلهم للتجارب غير العاديّة في داخلهم وفي سيرهم الذاتيّة. وقد كانت تلك الالتفاتة إلى الداخل هي إجابتهم عن الجيل السابق بإصراره على النظر في ظواهر الأشياء وافتقاره إلى الإيمان بالذات. وقد أدرك الرومانسيّون ـ لقدرة تركيزهم في النفس ـ جانباً من توفيقهم العظيم، ولكنّ الثمن الذي اقتضاه ذلك كان تجاهل كثير ممّا يثير عين البسطاء من الناس.

 وعلى الرغم من ذلك فإنّنا لا نستطيع أن نشكو من أن الرومانسيّين قد فشلوا ـ حين نذروا ولاءهم لاجتلاء أسرار الحياة ـ في أن يتذوّقوا الحياة ذاتها. فقد كان الرومانسيّون ألصق بالحياة العامّة من بوب أو درايدن، بل أكثر من ملتون أو سبنسر. فقد استطاع بليك ـ على سبيل المثال ـ أن يربط بين رؤى ذات قوّة غير عاديّة وبين أرقّ العواطف تجاه المنبوذين والمقهورين، وتمكّن شيلي ـ حين استخدم تأمّلاته الأفلاطونيّة ـ من الكشف عن تخطيط هائل لإعادة خلق العالم. كما وجد وردزورث مصدراً للشعر العميق في المخلوقات الدنيا، وفي المروج، وعند الشواطئ، وفي الطابين، وفي شيوخ الصيّادين، وفي الفتيات الصغيرات والكسالى من الأطفال. وبذلك نلاحظ أنّ هناك معتقدات كانت تحرّك الرومانسيّين في محاولتهم لفهم الأعماق الإنسانيّة منحت شعرهم نبضاً إنسانيّاً خاصّاً. ـ

2 ـ وجهات نظر عربيّة: إنّ التصوّر الإسلاميّ للأدب لا يرفض المذاهب الغربيّة لمجرد أنّها غربية، بل هو مفتوح على كلّ ثقافة،

(117)

ولكنّه مفتوح بوعي وبصيرة، يأخذ من كلّ خبرة ما يتّفق ورؤيته الفكريّة، ويغني تجربته، ويحمل الحقّ والخير، ولا يشكّل أيّ اعتداء على قيمه.

 إنّ التجديد الذي نادت به الرومانسيّة غير مرفوض في حدّ ذاته، بل الأدب الإسلاميّ أدب يحرص على التحديث والتجديد ما دام ذلك يتوافق والمعايير الشرعيّة. كما أنّ الدعوة إلى الصدق والتلقائيّة، والبُعد عن التقليد والتكلّف أمر لا يرفضه الإسلام، بل يحرص عليه.

 ولكن الرومانسيّة حملت أفكاراً ومضامين كثيرة لا تتفق والتصوّر الإسلاميّ، وكانت بداية تغريب خطير في شعرنا العربيّ الحديث عندما دخلت عليه؛ فقد حملت الرومانسيّة معاني اليأس، والقلق، والغربة، والتشاؤم، والإحساس بالضياع في شكل مَرَضيّ يبدو معه صاحبه وكأنّه يجد لذّة في الشكوى، ومتنفّساً في البكاء، ويرى في الألم مطهرة للنفس. ويرى النقّاد أنّ طابع الهروب فيها يمثّل محوراً عامّاً يتمثّل في عدم التكيّف الاجتماعيّ والنفسيّ، ولعلّ أهمّ تلك الأساليب التي واجهوا بها مجتمعهم: الهروب إلى الطبيعة، والحبّ، والموت، والتشرّد الدائم، والتجوال الهائم، والألم الحادّ اليائس الساخط، والعزلة في عالم التصوّف، أو عالم الفكر والتأمّل، أو عالم الشعر المثاليّ[1]. فقد اقتبس الشعر العربيّ المعاصر من الرومانسيّة عشرات الأفكار السقيمة، والقيم الهجينة،

(118)

والعواطف المَرضيّة، مما جعل شخصيّة الشاعر الرومانسيّ شخصيّة مهزوزة غير سويّة. وحسب المتلقي العربيّ دلالة على شيوع هذه العواطف المسرفة، وهذا الانسحاب السلبيّ من المجتمع أن ينظر في عناوين بعض الدواوين؛ فإبراهيم ناجي هائم (من وراء الغمام)، وحسن كامل الصيرفي ينشد (الألحان الضائعة)، ومصطفى عبد اللطيف السحرتي يستنشق (أزهار الذكرى)، ومختار الوكيل يسبح في (الزورق الحالم)، ومحمود أبو الوفا يرسل (أنفاساً محترقة). وكلّها عناوين تقطر بالشكوى والأنين، وتحفل بنغمات الهروب والتشاؤم.

 وقد تبلغ الحالة المرضيّة عند بعض الرومانسيّين مبلغاً يستعذب معه الموت ويصوّره حلماً مثاليّاً، بل إنّ لوثة هذه الأفكار السقيمة حملت بعض الشعراء على الانتحار، سعياً وراء هذا الحلم، مثل: أحمد العاصي، ومحمد منير رمزي، وإسماعيل أدهم، وغيرهم. وقد ترك العاصي قبل رحيله رسالة كتب فيها: (جبان من يكره الموت... جبان من لا يرحب بهذا الملاك الطاهر... إنّني أستعذب الموت الذي هو كالرائحة الزكيّة عندي...). وقد علّق أحد النقّاد على هذه الرسالة بقوله: (ومن هذا الحوار والعبارات التي تركها العاصي في رسالته، ومن قصائده يتبيّن أنه كان يستعذب الألم والموت على طريقة الرومانسيّين الذين أُصيبوا بمرض العصر، وظلّ هذا الإحساس يتجسّد حتّى وضع حدّاً لحياته قبل أن يصل إلى الثلاثين). فشخصيّة الرومانسيّ غير سويّة؛ إنّه إنسان مهزوز قلق، يعيش حالة من فقدان التوازن، لا يستطيع أن يتواءم مع من حوله، أو يحسّ بالانتماء إليهم،

(119)

ينسحب إلى الطبيعة، ويعشقها عشقاً كبيراً، ويراها أمّاً حنوناً، ويبالغ في الارتماء في أحضانها، وقد يهرب إلى أحضان الحبّ والخمر.

 وإذا كان بعض الرومانسيّين قد تغنّى بحبّ يائس حزين، تجرّع فيه المرارة والحرقة، ثمّ استعذب ذلك على طريقة القوم؛ فإنّ فريقاً آخر من الشعراء مثل: علي محمود طه، وإبراهيم المصري، وغيرهما قد صوّرت أشعارهم تجارب حبّ إباحيّ ماجن، يقوم على عشق الجسد والحديث عن اللذة. متأثّرين في هذا بشعراء غربيّين، عرفوا بهذا الضرب من الشعر، من أمثال: لورانس، وبودلير، وفرلين، وغيرهم.

 كما روّجت الرومانسيّة لكثير من التصوّرات الفكريّة والفنيّة، التي تخالف التصوّرات الإسلاميّة، فقد نشرت بعض الأفكار[1]، كان من أبرزها:

ــ الفنّ للفنّ: مهّدت الرومانسيّة لفكرة (الفن للفن)؛ وذلك برفضها ربط الشعر بغايات خلقيّة، أو توظيفه في الإصلاح والتربية، أو تجنيده في خدمة القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة، وراحوا ينادون بالفنّ المجرّد عن الغاية الذي يصدح فيه الشاعر كما يشاء مغنيّاً عواطفه الذاتيّة بجرأة واندفاع، وعمّق إبعادهم الشعر عن وظيفته الاجتماعيّة الفجوة بينهم وبين الجماهير، فلم يعد شعرهم معبّراً عن أهداف المجتمع بالشكل الذي عبّر به الشعر التراثيّ عن هذه الأهداف، فهو شعر هروب وانعزال، وانطواء على الذات.

(120)

ــ التهوين من الإثم الفرديّ: فهي تعدّ المجتمع مسؤولاً عن سقوط الفرد، وتحمّله وحده تبعة سقوطه، وقد مضى الأدباء يدافعون عن اللصوص والقتلة وغيرهم، ممّن توهّموهم ضحايا أبرياء يحمل الآخرون وزرهم، مسقطين بذلك معايير القيم الخلقيّة والدينيّة في الحكم عن الخاطئين الذين لا يعفيهم انحراف المجتمع من الذنب.

ــ التطرّف في الفرديّة: وقد قاد التطرّف في الفرديّة عند هذه المدرسة إلى رفض النواميس المتوارثة، والاستخفاف بالقيم، بما يعطي لكلّ فرد حقّ نبذ التقاليد العامّة في الفكر والسلوك.

 تلك قبسات من القيم الهجينة الفاسدة التي حملتها الرومانسيّة الغربيّة، وقد تسلّل الكثير منها إلى شعرنا العربيّ الحديث. ومن الواضح مخالفة كثير ممّا حملته هذه المدرسة للقيم الإسلاميّة، سواء في إغراقها الشديد في العاطفة والخيال واحتقار العقل، أو في نزعتها إلى احتقار الأعراف والتقاليد، أو هروبها وانعزالها، أو في تطرّفها في الفرديّة، أو دعوتها إلى آراء وأفكار بيّنة الفساد، أو ما شاكل ذلك ممّا دخل أدبنا عن طريق هذا المذهب الغربيّ الجامح.

 ـ ثانياً ـ الرومانسيّة والمذاهب الأدبيّة:

 لقد ظهرت جملة من المذاهب الأدبيّة كردّ فعل على الرومانسيّة، ومن أبرز هذه المذاهب: البرناسيّة، الرمزيّة، الواقعيّة، والسرياليّة...

1 ـ الرومانسيّة والبرناسيّة:

 تُعدّ البرناسيّة مدرسة الفنّ للفنّ، كان ظهورها في فرنسا ـ

(121)

منتصف القرن التاسع عشر ـ وكانت ردّ فعل على الرومانسيّة، وهي ترى أنّ الفنّ غاية في ذاته، ولا يعمل العمل الأدبيّ إلّا من أجل الفنّ، لا لغرض آخر، فالأدب في نظر البرناسيّة غاية في ذاته وليس وسيلة لأداء رسالة، ولذلك ـ مال روّادها إلى الطبيعة يصوّرون جمالها مجرّدا عن كلّ غاية اجتماعيّة أو سياسيّة أو تعبيراً عن الذاتيّة والمشاعر الوجدانيّة.

 فإذا كانت الرومانسيّة وسيلة للتعبير عن الذات، فإنّ البرناسيّة تدعو إلى عدم الاهتمام بالذاتيّة أو الغيريّة، ولا تجعل من الفنّ وسيلة للتعبير عن الجانب الإنسانيّ أو الإصلاحيّ أو التعاطف مع الآخرين، بل ترى أنّ الجمال يقصد لذاته لا لغاية أخرى.

 وإذا كان الرومانسيّ يكثر الشكوى ـ والحنين في شعره معّبراً عن التبرّم من الماضي أو الحاضر ومآسيه، ويميل إلى الفرار من الواقع الأليم إلى عالم مثاليّ، للهروب من الواقع، فإنّ البرناسيّة لا تهتمّ بالشكوى أو الألم أو الفرار إلى عالم مثاليّ، وتهدف إلى إبراز الفنّ من أجل الفنّ، والجمال من أجل أن لا تتّخذ من الفنّ وسيلة لتحقيق غاية أو تقديم رسالة كما فعل الرومانسيّون.

 وقد استقى المذهب البرناسيّ بعض مبادئه الرئيسة من الفسلفة المثاليّة الجماليّة، وبعضها الآخر من الفلسفة الواقعيّة التجريبيّة، فأصبح الحكم الجماليّ عند البرناسيّين يمتاز بخصائص متعدّدة، منها : أنّ الجمال هو الذي يرتضيه الذوق دون الالتفات لأيِّ منفعة، أي إنّ المتعة الفنيّة لا تتحقّق بأهميّة الموضوع بخلاف اللّذة[1].

(122)

وسُميّ البرناسيّون بهذا الاسم نسبة إلى جبل برناس، وهو في الأساطير اليونانيّة مقام أبولو (إله الشعر) في بلاد اليونان، وسمّي الشعراء بالبرناسيّين اعترافاً منهم بأنهمّ يستمدّون وحيهم من ربّ الشعر مباشرة.

2 ـ الرومانسيّة والرمزيّة:

 الرمزيّة هي البنت الشرعيّة للرومانسيّة[1]. وإذا كان الرومانسيّون قد طوّروا مفهوم الشعر والخيال الشعريّ، فإنهمّ لم يغفلوا تعميق منابع الشعر ومصادره من النفس البشريّة، إذ تنبّهوا إلى أهميّة اللاشعور وقيمته في بناء الحُكم الرومانسيّ، وما الحياة في نظرهم إلّا نهر كبير ذو مجرى متواصل أضيء جانب واحد منه بنور الشمس، أي بنور الوعي، بينما ظلّ جانبه الآخر في مجاهل اللاشعور الغائمة. وهي لفتة ستتبدّى عند الرمزيّين على نحو أكثر اتّساعاً[2].

 وهذا يؤكّد تواصل الأدبين الرومانسيّ والرمزيّ وتلاقيهما في العمق والجوهر، ولكنّهما يختلفان في الغاية الحقيقيّة وكثير من الخصائص الفنيّة التي فرضها التطوّر الأدبيّ من جهة، وانحراف الرومانسيّة نحو ذاتيّة مرضيّة متقوقعة وانجراف نحو القضايا الاجتماعيّة في آن واحد من جهة ثانية.

 وُلدت المدرسة الرمزيّة عندما نشر مورياس في ملحق الفيغارو

(123)

الأدبيّ، في الثامن عشر من ايلول سنة 1886 م رسالة فيما هي تقترح الكلمة تحتوي تحديداً للشيء، وقد عُدّت كأوّل إعلان عن الرمزية. ولقد أهمل مورياس المحاولات الشعريّة المتعدّدة، التي كانت مزدهرة منذ بضع سنوات، واقترح مفهوماً شعريّاً يحلّ محلّ البرناسيّة، كما يحلّ محلّ الرومانسيّة. وقدّم بودلير، ومالارميه، وفرلين كأسياد لهذا المذهب؛ قدّم الأول لأنّه الرائد الحقيقيّ، والثاني لأنّه وهب الشعر معنى السرّ وما يفوق الوصف، والثالث لأنّه حطّم قيود الشعر القاسية. لقد وازن أولاً بين الشعر الجديد كما كان يتصوّره، وبين طرائق الشعر الداخليّة، وأظهره عدوّاً للتعليم، وللإلقاء، وللحساسيّة الخاطئة، وللوصف الموضوعيّ؛ إنّ الشعر هو في خدمة الفكرة لا في خدمة الفكر. والواقع إنّ الرمزيّة يجب أن تحافظ على ذاتها من ناحيتين؛ فلا ينبغي أن تمثّل الغرض الخارجيّ من أجل نفسه، ولا أن تعبّر عن الفكرة في ذاتها

 لقد رأينا أنّ المدرسة الرمزيّة كانت تتميّز في قسم منها بأن يُنسب للكلمة في ذاتها قيمة خاصّة، تُضاف إلى قيمة الكلمة، وفي بعض الأحيان تناقضها كعلامة أيديولوجيّة. وكان الشاعر يجهد في منافسة الموسيقي بقوة فنّه الاستحضاريّة. ويُعدّ رينيه غيل أوّل من وضع نظريّة لهذه النظريّة الشعريّة؛ إذ حاول تسويغ هذه النظرية تسويغاً علميّاً في كتابه (Traitè du Verbe)[1].

(124)

إنّ أكثر ما يهمّ الشاعر هو المحتوى الصوتيّ للكلمات، فهو لا يستطيع أن يخلق الموسيقى الصافية وحدها بتلاعبه في شعره بالكلمات، بل لوجود علاقة بين القيمة الصوتيّة للكلمة ومختلف نظم العواطف والأفكار. واللغة ـ من وجهة النظر هذه ـ تعدّ توسّعاً متكاثراً متنوّعاً للصرخة، وتوسّعاً مركّباً متطوّراً للإيقاع، يتناغمان في تطوّر الفكرة.

كما يرى الرمزيّون أنّ الفنّ يحقّق لهم عالماً مثاليّاً من الجمال، ولذلك ابتعدوا عن الواقعيّة في الفنّ والجمال والتصوير، فالقصيدة عندهم كالقطعة الموسيقيّة تعتمد على نغم الكلمات وإيقاعها، فبالنغم يستشعرون المتعة والقدرة والعظمة، وتنحصر مهمّة الشعر أو تكاد على التلميح الرمزيّ، فالشعر لا يسمّي الأشياء، ولكنّه يخلق أجواءها، وفي هذا تتجلّى قمّة النغم الرمزيّ في الشعر الغنائيّ. والرمزيّون لايهتمّون بالألفاظ الدلاليّة، والصورة عندهم تجسيد للرؤية الرمزيّة.

3 ـ الرومانسيّة والواقعيّة:

كانت الرومانسيّة تحمل في ذاتها بذور الواقعيّة، وكانت النظريّات الرومانسيّة توصي بإدخال المحسوس في الفنّ، بالنسبة لجميع الأنواع ـ في الشعر كما في النثرـ فما كان للشعر الغنائيّ أن يخشى التلميح إلى أشياء مألوفة، ولا حتّى ولا تسميتها بأسمائها، ولا عرض مناسبات واقعيّة. وكان على المسرح أن يقدّم الحياة الحقيقيّة لا صورتها الشكليّة. أمّا التاريخ فإنّه إذ يصف الحياة

(125)

الماديّة في العصور الغابرة ينتقدها بإدخال تاريخ حياة الكاتب وشروطها الماديّة لشرح عمله الأدبيّ. وأمّ الرواية ـ وخصوصاً إذا كانت أحداثها تجري في ماضٍ تاريخيّ، وإذا كانت تكثر من الإشارة إلى العادات والحياة الماديّة للعصر المقصود، فإنّها تدعو الكتّاب إلى وضع عمل واقعيّ. ومع ذلك فإنّ جورج صاند تشير ـ دائماً ـ إلى ما يجعلها تناقض بلزاك بالنسبة لهذه النقطة، فهي رومانسيّة ذات مثاليّة واضحة، وهي مع إعجابها بفنّ خصمها الكبير، تصرّ على وجود فرق بين طريقتها وطريقته. وكان بلزاك ـ في الواقع ـ هو الرائد الأول للواقعيّة، ولكنه لم يكن مشرّعاً لها. ومع ذلك، فبمقدار ما كان يتكوّن عمله الأدبيّ، كان هو يتفهّم أكثر فأكثر طبيعة الواقعيّة الخاصّة، وما كان من تناقض بين هذا المظهر الجديد للفنّ والرومانسيّة التي كانت في أوج تفتّحها[1]. وعلى الرغم من أنّ الذوق في التفصيل المحسوس كان إحدى صفات المدرسة الرومانسيّة، فإنّ تطبيق هذا الذوق على العالم المعاصر لم يكن من برنامج هذه المدرسة.

ويرى آرنست فيشر في كتابه (ضرورة الفنّ) أنّ الواقعيّة النقديّة في الأصل هي نتيجة للاحتجاج الرومانسيّ على المجتمع الصناعيّ الذي يطغى على حقوق الفرد، وبذلك تكون الرومانسيّة مرحلة سابقة للواقعيّة النقديّة، فجوهر الأدب لا يتغيّر من أساسه؛ لأنّ جوهره من جوهر الإنسان، ولكن الذي يتغير هو أسلوب التناول والمعالجة عندما يصبح أكثر موضوعيّة وأقلّ ذاتيّة، وإن كانت

(126)

الواقعيّة تخالف الرومانسيّة في أنّها تستمدّ مادّتها من واقع الحياة، إلّا أنّ الواقعيّة الأدبيّة أولاً وأخيراً فنّ ـ والفنّ بطبيعته اختيار ـ ومجرّد اختيار الأديب الواقعيّ لمضمون معيّن معناه إبراز وجهة نظره تجاه الحياة والمجتمع فإنّ المضمون لابدّ أن يمرّ بنفس الأديب قبل أن يتشكل ويخرج إلى الوجود، وفي هذه الأثناء يتشكّل تبعاً لمكوّنات الأديب ووجدانه وثقافته وكلّ مايؤثر في معالجته للموضوع، ولذلك حرص النقاد في النصف الثاني من القرن التاسيع عشر على تحديد معنى الواقعيّة وتعريفها بأنّها الاتّجاه الذي يتحدّد باختيار الأديب لمضامينه، ثم بوجهة النظر التي ينظر بها إلى هذه المضامين، وعلى هذا الأساس انقسمت الواقعيّة إلى واقعيّة نقديّة وأخرى اشتراكيّة[1].

 لقد جدّت على حياة الناس تغيّرات شاملة في المجالات الاقتصاديّة، والسياسيّةوالثقافيّة، والاجتماعيّة ، كان لها أثرها في الناس عامّة، والشعراء خاصّة؛ الذين كانوا بعيدين عن الواقع وقضاياه وكانوا يعيشون في ظلّ الرومانسيّة في أبراجهم العاجيّة، أو يفرّون من مواجهة الواقع إلى عالم خياليّ ينشدون فيه المثاليّة والمبادئ ـ الفاضلة، أو يفرّون إلى أحضان الطبيعة ينشدون الجمال والمتعة، أو إلى عالم المرأة يتغزّلون في جمال الروح، ويهيمون في عالم الوجدان بعيداً عن الواقع الأليم حتّى ظهرت هذه التغيّرات الشاملة في جميع مجالات الحياة، فأثّرت في الشعراء، ووجّهت

(127)

أنظارهم نحو الواقع، وأثّرت كذلك في إبداعاتهم الشعريّة، فلم يبق أمام الشعراء فرصة لتنميق أشعارهم وتزيينها وإضفاء معالم الصنعة عليها كما كان يحدث مع الكلاسيكيّين، كما لم يبق هناك فرصة للتعبير عن المشاعر الذاتيّة التي تخصّ الشاعر وحده، بل اتّجه الشعراء إلى مواجهة الواقع، والاهتمام بالأحداث والقضايا والتعبير عن انعكاس آثارهم في نفوسهم[1].

 ولا يعني التزام الأدب بالقضايا الإنسانيّة أنّ الأدب أصبح نقلاً حرفيّاً لواقع الحياة، وتصويراً للمشكلات والأحداث، ولكنّه تعبير عن تجربة عاشها الشاعر مع غيره أو كان لها في نفوس الآخرين أثار بعيدة أو قريبة، ولكنّه يعبّر عن حصّته هو من هذه التجربة لا عن حصّة الآخرين، وإذّاك تتجاوب بشعره آفاق النفوس الأخرى، ولا يقال إنّه عبّر في قصيدته عن وجدان جماعيّ، والشاعر في ظلّ هذا الاتّجاه الجديد لا يعبّر عن وجدان جماعيّ، بل يُعبر عن انعكاس أثر القضايا الجماعية في نفسه بوصفه عضواً من أعضاء المجتمع الذين يعانون وقع هذه القضايا والأحداث[2].

4 ـ الرومانسيّة والسرياليّة:

 السرياليّة هي حركة ذاتيّة نفسيّة صافية يُقصد بها التعبير إمّا شفاهة وإمّا كتابة، أو بأيّ طريقة أخرى، عن العمل الواقعيّ للفكرة.

(128)

ُمليها الفكر في غياب كلّ مراقبة يمارسها العقل، بعيداً عن كلّ انشغال جماليّ أو أخلاقيّ.

 إنّ غاية الثورة السرياليّة هي كشف الفكر للفكر نفسه، وإدهاشه بكشف خطأ سيره العاديّ. وهي تستعمل طريقة جديدة للتعبير من أجل الوصول إلى طريقة جديدة للمعرفة، يكون غرضها في هذه (الأنا) المطلقة، المستقلّة عن عادات الفكر المتغيّرة، والمخلّصة من التغييرات التي تفرضها عليها ضرورات الحياة الاجتماعيّة. وهذا العالم الذاتيّ يستطيع الشاعر وحده أن يحاصره ويتبع خطوطه المعقّدة. وبذلك نلاحظ أنّ غاية السرياليّة هي إيقاظ الإنسان على رؤية جديدة للأشياء بعدم تنظيم الفكر، وتكون نتيجتها الإقبال على الحياة بمجموعها بموقف جديد، إذ تحلّ المرونة محلّ الصلابة الديكارتيّة؛ وتكون وسائلها في القبض على الواقعيّة النفسيّة في جوهرها بممارسة الكتابة الذاتيّة ودراسة الأحلام. لم تقم ثورة هكذا خطيرة في تاريخ الأدب. ولكنّ هذه الثورة هي التابع الأخلاقيّ لميول بودلير ورامبو الجماليّة، ولدراسات فرويد النفسيّة، ولتجربة لوتريامون، وبعض مؤلّفات نرفال وأبولينير. إنّها تفتح أمام الأدب مجالات واسعة. ولكنّ الأعمال الأدبيّة لن تتبع النظريّات إلّا بتدرّج طويل الأمد. وما كان ينبغي الانتظار حتّى يتبع ذلك تطوّر الجمهور وحسب، بل كان ينبغي الانتظار حتى تثبت النظريّات نفسها. فإنّ الإصلاح المقترح يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتطوّر الذهنيّ والأخلاقيّ لدى الجمهور؛ لكي لا

(129)

يظلّ مستقبله متوقّفاً على الظروف السياسيّةوالاجتماعيّة، وعلى تغلغل النظريّات العلميّة الأخيرة في الأدب[1].

ـ ثالثاً ـ الرومانسيّة وامتدادها:

وكما يحدث لأيّة حركة أدبيّة فقد بدأت الرومانسيّة في الانحسار في مطلع القرن العشرين عندما أعلن الناقد الفرنسيّ لاسير هجومه عليها بأنّها تسلب الإنسان عقله ومنطقه. كما هاجم ايرفنج بابيت الرومانسيّة وبخاصّةٍ جان جاك روسو، الذي نادى بالعودة إلى الطبيعة؛ إذ يرى أنّه لا خير في عاطفة وخيال لا يحكمهما العقل المفكّر والذكاء الإنسانيّ والحكمة الواعية والإرادة المدركة. وكان نتيجة هذا الهجوم أن نشأت الرومانسيّة الجديدة الممثّلة في ميدلتون مرى وفوسيه ودعوتهما إلى الربط بين العاطفة التلقائيّة والإرادة الواعية في وحدة فكريّة وعاطفيّة لا تنفصم[2].

لم يستجب المفكّرون لهذه الدعوة وبخاصّةٍ السرياليّون؛ الذين حطّموا المنطق المألوف تماماً، وأطلقوا قوى العقل الباطن الكامنة. لذلك يمكننا القول: كانت السرياليّة الاستمرار الجديد للرومانسيّة القديمة؛ التي أثبتت أنّها مذهب إنسانيّ يستطيع التطوّر مع احتياجات الإنسان الروحيّة.

 لقد حملت الرومانسيّة بذور تلك المذاهب التي وجّهت نقداً للرومانسيّة، إذ نشأت هذه المذاهب من رحم الرومانسيّة. لذلك لا

(130)

يمكننا أن ننكر أهميّة الرومانسيّة؛ فقد كانت حاجة ملحّة في تلك المرحلة الحضاريّة، وبدا واضحاً ـ كما مرّ معنا عند دراسة نشأة ـ الرومانسيّة في أوروبا ـ أنّ ثمّة وشائج قوية ربطت بين نشأة الاتّجاه على المستوى الفنيّ والأدبيّ، وبين العوامل والمؤثّرات المحيطة اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً وفكريّاً. وكانت الصلة وثيقة أكثر بين الرومانسيّة كاتّجاه أخذ يبلور أهداف الفنانين والأدباء في مجتمع أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وبين ظهور طبقة البرجوزايّة الأوروبيّة كطبقة جديدة على تركيب المجتمع الأوروبيّ بما تميّزت به، وما كانت تسعى إلى تطبيقه ـ خصوصاً في مجال النشاط الاقتصاديّ والصناعيّ والتجاريّ. وقد كان العالم العربيّ يمرّ بمرحلة حضاريّة متأزمة، سادها مناخ لا ديمقراطيّ في السياسة، وفي الاقتصاد، وغلب عليها قهر استعماريّ بغيض، وسيطرت فيها قلّة قليلة على مستقبل كثرة غفيرة، في ظلّ هذا المناخ الحضاريّ المتأزم بين القيم القديمة والعلاقات الاجتماعيّة الجديدة، وتحت ضغظ التخلّف الحضاري وعنفوانيّة الحكم اللاديقراطيّ، وُلدت الرومانسيّة واستقبلها مناخها الخاصّ، لأنّها تعبّر عن أزمة التناقض بين القيم والعادات الاجتماعيّة الجديدة، وهي الأزمة الرئيسة في حياة مجتمعنا إبّان تلك الفترة، ومن ثمّ كانت الرومانسيّة استجابة لمرحلتنا الحضاريّة، ونتيجة لاتّحاد تلك العوامل مجتمعة، ممّا أتاح الفرصة للاتّجاه الرومانسيّ كي يملأ اتّساع المرحلة، ويغلب على الفنّ والأدب شعراً ونثراً، ونحن لا نسلّم أبداً بأنّ قيام الحرب العالميّة الثانية، وانتشار الدعوات والفكر والآراء الثوريّة والاجتماعيّة وظهور

(131)

مبدأ سيادة الشعوب لا الأفراد، ونجاح بعض الثورات التحرّريّة على المستوى الوطنيّ والقوميّ، والمستوى الاجتماعيّ والاقتصاديّ وبروز قوّة الطبقة العاملة وسهولة الاتّصال الفكريّ والثقافيّ وغلبة الاتّجاه الواقعيّ في الفنّ والأدب لا نسلم بأنّه بعد هذا كلّه قد خبا ضوء التيار الرومانسيّ وانتهى إلى غير رجعة، فإنّ المذاهب والتيارات والاتّجاهات الفنيّة والأدبيّة لا يمكن أن توضع بينهما فواصل.

(132)

قائمة المصادر والمراجع

أولاً ـ العربية:

1 ـ أدب المهجر، د. عيسى الناعوري، دار المعارف، مصر، ط2، 1967م.

2 ـ أشعار وشعراء من المهجر، محمد عبد الغني حسن، كتاب الهلال، عدد266.

3 ـ أقدم لكم الرومانسيّة، د.تماث هيث، جودي بورهان، ترجمة: عصام حجازي، المشروع القومي للترجمة، إشراف: جابر عصفور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1،2003م.

4 ـ أقطاب المدرسة الرومانسيّة ــــ(روسو: شهيد الطغيان، رومان رولان) (غوته: طليعة الإنطلاق ف، توماس مان)ــ (شلر: شاعر الحرية ـ توماس كارليل) دار البعث-41، وزارة الثقافة، شباط، 2007م.

5 ـ إلياس أبو شبكة ـ دراسة تحليليّة، عبد اللطيف شرارة، دار صادر، بيروت، د.ت.

(133)

6 ـ الأنواع الأدبيّة مذاهب ومدارس (في الأدب المقارن) د.شفيق البقاعي، مؤسّسة عزّ الدين للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1985م.

7 ـ تاريخ الثورة الفرنسيّة، ألبير سوبول، ترجمة: جورج كوسى، منشورات عويدات، منشورات البحر المتوسّط، بيروت ـ باريس، ط3، 1982م.

8 ـ تاريخ الفكر الأوروبيّ الحديث (1601 ـ 1977 م)، دونالد سترومبرج، ترجمة: أحمد الشيباني، دار القارئ العربيّ، القاهرة، ط3، 1994م. هذا الكتاب هو الترجمة العربية لكتاب:

An Intellectual ـ History Of ـ Moden ـ Europ – By: Roland ـ N.Stromberg – Prentice ـ Hallincl

9 ـ الثورات الكبرى في التاريخ ـ الثورة الفرنسيّة وامتداداتها، روبرت بالمر، ترجمة: هنرييت عبودي، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1982 م

10 ـ الجداول، إيليا أبو ماضي، دار العلم للملايين، بيروت ، ط9، 1972م.

11 ـ جدليّة الرومانسيّة والواقعيّة في الشعر المعاصر، د.حمدي الشيخ، ط1، 2005م.

12 ـ الخمائل، إيليا أبو ماضي، دار العلم للملايين، بيروت، ط10، 1974م.

(134)

13 ـ الخيال الرومانسيّ، سيرموريس بورا ، ترجمة: إبراهيم الصيرفي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1977م.

14 ـ ديوان أبو القاسم الشابي، تقديم الدكتور عزّ الدين اسماعيل، دار العودة، بيروت ، 1972م.

15 ـ ديوان عمر أبو ريشة، دار العودة، بيروت، المجلد الأول، 1971م.

16 ـ ديوان ناجي، جمعه وحققه وقدّم له: أحمد رامي وصالح جودت وأحمد هيكل و محمد ناجي، دار المعارف، مصر، 1961م.

17 ـ الرمز والرمزيّة في الشعر المعاصر، د.محمد فتوح أحمد، دار المعارف ، مصر / ط2، 1978م.

18 ـ الرومانتيكيّة، د.محمد غنيمي هلال، دار العودة، بيروت، ط2، 1981م.

19 ـ الرومانسيّة الأوروبيّة بأقلام أعلامها، نصوص نقدية مختارة جمعها وحرّرها وقدمت لها: البرفيسورة لليان فرست، ترجمه عن الانكليزيّة وقدّم له: الدكتور عيسى العاكوب، الدار الجامعية ـ حلب، دار جدل ـ حلب، ط1، 2001م والعنوان الأصلي للكتاب:

UUROPEN ROMANTICISM, Self-Definition ـ Ananthology compiled by: Lilian R.farst METHUEN –London- Newyork.

(135)

20 ـ الرومانسيّة في الأدب الأوروبيّ، بول فان تيغيم، ترجمة صياح الجهيم، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1981م،ج2

21 ـ سعيد عقل، شعره و نثره، ديوان رندلي، سعيد عقل، نوبلس ، ط5، 1991م، المجلد الثامي.

22 ـ الشابيّ وجبران، خليفة محمد التليسي، المطبعة الحكوميّة لولاية طرابلس الغرب ـ ليبيا، 1957م.

23 ـ الشعر العربيّ في المهجر ـ أميركا الشماليّة، د.إحسان عباس، د.محمد يوسف نجم، دار صادر، بيروت، ط2، 1967م.

24 ـ الغربال ميخائيل نعيمة، دار صادر ، بيروت ، ط5، 1969م.

25 ـ الفن الرمزيّ –الكلاسيكيّ-الرومانسيّ، هيغل ، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت ، ط2، 1986م.

26 ـ في الرومانسيّة و الواقعيّة، د.سيّد حامد ـ النسّاج ، دار غريب ، القاهرة، د.ط.

27 ـ قاموس المطلحات اللغويّة والأدبيّة (عربي-إنكليزي –فرنسي) ، د.إميل يعقوب، د.بسام بركة، مي شيخاني ، دار العلم للملايين، لبنان ، ط1، 1987م.

28 ـ قدموس ـ مأساة شعريّة، سعيد عقل ، مطبعة المكتب التجاريّ، بيروت، ط3، 1961م.

(136)

29 ـ قصّة الحضارة ، روسو والثورة(تاريخ الحضارة في فرنسا و انجلترة و ألمانيا من 1756إلى 1789) ول وايريْل ديورانت، ترجمة: فؤاد أندراوس ، دار الجيل، بيروت، 1988م، م10، ج4.

30 ـ الكلاسيكيّ في مقابل الرومانسيّ، أوغست ويلهلم شليغل.

31 ـ لبنان الشاعر ـ التيارت الحديثة ، صلاح لبكي ، نشر معهد الدراسات العربيّة العالميّة ـ مطبعة المرسلين اللبنانيّين ، لبنان ، 1954م.

32 ـ المجموعة الكاملة لمؤلّفات جبران خليل جبران ـ قدّم لها ميخائيل نعيمة، مطبعة المناهل، دار صادر، بيروت ، 1950م.

33 ـ محاضرات الموسم الثقافي (1961-1962م) ، نشر وزارة الثقافة السورية، دمشق ، 1963م، ج5.

34 ـ محاضرات الموسم الثقافيّ (1963-1964م)، منشورات وزارة الثقافة السوريّة، دمشق، 1964م، ج7.

35 ـ مدخل إلى تاريخ الآداب الأوروبيّة، د.عماد حاتم، الدار العربيّة للكتاب، د.ط.

36 ـ مدخل إلى دراسة المدارس الأدبيّة في الشعر العربيّ المعاصر (الإتباعيّة ـ الرومانسيّة ـ الواقعيّة ـ الرمزيّة) ، د.نسيب نشاوي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1984م.

37 ـ مذاهب الأدب، محمد عبد المنعم خفاجي، القاهرة، ط1،

(137)

1953م.

38 ـ المذاهب الأدبيّة الغربيّة، رؤية فكريّة وفنيّة، د.وليد قصّاب، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط1، 2005م.

39 ـ مذاهب الأدب في أوروبا ـ دراسة تطبيقيّة، مقارنة ، د.عبد الحكيم حسان ، دار المعارف ، القاهرة ، ط2، 1979م.

40 ـ مذاهب الأدب معالم و انعكاسات ، د.ياسين الأيوبي ، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ، د.ت.

41 ـ المذاهب الأدبيّة من الكلاسيكيّة إلى العبثيّة، د.نبيل راغب، دار مصر للطباعة، مصر، د.ت.

42 ـ المذاهب الأدبيّة وآثارها في شعرنا العربي، د.حمدي الشيخ، المكتب الجامعي الحديث، 2010م.

43 ـ المذاهب الأدبيّة الكبرى في فرنسا، فيليب فان تيغيم ، ترجمة : فريد أنطونيوس، منشورات عويدات ، بيروت ، د.ت.

44 ـ المذاهب الأدبيّة لدى الغرب، عبد الرزاق الأصفر، منشورات اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1999م.

45 ـ المذاهب الأدبيّة والنقديّة عند الغرب والغربيّين، د.شكري عباد، عالم المعرفة ـ سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ايلول ، 1993م.

46 ـ معجم المصطلحات الأدبيّة، إبراهيم فتحي، المؤسسة

(138)

العربية للناشرين المتحدين، طبع التعاضدية العمالية للطباعة والنشر، صفاقس ، تونس ، الثلاثية الأول ، 1988م.

47 ـ معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة (عرض و تقديم وترجمة) ، د.سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني ـ بيروت. سوشيرس ـ الدار البيضاء، ط1 ، 1985م.

48 ـ معجم المصصطلحات العربيّة في اللغة والأدب ، مجدي وهبة ـ وكامل المهندس ، مكتبة لبنان، بيروت ، ط2، 1984م.

49 ـ موسوعة الفلاسفة، د.عبد الرحمن بدوي ، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر ، بيروت ، ط1، 1984م، ج2 (ش إلى ي).

50 ـ موسوعة المصطلح النقديّ (المأساة ـ الرومانسيّة ـ الجماليّة ـ المجاز الذهني)، ترجمة: د.عبد الواحد لؤلؤة ، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر ، بيروت، ط2، 1983م ، م1.

51 ـ نجوى الغروب، ميخائيل نعمية، مؤسسة نوفل، بيروت، ط2، 1985م.

52 ـ نظريّة الأدب، تيري إيغلتون، ترجمة: ثائر ديب ، مشنورات وزارة الثقافة في الجمهوريّة العربيّة السوريّة، دمشق ، 1995م، والعنوان الأصلي للكتاب:

 LITERARY THEORY An INTRODUCTION, by: Terry Eagleton

(139)

53 ـ نفحات من شعر الغناء، أحمد زكي أبو شادي، جمعها ونشرها: حسن صالح الجداوي، مطبعة السلفية، مصر ، 1924م.

54 ـ همس الجفون، ميخائيل نعيمة، مؤسسة نوفل، بيروت، ط6، 2004م.

55 ـ الواقعيّة النقديّة في الأدب، س.بيتروف ، ترجمة : د.شوكت يوسف، وزارة الثقافة، منشورات الهيئة السوريّة العامّة للكتاب ، دمشق ، 2012م.

ثانياً ـ الأجنبية:

Aure’lia , Gèrard De Nerval , lère pratie , I

Childe Harold , Byron , IV, XCIIX-CVIII

De la literature , Madame de staële , ch.XVIII

De la poèsie classique et de la poèsie Romantique , De l’A llemagne . chapter II

De lphine , Mmm de staële , 62 partie . letter XIII

Historie des siècles, V.Hugo , e’d , Garnier , Vol.III

La Critique littèraire, J.C.Carloni

(140)

La legend des siècles , V.Hugo . e’d . Garnier, Vol.III

Les meditations poètiques , Lamartine , XXIII

Les Mèmoires d’Outre – Tombe ‘ Chateaubriand , èd > Garnier, Vol.1

Les Misèrables , V.Hugu , preface.

Le Mouvement Romantique , P.v Tieghem.

Les Romantisme , P.Lasserre

ـ Le Romantisme , P.V.Tieghem , Ruy ـ Balas , V.Hugo , acte III, scène 3.vers

Nuit de mai, dans, poèsie complètesm A.de Musset.

Observations Prefixed to second Edition of the lyrical Ballads 1800 . Words worth

Pendant , V.Hugo , I’Exile 219 , P.Lasserre

Poems re Ferring to the Period of childhood, Words worth, 1.cf,1.

 Poetical works , Lord Byron , op.

(141)

Part – Royal , Sainte – Beuve , livre1, chap I-II

Preface ti ‘Lyrial ـ Ballads’ , poetical works , vol.11

 Renè , Chateaubriand , dans , Atala Renèm Garnier , op, cit

Rëveries , J.J.Roussea, 4e , promenade

Stell , A.de Vigny , chap. XV.

(142)
المؤلف في سطور الدكتورة نغم عاصم عثمان - من مواليد 1981م. - حائزة على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية - اختصاص (المكتبة العربية) . - حائزة على شهادة الدبلوم في التأهيل التربوي. - حائزة على الشهادة الدولية لقيادة الحاسوب . الكتب المؤلفة : - حركة التأليف الأدبي عند العرب في القرنين الرابع والخامس الهجريين . - نثر الدر للآبي أنموذجا . - تراجم النساء في التراث الأدبي العربي حتى نهاية العصر العباسي . - دراسة نقدية تحليلية . الكتب قيد الإنجاز : - المدخل إلى أصول البحث . المؤتمرات المشاركة بها : - ندوة (الألفاظ والأساليب والأصول) التي أقيمت في مجمع اللغة العربية - دمشق 2015 م . - منتدى (تعزيز البنية المعرفية والثقافية والأخلاقية للمواطن السوري) - وزارة الثقافة 2015 م . الأبحاث المنشورة : - توظيف الخبر في كتاب (نثر الدر) للآبي ومجلة التراث العربي . - حوار الخطابات في كتاب (نثر الدر) للآبي - مجلة جامعة أم القرى . - أفق الخطاب الهزلي في كتاب (نثر الدر) للآبي - مجلة جامعة دمشق . - تراجم الشواعر في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني - مجلة جامعة البعث . مشاريع بحثية قيد الإنجاز : - جهود إغناطيوس كراتشكوفسكي في دراسة الأدب الجغرافي عند العرب - دراسة نقدية تحليلية. - المعجم الإلكتروني بين النظرية والتطبيق . العمل : - دكتورة في جامعة البعث - كلية الآداب والعلوم الإنسانية - قسم اللغة العربية - اختصاص المكتبة العربية . - منذ 2014م وحتى تاريخه . - معيدة في جامعة البعث - كلية الآداب والعلوم الإنسانية - قسم اللغة العربية - اختصاص المكتبة العربية . - منذ 2005م وحتى 2014م . المواد التي قمت بتدريسها : - مادة (المكتبة العربية) . - مادة (المدخل إلى أصول البحث) . - مادة (دراسات لغوية وأدبية في القرآن الكريم) . - مادة (دراسات لغوية وأدبية في الحديث الشريف) . - مادة (الأدب الأموي) - الجانب العملي . - مادة (الادب الإسلامي) الجانب العملي . - مادة (اللغة العربية) لغير المختصين .
هذا الكتاب الرومانسية تسعى هذه الحلقة في > تأصيل مصطلح الرومانسية في مناشئه الفكرية والأدبية ، وكذلك في ظهوره وتطوراته في الثقافتين العربية الإسلامية والغربية . لقد سعت الباحثة السورية الأستاذة نغم عثمان مقارباتها لمفهوم الرومانسية على أبرز المرجعيات المعرفية التي أسست لهذا المصطلح ولا سيما في مرحلة الحداثة في أوروبا ابتداء من القرن الحادي عشر ميلادي . المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف