فهرس المحتويات

العتبة العباسية المقدسة المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية سلسلة مصطلحات معاصرة 26 فلسفة الدين المصطلح من الإرهاصات إلى التكوين العلمي الراهن غيضان السيد علي
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها ، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار ، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظمة الفكرية المختلفة. ثانيا:إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لا سيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقة. ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ، ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

 

الفهرس

مقدمة المركز7

 مقدّمة9

الفصل الأول: ما الفلسفة؟ وما الدين؟16

الفصل الثاني: العلاقة بين الفلسفة والدين36

من حيث النشأة37

من حيث الموضوع41

من حيث المنهج44

من حيث الغاية49

الفصل الثالث: مفهوم فلسفة الدين56

أولًاـ التعريف بالمفهوم:56

ثانيًاـ أهم الفلاسفة المنظرين لفلسفة الدين71

الفصل الرابع: الموضوعات الكلاسيكيّة لفلسفة الدين96

أولًاـ وجود الله97

(4)

 

فهرس

ثانيًاـ الوحي والنبوة107

ثالثًا: المعجزات112

رابعًا: مشكلة الشر في العالم119

خامسًا: البعث والخلود126

الفصل الخامس: فلسفة الدين والمسائل المتعلقة بطبيعة الدين نفسه136

أولًا: التجربة الدينيّة138

ثانيًا: المعرفة الدينية145

ثالثًا: التعددية الدينية150

رابعًا: اللغة الدينية157

خامسًا: الهرمنيوطيقا167

الخاتمة176

قائمة المصادر والمراجع182

(5)
(6)

مقدمة المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً إلى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحوالتالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أويجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

(7)

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

 * * *

تسعى هذه الدراسة إلى الإضاءة على واحدة من أبرز ما أنتجته المعرفة المعاصرة في حقل الفلسفات المضافة، عنينا بها فلسفة الدين.

يتضمن الكتاب الذي نقدمه للقارئ العزيز في إطار سلسلة مصطلحات معاصرة تعريفات بفلسفة الدين من ناحية الاصطلاح والمفهوم، كما يلقي الضوء على أبرز الفلاسفة واللاهوتيين الذين ساهموا في تظهير هذا المصطلح. ناهيك عن المذاهب والتباينات الغربية التي اهتمت بهذا الحقل.

 

والله ولي التوفيق

(8)

المقدمة

تُعد فلسفة الدِّين أحد المباحث الفرعيّة للفلسفة حسب التقسيم الكلاسيكي لمباحث الفلسفة، والذي يقسّمها إلى ثلاثة مباحث رئيسيّة هي: الوجود والمعرفة والقيم (الأنطولوجيا والإبستمولوجيا والإكسيولوجيا)، وثلاثة مباحث فرعيّة، هي: فلسفة الدين والتاريخ والقانون. وفلسفة الدِّين ابتداءً هي ممارسة التفكير الفلسفي في المعطى الديني، وهي جزءٌ لا يتجزأ من الفلسفة العامة مهمته الكشف عن جوهر الدين ومقاصده وفوائده، من خلال القيام بتأملاتٍ عقليّةٍ حول حقيقة الدين والظواهر الدينيّة دون الاعتماد أو التقيد بدينٍ معيّن، ودون تبنّي مواقفَ مسبقةٍ كالدفاع  أو المواجهة.

وهي ـ في الحقيقة ـ مبحثٌ حديثٌ نسبيًا، يعود ظهوره إلى العصر الحديث، وخاصةً إلى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط I. Kant (1724 ـ 1804) وإلى كتابه «الدين في حدود العقل وحده» الذي نشره عام 1793م؛ حيث ظهر في هذا الكتاب لأوّل مرةٍ البحث الفلسفي المنظم للدين من حيث هو دين كمبحثٍ فلسفيٍ مستقلٍ عن سائر فروع الفلسفة الأخرى. وكان هذا الكتاب في الحقيقة بمثابة التمهيد الأكبر لظهور أولّ كتاب يحمل عنوانه مصطلح «فلسفة الدين» صراحةً، وهو كتاب الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فردريك هيجل F. Hegel  G. W.(1770 ـ 1831) «محاضرات في فلسفة الدين»، وهي محاضرات تعود إلى عامي 1827م و1830م، وقد تم نشرها بعد وفاته بعام واحد، أي في حدود عام 1832م.

(9)

ومن ثمَّ فإنَّ فلسفة الدِّين تنطلق في المقام الأول من مطلب العقلنة الذي يجعل من الدين موضوعًا للعقل، أي أَنْ تفكر الفلسفة في الدين دون أن تتحول إلى فلسفةٍ دينيّة. ولذلك، وبادئ ذي بدء، يجب أن نفرّق بين الفلسفة الدينيّة وفلسفة الدين؛ فالفلسفة الدينيّة هي تلك التأملات العقليّة غير المبرّأة من الانحياز من البداية إلى النهاية لدينٍ ما، أو الواقعة في حيز الدفاع اللاهوتي أو العقائدي، والتي قدَّمها اللاهوتيون والفلاسفة الميتافيزيقيون والمتكلمون وغيرهم حول قضايا الدين على مدار التاريخ حتى العصر الحديث، وهي تشمل تلك المواقف العقليّة لفلاسفة اليونان، وفلاسفة الإسلام، وفلاسفة العصور الوسطى، وكل ما كُتب في ميادين علم الكلام أو اللاهوت قبل ظهور كتاب كانط «الدين في حدود العقل وحده»؛ وذلك لسببين واضحين هما: إن هذه المواقف وتلك التأملات حول الدين لم ترقَ لكي تشكّل بحثًا منهجيًا منظمًا ونسقيًا لفلسفة الدين كما ظهرت عند كانط وهيجل. كما أنّ معظمها انحازت لموقفٍ مسبقٍ انطلقت منه للبرهنة عليه بأدلة عقلانيّة. إلا أننا من الممكن أن نجد إرهاصاتٍ واضحةً وجليّةً عبر التاريخ الفلسفي كله استطاع أن يستفيد منها الألمانيان الكبيران كانط وهيجل لتحديد فلسفة الدين كعلمٍ معرفيٍ مستقلٍ له حدوده ومناهجه وموضوعاته. وإن كانت أقوى هذه الإرهاصات على الإطلاق تكمن في ما قدَّمه كل من باروخ سبينوزا B. Spinoza (1632 ـ 1677) وديفيد هيوم D. Hume (1711 ـ 1776)، ولكنها تبقى ـ في حقيقتها ـ مخاضاتٍ قويةً نتجت عنها «فلسفة الدين» بشكلها المحدد والمستقل بموضوعاته ومناهجه.

(10)

وإذا كان مفهوم فلسفة الدين يتكون من مصطلحين كبيرين هما: مصطلح «فلسفة» ومصطلح «الدين»، فإنّ المصطلحين قد يظهران عند كثير من الباحثين متضادَين متناقضَين؛ حيث تظهر الفلسفة في كثير من الأحيان ضد الدين ومناهضةً له، وكثيرًا ما نشاهد الصراع بين الدين والفلسفة على مر العصور.

كما أنَّ الوقوف على حقيقة الهدف الأسمى للدين ـ الذي جاء ليملأ القلوب بالطمأنينة، والمجتمعات بالمحبة، والأمم بالسلام ـ يزيل ذلك الوضع الملتبس الذي أصبحت تعانيه الأديان نتيجة المتغيرات الحضاريّة والفكريّة الراهنة؛ حيث أصبح الدين ـ بعكس حقيقته ـ مُحَمّلًا بجملة من الاتهامات: كالدوجماطيقية، والاستئثار بالحقيقة، ورفض الآخر، والانغلاق على نظام قِيَمٍ معيّنٍ بصورةٍ جامدة، وعدم الرغبة في البحث عن أرضيةٍ مشتركةٍ لفتح قنوات الحوار مع هذا الآخر المخالف، مما يجعل من الدين السبب الأول للصراع الفردي والاجتماعي. ولذلك تَشِيْعُ المذاهب الإلحاديّة على اختلاف صورها، وتُقَدَّم على أنها رد فعلٍ للجمود الديني وعدم عقلانيته. ومن ثمَّ كان الحل الأمثل لكل هذه الإشكاليات يتمحور حول دراسة الدين دراسةً فلسفيّةً موضوعيّةً بعيدةً عن أي تحيّز؛ بغية تحرّي الحقيقة والوقوف على الغايات النبيلة لكافة الأديان، وكشفًا للأجندات الأيديولوجيّة التي تُحَمِّل الأديان أوزارًا هي بريئة منها براءةً تامة؛ إذ تسعى قاصدةً الحقيقة وحدها، مُبَيّنَةً ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله حيال الدين بظواهره وحقائقه من منظور عقلي محض. كما أنَّ «فلسفة الدين»، ذلك الأفق الفسيح للدراسات الدينيّة، ما زال ملتبسًا في أذهان الكثيرين رغم أهميته الراهنة للتخلص من كافة

(11)

صور التعصب والعنف والكراهية القائمة على أساس ديني بين أهل الدين الواحد بمختلف طوائفه، وبين الدين نفسه والأديان الأخرى، سواء كانت سماويةً أو وضعية؛ إذ إنها تبحث في المقام الأول فيما هو مشترك في الأديان وعابر للحدود الاعتقادية الضيقة، دون إغفال ما هو جوهري وأساسي ومميز لكل دين.

ولا تتحقق هذه الغايات ـ التي يأتي على رأسها الوقوف على ماهية وحقيقة مفهوم «فلسفة الدين» منذ إرهاصاته الأولى وحتى تكوينه العلمي الأكاديمي الدقيق ـ دون التحليل الفلسفي النقدي للقضايا الدينيّة، وإعادة التفكير العقلاني الحُرّ للدين من حيث هو دين، من أجل تكوين معرفةٍ علميّةٍ ببنية وتكوين التفكير الديني، والخروج من دائرة التفكير غير الموضوعي في طبيعة العلاقة مع المطلق. ولذلك اعتمدت هذه الدراسة على مجموعة من المناهج العلميّة كان أهمها: المنهج التاريخي الذي يتابع التناول العقلاني للأفكار والموضوعات الدينية المتعددة منذ نشأتها وحتى الوقت الراهن؛ والمنهج المقارن ليس بمعناه التقليدي الضيق القائم على أساس علاقتي التشابه والاختلاف فقط، وإنما بمعناه الأوسع والأرحب الذي يرصد لعلاقات التشابه، والاختلاف، والأثر، والتأثُّر، والتطور، والانتكاس، والامتزاج، والتضمن، وغيرها من علاقاتٍ ممكنةٍ بين الرؤى المختلفة التي تتضمنها هذه الدراسة؛ وكذلك المنهج التحليلي الذي يُحلل الرؤى والنصوص المختلفة والمتعددة بغية الوقوف على مراميها الحقيقية؛ بالإضافة إلى المنهج النقدي لنقد الأفكار التي تخلط بين اللاهوت، وعلم الكلام، والفلسفة الدينيّة من ناحية وبين فلسفة الدين من ناحية أخرى.

(12)

ولأجل الوقوف على السيرة الحقيقية لمفهوم «فلسفة الدين» من الإرهاصات الأولى وحتى تكوينه كمبحثٍ معرفيٍ مستقلٍ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحصوله على اهتمامٍ متزايدٍ في القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، عمدنا إلى تقسيم هذه الدراسة إلى مقدمةٍ وخمسة فصول وخاتمة. تضمنت المقدمة أهمية الدراسة ودوافعها ومبرراتها ومناهجها وتفاصيلها الكلية، في حين اهتم الفصل الأول بالبحث في ماهية الفلسفة وماهية الدين بوجه عام، فجاء بعنوان: «ما الفلسفة؟ وما الدين؟»، وناقش الفصل الثاني «العلاقة بين الفلسفة والدين»، في حين جاء الفصل الثالث بعنوان «مفهوم فلسفة الدين»، ليعتني بتقديم التعريفات الاصطلاحية والاشتراطية والإجرائية لمفهوم فلسفة الدين كما يعرض لأهمّ المُنَظرين للمفهوم، بينما رصد الفصل الرابع لأهمّ «الموضوعات الكلاسيكية لفلسفة الدين»، في حين تناول الفصل الخامس «فلسفة الدين والمسائل المتعلقة بطبيعة الدين نفسه». وجاءت الخاتمة لترصد أهم النتائج التي توصل إليها التناول النقدي للمصطلح. 

(13)
(14)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

ما الفلسفة؟ وما الدين؟

(15)

الفصل الأول: ما الفلسفة؟ وما الدين؟

إنَّ تحليل مكونات مصطلح «فلسفة الدِّين» يكشف أنّه يتكون من مصطلحين كبيرين هما «الفلسفة» و«الدين». ولذلك اقتضى البحث في مفهوم «فلسفة الدين» وجوب فهمنا لأصله، ألا وهي «الفلسفة»، والوقوف على ماهية مفهوم «الدين» في حد ذاته باعتباره أحد المفاهيم الجيدة التي يمكن بحثها فلسفيًا. فما الفلسفة؟ وما الدين؟ أعتقد أنَّ البحث عن ماهيّة الفلسفة عبر التاريخ أمرٌ لا يتحمله نطاق هذه الدراسة؛ ولذلك سوف نعرّف الفلسفة فقط من خلال المدخل الذي يساعدنا على بيان المقصود بمصطلحنا الأساسي وهو «فلسفة الدين».

إذا كانت الفلسفة هي المضاف في التركيب اللغوي لمفهوم «فلسفة الدين»، والدين هو المضاف إليه، فإن هذا يعطيها الدور الفاعل في المفهوم، ويجعل المفهوم ينتمي برمته إلى الحقل الفلسفي لا إلى المجال الديني. والفلسفة هي «إعمالٌ للفكر في واقع الإنسان وواقع العالم وواقع الله وواقع التاريخ، وفي معضلة الوجود، ومعضلة المعرفة، ومعضلة المسلك الإنساني، وفي الجواهر والأسباب والغايات والمعاني، وفي أصول التفكير وأسس الاختبار وقواعد البناء النظري [...] وتسعى إلى صياغة إدراكٍ شاملٍ للكون توحد به توحيدًا منهجيًا ضابطًا جميع عناصر الواقع ومراتبه، وذلك من غير أن تتغاضى عن أيٍّ منها»[1]. أو هي «محاولة العقل الإنساني تكوين علمٍ كُلِّيٍّ بالوجود على كلِّ مستوياته: الألوهيّة، والإنسان،

(16)

والكون. من أجل تكوين رؤيةٍ شاملةٍ للقوانين العامة التي تحكم الوجود، وبنيته، ومقاصده، وتسعى إلى الإجابة عن أسئلة الإنسان الأزليّة: الإنسان.. من أين؟.. وإلى أين؟ العالم.. ما حقيقته؟.. وإلى أين يسير؟ الوجود.. لِمَ كان؟.. ولِمَ لَمْ يكن بالأحرى عَدمًا؟ الله.. هل هو كائن؟.. وماذا يريد منا؟ ومن هنا فالفلسفة ما هي إلا حركة سير الإنسان نحو محاولة معرفة الحقيقة. إنها مسار الفكر الذي لا يكتفي بأن يفكّر في المادة والحسِّ؛ بل يقفز إلى عالم المجرد، لكي يكتسب الوجودُ معنًى يمكن أن يعيش الإنسان من أجله»[1].

والفلسفة لا تدَّعي امتلاك الحقيقة المطلقة أو اليقين التام، فهي قد تصل إلى جزءٍ من الحقيقة أو أجزاءٍ منها، وقد تصيب وقد تخطئ، وقد تتفق مع الدين أو تختلف معه. وربما يختلف منهج الدين عن منهج الفلسفة في بعض الحالات، وكذلك الموضوع والغاية، لكنهما قد يصلان إلى نتائج متشابهة أحيانًا، ونتائج متباينة أحيانًا أخرى. وكل هذا يتوقف على الطبيعة الخاصة لكل فلسفة من الفلسفات، كما يتوقف على طبيعة الدين نفسه عند كل طائفة من الطوائف[2]. إذًا الفلسفة هي إعمال العقل في كل شيء؛ في الوجود الطبيعي، والبشري، في المعرفة وآلياتها المختلفة، في الأخلاق ومصادر الإلزام الخلقي، في الدين، والفن، والقانون، والسياسة. الفلسفة هي محاولاتٌ جادة وخبراتٌ تراكمية لفهم الأنا، والآخر، والعالم من حولنا.

(17)

ومع ذلك يصعب تعريف الفلسفة تعريفًا جامعًا مانعًا؛ أي جامعًا لخصائصها وعناصرها وغاياتها، مانعًا لدخول مناهج غريبة عنها؛ وذلك للطابع الشخصي الواضح فيها، إذ إنَّ كلَّ فيلسوف يعرّف الفلسفة بحسب مذهبه الفلسفي الذي ينتمي إليه، أو بحسب نظرة عصره إلى الفلسفة. وفي ذلك يرى بعض الباحثين أنَّ صعوبة تعريف الفلسفة يرجع إلى عاملين أساسيين: أولهما أن الفلسفة يختلف معناها باختلاف المذاهب الفلسفية المتباينة، وبناءً عليه فإن التعريف الذي يقدمه المذهب التجريبي للفلسفة يرفضه المذهب المثالي، والتعريف الذي يقول به الفيلسوف الهيجلي يرفضه الفيلسوف البرجماتي. وثانيهما أنّ معنى الفلسفة نفسه يختلف باختلاف العصور التاريخية؛ فالتعريف الذي كان سائدًا ـ على سبيل المثال ـ في العصر اليوناني أو العصر الوسيط تغيّر في العصور الحديثة، كما تغيّر في الفلسفة المعاصرة[1]. فإذا كانت الفلسفة في العصر اليوناني هي إمكان الوصول إلى معرفةٍ يقينيةٍ، وكانت ـ أيضًا ـ  بحثًا عن المتعة العقليّة الخالصة بغض النظر عن أي جانبٍ عملي، فإنها في فترات أخرى من العصر اليوناني نفسه، وهو عصر الرواقيين والأبيقوريين، كانت المدبرة لحياة الإنسان. وفي العصور الوسطى كانت الفلسفة خادمةً للدين؛ أي إنَّ مهمتها الأولى والأساسية البرهنة على صحة القضايا الدينيّة وتبريرها عقليًا. وكانت عند الفلاسفة المسلمين أداةً للتوفيق بين العقل والنقل أو

(18)

الحكمة والشريعة. وفي الفلسفة الحديثة رفض فلاسفتها وصاية الدين على الفلسفة، وعمدوا إلى تحرير العقل، فتمثلت الفلسفة نقيضًا للدين في معظم الأحيان. وفي الفلسفة المعاصرة بدت الفلسفة عند البرجماتيين وسيلةً أو ذريعة لتحقيق المنافع العملية. كما تجلت عند ماركس والماركسيين طريقةً للعمل على تغيير العالم، وتغيير نظمه القائمة، وتخليص الإنسان من الظلم، وطغيان الخرافات والأساطير.

وعلى الرغم من ذلك، فإنه يمكننا أن نضع بعض التعريفات العامة التي تقرّب معنى الفلسفة للقارئ، ولا يشعر حيال مفهومها بالاغتراب ، فلفظ «فلسفة» هو لفظ يوناني، مكون من مقطعين «فيلو» و«سوفيا»، المقطع الأول يعني «حب» أو «محبة»، والثاني يعني «الحكمة». ومن ثمَّ تصبح الفلسفة حسب هذا المعنى اللفظي «محبة الحكمة». والحكمة عند اليونان هي فن العيش، وكيفية مواجهة الحياة، وهي ـ في الوقت ذاته ـ  نوعٌ من المعرفة يهدف إلى الوصول إلى المبادئ الأولى والعلل البعيدة لكافة الظواهر. واشتهرت الفلسفة في العصر اليوناني بأنها العلم بأعمّ معانيه: النظري من طبيعيات ورياضيات وإلهيات، والعملي من أخلاق وسياسة واقتصاد، فهي علم الكل، علم العلل الأولى والغايات العليا. وهي علم يحمل قيمته في ذاته، ولا يتوسل به لهدف آخر غيره. وإن كان هذا المعنى قد تغير على أيدي الرواقيين والأبيقوريين، حيث إنهم راعوا فيه الناحية العمليّة لنتائج التفكير الفلسفي، وقيمة النظريات العامة التي تشرح الغاية من حياة الإنسان، ومن ثم اقتربت الفلسفة اقترابًا كبيرًا من الأمور الدينيّة، فصارت في هذا العصر اليوناني

(19)

المتأخر تعنى بمعرفة الأمور الإلهية جنبًا إلى جنب بمحاولتها إدراك المعارف البشرية. كذلك اعتنت بالتفكير في الموت وفيما بعد الموت؛ ولذلك نجد دعواتٍ كثيرةً في هذا العصر إلى ضرورة التشبه بالآلهة بقدر ما تسمح به الطبائع البشرية.

وقام المفهوم المسيحي للفلسفة في العصور الوسطى على أنها محاولة التوفيق بين الوحي والعقل، والرغبة في جعل سلطة العقل القديم وسلطة الدين الجديد على وفاق واتساق، والبرهنة على أن الحقائق الموحى بها من الله ليست إلا تعبيرًا عن العقل، ومن ثم كان الإيمان ضروريًا للعقل وشرطًا لصحة تفكيره كما قال القديس أنسلم St. Anselm (1033 ـ 1109)[1].

وفي المفهوم الإسلامي حدّها الكندي (أول فلاسفة العرب، + 833م) بأنها «علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان؛ لأن غرض الفيلسوف من علمه إصابة الحق وفي عمله العمل بالحق»[2]. ويذكر الكندي التعريف اللفظي الاشتقاقي للفلسفة في رسالة الحدود، كما يذكر تعريفات أخرى للفلسفة، ومنها: «الفلسفة هي التشبُّه بأفعال الله تعالى، بقدر طاقة الإنسان، أرادوا أن يكون الإنسان كامل الفضيلة»، وهي أيضًا «العناية بالموت، والموت عندهم موتان: طبيعي وهو ترك النفس استعمال البدن؛ والثاني إماتة الشهوات فهذا هو الموت الذي قصدوا إليه؛ لأن إماتة الشهوات هو السبيل إلى

(20)

الفضيلة»، وأيضًا هي «صناعة الصناعات وحكمة الحكم»، وكذلك هي «معرفة الإنسان نفسه»[1]. ومبتغى الفلسفة عند الكندي هو علم الأشياء بحقائقها؛ ولذلك فلا تعارض بينها وبين الدين فالفلسفة علم الحق والدين كذلك. وهو التعريف ذاته الذي نجده عند أبي نصر الفارابي (+ 950م)، إذ يقول: «الحكمة معرفة الوجود الحق»[2]. والتعريف نفسه نجده عند الشيخ الرئيس ابن سينا (+ 1087م)، الذي يرى أن الفلسفة هي «الوقوف على حقائق الأشياء كلها سواء أكان وجودها باختيارنا أم خارجًا عن إرادتنا. وهي نظرية وعملية، ويضع تحت النظرية الطبيعيات والرياضيات والإلهيات، وتحت العملية تدبير المدينة وتدبير المنزل والأخلاق»[3]. أي إنَّ الفلسفة عند الفلاسفة المسلمين هي معرفة الأشياء بحقائقها، وهو الأمر الذي ظل يتردد في الفلسفة الإسلامية حتى عصر أبي الوليد بن رشد (1126 ـ 1198م) أخر فلاسفة العرب الذي أفصح في كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» عن أن الفلسفة حق والدين حق، و«الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له»[4]، وأن هدف الفلسفة الوقوف على معرفة الخالق الحق، حيث يقول: «إن فعل الفلسفة ليس شيئًا أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها،

(21)

من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإنَّ الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وإنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتمّ، كانت المعرفة بالصانع أتمّ»[1]. ومن ثمَّ كانت الفلسفة عند ابن رشد هي صاحبة الشريعة، والأخت الرضيعة، وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة.

وفي الفلسفة الحديثة اختلف مفهوم الفلسفة اختلافًا بيّنًا؛ حيث أصبحت بحثًا عن أنسب المناهج للوصول إلى المعارف المختلفة. فقد اتجهت الفلسفة الحديثة إلى البحث في المعرفة، واهتمت بدراسة طبيعتها، للوقوف على حقيقة العلاقة التي تربط بين قوى الإدراك والأشياء المُدرَكة، فكان الجدل العنيف الذي دار بين مذاهب المثاليين ومذاهب الواقعيين، ودارت الكثير من المباحث الإبستمولوجية حول أدوات المعرفة ومصادرها، فكان النزاع بين مذاهب العقليين والحدسيين من ناحية ومذاهب التجريبيين والوضعيين من ناحية أخرى، بل امتد الجدل عند بعض المحدثين حول إمكان قيام المعرفة الصحيحة، فكان التعارض بين أصحاب مذهب الشك ودعاة مذهب التيقن. وهكذا عكست الفلسفة الحديثة الآية، فإذا كانت الفلسفة القديمة قد اهتمت بالوجود ونظرت إلى المعرفة من خلاله، فإن فلسفة المحدثين قد اهتمت بالمعرفة ونظرت إلى الوجود من خلالها[2].

أمّا مفهوم الفلسفة في الفلسفة المعاصرة فقد تحول ـ بشكل كبير ـ إلى ذلك الفرع من المعرفة الذي يهتم بدراسة الإنسان في

(22)

وجوده الواقعي. حيث تتميز الفلسفة المعاصرة بوجه عام بالنزوع إلى مقاومة الآلية، واحتضان النزعة الإنسانية، والنفور من الاعتقاد بأن الطرق الماديّة، وتطبيقات العلوم الإنسانية تتكفل بحل جميع المشاكل التي تقلق الإنسان. ويعود هيدجر Heidegger (1889 ـ 1976) بالفلسفة إلى أصولها اليونانية القديمة، فيري أن «فيلوسوفيا» لا تعني حب الحكمة؛ بل يرى أن «السوفيا» هي الإنسان الذي يداني الأشياء مداناة القربى والألفة، ويدرك طبيعتها وحراكها ووظائفها وقوانينها. أما «الفيلو» فمعناها الشركة مع الأشياء. وبذلك تصبح الفلسفة في معناها الجديد فن الشركة مع أشياء الوجود[1]. ويمكن تلخيص مواقف الاتجاهات المعاصرة في النظر إلى الفلسفة بأنها علم الوجود العام الكلي الذي يهتم بتحديد مكانة الإنسان في هذا الوجود الكلي، وكيفية تحقيق الرفاه العام لهذا الإنسان.  أو إنكار هذا الوجود العام والاقتصار على دراسة الواقع المحسوس كما عند التجريبيين باختلاف توجهاتهم. أو النظر إلى الفلسفة على أنها مجرد منهج هدفه تحليل اللغة تحليلًا منطقيًا كما عند الوضعيين المناطقة. أو أنها البحث الذي يهدف إلى تغيير العالم وخلق مستقبلٍ جديدٍ للبشرية كما ذهب الماركسيون. أو أنَّها البحث الذي يهدف إلى النظر في أنسب الوسائل أو الذرائع لتحقيق المنافع العملية. أو هي النظر في أنسب المناهج للتفسير، والفهم، والتأويل، وإعادة القراءة كما عند الهيرمينوطيقيين أو البنيويين أو التفكيكيين أو دعاة ما بعد الحداثة بصفة عامة. 

 أمّا الدّين فهو مصطلح أيضًا له معانٍ ودلالات شتى، فبتقضى

(23)

معناه اللغوي في المعاجم والقواميس اللغويّة يمكن حصر معانيه في: الطاعة، والخضوع ، والانقياد والجزاء، والمكافأة[1]وهو أيضًا «العادة، والحال، والسيرة، والسياسة، والرأي والحكم»[2]. إذ يتضح من كافة التعريفات اللغويّة أنَّ «الدين في اللغة هو العادة والحالة التي يكون عليها الإنسان مطيعًا وذليلًا أمام دائنه، ينتظر الجزاء منه بحسب عمله.

 إنّ الدين إذن حالة المرء إزاء شأنٍ ما، ولا شك أن هذا المعنى بكل اشتقاقاته يجعلنا أمام طرفين؛ طرف أعلى وطرف أدنى، والدين هو حالةٌ للطرف الأدنى الذي هو محتاجٌ للطرف الأعلى. ومن هنا ارتبط الدين بالاستسلام والطاعة للمعبود، كما يستسلم المرء لمن يدينه، ويستكين طاعةً له وذلًا في الطلب. أما في اللغات الغربية الإنجليزية والفرنسية فكلمة Religion  مشتقة عن اللاتينية Religio، وهي تعني بشكل عام الإحساس المصحوب بخوف أو تأنيب ضمير، بواجب ما تجاه الآلهة»[3].

ولذلك يمكننا القول إنّ الدين يعني وبشكل متبادل الإيمان، ويعرف عادةً بأنّه الاعتقاد المرتبط بما فوق الطبيعة المقدس والإلهي. وهو في مفهوم رجال الدين والفكر واللغة: الطاعة، والجزاء، والانقياد. ولا يكون عند الكثيرين إلا وحيًا من الله إلى أنبيائه الذين اختارهم واصطفاهم من عباده المخلصين.

(24)

في حين يعّرفه أهل الاصطلاح بتعريفاتٍ متنوعة، تركز في مجملها على أنَّه وضعٌ إلهيٌ يرشد إلى الحق في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات. فالدين: «مجموعة معتقداتٍ وعباداتٍ مقدسة تؤمن بها مجموعةٌ معيّنة، يسد حاجة الفرد والمجتمع على السواء، أساسه الوجدان، وللعقل فيه مجال»[1]. وأيضًا، «هو الأفعال المأمور بإتيانها للصلاح فيما بعد الموت [...] إنَّ الدين هو شيئان اثنان: أحدهما هو الأصل وملاك الأمر وهو الاعتقاد في الضمير والسر، والآخر هو الفرع المبني عليه القول والعمل في الجهر والإعلان»[2].  وهو أيضًا: «جملة النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهيّة، وجملة القواعد العمليّة التي ترسم طريق العبادة»[3].  فالدين إذًا هو رسالة من الله تعالى إلى البشرية بواسطة الرسل، يدعو البشر فيها إلى الإيمان بوحدانيته، ومعرفة قدرته وهيمنته على الوجود وعظمته اللامتناهية، وتنبههم إلى العلامات الدالة على وجوده في الظواهر الكونيّة، وتدعوهم إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة. وقد توزعت هذه المعاني السابقة للدين عند المسلمين:

1ـ الدين وضعٌ إلهيٌ يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول، كما عرّفه الجرجاني في «التعريفات».

2ـ وضعٌ إلهيٌ سائقٌ لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل.

(25)

3ـ دين الله المرضي الذي لا لبس فيه، ولا حجاب عليه، ولا عوج له، هو إطلاعه تعالى عبدَه على قيوميته الظاهرة بكل بادٍ، وفي كل بادٍ، وأظهر من كل بادٍ، وعظمته الخفية التي لا يشير إليها اسم، ولا يجوزها رسم، وهي مداد كل مداد[1]. بينما يورد معجم  مراد وهبة الفلسفي تعريفًا للدين باعتباره هو ذلك الذي يعبّر عن العلاقة بين المطلق في إطلاقه، والمحدود في محدوديته. ولهذا يتصف أي دين بما يأتي:

 (أ) الاعتقاد بمطلق.

(ب) تحديد علاقة الفرد بهذا المطلق.

(ج) ممارسة شعائر وطقوس معيّنة[2].

 كما يرى مراد وهبة ـ أيضًا ـ أنَّ الدين مرادف للملة، مستندًا إلى قول الفارابي في كتاب الملة: «الدين والملة يكادان يكونان اسمين مترادفين»[3]. وإذا كان محمد عثمان الخشت يوافق هذا الرأي مستندًا إلى قول الرازي في «مختار الصحاح» «الملة: الدين والشريعة»، إلا أنّه يرى أنهما يختلفان حسب السياق، وطريقة الاستعمال، ووجهة النظر التي ننظر منها إلى كلٍ منهما[4]. ويوضح جميل صليبا الفرق بين الدين، والملة، والمذهب بوضوح تام، فيقول: «إنَّ الشريعة من حيث هي مُطاعة تُسمى دينًا، ومن حيث إنّها جامعة تسمى ملة،

(26)

ومن حيث إنّها يُرجع إليها تسمى مذهبًا. وقيل في الفرق بين الدين، والملة، والمذهب، أنَّ الدين منسوب إلى الله تعالى، والملة منسوبة إلى الرسول، والمذهب منسوب إلى المجتهد. وكثيرًا ما تستعمل هذه الألفاظ بعضها مكان بعض. ولهذا قيل أنها متحدة بالذات، ومتغايرة بالاعتبار. ويُطلق لفظ الدين أيضًا على الشريعة، وهي السُّنة، أي ما شرعه الله لعباده من السنن والأحكام»[1].

ويعد الدين في الغالب جزءًا أصيلًا من فطرة الإنسان وحاجةً بشريّةً حقيقيّةً لا غنى عنها، وربما أمكن للإنسان أن يستغني عن العلم، كالبدائيين من البشر، ولكن لم تر جماعةً في مكانٍ ما أو زمانٍ ما استغنت عن الدين[2]. وقد تعددت معاني الدين من عصر إلى آخر كما تعددت معاني الفلسفة من عصر إلى آخر. وقد ركز الفلاسفة المحدثون على عدة معانٍ للدين منها:

 إنه جملةٌ من الإدراكات والاعتقادات والأفعال الحاصلة للنفس من جراء حبها لله، وعبادتها إياه، وطاعتها لأوامره.

إن الدين هو الإيمان بالقيم المطلقة والعمل بها، كالإيمان بالعلم أو الإيمان بالتقدم أو الإيمان بالجمال أو الإيمان بالإنسانية، ففضل المؤمن بهذه القيم كفضل المتعبد الذي يحب خالقه ويعمل بما شرعه على غيره، ولا فضل لأحدهما على الآخر إلا بما يتصف به من تجرد، وحب، وإخلاص، وإنكار للذات.

(27)

إن الدين مؤسسةٌ اجتماعيةٌ تضم أفرادًا يتحلون بالصفات الآتية:

قبولهم بعض الأحكام المشتركة وقيامهم ببعض الشعائر.

إيمانهم بقيم مطلقة وحرصهم على هذا الإيمان وحفظه.

اعتقادهم أن الإنسان متصل بقوى روحية أعلى منه، مفارقة لهذا العالم أو سارية فيه، كثيرة أو موحدة[1].

وقد أورد الفلاسفة الغربيون للدين تعريفات شتى نكتفي بذكر أشهرها، حيث لا يتسع المجال للخوض في متاهاتها وتفاصيلها؛ فيقول سيسرون Ciceron في كتابه «عن القوانين»: «إنَّ الدين هو الرباط  الذي يصل الإنسان بالله». ويقول شلايرماخر F. E. D. Schleiermacher (1768 ـ 1834) ، في كتاب «مقالات عن الديانة»: «قوام حقيقة الدين شعورنا بالحاجة والتبعية المطلقة». ويقول الأب شاتل Chatel A.، في كتاب «قانون الإنسانية»: «الدين هو مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق: واجبات الإنسان نحو الله، وواجباته نحو الجماعة، وواجباته نحو نفسه»[2]. والدين عند هردر J. G. Herder (1744 ـ 1803) هو «ذروة الإنسانية وقمة النمو المتناغم للقوى البشرية»[3]. أما الدين عند كانط  فهو: «معرفة وإدراك كل الواجبات كما لو كانت أوامر إلهية»[4]. في حين يرى

(28)

هيجل أن الدين سابق للفلسفة، ولا غنى عنه حتى لو لحقت به الفلسفة؛ فالفلسفة مقصورةٌ على فئة قليلة من الناس، كما أنها لا هي جذابة ولا معقولة عند معظم الناس في صورتها المجردة، أما الدين ـ فهو العكس ـ يجذب خيال الجماهير ويفتنها ويعرض لها حقائق عميقةً عن الكون ومكانهم فيه في صورة جذابة. كما أن الدين يخدم أغراض النظام الأخلاقي والسياسي، غير أن الدين والتكوين السياسي لا بد أن يكونا في تناغمٍ وانسجام، ما دام ما يصوره الإنسان من قوانين ليس له سوى تأثير ضئيل على الضمير الديني[1]. ويقول هربرت سبنسر H. Spencer (1820 ـ 1903)،  في كتاب «المبادئ الأولى»: «الإيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية ولا المكانية، ذاك هو العنصر الرئيسي في الدين». ويعرّف تايلور A. E. Taylor (1869 ـ 1954) الدين، في كتابه «المدنيات البدائية»، بأنه «الإيمان بقوى روحية». بينما يرى ماكس مولر M. Muller في كتاب «نشأة الدين ونموه»: «أنّ الدين هو محاولة تصور ما لا يمكن تصوره، والتعبير عما لا يمكن التعبير عنه، هو التطلع إلى اللانهائي، هو حب الله». ويقول إميل برنوف E. Burnouf، في كتاب «علم الديانات»: «الدين هو العبادة، والعبادة عمل مزدوج: فهي عملٌ عقليٌ به يعترف الإنسان بقوى سامية، وعملٌ قلبيٌ أو انعطاف محبة، يتوجه به إلى رحمة تلك القوة». ويقول ريفيل Revil، في «مقدمة تاريخ الأديان»: «الدين هو توجيه الإنسان سلوكه، وفقًا لشعوره بصلةٍ بين روحه وبين روحٍ خفية، يعترف لها بالسلطان عليه، وعلى سائر العالم، ويطيب له أن يشعر باتصاله بها». ويقول جان ماري جويوه

(29)

J. M. Guyau، في كتاب «لا دينية المستقبل»: «الديانة هي تصور المجموعة العالمية بصورة الجماعة الإنسانية، والشعور الديني هو الشعور بتبعيتنا لمشيئات أخرى يركزها الإنسان البدائي في الكون». ويقول ميشيل ماييرM. Mayer، في كتاب «تعاليم خلقية ودينية»: «الدين هو جملة العقائد والوصايا التي يجب أن توجهنا في سلوكنا مع الله، ومع الناس وفي حق أنفسنا». ويقول سلفان بيريسيه S. Perisse، في كتاب «العلم والديانات»: «الدين هو الجانب المثالي في الحياة الإنسانية». ويقول سالمون ريناك S. Reinach، في «التاريخ العام للديانات»: «الدين هو مجموعة التورعات التي تقف حاجزًا أمام الحرية المطلقة لتصرفاتنا»، أو هو «مجموعةٌ من الوساوس والشكوك التي تعيق ممارسة الأعمال بحرية»[1].

في حين أن الدين عند فويرباخ Feuerbach (1804 ـ 1872) هو «نقل الإنسان آماله وأمانيه إلى كائن ذي درجة عليا سماه الله»؛ ولذا رأى أنّه عقبة في سبيل تقدم الإنسان ماديًا، ومعنويًا، واجتماعيًا، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يتحرر من سلطانه[2]. وإلى قريب من هذا يذهب كارل ماركس K. Marx (1818 ـ 1883) فيرى أن «الدين تأوهُ كائنٍ أضناه البؤس، وهو فؤاد عالمٍ لا فؤاد له، وروح عصرٍ لا روح له، إنه أفيون الشعوب»[3]. وهو عند سيجموند فرويد Freud S. (1856 ـ 1939) العصاب الاستحواذي الكلي للإنسانية، وينشأ هذا

(30)

العصاب مثل عصاب الطفل عن عقدة أوديب، أي عن علاقة الابن بأبيه... وسوف تتجاوز الإنسانية هذه المرحلة العصابية، تمامًا مثلما يتجاوزها معظم الأطفال في كبرهم ويشفون من عصابٍ مماثل[1]. أما إميل دوركايم) E. Durkheim 1858 ـ 1917) فيرى أن «الدين مؤسسة اجتماعية قوامها التفريق بين المقدس وغير المقدس، ولها جانبان أحدهما روحي مؤلف من العقائد والمشاعر الوجدانية، والآخر مادي مؤلف من الطقوس والعادات»[2].

ويرى برجسون H.Bergson (1869ـ1941) أن الدين هو رد فعلٍ دفاعيٍ للطبيعة ضد تصور العقل لحتمية الموت[3]. ويعرّف ألفرد نورث وايتهدA. N. Whitehead (1861 ـ 1947) الدين فيقول: «إنّ الدين عيانٌ لشيءٍ يقوم فيما وراء المجرى العابر للأشياء المباشرة، أو خلف هذا المجرى، أو في باطنه؛ شيءٌ حقيقي ولكنه مع ذلك لا يزال ينتظر التحقق، شيءٌ هو بمثابة إمكانيةٍ بعيدة، ولكنه في الوقت نفسه أعظم الحقائق الراهنة؛ شيءٌ يخلع معنًى على كل ما من شأنه أن ينقضي ويزول، ولكنه مع ذلك يند عن كل فهم؛ شيءٌ يُعد امتلاكه بمثابة الخير الأقصى، ولكنه في الآن نفسه عصي بعيد المنال. شيءٌ هو المثل الأعلى النهائي، ولكنه في الوقت نفسه مطلب لا رجاء فيه»[4]. في حين يرى ولتر ستيس W. Stess (1886 ـ 1967) أن الدين هو تعطُّشُ النفس إلى المستحيل، إلى ما هو بعيد المنال، إلى ما يفوق التصور... فالدين ينشد اللامتناهي؛ واللامتناهي بحكم

(31)

تعريفه مستحيل، أو بعيد المنال. فهو إذن، بحكم تعريفه، ما لا سبيل إلى بلوغه أبدًا... إنّ الدين هو النزوع نحو قطع العلائق مع الكينونة والوجود معًا، أو هو الرغبة في تجاوز الوجود نحو ذلك العدم الذي يكمن فيه النور الأعظم. إنّه الرغبة في التحرر تمامًا من أغلال الكينونة. والحق أن كل كينونة إنما هي قيد، إن لم نقل أن الوجود نفسه قيد. فليس وجودك سوى ارتباطك بما أنت كائنه، أو تقيدك بصميم كينونتك. أمّا الدين فهو التعطش إلى اللاوجود الذي هو مع ذلك موجود![1]. والدين عند إدجار شيفلد برايتمانE. S. Brightman (1884 ـ 1953) هو «عبادةٌ لقوةٍ ساميةٍ عليا تكون مصدرًا للقيم»[2]

ويقف محمد عبد الله دراز عند ثلاثة تعريفات يرى أنها جديرةٌ بالوقوف عندها،  فيرى أن تعريف روبرت سبنسر هو أرقى صورة عرَّفتها الفلسفة  للدين؛ إذ إن العنصر الأصيل في الدين عنده هو الإيمان بقوةٍ لا يمكن تصور نهايتها الزمانية والمكانية. فهذه اللانهائية إن صح أنها عقيدة كبار الفلاسفة والعلماء، فإنها لا تنطبق بحال مع عقيدة  المشبهين أو المجسمين ولا القائلين بأن ربهم في السماء، وهذا يقربهم إلى الدين الصحيح بما هو دين. بينما يرى أن تعريف ماكس مولر هو أضيق هذه التعريفات وأبعدها عن معنى الدين الصحيح؛ إذ إن تعريفه للدين على إنه «تصور ما لا يمكن تصوره»، لا ينطبق إلا على نوعٍ من الأديان تفصل بين العقيدة والعقل

(32)

فصلًا تامًا، ويفرض على معتنقيه أن يؤمنوا بما لا تقبله عقولهم، ولا تتصوره أذهانهم. أمّا التعريف الثالث الذي يقف عنده دراز هو ذاك التعريف الذي يشترك فيه  دوركايم وريناك وفويرباخ وماركس. فجميعهم يستبعد وجود الإله بحجة أن في الشرق أديانًا، مثل البوذية والجاينية، والكونفوشيوسية، تقوم على أساسٍ أخلاقيٍ بحت، خالٍ من تأليه كائن ما، وأن الذين يؤلهون «بوذا» و«جينا» إنما هم مبتدعة، خارجون عن أصول دينهم الحقيقي القديم[1].

وهكذا تختلف رؤية كل فيلسوفٍ في تصوره لمعنى الدين حسب طبيعة اتجاهه ونسقه المعرفي. كما يتضح لنا أن حقيقة الدين لا يكفي في تحديدها فكرة الاعتقاد في الكائن المطلق أو فكرة الخضوع له فقط، بل تحتاج إلى تحديدات أخرى لإبراز عناصرها الجوهرية.

وكان أبرز ما أدى إليه هذا الفصل هو محاولته تحديد هوية الفلسفة وهوية الدين، إذ إن تحديد الهويتين هو الذي يُعيّن وجه الارتباط والعلاقة بين الفلسفة والدين، فالعلاقة بين الفلسفة والدين إمّا أن تكون علاقة اتفاقٍ وانسجامٍ بحيث يوائم تصورُ الفلسفة تصورَ الدين مواءمةً جزئيةً أو كلية، وإما أن تكون علاقة اختلافٍ وتنابذٍ بحيث يناقض تصورُ الفلسفة تصورَ الدين مناقضةً جزئيةً أو كلية. وهو ما سنقف عليه في الفصل التالي، مما يساعد في المضي قدمًا للوقوف على حقيقة مصطلح «فلسفة الدين».

(33)
(34)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

العلاقة بين الفلسفة والدين

(35)

الفصل الثاني: العلاقة بين الفلسفة والدين

إنَّ العلاقة بين الفلسفة والدين علاقةٌ وطيدةٌ ومتشابكة؛ فالدين يحتاج إلى عقلانيّة الفلسفة من أجل تقديم إجاباتٍ منطقيةٍ ومقنعةٍ على أسئلته الشائكة، والفلسفة تعمل على المشكلات الدينية وتأخذ كثيرًا من مقولاتها ومفاهيمها؛ إذ يرى جوزايا رويس J. Royce  (1855 ـ 1916) أنَّ الفلسفةَ منهجٌ والدينَ موضوعٌ، وأنه لا يتم توصيف العلاقة بين الدين والفلسفة بصورةٍ دقيقةٍ من خلال طريقٍ واحدٍ يبدأ من الدين أو من الفلسفة؛ إذ يسهم كلاهما في حياة الآخر في نفس اللحظة التي يمارسا فيها النقد المتبادل بينهما. ويتحدث هيجل عن الدين باعتباره هو الفلسفة، فكان أبرز من وحَّدَ بين الدين والفلسفة. «وفي أحيان  قد يقف الدين بدلًا أو نائبًا عن الفلسفة، وإذ ذاك يصبح الدين فلسفةً شعبيةً أو العكس، فتصبح الفلسفة هي دين الخاصة، وإلى هذا المعنى ذهب ابن رشد في كتابيه «فصل المقال...» و«الكشف عن مناهج الأدلة»، وشوبنهور A. Schopenhauer (1788 ـ 1860) في كتابه «العالم كإرادة وتمثُّل»[1].

 وهذا لا يعني أننا نقصد بالعلاقة بين الفلسفة والدين الوقوف على أوجه الاتفاق بينهما فقط، تلك الأوجه التي تجعل البعض يتساءل مُقِرًا العلاقة الوطيدة بين الدين والفلسفة أو الحكمة والديانة قائلًا: «هل الحكمة إلا مولدة الديانة؟ وهل الديانة إلا متممة للحكمة؟

(36)

وهل الفلسفة إلا صورة النفس؟ وهل الديانة إلا سيرة النفس؟»[1]. لكنها  الوقوف على أوجه الاختلاف أيضًا. ومما سبق تبين لنا أن هناك أوجه اختلاف وأوجه اتفاق بيِّنة وواضحة بين الفلسفة والدين، وهو الأمر الذي يمثل جوهر العلاقة بينهما، وهو ما سنبينه فيما يلي:

 من حيث النشأة   

نشأت الفلسفة في بلاد اليونان القديمة خلال الفترة ما بين القرن السادس والقرن الرابع قبل الميلاد على يد بعض الحكماء الأوائل. وفي مقدمة هؤلاء طاليس Thales (624 ـ 546 ق.م) وأناكسيمندر Anaximander (611 ـ 547 ق.م) وأناكسمينس Anaximenes (585 ـ 528 ق.م) وغيرهم من الفلاسفة الطبيعيين. وظلت الفلسفة تنمو وتكتمل تدريجيًا إلى أن بلغت قمة نضجها على أيدي سقراط وأفلاطون وأرسطو. ولا يعني ذلك أن الفلسفة معجزةٌ يونانيةٌ خالصة، ولكن يمكننا القول إن المجالات الفلسفية التي بحث فيها فلاسفة اليونان هي نفس المجالات التي بحث فيها حكماء الشرق في مصر وبابل والهند والصين وفارس مع اختلافٍ في بواعث التفكير وطرق البحث ووجهات النظر؛ إذ قصدت الفلسفة اليونانية إلى كشف الحقيقة عن طريق النظر العقلي الخالص، بباعث من المتعة العقلية وحدها، وبصرف النظر عن تلك النتائج العملية التي يمكن تؤدي إليها. فلم يقصدوا مثلًا من وراء البحث عن حقيقة خلق الكون لعبادة خالقه أو لإشباع مقتضيات الحياة الدينية. فكانوا إذا بحثوا في النجوم، حاولوا أن يضعوا قوانين تفسر ظهورها واختفائها

(37)

وحركاتها وسكونها. وإذا تناولوا الوجود حاولوا أن يعرفوا أقسامه وأجزاءه، وما الجزء الخالد منه وما الفاني؟ دون أن يقصدوا من وراء ذلك فائدةً عمليةً أو دينية؛ وذلك لإعلاء فلاسفة اليونان من قيمة النظر على العمل. فقد كان التفلسف عندهم يعني الجهد العقلي الذي يهدف إلى كشف معرفةٍ جديدة، بدافع تحقيق المتعة العقلية الخالصة التي تبتغي كشف الحقيقة لذاتها، وسلكوا في تحقيق هذا الهدف وتلك الغاية المنهج العقلي البرهاني، إذ كان تفكيرهم النظري يخضع لمنطق العقل واستدلالاته الصورية؛ ولذلك ازدهر المنطق الأرسطى ذو النزعة الصورية وساد حينًا طويلًا من الدهر. ولذلك يعتقد الكثير من المؤرخين أن الفلسفة بمعناها التقليدي قد نشأت على أيديهم، فيما أطلقوا عليه المعجزة اليونانية.

وبلا شك لم تستمر هذه الصورة النظرية الخالصة للفلسفة منذ نشأتها عند اليونان وحتى اليوم. فقد حدثت لها تطورات وتغييرات عظيمة، فلم تعد الفلسفة اليوم تقنع بالمعرفة النظرية الخالصة، بل أصبحت تحاول توجيه الحضارة الإنسانية، والارتقاء بحياة البشر، وتنظيم كافة الأمور الإنسانية. فإذا كانت الفلسفة قديمًا تعلّم الإنسان كيف يفكر فإنها اليوم تعلم الإنسان كيف يحيا؛ إذ نقلت أكثر الفلسفات المعاصرة مجال التفلسف من الوجود بأسبابه البعيدة ومبادئه الأولى، إلى البحث العقلي عن أكثر الحقائق أهميةً في حياة الإنسان الروحية والأخلاقية والاجتماعية، بل وإلى البيئة المحيطة وكيفية المحافظة كواجبٍ أصيلٍ على الإنسان المعاصر وحق مستحق لكل الأجيال القادمة.  

أمّا الدِّين فهو ظاهرةٌ صاحبت الإنسان منذ نشأته على الأرض،

(38)

في جميع العصور، وفي شتى أنحاء الأرض. فإن أَخذْتَ بما جاء في الكتب السماوية من أن آدم أبو البشر، وهو أول إنسان، فإن آدم أول الأنبياء. وإن سلمت بنظرية التطور، أو النشوء والارتقاء، فإن انبثاق الإنسان رقيًّا من الحيوان، أو بمعنى آخر ارتقاء الإنسان من طور الحيوانية إلى طور الإنسانية، جعله يتميز بعدة أمور منها اللغة واستخدام الألفاظ للدلالة على المعاني التي يريد أن يعبر عنها، ومنها استخدام الأدوات والآلات التي يسيطر بها على الطبيعة ويسخرها لمصلحته، ومنها التدين والعبادة[1].

وهناك العديد من النظريات التي تفسر نشأة الدين يمكن الجمع بينها بنوعٍ من التجاوز الذي يهدف إلى التقريب والفهم العام في ثلاث نظريات: أولها، نظرية النشأة الفطرية للدين، إذ يرى أصحاب هذه النظرية أنّ الدين فطرةٌ عقليةٌ فطر الله الناس عليها، وهي النظرية التي تكاد تلقى إجماعًا من أصحاب الأديان السماوية وبعض الفلاسفة والعلماء. وثانيها، النظرية الاجتماعية، تلك النظرية التي ترى أن الدين ظاهرةٌ اجتماعيةٌ تختلف باختلاف الظروف الاجتماعية التي يعيشها الناس من المجتمعات البدائية إلى المجتمعات المتحضرة. وهي النظرية التي يقول بها إميل دوركايم ويتبعه فيها الكثير من علماء الاجتماع. وثالثها، النظرية الماركسية، وهي تلك النظرية التي تعتبر أن العامل الاقتصادي هو السبب الرئيس في نشاة الدين؛ إذ إنّ الدين ينتج وينشأ عن استغراب الإنسان وابتعاده عن ذاته الأصلية بسبب الظروف الاقتصادية والتفاوت الطبقي الذي

(39)

يرتبط في بنيته التحتية بعوامل اقتصادية وشكل الإنتاج الاقتصادي في المجتمع. ولذلك يرى ماركس طبقًا لهذه الرؤية الاقتصادية لنشأة الدين أنه عبارة عن أيديولوجية الطبقة الحاكمة؛ حيث يقدم توصياتٍ لحفظ النسيج الاجتماعي، ويقرر أن النظام السياسي مقدّرٌ محتومٌ على أفراد المجتمع، فلا ينبغي مواجهة هذا النظام من موقع الرفض والتمرد. فوظيفة الدين عند ماركس إذًا هي تفسير العالم ومنح المشروعية للوضع الموجود ومواساة المحرومين. ومن هنا يتنبأ بزوال الدين تدريجيًا مع زيادة الوعي الطبقي ومعرفة الإنسان لذاته وللعالم[1].

ورغم هذا الاختلاف بين نشأة الدين ونشأة الفلسفة، من الممكن أن نجد هناك مواضع اتفاق بينهما من حيث النشأة؛ إذ إن الفلسفة بوصفها تفسيرًا شاملًا للكون قد يجمعها هذا بعلاقة اتفاق مع الدين؛ إذ إن الأخير يبحث أيضًا في الكون والموجودات، ويدعو إلى التأمل في الظواهر الكونية من حيث إنها مخلوقاتٌ صادرةٌ عن خالق أو إله. وقد استُخدمت الفلسفة بالفعل عند قدماء الشرقيين كأداةٍ لخدمة الدين، واستُخدمت في العصور الوسطى كأداةٍ للتوفيق بين العقل والوحي، فقد رأى القديس أنسلم أن الإيمان ضروريٌ للعقل وشرطٌ لصحة التفكير، وقد ساعد تصور المسيحية «لله» على ذيوع مذاهب كثيرة تجعل الزاوية في تفكيرها رد كل ما في الكون من ظواهر وأشكال وحركات إلى الله الحال في الوجود[2]، وأرجع التصورُ اليهودي كل ما يصعب تفسيره عقليًا إلى الله.

(40)

من حيث الموضوع

ويمتد التشابه والاختلاف اللذان يعكسان العلاقة بين الفلسفة والدين من النشأة إلى الموضوع؛ حيث يبدو موضوع الفلسفة هو نفسه موضوع الدين، فإذا كان موضوع الفلسفة هو الوجود بكل ما فيه، حيث تبتغي الفلسفة من وراء دراسته الوقوف على ماهيته وحقيقته، سواء أكان وجودًا طبيعيًا أو وجودًا بشريًا، فإنَّ هذا الوجود عينه هو موضوع دراسة الدين، حيث يقدم الدين تفسيراتٍ دينيّةً لنشأة الكون وحقيقته ومآله، وكيف وُجِدَ البشرُ في هذا الكون، ولأي سبب كان وجودهم، وإلى أين سيكون مآلهم ومرجعهم.

 فإذا كان الفرد منصرفًا إلى تدبير أمور حياته العملية، ومعالجة مشاكله اليومية الجارية، فإنه يسعى من أجل ذلك إلى تكوين مجموعةٍ من المبادئ التي يسترشد بها في حياته الشخصية، أو مجموعةٍ من المعتقدات الخاصة التي تمثل الزاوية التي ينظر من خلالها إلى الكون والحياة. فهو يؤمن مثلًا بوجود إله يخشاه ويخشى عقابه ويراعيه في أفعاله وأقواله ومعاملاته، ويؤمن بالفضيلة، وبأن مطالب الروح أسمى من مطالب الجسد، وبكرامة الإنسان، وبالمبادئ الديمقراطية التي تجعل الناس متساوين في الحقوق والواجبات، وبمبدأ تكافؤ الفرص، وبمبدأ العدالة في توزيع الإنتاج، وبالاشتراكية أو الرأسمالية أو المزيج بينهما أو ما يمايزهما معًا. فمن الواضح أنَّ تلك المبادئ مشتركةٌ بين الدين والفلسفة، من الممكن أن يستمدها الإنسان من فلسفته الخاصة أو من معتقده الخاص الذي يدين به ويعتقده. ولذلك يرى البعض أن موضوع الفلسفة هو نفسه موضوع الدين.

(41)

وهذا ما يؤكده هيجل إذ يرى أنَّ الفلسفة موضوعها «الله» بصرف النظر عن أسمائه الفلسفية، المطلق، المثال، الوجود. وقد استطاعت الفلسفة الحديثة تحويل موضوعات الدين، والتعبير عنها بمفاهيم عقلية عامة، فأصبح الله عند هيجل هو التصور في المنطق، وإذا تحول داخل النفس أصبح الفكرة Idea، وإذا تجسّد في التاريخ أصبح الدولة. والدين هو فينومينولوجيا الدين؛ أيّ تتبُّع مظاهر الله وصوره المختلفة في الكون وفي التاريخ. إذًا الفلسفة والدين عند هيجل موضوعهما واحد هو الحقيقة الأبدية، وهي الله[1].

 بل يتجلى الاتفاق أكثر في مجال «فلسفة الدين» كأحد المباحث الفرعية من الفلسفة مع الدين، فكافة الموضوعات التي تناقشها «فلسفة الدين» هي موضوعات الدين نفسه مثل: وجود الله، والنبوات، والمعجزات، ومشكلة الشر، والمعاد... وغيرها من المشكلات التي تكون من صميم موضوعات الدين ذاته، من قبيل: التجربة الدينية، ولغة الدين، والتعددية الدينية، والدين والأخلاق، والدين والسياسة، والعلم والدين، ومسألة النجاة، والمعرفة الدينية.

لكن هذا لا يمنع وجود بعض أوجه الاختلاف بين الدين والفلسفة من ناحية الموضوع؛ إذ يرى البعض أن طريقة تناول الفلسفة لموضوعات الدين هي طريقةٌ نظريةٌ جافة، بعكس تناول الدين لها بروحه الغلّابة وقوته المحركة. كما أن الأديان السماوية تستند إلى الوحي كوسيلةٍ وحيدةٍ رئيسيةٍ للمعرفة، فليس فيها اكتسابٌ وسعيٌ بشري، بينما تقوم الفلسفة على الجهد البشري والتراكم المعرفي للخبرات الإنسانية. ولذلك يرى مصطفى النشار

(42)

أن أبرز ما يميز الحقيقة الفلسفية أنها بشريةٌ نسبية، حمالة أوجه، تختلف من فيلسوف إلى آخر، بعكس الحقيقة الدينية فهي حقيقةٌ مطلقةٌ مصدرها علويٌ سماويٌ إلهي، وهي بذلك تنأى عن أي شك وغير قابلةٍ للتعديل أو للتطوير[1].

كما أنّه إذا عدنا إلى تلك المبادئ التي يكوّنها الإنسان ليسترشد بها في حياته العملية اليومية الجارية، فإننا سنجد البعض من الناس قد أقلقتهم مجموعة هذه المبادئ والمعتقدات الخاصة، أو بعضها على الأقل، إلى درجةٍ لا يملكون بعدها إلا أن يبحثوا عن تأصيلٍ نظريٍ لها، وأن يفتشوا عن الأسس والمقومات النظرية التي تدعمها. وفي هذه المرحلة، يصبح الإنسان في مجال الفلسفة وحدها، ويتوقف مسمى الفلسفة على نوع الموضوع الذي يدرسه، فإذا كان الموضوع هو مبادئ الدين وفحصها بطريقةٍ منظمةٍ ونسقيّة، كانت الفلسفة هنا فلسفةً للدين. فالإنسان منا قد يعتقد بوجود الله، وقد يمثل هذا المعتقد محور حياته وأساس نظرته إلى الكون، لكن ذلك لا يرتقي به إلى مقام فلسفة الدين إلا إذا أقلقته مشكلة وجود الله بدرجةٍ كافيةٍ دفعته دفعًا إلى أن يفتش عن الأسس النظرية التي تدعم هذا المعتقد، وإلى أن يقرأ كل ما كتبه الفلاسفة والمفكرون حول مشكلة وجود الله[2].

كما يرى البعض إيغالًا في الاختلاف بين موضوع الفلسفة وموضوع الدين، أنَّ الفلسفة تعمل في جانبٍ من جوانب النفس

(43)

بينما الدين يستحوذ عليها جميعًا؛ فإذا كانت الفلسفة ملاحظةً، وتحليلًا، وتركيبًا، فهي إذًا صناعةٌ تقطع أوصال الحقيقة وتزهق روحها، ثم تؤلف بينها لتعرضها من جديد في نسقٍ صناعيٍ على مرآة الفطنة، فتنطبع على سطح النفس قشرة يابسة. أمّا الدين فهو حداء يحمل الحقيقة جملةً، فيعبر بها هذه القشرة السطحية، لينفذ منها إلى أعماق القلوب وأغوارها، فتعطيها النفس كليتها، وتملّكُها زمامَها[1]. كما يذهب العديد من رجال الدين المناهضين للفلسفة إلى أن الفلسفة في موضوعها تميل إلى التقوقع والاستعلاء، بينما ينزع الدين إلى التدفق والاتصال[2].

في حين تأتي أقوى أوجه الاختلاف متمثلةً في أن موضوع الفلسفة هو «عملٌ إنسانيٌ» يتحكم فيه كل ما في طبيعة الإنسان من قيودٍ وحدود، وتدرُّجٌ بطيءٌ في الوصول إلى المجهول، وقابليةٌ للتغير والتحول، وتقلُّبٌ بين الهدى والضلال، واقترابٌ أو ابتعادٌ عن درجة الكمال. أما موضوع الدين ـ وخاصة السماوي منه ـ فهو «وحي إلهي» لا دخل للإنسان فيه، ولا يملك تجاهه إلا الطاعة والانصياع لأوامره ونواهيه، وهو يحمل الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

 من حيث المنهج

قد يظهر للوهلة الأولى الاتفاق بين منهج الفلسفة ومنهج الدين، إذ إنَّ كلًا منهما يستخدم المنطق والعقل في الفهم والتفسير

(44)

والتأويل والرد على الخصوم. كما أن الدين يدعو في الكثير من آياته إلى التدبر، واستعمال العقل، وممارسة فعل التعقل في كل ما خلق الله تعالى. وإنَّ نور الوحي القرآني والتشريع الرباني لا يطمس نور العقل أبدًا، بل يباركه ويزكيه ويقويه، ويعطي للعقل قدرًا عجيبًا ومكانةً كبيرة، فلقد جعل التشريع القرآني العقلَ مناط التكليف.

لكن بإمعان النظر يمكن الوقوف على اختلافات شتى بين منهج الفلسفة ومنهج الدين؛ فالدِّين يقوم على الإيمان؛ أي على القبول والتسليم بحقائق معينةٍ تسليمًا، والإذعان لها إذعانًا تامًا، في حين أنَّ الفلسفة بطبيعتها القائمة على ما يفكر فيه عقل الإنسان، وعلى ما تقوده إليه تأملاته، وعلى الحجج العقلية المقنعة التي تجعل هذا الفيلسوف أو ذاك يؤمن بحقيقةٍ معينة، ترفض ذلك التسليم والإذعان[1].

إذًا يختلف المنهج في الفلسفة عنه في الدين؛ فالمنهج الفلسفي يلتزم فيه الإنسان بالنظر العقلي الكلي المجرد إلى الوجود وإلى علاقة الإنسان به، ويبعد عن النظرة الدارجة، ولا يقيد نفسه بميدان بحثٍ خاصٍ كما يفعل رجال العلم، ولا يبدأ من تصورٍ معينٍ للكون كما هو الحال عند رجال الدين. فإذا كان المنهج في الدين هو الطريقة المنظمة المطّردة التي يتم فيها استنباط الأفعال الضرورية في العبادات والمعاملات وسائر الأحكام الدينية لكل مواقف الحياة حسب النصوص الدينية التي تحكم هذه العقيدة، فإن المنهج في الفلسفة يتمرد على كل سلطةٍ سوى سلطة العقل في ذاته، إذ ينتصر الفيلسوف للعقل دائمًا؛ فالعقل عنده هو أداةٌ مكتفيةٌ بنفسها معرفيًا،

(45)

يهتدي بها الإنسان إلى الحقائق اهتداء الساري في الظلمة بالنور الذي يشعه من داخله، وهو ليس في حاجةٍ إلى توجيهٍ أو إرشادٍ من خارجه، فهو يمتلك القدرة على التعرف والكشف عن الحقائق بمقتضى طبعه الذي فُطر عليه، بعيدًا عن أي وصايةٍ من الخارج، أو أي عونٍ يزوده به النقل؛ ولذلك فهو يُخضع كل شيءٍ للنقاش والجدل ولا يعتقد بأي شيءٍ إلا إذا امتلك الدليل العقلي عليه[1].

كذلك يمكننا القول بأنّه إذا كان المنهج في الدين هو منهجٌ واحدٌ قائمٌ على التسليم والقبول بمجموعة الحقائق التي يكون الدين مصدرها الأساسي، سواء أكانت هذه الحقائق منزلةً فعلًا من عند الله عن طريق الوحي الإلهي إلى الرسل والأنبياء كما في الديانات السماوية، أم كانت عند أصحاب الديانات الأخرى من مصدرٍ وضعيٍ بشريٍ له مكانته المقدسة عند أصحاب هذا الدين، فإن مناهج الفلسفة متعددة. فمن الفلاسفة من يقتصر دور التساؤل عنده على إطلاق قواه لتقرير إجابته، بينما هناك منهم من يستمر التساؤل عندهم طوال الرحلة الفلسفية، ومنهم من ينطلق من الأسئلة النظرية المجردة مباشرة، من قبيل: ما الوجود؟ ما المعرفة؟ ومنهم من ينطلق من إشكاليات تاريخية محددة: كمعارضة مذهبٍ آخر، أو الوقوف في وجه ثقافةٍ مغايرة، أو الوعي التاريخي ببناء أسس ثقافةٍ مغايرة، أو الوعي التاريخي ببناء أسس ثقافةٍ جديدةٍ وانطلاقاتها، أو وضع المقدمات الضرورية لبناء أمةٍ أو دولة، إلى غير ذلك. ومنهم من يبدأ بتقرير مبادئ عامة يأخذها عن غيره أو يصل إليها بنفسه ثم يأخذ في

(46)

تطبيقها على ميادين خاصة وعلى مسائل جزئية، وينتهي ابتداءً من ذلك إلى مبادئ عامة، ومنهم من يميل إلى بناء نسقٍ أو نظامٍ مفصّلٍ متّسقٍ شاملٍ تكون العلاقة فيه بين جوانبه المختلفة علاقة النتائج المتناسبة ابتداءً من عددٍ من المبادئ الأولى الأساسية. بينما منهم من يميل إلى تحليل المسائل إلى عناصرها، كل مسألة مأخوذةٌ على حدة، فتكون آراؤه في مجموعها كالوحدات المتجاورة لا كالبناء المرتفع الذي تعتمد طبقاته بعضها على بعض وعلى أسسٍ مشتركةٍ بينها جميعًا[1].

أي إنه إذا كان منهج الدين واحدًا فإن مناهج الفلسفة متعددة، وما تعددت مناهج الفلسفة إلا لاختلاف رؤى الفلاسفة المنهجية، وعدم اتفاقهم على منهجٍ واحدٍ كما في العلوم الطبيعية، وتنوُّع المشكلات الفلسفية، واختلاف الأزمنة والمواقف الحياتية للمشكلة الواحدة. ولذلك نجد أن العديد من الفلاسفة عادةً ما يقترحون مناهج مختلفةً  يرونها هي الأفضل من غيرها؛ إذا يقترح ديكارت منهج الاستنباط العقلي، وهيجل الجدل الديالكتيكي، وهوسرل المنهج الفينومينولوجي، ودريدا المنهج التفكيكي، وشترواس المنهج البنيوي، إلخ.

ولذلك فإنّ من يقول: إنَّ المفكر الديني مثله مثل الفيلسوف يستخدم المنطق والعقل والأساليب البرهانية في الفهم والاستنباط والتفسير ومجادلة المخالفين، مرتئيًا في ذلك بأن رجل الدين يستخدم المنهج الفلسفي تمامًا مثل الفيلسوف، فإنه يمكن الرد

(47)

عليه بأن رجل الدين هنا يتوسل بالمنهج الفلسفي لكي يقوى موقفه عن طريق إضافة الأدلة العقلية لما يؤمن به أصلًا، ويقبله مع سائر المؤمنين فقط ولا يتعدى ذلك. فهو لا يستمر مع المنهج العقلي إلى نهايته، بدليل إنه إذا ما ظهر أي تعارضٍ أمامه بين الحقيقة الدينية والحقيقة العقلية غلَّب الأولى على الثانية؛ لأنَّ العقل عند رجال الدين قاصرٌ عن إدراك الحقائق الكبرى، وهو بلا وحيٍ عاجزٌ عن التعرف على توحيد الألوهية، أو على الأسماء والصفات، أو على الجنة والنار، أو على الأنبياء والمرسلين في مختلف الحقب والعصور. فللعقل حدوده التي لا يجب عليه أن يتعداها حتى لا يقع صاحبه في الغيّ والضلال.

وفي الحقيقة أراد ديكارت R. Descartes (1596 ـ 1650) تطبيق منهجه العقلي على حقائق الدين، فأيقن أنه سيكون في مرمى محاكم التفتيش وغضب الكنيسة، فأعلن أنه لن يطبق منهجه على الدين، فمنهجه قاصرٌ فقط على مجال الإبستمولوجيا دون غيرها من دينٍ أو سياسةٍ أو عادات وأخلاق وتقاليد المجتمع. في حين طبَّق سبينوزا منهجه العقلي على الدين في كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة» فتم إخراجه عن زمرة اليهود والمسيحيين البروتستانت، إذ أعلن الزعماء فصله من الجماعة وحصلوا على أمر من السلطة المدنية بإقصائه عن المدينة، وشاركهم في ذلك البروتستانت الذين كانوا يرون فيه رجلًا خطرًا على الدين.

وهذا ما يفسر لنا خطورة الخلط بين مناهج الدين ومناهج الفلسفة، ولا يعني هذا أننا ضد استخدام المناهج الفلسفيّة العقليّة في الدين لتمييز ما هو مقدسٌ دينيٌ أصيلٌ وما هو مدنسٌ ومزيفٌ

(48)

ودخيل، ولكن هذا ما يفسر جوهر الصراع بين الفلسفة والدين على مر العصور، إذ ينتهي المنهج الفلسفي في الغالب إلى نهاياتٍ وتفسيراتٍ لا يرضى عنها رجل الدين ولا ينتهي إليها منهجهم، ومن ثم ينشب الصراع بينهما، فيتمسك رجل الدين بحقيقته الإلهية اليقينية التي تستمد قوتها من المقدس والمتعالي، بينما يتمسك الفيلسوف بقوة حجته ومرجعيتها العقلية البرهانية. فيتحول الصراع من مقارعة الرأي بالرأي والحجة بالحجة إلى مقابلة الرأي بالبندقية والحجة بالقنبلة. وهذا هو ما يعكس محن الفلاسفة في جل العصور.

 من حيث الغاية

قد يرى البعض أن غاية الدين والفلسفة غايةٌ واحدة، حيث إنهما يبتغيان معرفة أصل الوجود وغايته، ومعرفة سبيل السعادة الإنسانية في الآجل والعاجل. أي إن هدفهما واحدٌ وهو الوصول إلى الحق وإدراك الحقيقة. بل إنّ البعض يرى أن الغاية الأساسية من الفلسفة هي الوصول إلى توحيدٍ معقولٍ بين العلم والعقيدة عن طريق ميتافيزيقا قائمة على منهجٍ علميٍ وأسسٍ علمية؛ فديكارت مثلًا يرى أن الغرض الأول من الفلسفة تحصيل العلم التام بما يمكن العلم به، وأن هذا يقتضي الكشف عن مبدإٍ أول أعلى ممكن أن يُستنتج منه ـ بطريقةٍ قياسية ـ كل حقيقة من حقائق العلم. ويعرّف كرستيان فولف C. Wolff  (1669 ـ  1754) الفلسفة بأنها العلم بالممكن من حيث ما يمكن تحققه بالفعل. وهو يرى كذلك أن مهمة الفلسفة هي الوصول إلى أعمّ المبادئ التي يمكن استنتاج العلم منها. ولا يختلف كانط عن ذلك كثيرًا في تعريفه للفلسفة بأنها المعرفة النظرية

(49)

المستمدة من المعاني الذهنية، ولا فخته Fichte (1762 ـ 1814) الذي يقول إن الفلسفة هي علم المعرفة، ولا هيجل الذي يعرّف الفلسفة بأنها البحث في المطلق[1]. أو ما يراه ويؤكده الفيلسوف الأمريكي المعاصر جوزايا رويس من أن الدين والفلسفة هدفهما واحد، ويواجهان نفس الصعوبات والمشكلات. إذ يعاني كل منهما من سوء الفهم وغموض الهدف، وعدم فهم الإنسان العادي لقيمتهما ووظيفتهما الحقيقية. ويتفق جوهر الفلسفة مع أعمق ما جاء في الأديان[2]. ومع التسليم بصحة هذه الرؤى التي توحد بين غاية الفلسفة وغاية الدين معًا، إلّا أنّه يمكن الوقوف على العديد من جوانب الاختلاف بين غاية الدين وغاية الفلسفة.

وأول هذه الاختلافات وأهمها: أنَّ غاية الفلسفة المعرفة وغاية الدين الإيمان، ومطلب الفلسفة فكرةٌ جافةٌ ترتسم في صورة جامدة؛ ومطلب الدين روحٌ وثّابةٌ وقوةٌ محركة[3]؛ فالفيلسوف يحركه في الأساس شوقه إلى المعرفة، وهو في الأغلب لا يهتم إلا أقل القليل بانسجام معارفه مع آماله وأمانيه البشرية المتأصلة أو عدم انسجامها، فالهم الأساسي للفيلسوف هو الوصول إلى الحقيقة حتى لو كانت النتائج مقلقةً أو غير مريحةٍ وتدخله في أزماتٍ نفسيةٍ أو اجتماعية. فالمعرفة الخالصة هي الهدف الأسمى الذي يسعى إليه الفيلسوف دون النظر إلى النتائج المتحققة من وراء كشف هذه الحقيقة، أو

(50)

إعطائها أهميةً كبرى. أمّا الدين فهدفه الأولّ الإيمان وإعطاء المؤمن به المسلِّم بما فيه، والعامل وفقًا لتعاليمه الملتزم بأوامره ونواهيه، أكبر قدرٍ من الإحساس بالأمان والطمأنينة في حاضره الدنيوي ومستقبله الأخروي، وهذا ما يجعل للدين الأهمية المباشرة في حياة الناس، فهو سبيلهم إلى الراحة العقلية، والطمأنينة النفسية في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى[1].

وهذا ما يحيلنا إلى اختلافٍ آخر بين غاية الفلسفة وغاية الدين؛ فغاية الفلسفة نظريةٌ  حتى في قسمها العملي، وغاية الدين عمليةٌ حتى في جانبه النظري. فأقصى مطالب الفلسفة أن تعرّفنا الحق والخير، ما هما؟ وأين هما؟ ولا يعنيها بعد ذلك موقفنا من الحق الذي تعرّفه والخير الذي تحدده، فالفلسفة إيضاحٌ مستمرٌ للحقيقة وللممكن الأفضل. وهذا يعود بنا إلى نشأة الفلسفة عند اليونان القدماء حيث أعلوا من قيمة النظر على العمل علوًا كبيرًا، وجعلوا شرف العلم رهينًا ببعده عن القواعد العملية، بل عن الأشياء الواقعية. في حين يبقى الدين ليعرّفنا الحق لا لنعرفه فحسب، بل لنؤمن به ونحبه ونمجده، ويعرّفنا الواجب لنؤديه ونوفيه، ونكمّل نفوسنا بتحقيقه[2].

ومن ثم تبقى الفلسفة تبعًا لغايتها مقطوعة الصلة بأية نتيجةٍ عمليةٍ في الواقع المعيش، في حين يشغل الدين هذا الواقع بكل فضاءاته. حيث تكون أول الآثار العملية للفكرة الدينية هو لفتها شعور المتدين إلى صلةٍ بينه وبين الحقيقة العليا التي يدين لها، وهي

(51)

صلةٌ تقوم في جوهرها على معنى الإلزام والالتزام الأدبي بينهما. في حين أن الفلسفة من حيث هي فلسفة تستطيع أن تعيش من غير اعتراف بهذه الصلة. ذلك أن غاية الفيلسوف من ربط الأسباب بمسبباتها هو فهمه للأشياء على وجهٍ منطقيٍ معقول. وهي غايةٌ آليةٌ خارجية، لا يتبادل فيها الخطاب، ولا تتناجى فيها الأرواح، ولا يتجه فيه العبد إلى الرب بالمحبة والتبجيل، والخشية والتأميل، وما إلى ذلك من المعاني التي لا يتحقق مفهوم الدين من دونها، إذ الدين ليس إيمانًا ومعرفةً فحسب، بل هو فوق ذلك التفاتٌ روحيٌ متبادل، هو رباطٌ من الطاعة والولاء، ومن الحدب والرعاية، بين المتدين والحقيقة العلوية التي يؤمن بها[1].

والحقيقة أنّ هذا التمييز الغائي بين الفلسفة والدين يبدو متجنيًا على الفلسفة إلى حد كبير؛ إذ إنّه ينزع كل فائدةٍ عمليةٍ عن الفلسفة، بل ويسجن الفلسفة ذاتها في برجٍ عاجي، ويصوّرها كترفٍ عقليٍ يلجأ إليه الذين لا يجدون ما يشغلهم. فصاحب هذا التمييز يغضّ الطرف عما فعله سقراط بفلسفته في مواجهة خطر السوفسطائيين وإعادة الثقة إلى نفوس الشباب في أثينا. كما يتناسى الدور الفلسفي والفكري الكبير الذي لعبه أبو حامد الغزالي (+ 1111م) في معالجة الانحرافات التي بدأت تنتشر في عصره، ونشر الدعوة إلى غرس الإيمان بين الشباب وتحفيزهم على التمسك بأصول الدين. كما يغفل دور الفيلسوف الإنجيلزي جون ستيوارت مل J. S. Mill (1806 ـ 1873) الذي ساهم بإيجابيةٍ في تطوير إنجلترا في القرن التاسع عشر اقتصاديًا وسياسيًا من خلال نظرياته الفلسفية عن الحرية

(52)

والمنفعة العامة التي انعكست آثارها في المجتمع. أو ما وضعه وليم جيمسW. Games  (1842 ـ 1910) وزملاؤه البرجماتيون من قيمٍ برجماتيةٍ تتمسك بها الولايات المتحدة الأمريكية القوة الأكبر في العالم الراهن.

ولتقديم صورةٍ تتحاشى ذلك التجني فإنه يمكننا الحديث عن نوعٍ من التكامل الغائي بين الفلسفة والدين؛ إذ إنّ الفلسفة تهتم بمخاطبة العقل، والدين يتغيَّى التأثير في الوجدان. وبالعقل والوجدان يستطيع الإنسان رسم طريقه للخلاص في الدنيا والآخرة، مبتعدًا عن تقديس المدنس أو تدنيس المقدس. ولذلك كانت دعوة الدين الإسلامي إلى جعل التفكر والتدبير العقلي من قبيل الفريضة الدينية حتى يشبع الإنسان نداء العقل والوجدان معًا ويحصل على السعادة في الدنيا والآخرة.

(53)
(54)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

مفهوم فلسفة الدين

 

(55)

الفصل الثالث: مفهوم فلسفة الدين

أولًاـ التعريف بالمفهوم:

مما سبق يمكننا القول إنَّ «فلسفة الدين» هي ذلك الفرع من الفلسفة الذي يختص بالتأمل الفلسفيّ حول الدِّين بصفةٍ عامة، بهدف فحص الموضوعات الدينيّة، وبحث طبائع الاعتقاد، بطرقٍ عقلانيّةٍ وبرهانيّةٍ خالصة، دون الاعتماد على دينٍ معيّنٍ ودون الانحياز المسبق للدفاع أو التبرير أو التبشير أو الهجوم.

وتتعدد تعريفات «فلسفة الدين» ما بين تعريفاتٍ معجميّةٍ قاموسيةٍ اصطلاحيةٍ، أو تعريفاتٍ اشتراطيةٍ أو إجرائية، كما تتعدد التعريفات أيضًا حسب منظور كل فيلسوف، وهذا الطابع التعددي هو طابع كل مجالٍ ينتمي إلى الفلسفة بوجهٍ عام.

ومع ذلك يمكن تعريف «فلسفة الدين» بصورةٍ تقريبيّةٍ إلى حد كبير اعتمادًا على القواميس والموسوعات والمؤلفات المتخصصة، وخاصةً في التعريف الاصطلاحي، فهي حسب قاموس كامبردج الفلسفي: «ذلك الحقل من الفلسفة الذي يُكرَّس لدراسة الظواهر الدينيّة. فإذا كانت الأديان في العادة تتكون من مضامين معقدةٍ من النظرية والممارسة وتشتمل على أساطير وطقوس غير معقولة، فإن فلاسفة الدين يهدفون إلى تقييم ادعاءات الحقائق الدينيّة من منظور عقلاني خالص»[1].

(56)

وهي حسب موسوعة روتليدج الفلسفية المختصرة The Shorter Routledge Encyclopedia of Philosophy: «فلسفة الدين هي الـتأمُّل الفلسفيّ في الدين»[1]. وترى هذه الموسوعة وهي بصدد تعريفها أن «فلسفة الدين» قديمةٌ قِدم الفلسفة ذاتها، وأنها جزءٌ أصيلٌ من الفلسفة الغربيّة في كل عصورها، وقد شهدت تطورًا عظيمًا في النصف الأخير من القرن العشرين، وبرز لها مجموعة من الفلاسفة الذين تخصصوا في بحث الموضوعات الدينية بحثًا فلسفيًا. كا ترى أنها تنقسم ـ في بعض الأحيان ـ إلى قسمين: فلسفةٍ خاصةٍ بالدينPhilosophy of Religion Proper وفلسفة اللاهوت Philosophy of Theology. وقد عكس هذا التقسيم نوعًا من عدم الارتياح بين الفلاسفة، وخاصةً في الفترة السابقة على الفلسفة التحليلية. وخلالها رأى الفلاسفة أن التفكير الفلسفي في الدين يلقى استحسانًا إذا عمل على استخلاص التوحيد من كافة الأديان، لذلك اعتبره البعض لاهوتًا لا فلسفة. ولذلك أصبح الفلاسفة المعاصرون لا يترددون في دراسة أي جانبٍ من جوانب الأديان، بما فيها المذاهب والممارسات الخاصة بالأديان الفردية، أي إنها لم تقتصر على تلك المذاهب والممارسات ذات الاهتمامات الفلسفية العامة. وغالبًا ما تثير «فلسفة الدين» ـ حسب الموسوعة المختصرة ـ أسئلةً تكون مفيدةً لقضايا فلسفية مختلفة، كالتأمل في الفكرة المسيحية للتقديس على سبيل المثال، كما تسلط الضوء

(57)

على بعض المناقشات المعاصرة حول طبيعة حرية الإرادة[1]. ويأخذ الباحث على هذا التعريف مآخذ شتّى، أهمها القول بأن فلسفة الدين قديمةٌ قِدم الفكر الفلسفي ذاته، لما في ذلك من خلطٍ واضحٍ بين فلسفة الدين، واللاهوت، والفلسفة الدينية.

كما تعرَّف فلسفة الدين بأنها: «التحقيق العقلاني الفَونَصيّ (النص المقدس) في حقيقة الدين وكيفيته وسببيته، ومقولاته وتعاليمه الأساسية»، أو «البحث الفلسفي في الدين وفي شأن الدين»[2]، أي البحث الفلسفي لكل ما هو ديني وتناوله بالشرح والتفسير والبيان والتحليل دون الانطلاق من موقفٍ مسبقٍ مؤيدٍ أو رافض.

كما أن أشهر التعريفات العربية لمصطلح «فلسفة الدين» هو ما قدمه المصري محمد عثمان الخشت، بأنها «التفسير العقلاني لتكوين وبنية الدين من حيث هو دين، أي عن الدين بشكلٍ عامٍ من حيث هو منظومةٌ متماسكةٌ من المعتقدات والممارسات المتعلقة بأمور مقدسة، ومن حيث هو نمطٌ للتفكير في قضايا الوجود، وامتحان العقائد والتصورات الدينية للألوهية والكون والإنسان، وتحديد طبيعة العلاقة بين كل مستوى من مستويات الوجود، والبحث في الطبيعة الكليّة للقيم والنظم والممارسات الدينية، ونمط  تطور الفكر الديني في التاريخ، وتحديد العلاقة بين التفكير الديني وأنماط التفكير الأخرى، بغرض الوصول لتفسيرٍ كليٍ للدين، يكشف عن منابعه في العقل والنفس والطبيعة، وأسسه التي يقوم

(58)

عليها، وطبيعة تصوره للعلاقة بين المتناهي واللامتناهي، والمنطق الذي يحكم نشأته وتطوره واضمحلاله»[1].    

ويعرّف عادل ضاهر «فلسفة الدين» تعريفًا إجرائيًا، فيقول: «تتناول فلسفة الدين أسئلةً تتعلق بإمكان معرفة وجود الله، ومعرفة صفاته، وكيفية تحديد العلاقة بين الله والعالم، وكيفية فهم طبيعة الله (ماهيته)، والعلاقة بين وجوده وماهيته. كذلك تتناول فلسفة الدين أسئلةً تتعلق بطبيعة الدين نفسه وطبيعة اللغة الدينية، بالإضافة إلى أسئلةٍ تتعلق بمعنى العبادة الدينية ودور الإيمان فيها وعلاقة الأخير بالعقل»[2].

كما يمكن تعريف «فلسفة الدين» تعريفًا اشتراطيًا بأنها: مبحثٌ فلسفيٌ لا ينتمي إلى الإلهيات، أي التدوين الممنهج للعقائد الدينية، ولا يتوخى الدفاع عن المعتقدات الدينية أو تبريرها، ولا علاقة لفلسفة الدين بإيمان فيلسوف الدين أو عدم إيمانه، فهو باحثٌ محايدٌ يتحرى الدقة والموضوعية والأدلة العقلانية في بحثه، ولا شأن له بإثبات العقائد الدينية أو نفيها. وهي فلسفةٌ من الفلسفات المضافة؛ مثل فلسفة التاريخ، فلسفة القانون، فلسفة الجمال، إلخ، ولا تختص بدينٍ معين، فهي مثل فلسفة العلم لا تنتمي لعلمٍ معين.

ومع ذلك لا يمكننا القول بأن هذه التعريفات السابقة قد عبّرت عن التعريف الأوفى لمفهوم «فلسفة الدين»؛ لأن هناك رؤًى

(59)

أخرى تقدم تعريفاتٍ متباينةً مع هذه التعريفات. ويرجع ذلك إلى أن «المتأمل لا بد أن يلحظ  أن العمر الإبستمولوجي لاختصاص «فلسفة الدين» ـ وهو اختصاصٌ لئن مرّت على نشأته مائتا عامٍ ونيّف؛ فهو لا يزال في تقدير العارفين بها تقليدًا في البحث فتيًا ـ قد مرَّ بعدّة أطوار، بعضها متوالٍ وبعضها متوازٍ، إلّا أن التوالي أو التوازي لم يطمس في أحدهما أو كليهما طبيعة الإشكال الهادي، ولا البنى المخصوصة التي تهيكلت المسائل من خلالها، ولا الرهانات الفلسفية التي حركت كلّ طور منها»[1].

أي إن التحديد الحقيقي لمفهوم «فلسفة الدين» بوصفها تفكيرًا فلسفيًا حول الدين ما زال مطروحًا أمام الباحثين في الشرق والغرب. إذ لا يزال البعض من الباحثين في الغرب والشرق (منهم على سبيل المثال: ميرولد وستفال Merold Westphal ـ مصطفى النشار) يخلطون بين اللاهوت الطبيعي (الفلسفي)[2] وبين فلسفة الدين، ويرون أن مصطلح فلسفة الدين الذي ظهر في أواخر القرن الثامن عشر ما هو إلا لفظٌ بديلٌ جاء ليحل محل مصطلح اللاهوت الطبيعي الذي كان سائدًا قبل ذلك. إذ يقول الباحث المعاصر «ميرولد وستفال» إنه لا يوجد تمييزٌ واضحٌ ومتسقٌ بين

(60)

ما يُعرف بـ«اللاهوت الفلسفي» و«فلسفة الدين»، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن الفارق بينهما يقوم على أساسٍ لغويٍ خالص، في أن «اللاهوت الفلسفي» يكون موضوعه الأساسي هو «الله»، في حين يكون الموضوع الرئيسي لـ«فلسفة الدين» هو الدين أو المشكلات الدينية. وقد تحول اللاهوت الطبيعي إلى «فلسفة الدين» في العصر الحاضر مرةً واحدةً في الفترة من ديفيد هيوم وإيمانويل كانت إلى فريدرك نيتشه[1]. بينما يؤكد مصطفى النشار الفكرة ذاتها من منظورٍ شرقيٍ في كتابه «مدخلٌ جديد إلى فلسفة الدين» مرتئيًا أنَّ فلسفة الدين مبحثٌ فكريٌ وفلسفيٌ قديمٌ قِدم الأديان ذاتها[2].

خلاصة القول إن «فلسفة الدين» هي فرعٌ من الفلسفة الراهنة الذي يهتم بدراسة المفاهيم والقضايا والمعتقدات الدينية بشكلٍ عقلانيٍ خالصٍ دون تحيُّزٍ أو تبني مواقفَ أو أيديولوجياتٍ مسبقة. أو كما يقول أحد الباحثين: «لا يأتي الفيلسوف إلى الكلام في الدين إذن لأسباب أو لدواعٍ دينية، ومن يفعل ذلك يلقي بعتمةٍ ثقيلةٍ على التفكير؛ إذ هو يخلط بين حاجة العقل وبين الدعوة الدينية»[3].

ومن ثمّ يمكننا التمييز أيضًا بين فلسفة الدين وبين مجالات أخرى تتخذ من الدين موضوعًا لها كعلم النفس الديني، وعلم اجتماع الدين، وعلم تاريخ الأديان أو مقارنة الأديان، وعلم أصول الدين.

(61)

إذ إنّ فلسفة الدين تختلف عن علم النفس الديني حيث لا يهتم هذا الأخير بدراسة الدين من كل جوانبه دراسةً عقليةً كما تفعل فلسفة الدين، وإنما يكتفي بدراسة الدين من زاويةٍ نفسية. كما أنه لا يوجد في علم النفس الديني منهجٌ واحدٌ وإنما مناهج متعددة بتعدد المدارس النفسية، ولعل أكثر هذه المناهج شيوعًا منهج التحليل النفسي الذي نشأ مع عالم النفس الشهير سيجموند فرويد، الذي بلور نظريةً في التحليل النفسي للشعور الديني في كتابه «الحضارة ومساوئها» (1930م)، وفي كتابه «مستقبل وهم» (1949م). كذلك تناول إريك فروم الدين في كتابه «الدين والتحليل النفسي» من زاويةٍ نفسيةٍ تتأثر بالعوامل الاجتماعية[1].

كما تختلف أيضًا فلسفة الدين عن علم اجتماع الدين؛ إذ ينظر هذا الأخير إلى الدين من حيث كونه ظاهرةً اجتماعيةً جمعيةً من حيث المعتقدات والمؤسسات والسلوك، والوظائف الاجتماعية للدين، ويقوم بدراستها وفق المناهج الاجتماعية المعروفة. ومن أهم الذين أسهموا في تأسيس علم اجتماع الدين إميل دوركايم في كتابه «الصور الأولية للحياة الدينية» (1912م)، وماكس فيبر  M. Weber(1864 ـ 1920) في كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» (1905م)، وكتابه الأشهر الذي بيّن المعالم الواضحة لهذا العلم والذي عبّر عنوانُه بصراحةٍ عن مضمونه، وهو كتاب «علم اجتماع الدين» (1922م) [2].

الأمر نفسه ينطبق على علم «مقارنة الأديان» من حيث اختلافه

(62)

بدرجةٍ كبيرةٍ عن فلسفة الدين؛ إذ يقوم علم «مقارنة الأديان» بالدراسة المقارنة الوصفية وأحيانًا النقدية بين الأديان، من حيث المعتقدات والرؤى والكتب المقدسة. وأحيانًا يقوم بنوعٍ من العرض التاريخي، فيدرس ويصف ويؤرخ لنشأة وتطور المعتقدات والشرائع والممارسات الدينية في التاريخ أو في جزءٍ منه حسب المعلومات المتاحة. وقد مرَّ هذا العلم بمراحل مختلفة في اتجاه التقدم والتطور حتى أصبح الآن يتحرك في دائرةٍ واسعةٍ من المعلومات عن الأديان العالمية والمحلية. وأصبح له مناهج عدة مستخدمة حسب طبيعة كل مدرسة علمية، مثل: البحث التاريخي، وتحليل النصوص، والنقد المقارن، وفحص الأشكال الأدبية[1]. ولا يزال هذا العلم يشهد تطورًا ملحوظًا يومًا بعد يوم.

وتختلف أيضًا «فلسفة الدين» عن «علم الكلام “Dialectical Theology و«علم اللاهوت Theology»، بالرغم من أن الدين هو الموضوع الأساسي للعلوم الثلاثة. فإذا كانت مهمة اللاهوت الأولى هي تبرير الإيمان وتوضيحه والدفاع عنه، فإن علم الكلام يهتم في المقام الأول بالدفاع عن العقائد الدينية ضد العقائد المضادة، ومحاولة تفنيد العقائد المخالفة، ورد الشبهات، فضلًا عن الدفاع عن عقائد فرقةٍ دينيةٍ من الفرق داخل الدين الواحد ضد الفرق الأخرى في نفس الدين أو في دين آخر. كما ورد في تعريف ابن خلدون: «هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسر العقائد الإيمانية هو التوحيد». أو كما ورد عند الايجي:

(63)

«والكلام علمٌ يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشُبه، والمراد بالعقائد ما يقصد فيه نفس الاعتقاد دون العلم، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد عليه‌السلام ، فإن الخصم وإن خطَّأناه لا نخرجه عن علماء الكلام». أو تعريف طاش كبرى زاده: «علم يُقتدر معه على إثبات الحقائق الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشُبه عنها»[1]. ولعلم الكلام مسميات عدة؛ فيسمى علم الفقه الأكبر، وعلم التوحيد، وعلم العقائد، وعلم أصول الدين، وعلم النظر والاستدلال.

 وما يزيد من التأكيد على اختلاف علم الكلام عن «فلسفة الدين» هو اختلافهما في الغاية؛ حيث غاية علم الكلام أن يصير الإيمان والتصديق بالأحكام الشرعية متيقنًا محكمًا لا تزلزله شُبَه المبطلين، وفهم العقيدة وشرح ما غمض من مصطلحات كالوعد والوعيد، والجبر والاختيار وغيرها، والدفاع عن العقيدة الإسلامية وإثباتها في وجه العقائد والتيارات والآراء المخالفة لها، ودراسة الأحكام الاعتقادية في الشريعة الإسلامية[2]. وهو ما يختلف إلى حدٍ كبيرٍ مع غاية فلسفة الدين؛ إذ إنّها ليست دفاعيةً، ولا مشغولةً بعقائد فرقةٍ دون أخرى، بل هي معنيةٌ بالدين ككلٍ من حيث هو دين، وتختبره اختبارًا عقليًا مقارنًا في كل عقائده، وتسعى لتفسير الشعور والتفكير الديني من حيث المنهج والبنية والتكوين، وتبدأ من نقطة بدءٍ موضوعيةٍ وعقلانيةٍ وخالصة، أي تبدأ بدايةً غير منحازة، لكنها ربما تنحاز في نهاية التحليل لدينٍ ما؛ بناءً على أسسٍ عقلانيةٍ محضة، لأنها تنتهج

(64)

الأسلوب البرهاني وتتجنب المنهج الجدلي أو الانفعالي. كما أن العقل الواضح والواقع المتعين هما المعيار فيها للتمييز بين الحق والباطل، وتبدأ ـ أو هكذا ينبغي أن تكون ـ من مقدماتٍ يقينيةٍ بحكم التجربة أو بحكم العقل. أما علم الكلام أو اللاهوت فهو منحازٌ منذ البداية إلى النهاية، وينتهج أساليب تبريريةً وجدليّةً في أكثر الأحيان، وهذا ما لا تفعله فلسفة الدين إلا استثناءً... أو هكذا ينبغي لها أن تكون[1].

كذلك يمكننا التمييز بين فلاسفة الدين وعلماء الدين أو اللاهوتيين وعلماء الكلام. فعالم الكلام أو عالم اللاهوت يبدأ من نقطة بدءٍ يقينيةٍ تقوم بالتسليم المطلق بصحة العقيدة؛ ولذا فهو يسير على مبدأ «آمِنْ ثمَّ تعقلْ»، ويتخذ من فهمه للنص الديني معيارًا للتمييز بين الحق والباطل، ويعتمد على المنهج الجدلي الذي يبدأ من مقدماتٍ ظنيّةٍ وليست يقينيةً بالتجربة أو العقل[2]. على العكس تمامًا من فيلسوف الدين الذي لا يبدأ من أي نقاطٍ يقينية، ولذلك يقدم التعقل على الإيمان، فيسير على مبدأ «تعقلّ ثم آمِن»، ويتخذ من الوضوح والبداهة معيارًا للتمييز بين الحق والباطل، ولذلك فهو يعتمد على المنهج العقلي البرهاني.

 كما أنّ علماء الكلام واللاهوت عادةً ما ينظرون إلى الوجود الإلهي كَمُسلَّمةٍ أو بديهيّةٍ غير قابلةٍ للنقاش، أو كحقيقةٍ واضحةٍ بذاتها، ويشرحون ويبررون الاعتقادات الدينية بالمنطق العقلاني أو بالصور الفطرية والمجازات الحدسية. أمّا فلاسفة الدين فهم

(65)

يختبـرون وينقـدون الأسـس المعرفيّة، والمنطقـيّـة، والأخـلاقـيّة، والجماليّة، المتضمنة في اعتقادات دين ما ـ أي دين. وبينما علماء اللاهوت يحللون عقليًا وتجريبيًا موضوع طبيعة الإله، فإن فلاسفة الدين مهتمون أكثر بالسؤال عما هو قابل للمعرفة وبإبداء الرأي في كل ما يتعلق بالمعتقدات الدينية[1]. أي إنّ علماء الكلام واللاهوت منحازون مقدمًا إلى الإيمان بقضايا الدين والدفاع عنها، في حين يبقى فلاسفة الدين محايدون تمامًا تجاه مسألة الإيمان الديني.

وهكذا يتبلور مفهوم «فلسفة الدين» كمبحثٍ فلسفيٍ مستقلٍ محددٍ ودقيق، له موضوعاته ومناهجه وغايته التي تميزه عن غيره من العلوم التي تتخذ من الدين موضوعًا لها.

ثمَّ إننا نؤكد مع العديد من الباحثين على أن نقطة البدء الأساسيّة في فلسفة الدين تعود إلى ما طرحه سؤال كانط الرشيق: «ماذا يحق لي أن أرجو؟» سنة 1790م في مؤلفه الشهير «نقد ملكة الحكم». ذلك السؤال الذي أسّس ورسم جلّ ملامح ميدان السؤال الفلسفي عن معنى الدين في أفق المعاصرين[2]. لينطلق كانط من هذا السؤال في هذا المؤلف الذي خصصه لفلسفة الفن والجمال ليفرد مؤلفه التالي «الدين في حدود العقل وحده» والذي كتبه في عام 1793م ليقدم تفسيراتٍ عقلانيّةً نقديّةً للدين بشكلٍ كليّ، من منظور العقل

(66)

النظري والعقل العملي. ويُخضِع فيه المعتقدات الدينية، والعلاقة بين الإنسان والله كما يقدّمها الدين، للبحث الفلسفي المستفيض، مُحَكِّمًا المعايير العقليّة وحدها.

هذا عن مضمون «فلسفة الدين»، والجدير بالذكر أنّ المضمون قد ظهر قبل المصطلح نفسه؛ إذ إن مصطلح «فلسفة الدين» لم يظهر إلا في بداية القرن التاسع عشر؛ حيث بدأ شيوعه واستخدامه للدلالة على مجالٍ فلسفيٍ مستقلٍ ومنفصل، ويرجع الفضل في هذا ـ إلى حدٍ كبير ـ إلى الفيلسوف الألماني هيجل في كتابه «محاضرات في فلسفة الدين» الذي نُشر في عام 1832م ، ولكنه ألقي قبل النشر على هيئة محاضراتٍ ألقاها هيجل على طلابه في الفترة ما بين 1821م إلى 1831م، وهي سنة وفاته. ثم بدأت بعد ذلك تتوالى العناوين المختلفة حيث أصدر «ج. كيرد J. E. Caird» (1835 ـ 1908) كتاب «مدخل إلى فلسفة الدين» سنة 1880م وبعده بعامين ظهر كتاب لوتزة R. H. Lotze (1817ـ1900) «فلسفة الدين»، وهو كما يقول محمد عثمان الخشت: «كتابٌ صغير الحجم لكنه غني المضمون، ومارس تأثيرًا كبيرًا على عددٍ من فلاسفة الدين في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، مثل الهيجليين الجدد: بوزانكويتB. Bosanquet  (1848 ـ 1923) ورويس، والفلاسفة الأقل تأثرًا بهيجل، مثل: بون، ولاد G. T. Ladd (1842 ـ 1921)»[1]

وفي عام 1888م ظهر كتاب إدوارد فون هارتمان  E. V. Hartmann (1842 ـ 1906) بعنوان «فلسفة الدين» الذي نجده يتردد بشكلٍ مستمرٍ عند فلاسفة الدين في القرن العشرين، حيث شهد

(67)

هذا القرن دراساتٍ بحثيةً عديدةً حملت عناوينها مصطلح «فلسفة الدين». فمع بداية القرن العشرين ظهر كتاب الفيلسوف الدانماركي هوفدنج H. Hoffding (1843 ـ 1931) عن «فلسفة الدين»، والذي رفض فيه مؤلفه الاعتقاد في شخصانية الله، كما رفض الاعتقاد في الخلود الشخصي، فأحدث هذا الكتاب ضجةً كبيرةً في الأوساط الأوربية الدينية والثقافية، مما جعله هدفًا للمترجمين ودور النشر في شتى بقاع العالم. وفي هذا الإطار شهد القرن العشرون عشرات المؤلفات للعديد من الفلاسفة المشهورين التي حملت عناوينُها بصورةٍ مباشرةٍ اسم فلسفة الدين ككتاب إدجار شيقلد برايتمان «فلسفة الدين»، وكتاب «ج. ت. لاد» «فلسفة الدين»، وكتاب جون هيك J. Hick «فلسفة الدين». أو كتلك التي تبحث في مجال فلسفة الدين بالمعنى الدقيق وإن لم تحمل عناوينها مصطلح فلسفة الدين بشكلٍ مباشر، من أمثال مؤلفات: وليم جيمس («تنوعات الخبرة الدينة»، «إرادة الاعتقاد»)، وجوزايا رويس («العالم والفرد» و«الجانب الديني للفلسفة» و«مشكلة المسيحية» و«مفهوم الله» و«مصادر البصيرة الدينية»)، وجورج سنتيانا G. Santayana (1863 ـ 1952) («العقل في الدين»)، وهوكنج Hocking («معنى الله في الخبرات الدينية»)، ورودلف أوتو R. Otto («فكرة المقدس»)، وجيمس جويسJ. Joyce («مبادئ اللاهوت الطبيعي»)، ووايتهد («الدين في تكونه»)، وبرجسون («منبعا الأخلاق والدين»)، وروزنبرج Rosenberg («أسطورة القرن العشرين»)، وكنودسون A. C. Knudson (1873 ـ 1953) («نظرية الله»)، وكالفرتون («زوال الآلهة»)، وآير A. Ayer (1911 ـ 1989) («اللغة والصدق

(68)

والمنطق»)، وبيكسلر («دين من أجل العقول الحرة»)، وجرهام وارد  G.Ward(«إله ما بعد الحداثة»)... وغيرها من المؤلفات التي يصعب حصرها والتي ظهرت خلال القرن الماضي.

وقد شهدت «فلسفة الدين» تطورًا هائلًا في الفلسفة المعاصرة؛ فقد ظهر جيلٌ من الفلاسفة ما بعد المثاليين، وما بعد التنويريين، لم يعد يرى في السؤال عن «جوهر الدين» أو«ماهية الله» أمرًا جديرًا بالثناء الفلسفي. بل أكثر من ذلك؛ لقد كفَّ مفهوم «الله» عن جذب الفلاسفة إلى بناء نظريةٍ فلسفيّة في الدين، وتحوّل إلى تحدٍّ ميتافيزيقيٍ قلقٍ وفظيعٍ لا حلّ له داخل تقاليد التفلسف السابقة[1]. ولذلك يمكننا التمييز بين نوعين لفلسفة الدين في العصر الراهن؛ الأولى تقوم على التأويل والتفسير وإعادة القراءة؛ والثانية تقوم على التحليل اللغوي، كتلك التي افتتحتها كلمات لودفيج فتجنشتاين L. Wittgenstein (1889ـ1951) في كتابه الشهير «رسالة منطقية فلسفية» المنشور عام 1922، عن معنى التصوف بل إله ديني! ومن ثمَّ بدأت «فلسفة الدين» في العصر الراهن تتناول أسئلةً جديدةً ومختلفةً إلى حدٍ ما عن تلك الأسئلة الكلاسيكية عن: ماهية الله، وحقيقة الوحي والنبوات، والمعجزات، والمعاد، ومشكلة الشر وغيرها، وإن كانت في الحقيقة تدور في مداراتها البعيدة. ومن أشهر هذه الأسئلة التي اتجهت إليها «فلسفة الدين» في العصر الراهن، وأشار إليها أحد الباحثين[2]: هل يوجد إلهٌ محايدٌ تجاه مستقبلنا؟ وهل ثمة تألّهٌ من دون تديُّن؟ هل ثمة إيمان لائكي؟ كيف يكون نبيّ

(69)

بلا إله ووحي؟ لماذا في النهاية لم يمت إلّا الإله الأخلاقي؟ هل تعني العلمنة حقًا نزع السحر عن العالم؟ أو انسحاب الآلهة؟ أو تحوُّلَ المقدّس إلى جهازٍ لغويٍ دنيويٍ تحت التصرف؟...

ولا يعني ذلك أن الأسئلة الكلاسيكيّة قد تم تجاهلها في إطار «فلسفة الدين» في العصر المعاصر، بل أنها تبقى موجودةً على الدوام في فلسفة الدين كلما بقيت في ذهن الإنسان العادي الذي تشغله أسئلةٌ من قبيل: من أين وجد هذا العالم؟ ومن أوجده؟  وهل هو عالمٌ أبديٌ أم له نهاية؟ وإذا كان العالم مخلوقًا لله، فما طبيعة هذا الله الخالق؟ وما صفاته؟ وكيف خلق هذا العالم؟ وإذا كان الله موجودًا، وكانت هناك حياة بعد الموت، فعلى أي كيفيةٍ ستكون هذه الحياة؟ وما هي معايير النجاة في هذه الحياة الأخروية؟ وإذا كان لزامًا على الأخيار تجنّب الشر في هذا العالم، فمن أين جاء الشر؟

ومن ثم يمكننا القول مع أحد الباحثين إن مصطلح «فلسفة الدين» تعبيرٌ قد يُستدل به على أمور ثلاثة:

فلسفة الدين يمكن أن تشير إلى السعي لاستخراج رؤيةٍ فلسفيةٍ أو توجهٍ فلسفيٍ تكمن عناصره الأساسية أو بذوره المثمرة في تضاعيف الدين عينه.

فلسفة الدين يمكن أن تدل أيضًا على محاولة تغيير طبيعة الدين برمته وجعله في ذاته فلسفةً مستقلة.

فلسفة الدين يمكن أخيرًا أن تعني حصرًا التفكير الفلسفي في واقع الدين[1]وهو الأمر الذي تعتمده هذه الدراسة ومعظم الدراسات الأكاديمية حتى الآن.

(70)

ثانيًاـ أهم الفلاسفة المنظرين لفلسفة الدين:

سبق أن نوّهنا في أكثر من موضع بأصحاب الإسهامات المختلفة في فلسفة الدين، لكنَّنا الآن سنقف بشيءٍ من التركيز عند أهم المنظرين لمصطلح «فلسفة الدين» منذ نشأته وحتى العصر الراهن، مركزين على أهم إسهاماته ومؤلفاته المتخصصة في  مجال فلسفة الدين، وكذلك على نقاط التشابه والاختلاف بين رؤية كل فيلسوفٍ لهذا المصطلح، وكيف انتقل مع كلٍ منهم خطوةً إلى الأمام:

إيمانويل كانط  (1724 ـ 1804)

يُرجع جُلّ الباحثين نشأة مصطلح فلسفة الدين إلى إيمانويل كانط، الذي جعل شعار التنوير «لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك! ذلك هو شعار التنوير»[1]. لكنهم اختلفوا في أي كتاب تحديدًا قدّم كانط رؤيته الفلسفية الخالصة للدين؛ إذ يرى البعض أن أول درس ألقاه كانط في فلسفة الدين إنّما تم بين عامي 1783 و1784، وذلك يعني بعد كتابَي «نقد العقل المحض» (1781)، و»مقدمات لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علمًا» (1783). إذ يرى صاحب هذا الرأي أن مخطوط «دروس في النظرية الفلسفية في الدين» والذي رأى النور سنة 1817، أي بعد موت كانط (1804)، لا يضمّن في نصه بعض المقاطع المكررة حرفيًا من كتاب «نقد العقل المحض» ومن «المقدمات»، بل على الخصوص إنّ ما يطلق عليه كانط ـ وهو لبّ إسهامه في مباحث فلسفة الدين ـ اسم «اللاهوت

(71)

الترنسندنتالي» أو المتعالي هو أيقونةٌ فلسفيةٌ غير ممكنة التصور من دون براديغم الوعي الحديث عمومًا، ومن دون نقد العقل المحض خصوصًا[1]. بينما يرى آخرون أن كانط قد بدأ التفلسف حول الدين بصورةٍ مختلفةٍ عن ذي قبل منذ أن طرح سؤاله الذي يبحث في جل مسائل الدين: «ماذا يحق لي أن أرجو؟» في عام 1790 في مؤلفه الذي خصصه لدراسة الفن والجمال «نقد ملكة الحكم». بينما يرى جلّ الباحثين أن كتاب كانط «الدين في حدود العقل وحده» والذي ألفه كانط سنة 1793، حيث يؤكد كانط في هذا الكتاب أن الدين يجب ألا يرتبط بالعواطف بل بالعقل، وأنه من الخطأ أن نعتقد أن الدين هو الضابط للأخلاق في حين أن الأخلاق وحدها هي التي يمكن أن توصلنا إلى الدين، مؤكدًا على أن الدين بمعناه الحق لا بد أن ينبع من الأخلاق، فالواجب الأخلاقي كما يفرضه العقل لا يمكن أن يختلف عن الأمر الإلهي، لذلك كانت الأخلاق سابقةً على الدين ولا يمكنها أن تأتي لاحقًة له. ومن ثم فهو يدعو إلى الدين الأخلاقي مفضلًا إياه عن الدين التاريخي الذي يسبب الحروب والصراعات بين البشر، فالحروب التي هزت العالم وأدمت جراحه لم يكن لها سببٌ سوى صراع العقائد الدينية[2].

في حين أن الرأي الذي يؤيده الباحث وينحاز إليه هو ذلك الرأي الذي يرى أن كل فلسفة كانط من أولها إلى آخرها يمكن وصفها بأنها فلسفة دين؛ لا لأن بعض مؤلفاته تناولت وجود الله والدين، مثل: «بحث في وضوح مبادئ اللاهوت الطبيعي

(72)

والأخلاق» (1762)، و«البرهان الممكن الوحيد لإثبات وجود الله» (1763)، و«الدين في حدود العقل وحده» (1793)، بل حتى ما لم يكن كذلك من مؤلفاته، يتضمن فلسفة للدين، فثلاثيته النقدية: «نقد العقل الخالص» (1781)، و«نقد العقل العملي» (1788)، و«نقد ملكة الحكم» (1790)، يشتمل النقد الأول منها على بيان إخفاق المحاولات النظرية للبرهان على المسائل الميتافيزيقية، والثاني يطرح المشكلة الخلقية بديلًا لتلك المناقشات، فمن الضروري عند كانط أن يتعمق المرء في وجود الله، ولكن ليس من الضروري البرهنة على وجوده، والثالث يركز على النظام والجمال والغائية في الكون. وينتهي من النقد النظري والعملي إلى رفض وجود الله نظريًا والتسليم به عمليًا[1]. أي إن الدين كان هو العامل الموجه لفلسفته منذ بدايتها وحتى نهايتها، فقد حاول قبل المرحلة النقدية أن يصل إلى دينٍ فلسفي، ووصل إلى ذلك بالفعل في المرحلة النقدية عندما جعله مرادفًا للأخلاق، ثم درس الدين القائم بالفعل وحوله إلى أخلاق في «الدين في حدود العقل وحده». وفي المرحلة الأخيرة من حياته انتهى إلى نوع من التصوف العقلي الذي تميز به الألمان من أمثال جوته وشيللر وشلنج.

جورج ويلهم فردريك هيجل (1770 ـ 1831)

كان هيجل هو أول من أطلق مصطلح «فلسفة الدين» كعنوانٍ صريحٍ ومباشرٍ لكتابٍ في هذا المجال، فإذا كان كانط قد دشّن المضمون الأَولي لفلسفة الدين، فإن هيجل هو من دشّن المصطلح، وكان هذا ـ كما سبق أن أشرنا ـ من خلال كتابه «محاضرات في

(73)

فلسفة الدين»، تلك المحاضرات التي ألقاها هيجل على طلابه سنة 1821م، وسنة 1824م، وسنة 1827م، وسنة 1831م وهي سنة وفاته. أمّا الكتاب فقد ظهر بعد وفاة هيجل بعامٍ واحد، أي في عام 1832م. إذ صَدَّرَ هيجل الجزء الأول من هذا الكتاب عن «مفهوم الدين» بمقدمةٍ طويلةٍ عن فلسفة الدين، غايتها، وضرورتها، وصلتها بالفلسفة وبالدين، وكيف أنها نشأت عند هيجل كرد فعلٍ على نماذج الفكر الديني في عصره، سواء في اللاهوت العقلي أو في اللاهوت الحر في فلسفة التنوير.

فرأى أنَّ الدين هو ما يميز الإنسان عن الحيوان لأن الدين قائمٌ على الشعور، الشعور بالخلود، الشعور بالحرية، والشعور لا يوجد إلا عند الإنسان. الدين مركز الحياة الشعورية لأنه إحساس بالله. الدين هو عملية تحريرٍ للشعور أو شعورٌ بالحقيقة. ويقصد هيجل من وضع الدين في الشعور وجعله ظاهرةً شعوريةً معارضة نماذج الفكر الديني في عصره التي ترى أن معرفة الله مستحيلة. كما يحاول هيجل بذلك أن يفسح مجالًا للدين بين العلم والتصوف؛ لأن كليهما ينفي إمكانية الوصول إلى الله عن طريق العقل والتأمل.

ولذلك كان الهدف المنشود من وراء فلسفة الدين عنده هو حل التعارض الذي وضعه فلاسفة التنوير بين الفلسفة والدين، وإلى بيان أن الدين ينتهي حتمًا إلى الفلسفة، وأن الفلسفة تؤدي بالضرورة إلى الدين، فكلاهما حاجةٌ شعورية، وكلاهما يميز الإنسان عن الحيوان، وكلاهما متحدٌ في الموضوع وهو الله، فالله مضمون الدين والفلسفة على السواء. ويحاول هيجل إثبات ذلك على طريقة اللاهوت الطبيعي القديم الذي بدأ من العالم للوصول إلى

(74)

الله، أو بتعبير هيجل، الذي يبدأ من الوجود للوصول إلى المعرفة المطلقة عن طريق العقل المحض، بخلاف الدين الموحى به أو الدين الوضعي الذي يقوم على السلطة (سلطة الكتاب المقدس أو سلطة الكنيسة) أو على النبوة. وفي نفس الوقت يرفض هيجل اللاهوت العقلي الذي يتخذ الله موضوعًا له؛ لأن هذا اللاهوت، في نظر هيجل، لم يتجاوز حدود الذهن، ولم يصل إلى مستوى العقل، فالله في هذا اللاهوت تصورٌ ذهنيٌ خالصٌ وليس روحًا أو وجودًا أو ذاتية[1].

وإن أهم ما يميز فلسفة الدين عند هيجل هو أنه جعل العقل مبررًا للإيمان، فأخضع الدين للعقل. ومن ثم تم تحويل الدين إلى فكر، وجعل تطور الدين موازيًا لتطور العقل. وبالتالي قضى على كل الاتجاهات الإشراقية الصوفية، وعلى كل عقائد السر التي لا يستطيع العقل النفاذ إليها بالرغم من أن الفكرة لديه نشاط للروح كما هو الحال عند الإشراقيين. وقد خرجت من هيجل بعض مدارس النقد العقلي للنصوص الدينية ولتاريخ العقائد، بالرغم من أنه وقف منها موقفًا معارضًا؛ لأنها تحلل الحرف وتترك الروح، وقد استطاع هيجل القيام بذلك وهو في أوج التيار الرومانسي في الدين والفكر والفن[2].

 فخلاصة الأمر أن الدين عند هيجل هو أحد تجليات الروح المطلق، وموضوعه لا يختلف عن موضوع الفلسفة، أي إن الدين

(75)

قد تحول من نصوصٍ مقدسةٍ عند هيجل إلى فكرٍ إنساني، كالفكر الفلسفي، يقبل الأخذ والرد، لا يقوم بمفرده وإنما يقوم في حضارةٍ ويكون جزءًا منها، ويرتبط بكل مظاهرها، من فنٍ وفكرٍ وسياسةٍ وغيرها، وهذه النقطة تحديدًا هي النقطة التي سينطلق منها تلميذه لودفيج فويرباخ فيما بعد.

لودفيج فويرباخ (1804ـ1872)

انطلق فويرباخ من النقطة التي توقف عندها أستاذه هيجل، فبنى عليها وواصل معها حتى نهاياتها المنطقية، فإذا كان هيجل قد انتهى إلى أن جعل الدين فكرًا إنسانيًا، فإن فويرباخ أرجع اللاهوت إلى الإنسان، ورأى أن اللاهوت اختراعٌ إنسانيٌ محض. وهو الأمر الذي حاول البرهنة عليه في مختلف مؤلفاته، مثل: «الفلسفة والمسيحية» (1839)، و«جوهر المسيحية» (1941) ـ ذلك الكتاب الذي يدخل في صميم فلسفة الدين حيث يقيم فيه حوارًا ثلاثيًا بين الفلسفة والدين واللاهوت، ويراه الكثيرون من مؤرخي الفلسفة أنه لا يجعل فويرباخ فحسب من المؤسسين الفعلين لفلسفة الدين، وإنما مؤسسًا لوظيفتها وموضوعاتها ورهاناتها ـ وكذلك كتاب «جوهر الإيمان حسب لوثر» (1844)، وكتاب «جوهر الدين» (1945)، وكتاب «محاضرات في جوهر الدين» (1851). والملاحظ أن محاولة الوقوف على الجوهر هي العامل المشترك في جل مؤلفات فويرباخ. ذلك الجوهر الذي تبلور عنده في الأصل الإنساني. فالإنسان هو الخالق الفعلي للأديان جميعًا. تلك الفكرة التي ستتطور مع تلميذه كارل ماركس الذي سيعلن أن الإنسان هو الذي خلق الله لا العكس (تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا).

(76)

وفي الحقيقة شعر فويرباخ بأن هناك مواضع قلقة في فكر هيجل فعمل على تجاوزها، ورأى أن مستقبل الفلسفة ينتمي إلى موقفٍ يجمع بين النزعة الإنسانية والنزعة الطبيعية، وأن ما يقف في طريق هذه النزعة الإنسانية الطبيعية هو إله المسيحية ومطلق هيجل. ومن ثم عمل فويرباخ من خلال  فلسفته في الدين على إزالة إله المسيحية وتدمير مطلق هيجل بأن أعاد كل هذا إلى الإنسان. فرفض انبثاق الواقعي من المقدس عند هيجل، ليبرهن على أن المقدس نتاجٌ وهميٌ خياليٌ للحقيقي الإنساني، وغير ذلك من آراء وردت في كتابه «جوهر المسيحية».

 ومن ثم يخلص فويرباخ إلى النقطة الرئيسية التي تشكل إسهامه الرئيسي في فلسفة الدين، وهي أن الدين يمكن دراسته دراسةً حقيقيةً واقعيةً عن طريق البحث في جذوره التاريخية والاجتماعية، أي في تكوينه التاريخي. أي إنه يمكن القول إن الدين عند فويرباخ  قد تحول إلى قضيةٍ أنثربولوجيةٍ حاول أن يقف من خلالها على العلاقة بين: الدين والاغتراب، الدين والحرية والإرادة، الدين والعلاقات الإنسانية.

كارل ماركس (1818 ـ 1883)

لا شك بأن ماركس استفاد كثيرًا من تناول فويرباخ لفلسفة الدين، فطَّور مفاهيمه، خاصةً بما يخص مفهوم «الاغتراب الديني» و«وجود الله»، ذلك الإله الذي استبدله بوجود الإنسان، فإذا كان الإنسان هو الإله الحقيقي الوحيد عند فويرباخ، فإن الإنسان هو الذي أوجد الإله وخلقه عند ماركس. ولا يعني ذلك متابعة ماركس

(77)

لفويرباخ في كل آرائه حول «فلسفة الدين» بل العكس، فلقد وجه ماركس نقودًا قاسيةً إلى  فويرباخ خاصةً في كتابه «أقوال تتعلق بفويرباخ» (1845)؛ حيث رفض ديالكتيكه، ووصفه  بالجمود والثبات وعدم الديناميكية، لأنه يفصل الفكر عن الوجود. كما أدان ماركس رؤية فويرباخ للإنسان؛ حيث رأى الأخيرُ الإنسانَ من زاويةٍ تجريديةٍ خالصةٍ بعيدةٍ عن كافة الأحداث المحيطة به والتي تؤثر فيه ويتأثر بها. وتتجلى آراء ماركس في فلسفة الدين متناثرةً في العديد من مؤلفاته نخص منها: ما خصصه لنقد هيجل في «نحو نقدٍ لفلسفة الحق عند هيجل» (1844)، ورده على برونوباور في «المسألة اليهودية» (1844)، وتحليله لوضع العامل وأسس اغترابه في المجتمع الرأسمالي في «المخطوطات الاقتصادية والفلسفية» (1844)، ونقد شترنر وفويرباخ وباور في «العائلة المقدسة» (1845).

 وقد حاول ماركس من خلال فلسفته في الدين أن يتناول الأديان من خلال رؤيته النقدية، فرأى أن الأديان لم تهتم بحياة الإنسان الواقعية على الأرض بل اهتمت بحياةٍ أخرى توجد في السماء، ومن ثم أجَّلت كل مطالب الإنسان الدنيوية المشروعة وأرجأت تحقيقها إلى الحياة الأخروية. ولم يفصل الدين ـ عند ماركس ـ بين الحياتين، ولهذا يدعو الدينُ الفقراءَ إلى الرضا، والاستسلام، والخنوع، والخضوع، واليأس من الدنيا. وكما يقول ماركس: «فالدين هو زفرة الخليقة المقهورة، وهو مزاج عالم بلا قلب، وهو الروح لأحوال بلا روح، إنه أفيون الشعوب»[1]. وبناءً عليه ينتظر الفقراء ـ المؤمنون بالدين ـ الموتَ باعتباره يحمل الخلاص من القهر والظلم

(78)

والاستبداد، فيستكينون ولا يتمردون، ولا يثورون، ويرضون بالذل والهوان، ويقبلون كافة النظم الاستبدادية، وبقاء نظام الطبقات. فقط ينتظرون العدالة الأخروية التي ما هي عند ماركس إلا وهمٌ كبير.

ومن ثم يطالب ماركس بالتخلص من الدين، ذلك المخدر (أفيون الشعوب) الذي يخدر الشعوب ويُغيّب وعيها فلا تطالب بحقوقها، وتفضل العيش في ذلةٍ وانكسار. ولذلك كان على كافة الأمم والشعوب الحرة المستنيرة ـ من وجهة نظر ماركس ـ أن تتخلى فورًا عن الدين، وتزيل كل أثرٍ له في حياتها، إذا أرادت أن تضع أقدامها على طرق السعادة الحقيقية. والحقيقة أن الدين الصحيح لا يخدر الشعوب، ولا يلهيها عن المطالبة بحقوقها الدنيوية، ولا يقر الظلم ولا يرضى بالفساد والانحراف. فإن صح ادعاء ماركس في شأن بعض الأديان فلا يصح بحالٍ في شأن الإسلام.

وقد حاول ماركس في فلسفته أن يربط بين الدين وبين الاقتصاد ونمط تطوُّر وسائل الإنتاج وطبيعة الملكية والعمل والصراع الطبقي. ورسم موازنةً بين الدين والملكية الخاصة؛ الأول يؤلف الاغتراب النظري للإنسان، والثاني يكوِّن اغترابه العملي، أو انشقاقه مع واقعه الخاص. وقد اتخذ «الاغترابُ» معنًى مغايرًا مع ماركس لما كان عليه مع هيجل وفويرباخ؛ فإذا كان الاغتراب عند هيجل يعني «انسلاب وعي الذات» وعند فويرباخ «انسلاب الإنسان المجرد غير التاريخي وغير الطبقي»، فإن الاغتراب عند ماركس هو «اغتراب العامل أو انسلابه». فقد أضفى ماركس ـ إذًا ـ على مفهوم «الاغتراب» معاني اقتصاديةً وطبقيةً وتاريخيةً مغايرة، بحيث أصبح الاغتراب معبرًا عن حالة العمل الذي يقوم بها العامل مجبرًا لصالح الرأسمالي، وتملُّك

(79)

الرأسمالي لناتج عمل العامل، وانفصال العامل عن وسائل الإنتاج التي تواجهه ـ وهي في حيازة الرأسمالي ـ كقوةٍ غريبةٍ مستبعدة[1]. ولذلك يقرر ماركس أن التخلي عن الدين هو أولى السبل لتفادي الاغتراب الذي يخدّر العامل ويعمل على اغترابه.

إن تركيز ماركس على متطلبات البشر المادية دون الروحية هو الذي جعله يرى في الدين أمرًا زائدًا عن الحاجة، وأن الأمم والمجتمعات ستتخلى عنه عندما تُشبع حاجاتها المادية. كذلك يؤخذ على ماركس والماركسيين عمومًا أنهم أهملوا النظر إلى الذات الفردية لصالح الذات المجتمعية، ونسي أن الدين يحقق أولًا الطمأنينة والاستقرار للذات الفردية التي تشعر في بعدها عن الدين بالاغتراب والضجر والسأم والملل.. ولا شك أن هذا هو الأمر الذي استشعره ماركس في أواخر حياته وقد تحول إلى الاعتراف بالدين بعد الرفض له، وتبريره لذلك بأن الرفض في المراحل الأولى من حياته كان سياسيًا ولم يكن فلسفيًا. ولذلك لم يكن غريبًا أن يرسل ماركس رسالةً إلى «البابا» يهنئه فيها على موقفه من «الحلف المقدس» ورفضه الدخول فيه، والانضواء تحت لوائه: حلف أولئك الذين شوهوا جوهر الدين، حين اتخذوا  منه «شُرطةً روحيةً» في خدمتهم والدين منهم براء!

كيركجور (1813 ـ 1855)

يمثل كيركجور نقلةً نوعيةً مختلفةً في مجال «فلسفة الدين» عن هؤلاء المنظرين السابقين، إذ ينعطف بالبحث انعطافًا جذريًا؛ فإذا

(80)

كان النقد الموجه للدين عند فلاسفة الدين السابقين يتمحور حول الصعوبات العقلية التي تقابل العقل في فهم وقبول المعتقدات الدينية التي تتعارض مع العقل، فإن كيركجور عمل من خلال فلسفته في الدين على أن يحل هذا الإشكال، ويرفع الدين من مجال المعقول، بل ويجعل الديني مضادًا للمعقول. وذلك في مؤلفاته المختلفة والتي نذكر منها في هذا الإطار: «خوف ورعدة» (1843)، «التكرار» (1843)، «البديل» (1844)، «مفهوم القلق» (1844)، «مراحل على طريق الحياة» (1845)، «مذنبٌ..غير مذنب؟» (1845)، «تأملات فوق قبر» (1845)، «رسالة في اليأس» (1848)، «الخطابات المسيحية» (1848)، «مرض حتى الموت» (1849)، «الخاطئة» (1949)، «مدرسة المسيحية» (1850)، «خطابان لإعداد العشاء الرباني» (1849 ـ 1851)، وغيرها من المؤلفات التي يتضح من عناوينها الرئيسية فضلًا عن مضامينها أنها تهتم بمفاهيم الإيمان المسيحي.

إن كيركجور بخلاف فويرباخ وماركس ونيتشه وسائر ممثلي اليسار الهيجلي، فهو لا يحمل على الدين بل يعود بنا إلى الدين الحق وينقد التدين الزائف. كما يتجاوز نيتشه تصنيف اليمين واليسار. فهو يمينٌ لأنه يضع بدلًا من المذهب والدولة والتاريخ والجدل، الفرد والوجود والذاتية والعاطفة، فهو بهذا المعنى يمين. ولكنه في نفس الوقت يثور ضد الكنيسة والعقائد الرسمية وضد مظاهر النفاق في عصره، وهو بهذا المعنى يسار.

 فقد رفض إيمان القساوسة وحذر منهم، وتواترت أقواله في التحذير منهم، ومن هذه الأقوال: «احذروا القساوسة فإنهم يقلبون

(81)

المسيحية إلى ما يضاد ما أراده المسيح»؛ «القساوسة هم أكلة لحوم البشر»؛ «إذا رأيت قسيسًا فعليك بأن تصيح بأعلى صوتك حرامي، حرامي، كل شيء مزيف، ولو ظهر المسيح الآن مرةً أخرى لاندفعوا نحوه ليذبحوه»[1].

وفي الحقيقة كان هجوم كيركجور على القساوسة ورجال الدين المسيحي في عصره منطلقًا من قاعدةٍ سلوكيةٍ وهي ضرورة تطابق أو عدم مخالفة الأقوال للأفعال. فقد ثار كيركجور ضد مظاهر النفاق في عصره، فكيف يدعو رجال الكنيسة الناس للزهد في الدنيا والإقبال على التقشف، والتمسك بالورع والتقوى من أجل الحياة الأخرى، ثم يسارع لطلب الثمن والمكافأة على هذه العظات! فالقساوسة والوعاظ يمثلون التدين الزائف الذي يجعل من الشخصية الواحدة شخصيتين منفصلتين، وتحول الدين عندهم إلى مجموعة من الشكليات الجامدة والطقوس الميتة التي لا علاقة لها بالحياة؛ ولهذا فكيركجور ينادي بأن على من يُرِد أن يعلم الناس الدين أن تكون حياته هي تعاليمه[2].

حمل كيركجور على المعقول، واشتط في الحكم على سائر المذاهب العقلية التي تريد فهم الإيمان أو تبرير الدين أو تفسير الحقيقة الدينية. وحجة كيركجور في ذلك أن الإيمان يتطلب من المرء أن يتخلى عن عقله، وأن المسيحية هي على النقيض تمامًا

(82)

من كل نظرٍ عقلي، كما أن الإيمان بطبيعته لا بد أن يكون طاهرًا نقيًا خاليًا من كل معرفة! وليس الله في نظر كيركجور فكرةً يمكن البرهنة عليها عقليًا، بل هو موجود نعيش في علاقة معه[1].

أي إن فلسفة الدين عند كيركجور تقوم على موقفٍ طريفٍ فحواه أنه يؤمن بما هو غير معقول، «فهذا متناقض إذن أنا أؤمن به»، فالإيمان ضد العقل في خط مستقيم، وعقلنة الدين تؤدي إلى استحالة وجوده. فإذا كانت المسيحية تتوقف على فكرة الاتحاد بين الإنسان والله، أو حلول اللاهوت في الناسوت، فإن ذلك يتم دون إدخال العقل. فالعقل يرفض ذلك كليةً، ولو أننا حاولنا تعقُّل تلك العلاقة لانتفى الدين، فالعقل والفهم يجعلان من عملية الاتحاد غير ممكنة. لتنتهي فلسفته إلى القول بأن الإيمان المسيحي يتعارض مع التفكير العقلي، فالإيمان لا يقبل أي نسقٍ فكري؛ لأن الأنساق الفكرية تعتمد على العقل في حين أن الإيمان يعتمد على القلب، فللقلب منطقٌ هيهات للعقل أن يفهمه.

ويوافق فتجنشتاين كيركجور ويقول بإيمان بلا برهان؛ حيث يرفض أي محاولةٍ لتبرير الاعتقاد الديني سواء أكانت تاريخيةً أم عمليةً، فلا يمكن إثبات الإيمان ببراهين عقلية أو تجريبية، كذلك لا يمكن دحضه ببراهين مضادة. فالدين ليس نسقًا فلسفيًا ولا يجب أن نزن المعتقدات الدينية بطريقةٍ فلسفية، فالإيمان مسألةُ انفعالٍ وليس مسألة تفكيرٍ عقلاني.

(83)

فريدرك نيتشه (1844 ـ 1900)

لا شك أن فريدرك نيتشه هو امتدادٌ طبيعيٌ لفلسفة فويرباخ وماركس؛ حيث كانت له مواقف راديكاليةٌ عنيفةٌ من الدين والأخلاق والقيم، تناولها بإسهابٍ في كتبه المختلفة،  فقد كان أقوى تعبيرٍ عن الفكر الحر اللاديني المناهض للميتافيزيقا والمحب للحياة. وقد تناول موقفه من الدين في جل مؤلفاته، وخاصة في: «أمورٌ إنسانية... إنسانيةٌ إلى أقصى حد» (1876، 1879)، و«الفجر» (1880)، و«ما وراء الخير والشر» (1886)، و«هكذا تكلم زرادشت» (1883 ـ 1885)، و«جينالوجيا الأخلاق» (1887)، و«غسق الأوثان» (1888). وإن المتصفح لهذه الكتب يلحظ ذاك الموقف المناهض للدين.

كما رفض نيتشه كافة الأخلاق والقيم التي نادت بها المسيحية واصفًا إياها بأنها أخلاق العبيد. فلقد كانت فلسفة نيتشه تجاه الدين هي فلسفةٌ مناهضةٌ لكل ما هو ديني، ولكن ذلك لا يمنع من القول بأن نيتشه من أهم الفلاسفة المنظرين لفلسفة الدين في الغرب.

إدجار شيفليد برايتمان (1884 ـ 1953)

ويُعد برايتمان من أشهر الفلاسفة الأمريكيين اهتمامًا بفلسفة الدين في القرن العشرين، فقد سارت جل مؤلفاته في مناقشة الموضوعات الدينية، ومن أهم هذه المؤلفات: «قيم دينية» (1925)، «فلسفة المثل» (1928)، «مشكلة الله» (1930)، «وجود الله» (1931)، «هل الله شخص» (1932)، «القوانين الأخلاقية» (1933)، «الحياة الروحانية» (1942)، «الشخصية والدين» (1934)، «مستقبل

(84)

المسيحية»   (1937)، «الشخصانية في اللاهوت» (1943)، ويبقى كتابه «فلسفة الدين» (1937) من أهم الكتب التي اهتمت بالتنظير لفلسفة الدين في القرن الماضي.

ونتيجةً لهذا الاهتمام يصنّفه الكثير من الباحثين على أنه فيلسوف دينٍ من المقام الأول. ويرى برايتمان أن الدين هو امتلاك الفرد أو الجماعة خبرةً دينية، تلك الخبرة التي تشكلها العقائد المتعلقة بموجودٍ أو قوةٍ ساميةٍ هي الله، وهذه القوة السامية هي مصدر كل القيم. ومن ثم تمثّل هذه الخبرة الدينية علاقة الشخص مع الله. ويضع برايتمان لها قواعد وأسسًا من أهمها: الإيمان الذي يمثل قاعدةً أساسيةً للخبرة الدينية؛ لأنه يمثل عقيدة الإنسان في الله، وعلى ضوئه ينعكس سلوك الإنسان في الحياة، كما يحقق التوازن الداخلي للإنسان بين قدرات الإنسان وطموحاته ومُثُله العليا. كما يمثل الوحي القاعدة الثانية من قواعد الخبرة الدينية، وهو بصيرةٌ يوحي الله به ويكشف عن ما يريد كشفه للإنسان المؤمن. والوحي نوعان: عامٌ وخاص، الأول يمثّل سلطة الله التي تتكشّف للناس، والخاص هو ما يوجد للشخص في لحظاتٍ إيمانيةٍ سامية، ويمثل الخلاصَ الفردي للإنسان. أما الهداية فتمثل القاعدة الثالثة للخبرة الدينية عند برايتمان وهي خبرة العديد من الأشخاص بغض النظر عن تفسير هذه الخبرة[1].

ويرى برايتمان أن هذه الخبرة الدينية تتطور عبر مراحل أربعة؛ المرحلة الأولى هي التأمل الذاتي الباطني، أي التفكير في الله وفي

(85)

الموضوعات الإلهية، ومن خلال التأمل يعيش الإنسان تجربةً دينيةً فريدةً يتحول فيها الإنسان من مؤدٍ شكليٍ للطقوس والشعائر إلى إنسانٍ يعيش هذه الشعائر في ذاته ويتصرف على ضوئها. أما المرحلة الثانية فهي الصلاة بالمعنى الواسع لمفهوم الصلاة كصلةٍ بين العبد وربه، ومشاركة الفرد في علاقةٍ روحانيةٍ مع الله ومن خلالها يتحقق للإنسان الهدوء والتوافق النفسي. بينما تتمثل المرحلة الثالثة في التصوف كتجربةٍ روحيةٍ فرديةٍ روحانيةٍ تعتمد على تطهير النفس وسموها وتجاوزها حدود العالم المحسوس للدخول في درجاتٍ من العبادة الروحانية الخالصة. أما المرحلة الرابعة فهي التعاون الذي يمثل فعلًا اجتماعيًا بنّاءً يساعد في تطوير القيم الروحانية؛ لأن الدين ما هو إلا صلةٌ ومشاركةٌ فرديةٌ في نشاطٍ مع الله، سواء في الصلاة أو غيرها من العبادات أو الشعائر الدينية الأخرى[1].

ويُعرف الله عند برايتمان إما عن طريق الخبرة المباشرة مع الله (معرفة حدسية)، أو عن طريق الوحي، أو عن طريق العقل ومبادئه الأولية القبلية. وقد تطرّق برايتمان لعلاقة العلم بالدين وأشار أن ظاهر العلاقة يوحي بالتناقض والتعارض نتيجةً لاختلاف مجال العلم عن مجال الدين، ولكنهم في الحقيقة يتكاملان ولا يستغني أحدهما عن الآخر. فلا يستطيع الإنسان أن يستغني عن العلم كما أنه لا يستطيع أن يستغني عن الدين، وهو في حياته يحتاج العلم لحياته المادية ويحتاج الدين لحياته الروحانية؛ فالدين يحقق للإنسان الراحة والهدوء والسكينة والطمأنينة.

وأهم ما يمكننا الوقوف عنده في فلسفة الدين عند برايتمان هو

(86)

تصور برايتمان للإله كشخصٍ متناهٍ زمني! حيث زعم أن دراسته للخبرات الإنسانية في رؤيتها للإله قد أوصلته إلى أن الإله شخصٌ وأنه متناهٍ. ومن ثم لم يكن غريبًا أن يعقد مقارنةً مثيرةً بين الإله والإنسان؛ ووصل إلى نتائج مضادة، إن لم تكن صادمةً للوعي الديني القائم على التنزيه، بحجة أن الإيمان الشخصاني بالإله «فرضٌ» يفسّر الخبرة وما تحتويه من أمورٍ دون أن يفضي إلى وقوع شيءٍ من التناقض[1]. فلا شك أن فلسفةً تزعم شخصانية الإله وتناهيه وزمنيته هي فلسفةٌ جديرةٌ بالفحص النقدي. خاصةً إذا عرفنا أن الأساس عند برايتمان في القول بتناهي الإله هو رفض الاعتراف بإمكانية معرفة الإله الشر، إلا إذا مر بتجربة معاناةٍ حقيقية، وخاض خبرة الشعور بالألم والتناهي. كما ترتبط فكرة تناهي الإله بفكرة الشخصانية التي ترى أن خصائص الشخص الإلهي مؤسسةٌ على خبرتنا بأنفسنا كأشخاص. ومن ثم خلص برايتمان إلى وجود أوجهٍ للشبه وأوجهٍ أخرى للاختلاف بين الإله والإنسان؛ ولذا لم يكن غريبًا أن يزعم أن الإله سرمديٌ وزمنيٌ في آن واحد[2]. فمن الملاحظ أن برايتمان قد وضع مهمة استكشاف الإله في مرمى قدرات العقل الإنساني، وأن بإمكانه تحديد ماهية الإله بدقةٍ كما لو كان موضوعًا تجريبيًا صرفًا يحيط الإنسان بكل أبعاده ومحتوياته، مما أوقعه في شناعاتٍ لا حصر لها. ومع ذلك يبقي برايتمان من أهم المنظرين لفلسفة الدين في القرن العشرين.

(87)

جون هيك (1922 ـ 2012)

يُعد جون هيك من أهمّ المنظرين لفلسفة الدين في العصر الراهن، حيث قدّم مساهماتٍ مهمةً في إبستمولوجيا الدين والتعددية الدينية. وكشف كتابه «فلسفة الدين» عن ثراءٍ معرفيٍ في تحديد مفهوم «فلسفة الدين» عاد إليه الكثير من الباحثين في فلسفة الدين في كافة أنحاء العالم. كما حاز رأيه في أنه ليس من المهم أن يكون فيلسوف الدين متدينًا بدينٍ ما قبولًا عامًا عند المهتمين بدراسة فلسفة الدين؛ إذ إن فلسفة الدين ليست جزءًا من التعاليم الدينية، ولا يجب أن تعالَج من وجهة نظرٍ دينية، فالملحد واللاأدري والمؤمن جميعهم يمكنهم التفلسف حول الدين، ومن ثم أبعد جون هيك فلسفة الدين عن فروع اللاهوت ونسبها كاملةً إلى الفلسفة، وعدّها فرعًا من فروعها يدرس المفاهيم والمعتقدات الدينية، كما يدرس الظاهرة القبلية للتجربة الدينية، وأعمال العبادة والتأمل التي تقوم عليها المعتقدات الدينية[1].

وقد اشتهر جون هيك بدراساته حول مفهوم الإله والبحث عن ماهية صفاته المختلفة ونقد التصور المسيحي واليهودي للإله. كما اشتهر بتأييده للتعددية الدينية والتي تختلف مع التعاليم الدينية المسيحية، مما جعله يلقى هجومًا نقديًا من الكاردينال جوزيف راتسنجر  Cardinal Joseph Ratzingerعندما كان رئيس المكتب المقدس. إذ يرى هيك في كتابه «أسماء متعددة للإله» أن الأديان العظمى في العالم ما هي إلا استجاباتٌ متنوعةٌ لحقيقةٍ إلهيةٍ واحدةٍ

(88)

محتجبةٍ عن الإدراك البشري[1]. ومن ثم لا يفرق بين دين حقٍ ودين باطل، بل إن كل الأديان عنده تعبر بأساليب مختلفة عن الحقيقة الإلهية المحتجبة!

كما يرى جون هيك أن كمال الفكر البشري لا يكون إلا بالمصالحة بين الإيمان والمعرفة. وأن الإنسان متدينٌ بطبعه، وأن معرفة الله وكل الأمور الغيبية لا تكون إلا عبر التجربة الروحية والاختبار الديني. وأن الدين في مجمله ليس سوى تفسيرٍ أو تأويلٍ لجملة تجارب دينيةٍ متراكمةٍ داخل بيئةٍ حضاريةٍ خاصة، ويعبّر عنها بعباراتٍ ثقافيةٍ ولغويةٍ خاصتين. وأن المعرفة الناتجة عن التجربة الدينية لا تقل بأي صورةٍ عن أي معرفةٍ تجريبيةٍ أخرى. ورفض هيك ذلك الرأي الشائع الذي تبنّاه التقليد اللاهوتي المسيحي الذي يرى أن الشر هو الحرمان من الخير والنعمة الإلهية كنتيجةٍ حتميةٍ لوقوع البشر في الخطيئة، بل الشر بحسبه هو جزءٌ من التدبير الإلهي في اختبار البشر وفي صناعة مصائرهم بحرية. أي إن كل الشر يعود في النهاية إلى خيرٍ أكبر، فالإله هو مصدر الألم وهو يرسله للبشر، من أجل خلق خيرٍ أكبر لم يكن ممكنًا إلا به! ولذلك لم يكن غريبًا أن يرى جون هيك أن الجميع سينجو في النهاية، وأنه لن يكون هناك جحيم! فكل دينٍ يعلن أن وضعية البشر في الآخرة هي خارج حدود خيالنا ومعرفتنا.

 كما يرى جون هيك أن القول بأن الله تجسد في المسيح عبارةٌ مجازيةٌ وليست حرفيةً، وتعني أن المسيح نفّذَ إرادة الله واستجاب

(89)

لها بالكامل، حتى أصبح المسيح تجسيدًا كاملًا لحضور الله، واستحضارًا أقصى لمحبته الشاملة. وأن الحق الأعلى واحدٌ، لكنه يتعدد بتعدد ظهوره وتجليه في تاريخ الحضارات والديانات. وأن الله لا يُعرف بذاته بل من خلال تجليه وظهوره لنا، أي إن حقيقة الله عند البشر هي جزءٌ من تجربتهم به، ومن طبيعة علاقتهم معه.

ومن الواضح أن أفكار جون هيك حول فلسفة الدين ما زالت تحتاج الكثير من الدراسات لتقف على مراميها كما تجلت في مؤلفاته المتعددة ومن أشهرها: «الإيمان والمعرفة» (1957)، «الشر والله المحب» (1961)، «فلسفة الديـن» (1963)، «المسيحية في المركز» (1968)، «أدلة وجـود الله» (1971)، «الله وعالم المعتقدات» (1973)، «أسطورة تجسد الإله في السيد المسيح» بالاشتراك (1979)، «أسماء عديدة للإله» (1980)، «لماذا الإيمان بالله» (1983)، «إشكالات حول التعددية الدينية» (1985)، «الموت والحياة الأبدية» (1985)، «تأويل الدين» (1989)، «أسئلةٌ محلُ جدلٍ في اللاهوت وفلسفة الدين» (1993)، «مجازية تجسد الإله» (1993)، «لاهوت مسيحي للأديان» (1995)، «جون هيك: سيرة ذاتية» ( 2002).

وهكذا عكست غزارة إنتاج جون هيك مدى مساهماته الجوهرية في تشكل فلسفة الدين في العصر الراهن، بل تجعله هذه المؤلفات المتخصصة جدًا أحد رواد فلسفة الدين المهيمنين على موضوعات فلسفة الدين والذين انتقلوا بها نقلاتٍ نوعية كبيرة. فقد عمل على تحريك الإشكال في المسائل الدينية، وذهب بشكه إلى المسائل الخطرة والتي تتعلق بصميم العقيدة المسيحية كالتثليث والتجسد،

(90)

وعالجها معالجةً عقلانيةً خالصةً انتهت إلى رفضه لها. وتكمن أهم مساهماته ـ من وجهة نظري ـ في أنه فرّق بين لاهوتٍ دوجماطيقي ولاهوتٍ إشكالي، يعمل الأول على حفظ التقاليد الدينية الموروثة على أنها الحقائق المطلقة الصالحة لكل زمان ومكان، في حين يعمل اللاهوت الإشكالي على الحوار الدائم بين تلك العقائد الموروثة وبين التطورات الحادثة في العالم المتغير. فإذا كانت نتائج اللاهوت القطعي نهائيةً فإن نتائج اللاهوت الإشكالي هي فرضياتٌ قابلةٌ للمراجعة والنقد. اللاهوت الأول يعيق سفينة الإيمان من الإبحار في حين أن الثاني يدفعها بقوةٍ نحو الحقيقة المحتجبة، ولذلك يعد نفسه من أصحاب اللاهوت الإشكالي. ولذلك تُعدّ أفكار جون هيك أفكارًا مفتوحةً دائمًا ومطروحةً للنقاش وقابلةً دائمًا للتجاوز.

ولا يعني التوقف عند جون هيك أن هؤلاء فقط هم الفلاسفة الذين تناولوا فلسفة الدين في الغرب، بل هؤلاء كانوا أشهر من اهتموا بفلسفة الدين، وإلى جانبهم وعلى نفس القدر من الأهمية يمكننا أن نضع فلاسفةً آخرين من أمثال: فيشته وشلايرماخر وشلنج وشوبنهاور وماكس فيبر وهابرماس وريتشارد سوينبرن. فقد كان لجهودهم في هذا المجال مكانتها المؤثرة عند جل الدارسين المتخصصين.

خلاصة القول إنه لم تتوقف هذه الكتابات مع القرن الحادي والعشرين، سواء في الغرب أو في الشرق، بل بالعكس، زادت الاهتمامات حول فلسفة الدين، وخاصةً بعدما تعالت الأصوات في الغرب، التي تصف هذا القرن بأنه قرن العودة إلى الدين، وقرن

(91)

العودة إلى إحياء ما أماتته القرون الثلاثة من انزواء الدين في القرن الثامن عشر، وموت الإله في القرنين التاسع عشر والعشرين على أيدي هولدرلينF. H. Hِlderlin، وفويرباخ، وماركس، ونيتشه، وسارتر Sartre (1905 ـ 1980)، وموت الإنسان الفرد في القرن العشرين في نظريات موت الكاتب أو موت المؤلف وموت الناقد من أجل المعنى، وموت المعنى الواحد، وتهافت السرديات الكبرى مع التفكيكيين وفلاسفة ما بعد الحداثة مع نهايات القرن العشرين.

ولذلك كان القرن الحادي والعشرون هو قرن العودة إلى الدين، وهذا ما يمكن ملاحظته من تأويل تشارلز تايلور Charles Taylor (1931ـ؟)  للدلالة السردية في عبارة «عودة الدين» ضمن كتابه «عصرٌ علماني»، الذي أثار ضجةً واسعةً في معظم الأوساط الثقافية في العقد الأول من هذا القرن. كما سبق كتاب تايلور هذا كتابين للفيلسوف الألماني هابرماس J. Habermas (1929ـ؟): كتاب «جدلية العلمنة.. العقل والدين» والذي شارك في تأليفه الأب جوزف راتسنجر، وكتاب هابرماس الذي نشره عام 2005 وهو بعنوان «بين الطبيعانية والدين»، والذي تحدث فيه عن فكرة المجتمع ما بعد العلماني أي المجتمع العائد بقوة إلى الدين.

وهذا ما يعكس غاية فلسفة الدين كما صوّرها هيجل في النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ إذ رأى أنَّ فلسفة التنوير قد أخذت على عاتقها مهاجمة العقيدة، أي الإيمان الذاتي والموضوعي معًا، فقضت على سلطة الإيمان كما تقرره الكنيسة، وأَوّلت الكتاب المقدس، وأعادت تفسير نصوصه بحيث تتفق مع العقل والأخلاق، وكونت لاهوتًا عقليًا، وانتهت إلى مذهب التأليه ورفضت المعجزات

(92)

وكل ما يتنافى مع العقل، وأنكرت الله المشخص، والعقائد الشيئيّة، وكل مظاهر التشبيه والتجسيم في الدين، وجعلت العقائد المسيحية والحوادث التاريخية التي تقوم عليها الواقعية المسيحية إدراكًا نفسيًا أو شعورًا عاطفيًا. خلاصة القول إنَّ الفلسفة أصبحت في هذا العصر، عصر هيجل، ضد الدين شكلًا وموضوعًا[1]. فجاءت فلسفة الدين لحل هذا التعارض بين الفلسفة والدين على أساسٍ موضوعي، لتعطي كل ذي حق حقه، فالله مضمون الدين والفلسفة على السواء، والدين ينتهي حتمًا إلى الفلسفة، والفلسفة تؤدي بالضرورة إلى الدين، فكلاهما حاجةٌ شعورية[2]. ولكن إذا كانت هذه غاية فلسفة الدين كما صورها هيجل، إلا أنها تبدأ فعلها بلا هدفٍ مسبقٍ تسعى إلى تحقيقه، أو تنحاز إليه من أجل إثباته.

وبناءً على كل ما تقدم يمكننا أن نردّ كافة التطورات التي تصف

(93)

تاريخ «فلسفة الدين» كتخصصٍ دقيقٍ إلى ثلاث مقوماتٍ أساسية، هي على التوالي: الماهية، المعنى، السياسة:

 البحث التأملي في ماهية الدين منذ كانط .

تأويل معنى الإيمان ما بعد اللاهوتي منذ نيتشه أو تحليل دلالة المنطوقات الدينية منذ فتجنشتاين.

 تفكيك سياسات الخطاب الديني في العصر العلماني منذ تسعينات القرن الماضى، وما بعد العلماني في الألفية الجديدة، وخاصةً منذ ندوة كابري عن الدين التي أشرف عليها جاك دريدا
 J. Derrida وجياني فاتيموG. vattimo، وكان موضوعها العام: كيف نفسر عودة الدين بعد «موت الإله» المسيحي؟[1].

وهكذا قد مرّت فلسفة الدين بمنعطفاتٍ مختلفةٍ من تحديد الماهية مع كانط، إلى دور التأويل الديني من منطلقاتٍ عقليةٍ صارمة، إلى تفكيك سياسات الخطاب الديني في عصر العلمانيّة وما بعد العلمانيّة. وهو الوضع الذي تقف عنده فلسفة الدين في الأوقات الراهنة.

(94)

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

الموضوعات الكلاسيكيّة

 لفلسفة الدين

 

(95)

الفصل الرابع: الموضوعات الكلاسيكيّة لفلسفة الدين

تهتم «فلسفة الدين» بموضوعاتٍ كلاسيكيّةٍ أساسيّةٍ مختلفة، مثل: الله، والوحي والنبوة، والمعجزات، والمعاد، ومشكلة الشر، وغيرها من الموضوعات التي من الممكن أن نجدها عند أصحاب الفلسفات الدينيّة والميتافيزيقيّة أو علم اللاهوت أو علم الكلام، ولكنها تختلف عن تناول تلك العلوم، حيث إنّها لا تجعل هدفها الأول الدفاع عن عقائد دينية محددة، أو محاولة تأييدها بالحجة والمنطق، بل تتجاوز مثل هذا التناول إلى البحث في المفاهيم الكلية التي تستخدمها هذه العلوم، ودراستها دراسةً نقديّة، دون اتخاذ موقفٍ مسبق، أو التحيز إلى موقفٍ بعينه.

وأهمّ ما يميز تناول «فلسفة الدين» لتلك الموضوعات هو أنّها تحوّلها من حيز الدين إلى مجال الفكر. فلا تكتفِ بالوقوف من التدليل على وجود الله، وخلود النفس ـ على سبيل المثال ـ بتأكيد الإيمان على أساسٍ عقلي، بل تجعل من الدين وعقائده مادةً للفلسفة يمكن دراسة كل دقائقها انطلاقًا من مبادئ الفلسفة وحدها. أي إنها تنطلق في تناولها للإلهيات من منطلقٍ يختلف عن ذلك التناول الذي يستخدم مناهج البحث والمعايير العقلانية الفلسفية للدفاع عن دينٍ ما أو مذهبٍ خاص. حيث لا تهدف فلسفة الدين أبدًا، حين تستخدم المناهج الاستدلالية والفلسفية، إلى تعبيد الطريق أمام الإلهيات المأثورة أو المُوحَى بها، بل هي تأمُّلٌ وتفكيرٌ فلسفيٌ حول الدين. وهذا ما سنلحظه في تناول أهمّ موضوعاتها.

(96)

أولًا: وجود الله:

إنّ «الله» هو الموضوع الأول والأسمى والجدير بكل دراسة من قِبل «فلسفة الدين»؛ فالله هو الموضوع الرئيسي للأديان جميعًا باستثناء بعض الديانات الوضعية كالبوذية والطاوية والكنفوشيوسية التي لا تعتقد بالألوهية. وحيث إنَّ فكرة الله هي فكرةٌ ذات قبولٍ عام عند مختلف الأمم والجماعات على مرّ الأزمنة والعصور، فقد لازمت فكرة التأليه والخضوع لمعبودٍ بعينه ظهور الإنسان على وجه البسيطة منذ مراحله الأولى حتى يومنا الراهن. فألَّه من العالم العلوي الشمس، والقمر، والكواكب. كما ألَّه من مظاهر العالم السفلي والطبيعة الأرضية: جبالًا، وأنهارَ، وأشجارَ، ونباتاتٍ، وحيوانات، حتى عبد الإنسان إنسانًا مثله في صورة الفرعون والملك كإله أو الذي اعتُبر من نسل الإله. وفي هذه المرحلة تخيل الإنسان صفات الإله على شاكلة صفات البشر، فتخيل الأحباشُ آلهتهم سود البشرة فطس الأنوف، في حين تخيل الأوربيون آلهتهم ذوي عيون زرقاء وشعر أحمر.

وكلما زاد وعي الإنسان زاد اهتمامه بمشكلة الألوهية، إلى أن وصل الإنسان نتيجةً لزيادة وعيه إلى فكرة الإله الذي ليس كمثله شيء، وهو منزّهٌ في كل صفاته عن المشابهة بصفات البشر. وقد ساعده في ذلك بلا شك الأديان السماوية التي ما ضلّ الإنسان إلا بابتعاده عن هديها في كافة الأمور الغيبية. ففي اعتقادي أن البشرية بدأت بالتوحيد وبمعرفة الله الحق، لكن الإنسان بابتعاده عن هذه الحقيقة ضلّ في تصور إلهه ومعرفة خالقه، فعبد من دونه كل شيء.

(97)

ولذلك اهتمت الفلسفة بالتدليل على وجود الله، ذلك المفارق المتعالي المنزّه عن كل صفات البشر بطريقة عقلانيّة خالصة، فتعددت البراهين والأدلة التي تؤكد على وجود الله، ويمكن تصنيفها بصفةٍ عامةٍ إلى مجموعتين:

ـ الأولى: أدلةٌ وبراهين تعتمد على الطابع العام لنظام الطبيعة.

ـ الثانـية: أدلةٌ وبراهين قبلية Apriori تعتمد على مبادئ عقليةٍ يُقال إنها واضحةٌ بذاتها[1].

ويمكن حصر الأدلة بناءً على ذلك التصنيف في ثلاثة أدلة أساسية، وهي:

 دليل إجماع الأمم:

يلجأ عددٌ كبيرٌ من الفلاسفة واللاهوتيين إلى البرهنة على وجود الله معتمدين على ما يسمى بالقبول العام للجنس البشري، أو إجماع الأمم على القول بوجود إله. فهل من الممكن أن يكون تاريخ الإنسان لغوًا وإجماع الناس على وجود الله وهمًا باطلًا؟ وكيف يمكن لإنسان أن يقاوم هذه الفكرة فيقول إنني أنا وحدي سوف أعارض كل ما تصوره جميع الناس على أنه حق وما شعروا وآمنوا به؟ وقد تحمس لهذا الدليل العديد من اللاهوتيين البروتستانت والكاثوليك على السواء، كما قال به العديد من الفلاسفة القدماء والمحدثين والمعاصرين. فأخذ به من القدماء: شيشرون Citeron وسينكا Seneca وكلمنت السكندري Clement of Alexandria،

(98)

ومن المحدثين: هربرت تشربري Herbert of Cherbery وأفلاطونيو كمبردج، وجاسندي Gessendi، وجروتيوس Grotius، ومن المعاصرين كان أشهر من اعتبره ذا تأثيرٍ عظيمٍ يفوق تأثير أي دليلٍ آخر هو الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل وإن كان قد انتكس ونقده فيما بعد. 

 الدليل الكسمولوجي:

في الواقع أن الدليل الكسمولوجي ليس دليلًا واحدًا بل هو في الواقع مجموعةٌ كبيرةٌ من الأدلة المترابطة؛ ولذلك كثيرًا ما يسمى «بالأدلة الكسمولوجية» لأنه يشتمل على مجموعةٍ كبيرةٍ من التصورات الفلسفية منها: تصور السببية (أو العلية) والتغير (أو الحركة) والضرورة والحدوث والممكن والواجب، إلخ. ولا يعتمد البرهان الكسمولوجي على استنباط وجود الله من طبيعته الأساسية كما يفعل الدليل الأنطولوجي ولا من النظام والإبداع كما تفعل أدلةٌ أخرى، بل يكفيه أن تسلّم بوجود عالمٍ يتألف من موضوعاتٍ وأحداث مشروطة. أي إنك إذا ما تعقّبت الأسباب الكامنة خلف ظاهرةٍ من ظواهر الكون، فلا بد لك أن تصل إلى ما يسمى بالسبب الأول لجميع هذه الظواهر أو للعالم ككل، وأنت إذا ما تحققت من عرضية الأشياء التي تملأ الكون وتأكدت من ظهورها واختفائها وأنها يمكن أن توجد وألا توجد، فأنت مضطرٌ إلى الاعتراف بوجودٍ ضروريٍ هو المصدر الأول لهذا العالم، وهو الذي يُطلق عليه اسم «الله»[1].

(99)

وقد دافع عن هذا الدليل بصوره المختلفة جملةٌ من الفلاسفة في مختلف العصور الفلسفية؛ إذ دافع عنه من فلاسفة اليونان: أفلاطون، وأرسطو. ومن فلاسفة المسلمين: الكندي، والفارابي، وابن سينا. ومن فلاسفة العصور الوسطى المسيحية: القديس توما الأكويني. ومن فلاسفة الفلسفة الحديثة: ديكارت، وليبنتز وجون لوك. بينما هاجمه  بعنفٍ كلٌ من ديفيد هيوم وكانط وجون ستيوارت مل، وفي الفلسفة المعاصرة برتراند رسل B. Russell (1872 ـ 1970) وبرود C. D. Broad (1887 ـ 1971).

وقد تعددت صور الدليل الكسمولوجي وسميت بأسماء متعددة منها: برهان المحرك الأول وفحواه «أن لكل متحركٍ محركًا آخر يحرّكه ويكون مبعث حركته، ولكننا لا نستطيع أن نستمر هكذا إلى ما لا نهاية من محركٍ إلى آخر، ولا بد لنا أن نتوقف عند محركٍ أول، يحرك ولا يتحرك، وهو الله». وبرهان العلة وفحواه «أن لكل معلولٍ علةً أحدثته، ولا يمكن التسلسل في العلل إلى ما لا نهاية، بل لا بد من الوقوف عند علةٍ أولى، وهذه العلة هي الله». وبرهان الممكن والواجب وفحواه «أن الموجودات قسمان: واجبة الوجود وممكنة الوجود، يعتمد الثاني في وجوده على الأول، الذي يوجد بذاته، ولا يحتاج غيره ليوجده، وهذا الوجود الواجب بذاته هو الله». وبرهان التدرج في الكمال ويعني «أن هناك دائمًا شيءٌ أكمل من شيء، ولكن هذا الكمال النسبي لا يوجد إلا بالمشاركة في الكمال أو الخير المطلق أو النبل المطلق، ومن ثمّ فلا بد من وجود هذا الكمال المطلق. وهذا الوجود المطلق الكمال هو الله». وبرهان النظام أو برهان العناية والغائية وفحواه «أن هذا النظام الموجود في الكون لا

(100)

بد له من منظمٍ عاقل؛ فهذا النظام العجيب الذي يسود العالم يفرض ذلك، فكل حدث يهدف إلى غايةٍ معينة، والأشياء كلها تميل إلى تحقيق غايةٍ واحدة، وهذا لا يأتي صدفةً أو عبثًا، بل هو فعل كائنٍ منظِّمٍ عاقلٍ هو الله».

ومن الملاحظ أن هذه الصور المختلفة للبرهان الكسمولوجي تبدأ من الأشياء المحسوسة في العالم المادي، مفترضةً سيادة قانون العلية أو السببية، وأن الأشياء مرتبةٌ ترتيبًا تصاعديًا لو اتّبعه الإنسان لوصل إلى القمة، حيث يوجد المبدأ الأول للأشياء جميعًا[1].

 الدليل الأنطولوجي:

ويُعد هذا الدليل من أقدم الأدلة التي استخدمها الفلاسفة على وجود الله؛ فالبعض يعود به إلى أفلاطون في محاورة فيدون في القرن الرابع قبل الميلاد، والبعض يعود به إلى القديس أوغسطين S. Augustin (354 ـ 430) في القرن الرابع الميلادي، إلا أن أولّ من صاغه بوضوح هو القديس أنسلم في كتابه «المناجاة Proslogion». ويقوم هذا الدليل على «أن الله هو الموجود الذي لا يمكن أن نتصور أعظمَ منه، ومن ثم فلا بد أن يكون الله موجودًا؛ لأنه إذا لم يكن موجودًا لكان من الممكن أن نتصور كائنًا يتصف بالوجود بالإضافة إلى الصفات السابقة، وبذلك يكون أعظم منه، ومن ثم نقع في خُلف محال، لأننا بذلك نقول إنّ الموجود الذي لا يُتصور أعظم منه يمكن أن نتصور ما هو أعظم منه، وهذا تناقض واضح، ويقول «أنسلم» إنني

(101)

أقصد بالموجود الذي لا يمكن أن نتصور أعظم منه موجودًا أزليًا Eternal بمعنى أنه بغير بداية أو نهاية وأنه حاضر حضورًا دائمًا»[1].

وقد استُخدم هذا الدليل بشكلٍ موسّعٍ وخاصةً في الفلسفة الحديثة مع ديكارت الذي اعتبر أن الله يملك جميع الكمالات ومنها الوجود والوحدانية، وهو الأمر الذي ساد المدرسة الديكارتية من بعد ديكارت، ودافع عنه ليبنتز G. W. Leibnitz (1646 ـ 1716) بحماسةٍ بالغة، وعبّر عنه سبينوزا من خلال فكرة الجوهر المؤلف من صفاتٍ لا متناهية، تعبّر كلٌّ منها عن ماهيةٍ أزليةٍ لا متناهية، الموجود بالضرورة، ومن ثم بدأ يسقط لفظ الجوهر، ويستخدم لفظ «الله» ويعني به كائنًا لا متناهيًا إطلاقًا، أي جوهرًا يتألف من عددٍ لا محدودٍ من الصفات تعبّر كل واحدةٍ منها عن ماهيةٍ أزليةٍ لا متناهية[2]، فالله عند سبينوزا أزليٌ ولا متناهٍ، حيث الأزلية واللاتناهي من طبيعته وطبيعة الجوهر[3]. ويتجلى جوهر الله، أي سلطته الأبدية واللامتناهية والتي يعبر عنها، في صفاته، وهي الطرق الأساسية التي يتجلى فيها الجوهر الإلهي، وتتجلى فيه سماته الأبدية وصفاته اللامتناهية[4]، فيبين لنا أنَّ هذا الموجود (الله تعالى) لا بد أن يكون

(102)

أساس وعلِّة وجوده، أي لا بد أن يكون لا متناهيًا، وإلا اعتمد على جوهرٍ آخر.

في حين شهدت الفلسفة المعاصرة هجومًا شرسًا على هذا الدليل من قبل الإنجليزي برتراند رسل، الذي اعترض على الانتقال من الفكر إلى الوجود، فطبيعة الفكر من ناحيةٍ والعالم الخارجي من ناحيةٍ أخرى بينهما اختلافات تجعل من الخطأ أن نستدل من فكرةٍ معينةٍ على أن لها وجودًا بالفعل. وذلك هو الاعتراض المنطقي الأساسي على الدليل الأنطولوجي على وجود الله.

والجدير بالذكر أنَّ هناك من الفلاسفة، وعلى رأسهم هيوم وكانط، من رفض كافة الأدلة والبراهين على وجود الله. بل إنهما قاما بتفنيد كافة الأدلة العقلية والتجريبية على وجود الله، ورغم ذلك بقيا على إيمانهما بوجود الله، حيث اعتبرا موضوع الإيمان بالله «موضوعَ إيمانٍ لا موضوع برهان»[1]. فقد صرَّح هيوم بأن «ديننا المقدس يتأسس على الإيمان لا العقل»[2]. وذهب كانط إلى أن العقل البشري لا يستطيع أن يعرف سوى الظاهر وحده المرتبط بزمانٍ معينٍ ومكانٍ محدد، وأي خروجٍ منه عن هذا الإطار فإنه يلقي بنفسه في الغموض والتناقض. ولذا اعتبر كانط وجود الله إحدى مسلمات العقل العملي الثلاث.

(103)

ولإكمال النظر إلى مسألة وجود الله كأهم مسائل «فلسفة الدين»، يجب أن نشير إلى أنه بجانب الأدلة العقلية على وجود الله، وكونه موضوع إيمانٍ لا موضوع برهانٍ مع هيوم وكانط، توجد في تاريخ الفلسفة فكرتان متعلقتان بوجود الله، الأولى سميت بـ«رهان بسكال»، والثانية يمكن أن نطلق عليه فكرة «الله اللامعقول».

أمّا رهان باسكال B. Pascal فمفاده «أنني إذا راهنت لصالح الدين (أي اعترفت بوجود الله واتبعت وصايا الدين) فماذا أخسر؟ لا شيء؛ لأنني أحيا حياةً مترعةً بمباهج الأمانة والاستقامة والإحسان والتقوى، ويُحتمل أن أربح سعادةً أبديّة، سعادةً لا متناهية. أضف إلى ذلك، وهذا ما افترضه باسكال ضمنيًا، إذا أخطأت بمراهنتي  لصالح الدين فإن الفناء يحل بي وحينئذ لن أتبين خطأي، وهذا يجنبني الأسف عليه. لكن إذا راهنت ضد الدين وأخطأت في اصطفائي فسيحكم عليّ بالحسرة والندامة الأبديتين... يجب إذن المراهنة لصالح الدين، ويجب على الإنسان أن يتصرف كما لو كان مؤمنًا»[1]. أي إنَّ الإنسان إذا راهن على أن الله موجودٌ كسب كل شيءٍ ولم يخسر شيئًا والعكس صحيح. ولذلك يقول باسكال: «هناك حالتان: إذا ربحت فزت بكل شيء. وإذا خسرت فإنك لا تخسر شيئًا. راهن إذن على وجوده بلا تردد»[2].

أمّا الفكرة الثانية وهي فكرة «الله اللامعقول»، فهي الفكرة التي

(104)

تبنّاها فريقٌ من الفلاسفة، والتي تتجه إلى الإيمان بوجود الله بغير أدلةٍ ولا براهين؛ لأنه ليس ثمة إيمان «بالمرئي»، وإنما الإيمان «باللامرئي». الإيمان إيمانٌ بشيء «ضد» العقل، ومن ثمَّ فإن أية براهين عقلية هي مضادة للإيمان في الحال. ولقد ظهرت هذه الفكرة في البداية في فلسفة ترتليان Tertullian، الذي كان يصف الفلسفة بأنها عدّوةٌ للدين؛ لأن الفلسفة ترفض التناقض في حين أن الإيمان هو إيمانٌ بالتناقض والمفارقة واللامعقول. ومن هنا فإنّه يذهب إلى أن تجسيد المسيح مؤكدٌ لأنه مستحيل، ثم ينتهي إلى وضع الصيغة الشهيرة للإيمان باللامعقول والتي ارتبطت باسمه في تاريخ الفلسفة «أؤمن لأنه لا معقول». وهي الفكرة نفسها التي نجدها عند القديس أوغسطين الذي قال: «أؤمن بهذا لأنه محال».

وكان رائد الوجودية سرن كيركجورS. Kierkegaard هو أقوى من عبّر عن هذه الفكرة في الفلسفة المعاصرة، فهو يرى أن بداية دراسة الإيمان هو أن تعرف أنه لا يُردّ إلى شيء آخر، لا إلى الوقائع التاريخية ولا إلى الأفكار الفلسفية. فالفلسفة عاجزةٌ عن أن تكون سلاحًا للدين، وعقل المؤمن لا يقدم له أي نفع، فالعقل ليس صديقًا للإيمان بل عدوه، وهو مصدر الشك والريبة في حقيقة الإيمان، وما يقره من شكوكٍ لا يمكن حلها بواسطة الاستدلالات العقلية. ومن هنا فإن كيركجور يرفض كافة الأدلة العقلية على وجود الله؛ لأنه إذا كان من التجديف على الله أن ننكر وجوده، فإنه لمن التجديف عليه أيضًا أن نبرهن على وجوده[1]. كما نجد هذه الفكرة عند العديد من الأصوليين الإسلاميين في العصر الراهن الذين يقولون: «إن الدين

(105)

في كل أوضاعه لا يقنع بعمل العقل قليلًا أو كثيرًا حتى يضم إليه ركون القلب»[1].

وبجانب هاتين الفكرتين نستطيع أن نجد أفكارًا فلسفيةً أخرى عن الله، كتلك الفكرة التي تتبلور عند ولتر ستيس والتي يقول عنها: «إن الله موجودٌ في القلب؛ ففي قلب الإنسان ـ إذن ـ إنما يكمن ذلك الشاهد الذي ينطق باسم الله، ويبرهن على وجوده، لا في أي ظرفٍ خارجيٍ من ظروف النظام الطبيعي»[2]. أي إن القلب وحده ـ بعيدًا عن كل الظروف الطبيعية ـ يمكنه أن يبرهن على وجود الله.

كما أن الموقف الإلحادي بالمعنى التام، يمثل ـ أيضًا ـ فكرةً أخرى من الأفكار الفلسفية تجاه «الله»، كما تتجلى في «إنكار وجود الله» بصفةٍ عامةٍ في فلسفة الدين المعاصرة عند فويرباخ ونيتشه وماركس وهيدجر ورسل وسارتر وغيرهم.

وهكذا، تتناول فلسفة الدين وجود الله: فتارةً تثبته عقليًا، وتارةً أخرى تنكره عقليًا لتقرّه إيمانيًا، وتارةً ثالثةً تنكره عقليًا لتقره قلبيًا، ورابعةً تنكره عقليًا وإيمانيًا وهو ما يُعرف بالإلحاد الذي يُعد أحد مباحث فلسفة الدين. وهو الأمر الذي يؤكد على اختلاف  فلسفة الدين عن اللاهوت وعلم الكلام والفلسفة الدينيّة، تلك المباحث التي تبدأ من نقطةٍ محددةٍ هي التسليم بوجود الله أو التدليل على إثبات وجوده لتدعيم الإيمان به، أو مناقشة وجوده مناقشةً عقليةً انطلاقًا من فكرة مسبقة.

(106)

ثانيًاـ الوحي والنبوة:

تُعد قضية الوحي وما ارتبط بها من وجود الأنبياء والرسل من أهم القضايا التي تناقشها فلسفة الدين. فما هو الوحي؟ وما هي النبوة؟ وكيف تناقش فلسفة الدين مثل هذه القضايا بالغة الحساسية؟

الوحي: هو إرسال معرفةٍ من إلهٍ أو آلهةٍ إلى البشر[1]. والوحي في الأديان هو «ما يتلقاه الأنبياء والرسل عن طريق الملائكة المكلفين بتبليغ الوحي والتكاليف إلى الأنبياء والرسل ليقوموا بدورهم بتبليغها إلى أقوامهم»[2]. وفي الأديان التوحيدية؛ اليهودية، المسيحية، والإسلام، يكون الوحي هو أساس المعرفة الدينيّة الصحيحة. وتتعدد أساليب الوحي التي يتصل بها الله برسله فتكون عبر أحد الملائكة أو من خلال الأحلام والرؤى أو الإلهام أو التجليات أو القذف في القلب أو الإلقاء في الروع. وبتسجيل هذا الوحي تنشأ الكتب المقدسة، وإن اختلفت صور وطرق التسجيل من ديانةٍ لأخرى.

أما النبوة فهي صفةٌ أُعطيت لمن حملوا وحي الله إلى البشر من الأنبياء والرسل، والأنبياء هم أشخاصٌ اصطفاهم الله من عباده وفضلهم بخطابه، وجعلهم وسائل بينه وبين عباده[3].

وقد اشتهر أنّ الوحي ظاهرةٌ تقتصر فقط على الأديان السماوية، ولكن هذا غير صحيح، إذ إنه من الممكن أن نتحدث عن صورٍ

(107)

أخرى من الوحي خارج الديانات السماوية، كما في الفيدية والبرهمانية؛ لكن النمط الرئيسي من الوحي فيهما ليس على هيئة مرسِلٍ ومستقبِلٍ ووسيطٍ كما في الأديان السماوية، وإنما على شكل استقبالٍ للحقيقة الأساسية للوجود بواسطة الحكماء، وإن كان هذا لا يمنع أن توجد بعض النصوص في البراهمانية تكشف عن وجود نمطٍ آخر للوحي بالمعنى الموجود في التقليد الإبراهيمي، فالوحي في بعض نصوص «الأوبانيشاد» ليس استقبالًا للحقيقة الكلية، ولكن الوحي فيها عبارةٌ عن استقبال الرسول لرسالةٍ سماويةٍ من الإله عن طريق وسيطٍ أو وسطاء. إذًا فنحن أمام نمطين من الوحي في البراهمانية، أحدهما مختلفٌ عن التقليد الإبراهيمي، وثانيهما مشابهٌ له[1]

ولكنه في الحقيقة ينبغي التمييز التام بين الوحي في الأديان السماوية والوحي في الديانات الوضعية والفلسفية والأخلاقية، فالوحي مرتبطٌ بالنبوة، ولكي نطلق لفظ الوحي على أي معرفةٍ لا بد أن تتوفر فيها مقوماتٌ ثلاثة، هي: مصدر الوحي، وهو الله، ومضمون الوحي، وهو كلام الله سواء جهرًا أو إلهامًا أو عن طريق وسيط،  ومتلقي الوحي وهو النبي أو الرسول. وهذا ما لا يتوفر في الديانات الفلسفية والأخلاقية، ولذلك نرى أنه تختفي فيها ظاهرة النبوة والأنبياء والرسالات والرسل، وذلك لغياب الاعتقاد بالألوهية في معظم الأحوال، وظهور طبقة الحكماء كبديل للأنبياء والرسل، وظهرت الحكمة كبديلٍ للنبوة المعتمدة على الوحي

(108)

الإلهي، فالحكماء هم مصدر الحكمة التي يحصلون عليها من خلال مجهودهم التأملي في الطبيعة والكون[1]. وإن كانت بعض الدراسات الجادة تؤكد على وجود النبوة في الديانة البراهمانية، إذ يعتقدون بوجود اتصالٍ من نوعٍ معيّنٍ بين إنسانٍ مُصطَفًى وبين الحقيقة العليا للوجود[2].

وعلى أية حال فإنّ ما يهمنا في هذا السياق هو كيف تتعامل «فلسفة الدين» مع قضية الوحي والنبوة؟ كيف تُخْرِجهَا من مادتها الدينيّة وتحولها إلى فكرةٍ قيد المناقشة العقليّة المحضة؟

في الحقيقة عندما نوقشت النبوة من منظورٍ عقليٍ في التراث العربي الإسلامي تم إنكارها على يد كل من: ابن الرواندي المُلحد، وأبو محمد بن زكريا الرازي، وأبو عيسى محمد بن هارون الوراق. إذ رأوا أنّ وجود الأنبياء والرسل يتعارض مع الحكمة الإلهيّة؛ فليس ثمة حاجةٌ للنبوة وللرسل لأنّ في العقل الإنساني الكفاية للوصول إلى الحقائق الدينيّة، وأنّ نور العقل الوارد من الله يفي بمعرفة الحق. بلّ رأوا أنّ الرسل من الممكن أن يبيحوا بعض ما حظره العقل والحكمة حسب عقائدهم الدينيّة. ومن ثمّ كان العقل عندهم هو الحاكم والمتبوع، ولا سلطة تفوقه سواء كانت دينيّةً أو دنيوية. وقد حاول بعض فلاسفة الإسلام أن يردوا على ذلك الهجوم المنكر للنبوة، فعملوا على عقلنة النبوة من منظورٍ آخر يثبتها ولا ينكرها، فرأى الفارابي أن النبي إنسانٌ مُنح مُخيّلةً عظيمةً صادقةً

(109)

لا تستغرقها الحواس ولا تستخدمها القوة الناطقة، ويستطيع النبي بهذه المخيّلة الاتصال بالعقل الفعال سواء في حال اليقظة أو حال النوم، فإذا اتصل به أصبح ينقل عنه أشياء عجيبةً لا مثيل لها في عالم الموجودات، فضلًا عن تسبيحه بعظمة الله وجلاله، وإذا بلغت المُخيّلة غاية الكمال، فإنها سوف تقبل بفيضٍ من العقل الفعال الروى الحاضرةَ والمستقبلة. كما يقبل صورًا للمعقولات والموجودات الشريفة ويراها، فتكون له حينذاك «نبوةٌ» بالأشياء الإلهية، وهذه أكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيّلة. والإنسان الوحيد المؤهل لنيل هذه المرتبة، وله هذه القوة في مخيلته، هو النبي[1].

وقد أسند ابن سينا النبوة إلى العقل القدسي الذي وصفه بأنه أسمى درجةٍ يستطيع العقل الإنساني بلوغها، إنها تلك الدرجة من العقل الحدسي الذي يتجاوز كل قوةٍ حدسيةٍ نظريةٍ عند معظم الناس، ولا يمتلكها إلا بعضهم بنسبةٍ خارقةٍ للعادة[2].

أمّا ابن رشد فقد عالج مسألة النبوة معالجةً عقلانيّةً خالصة، فأعلن أنّ الأنبياء هم الذين يضعون الشرائع للناس بوحيٍ من الله لا بتعلمٍ إنساني، وأنّه لا ينكر وجودهم إلا من أنكر وجود الأمور المتواترة كوجود سائر الأنواع التي لم نشاهدها. وعلى النبي أن يقدم علامةً على نبوته، وهذه العلامة هي المعجزة التي تكون بمثابة الدلالة القطعية على صفة النبوة، والمعجزة عنده ليست شيئًا خارقًا

(110)

لنواميس الطبيعة، بل هو شيءٌ يدخل ضمن نطاق المعرفة الطبيعية التي تأتي الإنسان عن طريق العقل الفعال، وهو الخارق للمعتاد في المعرفة بوضع الشرائع[1].

وإذا كان النبي عند الفارابي هو إنسان وصلت قوته المتخيلة غاية الكمال، فإن سبينوزا يرى أن الأنبياء هم أخصب الناس خيالًا لا أكملهم عقلًا، والنبي عند سبينوزا يدرك الوحي بخياله لا بعقله، لكنه لم يربط مخيلة النبي بأية قوةٍ عليا كما فعل الفارابي؛ لأن سبينوزا اعتبر أن النبوة واقعةٌ إنسانيةٌ في المقام الأول، وأن الأنبياء لم يعبروا عن أفكارهم بالقضايا الواضحة، بل بالرموز والأمثلة والتشبيهات الحسية، وهو ما يتفق مع طبيعة الخيال، ورأى أن الأنبياء ضروريون لتفهيم العوام المولعين بالنوادر والعجائب مما لا يستطيعون الوصول إليه بنور العقل الفطري. فالمعرفة النبوية تتطابق مع المعرفة الفطرية، ولذلك يكون الأنبياء ضروريين لمن لا يستطيعون استخدام عقولهم للوصول إلى الحقائق بالنور الفطري فقط [2].

ومن ثمّ يمكننا القول بأنّه يمكن معالجة فكرة النبوة بوصفها فكرةً فلسفيّةً يمكن مناقشتها بطريقةٍ عقلانيّةٍ خالصة؛ وننتهي من ذلك إلى أنّه لا توجد استحالةٌ منطقيّةٌ في أن يخاطب الله بعض مخلوقاته، والقول بوجود مثل هذه الاستحالة يقتضي برهانًا يقينيًا، وهو ما لم يوجد حتى الآن. كما أن مثل هذه الاستحالة تستلزم المعرفة اليقينيّة

(111)

بطبيعة الله وأسلوبه، وهذا غير ممكن؛ لأن طبيعة الله فوق كل ما نملك من قدراتٍ معرفية. كما أنَّ إمكانية الاتصال بين أطرافٍ متباعدةٍ في لمح البصر بطريقةٍ غير مرئيةٍ أمرٌ ممكن، أو هكذا كان في الماضي، أما الآن فقد صار واقعًا حيًا نعيشه بعد كل التقدم العلمي الذي حدث، وسوف تصل البشرية إلى أكثر مما وصلت إليه في المستقبل، فلا يزال أمامها الكثير. ومن ثمَّ فالقول بوجود اتصال بين السماء والأرض، بين العالم العلوي وعالم الإنسان أمرٌ ممكن. كما أن معرفتنا بالكون وطبيعة مخلوقاته، بل وعددها، ضئيلةٌ جدًا، ولذا فمن التسرع إنكار وجود مخلوقاتٍ ملائكيةٍ تقوم بدور الوسيط بين الله وبعض البشر، فهل نحن جُبنا الكون وحصرنا مخلوقاته، ثم لم نجد من بينها ملائكة؟![1]

ثالثًا: المعجزات

تعرّف «موسوعة الدين» المعجزة بأنها «لفظٌ يُستعمل عادةً ليدل على حادثةٍ تتضمن انتهاكًا لقوانين الطبيعة عن طريق تدخلٍ فوق طبيعي، وتشير إلى حالةٍ عجيبةٍ نادرة الحدوث»[2] ويعرّفها ديفيد هيوم بأنها «انتهاكٌ لقوانين الطبيعة»[3]. وتهدف إلى  تقوية وتدعيم موقف النبي أو الرسول أمام قومه ليؤمنوا به، ويزداد لديهم اليقين بأنه نبيٌ مُرسَلٌ من قِبل الله. وقد تعددت المعجزات واختلفت مع سائر الأنبياء مثل: نوح، وإبراهيم، وداود، وسليمان، وموسى،

(112)

ويونس، وصالح، وزكريا، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.  

وإذا ما تتبعنا موقف المفكرين والفلاسفة من المعجزات، وجدنا أنَّ مواقفهم تتعدد، وتتباين، وتختلف بدرجةٍ كبيرةٍ بشكلٍ يستحيل معه الحديث عن موقفٍ فلسفيٍ موحدٍ تجاه المعجزات. فقد أيدت معظم الفرق الكلاميّة الإسلاميّة المعجزات ودافعت عنها، وإن اختلفت بعضُها مع البعض في تصور المعجزة ذاتها، وأيدها في ذلك الغزالي، ودعمها ابن رشد الذي قد يتشابه موقفه العقلاني من المعجزات مع موقف المعتزلة؛ حيث إنّه رأي أنَّ الدليل على المعجزة هو دليلٌ جوانيٌ وليس دليلًا برانيًا، يستمد قوته من سلامة الرسالة التي أتى بها الرسول، ومن اتساقها الذاتي وعدم تناقض ما جاء فيها.

 كما دافع بعض الفلاسفة المحدثين عن المعجزات، وخاصةً في مواجهة الهجمات الشرسة التي وجهها علماء الطبيعة استنادًا إلى التقدم العلمي الهائل الذي أحرزوه في مجال الدراسات الطبيعية، وخاصةً علماء الميكانيكا الذين أكدوا أنّ الطبيعة محكومةٌ بآليةٍ مطّردةٍ لا يمكن خرقها، وأنها خاضعةٌ للقوانين الثابتة. ومن هؤلاء الفلاسفة ليبنتز الذي انبرى للدفاع عن المعجزات، ورأى أنّها من الحقائق التي تفوق قدرات العقل الإنساني. كذلك دعا ويليام لو W. Law إلى تَقَبُلّ المعجزات؛ لأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يستوعب كل الحقائق الدينيّة اعتمادًا على العقل وحده، وتابعهما في ذلك العديد من الفلاسفة، ولعل أشهرهما جوزيف بتلر J. Butler (1692 ـ 1752) ووليم بالي W. Paley (1743 ـ 1804) مرتئين إمكانية

(113)

حدوث معجزاتٍ إلهيةٍ تخرق قوانين الطبيعة وتتجاوز الأسباب الطبيعية.

أمّا الفلاسفة الذين اعترضوا على إمكانية حدوث المعجزات واعتبروها ضلالات وتصورات نتجت في عصور الجهل والظلام، وأنتجها أصحاب العقول ذات الطابع الأسطوري، وصدَّقها أصحاب العقول المولعة بتصديق النوادر والعجائب من عوام البشر وجهلائهم، فيأتي على رأس هؤلاء المنكرين الفلاسفةُ الربوبيون. فقد «جاء مذهب الربوبية Deism كأقوى اتجاهٍ معارضٍ للمعجزات؛ حيث كان هذا المذهب من آثار تقدم الطريقة العلمية في النظر إلى الطبيعة باعتبارها محكومةً بقوانين ثابتة، لا يمكن خرقها؛ ومن ثمَّ لا مجال للمعجزات... والله نفسه إلهٌ متسامٍ ترك خليقته بعد أن خلقها لتحكمها القوانين الطبيعيّة التي يمكن للعقل البشري أن يكتشفها ويفهمها»[1].

أمّا سبينوزا فقد رأى أنَّ المعجزات هي حوادث الطبيعة الخارقة للعادات، وأنّ العامة يظنون أن قدرة الله وعنايته تظهران بأوضح صورةٍ ممكنةٍ إذا حدث في الطبيعة شيءٌ خارقٌ للعادة، مناقضٌ لما اعتاد الناس أن يتصوروه، وهم يعتقدون أنَّ هذا الخروج الظاهر على نظام الطبيعة هو أصدق دليلٍ على وجود الله، وعلى صدق النبي المُرسَل. ويرفض سبينوزا هذا الرأي الشائع ويرى أنَّ الطبيعة والله شيءٌ واحد، أو كما ذهب في الحديث عن الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة، وأن للطبيعة نظامًا ثابتًا لا يتغير، لأن الله جوهرٌ ثابتٌ

(114)

لا يتغير، وقوانين الطبيعة هي صفات الله، وصفات الله لا تتغير. ومن ثمَّ يرى سبينوزا أن أعظم دليلٍ على وجود الله هو ثبات قوانين الطبيعة، ولذلك يرى في انخراق تلك القوانين دعوةً إلى الكفر والإلحاد! ولذلك يؤكد على أن ما يطلق الناس عليه لفظة معجزات ما هي إلا حوادث طبيعيةٌ تقع طبقًا لقوانين طبيعيةٍ يجهل الناس أسبابها الحقيقية حتى الآن، وأن تقدم العلم كفيلٌ بمعرفة أسبابها وتفسير حقيقة وقوعها[1].

أمَّا هيوم فيرفض المعجزات انطلاقًا مما أطلق عليه «الخبرة المطّردة». فإن خبرتنا الطويلة تؤكد على أن نظام الطبيعة ثابتٌ لا يتغير، وإنَّ الحديث عن أحداثٍ خارقةٍ وقعت في زمنٍ من الأزمان مردّه إلى خيالاتٍ بشريةٍ ساذجةٍ لا دليل عليها؛ فلا مجموعة من ثقات الناس الموثوق بعقولهم وتعليمهم ومعارفهم يقرون بصحتها، كما أنها لا توجد بكثرةٍ سوى في الأزمنة والأقطار المظلمة والبربرية الهمجية. والأهم من ذلك أنها تكذِّب ما اعتادت عليه خبرتنا المباشرة بلا مبررٍ معقولٍ يبرر إمكان تبدل المألوف والمعهود من القوانين إلى هيئاتٍ لا تخطر على العقل البشري فيما اعتاده من ظواهر العالم الطبيعي. وإن خبرتنا القائمة على اطّراد الطبيعة من شأنها أن تقوّض أي دليلٍ للاستثناءات الإعجازية. وما انتشارها وتداولها في بعض المجتمعات سوى من قبيل الوله البشري بالغريب والنادر والعجيب[2].

(115)

وقد تابع كانط الرؤية الهيومية تجاه المعجزات ورأى أنها تعارض العقل كما تعارض قوانين الطبيعة المطّردة. فضلًا عن أننا لا نستطيع الوثوق في شهادة من يؤيد رؤية هذه المعجزات. أمّا هيجل فبالغ في رفضها، ورأى أن المعجزات لا أهمية  لها ولا قيمة بجوار الأعمال الخلقيّة. وهو في ذلك يُعد امتدادًا للرؤية الكانطية. وموقف هيجل من المعجزة واضحٌ في كتابه «حياة يسوع»، هذا الكتاب الذي كتبه هيجل وهو متأثرٌ بكتاب كانط «الدين في حدود العقل وحده»، والكتاب في مجمله يتفحّص الدين بما هو مذهبٌ تاريخيٌ بطريقةٍ مجزأة، ينتقي منه المفاهيم الخلقيّة لينتهي إلى مذهبٍ عقليٍ خالصٍ يهدف إلى سيادة المبادئ الخلقية كما بلورها كانط، حيث يقول: «وما أهمية معجزاتكم أو نبوءاتكم أو أعمالكم العظيمة! وهل يتعلق الأمر بهذا؟ الله لن يقر بأنكم من خاصته. لستم من ساكني ملكوته. أنتم صانعو معجزاتٍ وأنبياء، وخالقو أعمال عظيمة. أنتم تصنعون الشر، والخلقيّة هي المقياس الوحيد عند الله»[1].

أمَّا الفلسفة المعاصرة فقد شهدت الكثير من رؤى الفلاسفة الذين ينكرون المعجزات وخاصة أصحاب المدرسة الوضعية: الفرنسية والمنطقية؛ تلك المدرسة التي اعتقدت أنه ليس بإمكان العقل التوصل إلى معارف مطلقة، فعَدَلت كليةً عن البحث في الغيبيات، وانصرفت إلى الكشف عن قوانين الظواهر، أي عن علاقاتها الثابتة. فأخضعت كل موجود لمبدأ التحقق، وكل ما لا يخضع لهذا المبدأ فهو غير موجود. ومن ثمّ رأت أنَّ الدين يمثل

(116)

المرحلة الطفوليّة البدائية للعقل البشري، فضلًا عن أنه لا يخضع لمبدأها في التحقق القائم على الملاحظة والتجربة. وكان من أهمّ أعلام هذه المدرسة العديد من الفلاسفة الوضعيين من أمثال: أوجيست كونتA. Comte  (1798 ـ 1857)، وأرنست رينان E. Renan (1823 ـ 1892)، وليتره Littre (1801 ـ 1881)، وإميل دوركايم، وليفي بريل L. Bruhl (1857 ـ 1939)، ومن الوضعيين المناطقة من أمثال: مورتس شليك M. Schilik (1882 ـ 1936)، ورودلف كارنابR. Carnap  (1891 ـ 1970)، وهربرت فيجل H. Feigl (1902 ـ 1988)، وألفرد أير، وغيرهم مما يصعب حصرهم. إذ انتبذوا الأسرار الدينيّة وكل ما هو خارق للطبيعة، ولم يقبلوا إلا بالوقائع القابلة للتفسير الطبيعي والإثبات العلمي اللذين يرتكزان على اليقين بحتميةٍ كلية، ومن ثم رأوا أنّ المعجزات أمرٌ مستحيل، وأنّ وجود تدخلٍ إلهيٍ مُعْجِزٍ في الطبيعة هو من قبيل الخرافة. 

وقد حاول محمد عثمان الخشت التقريب بين رؤى الفلاسفة المنكرين لإمكانية خرق قوانين الطبيعة في المعجزات وبين رؤية القرآن الكريم؛ فرأى أنَّ القرآن الكريم وإن اعترف بمعجزات الأنبياء السابقين، إلا إنه يرفض منطق المعجزات التي تأتي عبر خرق قوانين الطبيعة؛ فقد رفض مرارًا وتكرارًا طلب المشركين للرسول أن يأتي بالمعجزات؛ لأن في ذلك نوعًا من الجحود العقلي للحق الذي ينبغي أن يُدرك بوسائل عقلية، وليس بوسائل حسيّة خارجية هي المعجزات. ثمّ إن القرآن يتحدث عن ثبات السنن الطبيعية، (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) [الأحزاب: 62]، مما يدل على تأكيد القرآن الكريم

(117)

عدم خرق قوانين الطبيعة. لكن أليست المعجزات خرقًا لقوانين الطبيعة؟! وكيف يقرها القرآن للسابقين وينكرها على ذاته؟! أليس هذا نوعًا من التناقض؟! ومن ثم يحاول الخشت أن يحل هذا الإشكال عن طريق تفسير موقف القرآن من المعجزات باعتبارها خرقًا لما تعود عليه الناس، بإعمال قوانين طبيعيةٍ أعمّ لا يعرفونها في زمنهم وإن كان يعرفها النبي بوحيٍ إلهي، وليست خرقًا للقوانين الطبيعية الثابتة، فهي خرقٌ لعادات الناس المألوفة في التعامل مع الطبيعة، لا خرقًا للقوانين الطبيعية. فالمعجزات تنطوي على تحدٍ لقدرات ومعارف الناس المقيدة بعلم عصرهم في التعامل مع الطبيعة، وليست تحديًا للقوانين الطبيعية نفسها[1].

ومع تقديرنا البالغ لرؤية الخشت، إلا أننا لا نتفق معه في حل الإشكال؛ إذ إنه اعتبر المعجزات تتم وفقًا لقوانين طبيعيةٍ عامةٍ لا يعرفها البشر في زمنهم ويعرفها النبي بوحي إلهي. ونحن نتساءل بدورنا: هل عرف البشر إلى يومنا هذا القوانين الطبيعية التي منعت النار من حرق إبراهيم عليه‌السلام؟ أو ما هو السر وراء تحول العصا إلى ثعبان مع موسى عليه‌السلام ؟ أو كيف لبث يونس عليه‌السلام في بطن الحوت؟ أو كيف تكلم عيسى عليه السلام في المهد وأبرأ الأكمة والأبرص وأحيى الموتي؟ أو كيف سافر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى فلسطين وصعد إلى السموات العلا في ليلة واحدة؟

إلا أننا نتفق معه في اعتبار أن القرآن قدم نفسه كمعجزةٍ جوانيّةٍ بالمعنى الكانطي، كعملٍ إلهيٍ لا يمكن الإتيان بمثله من قِبل البشر،

(118)

وأنه يخلو تمامًا من أي تناقضٍ أو عدم اتساق مما يشوب الأعمال البشرية، وفي انتهاجه للأسلوب البرهاني في التدليل على صدق قضاياه، ومطابقة الواقع والاتساق الداخلي. وإنّه راعى أن حجية المعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة غير مُلزِمةٍ إلا لمعاصريها ولمن شاهدوها فقط، أما حجيّة القرآن فهي حجيةٌ دائمةٌ ومستمرة، يمكن أن يتحقق من صدقها أهل كلّ العصور والأزمنة.

وهكذا تُحَوِلّ «فلسفة الدين» مشكلات الدين إلى فكرٍ يخرج من حيز الجمود والتبعية المعرفية إلى ديناميكيةٍ وصيرورةٍ فكريةٍ تختلف الرؤى حولها وتتجادل في غيبة من يملكون الحقيقة المطلقة، فتخطو بالفكر البشري خطوات إلى الأمام.

رابعًا: مشكلة الشر في العالم

فرضت مشكلة الشر نفسها على موضوعات فلسفة الدين، وتبلورت كموضوعٍ خالصٍ لها من خلال مناقشتها كما جاءت في سؤال جلبرت مورايGilbert Murray الشهير: «إن الآلهة خيّرةٌ لا تصنع إلا الأشياء الخيّرة، فمن أين جاء الشر الموجود في العالم؟!»[1]. وقد تنوعت مواقف الفلاسفة من مشكلة الشر تبعًا لمواقفهم العامة من الدين وطبيعة رؤيتهم الأنطولوجية. وفي الحقيقة إنَّ مشكلة الشر في العالم خضعت لتفسيراتٍ قديمةٍ في مختلف الأديان، الوضعية منها والسماوية على حد سواء، قبل أن تخضع لدراساتٍ متخصصةٍ في فلسفة الدين.

(119)

فقد فسرت الأديان الوضعية وجود الشر في العالم عن طريق الاعتقاد بوجود إله للشر (كالإله «ست» إله الشر عند قدماء المصريين، و«أهريمان» إله الشر والظلام في الزرادشتية بعد تحريفها، فالزرداشتية في صورتها الأولى توحيديةٌ كما عبّرت عنها ترانيم زرادشت)، أو أصلٍ منفصلٍ للشر في الوجود (أصل قديم لم يخلقه الله، مثل المادة أو الظلام)، أو كائنٍ كونيٍ أسطوريٍ مثل الأفعى، أو التنين، يدخل في صراع مع إله الخير مثل: الفيدية، والهندوسية، والمجوسية، والمانوية.

وفي الأديان السماوية يُفَسّر وجود الشر في العالم عن طريق الاعتقاد بوجود شيطان، وهو ليس كائنًا قديمًا أزليًا، ولكنه مخلوقٌ كان في البدء خيّرًا ثم تمرد على الأمر الإلهي، وتحول كائنًا شريرًا يسعى لغواية البشر، وهو كذلك في اليهودية والمسيحية والإسلام، مع الاختلاف بينهم في طبيعة دور الشيطان، وكيفية التغلب عليه. كما ترتبط مشكلة الشر في اليهودية والمسيحية بالخطيئة الأولى؛ حيث ورث البشر فيها خطيئة آدم، ومن ثمَّ كان على الإنسان دائمًا محاولة الخلاص من هذه الخطيئة الموروثة، وقد تشابهت هاتان الديانتان في تناول قضية الخلاص رغم اختلاف علة الخطيئة. أما في الإسلام فلم يولد الإنسان محملًا بذنب، بل هو عبدٌ من عباد الله عليه الطاعة والالتزام بالشعائر الدينية. ولذلك يستخدم الإسلام مصطلحات «النجاة» و«الفلاح» و«الفوز» كبديل لمصطلح الخلاص. فلا مُخَلِّص في الإسلام اعتمادًا على مبدأ المسؤولية الشخصية وقدرة الإنسان على تحقيق النجاة بالتزام الطاعة والبعد عن المعصية وتكرار التوبة والاستغفار من الذنوب حتى ما لم يغرغر

(120)

للموت. ولذلك لم يكن غريبًا أن يضع الإسلام مصادر أخرى للشر غير الشيطان، مثل حريّة الإرادة الإنسانية التي تستجيب لإغواءات وإغراءات الدنيا والنفس والهوى[1].

وفي الفلسفة اليونانية رأى فيثاغورس Pythagoras أنَّ الشر يأتي من الآلهة التي تدعو الصالحين إلى التقرب منها، فمن يتقرب ينال أقل قدر من الشرور، ومن ينأى فيصيبه القدر الأكبر من الشرور. أمّا هيراقليطس Heraclitus فأعطى المشكلة بُعدًا معرفيًا، حيث رأى أنّه لولا الشر ما عرفنا الخير، فلولا الظلام ما عرفنا قيمة النور. واقترب منه سقراط  Socratesالذي عزى وجود الشر في العالم إلى الجهل، ومن ثمّ كان على الإنسان أن يتحمل مسؤولية أفعاله الشريرة إذا لم يحسن التأمل واختيار طريق الفضيلة. ورأى أفلاطون أنَّ الشر من نفس الإنسان التي نزلت إليه صافيةً طاهرة، ليتم سجنها في الجسد، وأن محاولتها تلبية مطالبه هو ما يوقعها في الشر. وأعاد فيلون السكندريPhilon of Alexandria  (105 ـ 217) الشر إلى الكبرياء، حيث اعتبر أن التكبر شرٌ مستطيرٌ لا ينجو منه الإنسان إلا إذا عرف حقيقة نفسه المتواضعة. في حين رأى أفلوطين Plotinus (205 ـ 270) أنَّ الشر هو المادة الأولى؛ لأن تسلسل الوجود من الأعلى إلى الأسفل ينتهي بها، وهي المادة الموجودة قبل تشكل الأجساد البشرية، ومن ثمَّ لا يكون الجسد البشري شرًا مطلقًا، وإنما يكون شرًا على قدر ما يلحق به من الهيولى أو المادة الأولى. ولذلك فالشر عند أفلوطين دائمٌ يحوم بعالم الفساد، عالم المادة والفناء.

(121)

وفي الفلسفة الحديثة رد ديكارت الشرّ إلى شيطانٍ ماكرٍ يعبث بعقول البشر فيوقعهم في الخطأ. أمّا هوبز T.Hobbes
(1588 ـ 1679)  فقد رأى أنَّ الخير والشر مفهومان نسبيان، يكتسبان دلالتهما بالنسبة للشخص الذي يستخدمهما، فإذا كان الشيء موضع شهوة الإنسان أو رغبته، فإن هذا بعينه هو ما يطلق عليه المرء من جانبه اسم الخير Good، وأيًا ما كان موضوع كراهيته أو نفوره فإن هذا بعينه هو ما يطلق عليه اسم الشر Evil. ولذلك يكون الخير والشر نسبيين، فليس ثمة خيرٌ مطلقٌ أو شرٌ مطلق؛ لأنّه لا سبيل إلى استخراج قاعدةٍ أخلاقيةٍ تنبع من طبيعة الموضوعات نفسها[1]. والأمر نفسه نجده عند سبينوزا؛ حيث لا خير ولا شر إلا بالنسبة للشخص الذي يقوم بهذه الأفعال التي تسره أو تضره، فيقول سبينوزا: «إنَّ الخير والشر يقالان بمعنًى نسبي، حتى أن شيئًا يقال إنه حسن أو قبيح حسب الزاوية التي نعتبره منها»[2]، فنحن نسمي خيرًا ما نعرف تمام المعرفة أنه نافعٌ لنا، أما هو في ذاته فليس خيرًا ولا شرًا[3]. فنحن لا نسعى إلى شيء ولا نريده ولا نرغب به لكوننا نعتقده خيرًا، بل على العكس من ذلك، نعتبره خيرًا لكوننا نسعى إليه ونريده ونشتهيه[4]. ولذلك فليس هناك شرٌ في ذاته أو خيرٌ في

(122)

ذاته على الإطلاق، لكن كل ما هو متوافقٌ معنا ونرغب فيه فهو خير بالنسبة لنا، وكل موضوعٍ يسيء إلينا، حتى لو كان متوافقًا مع رغبات الآخرين يكون بالنسبة إلينا شرًا[1]. وهكذا يحكم كل امرئٍ على الأشياء وفقًا لانفعاله الخاص، مُقدِّرًا أيها خيرٌ وأيها شر.

أمّا فولتير Voltaire فيرى أنّ مشكلة الشر الموجود في العالم هي السبب الأول للإلحاد؛ حيث رأى أننا أمام أمرين: إمّا أنّ الله كان باستطاعته أن يتحاشى الشر، ولم يرد ذلك، وإمّا أنه أراد أن يتحاشى الشر ولم يستطع؛ وفي الحالة الأولى: هل يمكن أن نقول إنّه طيب وعادل؟! وفي الحالة الثانية: هل يمكن القول بأنه قادر على كل شيء؟![2].

أما كانط فيرفض النظريتين المعروفتين عن مصدر الشر، النظرية القائلة بأن الإنسان شريرٌ بطبعه وأن هذا هو سبب طرده من الجنة، وهبوطه إلى الأرض (هوبز)، والنظرية القائلة إن الإنسان خيِّرٌ بطبعه ويتقدم دائمًا نحو الأكمل (سينكا Seneca ـ روسو Rousseau). ويحاول كانط التوفيق بين النظريتين فالإنسان عنده خيِّرٌ وشريرٌ معًا أو خيِّرٌ من جانبٍ وشريرٌ من جانبٍ آخر[3]. ويحدد كانط الشر بأنّه عدم اتفاق الإرادة الحرة مع القاعدة الخلقية، وذلك لتدخُّل بعض الميول الطبيعية التي تشير إلى وجود مثل هذا الشر وجعل البواعث

(123)

أقوى من القاعدة أو المشاركة فيها، فإذا وجهت القاعدة الخلقية الإرادة الحرة حصل الإنسان على النعيم الخلقي[1]. فيصبح الإنسان عند كانط خيَّرًا عندما يسلك بحريته طبقًا لقاعدةٍ خيّرة، ويكون شريرًا عندما يسلك ـ أيضًا بحريته ـ طبقًا لقاعدةٍ سيئة. ومن ثمّ يكون الشر الأخلاقي والرذيلة موجودان في الحرية؛ بل وحسب مقولة كانط الشهيرة: «كل الشر في العالم ينبع من الحرية All evil in the world springs from freedom»، فالحيوانات ليست حرةً ولذلك فهي تعيش وفقًا للقواعد، والكائنات الحرة فقط تستطيع أن تتصرف بانتظام لو حصرت حريتها في إطار القواعد، أما حينما تستخدم الحرية وفقًا لميولها ورغباتها فإنها حينئذٍ تخالف القواعد وترتكب الشرور والآثام[2]. ويرى أحد  الباحثين أن كانط هنا يقترب من أوغسطين في رفضه لوجود الشر وجودًا جذريًا في الطبيعة كما هو الحال عند المانوية، فالشر ليس طبيعةً أو غريزةً بل هو ممارسة الحرية طبقًا لقاعدةٍ سيئة، ويعيد كانط تفسير الفطرة بأنها الأساس السابق على ممارسة الحرية، أي إن الإنسان هو صاحب أعماله والمسؤول عنها[3].

أمّا هيجل فيؤكد أن الإنسان في مبدئه يتمتع بالبراءة الأولى، لكنه انقطع مع هذه البراءة، وانشق عن الطبيعة، واختلف مع الله،

(124)

نتيجة التدخل الشيطاني... وهذا هو معنى السقوط في الشر، ومعاناة الألم والشقاء في العالم، وهو ما عبرت عنه قصة السقوط[1]. لذلك تتلخص مسألة التغلب على الشر عند هيجل في التوبة والمصالحة والعودة إلى الله. ولذلك اتهمه جوته J. W. Goethe
(1749 ـ 1832) وهردر Herder (1744 ـ 1803) وشيللر Schiller J. C. F. (1759 ـ 1805) أنه قد لطّخ رداءه الفلسفي بنظرية الخطيئة الأصلية، وفتح ثغرةً لا عقلانيةً في نسقه العقلاني المحض.

وفي الفلسفة المعاصرة رأى الفلاسفة الاجتماعيون ـ وعلى رأسهم أوجيست كونت وإميل دور كايم وليفي بريل ـ أنَّ المجتمع هو الذي يحدد ما هو خيرٌ وما هو شر، ما هو جميلٌ وما هو قبيح. بينما رأى البراجماتيون وعلى رأسهم تشارلز بيرس C. Peirce (1839 ـ 1914) ووليم جيمس وجون ديويJ. Dewey  (1859 ـ 1952) أنّ واضع القيم هو الإنسان نفسه، وهو وحده الذي يحدد ما هو نافعٌ وما هو ضار، ما هو خيرٌ وما هو شر، ما هو حسنٌ وما هو قبيح، وأنّ الخير هو كل ما يحقق نفعًا للناس ويعمل على إشباع رغباتهم وحاجاتهم، والشر كل ما يجلب ضررًا ويتعارض مع إشباع رغبات الناس وحاجاتهم. أما الفلاسفة الوجوديون فقد رأوا أنَّ الإنسان كائنٌ يخلق قيمه الخاصة بحريته المسؤولة، ولا يوجد معيار أسمى يمكن به امتداح القيم الأخلاقية عند فرد، بالنظر إلى القيم الأخلاقية عند  فردٍ آخر[2].

(125)

وهكذا عالجت فلسفة الدين مشكلة الشر من مختلف جوانبها، وما زالت تطرح الفكرة  لتبقى بصفةٍ مستمرةٍ قيد البحث والمناقشة دون تبنيها لوجهة نظرٍ معينةٍ ترى أنها تمتلك وحدها الحقيقة المطلقة.

خامسًا: البعث والخلود

تُعد قضية البعث والخلود والحياة الأخروية من أهم الموضوعات التي تتوقف عندها فلسفة الدين؛ فالحياة الأخروية هي المحرك الأول والسبب الرئيسي للاعتقاد بالدين، والتفكير في عقائده، والبحث عن حقيقته وماهيته. فلو لم تكن هناك حياةٌ أخرويةٌ لانعدم البحث في الدين، واقتصر الإنسان على ما هو دنيويٌ فقط. والبعث هو الوجود الثاني للأجسام بعد فنائها في الحياة الدنيا، كما أنّ الإيمان به يحيي الأمل في نفوس البشر، وهي تتطلّع إلى الحياة الآخرة، المعبّرة عن عدل الله وصدق وعده ووعيده. فيَجِدُّ البشر في ترسيخ قيم الأخلاق والدين، ويتحمّلون الصعاب في سبيل الإصلاح والدعوة إلى الحقّ والصدق والعدل.

ولذلك اهتمت الديانات الإنسانية منذ أقدم العصور بالمصير الأخروي. فاعتقدت  ديانات المصريين القدماء على اختلافها بأن ثمة حياة أخروية بعد هذه الحياة ورأوا أن العودة تكون بالروح والجسد معًا، وإن مبرر هذا المعاد هو القول بالثواب والعقاب؛ حيث يكون من العدل أن يُثاب المظلوم ويجازى الظالم؛ لأنه ليس من المعقول أن يتساوى الخيّر بالشرير، والرفيع بالوضيع والكريم باللئيم. وقد كان المصريون أول شعوب الأرض ـ كما زعم المؤرخ اليوناني هيرودت

(126)

Herodotus ـ اعتقادًا بخلود النفس، وأنّه قد ورد في النصوص المنقوشة على جدران الأهرام التي تعود إلى عهد الأسرات الأولي تلك العبارة: «إن النفس خالدةٌ ولا تموت أبدًا»، وفي كتاب الموتى يَرِد القول: «أنا لا أموت مرةً ثانيةً في العالم الثاني»، وغيرها من العبارات الني تؤكد إيمان المصري القديم بالمعاد[1] .

وكانت مشكلة الموت هي بداية التفلسف للتفكير الديني الهندي؛ حيث يتجلى ذلك من خلال أكبر ديانتين موجودتين على أرض الهند، وهما «البراهمة» و«البوذية»؛ فإذا ما نظرنا إلى المعاد عند البراهمة وجدنا أنَّ الهنود البراهمة يعتقدون أن جميع أعمال البشر الاختيارية التي تؤثر في الآخرين، خيرًا كانت أو شرًا، لا بد أن يجازى عليها بالثواب أو العقاب، طبقًا لقانون العدل الصارم، فالنظام الكوني الإلهي قائمٌ على العدل المحض، وإن العدل الكوني قضى بالجزاء لكل عمل، وإن هذا الجزاء يكون في هذه الحياة الأخروية، حيث يجازى الخير بالخير والشر بالشر طبقًا لقانونٍ يطلق عليه كهنة الهنود «الكرما Karma»، ومن ثمَّ نتج عندهم القول بعقيدة التناسخ وهي عبارة عن تردد الروح في الأجساد الدنيوية حتى تكفّر ما عليها بحسب تعبيرهم وعقيدتهم[2]. أما في البوذيّة فلا يكون البعث إلا بعد الوفاة بتسعةٍ وأربعين يومًا[3]، والعقاب فيها يتم أيضًا عن طريق

(127)

التناسخ الذي يقصد تخليص النفس من أثر الشهوات وتزكيتها، أمّا النفس الخيّرة فتعيش في لذةٍ تامةٍ خاليةٍ من أي ألم، وهي ما يطلق عليها «النرفانا». أي إنه «عندما يزال كل دَنِسٍ وشريرٍ من هذا الوعي الأساسي، فإن «الدوخا» كلها سيتم القضاء عليها، وتتحقق النرفانا»[1].

وفي الفكر الصيني القديم أهملت الكونفوشيوسية قضية المصير الأخروي في سقطةٍ مريعةٍ تداركتها الطاوية، واهتمت بطريق الخلاص والمصير الأخروي، ورأت أن المؤمن عن طريق الالتزام بالتقوى وتأدية خدماتٍ دينيةٍ يستطيع أن يظفر في النهاية  بالانعتاق من العالم السفلي ودخول الجنة.

وافترضت الزرداشتية أن هناك قنطرةً أو ما يسمى بـ»جسر الانفصال» تجتازها الأرواح جميعًا، وتكون بمثابة الحساب، فالأرواح الخبيثة التي خالفت تعاليم «أهورامازدا» الإله الاوحد عند زرادشت، روح الأرواح الذي لا يُرى رغم وجوده في كل مكان، الذي لم يولد ولن يموت، لا تستطيع أن تجتاز تلك القنطرة، فتتردى في درك من الجحيم مع «أهريمان» وأتباعه من الأرواح الشريرة. أمّا الأرواح الطيبة فتجتاز هذه القنطرة بسلام «حيث يستقبلهم «أهورامازدا» بعد أن يمروا في وسط العمل الصالح والقول الخير والأفكار الطيبة ويتمتعون في كنفه بالسعادة الأبدية «[2]

(128)

ويبدو موضوع البعث والخلود والمعاد في الديانة اليهودية  أمرًا ملتبسًا للغاية، حيث لا يمكننا أن نجد في العهد القديم نصوصًا صريحةً في دلالتها على المعاد الأخروي، حيث إنّه لا يوجد في أسفار موسى ذكرٌ للبعث، والصدوقيون من فرق اليهود ينكرون القيامة البتة، إلا أنّه من الممكن أن يُفهم ضمنًا مما ورد في «سفر أيوب» (19/25ـ27)، وكذلك في المزامير في المواضع التي يُعبَّر فيها عن الرجاء، مثلًا (16/9ـ11)، و(17/15)، و(49/15)، و(24/73)، وفي «أشعياء» هناك الحديث عن قيامة المؤمنين (26/19)، وأيضًا في دانيال (12/2)[1].

أما عن عقيدة تناسخ الأرواح فقد شقت طريقها إلى اليهودية، مع أن الفلاسفة اليهود قد هاجموها بصفةٍ عامة، وهي تظهر في مذهب القبالة Cabala، وجاءت بأسلوب منتظم في كتاب الزهر Zohar[2]، وقد آمن بعض فرق اليهود بعودة الروح لبعض الناس بعد الموت، فيعودون بنفس أجسادهم إلى الحياة بعد موتهم بمائة عام، وكذلك هارون أخو موسى فقد آمنوا برجعته واستئنافه للحياة من جديد[3]. وهذا وذاك يعد دليلًا واضحًا على يد التحريف التي طالت العهد القديم، إذ كيف يمكن لديانةٍ سماويةٍ أن يكون المعاد الأخروي فيها أمرًا احتماليًا غير يقيني بهذا الشكل. وقد أكد القرآن الكريم على البعث عند اليهود في قوله تعالى على لسان اليهود (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسّنَا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَات وَغَرَّهُمْ فِي دِينهمْ مَا كَانُوا

(129)

يَفْتَرُونَ) [آل عمران: 24]. ومما قيل في تفسير ذلك أن فرقةً من اليهود زعموا أن عذابهم لو وقع يكون أربعين يومًا بعدد أيام عبادتهم العجل، وزعمت أخرى أن عذابهم لو وقع يكون سبعة أيام بعدد أيام الأسبوع. وهذا إقرارٌ بالمعاد الأخروي وما فيه من الجنة دار الثواب والنار دار العقاب.

أما الديانة المسيحية فقد آمنت بالمعاد وبالحياة الأخروية، وبالثواب والعقاب، ووردت نصوصٌ صريحةٌ في الأناجيل المشهورة (متى ـ مرقس ـ يوحنا ـ لوقا)  تؤكد على المعاد بعد الموت والقول به كأساسٍ ديني، كما ورد بصورةٍ صريحةٍ في رسائل بولص إلى الكنائس المختلفة، وبالخصوص رسائل «كورنثوس الأولى» التي أكدت بصورةٍ واضحةٍ لا تقبل الشك على المعاد الأخروي، ومن أبرز ما جاء في ذلك ما ورد في إنجيل متى (49: 13، 50): «وفي انقضاء العالم يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار ويطرحونهم في آتون النار»، وفي مرقس (9: 43 ـ 49): «والعصاة يمضون ويُطرحون في جهنم النار التي لا تطفأ حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ». وإن كان المعاد الأخروي في نصوص العهد الجديد لا يمكن مقارنته بما ورد في القرآن الكريم من حيث قلة الأول وكثرة الثاني.

والمعاد أصلٌ ثابتٌ من أصول الاعتقاد في الإسلام، وهو الأصل الذي اقترن بالتوحيد والنبوة، إذ صار الإيمان بالله ورسله وكتبه داعيًا إلى ضرورة الإيمان به، فهو لازم التصديق بدعوات الأنبياء المشحونة بالنصوص القاطعة في إثباته، وهو أيضًا لازم الوعد الإلهي بالثواب، والوعيد بالعقاب، وهما من لوازم التكليف، ولوازم العدل الإلهي

(130)

أيضًا، ولوازم الهدفية والغائية في الحياة، المنافية للعبث الذي لا محل له مع العدل والحكمة الإلهيين. والقرآن يكشف عن هذا التلازم الأكيد في نصوص كثيرة[1]. ويُعد منكر المعاد في الإسلام كافرًا مارقًا خارجًا عن الملة. بل أن البعض يرى أن من يتصور في أمور المعاد تصورًا مخالفًا لما ارتضاه التصور القرآني له يُعد أيضًا خارجًا عن الملة. فلتلك الحياة الأبدية فصولٌ طويلة، وضعت آيات القرآن الكريم والسنّة المطهّرة حدودها ومعالمها الأساسية، ابتداءً بالبرزخ، فقيام الساعة، فالبعث، والنشور، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، وانتهاءً بالجنة والنار. تلك الفصول الطويلة التي صار يُعبَّر عنها في الأدبيات الإسلامية بمشاهد القيامة.

وقد اهتمت الفلسفات المختلفة بقضية المعاد (البعث والخلود) اهتمامًا كبيرًا؛ ففي الفلسفة اليونانية اعتقد فيثاغورس بنطرية التناسخ والولادات المتكررة. أمّا سقراط فاعتقد أن النفس ذات أصلٍ إلهي، وأنها تشتاق دومًا للعودة إلى هذا الأصل السامي. أمّا أفلاطون فرأى أن مصير الأنفس بعد الموت إن كانت فاضلةً أن تعود إلى أصلها الإلهي السامي، وإن كانت شريرةً كان مصيرها إلى التناسخ بأن تظل تحيا في العالم المادي متنقلةً من جسد إلى جسد حتى تقضي فترة عقوبتها عما اقترفته من آثام. أمّا أرسطو فجعل الخلود والبقاء للجانب العقلي من النفس فقط.

وأوْلَت الفلسفة الإسلامية اهتمامًا فائقًا بمشكلة المعاد الأخروي، فحاولت التوفيق بين عقائد الدين الإسلامي ورؤى

(131)

فلاسفة اليونان، فجاءت معظم آراء فلاسفتها بعيدةً عن جوهر الدين الإسلامي؛ ولذلك كانت قضية المعاد الأخروي إحدى القضايا الثلاث التي كفَّر فيها أبو حامد الغزالي الفلاسفة. فرأى الكندي أن النفس حينما تفارق لا يتهيأ لها العودة مباشرةً إلى العالم المعقول فيما وراء الأفلاك، وإنما يمر بعضها في مراحل متتابعة من التطهّر عبر الأفلاك المتتالية، وبعد هذا التطهر تظفر بمشاهدة الله مشاهدةً عقليةً وتبقى في خلودٍ دائم. في حين بدا موقف الفارابي ملتبسًا وغامضًا؛ فتارة يقول بالخلود الروحاني دون الجسماني، وتارةً أخرى يخص النفوس الفاضلة فقط بالخلود، أما النفوس الجاهلة فتارةً يقول بخلودها في الشقاء، وتارةً أخرى يقول بفنائها وانحلالها إلى العدم. أما ابن سينا فقد عبّر من خلال قصيدته العينية التي مطلعها: «هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزُّزٍ وتمنُّعِ»، عن نوع من الخلود الروحاني فقط؛ فأصل النفس الإلهي هو ما سيخلد، أما الجسد فلا حظ له من الخلود. وقال ابن باجة الأندلسي بفناء النفس مع البدن، وقال بنوع من الخلود المعرفي الذي هو للعلماء والمفكرين من أفذاذ الإنسانية الذين يظلون بمنجزاتهم المعرفية في عقول بني الإنسان لآلاف السنين[1]. أما ابن طفيل فيميّز بين ثلاث حالات للنفس من خلال علاقتها بواجب الوجود؛ حالة أولى تمثّل النفس أو الإنسان الذي أدرك واجب الوجود ثم فقد إدراكه بالمعصية، ومصير الإنسان في تلك الحالة إنما يتمثل بالآلام التي لا نهاية لها، سواء تخلص من الآلام بعد جهاد طويل، أم بقي في الآلام بقاءً نهائيا. وحالة ثانية تمثّل الإنسان الذي أدرك وجود الله وأقبل

(132)

تمامًا عليه والتزم بالتفكير فيه حتى موت الجسد، ومصير النفس بعد الموت إنما يتمثل في لذتها وغبطتها وسعادتها سعادةً لا نهاية لها. وحالة ثالثة تمثّل الإنسان الذي لم يدرك وجود الله، ومصير النفس في هذه الحالة كمصير الحيوانات[1]أما ابن رشد فيسود موقفه من الخلود القلق والاضطراب، فهو فضلًا عن إنكاره للخلود الجسماني يقول بنوعٍ من الخلود للنفس الكلية دون الأنفس الجزئية! 

أمّا في الفلسفة الحديثة فنجد ديكارت يرى أنّ النفس خالدة؛ لأنها جوهرٌ محض، في حين يفنى الجسد. أما سبينوزا فيرفض خلود النفس والجسد معًا ويقول بفنائهما، وإن كان يعتقد بنوعٍ من الخلود المعرفي شبيه بما قال به ابن باجة ـ من قبل ـ إلى حدٍ بعيد. في حين يرى بركلي Berkeley  G.(1685 ـ 1753) أنّ النفس خالدةٌ وغير قابلةٍ للفناء لأنها لا تقبل القسمة أو الامتداد بخلاف الجسد. كما يرى هيوم أن النفس حادثة مع الجسد، ومن ثم فهي فانيةٌ بفنائه؛ فموت الإنسان هو نهاية كل تجربة بالنسبة إلى النفس، ومن ثم لا أمل في خلودها إلا إذا افترضنا وجودها قبل البدن، ولذا فالاحتمال الوحيد الممكن ـ عند هيوم ـ هو إقرار نظرية التناسخ، ولكن هذا الاحتمال لم ينجُ من التفنيد الهيومي؛ حيث إنّه لا يوجد دليل على الوجود السابق للنفس، لأنّه تجربة لم يسبق لأحدٍ أن مرَّ بها، ولا يمكن للعقل أن يقيم عليها البرهان المحكم[2]. أما كانط فجعل

(133)

خلود النفس أحد مسلمات العقل العملي الثلاث، فلم يكن أمام كانط بدٌ من القول بخلود النفس وإلا إنهار نسقه الأخلاقي كاملًا؛ حيث إن القانون الأخلاقي يحثنا دومًا على ألا نسعى دائمًا إلى ما هو عاجل من متع الدنيا، وما له نتائج لذيذة، بل إننا دائمًا نشعر بنداءٍ خفيٍ يحثنا على أن نضحي بكثير من رغباتنا، وأن نسعى دائمًا إلى ما نسميه الخير الأسمى، والعمل لما تقتضيه الإرادة الخيِّرة، وأن نحلق بفكرنا دائمًا إلى عالمٍ أفضل[1]. ولا يكون لهذا كله معنى إلا في ظل افتراض خلود النفس. أما هيجل فيقر بالخلود ويؤمن به إلا أن اهتمامه به كان ضئيلًا إلى حدٍ يمكن القول معه إن النزعة التاريخية عند هيجل تتعارض مع القول بالخلود.

وفي الفلسفة المعاصرة وتحت دعاوى الإلحاد نجد أنَّ كثيرًا من الفلاسفة يسيرون في رفض القول بوجود حياةٍ أخروية، من أمثال: نيتشه، وماركس، وسارتر، وألبير كامي، وبرتراند رسل.

وهكذا يتحول البحث في المعاد والخلود ـ تلك العقيدة الأهم التي جاءت من أجلها الأديان جميعًا ـ إلى مبحثٍ فلسفيٍ يعالجه الفلاسفة انطلاقًا من رؤى عقليةٍ خالصة، وبعيدًا عن التعصب لأي موقفٍ مسبق، فيبرهن على قبولها أو رفضها، وهكذا تفكر فلسفة الدين في أهم الموضوعات الدينية دون أن تتحول إلى فلسفةٍ دينيةٍ أو لاهوتٍ أو علم كلام.

(134)

 

 

 

 

 

 

الفصل الخامس

فلسفة الدين والمسائل

المتعلقة بطبيعة الدين نفسه

 

(135)

الفصل الخامس:

 فلسفة الدين والمسائل المتعلقة بطبيعة الدين نفسه

تحدثنا في الفصل الرابع عن الموضوعات الكلاسيكية في فلسفة الدين، وهي الموضوعات المتعلقة بالله تعالى وبمبحث الألوهية. وحسب تعريف عادل ضاهر الإجرائي لفلسفة الدين بأنها تتناول موضوعاتٍ تتعلق بالطبيعة الإلهية من حيث معرفة وجود الله، ومعرفة صفاته، وكيفية تحديد العلاقة بينه وبين العالم... إلخ،  ومسائل أخرى تتعلق بطبيعة الدين في ذاته؛ كالتجربة الدينية، والمعرفة الدينية، والتعددية الدينية، ولغة الدين، والهرمنيوطيقا، والعلم والدين، والدين والأخلاق، والدين والسياسة، ومسألة النجاة. لذلك كان الحديث في هذا الفصل عن أهمّ تلك المسائل التي تتعلق بطبيعة الدين نفسه أو المسائل الخارجدينية حسب تقسيم محمد رضا كاشفي؛ حيث قسَّم كاشفي مسائل فلسفة الدين إلى نوعين:

المسائل الداخلدينية

المسائل الخارجدينية

ويعني بالمسائل «الداخلدينية» تلك التي يقول بها المتدينون بدينٍ أو مذهب، وتستند إلى كتبهم المقدسة، بالطبع يتناول فيلسوف الدين من بين هذه الموضوعات العناصر المشتركة بين الأديان. ومن أمثلة المسائل «الداخلدينية» التي يمكن الإشارة إليها: الاعتقاد

(136)

بموجودٍ فوق المادة والماديات، خلود الروح، خلق الموجودات من العدم إلى الوجود، ماهية الروح، هدفية هذا العالم وعدم عبثيته، تمتع العالم بمنظومةٍ أخلاقية، الإيمان، الوحي، موضوع الشرور وغيرها[1].

أما المسائل «الخارجدينية»، فهي التي لا يجد المتدين بدينٍ خاصٍ شيئًا منها في كتبه الدينية المقدسة، وينبغي عليه أن يبحث عن هذه الأمور خارج الدين؛ لأن هذه الموضوعات بوصفها أسسًا ومبادئ تؤثّر في طريقة فهم واستيعاب الدين، ويجب عليه أيضًا من هذا الجانب أن يُظهر رأيه حول تحليل هذه العناصر الدينية. ومن أمثلة هذه المسائل «الخارجدينية»: تعريف الدين، منشأ الدين، قشور ولُباب الدين، التعددية الدينية، لغة الدين، التجربة الدينية، الدين والعلم، الدين والسياسة، ارتباط الدين بالثقافة، إمكان التحقق والإثبات... وغيرها من الموضوعات التي يصعب حصرها لأنها تتصل بمنبعٍ غير متناهٍ يتغذى فيلسوف الدين منه دائمًا من خلال أسئلته ورؤاه الجديدة، ويتطلب منه أجوبةً وآراء حديثة.

ونحن إذ نوافقه على مضمون هذا التقسيم خصّصنا هذا الفصل لدراسة الموضوعات «الخارجدينية» أو«الموضوعات المتعلقة بطبيعة الدين نفسه». وإن كنا نفضّل المسمى الأخير على مسمى كاشفي؛ لأنَّ مصطلح «الخارجدينية» مصطلحٌ غريبٌ وشاذٌ في اشتقاقه اللغوي وفي دلالاته المصطلحية؛ فمصطلح «الخارجدينية» يحيل الأذهان إلى خارج دائرة الدين كليةً، وهذا بخلاف المقصود بلا شك، وإن كنا نوافقه في مضمون التقسيم كما

(137)

أسلفنا القول. وفيما يلي نتناول هذه المسائل بشيءٍ من التفصيل:

أولًا: التجربة الدينيّة

تهتم فلسفة الدين اهتمامًا كبيرًا بالتجربة الدينية وبصفةٍ خاصةٍ منذ أن أَولى الفيلسوف البرجماتي الأمريكي وليم جيمس W. Games (1842 ـ 1910) ذلك الموضوع أهميةً كبيرةً في كتابه القيِّم «تنوعات التجربة الدينية»، الذي ظهر مع بدايات القرن العشرين، وعالج من خلاله التجربة الدينية من أهم جوانبها، كذلك لا يمكننا أن ننكر تلك الأهمية لإدجار شيفلد برايتمان وخاصة في كتابه «أسس التجربة الدينية» في الاهتمام بالتجربة الدينية كموضوعٍ مهمٍ في فلسفة الدين. هذا فضلًا عن اهتمامات شلايرماخر قبلهما بالتجربة الدينية وبيان أثرها في حياة المتدينين عمومًا، وكيف أنها تلعب دورًا عظيمًا في التطور الديني لصاحبها، وتخلق نوعًا من الرضا الباطني العميق لديه.

وقد لعبت عوامل عدةٌ في طرح مفهوم التجربة الدينية في المجتمعات الغربية، لعل أهمها: ضعف النظم الفلسفية الغربية في دفاعها العقلاني عن التعاليم الدينية، ونقد الكتاب المقدس، ومواجهة الأديان الأخرى، ومجاراة العلوم التجريبية، ومحورية الإنسان، والرغبة في التحليل المادي للظواهر التي تبدو ما ورائية[1].

وقد اهتمت فلسفة الدين بصفةٍ عامةٍ ببيان ماهية التجربة الدينيّة، وأنماط التجربة الدينية، وإمكانية معرفة صاحب التجربة الدينية

(138)

بتفسيرها، هل هي عاطفةٌ وشعورٌ بالتبعية للحقيقة الغائية، أو هي كشفٌ وإشراقٌ ورؤيةٌ حدسيةٌ روحية؟ وهل هي تجربةٌ حقيقيةٌ أم محض تجربةٍ زائفةٍ لا وجود لها إلا في ذهن صاحبها؟ وهل هي تجربةٌ حسيةٌ وإدراكيةٌ أم تجربةٌ معنويةٌ غير مُدرَكة؟ وهل التجربة الدينية تتضمن حقيقة الدين وجوهره كما يدعي أصحابها أم أنها غير ذلك؟

يرى أديب صعب أن التجربة الدينية، في أحد معانيها، هي الدين كله، وأن أي فصلٍ في كتابٍ حول فلسفة الدين لا يمكنه إلا أن يتناول التجربة الدينية من أحد جوانبها، فالتجربة الدينية عند جيمس هي الصخرة التي يرتكز إليها الدين[1].

ولكن ما هو المقصود بالتجربة الدينية على وجه التحديد؟ يعرّفها برايتمان بأنها «الوعي بالله من دون واسطة، وهذا الوعي لا يتأتى عن طريق العقل أو الإرادة الفردية أو الجماعية، وإنما يأتي من الله مباشرةً»[2]. ويصفها عدنان المقراني بأنها «الصلة الحميمة بين المؤمن والله تعالى»[3]. بينما يظل التعريف الرائج لها هو: «الإحساس بالعلاقة والصلة بموجود متعال»[4].

(139)

والتجربة الدينية مصطلحٌ يستعمل في حقول الإلهيات، وفلسفة الدين، وعلم نفس الدين، وظاهريات الدين للدلالة على معان ثلاثة: أولها، المعرفة الحضورية الشهودية بالله تعالى بدون واسطة. والثانية المعارف الدينية المتعددة حول الإلهيات التي يجدها الإنسان في نفسه من خلال تأملات المرء في ذاته. وثالثها هي المعرفة الناتجة عن تجربةٍ ذاتيةٍ مع العون الإلهي، والإحساس بحضور الله ورقابته في الحياة اليومية الدنيوية، والذي يتجلى من خلال حوادث خارقة، وكرامات الأولياء، واستجابة الدعاء، ومنها على سبيل المثال شفاء شخصٍ عزيزٍ من مرضٍ عضال ـ وقف الطب البشري عاجزًا أمامه ـ عقب الدعاء. وبناءً عليه فإن هذه المعاني الثلاثة تسمى تجربة؛ لأن فيها جميعًا معرفةً مباشرةً بدون واسطة.

وإذا كان البعض يرى أن الإيمان الديني يرتكز إلى هذه التجارب الروحية العميقة خاصةً عند أصحابها، وأن النوع الأعمق من هذه التجارب هو ما عاشه الأنبياء والأولياء والمتصوفة والقديسون، إذ كانت لهم تجارب عميقة جدًا، وقريبة غاية القرب من الألوهية، فإن هذه التجارب الدينية لم تقتصر عندهم فقط على الأنبياء والأولياء والمتصوفة والقديسين، لكنها صارت ممكنةً لأي إنسانٍ ينطلق من شعوره بالمخلوقية والمحدودية إلى فكرة الخالق من حيث هو الآخر المطلق. الأمر الذي يجعل من مفهوم التجربة الدينية مفهومًا مشككًا إلى حدٍ كبير؛ حيث تبدو مصاديقه متنوعةً تبدأ من التجارب التي تعرض للمؤمنين العاديين وترتقي لتصل إلى تجارب الأنبياء المصونة من الخطأ في التلقي وفي التفسير. وشتان ما بين تجربةٍ مصونةٍ من الخطأ وأخرى لا مانع من دخول الخطأ على خطها.

(140)

وتمثل التجربة الدينية ـ في الحقيقة ـ تجربةً ذاتيّةً جوانيّةً لا يمكن إدراكها ولا قياسها بوسائل حسية، بل يعيشها صاحبها بذاته ويعبر عنها بلغةٍ خاصة، ولا تُفهم إلا في فضاء التجربة الدينيّة للشخص ذاته. فما لم نتحقق بهذه التجربة لا يمكننا فهمها بشكلٍ واضحٍ مثلما لا يَفهم طبيعة الحب إلا المحب، ولا يفهم القلق إلا من يغرق فيه. وهي تختلف عن التجربة العرفانيّة لأنها قد تكون تجربةً عاديةً لإنسانٍ عادي، ويكفي لحدوثها استحضار الله في الأمور والأشياء كلها.

وتهتم فلسفة الدين بتفسير هذه التجارب والوقوف على حقيقتها، وتصنيفها، والوقوف على مدى حقيقتها أو زائفيتها، وكيفية تمييزها عن التخيلات الوهمية والهلاوس والأمراض النفسية والعصبية، والتهيؤات العقلية. مع العلم بأن التجارب الدينية لا تخضع لمنطق المعرفة العلمية الحسية، وإنما تخضع لمنطقٍ خاصٍ بها يتناسب مع طبيعتها، إذ إنها تجربةٌ ذاتيةٌ للإنسان مع الله، قد تكون بالفعل كذلك، وقد تكون حالاتٍ نفسيةً مرضيةً لا تشير إلى أي حقيقةٍ موضوعيةٍ خارج الذات.

ولكن هذا الوضع يطرح أسئلةً تشكيكيةً لعل أهمها: كيف أعرف كُنه هذه التجربة ما لم يكن لديَّ أنا تجربةٌ دينية؟! وهل كل التجارب الدينية متماثلةٌ أم مختلفةٌ ومتنوّعةٌ بتنوع أصحابها؟ وهل من الممكن أن تدعم المعتقدات الدينية لدى آخرين غير أصحابها؟ وجراء هذه الأسئلة التشكيكية تعرضت التجربة الدينية لموجةٍ من الانتقادات.

(141)

ولذلك حاول بعض فلاسفة الدين إخراج التجربة الدينية من المعنى المتطرف لها، الذي يشترط تجربةً دينيةً مغالية، لينظروا إليها من منظورٍ آخر، فالمسألة ليست برهان وجود الله برهانًا منطقيًا أو نظريًا قبل حصول التجربة، ذلك أن شؤون الحياة لا تحدث على هذا النحو السكوني الجامد، فالتجربة الدينية من التعقيد والحركة بحيث لا يصح السؤال عما تكون له الأولية في السياق الزمني: إثبات وجود الله أم اختبار الله في حياتنا. أجل، التجربة ظاهرةٌ متحركةٌ لأنها ليست شيئًا محددًا يحدث مرةً واحدة، بل هي عمليةٌ مستمرةٌ تتطور خلالها نظرة المرء إلى العالم في ضوء تجاربه الجديدة وفهمه له. ومن أمثلة التجارب الدينية التي يمر بها معظم الناس هو شعورهم بأنهم مخلوقون ومحدودون ومتناهو الإرادة، وإن كان هذا الشعور بمثابة نوعٍ بدائيٍ من التجربة الدينية، إذ تتعدد أنواع التجارب الدينية وتتراتب من الأدنى إلى الأعلى، لذلك نجد الكثير من أحاديث النساك والمتصوفين عن مراحل على طريق التجربة الدينية، أدناها تجربة المبتدئين وأعلاها تجربة الخبراء[1].

ورغم ذلك الدفاع الواهي من أديب صعب عن التجربة الدينية، يمكن توجيه العديد من سهام النقد إلى التجربة الدينية من جوانب مختلفةٍ لعل أهمها معيار الصدق والكذب فيها، فالأمر بلا شكٍ ذاتيٌ خالص، أي إن التجارب الدينية تحمل مصداقيتها في ذاتها، أي إنه لا يمكن لصاحبها أن يحمل أحدًا على تصديق هذه التجربة، اللهم إلا إذا كانت حياته كلها انعكاسًا حقيقيًا لتلك التجربة، أو أن حياته كلها صراعٌ حادٌ تعكس حقيقة التجربة وجدتها. ومع هذا

(142)

من الممكن لأي شخصٍ إنكار هذه التجربة وعدم تصديقها. وحتى في حال تصديقها تظل تعاني من كثيرٍ من أوجه النقص والقصور؛ فهي لا تتفق إلا للقليل من الأشخاص، ولا تعطينا إلا القليل من المعارف، وهي عبارة عن تجارب ذاتيةٍ مرتبطةٍ بثقافة كل فرد واعتقاده الديني الخاص.

بل إنه من الممكن العودة بالتجربة الدينية برمتها إلى قضايا واتجاهات أيديولوجية؛ إذ استخدمها شلايرماخر ضد الطابع المؤسساتي الرسمي للدين، وعدَّها أعمق وألطف من ذلك الدين الذي تقدمه المؤسسات الدينية، بل قدَّمها على أنها هي التي تمثل جوهر الدين وحقيقته وليست المعتقدات والأحكام الكنسية. أي إن شلايرماخر استخدمها استخدامًا أيديولوجيًا ليجابه بها قوة الكنيسة والمؤسسات الدينيّة في عصره. واستخدمها وليم جيمس نفس الاستخدام؛ إذ إنها تتضمن تدعيمًا واضحًا للنزعة اللليبرالية التي ترى الدين حالةً تتصل بالضمير الفردي وتعتبره من الشؤون الشخصية، وليس ظاهرةً لها دورها المهم في المجتمع المدني والقضايا العامة، وهو ما يناسب اتجاه جيمس الفكري والسياسي.

كذلك إذا كان القائلون بمركزية التجربة الدينية، وأنها جوهر الدين، وأنها تدعم الإيمان بل من الممكن أن تكون علةً لحدوثه، أو كما يرى ألفين بلانتينجا Alvin Plantinga (1932 ـ ؟) وريتشارد سوينبرنRichard G. Swinburne  (1934 ـ ؟) أن التجربة الدينية تجعل الاعتقادات الدينية معقولةً ولذلك يستخدمون التجربة الدينية للدفاع عن هذه المعتقدات، فإن هذا الزعم يمكن توجيه سهام النقد إليه بالقول إن التجربة الدينية من الممكن أن تكون سندًا للمعتقدات

(143)

الدينية لدى أصحاب هذه التجارب فقط دون غيرهم، وإن كنا لا ننفي إمكانية تأثر الآخرين بسماع هذه التجارب مع عدم إمكانية بقاء تأثيرها موجودًا.

كذلك يمكن لأي مدعٍ أن يدعي بأنه قد مر بتجربةٍ دينيّةٍ توصّل من خلالها إلى معالم دين بعينه. ومن ثم تنتفي معيارية الدين الحق من الدين الباطل، طالما أن المرجعية التي يمكن العودة إليها هي التجربة الدينية التي هي في الأساس تجربةٌ ذاتيةٌ معنويةٌ لا يمكن التحقق منها. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ ما يراه عبد الكريم سروش أن كل إنسانٍ له تجربته الدينية التي تصلح في جوهرها أن تكون دينًا، بل يعتبر كل التجارب الدينية عبارةً عن وحي، وغاية الأمر أن الوحي ذو مراتب دانيةٍ ومراتب عالية، وأحيانًا يقترن مع العصمة وأخرى لا يقترن معها، وهناك ما يختص بالنِحل وما يختص بالإنسان من العرفاء والأنبياء والشعراء. فكلها تمثل تجارب دينيّةً وباطنيّةً تحتاج إلى تفسير[1]. ولا شك أن سروش قد اشتط في رؤيته هذه أيما شطط، إذ اعتبر كل التجارب عبارةً عن وحي، هذا فضلًا عن قوله بتراتبية الوحي وهي فكرةٌ غير مقبولةٍ على الإطلاق، فالوحي مرتبةٌ واحدةٌ يعبّر عن الحقيقة الكاملة التي مصدرها المُوحِي الكامل، وهو الله تعالى. كما لا يمكن أن نمر مرور الكرام على رؤية سروش للبوذيين ـ الذي يعبدون الأوثان ـ على أنهم أصحاب تجربةٍ دينيةٍ لا بد من الالتفات إليها في ضوء التجربة الدينية!

ولذلك يأخذ الكثير من الباحثين على سروش أنه جعل التجربة

(144)

الدينية هي الأصل في صحة الأديان وتعددها، حتى أنه ساوى بين تجربة الشعراء والعرفاء، بل قدَّم العرفاء في الذكر على الأنبياء، وساوى بين البوذية وغيرها من الأديان السماوية، فكل تجربة لديه لا مانع من اعتبارها دينًا[1]. الأمر الذي يتنافى مع كل دينٍ بل يرفضه كل مؤمنٍ بأي دين، أيًا كان دينه.

ومع ذلك يبقى الهم الأول لفيلسوف الدين أن يستخلص من التجربة الدينية مفاهيم ومقولاتٍ ورؤى تنشد احترام الكائن البشري، وترسّخ النزعة الإنسانية في الدين، وتشبع الحياة بالمعنى، وتخلع على دنيا الإنسان صورةً أجمل، وتهبه أفقًا بديلًا للتواصل مع مختلف أتباع الأديان والفرق والمذاهب الأخرى، فلا تضيق المجتمعات ولا تجعلها تنفجر بمكوناتها التاريخية والعقائدية والإثنية، وهذا أقصى مراميها.

ثانيًا: المعرفة الدينية

تهتم فلسفة الدين من خلال هذا الموضوع بطرح مجموعةٍ من الأسئلة المحورية التي تتعلق بالدين من منظورٍ معرفي، ومن أهم الأسئلة التي تطرح من خلاله: ما هي المعرفة الدينية؟ وهل هي معرفةٌ بشرية؟ أم أنها تختلف عنها وتفوقها؟ وما هي العلاقة بين المعرفة الدينية والمعارف البشرية الأخرى؟ وهل هي معرفةٌ ثابتةٌ أم متغيرة؟ وهل تتطور وتتكامل تبعًا لتطور وتكامل العلوم والمعارف البشرية الأخرى؟

(145)

تُعد المعرفة الدينية أحد أشكال نظرية المعرفة التي ظهرت في القرن السابع عشر، وهي تلك المحاولات المعرفية الإنسانية التي تسعى إلى الوقوف على سبل وآليات فهم الدين والوقوف على حقيقته، وبحث الفروق بين المعرفة الدينية وسائر أنواع المعارف البشرية الأخرى. أي إنها بعبارة موجزة: العلم بالدين. وتعرّف المعرفة الدينية أحيانًا بأنها «عين تفسير الشريعة والمعاني التي تحصل من فهم كلام الباري وأقوال أئمة الدين (المراد علماء الدين الذين يفسرون متون الشريعة)، هذا فقط»[1].

وإذا كانت المعرفة الدينية بوصفها العلم بالدين ترتكز وتنطلق من الوحي، باعتباره المصدر الإلهي لهذه المعرفة، فإنها سرعان ما تتفاعل تأثيرًا وتأثرًا ببقية المصادر المعرفية الأخرى، أي المعرفتين العقلية (الفلسفية) والشهودية (الصوفية والعرفانية)، بحيث لا يمكن الحديث عن معرفةٍ دينيةٍ دون الأخذ بعين الاعتبار النتائج التي تسفر عنها هذه العلاقة التفاعلية القائمة بين النص (الوحي)، وبين منهجي العقل والشهود الكشفي[2].

ولا يجب الخلط بين المعرفة الدينية والدين في حد ذاته، فالمعرفة الدينية جهدٌ إنساني لفهم الدين بطريقةٍ مضبوطةٍ ومنهجيةٍ وجمعيةٍ ومتحركة. ويجوز في هذه المعرفة  التناقض والاختلاف، فهي ليست مقدسةً ولا تمتلك الحقيقة المطلقة. على خلاف

(146)

الدين الذي هو وحيٌ إلهيٌ مقدسٌ في ذاته لا يجوز فيه التناقض أو الاختلاف ويمتلك الحقيقة المطلقة. إذًا فهي بالأساس معرفةٌ اجتهاديةٌ بشريةٌ بالأمور الدينية، تتأثر بتقدم العلوم والمعارف البشرية الأخرى وتستعين بمناهجها وتتطور بتقدمها وتكاملها، وهي ديناميكيةٌ متغيرةٌ من عصرٍ لآخر حسب مقتضيات كل عصر.

ويفرق البعض بين المعرفة الدينية وعلم المعرفة الدينية؛ مرتئيًا أن المعرفة الدينية هي معرفةٌ من الدرجة الأولى، موضوع البحث فيها هو الكتاب والسنة وليس فهم الكتاب والسنة. أما علم المعرفة الدينية فهو معرفة من الدرجة الثانية، وبالتالي معرفةٌ بَعديةٌ جمعيةٌ ذات هويةٍ تاريخية، ولذلك فهو معرفةٌ يشكّل موضوعها المعارف الدينية، بمعنى أنه يتأثر بثبات أو تحول المعارف الدينية، ولا يبحث عن صحة وخطأ الآراء الدينية لهذا العالم أو ذاك، ويهتم فقط بسير تحول الآراء الدينية كما هو محققٌ في الخارج ويتألف من الروابط السائدة بين المعارف[1]. وإن كنا لا نوافق على هذا التقسيم لسببٍ بسيطٍ جدًا، وهو أن المعرفة الدينية تكون بهذا المعنى قسمًا من المعرفة الدينية وليس فرعًا متميزًا عنها.

وعلى أية حال، تقوم المعرفة الدينية على محاولات العقل الدؤوبة لاقتحام أسوار النص الديني بغية فهمه وتفسيره وتأويله بحثًا عن الحقائق المبثوثة بين ثنايا ألفاظه وجمله، استعاراته وكناياته وتشبيهاته، تصريحاته وضمنياته، للوصول إلى اليقين الذي ينتفي معه القلق والاغتراب المعرفي.

(147)

وترتبط المعرفة الدينية بالتجربة الدينية برباطٍ وثيق؛ حيث يرى البعض من أمثال تيرل ومؤيديه ومحمد إقبال وغيره أن المعرفة الدينية ليست سوى تفسيرات التجربة الدينية، وأن براهين معرفة الله ليست سوى صياغاتٍ فلسفيةً لكليات التجربة الدينية. وهذا ما يبرر لديهم عزفَ الفلاسفة الكبار أمثال هيوم وكانط وكيركجور عن قبول البراهين الفلسفية العقلية على وجود الله والاعتماد على التجارب الدينية المستقرة في أعماق القلب الإنساني، فيرى هيوم أن ديانته المقدسة تتأسس على القلب لا على العقل، ويجعل كانط الإيمان بالله من مسلمات العقل العملي دون النظري. ويصرح كيركجور بأن للقلب منطقًا هيهات للعقل أن يدركه.

أما إقبال فقد اعتبر ثالوث: القرآن، والطبيعة والتاريخ، والتجارب الدينية من مصادر المعرفة الدينية، وينبغي أن يوائم الإنسان بين هذه المصادر الثلاثة للمعرفة. بل إن إقبال اعتبر دعوة القرآن إلى التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض دعوةً صريحةً لاستخدام منهج التجربة والاستقراء[1].

وفي الحقيقة احتلت مسألة المعرفة الدينية في الإسلام مكانةً عظيمةً بالرغم من تأخرها حتى وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ إن وجوده باعتباره الشارح والمفسر والمجيب على كل التساؤلات كان لا يمكن معه استخدام آلياتٍ أخرى كسُبلٍ للمعرفة الدينية. فقد كان المؤمنون يسألون والنبي يجيب. وما أن التحق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرفيق الأعلى حتى انفجرت الإشكاليات المعرفية المتعلقة بالنص الديني واشتعلت حروب التأويل لتضع النص

(148)

والعقل الإنساني أمام تحدياتٍ معرفيةٍ متعددة الأبعاد. حيث بدأ التساؤل عن طبيعة المنهجية المعتمدة في تحصيل المعرفة والبحث عن الحقيقة يتبلور في إطار اتجاهات وطرائق بحثٍ متعددة، قسمها طاش كبرى زاده إلى قسمين كبيرين: طريق النظر وطريق الذوق، وينقسم طريق النظر إلى قسمين: طريق الفلاسفة وطريق المتكلمين، وينقسم الطريق الأخير ـ أي طريق الذوق ـ إلى قسمين: طريق الإشراق وطريق التصوف[1].

ولا غرو أن المعرفة الدينية التي تتناولها فلسفة الدين بالبحث والدراسة تختلف اختلافًا كبيرًا عن المعرفة الصوفية، وإن شاركتها الهدف في محاولة الوصول إلى الحقيقة الدينية، إلا أنَّ المعرفة الصوفية معرفةٌ مباشرةٌ يصل إليها الصوفي بلا وسائط أو مقدمات أو براهين، وهي أيضًا معرفةٌ فوق عقلية، لا يحوزها إلا من سلك سبيل التصوف والتزم طريق مجاهداته الروحية.

ومن ثم وبناءً على ما سبق يمكننا القول إن المعرفة الدينية هي المعرفة التي تدور على فهم النص المقدس لأي دين، وهي معرفةٌ نسبيةٌ متغيرةٌ متطورةٌ مرتبطةٌ بكافة أنواع المعارف البشرية الأخرى وتتأثر بها. ولا يعني ذلك بالضرورة القول بنسبية الحقيقة الدينية أو تغير وتبدل الدين في حد ذاته. فالمعرفة الدينية ليست إلهيةً مقدسة، فهي بخلاف الموضوع الديني الذي تعالجه، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال خلطها بالدين في ذاته، فخلط المعرفة الدينية بالدين

(149)

هو الذي يؤدي إلى الجمود والتطرف، بل يُلحق بالدين ما يلحقه المدنس بالمقدس.

وتنطلق المعرفة الدينية كموضوعٍ محوريٍ في فلسفة الدين في أنها تطرح أسئلةً مرتبطةً بالأفق التاريخي للإنسان تبحث المعرفة الدينية عن إجابات لها، فتقدم إجاباتٍ متعددةً ومختلفة، وكلما تنوعت الأسئلة واختلفت كلما ازدادت عمقًا وازدادت الحاجة إلى أجوبةٍ أكثر عمقًا. الأمر الذي يثبت نسبية المعرفة الدينية وتغيرها وتطورها بتغير وتطور المعارف البشرية الأخرى.

ثالثًا: التعددية الدينية

تثير مسألة التعددية الدينية كمحورٍ من محاور فلسفة الدين مجموعةً من الأسئلة التي تثري هذا المحور، من قبيل: هل الأديان صورٌ متنوعةٌ لحقيقة الله الواحدة؛ بمعنى أنّ هناك حقيقةً تتعدد السبل إليها تبعًا لتعدد وتنوع الأديان، ومن ثم فالكل مشمولون بالنجاة والخلاص؟ أو أنَّ هناك ديانةً واحدةً حقةً وما سواها باطلة، فمن لا يعتنقها لا أمل له بالنجاة؟ وهل التعددية تعني تشابه الأديان وتماثلها الباطني رغم الاختلاف الظاهري؟ وهل التعددية الدينية تقوم بين أديانٍ بعينها وتهمل أديانًا أخرى لا تُدخلها في نطاقها؟ وهل تعني التعددية الدينية المطلب الأول والأخير لإقامة سبل العيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد المختلفين دينيًا؟ وهل تعدد الرسل والأنبياء واختلاف رسائلهم وكتبهم المقدسة دليلٌ إلهيٌ على التعددية الدينية؟

وقبل أن نخوض في مناقشاتٍ جدليّةٍ حول هذه الأسئلة التي

(150)

تشكّل الأعمدة الرئيسية التي يقوم عليها مصطلح التعددية الدينية، نبدأ ببيان المقصود بالتعددية الدينية، وإن كان الوصول إلى تعريفها تعريفًا يتفق عليه الجميع هو أمرٌ في غاية الصعوبة، ولكن يمكن مقاربة المفهوم من خلال بعض الأدبيات التي تناولته، ومن أهم هذه التعريفات ذاك التعريف الذي يرى أنها: «ضرورة الاعتراف المعرفي ـ وليس فقط الاجتماعي والأخلاقي ـ بكافة الأديان والمذاهب، وإعطاء المعذورية للمؤمنين بها، وبالتالي عدَّلت من مفهوم النجاة الذي كان يعني في الماضي حصر الخلاص في طائفةٍ دينيةٍ واحدةٍ بحيث صار أكثر شمولًا واتساعًا ليشمل أكثرية أبناء الديانات والمذاهب، كما عدّلت من مفهوم التعايش من مجرد كونه ضرورةً مرحليةً إلى حاجةٍ إنسانيةٍ ثابتة»[1].

 كما يرى البعض أن التعددية الدينية مصطلحٌ يتضمن خاصيةً رئيسيةً هي الحرص على تطبيق حق المواطنة في صورتها الكبرى؛ لأن هذه الخاصية تنطوي على أمرين: الاعتراف بتعدد المعتقد داخل وطنٍ ما، والتعايش السلمي بين أصحاب هذه المعتقدات مع احتفاظ كلٍ بخصائصه العقدية، وعلى هذا فإن مصطلح التعددية السائد المتداول، يُقْصَد به تلك التصورات والمناهج الغربية المعاصرة لتفسير وتنظيم مشكلة التنوع والتباين في المجتمعات البشرية[2].

ومن أشهر التعريفات الغربية للتعددية الدينية والتي تضع المعالم

(151)

الرئيسية للمفهوم تعريف جون هيك لها، حيث يقول: «إن التعددية الدينية هي وجهة النظر القائلة بأن الأديان العالمية الكبرى، إنما هي بمثابة تصوراتٍ وأفهام عن الحقيقة الإلهية الخفية العليا الواحدة، واستجابات مختلفة للحقيقة النهائية المطلقة، أو الذات العليا، من خلال ثقافات الناس المختلفة، وأن تحول الوجود الإنساني من محورية الذات إلى محورية الحقيقة يحدث في كل الأديان بنسب متساوية»[1].

ويدلل جون هيك على رؤيته هذه بقوله: إن الأديان تعبد كائنًا إلهيًا واحدًا ولا متناهيًا في غناه وكماله، ويتجاوز قدرتنا على إدراكه أو الإحاطة بأوصافه الحقيقة. فاختلاف الأديان في تسمية وتوصيف الكائن الإلهي الأسمى لا يعكس اختلاف الحقيقة الإلهية، موضوع العبادة والاختبار والتجربة الروحية، بل بعكس اختلاف البشر في لغة التعبير وأنماط الفهم، ومبادئ الإدراك، التي تؤطرها الشروط الثقافية والبنى العلائقية السائدة في كل تكوينٍ مجتمعيٍ وكل بيئةٍ حضارية. ومن ثم تكون الأديان العظمى في العالم هي استجاباتٌ مختلفةٌ لذات الحقيقة المتعالية المحتجبة بذاتها عن أي إدراكٍ بشري. فالاختلاف في التعبير هو اختلافٌ في التجربة وفي طبيعة العلاقة مع المتعالي، وليس اختلافًا في ذات الحقيقة الإلهية الواحدة، التي تتفق جميع الأديان على واقعيتها رغم الاختلاف في تسميتها أو الإشارة إليها[2].

(152)

وهذا هو الاستنتاج الذي يبني عليه جون هيك فرضيته المعرفية واللاهوتية حول التعددية الدينية، أي التي تنطلق من الناس الذين يعبدون نفس المعبود، على الرغم من إشاراتهم إليه بإشاراتٍ مختلفة، وهذا يعني أن هناك كائنًا يفوق الوصف هو وراء كل التسميات وكل التجارب، ومهما قيل فيه، فهو أكبر من أن يوصف، إنما يمكن تسميته بالحق في ذاته[1]. ويتضح هنا الأثر الكانطي في فكر جون هيك؛ حيث إن كانط هو من فرَّق بين الشيء في ظاهره وهو ما يمكن معرفته، والشيء في ذاته وهو ما لا يمكن معرفته.

وجون هيك هنا متأثرٌ برؤية سلفه شلايرماخر الذي يرى أن الدين لبٌ وقشور، أما اللب فهو الانسلاخ عن الذات والعروج إلى الله، وأما القشور فهي كافة التعاليم والأحكام والطقوس والشعائر التي يقوم بها المتدينون بأي دين. ويرى أن وظيفة القشور هي المحافظة على اللب، ولذلك علينا أن نحافظ على الجوهر الذي هو الهدف الأسمى للدين، أمّا القشور فلا يجب أن نتمسك بها بصورةٍ قطعيّةٍ مطلقةٍ فتتحول إلى جوهر، فهي مرنةٌ مطاطةٌ همهما الأول والأخير المحافظة على جوهر الدين، والذي هو واحدٌ في الأديان كلها مهما اختلفت القشور.

والحقيقة أنَّ هذا التصور الذي يقدمه شلايرماخر ومن بعده جون هيك للتعددية الدينية يخرجها عن هدفها الأسمى الذي رسموه لها، والذي ينشد التعايش السلمي، وحق الآخر في الحرية الدينية، وعدم التفتيش في صدور الناس، وحرية العبادة والاعتقاد، وعدم امتلاك الحقيقة المطلقة، وحق الاختلاف، وعدم إقصاء الآخر، وتفعيل مبدأ

(153)

المواطنة... إلخ، إلى مصطلحٍ مفخخٍ يذيب الخصوصيات الدينية ويرى أن كافة الطقوس والشعائر وسائر التعاليم الدينية ما هي إلا تصوراتٌ بشريةٌ محضة، الأمر الذي يؤدي إلى سلب اليقين الديني من قلوب وأفئدة المتدينين والخوض في شكوكٍ وريبٍ مطلقةٍ تنتهي بترك الدين بصورة نهائية.

كما أن التعددية الدينية كما يقدمها جون هيك وكارل رانر (1904 ـ 1984) تضع الأديان جميعها في خانةٍ واحدة، وتعتقد بتشابهها وتساويها من حيث إنها جميعًا حق، أو جميعًا باطلة، أو جميعًا لا تخلو من شوائب. أو أنها ترى أن الدين الحق غير معلومٍ أساسًا أو أنه لا حقيقة له. وهذا ما لا يقبله صاحب أي دين وإلا ما كان هناك مبررٌ لاعتناق دينٍ ما دون غيره ما دامت كل الأديان تعبر عن حقيقةٍ واحدة، وهي متساويةٌ مهما اختلفت قشورها.

ولذلك يمكننا القول بدايةً في تهافت التعددية الدينية إنها لا تتوافق بأي شكلٍ من الأشكال مع المسلمات والمُحْكَمَات الدينية لأي دين. إذ كيف يكون الاختلاف بين المسلم والبوذي اختلافًا بين الحق والحق؟! أو اختلافًا على مستوى القشور وليس اختلافًا بين الحق والباطل؟! فكيف يستوي الاعتقاد بوجود الله الواحد الأحد عند المسلم مع عدم الإيمان بوجود إله عند البوذي؟! وكيف يستوي القول بوحدانية الله المطلقة عند المسلم والقول بالثالوث في المسيحية رغم أنهما (أي الإسلام والمسيحية) من الأديان السماوية؟! وكيف يمكن اعتبارهذه الاختلافات اختلافاتٍ قشريةً متنوعةً للبٍ واحدٍ وحقيقةٍ واحدة؟!

(154)

ومثل هذه الأسئلة هي ما جعلت جون هيك فيلسوف التعددية الدينية الأول يبدو مضطربًا متناقضًا يبدو بالفعل من دعاة النزعة النسبية أحيانًا والعدمية أحيانًا أخرى رغم تصريحه بمعارضته لهما. كما بدا عاجزًا عن الإجابة غير المتناقضة  في كثير من الأحيان وذلك خلال حوار له مع الشيخ علي أكبر رشاد بتاريخ 13 كانون الأول (ديسمبر) لعام 2002 على هامش مؤتمرٍ عُقد في جامعة برمنجهام البريطانية[1].

ومن ثم تبدو التعددية الدينية متناقضةً تنطوي على بوادر دمارها؛ إذ يصبح الإيمان بدينٍ معينٍ لغوًا وعبثًا والعمل انطلاقًا من شريعةٍ محددةٍ لهوًا ولعبًا، إذ إنها تنفي الواقع الموضوعي للتعليمات الدينية. وهنا يتساءل علي أكبر رشاد: «كيف يمكن أن تكون الاعتقادات المتباينة والمتباعدة من قبيل «إنكار وجود الله، وعبادة الله» و«التوحيد، والاعتقاد بالثنوية أو الثالوث» و«الاعتقاد بالمعاد، والقول بالتناسخ» و«التنزيه، والتشبيه والتعطيل» و«الجبر والتفويض، والاختيار» و«العقلانية، والنصية» ومئات القضايا الأخرى المتشعبة، المقولة والمفترضة، المعقولة وغير المعقولة، كلُّها اعتقادات مُنجية وجالبة للسعادة!»[2]. إذ كيف تؤدي كل الطرق المتناقضة الاتجاه إلى مدينةٍ واحدة؟!

حتى إذا احتج القائلون بالتعددية الدينية بالقول: كيف تكون أنانيًا دوجماطيقيًا وتحصر ديانتك بمفردها في دائرة الناجين وتُقحم

(155)

الآخرين في دائرة الخاسرين؟ مما يترتب على ذلك إقصاء الآخر وتكفيره والخلاص منه، ومن ثم لا يكون هناك مفرٌ من هذا الجحيم المجتمعي إلا بالقول بالتعددية الدينية. فإن هذا القول أيضًا مردودٌ عليه، فإن من الجيد أن توسَّع دائرة الهداية والسعادة، وأن نرى للآخرين أيضًا حظًا من النجاة والسعادة والحقانية، لكن ليس إلى درجة ألا يبقى هناك مناطٌ للنجاة والسعادة، ومعنًى للصدق والحقانية، وملاكٌ للهداية والضلالة! وباختصار لا يمكن استواء الكفر والدين، والضلال والهدي، ولا تصور الإيمان بأي شيء منجيًا وجالبًا للسعادة[1]. كما أن كافة الأديان السماوية قد أكّدت حق الآخر في الحياة، والحرية، وعدم الإكراه في الدين، هذا فضلًا عن تلك الدعوات الدينية التي تدعو المؤمنين إلى البر والعدل تجاه أصحاب الديانات الأخرى، سواء أكانت سماويةً أو غير سماويةٍ، طالما لم يلجؤوا هم أنفسهم إلى استخدام العنف تجاه المؤمنين. فلا يوجد هناك عاقلٌ يكره أن يعيش في سلامٍ ووئامٍ مع المحيطين به مهما اختلفت عقائدهم.

ومن ثم فالتعددية الدينية كما قدمها جون هيك وتابعه في ذلك العديد من الكُتَاب والباحثين تقف على طرفَي نقيض من كافة الديانات السماوية التي ترى النجاة والسعادة الدنيوية والأخروية موجودتان في دينٍ واحدٍ فقط لا غير. فمثلًا في الإسلام: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران، 85]، وفي المسيحية: “لا يستطيع أحدٌ أن يأتي إلى الله إلا عن طريقي» [يوحنا 14: 6]، وفي اليهوية نجد الميثاق الأبدي لشعب الله المختار؛ وإن كان على المسلم أن يؤمن بكل رسل الله وكتبه

(156)

المقدسة. ومن ثم يمكننا القول بأن الدعوة إلى التعددية الدينية هي دعوةٌ للقضاء على الأديان، وهدم القواعد والثوابت الشرعية الخاصة بكل دينٍ تحت مسمياتٍ خادعةٍ وشعاراتٍ زائفة.

رابعًا: اللغة الدينية

تُعد مسألة اللغة الدينية من المسائل التي اهتم بها فلاسفة الدين كثيرًا؛ إذ تضعها  الموسوعة المختصرة لفلسفة الدين جنبًا إلى جنب مع القضايا الأساسيّة في فلسفة الدين، من قبيل: وجود الله ومشكلة الشر[1]، لكنها تعرضت للإهمال الشديد من فلاسفة الغرب ومفكريه في الآوانة الأخيرة؛ وذلك لأن هذه القضية كانت قضيةً مُهمةً عندما تسيدت الوضعية المنطقية الفضاء الفلسفي، حيث إن الوضعيين المناطقة شنوا هجومًا على لغة الدين ووصفوها بأنها لغةٌ غير ذات معنى، لأنه لا يمكن التحقق منها؛ إذ إنك لا تستطيع أن تسمع الله يتكلم، كما ذهب فتجنشتاين[2]، لذلك اهتم المؤمنون من الفلاسفة بمحاولة إيجاد طريقةٍ لتفسير اللغة الدينية بعيدًا عن مزاعم هؤلاء الوضعيين، أما عندما زال تهديد الوضعيين هذا، فلم يعد هؤلاء يأبهون بمناقشة هذه المسألة. وكان أشهر ما كُتب في هذا الموضوع هو ما كتبه الفيلسوف الأمريكي المعاصر ويليام ألستون William Payne Alston (1921 ـ 2009) الذي كتب عدّة مقالاتٍ مُهمةٍ حول هذا الموضوع، جُمعت هذه المقالات ونشرت في  كتاب بعنوان «الطبيعة الإلهية واللُّغة البشرية».

(157)

وتثير قضية اللغة الدينية العديد من الأسئلة التي تتعلق بلغة الدين، من أهمها: بأي لغةٍ يخاطب الله عباده، وأي أسلوبٍ يستخدم للكشف عن مقاصده؟ هل لغة الدين لغةٌ تماثليةٌ كما يقول توما الإكويني؟ أم أنها لغةٌ لامعرفيّةٌ خاليةٌ من المعنى أو لا معنى لها ولا يمكن الحكم على محتواها بالصدق أو الكذب كما يقول جون راندالJohn Randall (1899 ـ 1980) وغيره من الفلاسفة الوضعيين المناطقة؟ أم أنها بمثابة ألعابٍ لغوية، كما تقول الوضعيّة المنطقية؟ أو أنّها لغةٌ رمزية؟ كما يقول بول تيليش Paul Tillich (1886 ـ 1965): إنّ لغة الإيمان هي لغة الرموز، وإذا ما فهمناه على أنّه حالة من الهم الأقصى فإنه ما من لغة له سوى الرموز.

 إذا كانت اللغة بوجهٍ عامٍ هي أداة التعبير عما يجول في ذهن الإنسان من أفكار، وعما يختلج في نفسه من مشاعر، وترتبط بصورةٍ وثيقةٍ بالإنسان وبيئته، وتكمن أهميتها في كونها الوسيلة التي يحتاج إليها الإنسان لإتمام عملية التواصل بينه وبين أفراد بيئته ومجتمعه، والتي تتيح له بصورةٍ طبيعيةٍ أن يعبّر عن آرائه وأحاسيسه  محققًا بذلك ذاته في المجتمع الذي يعيش فيه، فإنَّ لغة الدين هي جميع المكونات اللغوية المستخدمة في النظرية والممارسة الدينية[1]. ويفرّق بعض الكُتّاب بين مصطلحَي لغة الدين The language of Religion وبين اللغة الدينية Religious Language؛ إذ يرون أن الأولى تعني «حديث الله مع الإنسان وخطابه إياه»، أما الثانية فتعني «حديث الإنسان عن الله ومراداته من نصه المقدس». وتتمثل

(158)

الأولى في لغة الكتب المقدسة، والثانية في اللغة البشرية المفسّرة لهذه الكتب المقدسة. إلا أننا لا نجد مثل هذه التفرقة في بلاد المنشأ[1]. فلا جدوى من التعويل عليها.

وإذا كان البعض يرى أن لغة الدين تتأثر دائمًا بثقافة عصرها؛ واستدلوا على ذلك باستخدام القرآن الكريم «للإبل» والدعوة إلى التأمل في خلقها، كذلك بأنه لم ترد فاكهةٌ في القرآن إلا الفواكه التي كان يعرفها العرب حينذاك، وبأن ما يتعلق بسيادة الرجل في المجتمع الذكوري هو ما جعل للمرأة نصف الرجل من الميراث... وغيرها من الموضوعات التي تنحو هذا المنحى، إلا أن الباحث يرى أن هذا الرأي لا يستقيم مع عالمية الدعوة وخلودها؛ إذ إنه يقيّد لغة الدين بالقيود الظرفية والمكانية.

ولذلك تبقى هذه التفرقة بين لغة الدين ولغة الظاهرة الدينية غير جديرة بالأهمية؛ كما أن لغة الدين التي تتعلق بالكلام الصادر عن الله سبحانه بشكل مباشر، ويمثل الوحي فيها موضوع الاهتمام الأساسي، لم تأخذ القدر الكافي من العناية في مقاربات لغة الدين التفسيرية؛ إذ إن ما ساد من محاولاتٍ تفسيريةٍ للغة الدين إنما طال الكلام حول الظاهرة الدينية، لا الدين نفسه. ولذلك كان ضروريًا أن نشير إلى تلك التفرقة التي تتبلور من خلالها حقيقة اللغة الدينية أو لغة الظاهرة الدينية التي يصير الله (سبحانه وتعالى) فيها فصلًا من فصول الدين، ويكون الله موضوعًا لمحمولاتٍ تتعلق تارةً بوجوده، وأخرى بصفاته، وثالثةً بأفعاله ومقاصده. كما تهتم لغة الظاهرة الدينية بالبحث عن تاريخية لغة الدين كناتجٍ ثقافي. كما تبحث في

(159)

طريقة التداول الذي تتعاطى به الجماعة مع نظام الكلمة، سواء في أعرافها العقيدية أو السلوكية أو الطقوسية[1].

إن لغة الظاهرة الدينية هي تعبيرٌ عن التجربة الدينية للفرد، أو الجماعة باتساقاتها المنطقية الشكلية أو المضمونية الخاصة بنفس القضية، وكونها تنطوي على سماتٍ بشريةٍ وثقافيةٍ بحتة يشتغل عقل المنتمي على بلورتها بحسب قدراته التعبيرية والثقافية الخاصة.. كما أنها تمثّل ملامح نظام الفرق والطوائف بحسب خصوصياتها التفسيرية والإخبارية. وتحتكم لغة الظاهرة الدينية إلى صيغ التصورات الذهنية المولدة للغة الحاكية عن الدين؛ لذلك فإنها تبقى لغةً تعبّر عن طبيعة فهمها للموضوع دون أن تمتلك القدرة أو الحق في التعبير عن الموضوع ذاته. وإن كانت بحسب الواقع هي لغةٌ طموحةٌ في نيل ودرك الحقيقة والذات[2].

فهي لغةٌ تقوم على مبادئ من التعددية المعرفية والتكثر الذهني والاعتبارات المتنوعة، وهو تَكَثُرٌ قد تمت مراعاته من قِبل الكتب السماوية، إذ فرق بين الحديث عن الكلام الإلهي بما هو كلام إلهي، وبين الكتب الإلهية، وبين لغة الظاهرة الدينية. ولذلك يفرّق أحد الباحثين في تناوله للغة الدينية بين ثلاثة مستويات من اللغة الدينية هي لغة كلام الدين، ولغة الكتب الدينية، ولغة الظاهرة الدينية[3]. والتوسع في بيان الفروق الدقيقة بينها أمر لا يتحمله نطاق بحثنا لذا اكتفينا بالإشارة الموجزة إليها ها هنا.

(160)

ومن ثمَّ كان انتقال المراد الإلهي عبر اللغة يصيب المعاني بشيءٍ من التفاوت، بين حقيقتها لدى قائلها، وبين صورتها عند سامعها أو قارئها ومفسرها في زمانٍ ما، الأمر الذي أدى إلى تحميل اللغة الدينيّة من المعنى ما اختلف حوله البشر وتعددت الرؤى والنظريات، مما طرح للنقاش والتساؤل طبيعة اللغة الدينية، وما هي ماهيتها؟  وحول هذا السؤال تعددت النظريات الفلسفية حول طبيعة اللغة الدينية وتباينت الرؤى واختلفت من فيلسوفٍ لآخر. وفيما يلي تناولٌ نقديٌ موجزٌ لأهم النظريات الفلسفية، والتي يمكن حصرها على نحوٍ تقريبيٍ في خمس نظريات، هي:

نظرية التمثيل أو لغة المجاز:

وتعود هذه النظرية إلى القديس توما الإكويني، وترى أن الكلمات الدينية تحمل معانٍ غير المعاني المرادة في اللغة العادية، وإنما تكون اللغة على نحو التمثيل، فالكلمة الواحدة لها معنًى مختلفٌ في اللغة الدينية عنه في اللغة العادية، وخاصة حين تُسند إلى الله. وعلى سبيل المثال كلمة «خيِّر»، تُطلق على الإنسان وعلى الله، ولكن معناها يختلف، فالخيِّر من خصائص الموجود المطلق، لكنها عندما تطلق على الإنسان فإنها لا تكون بنفس الكيفية، إذ هي في البشر ضعيفةٌ ومشوهةٌ إذا ما قارنتها بالصفة الإلهية. إذًا التمثيل ليس أداةً للمعرفة الحقيقية الدقيقة وإنما هو تفسيرٌ للطريقة التي نستعمل فيها التعابير الإلهية المتعلقة بالإله الذي نفترض وجوده مسبقًا. فهي إذًا عباراتٌ بشريةٌ تتكلم عن أشياء غير بشرية، تنطبق على مدلولاتها الإلهية بطريقة غير حرفية.

(161)

نظرية اللغة اللامعرفية:

ويُعد جون راندال من أشهر القائلين بهذه النظرية وذلك من خلال كتابه «دور المعرفة في الدين الغربي»؛ حيث يرى أن اللغة الدينية هي اللغة التي يراد منها عدم الإخبار عن شيءٍ ولا توصف بالصدق أو الكذب، وخاليةٌ من أي أبعادٍ معرفيةٍ، فليس لها مدلولات في الواقع الخارجي، وهي خلاف اللغة المعرفية الخبرية التي يمكن الحكم على مدلولاتها بالصدق أو الكذب كالقضايا التحليلية والتركيبة، بل هي كلماتٌ وجملٌ تعمل فقط على تحريك مشاعر الناس وبث الروح من خلال فكرة المقدس، وهي لغةٌ مناسبةٌ للتعبير عن التجارب الدينية التي تعجز اللغة العادية عن التعبير عنها. وهذا المسعى يُخرج اللغة الدينية من محتواها المقدس ويساوي بينها وبين كل لغو من الكلام أو مع كافة العبارات الحماسية التي من الممكن ألا يكون لها معنًى محدد ومنضبط. وهذا المسلك هو أيضًا مسلك الوضعية المنطقية التي استندت لمبدأ التحقق. رغم أن مبدأ التحقق يهدم نفسه كما يهدم غيره إذ إن كثيرًا من قضايا العلوم لا يمكن إخضاعها لمحك التجربة[1].

نظرية لعبة اللغة (الألعاب اللغوية):

استُخدم مصطلح «ألعاب اللغة» مع فتجنشتين في العام 1932، للتعبير عن نظريةٍ تبحث في طبيعة اللغة الدينية، وترى هذه النظرية أن اللغة الدينية ما هي إلا نوعٌ من الألعاب اللغوية، فهي تجسد صورًا مختلفةً من المعرفة بالحياة من خلال اللغة، فكل دينٍ عبارةٌ عن

(162)

شكلٍ من أشكال الحياة يحمل معه لعبته اللغوية الخاصة به حسب أغراضه وتجربته الخاصة. وألعاب اللغة مثلها مثل باقي الألعاب لها قواعدها التي تحدد طبيعتها ولا يجوز مخالفتها حتى لا تفسد اللعبة، والاهتمام الفلسفي بدراسة قواعد اللعبة الللغوية يهدف إلى توضيح وتمييز ما هو كلامٌ ذو معنى عن اللغو الذي لا يصدقه الواقع الوجودي. وأهم ما تشير إليه هذه النظرية هو أن المبادئ المقترحة في كل دين هي مختصةٌ به فقط، وتكسب كل فكرةٍ معناها من النظام الدلالي لدينٍ معين، ومن سياقاته التاريخية الخاصة، وتكون جزءًا من خطابه الخاص. لذلك لا يوجد دينان يوظفان نفس المبدأ، ولا يوجد دينٌ ينفي بحقائقه حقائق الأديان الأخرى.

ورغم جاذبية هذه النظرية في حل معضلة التعارض بين حقائق الأديان، إلا أن هناك من يرى أنه حلٌ ظاهريٌ وشكليٌ فقط. كما أن إحالة اللغة الدينية إلى الفضاء الثقافي الخاص بكل ملةٍ دينيةٍ يجعل اللغة هنا تتقدم على النص بل على الدين نفسه، في حين أن اللغة بحسب فكرة «لعبة اللغة» هي ثمرةٌ أو محصلةٌ لاحقةٌ ومتأخرةٌ عن تشكل الدين وتجذره[1].

نظرية الاستعارة

ويُعد بول ريكور Paul Recoeur (1913 ـ 2005) من أشهر القائلين بها. وتنطلق هذه النظرية من فحوى الاستعارة البلاغي، فالاستعارة تعني إحلال معنى مجازي للكلمة أو الجملة محل المعنى الحرفي الصريح، مع مراعاة أن استخدام اللغة على هذا النحو يخبرنا بشيءٍ جديدٍ عن الواقع والمعنى ما كان يمكننا الوصول

(163)

إليه بدون هذا الاستخدام اللغوي الاستعاري. ولذلك لا يرى ريكور أننا بحاجةٍ إلى لغةٍ جديدةٍ أو لغةٍ موازيةٍ للغة اليومية الدارجة، بل أن ألفاظ هذه اللغة كافيةٌ للتعبير عن معانٍ ودلالاتٍ غير حسية، وعلى توليد صورٍ تشير إلى المتعالي، شريطة استخدامها على نحوٍ مجازيٍ استعاريٍ، والذي يتم بناءً على استخدام تراكيب وبناءاتٍ لغوية تؤدي إلى المعنى المطلوب.

والاستعارة عند ريكور ليست مجرد طريقةٍ لزخرفة الكلام وتزيين الأحاديث، بل طريقةٌ جديدةٌ لإدخال معاني جديدةٍ وغير مألوفةٍ إلى اللغة العادية. فاللغة الدينية مليئةٌ بالاستعارة والمجاز، ووظيفة المجاز تتجلى في صراعٍ بين كلمتين عندما يتم استعمالهما لا ينعكس معناهما الاعتيادي، مما يُحدث صدمة عند القارئ، ويدفعه إلى البحث عن معنًى جديدٍ لتلك الكلمات يحيل إلى تجربةٍ جديدةٍ ومختلفةٍ عن المعنى الحرفي. فهي تمثّل فائض المعنى الذي وظيفته انفتاح النص على عوالم جديدة[1]، ومما لا شك فيه أن الاستعارة عند بول ريكور تختلف عن الرمز عند بول تيليتش.

لغة الدين الرمزية

ويعد بول تيليتش هو أبرز من قال بهذه النظرية، حيث يرى أن اللغة الدينية لغةٌ رمزية، هي وحدها القادرة على التعبير عن الهم الأقصى للإنسان تعبيرًا رمزيًا؛ لأنها وحدها التي بإمكانها التعبير عما هو أقصى[2] والرمز في اللغة هو الإيماء والإشارة والعلامة، وهو

(164)

شيءٌ متفقٌ عليه بالإجماع العام على أنه يمثل أو يستدعي شيئًا آخر بصورةٍ طبيعيةٍ عن طريق صفاتٍ مماثلةٍ أو عن طريق الارتباط  في الواقع أو الفكر. وفي الاصطلاح الرمز يدل على غيره[1]، أما الرمز عند تيليتش فهو ما يشير إلى شيءٍ آخر وراء ذاته، ويشارك فيما يشير إليه، ويفتح مستوياتٍ من الواقع تظل منغلقةً أمامنا من دونه، ويفتح أبعادًا وعناصر في داخل أنفسنا تقابل تلك الأبعاد والعناصر من الواقع، وينبع من الشعور الفردي أو الجمعي، وينمو ويموت كالكائنات الحية[2].

وتنبع الحاجة إلى اللغة الرمزية عند أصحاب هذه النظرية من أن اللغة العادية عاجزة عن أن تقول أي شيءٍ عن الله، فكل ما تقوله اللغة العادية منتزعٌ من مادة واقعنا المتناهي، فكيف نعبر به عن اللامتناهي، اللهم إلا بصورةٍ مجازيةٍ ملؤها الرمز.

ومن ثم كانت جملة الاعتراضات التي قدمها أصحاب ذلك الاتجاه على الزعم بأن لغة الدين لغةٌ حقيقية؛ حيث أكدوا أن اللغة الدينية لا علاقة لها بلغة الحياة العادية، فالأخيرة بالرغم من وظيفتها التعبيرية التواصلية حول الدين كالتعبير عن الحمد والشكر أو مشاعر التبجيل والرهبة والإعجاب أو الثناء على المواقف الدينية، لكنها في الوقت نفسه تفشل في التعبير عن كنه الشؤون الدينية التي تتضمها المصطلحات الفنية للدين[3]. وبناءً عليه كانت لغة الدين لغةً رمزيةً خالصةً تختلف إلى حدٍ كبيرٍ عن لغة الحياة العادية.

(165)

ولذلك كانت اللغة الدينية الرمزية هي وحدها القادرة على التعبير عن الإله المتعالي، ولا يمكن ترجمتها إلى لغةٍ حرفيةٍ لعدم قابلية الخبرة الدينية للوصف. لذلك فهي لا تعبر عن العالم المتناهي بل تعلو عليه علوًا لا متناهيًا. وبناءً عليه تصبح كافة العبارات الدينية ومضمونات الكتب المقدسة عبارةً عن مجازاتٍ رمزيةٍ تقبل تأويلاتٍ لا متناهية. وإن كان أصحاب هذه النظرية يستثنون من تلك العبارات والكلمات الدينية كلمة «الله» فقط؛ إذ يمثل الله عندهم الوجود نفسه. ولا شك أن مثل هذا الرأي الذي يرى أن جميع القضايا الدينية هي قضايا رمزية لا يمكن ترجمتها وتحويلها إلى لغةٍ عاديةٍ ومباشرةٍ ينطوي على مبالغات، فلا شك أن قضايا لغة الدين أو اللغة الدينية تجمع بين اللغة المباشرة ولغة المجاز معًا.
وهكذا تصبح اللغة الدينية أحد الموضوعات المهمة في فلسفة الدين، تهدف في المقام الأول إلى الإحاطة بالمفاهيم الدينية، والمنطق الذي يحكم القضايا الدينية وطبيعة المعنى الذي ترومه اللغة الدينية، فهي لغة اتصالٍ مع المجتمع بما يُعتقد أنه مراد الله من خلال نصه. فكافة نظريات اللغة الدينية هي محض تصوراتٍ تتعرض لتلك الخصوصية للغة الدينية من زوايا متعددةٍ دون أن تحيط بها أو تستنفذ سماتٍ أخرى ممكنة فيها. 

(166)

خامسًا: الهرمنيوطيقا

نشأ مصطلح الهرمنيوطيقا في الأساس مرتبطًا بالنص الديني، حيث يرجع الأصل اللغوي لمصطلح الهرمنيوطيقاHermeneutik  إلى هرمس مفسر الوحي الإلهي إلى البشر، وإن كان قد تم ورود جذره اللغوي عند أرسطو. إلا أن  نشأة الهرمنيوطيقا كمنهجٍ في التفسير والتأويل كانت في العصور الوسطى  وتحديدًا في عصر النهضة؛ حيث نهضة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر الميلادي، وانتشار الفكر البروتستانتي الذي أدى إلى قطع علاقة المسيحيين بالكنيسة في روما، ومن ثمَّ تم القضاء على مرجعية تلك الكنيسة في تفسير النصوص المقدسة، وبذلك شعر البروتستانت بالحاجة الملحة إلى وضع قواعد ومنهجيّة معينة لتفسير الكتاب المقدس، وكان هذا الاحتياج هو السبب الرئيسي  لهذا الاتجاه في المعرفة، والذي يتكفل بمهمة القيام بطرح منهجٍ ومنطقٍ لتفسير الكتاب المقدس، وقد صدر أول كتاب يحمل اسم الهرمينوطيقا عام 1654م لمؤلفه دان هاور Dann Hawer وعنوانه باللغة اللاتينية Herـmuntica Sacrasive Methodus Exponendarum أي التفسير المقدس أو منهج شرح النصوص المقدسة[1].

وهكذا تكون الهرمنيوطيقا قد نشأت مرتبطةً بالنص المقدس في ظروفٍ خاصة، ومن ثم تحولت كنظريةٍ بديلةٍ للكنيسة في تفسير الكتاب المقدس، فكان لا بد للكهنة البروتستانت الذين قطعوا

(167)

صلتهم تمامًا بكنيسة روما الكاثوليكية صاحبة الحق الحصري في تفسير الكتاب المقدس أن يعتمدوا على أنفسهم في تفسيرهم للكتاب المقدس، وأن تكون لهم مرجعيةٌ نظريةٌ للتفسير يستأنسون بها. ثم تلا ذلك التأسيس الهرمنيوطيقي العملي تأسيسًا نظريًا على يد شلايرماخر وشليجل كمحاولةٍ لوضع منهجٍ للتفسير، وتبعهما كانط  في محاولة وضع تأويليةٍ نقدية، ثم ديلتاي كمحاولةٍ لتطبيق التأويل على  العلوم الإنسانية، ثم كان التأويل في المنهج الفينومينولوجي على يد هوسرل وهيدجر ومحاولة تفسير الوجود، ثم يستكمل جادامر طريق هوسرل، ثم تتوالى جهود نيتشه وفوكو ودريدا وهابرماس وكارل أوتو آبل للوصول بها إلى معناها الحالي الذي يُطلق على كل تأملٍ نظريٍ أو فلسفيٍ يستهدف فهم النص وأسسه وفرضياته المسبقة.

وقد اتسعت رقعة استخدام المصطلح في التطبيقات الحديثة، فانتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتساعًا تشمل كافة العلوم الإنسانية كالتاريخ، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وفلسفة الجمال، والنقد الأدبي والفولكلور.

ولما كان الأصل في نشأة الهرمنيوطيقا هو النص الديني، فإن هناك محاولات دؤوبةً لأن يصبح النص الديني مجالًا من مجالات تطبيقاتها. ومن هنا ارتبطت بالكثير من القضايا المعاصرة المطروحة في مجال الفكر والثقافة والمعرفة الدينية، فصارت تبحث عن إمكانية القراءات المختلفة للدين أو النص الديني، من خلال التأكيد على تاريخية الفهم وحصر كل فهم وتفسيره بزمانه، آخذةً في الاعتبار التغير المستمر والدائم لعملية الفهم، والاهتمام بدور المفسر ومحوريته في تفسير النص.

(168)

ويرى بعض الباحثين أن الهرمنيوطيقا قد مرت بثلاث مراحل متتالية، هي: المرحلة الكلاسيكية التي تعتمد طرح منهجٍ لتفسير النص الديني أو مطلق النصوص. والمرحلة الرومانسية التي بدأت مع شلايرماخر وتعتمد على طرح منهجٍ لتجنب سوء الفهم. والمرحلة الفلسفية التي تبحث عن حقيقة الفهم وظروف حصوله دون أن تطرح منهجًا للفهم.

ورفض البعض هذا التقسيم المرحلي للهرمنيوطيقا، وكان لهم من المبررات ما يكفي لرفضهم، وقاموا بتقسيمها إلى اتجاهات أربعة: أولها، الاتجاه المحافظ أو الكلاسيكي أو الرومانسي وهو الذي يرى أن المفسر بإمكانه الوصول إلى المقاصد الحقيقية للمؤلف من خلال استخدامه المنهج الصحيح، ومن أهم ممثلي هذا الاتجاه شلايرماخر ودلتاي وهيرش. وثانيها، الاتجاه المعتدل وهو يرى أن التفسير خلّاقٌ دائمًا، وهو يعبر عن علاقةٍ جدليةٍ مستمرةٍ بين المفسر والنص، ولذا لا مجال للحديث عن حقيقةٍ موضوعيةٍ واحدةٍ مطلقةٍ لكل العصور، فالحوار الجدلي بين النص والمفسر هو حوارٌ دائم، لذلك تقاوم الهرمنيوطيقا بهذا المعنى الجمود والتوقف عند تفسيرٍ واحدٍ ونهائي، ومن أهم أعلام هذا الاتجاه جادامر وريكور واميليوبتي. وثالثها هو الاتجاه المتطرف الذي يرفض تمامًا إمكانية الوصول إلى فكرةٍ موضوعيةٍ واحدةٍ ممكن أن يصل إليها المفسر من النص، فكل تفسير للنص هو تفسيرٌ نسبيٌ احتمالي، ومن أهم أعلام هذا الاتجاه نيتشه وهيدجر وفوكو ودريدا. ورابعها  يؤكد على ضرورة تحرر المفسر من كافة التراكمات الأيديولوجية والثقافية والاجتماعية وكافة التقاليد التي يعيشها المفسر! ومن أهم ممثليه يورجن هابرماس وكارل أوتو آبل.

(169)

وتحظى الهرمنيوطيقا بأنصار كُثر في الفضاء الفلسفي المعاصر؛ إذ يرى أحد الباحثين المعاصرين أنه من الضروري اليوم أن يُعاد صياغة تعريف الإنسان من كونه حسب أرسطو «حيوانًا عاقلًا» إلى تعريف أشمل وأكمل يُعرّف الإنسان بوصفه «كائنًا هِرْمِنيوطيقيًّا»؛ أي هو ذلك الكائن الذي يمكنه، بل يلزمه أن يُترجم الوجود ـ أي كلُّ ما يقع في أفق تجربته الوجودية ـ محوّلًا إياه إلى عالَمه الخاص الداخلي؛ لكي يُدرِكه ويفهمه[1].

وتحتل الهرمنيوطيقا مكانًا محوريًا في فلسفة الدين، حيث يرى أنصارها أنها حين تُستخدم في تأويل النصوص الدينية تحرر الدينَ من الجمود والثبات، وتمنحه طاقةً إضافيةً جديدةً للحضور في العصر الراهن. ومن ثم تجد هؤلاء الأنصار يؤكدون دائمًا على أنه لا يوجد أحدٌ من فلاسفة الدين لا يعتمد الهرمنيوطيقا في دراسة النصوص وتفسير الظواهر الدينية. ويجزمون ـ في تعميم لا يخلو من أخطاء ـ بأن كل الفلاسفة هرمنيوطيقيون يشتغلون بتأويل النصوص، ويعيدون صياغة مفاهيم الدين. وحين تغيب الهرمنيوطيقا، يتوه المفسر في دهاليز التفسيرات التراثية، ويتجمد الدين وتتعطل مراحل مسيرة المجتمع التاريخية نحو الحضارة. وينغلق كل أفقٍ بديلٍ لإنتاج المعنى وإثراء الدلالة وتجديد الفكر الديني.

ومن ثم تكتسب الهرمنيوطيقا أهميتها عند أنصارها، فهي محاولةٌ ذات أهميةٍ لتجاوز أزمة القراءة التقليدية للنصوص الدينية، فالنص

(170)

الديني بحكم منشئه ووظيفته من أكثر النصوص إثارةً للإشكاليات والأسئلة، مما يجعله نصًا يكتنفه الغموض، فيأتي دور الهرمنيوطيقا لتخلع عليه رحابةً في الفهم تخلصه من ذلك التفسير الوحيد الذي رعته المؤسسة التقليدية، كما يقدم في كتب ومدونات التفسير التاريخية[1].

ويبالغ أحد الباحثين في وصف أهمية دور الهرمنيوطيقا كمنهجٍ تفسيريٍ وتأويليٍ معاصر؛ حيث يزعم أنّ الهرمنيوطيقا بكونها تأملًا فلسفيًا حول الرموز الدينية والأساطير وكل صيغ التعبير الإنساني عامة، قد أضحت اليوم إجابةً فعليةً لكل المعضلات الوجودية، وحاجتنا إليها في عصر الانفلاتات تزداد يومًا بعد يوم. فهي تحاول العصف بكل السلط (اجتماعية، أو سياسية، أو دينية، أو لغوية...) التي تستمد شرعيتها من أحادية التعيين والمعنى الواحد، أو تلك التي تؤطر ذاتها ضمن دائرة «الواضح» و«الجلي»؛ فكلما ابتعدنا عن حالات التعيين والوصف، وكل ما يدور في فلك المعاني الظاهرة، إلى نظام الفكر والثقافة والرمز، كلما اقتربنا أكثر من حقائق الوجود الإنساني. فعبر الأشكال الرمزية تستطيع الذات الإنسانية الإمساك بكل الممكنات في أبعادها الواقعية أو المتخيلة؛ ولأن الفكر الإنساني فكرٌ رمزي، فله القدرة على إجراء تمييزٍ بين الواقعي والممكن. هذا التمييز سيمكنه من امتلاك معارف جديدة، وبفضله يمكن إحداث شروخٍ داخل كل المتصلات التي تقدم نفسها باعتبارها مطلقًا[2]

(171)

ومن ثم تبدو الهرمنيوطيقا عند أنصارها صاحبة الاهتمام الأكبر بالموضوعات العميقة التي تحتاج إلى تأملٍ وتروٍ وتدبر، من أجل البحث عن المعنى في زمن أزمة المعنى، وتقوم في الأساس على مواجهة سلطة القراءة الأحادية للنصوص المقدسة وغيرها.

وفي الحقيقة، رغم ما يراه المؤيدون بأن الهرمنيوطيقا نوعٌ من الاجتهاد تقتضيه الضرورة العصرية، وخروجٌ بالنص من معناه الضيق إلى معناه المتسع، وانتقالٌ من الدغمائية إلى العقلانية لتغيير واقعنا الثبوتي وتحرير النص من سلطة المعنى الوحيد، إلا أن البحث والفحص الدقيق لها وخاصةً في مجال النصوص الدينية يظهرها اجتراءً على النص الديني، ومؤامرةً صريحةً عليه لتحويله إلى نصٍ بشريٍ تضيع معالمه وملامحه بين كثرة المفسرين وتعددهم؛ لأن الهرمنيوطيقا ـ ككل مسعى فلسفي ـ مستندها العقل، ما يستتبع أنها لا تعترف مسبقًا بوجود فرقٍ بين فهم النصوص الدينية، وفهم النصوص الزمنية[1]

أي إن الهرمنيوطيقا انطلاقًا من هذا المعنى تسعى لسيادة النزعة التشكيكية والنسبية  في فهم النصوص الدينية. ومن ثم لم يكن غريبًا أن يرى محمد عمارة في الهرمنيوطيقا بدعةً وضعيةً غربيةً تسعى إلى «أنسنة» الدين، وإحلال القارئ محل الوحي، بحيث يكون مفهوم الوحي الجديد هو ما توحيه القراءة الذاتية للقارئ، وما توحيه كينونة عالم القارئ إلى النص بدلاً من العكس. كما يرى أن هذه

(172)

الهرمنيوطيقا قد سعت إلى عزل القيم والأخلاق والأحكام الدينية عن مصدرها الإلهي، وأقامت قطيعةً معرفيةً كبرى مع الموروث، والموروث الديني على وجه الخصوص، حتى بلغت حد الصيحة المنكرة: «لقد مات الله»!! ليحلّ «الدين الطبيعي» محل «الدين الإلهي»، بعد أن جعلت الإنسان طبيعيًا، وليس ذلك الرباني الذي نفخ الله فيه من روحه[1]

كما يرى عمارة في منهج التأويل الهرمنيوطيقي حدًا من الغلو جعله يُفرّغ النص الديني من محتواه، فلا فرق عند الهرمنيوطيقيين بين متواترٍ وغير متواتر، ولا بين مُحكمٍ ومتشابه، ولا بين وحيٍ وغير وحي، وذلك بدعوى أنه لا يوجد نصٌ لا يمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص به[2]. وبذلك يساوي دعاة الهرمنيوطيقا بين قطعي الثبوت وقطعي الدلالة وبين الظني والمتشابه، بل إنهم يساوون بين كلام الله وكلام الإنسان. ومن ثم تبقى الهرمنيوطيقا اجتراءً غير مسؤولٍ على النص الديني المقدس.

خلاصة القول إنّ الهرمنيوطيقا تتعامل مع النص على أنه نصٌ قد مات مؤلفه، يفسره الإنسان كما يشاء وكما يريد، متحررًا من السلطة المزعومة للنص، فالنص محتاجٌ إلى عينٍ ترى فيه ما لم يره المؤلف وما لم يخطر له ببال. فإننا نقول إذا كان هذا الكلام يجوز على النص الأدبي أو العمل الفني فإنه يصبح بالنسبة للنص الديني عبثيًا واجتراءً ما بعده اجتراءٌ على الله وعلى دينه.

(173)

ولذلك يكون تطبيق الهرمنيوطيقا كمنهجٍ تفسيريٍ وتأويليٍ على النص الديني من الخطورة بمكان؛ حيث سينزع الثقة بمصدر الدين من النفوس، ولن يكون هناك تفسيرٌ صحيحٌ وآخر غير صحيحٍ ما دام كل إنسانٍ سيفهم النص فهمًا مغايرًا لفهم الآخر. ألم يزعم دعاة الهرمنيوطيقا أن النص يتسع للكل، ويتسع لكل الأوجه والمستويات؟ مما ينتج عنه أن لا يكون هناك تفسيرٌ واحدٌ صائبٌ يحتكم إليه جميع الناس. والنتيجة رفع القرآن الإلهي من الأرض، ولا يبقى غير القراءات البشرية النسبية المحتملة.

الأمر الذي يؤكده الشيخ صادق لاريجاني بقوله: «إن طرح هذا النوع من التشكيك والنسبية وترويجه يمثلان خطرًا كبيرًا على المجتمعات الإسلامية، لا سيما أن هذا النوع من النظريات يثار ويعرض على أنه «نزعةٌ تجديديةٌ في فهم النص الديني»، و«قراءةٌ حديثةٌ للكتاب والسنة» و«رفض التعصب في تفسير المصادر الدينية» و«إحياء الإسلام» وأمثال هذه العناوين البراقة، نعم ليس ثمة محققٌ معارضٌ للتجديد الصحيح في فهم النصوص الدينية والاجتهاد المستمر ـ بالمعنى الواقعي للكلمة ـ فيها، كما أنه ليس ثمة محققٌ وباحثٌ يقبل بالتعصب في فهم النص الديني، الأمر الذي يؤدي إلى الإضرار بمنهجه التحقيقي، لكن البحث يدور حول حدود هذا الاجتهاد والإحياء ونفي التعصب. إن النسبية في فهم النص الديني تجرّ إلى عدم إبقاء أي تأثيرٍ جوهريٍ للكتاب والسنة، وإلى أن يصبح حالهما ـ كما في ثنايا المعارف البشرية ـ هزيلًا فارغًا إلا من الاسم»[1].

(174)

وهكذا تُحَوِل الهرمنيوطيقا النص الديني إلى نصٍ بشريٍ تاريخيٍ ثقافيٍ ليس له أي دلالةٍ قدسيةٍ خاصةٍ به، مما يفتح الباب لأي عملٍ تأويليٍ يكون له الحق في إيجاد دلالاتٍ جديدة للنص لم يكن محتفظًا بها سلفًا. كما أنها تُعد دعوةً لتفسير النص بلا آلية ضبطٍ محددة تفرّق بين الثوابت والمتغيرات، لتضيع ملامح النص ومعانيه الحقيقية بين كثرة المفسرين والمؤولين وتعددهم. وتسود النزعات النسبية في فهم المراد من النص الواحد.

وقد وقع الهرمنيوطيقيون في هذا الخطأ ـ من وجهة نظري ـ لأنهم لم يتنبهوا إلى الفرق الجوهري بين الخطاب اللاديني والخطاب الديني، فالنص أو الخطاب اللاديني يعبّر عن المعرفة ولا ينتجها، أمّا النص الديني فهو نصٌ يعبّر عن المعرفة وينتجها أيضًا. كما أن الخطاب البشري هو خطابٌ معرفيٌ محدودٌ بلا ثوابت، وقابلٌ لكل فهمٍ بشري، في حين يكون الخطاب الديني خطابًا إلهيًا يحتفظ بحقائق ثابتةٍ وسنن جازمة. ولذلك يبدو التباين التام بين الهرمنيوطيقا وبين النص الديني، فإذا كانت الهرمنيوطيقا مقبولةً في النص البشري «الذي يمكن أن يحتمل وجوهًا متعددةً تفرضها الظروف والمقتضيات ضمن التجربة الذاتية للإنسان. إلا أنّه لا يمكن قبول ذلك بخصوص المعرفة التي يؤسسها الخطاب الإلهي. فهي معرفةٌ ترتكز على سننٍ ثابتةٍ تتجاوز الإطار الزمني لتكون قابلةً للجريان والانطباق، فالحقيقة الأولى التي يجب تأسيسها: أن النص الديني مستبطنٌ لحقائق مطلقة»[1]. ومن ثمّ لا يمكن تطبيق

(175)

الهرمنيوطيقا بمفهومها الغربي على النص الديني عمومًا وخاصةً النص الديني الإسلامي.

وفي خاتمة هذا الفصل لا يمكننا القول بأن هذه هي كل الموضوعات التي تناقشها فلسفة الدين، ولكن التعرض لكل موضوعاتها هو ما ينوء به نطاق دراستنا هذه، فهناك موضوعاتٌ مهمةٌ لم نتعرض لها هنا ولكن سنكتفي بذكرها، حتى تكون حاضرةً وماثلةً في ذهن القارئ الكريم، ومن أشهر هذه الموضوعات: الدين والعلم، الدين والأخلاق، الدين والسياسة، مسألة النجاة... وغيرها من الموضوعات التي لا يتسع المقام لذكرها.

الخاتمة

وهكذا ينتهي بنا البحث في مدلولات مصطلح «فلسفة الدين» من الإرهاصات إلى التكوين العلمي الراهن، إلى مجموعةٍ من النتائج التي نختتم بها قراءتنا لهذا المفهوم المحوري في عالم الفكر المعاصر على وجه العموم، وفي مجال الفلسفة الحديثة والمعاصرة على وجه الخصوص. ومن أهم هذه النتائج ما يلي:

إنَّ الفلسفة والدِّين وجهان لعملةٍ واحدة، الفلسفة منهج، والدين موضوع؛ فالأسئلة الدينية الشائكة تحتاج إلى عقلانيّة الفلسفة من أجل تقديم إجاباتٍ منطقيةٍ مقنعةٍ تستمد قوتها من يقين العقل ومن الوضوح والتميز المنطقي. والفلسفة هي إعمال العقل لفهم النفس، والكون، والمجتمع. وهي محاولات الإنسان المستمرة والدؤوبة نحو الوصول إلى الحقيقة، مستعينًا بكل إمكاناته الذاتية. والدين هو وضعٌ إلهيٌ يدعو الناس إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة. وبالرغم

(176)

من ذلك تعددت تعريفات الدين حسب مذهب كل فيلسوفٍ ونقطة انطلاقه. أمّا الفلسفة فقد اختلفت تعريفاتها باختلاف العصور بل باختلاف الفلاسفة أنفسهم.

إنَّ مفهوم «فلسفة الدين» هو مفهومٌ حديثٌ نسبيًا، له إرهاصاته البعيدة الموغلة في التاريخ. تبلور كمبحثٍ فلسفيٍ، نسقيٍ ومنظم، له حدوده، ومناهجه، وموضوعاته مع إيمانويل كانط في كتابه «الدين في حدود العقل وحده» الذي صدر في نهاية القرن الثامن عشر وتحديدًا عام 1793م. وكان هيجل أوّل من كتب مؤلفًا يحمل عنوانه صراحةً لفظ «فلسفة الدين»، وذلك في كتابه «محاضرات في فلسفة الدين»، الذي صدر عام 1832م، وإن كان مضمونه قد أُلقي على طلاب هيجل في الفترة ما بين 1821م ـ 1831م وهي سنة وفاة هيجل. وتكمن أهمية «فلسفة الدين» في أنها تُحَوِلّ مشكلات الدين إلى فكرٍ يخرج من حيز الجمود والتبعية المعرفية إلى ديناميكيةٍ وصيرورةٍ فكرية، تختلف الرؤى حولها وتتجادل في غيبة من يملكون الحقيقة المطلقة، فتخطو بالفكر البشري خطواتٍ إلى الأمام.

من أهم نتائج هذه الدراسة أنها فرّقت بين اللاهوت وعلم الكلام والفلسفة الدينية من ناحية وفلسفة الدين من ناحيةٍ أخرى؛ إذ إنَّ الأخيرة تتناول التفكير الفلسفي في الدين، ودراسة الأديان دراسةً عقلانية، بغرض التفسير العقلاني لتكوين وبنية الدين، عبر الفحص الحر للأديان، والكشف عن طبيعة الدين من حيث هو دين، أي عن طبيعة الدين من حيث هو منظومةٌ متماسكةٌ من المعتقدات والممارسات المتعلقة بأمورٍ مقدسة، دون تبني مواقف مسبقةٍ

(177)

أو الانحياز لدينٍ معين. بخلاف اللاهوت وعلم الكلام وسائر الفلسفات الدينية التي تهدف في المقام الأول إلى الدفاع عن العقائد الدينية ضد العقائد المضادة، ومحاولة تفنيد العقائد المخالفة، أو الدفاع عن فرقةٍ دينيةٍ بعينها ضد الفرق الأخرى داخل الدين نفسه أو خارجه في دين آخر. إذ تبدأ هذه الاتجاهات دائمًا ـ بخلاف فلسفة الدين ـ من نقطة بدءٍ يقينيةٍ تقوم بالتسليم المطلق بصحة العقيدة والشرع، ولذا فهي تسير بمبدأ «آمِنْ ثمَّ تَعَقّلْ»، وتتخذ من فهمها للنص الديني معيارًا للتمييز بين الحق والباطل، وتعتمد على المنهج الجدلي. في حين تبدأ فلسفة الدين من الشك المنهجي، ولا تنشغل بالدفاع عن عقيدةٍ دون أخرى، إذ إنها لا تبدأ منحازةً لعقيدةٍ بعينها شأن اللاهوت وعلم الكلام، فهي لا تعرف الانحياز في البدايات على الإطلاق، رغم أنها قد تنحاز في نهاية التحليل لدين ما بناءً على أسسٍ عقليةٍ محضة. والعقل الواضح والواقع المتعين هما معيارا الحق والباطل في فلسفة الدين. فهي معنيةٌ بالدين ككل من حيث هو دين، وتختبره اختبارًا عقليًا مقارنًا في كل عقائده، وتسعى لتفسير الشعور والتفكير الديني من حيث المنهج والبنية والتكوين. ولذلك تنتهج المنهج العقلاني البرهاني وتتجنب المنهج الجدلي الانفعالي. وفيلسوف الدين هو باحثٌ محايد، يتحرى الموضوعية، وما يقود إليه العقل في بحثه، فهو لا يعنيه إثبات المعتقدات الدينية ولا نفيها، ولا يتوقف تفكيره عند حدودٍ معيّنةٍ لا يجب عليه أن يتجاوزها، إنما يبحث في أفقٍ مفتوحٍ بلا حدودٍ سوى حدود العقل في ذاته.

احتلت فلسفة الدين مكانًا مميزًا بين مباحث الفلسفة في العصر

(178)

الراهن، وشغلت اهتمامات المفكرين في العالم كله من أقصاه إلى أدناه بموضوعاتها الشائكة ومذاهبها الحساسة، مما جعلها في تطورٍ دائمٍ وصيرورةٍ مستمرة، فنجد إلى جانب موضوعاتها الكلاسيكية التي تتناول: الله، ذاتًا وصفاتًا وأفعالًا، والعالم، خلقًا وقدمًا وفيضًا، والإنسان، نفسًا وبدنًا وخلودًا، بجانب مشكلات النبوة والوحي، والمعجزات، ووجود الشر في العالم، نشأت موضوعات أخرى تتبلور في أسئلةٍ يطرحها المتفلسفة المعاصرون من قبيل: هل يوجد إلهٌ محايدٌ تجاه مستقبلنا؟ وهل ثمة تألهٌ من دون تدين؟ هل ثمة إيمان لائكي؟ كيف يكون نبيٌ بلا إله ووحي؟ لماذا في النهاية لم يمت إلا الإله الأخلاقي؟ هل تعني العلمنة حقًا نزع السحر عن العالم؟ مما يجعلنا نجزم بأن فلسفة الدين ليست فرعًا من فروع اللاهوت الديني، أي ليست صياغةً منهجيةً للاعتقادات الدينية، بل هي فرعٌ من فروع الفلسفة يقوم بتأملاتٍ عقليةٍ حول حقيقة الدين والظواهر الدينية. وتعالج نوعين من الموضوعات أطلق عليهما بعض الباحثين موضوعات (داخلدينية وخارجدينية)، اختصت الأولى بدراسة موضوعات: الله، النبوة والوحي، المعجزات، المعاد والبعث والخلود، مشكلة الشر. في حين تتناول الثانية موضوعات: التجربة الدينية، المعرفة الدينية، التعددية الدينية، اللغة الدينية، الهرمنيوطيقا، الدين والأخلاق، الدين والسياسة، العلم والدين، مسألة النجاة... وغيرها من الموضوعات التي تتعلق بالدين ولا يجد المتدين بدينٍ ما شيئًا منها في كتبه المقدسة.

تنظر فلسفة الدين إلى الأديان جميعها من منظورٍ واحد، أي من حيث كونها أديانًا تؤدي نفس الوظيفة، فلا فرق لديها بين «أديانٍ

(179)

سماويةٍ» و»أديانٍ وضعيةٍ». أي إنها لا تفرق بين اليهودية والمسيحية والإسلام من ناحية، وبين المانوية والمزدكية والزرادشتية والبوذية... إلخ، حيث تتعامل مع الأديان كلها من منظورٍ واحد، باحثةً عن المُثل العليا للأديان، ومؤكدةً على أهمية العقل، والحرية الإنسانية، وحرية الفكر والبحث الحر والتفسير، وأهمية العمل الصالح، وتحقيق مجتمع العدالة والمساواة. وتنشد دينًا بلا أسرارٍ أو طقوسٍ خارجيةٍ أو كهنوت، ملكوتها في الأرض وليس في السماء.

إن فلسفة الدين بوصفها تفكيرًا فلسفيًا في الدين ككل، فإن موضوعها هو الدين بكل أبعاده وجوانبه ـ رغم أن ذلك لم يتحقق حتى الآن حيث لم يُغطِّ اهتمام الباحثين في فلسفة الدين جميع أبعاد الدين ـ، كما أن المنهج القبلي والعقلي هو المنهج المتبع فيها دون غيره، فلا شأن لها بالمناهج البعدية. والغاية منها هي تحري الحقيقة فقط، فلا شأن لها بإثبات أو دحض العقائد الدينية، بل هي موقفٌ تحليليٌ ونقديٌ لموضوعات الدين بهدف الكشف عن نقاط القوة والضعف. وتهدف إلى تحقيق إمكان التلاقي والتحاور والتقابس بين المذاهب الدينية والمذاهب الفلسفية في حقلٍ مشتركٍ من حقول البحث الفكري. كما أنها تعمل على إدراك جوهر التباينات بين الأديان المختلفة من دون الاختيار التفضيلي والإيثار الإقصائي والحكم التمييزي لدينٍ بعينه.

ومن أبرز ما توصلت إليه هذه الدراسة، ما كشفت عنه في فصلها الخامس من هشاشة البنية العقلية التي قام عليها التناول الفلسفي للموضوعات التي تتعلق بالدين في ذاته ولا يجد المتدين بدينٍ ما شيئًا منها في كتبه المقدسة، من أمثال التجربة الدينية والتعددية

(180)

الدينية والمعرفة الدينية والهرمنيوطيقا...؛ حيث أفصح التناول النقدي إلى تناقضاتٍ كثيرةٍ عند القائلين بها والمدافعين عنها وخلطها بمبادئ إنسانيةٍ عليا هي بعيدةٌ عنها تمامًا.

وفي الختام نقول إنَّه إذا كانت فلسفة الدين تبحث عن تصور المثل الأعلى للأديان، فإننا نرى أنها تقترب كثيرًا جدًا من روح الفهم الإسلامي للدين، ذاك الفهم الذي يتسق عقلانيًا مع كمال الإله الذي لا يوجد من هو أكمل منه؛ ولذلك كان واحدًا لا شريك له، عادلًا، منزّهًا عن كل شيء، لا يحابي شعبًا دون باقي الشعوب والأمم كما في الاصطفاء اليهودي، ولا يتجسد في أحدٍ من خلقه كما في «تجسد المسيح Incarnation». دينٌ يحافظ على التوحيد الإلهي، ذاتًا وصفاتًا وأفعالًا، بلا تجسيمٍ أو تشبيهٍ أو تجسدٍ أو تثليث، ويوازن بين مطالب الروح ومطالب الجسد، ويتوسط بين الأثرة والإيثار، ويقرر أن العمل الصالح هو مقياس الاستحقاق دون اصطفاءٍ أبديٍ أو رهبنةٍ تعزف عن مباهج الحياة الدنيا. ولا يكلف نفسًا إلا وسعها ولا يُحمّلها وزر خطيئةٍ أولى لم ترتكبها، فكل نفس بما كسبت رهينة. دينٌ يتفق مع مبادئ العقل، والطبيعة، وحرية الإنسان، ومبادئ العدالة الاجتماعية.

(181)

قائمة المصادر والمراجع

أولًاـ المصادر والمراجع العربية والمعربة:

1. القرآن الكريم

2. الكتاب المقدس

3. إبراهيم عاتي، الإنسان في الفلسفة الإسلامية (نموذج الفارابي)، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993.

4.  ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، دراسة وتحقيق محمد عمارة، القاهرة، دار المعارف، الطبعة الثانية، د.ت.

5. ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، تقديم وتحقيق محمود قاسم، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1955.

6. أحمد فؤاد الأهواني، مقدمة كتاب ولتر ستيس، الزمان والأزل ـ مقال في فلسفة الدين، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013.

7. أحمد الأنصاري، مقدمة الترجمة العربية لكتاب جوزايا رويس، الجانب الديني للفلسفة ـ نقدٌ لأسس السلوك والإيمان، مراجعة حسن حنفي، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2000.

8. أحمد الأنصاري، مقدمة الترجمة العربية لكتاب جوزايا رويس، العالم والفرد، المجلد الثاني، القاهرة، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2008.

9. أديب صعب، التجربة الدينية، ضمن موسوعة فلسفة الدينـ2 (الإيمان والتجربة الدينية)، بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين/ بيروت، دار التنوير، الطبعة الأولى، 2015.

10. أزفلد كولبة، المدخل إلى الفلسفة، نقله إلى العربيّة أبو العلا عفيفي، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1942.

11. أسعد قطان، الهرمنيوطيقا الحديثة وفهم النص، مقال في كتاب الهرمنيوطيقا ـ دراسات في آليات القراءة والتفسير، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 2011.

12. الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق عبد العزيز الوكيل، مكتبة الرياض الحديثة، السعودية، د. ت.

(182)

13. الكندي، كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، منشورٌ ضمن رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق وتقديم وتعليق محمد عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، د. ت.

14. الكندي، رسالة الكندي في حدود الأشياء ورسومها، منشورةٌ ضمن رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق وتقديم وتعليق محمد عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، د. ت.

15. الفارابي، التعليقات، حيدر آباد الدكن، الهند، 1346ه.

16. إمام عبد الفتاح إمام، كيركجور رائد الوجودية، الجزء الأول، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1982.

17. إمام عبد الفتاح إمام، توماس هوبز فيلسوف العقلانية، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1985.

18. إمام عبد الفتاح إمام، المدخل إلى الفلسفة، الكويت، مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة السادسة، 1993.

19. إمام عبد الفتاح إمام، مدخل إلى الميتافيزيقا ـ مع ترجمة كاملة لكتاب ميتافيزيقا أرسطو ، القاهرة، دار نهضة مصر، الطبعة الثالثة، 2009.

20. أندريه كريسون، باسكال (حياته، فلسفته، منتخبات)، ترجمة نهاد رضا، بيروت، منشورات عويدات، الطبعة الثالثة، 1982.

21. أندريه كريسون، فولتير (حياته ـ آثاره ـ فلسفته)، ترجمة صباح محي الدين، بيروت، منشورات عويدات، الطبعة الثانية، 1984.

22. أنطون ذكري، الأدب والدين عند قدماء المصريين، القاهرة، مطبعة المعارف، الطبعة الأولى، 1923.

23. إيتن جلسون، روح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1982.

24. إيمانويل كانط، الإجابة على سؤال: ما التنوير، ترجمة عبد الغفار مكاوي، ضمن كتاب «شعر وفكر ـ دراسات في الأدب والفلسفة»، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995.

25. باسكال، الرهان، ضمن كتاب باسكال (حياته، فلسفته، منتخبات)، ترجمة نهاد رضا، بيروت، منشورات عويدات، الطبعة الثالثة، 1982.

26. بيار فرانسوا مورو، اسبينوزا والإسبينوزية، ترجمة جورج كتورة، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2008.

(183)

27. بول تيليتش، بواعث الإيمان، ترجمة سعيد الغانمي، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، 2007.

28. توفيق الطويل، أسس الفلسفة، القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة السابعة، 1979.

29. جابر عصفور، أنوار العقل، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة التنوير، 1995.

30. جون كولر، الفكر الشرقي القديم، ترجمة يوسف كامل حسين ومراجعة إمام عبد الفتاح إمام، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، 1995.

31. جيمس كولينز، الله في الفلسفة الحديثة، ترجمة فؤاد كامل، القاهرة، دار قباء للنشر والتوزيع، 1998.

32. حبيب فياض، مقدمة كتاب المعرفة الدينية جدلية العقل والشهود، دار المعارف الحكيمة، الطبعة الأولى، 2011.

33. حسن حنفي، قضايا معاصرة، في الفكر الغربي المعاصر، ج 2، القاهرة، دار الفكر العربي، د. ت.

34. حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، القاهرة، الدار الفنية للنشر والتوزيع، 1991.

35. حسن حنفي، محمد إقبال فيلسوف الذاتية، الجزء الثاني، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2016.

36. حسن يوسف، فلسفة الدين عند كيركجارد، القاهرة، مكتبة دار الكلمة، 2001.

37. حسن يوسفيان، دراسات في علم الكلام الجديد، ترجمة محمد حسن زراقط، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 2016.

38. حيدر حب الله، التعددية الدينية ـ نظرة في المذهب البلورالي، بيروت، الغدير للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2001.

39. رزق الشامي ـ إبراهيم صقر، محاضرات في علم الكلام، الفيوم، مكتبة دار العلم، 2007.

40. سبينوزا، رسالة في إصلاح العقل، ترجمة جلال الدين سعيد، تونس، دار الجنوب للنشر، د. ت.

(184)

41. سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، بيروت، دار التنوير، الطبعة الأولى، 2005.

42. سبينوزا، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2009.

43. شاكر عطية الساعدي، المعاد الجسماني، قم، منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى، 1426ق/1383ش.

44. شفيق جرادي، مقاربات منهجية في فلسفة الدين، بيروت، معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية، الطبعة الأولى، 2004.

45. صادق لاريجاني، المعرفة الدينية في نقد نظرية د. سروش (دراسة نقدية لنظرية قبض وبسط الشريعة)، ترجمة الشيخ محمد شقير، دار الهادي، الطبعة الأولى، 2008.

46. صادق لاريجاني، القراءات الجديدة للمصادر الدينية في مدار النقد، مقال في كتاب الهرمنيوطيقا ـ دراسات في آليات القراءة والتفسير، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 2011.

47. عاطف العراقي، الإنسان عند فلاسفة المغرب العربي، دراسة بالكتاب التذكاري: يوسف كرم مفكرًا عربيًا ومؤرخًا للفلسفة، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، د.ت.

48. عبد الكريم سروش، الصراطات المستقيمة ـ قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية، ترجمة أحمد القبانجي، بيروت، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، 2009.

49. عزت قرني، مستقبل الفلسفة في مصر، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2016.

50. علي أكبر رشاد، البلورالية الدينية وتحدي المعيار، حوار مع البروفيسور جون هيك، ضمن كتاب فلسفة الدين، تعريب موسى ظاهر، بيروت، مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2011.

51. علي أكبر رشاد، فلسفة الدين، تعريب موسى ظاهر، بيروت، مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2011.

52. على سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، بيروت، دار النهضة العربية، 1984.

(185)

53. غيضان السيد علي، نسقية المنهج في الفلسفة الحديثة، بني سويف، دار الكتاب الجامعي، 2016.

54. غيضان السيد علي، الفلسفة الطبيعية والإلهية (النفس والعقل)، بيروت، دار التنوير، 2009.

55. فردريك نيتشه، غسق الأوثان ـ أو كيف نتعاطى الفلسفة قرعًا بالمطرقة، ترجمة علي مصباح، بيروت ـ بغداد، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، 2010.

56. فردريك نيتشه، الفجر، ترجمة محمد الناجي، الدار البيضاء، دار أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى، 2013.

57. فردريك نيتشه، عدو المسيح، ترجمة ميخائيل ديب، دمشق، دار الحوار، الطبعة الثانية، د.ت.

58. فؤاد زكريا، نيتشه، القاهرة، دار المعارف، سلسلة نوابغ الفكر الغربي (1)، الطبعة الثالثة، د.ت.

59. محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة محمد يوسف عدس، تقديم الشيماء الدمرداش العقالي، القاهرة/ بيروت: دار الكتاب المصري/ دار الكتاب اللبناني، 2011. 

60. محمد خليفة حسن، تاريخ الأديان، دراسة وصفية مقارنة، القاهرة، دار الثقافة العربية، 2002.

61. محمد رضا كاشفي، فلسفة الدين والكلام الجديد، ترجمة محمد شمص، ضمن موسوعة فلسفة الدين ـ1، إعداد وتحرير عبد الجبار الرفاعي، بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين، الطبعة الأولى، 2014.

62. محمد عبد الله الشرقاوي، أحمد جاد، محاضرات في الفلسفة العامة، القاهرة، المجموعة المتحدة للنشر، 1995.

63. محمد عبد الله دراز، الدين ـ بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، بيروت، مطبعة الحرية، د.ت.

64. محمد عثمان الخشت، الدين والميتافيزيقا في فلسفة هيوم، القاهرة، دار قباء للنشر والتوزيع، 1997.

65. محمد عثمان الخشت، مدخل إلى فلسفة الدين، القاهرة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 2001.

(186)

66. محمد عثمان الخشت، الإله والإنسان ـ إشكالية التشابه والاختلاف في فلسفة برايتمان، القاهرة ، دار قباء الحديثة  للنشر والتوزيع، 2007.

67. محمد عثمان الخشت، تطور الأديان (قصة البحث عن الإله)، الطبعة الأولى، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2010.

68. محمد عثمان الخشت، العقائد الكبرى بين حيرة الفلاسفة ويقين الأنبياء، دمشق، دار الكتاب العربي، 2010.

69. محمد عثمان الخشت، للوحي معانٍ أخرى، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013.

70. محمد غلاب، المعرفة عند مفكري المسلمين، القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966.

71. محمد لغنهاوزن، التجربة الدينية (ندوة شارك فيها مصطفى ملكيان ومحمد لغنهاوزن)، ونشرت ضمن موسوعة  فلسفة الدين ـ2 (الإيمان والتجربة الدينية)، بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين/ بيروت، دار التنوير، الطبعة الأولى، 2015.

72. محمد مستجير مصطفى، تقديم مخطوطات كارل ماركس لعام 1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1974.

73. مشير باسيل عون، نظرات في الفكر الإلحادي الحديث، معهد الدراسات الإسلامي للمعارف الحكيمة، بيروت، دار الهادي، الطبعة الأولى، 2003.

74. مصطفى الكيك، تناسخ الأرواح، الإسكندرية، منشأة المعارف، د.ت.

75. مصطفى النشار، المصادر الغربية والشرقية للفلسفة اليونانية، القاهرة، دار قباء الحديثة، 2008.

76. مصطفى النشار، مدخل جديد إلى فلسفة الدين، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى، 2015.

77. معتصم السيد أحمد، الهرمنيوطيقا في الواقع الإسلامي بين حقائق النص ونسبية المعرفة، بيروت، دار الهادي، الطبعة الأولى، 2009.

78. موريس كرانسون، سارتر بين الفلسفة والأدب، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1981.

(187)

79. وجيه قانصو، التعددية الدينية عند جون هيك ـ المرتكزات المعرفية واللاهوتية، بيروت، الدار العربية للعلوم ـ ناشرون/ المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2007.

80. ولتر ستيس، الزمان والأزل ـ مقال في فلسفة الدين، ترجمة: زكريا إبراهيم، القاهرة، منشورات مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013.

81. هيجل، حياة يسوع، ترجمة جورجي يعقوب، بيروت، دار التنوير، د. ت.

82. يحيي هويدي، مقدمة في الفلسفة العامة، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الطبعة التاسعة، د. ت.

ثانيًا: المصادر والمراجع الأجنبية

Brightman (Edgar Sheffield), a philosophy of Religion, Prentice Hall, New York, 1940.

Bruyn (Daryl De), Spinoza’s Concept of  Emending of The Intellect ـ A Critical Investigation into Spinoza’s Method of Emending The Intellect with Special Reference to the TRACTATUS DE INTELLECTUS EMENDATIONE, Department of  Philosophy, University of Turku, Finland, 2014.

Deleuze (Gilles), Spinoza: Practical Philosophy, translated by Robert Hurley, First Edition in English, City Lights Books, San Francisco, 1988.

Feuerbach (Ludweg), The Essence of Christianity, Trubner & Co., Ludgate Hill, London, 1881.

Hick (John), God Has Many Names, Westmnister press, Pennsylvania, 1982.

Hick (John), Philosophy of Religion, Prentice Hall, International, HNC, Fourth Edition, 1990.

(188)

Hume (David), An Enquiry Concerning Human Understanding, in The English Philosophers from Bacon to Mill, edited. With An Introduction by Edwin A. Burtt, The Modern Philosophy, New York, 1939.

Kant (I.), Lectures on Ethics, Translated by Louis Infield, B.  A., O. B. E., With An Introduction by: J. Mac Murray, M. A., Methuen. & Co. LTD, First published, 1930.

Kant (I.), Critique of Practical Reason, Translated by Thomas kingsmill Abbott in Great Books of The Western World (Kant 39) Fifth Printing, United States of America, 1994.

Kant (I.), Religion with in Boundary of Pure Reason, Translated by J. W. Semple, University of Toronto Library, 1995.

Murray (Gilbert), Five Stages of Greek Religion, Doubleday Anchor Books, Garden City ـ New York, 1955.

Ratner (Joseph), The Philosophy of Spinoza, Selected from His Chief Works, Book, INC, Carlton House, New York, 1924.

Richard (Palmer E.), Hermeneutics, Northwestern University Press Evanstston, 1969.

Westphal (M.), The Emergence of Modern Philosophy of Religion, In: A Companion to Philosophy of Religion, Edited by Charles Taliaferro, Paul Draper, and Philip L. Quinn, Blackwell Publishing Ltd, Second Edition, 2010.

(189)

ثالثًا: المعاجم والقواميس والموسوعات

باللغة العربية

1. المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، القاهرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1983.

2. المعجم الوجيز، إصدارات مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، طبعة 2005.

3. جلال الدين سعيد، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، تونس، دار الجنوب، د.ت.

4. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، المجلد الأول، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1982.

5. جوناثان ري، وج. أو. أرمسون، الموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة فؤاد كامل وآخرون، مراجعة زكي نجيب محمود، القاهرة، المركز القومي للترجمة، العدد 2287، 2013.

6. جيرار جهامي، موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى، 1988.

7. عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المجلد الثاني، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1984.

8. عبد المنعم الحفني، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، القاهرة، مكتبة مدبولي، الطبعة الثالثة، 2000.

9. عماد الدين إبراهيم عبد الرازق، إدجار شيفلد برايتمان، معجم الفلاسفة الأمريكان من البراجماتيين إلى ما بعد الحداثيين، منشورات ضفاف/ منشورات الاختلاف، الطبعة الأولى، 2015.

10. محمد عمارة، التأويل العبثي في الدراسات الإسلامية، القاهرة، مجلة الأزهر، مجمع البحوث الإسلامية، عدد جمادى الأولى 1434ه أبريل 2013، الجزء 5، السنة 86.

11. محمد عثمان الخشت، معجم الأديان العالمية، المجلد الأول، القاهرة، مركز جامعة القاهرة للغات والترجمة، الطبعة الثانية، 2016.

12. محمد عثمان الخشت، معجم الأديان العالمية، المجلد الثاني، القاهرة، مركز جامعة القاهرة للغات والترجمة، الطبعة الثانية، 2016.

(190)

13. مراد وهبة، المعجم الفلسفي، القاهرة، دار قباء، الطبعة الثالثة، 1998.

14. ميخائيل أنوود، معجم مصطلحات هيجل، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، د. ت.

باللغة الأجنبية

Thiselton (Anthony C.), A Concise Encyclopedia Of The Philosophy Of Religion, One World Publications, Oxford, 2002.

The Cambridge Dictionary of Philosophy, General Editor: Robert Audi, Cambridge University Press, Second edition, 1999.

The Shorter Routledge Encyclopedia of Philosophy, edited by Edward Craig, Routledge, first Published, London and New York, 2005.

Vergilus Ferm, Encyclopedia of Religion, New York, 1945.

رابعًا: المجلات والدوريات

1. جوزيبي سكاتولين، قراءة هرمنيوطيقية للنص الصوفي، الهرمنيوطيقا

، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، العدد 57/58، شتاء وربيع 2014/1435.

2. خضر إبراهيم، فلسفة الدين ـ منشأ المصطلح ومعناه ومجال استعماله، مجلة الاستغراب، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العدد الثالث، السنة الثانية، 1437ه/ 2016م.

3. ظريف مصطفى حسين، فلسفة الدين عند جون .س. مل، القاهرة، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الثامن، 1999.

4. عبد الله بريمي، الهرمنيوطيقا، البحث عن المعنى في أزمة المعنى، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، العدد 57/58، شتاء وربيع 2014/1435.

5. عدنان المقراني، التجربة الدينية والنص، مجلة قضايا إسلامية

(191)

معاصرة، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، العدد 47/48، صيف وخريف 2011/1432.

6. غيضان السيد علي، كيركجور: التدين الزائف والديمقراطية، مجلة مقاربات فلسفية، مخبر الفلسفة والعلوم والعلوم الإنسانية، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، العدد الثاني 2014.

7. فتحي المسكيني، معنى فلسفة الدين ـ التخصص: بداياته وتطوراته، مجلة التفاهم، السنة الثالثة عشرة، سلطنة عمان ـ مسقط، ربيع 2015م/ 1436ه.

8. محروس محمد محروس، التعددية الدينية ـ رؤية نقدية، مجلة جامعة طيبة للآداب والعلوم الإنسانية، السنة السادسة، العدد 12، 1438هـ.

9. منى طلبة، الهرمنيوطيقا ـ المصطلح والمفهوم، مجلة أوراق فلسفية، القاهرة، العدد العاشر، 2004.

10. وجيه قانصو، الوحي واللغة الدينية، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، العدد 47/48، صيف وخريف 2011/1432.

خامسًا: المواقع الإلكترونية 

موسى الكعبي، المعاد يوم القيامة، على الرابط التالي:

https://alkafeel.net/islamiclibrary/aqad/almaad/almaad/m1.html

 محمد ألحيان، الهرمنيوطيقا، محاولة لتجاوز أزمة القراءة التقليدية للنص القرآني، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط ـالمغرب، 2015، ص 1. على الرابط التالي :

http://www.mominoun.com/articles 33 - 23

هاني عبد الصاحب، لغة الدين ونظرياتها في الغرب الحديث، على الرابط التالي:

http://tawaseen.com/?p=3197

John Hick, Is Christianity The Only True Religion Or One Among Others, 2001,

http://www.johnhick.org.uk/article2.pdf

(192)
المؤلف في سطور غيضان السيد علي كاتب وأكاديمي مصري مدرس الفلسفة الحديثة بكلية الآداب جامعة بني سويف له مجموعة من الكتب والعشرات من الأبحاث والدراسات العلمية الرصينة ، ومئات من المقالات المنشورة في مختلف المواقع الإلكترونية والصحف والمجلات والدوريات المصرية والعربية ، هذا فضلا عن مشاركته الفعالة في العديد من المؤتمرات الدولية داخل مصر وخارجها وحضوره الدائم في محطات الإذاعة والقنوات التلفزيونية الفضائية لمعالجة كل جديد في قضايا الفكر والثقافة وقد كرم في العديد من المناسبات الوطنية والدولية وفاز بأكثر من جائزة في مجال النقد الأدبي ويعد الدكتور غيضان السيد علي مثال للكاتب والباحث الأكاديمي الجاد الذي يؤمن بما يكتب ويكتب ما يؤمن به ومن مؤلفاته المنشورة : -الفلسفة الطبيعية والإلهية (النفس والعقل عند ابن باجة وابن رشد) -الأخلاق والدين بين المثالية النقدية والمثالية المعدلة . -سؤال الاختلاف الفلسفي (رهانات الإبداع في الفكر العربي المعاصر) . -نسقية المنهج في الفلسفة الحديثة . -فلسفة الدين المصطلح من الإرهاصات حتى التكوين العلمي الراهن . كما قام بتحرير مجموعة من الكتب المنشورة عن أبرز أعلام الفكر العربي المعاصر ، من أهمها : -عقلانية بلا ضفاف (الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية في أعمال الخشت الفكرية) -يحيي هويدي فيلسوفا -تجديد العقل الديني في مشروع الخشت الفكري
هذا الكتاب فلسفة الدين تسعى هذه الدراسة إلى الإضاءة على واحدة من أبرز ما أنتجته المعرفة المعاصرة في حقل الفلسفات المضافة عنينا بها فلسفة الدين يتضمن الكتاب الذي نقدمه للقارئ العزيز في إطار سلسلة مصطلحات معاصرة تعريفات بفلسفة الدين من ناحية الاصطلاح والمفهوم كما يلقي الضوء على أبرز الفلاسفة واللاهوتيين الذين ساهموا في تظهير هذا المصطلح ناهيك عن المذاهب والتباينات الغربية التي اهتمت بهذا الحقل المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف