تأليف
د. محمد عبد المهدي سلمان الحلو
مقدمة المركز
تهدف سلسلة «نحن والغرب» إلى إحياء الحركة المعرفيّة والنقديّة وتفعيلها حيال فكر الغرب وقيمه في الثقافة العربيّة والإسلاميّة المعاصرة.
وتقوم منهجيّة هذه السلسلة على تظهير أعمال مفكِّرين وعلماء من الذين أثروا الثقافة العربيّة والإسلاميّة بإسهامات نقديّة وازنة في سياق المساجلات والمناظرات مع الأفكار والمفاهيم الغربيّة، ولا سيّما منها التي ظهرت بالتزامن مع تدفّقات الحداثة وما رافقها من عمليّات توسّع استعماريّ إلى بقيّة العالم.
* * *
لا يخفى على الباحث أنّ أهمّيّة البحث في نظريّة المعرفة تتأتّى من جهة أنّ تقييم جميع المدارس الفلسفيّة، والمناهج العلميّة، يتوقّف على المنحى والاتجاه المتّخذ في المعرفة، فما لم يتخذ الباحث رأيًا حاسمًا في المسائل المطروحة في نظريّة المعرفة (مصدر المعرفة، قيمة المعرفة، حدود المعرفة)، لا يصحّ منه الإذعان بأيّ قانون فلسفيّ أو مسألة علميّة، بمعنى أنّ أبحاث نظريّة المعرفة توفّر خيارات الباحث المعرفيّة. ولقد شكّل تناول العلّامة الطباطبائيّ لنظريّة المعرفة ومسائلها بشكل مفرد ومستقلّ ظاهرة غير مسبوقة في الفلسفة الإسلاميّة.
وفي هذا السياق يأتي هذا الكتاب ((فطريّة التوحيد الدينيّ ـ الاجتماعيّ، كدراسة تحليليّة نقديّة للدكتور محمّد عبد المهدي سلمان الحلو، والذي يتناول فيه بالبحث والتحليل نظريّة العلّامة الطباطبائيّ في نقد الفكر الغربيّ؛ وذلك بالاستناد إلى ما قدّمه العلّامة الطباطبائيّ(قدس سره))) في نظريّة المعرفة، الناقدة للمعرفة الغربيّة (الحسّيّة والعقليّة) مستعرضًا لأهمّ النظريّات التي نقدها، مميّزًا بين الواقعيّة والمثاليّة، ومعالجًا للنظريّة الماركسيّة، وهل هي مثاليّة أو واقعيّة؟
مع التركيز على علاقة الفطرة بالتوحيد، وعلاقتهما بالبناء الاجتماعيّ، مقاربًا بين البناء الاجتماعيّ الموازن بين المادّة والروح، والنظام المعتمد على البعد المادّيّ، إضافة إلى دراسة متعلّق الإسلام بالبناء الاجتماعيّ والتحاكم بينه وبين الديمقراطيّة في قيادة المجتمع نحو النجاح أو الإخفاق، وأهمّيّة العقيدة فيه والفرق بينها وبين التقدّم البشريّ في المجتمعات الغربيّة.
هذا، ومن المعلوم أنّ العلّامة الطباطبائيّ قد افتتح حوارًا عقليًّا معمّقًا مع اتجاهات الفلسفة الأوربيّة الحديثة ولاسيّما المادّيّة الديالكتيكيّة، منطلقًا من ضرورة تحليل أصولها ومرتكزاتها ونقدها، بعد اتّساع ظاهرة التغريب، ودخول التيّار الماركسيّ خطّ الصراع، وأنّ تعاطي الطباطبائيّ مع الغرب لم يقتصر على فلسفته في مقالات كتاب أصول الفلسفة، وإنّما سبقته ورافقته حلقات ومحطّات التقى فيها الطباطبائيّ مع الفكر الغربيّ ورجاله وسلوكه وأنظمة حضارته محاورًا وناقدًا، منها: سلسلة حواراته ولقاءاته مع المستشرق الفرنسيّ هنري كوربان، ولقائه الحواريّ الناقد مع المستشرق الأميركيّ كينيث مورغان (معاصر، تولد 1934م) الذي قضى شطرًا من حياته في الشرق، وكانت له لقاءات وتواصل مع رجال الفكر وعلماء الدين في الأديان المختلفة.
إنّ المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة إذ يقدّم هذه السلسلة إلى القرّاء، يحدوه الأمل بأن يُسهم هذا المسعى المعرفيّ في تنشيط فضاءات التفكير النقديّ وتأسيس مناخات فكريّة جادّة في العالمين العربيّ والإسلاميّ في هذا المجال.
والله وليّ التوفيق
المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة
مقدمة المؤلف
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
وبعد:
حقًّا، إنّ العالم الإنسانيّ يكوّنه آحاد الأفراد، وآحاد الأفكار، وآحاد الأعمال، بما تملك هذه (الآحادات) الثلاث من القوّة والنفوذ في مجالها الإنسانيّ ـ المعرفيّ والواقعيّ، والعلّامة (رحمه الله)، من كبار الآحاد، جاء بكبار الآحاد من الأفكار، تناولها بكبار الآحاد من الأعمال المعرفيّة، وهل يوزن (الميزان) بميزان إلا وارتفعت كفّته، ورجّحت معياريّته، ففي حديقة الفكر يتكوثر النتاج، وإذا نظر الإنسان إلى طعامه، يجد فيه قطوفًا دانية، تشتهيها الأنفس وتلتذّ بها الأعين.
وقطف البحث مقاربات نظريّة، وضعت المشرط بين حضارتين، قارنت وأفرزت الغثّ من السمين، تناولت الواقع ببساط الفكر، بين حضارة أرجعت كلّ ما لديها إلى السماء، وأخرى أخلدت بها إلى الأرض.
واعتمد البحث على (الأم) من الأفكار، التي قادت إلى (الأقوم) من النتائج، فكانت (الأم) الفطرة في صبغة التوجّه الدينيّ، وكان (الأقوم) السعادة في البناء الاجتماعيّ، عند هذا وذاك من الفرقاء، مقارعة العلماء الحجّة بالحجّة، والدليل بالدليل، على ضوء هدي بشريّ يرى بنور السماء، وهدي بشريّ يرى المادّة وحسب.
اعتماد العلّامة على الفطرة، والتوسّل بها بمسائل العقائد، وأخصّها التوحيد، شكّل برنامجًا معرفيًّا في بناء الأسس الفكريّة والعماد للحضارة الإسلاميّة، وشكّل –أيضًا- بناءً نقديًّا لفكر مادّيّ قام على الصراع والتنازع والبقاء للأقوى.
توزّعت الدراسة بين مقدّمة وتمهيد وفصلين، أشارت المقدّمة إلى (ضرورة) الفطرة في هذا النسج وارتباطاتها التشعّبيّة مع أصول الدين وخاصّتها التوحيد والمعاد في بناء الفرد المسلم هدف الدين الحنيف، ليكون لبنة المجتمع الإنسانيّ القائم على سعادتين، سعادة الذات، وسعادة المجتمع، المعطوفة على سعادة الدنيا والآخرة.
وكان الفصل الأوّل بمبحثين، الأول منها اهتمّ بالفطرة أصلًا قرآنيًّا، ونظامًا طبيعيًّا، تقود الفرد نحو الكمال، صلة بين هداية تكوينيّة وتشريعيّة. فالمنهج الفطريّ، منهج دينيّ، يقوم بدعائم ثلاث: واقعيّته، ونظرته نحو المساواة، والتوازن بين المادّيّة والمعنويّة، وهو منهج يقوم على الإلهام، ويدعمه المنطق.
في حين تطرّق المبحث الثاني إلى نظريّة المعرفة، الناقدة للمعرفة الغربيّة (الحسّيّة والعقليّة)، مستعرضًا لأهمّ النظريّات التي نقدها، مميّزًا بين الواقعيّة والمثاليّة، ومعالجًا للنظريّة الماركسيّة، وهل هي مثالية أو واقعيّة؟ معرجًا على نظريّات الشكّ، دارسًا لها، ومبديًا رأيًا حولها، لتكون نظريّة العلّة والمعلول دراسة مميّزة ونظريّة فريدة قدّمها العلّامة اعتماد قرآنيّ آخر لما تناوله في الفصل الأوّل.
أمّا الفصل الثاني بدوره كان على محورين أيضًا، تمخّض عن علاقة الفطرة بالتوحيد، وعلاقتهما بالبناء الاجتماعيّ، مقاربًا بين البناء الاجتماعيّ الموازن بين المادّة والروح، ونظام معتمد على البعد المادّيّ، خرجا بنظريّة الاستخدام في البناء الاجتماعيّ في مقابل نظريّات غربيّة حديثة ومعاصرة فسّرت أسس الاجتماع الإنسانيّ وروحها، ودور هذه النظريّات بالبناء. وفي المبحث الثاني من الفصل الثاني درس متعلّق الإسلام بالبناء الاجتماعيّ والتحاكم بينه والديمقراطيّة في قيادة المجتمع نحو النجاح أو الإخفاق، وأهمّيّة العقيدة فيه والفرق بينها وبين التقدّم البشريّ في المجتمعات الغربيّة.
وتوّج البحث خاتمة للعمل ومحتويات ومصادر للبحث، آملًا من الغنيّ العزيز قبول ما لدى الفقير من بضاعة، معتذرًا للقارئ الكريم عن الضيق وقت السعة، فالعلّامة واسع بفكره، والموضوع ضنين في عطائه، ومنه تعالى أستمدّ العون والحمد لله ربّ العاملين وصلّى الله على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
محمّد عبد المهدي سلمان الحلو