فهرس المحتويات

مقدمة- الإيقاع الثنائي | 9

الفصل الأول : الثنائيات الضدية: ذاكرة المصطلح | 13

-الثنائيات الضدية لغة واصطلاحاً | 15

-الثنائيات الضدية والمصطلحات المتعارضة معها | 23

-الثنائيات الضدية والمصطلحات المتداخلة معها | 27

-طبيعة الثنائيات الضدية وبنيتها | 34

-الثنائيات الضدية وعلاقتها بطبيعة النفس البشرية | 36

الفصل الثاني : الثنائيات الضدية والعلم | 43

-حضور الثنائيات الضدية في علم الطاقة | 45

-ثنائية الين واليانغ وعناصر الطبيعة الخمسة | 52

-الثنائيات الضدية وفقاً للعلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية | 55

الفصل الثالث : الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي | 63

- بناء الفلسفة على الثنائيات الضدية | 65

-الثنائيات الضدية في الفلسفة القديمة | 66

-الصوفية والبعد الفلسفي المبني على الثنائيات الضدية | 74

-أشكال إيشر المجازية | 76

-الفلسفة الحديثة والثنائيات الضدية | 79

الفصل الرابع : الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي والإسلامي | 85

-الثنائيات الضدية لدى الفارابي | 86

-الثنائيات الضدية في فلسفة ابن سينا | 92

-ثنائية عقل/ نقل بين ابن رشد والغزالي | 100

-الأدب الفلسفي والثنائيات الضدية | 103

الفصل الخامس : الثنائيات الضدية والاتجاهات النقدية | 121

-الثنائيات الضدية في النقد الأدبي | 122

-الرومانسية | 124

-الماركسية | 126

-البنيوية | 131

-ما بعد البنيوية | 144

-بين البنيوية والتفكيكية | 153

-الثنائيات الضدية في الفكر العربي القديم | 156

-الثنائيات الضدية في النقد العربي الحديث | 158

-جمالية الثنائية الضدية “الأثر والتلقي" | 161

خاتمة - مآل المعابر | 166

سلسلة مصطلحات معاصرة 7 العتبة العباسية المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية الثنائيات الضدية بحث في المصطلح ودلالاته تأليف سمر الديوب
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها،وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظمة الفكرية المختلفة. ثانيا:إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لا سيما وأن كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقة. ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة رابعا::رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ومجال استخداماته العلمية فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الاخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

الثنائيات الضدّيّة

بحث في المصطلح ودلالته

 تأليف: سمر الديوب

بسم الله الرحمن الرحيم 

هوية الكتاب 

الكتاب: الثنائيات الضدّية: بحث في المصطلح ودلالته

تأليف: سمر الديّوب

الناشر: المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

العتبة العباسية المقدسة

الطبعة: الأولى 2017م ـ 1439هـ

 

(4)

الفهرس

مقدمة- الإيقاع الثنائي9

الفصل الأول : الثنائيات الضدية: ذاكرة المصطلح13

-الثنائيات الضدية لغة واصطلاحاً15

-الثنائيات الضدية والمصطلحات المتعارضة معها23

-الثنائيات الضدية والمصطلحات المتداخلة معها27

-طبيعة الثنائيات الضدية وبنيتها34

-الثنائيات الضدية وعلاقتها بطبيعة النفس البشرية36

الفصل الثاني : الثنائيات الضدية والعلم43

-حضور الثنائيات الضدية في علم الطاقة45

-ثنائية الين واليانغ وعناصر الطبيعة الخمسة52

-الثنائيات الضدية وفقاً للعلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية55

الفصل الثالث : الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي63

- بناء الفلسفة على الثنائيات الضدية65

-الثنائيات الضدية في الفلسفة القديمة66

-الصوفية والبعد الفلسفي المبني على الثنائيات الضدية74

-أشكال إيشر المجازية76

-الفلسفة الحديثة والثنائيات الضدية79

(5)

الفهرس

الفصل الرابع : الثنائيات الضدية في

التراث الفلسفي العربي والإسلامي85

-الثنائيات الضدية لدى الفارابي86

-الثنائيات الضدية في فلسفة ابن سينا92

-ثنائية عقل/ نقل بين ابن رشد والغزالي100

-الأدب الفلسفي والثنائيات الضدية103

الفصل الخامس : الثنائيات الضدية والاتجاهات النقدية121

-الثنائيات الضدية في النقد الأدبي122

-الرومانسية124

-الماركسية126

-البنيوية131

-ما بعد البنيوية144

-بين البنيوية والتفكيكية153

-الثنائيات الضدية في الفكر العربي القديم156

-الثنائيات الضدية في النقد العربي الحديث158

-جمالية الثنائية الضدية “الأثر والتلقي"161

خاتمة - مآل المعابر166

(6)

مقدمة المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية  يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف الى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً الى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحو التالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم  والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات

(7)

العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

 *      *       *

في هذه الحلقة من سلسلة مصطلحات معاصرة تكتب الباحثة السوريّة د. سمر الديّوب حول مفهوم "الثنائيات الضديّة" بوصفه ظاهرة فلسفية تمتدّ إلى مجموعة من العلوم الإنسانية ولا سيما في مجال النقد الأدبي. حيث أنّ أول من طبّقها في هذا المجال هي المدرسة البنيوية الغربية، ولفهمه بأبعاده كلها سعت الباحثة إلى بيان أصله الفلسفي؛ ثم أجرت تقييماً نقديّاً لهذا المصطلح في إطار اختباراته في حقل علم الاجتماع، وعلم النفس، فضلاً عن الفلسفة التي شكلت الأرض الخصبة له.

والله ولي التوفيق

(8)

المقدمة

الإيقاع الثنائي

تعدّ فرضية الثنائية (Binary Assumption) من الموضوعات التي أثارت دهشة الإنسان في مسيرة تاريخ الفكر البشري، فثمة طرفا ثنائية متضادان في الكون، مثل: زيادة/ نقصان، ذكر/ أنثى، سلب/ إيجاب... ويرى بعضهم أن هذه الأضداد يبحث الطرف منها عن طرفه الآخر؛ ليتحدا معاً مكوّنين الوحدة الأصلية، ويرى آخرون أن هذه الأضداد تقوم على صراع أبدي بعضها مع بعض ويرون أن هذا الصراع مصدر الخلق، والتوليد؛ لاستمرار الحياة.

فحين درس العلماء ـ على سبيل المثال ـ المغناطيسية وارتباطها بالملاحة بوساطة البوصلة اعتمدوا على تقسيم ثنائي، إلى قطبين شمالي وجنوبي، وكلّ منهما يبحث عن الآخر، وهي نفسها الفكرة التي قامت عليها الفلسفة الصينية القديمة، ثنائية الين واليانغ، فالكون ـ حسب هذه الفلسفة ـ يتشكل من ثنائيات ضدية تجتمع في مقام واحد، ويسعى كل طرف من طرفيها إلى الطرف الآخر؛ لأن في وجودهما معاً اتحاداً وتكاملاً. وفي العصر الحديث تم التقسيم إلى كهرباء سالبة، وكهرباء موجبة، ولا يقوى طرف واحد منهما على النهوض والعمل بنفسه، وهكذا...

للثنائية ـ إذن ـ تأثير قوي في الصراع، واستمرار الحياة على الأرض، وتُظهر الثنائية منظومة فكرية فلسفية حياتية متكاملة، ويبنى على أساس الثنائية الإيقاعُ الثنائيّ للعالم، وبنيته؛ لأنه مرتبط بالثنائية حيث التضاد، والتوازي، وكلّ طرف من طرفي الثنائية يسوّغ وجود الآخر.

(9)

والثنائيات الضدية ثنائيات كونية، علاقتها بالوجود علاقة دينامية، متلازمة كثنائية النور/ الظلام، والبقاء/ الفناء... تبنى على هذه الثنائيات منظومة فكرية فلسفية دينية أسطورية علمية نقدية، وتتجلى في الأدب.

وتشكل كل ثنائية منظومة علائقية أسطورية بدءاً بأساطير الخلق، والمعتقدات القديمة، وصولاً إلى الفلسفة والأدب والسياسية وعلم الطاقة، وتنتج الثنائيات ثنائيات جديدة، فالثنائيات الضدية تندرج في مقام واحد.

والثنائيات الضدية موجودة منذ الأزل، لكنّ طرفي الثنائية يتوحدان في واحد كلي، فحين تشير الثنائية إلى التعدد تنتهي إلى الوحدة، والتكامل. فالشر لا يناقض في جوهره الخير، ولكنه متمّم له، ولازم لوجوده، فلا تظهر الفضيلة إلا باقترانها بالضد، ولا معنى للكرم من غير اقترانه بالضد، فلا بد لكل شيء من ضدّ يميزه، ويوضّحه، وقديماً قال الشاعر:

بصرتُ بالراحةِ الكبرى فلم أرها         تأتي إلا على جسرٍ من التعب

والثنائيات الضدية ظاهرة فلسفية أساساً، تمّ سَحْبُها على النقد الأدبي، وأول من طبّقها على الأدب البنيويون، ويعدّ هذا المصطلح مفردة من مفردات الثقافة الغربية، يمثّل أسساً فلسفية بالدرجة الأولى، له أبعاد إيديولوجية وفلسفية موغلة في القدم، ولفهمه بأبعاده كلها لابد من العودة إلى أصله الفلسفي؛ ليتضح معناه، ثمّ يتعيّن على ذلك دراسته في حقل النقد الأدبي الذي استفاد من اصطلاحات علم الاجتماع، وعلم النفس.. ومن الفلسفة التي شكلت الأرض الخصبة له.

وقد قسمنا الدراسة إلى مقدمة، وخمسة فصول، وخاتمة. تحدثنا في الفصل الأول عن الثنائيات الضدية لغة واصطلاحاً، وفرّقنا بينها وبين المصطلحات

(10)

المتعارضة معها كالتناقض والثّنوية والتناظر، وفصّلنا في المصطلحات المتداخلة معها كالجدل، والتقابل، والمفارقة، والطباق، والتكافؤ.

ودرسنا في الفصل الثاني حضور الثنائيات الضدية في علم الطاقة، ووجدنا أن أية ظاهرة مشكّلة من اجتماع ثنائيات ضدية فيها، وتحدثنا عن طاقتيّ الين واليانغ المتضادتين، واللتين تعملان بشكل متناوب، ومن تناوبهما تنشأ مظاهر الكون، ودرسنا العناصر الخمسة المشكّلة للطبيعة، والعلاقات الضدية التي تحكمها، والبعد الثالث الذي نعيش فيه، المحكوم بمنطق الثنائيات الضدية، وبدراسة بعض المظاهر في الرياضيات والفيزياء والكيمياء تبين الحضور القوي للتقابلات الثنائية في مختلف العلوم.

ودرسنا في الفصل الثالث علاقة الثنائيات الضدية بالفلسفة، فالثنائية الضدية من الملامح البارزة لفلسفة أفلاطون، ومن بعده ديكارت، وكانت، وقد وجدنا أن الفلسفة بنيت على ثنائيات ضدية كثنائية الوحدة/ الكثرة، وثنائية حدوث الوجود/ قدمه، وثنائية الطبيعي/ فوق الطبيعي. ودرسنا وجود الثنائيات في الفلسفة القديمة كالفلسفة الصينية “الين واليانغ” وفلسفة الكامي اليابانية، والمانوية، والبوذية، ووجدنا في الصوفية بعداً فلسفياً مبنياً على الثنائيات الضدية، ووجدنا أثراً لها في الفن التشكيلي لدى الفنان المبدع “إيشر” فتقوم رسوماته على بعد ثنائي تقابلي ذي طابع فلسفي.

وبحثنا في الفصل الرابع في الجانب الفكري والفلسفي العربي والإسلامي، فوجدنا أن الفلسفة العربية والإسلامية أولت الثنائيات الضدية أهمية كبرى، فرصدنا حضور هذه الثنائيات، وفاعليتها لدى الفارابي ومدينته الفاضلة ومضاداتها، ووجدنا أن فكر ابن سينا الفلسفي بحث في التضاد والتناقض بوضوح، وأولينا عنايتنا لاهتمام ابن رشد المائز بالثنائيات الضدية، فدرسنا حضور ثنائية عقل ونقل لديه، ولدى الغزالي.

(11)

رصدنا حضور هذه الثنائيات في الأدب الفلسفي، فوجدناها في عينية ابن سينا في النفس، وفي أدب أبي حيان التوحيدي، فرصدنا الثنائيات الضدية في العينية، واهتممنا بثنائية السؤال والتساؤل لدى أبي حيان التوحيدي.

وتتبعنا في الفصل الخامس الثنائيات الضدية، وحضورها في المدارس النقدية الغربية الكبرى، فقد قامت كلّ مدرسة على أساس فلسفي، ظهر في النقد، وظهر جلياً نهوض البنيوية على ثنائيات ضدية، ومن بعدها التاريخانية الجديدة، ووازنا بين استعمال النقاد الغربيين هذا المصطلح واستعمال النقاد العرب، وتحدثنا عن أثر الثنائيات الضدية في إضفاء سمة شعرية جمالية على النص الأدبي.

من أكثر الصعوبات التي واجهت البحث انعدام المراجع والمصادر المعنونة بالثنائيات الضدية، وبهذه المناسبة أتوجه بالشكر لأخي الدكتور المهندس عامر الديوب الذي أمدني بكثير من مراجع البحث، وكان لنقاشه أثر كبير في تطور أفكار هذه الدراسة، ونرجو أن تكون هذه الدراسة المتواضعة قد قدمت المرجو منها.

والله وليّ التوفيق

أ.د. سمر الديوب

حمص في 1/3/2017

(12)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

الثنائيات الضدّية:

ذاكرة المصطلح

(13)

مقدمة

يمثّل المصطلح مفتاح العلم، ونواة وجوده، ولا يمكن للعلوم والمعارف أن تؤسس مفاهيمها من غير ضبط جهازها المصطلحي، وتتوسل المصطلحات باللغة لتحديد المقصود منها. ويبنى العلم على النسقين المفهومي والمصطلحي، ويعدّ المصطلح الضامن الوحيد لنشأة العلوم وتطوّرها، فالمصطلحات تسميات لغوية للمفاهيم، ووحدات رمزية تعبّر عن المفهوم، كما يبني علم الرياضيات مصطلحاته على الرموز.

وقد تتشعّب مسارات المصطلح، ويصعب تأسيس المفهوم، وهو الأمر الذي يؤدي إلى اختلاف المناهج، وتنوع مقارباتها، ونظرياتها.

وقد انتقلت آثار هذا التعدد، والاختلاف إلى المصطلحية العربية؛ إذ أنتج هذا التنوع خلطاً مصطلحياً عجيباً في التصور والمفهوم والترجمة، فأدّى ذلك إلى كثرة العوائق التي حالت دون نشأةٍ مصطلحية عربية أصيلة، فقد شوّهت الترجمات الخاطئة المنقول، وزادت من عوائق تأسيس المفهوم عند العرب، واتسمت المصطلحات العربية بالفوضى الناجمة عن عدم إدراك المفهوم في أصوله، وكيفية ترجمته.

ومن هذه المصطلحات التي انتقلت إلى العربية مصطلح الثنائيات الضدية، فنجد ظلالاً له في نقدنا القديم، كما نجد مصطلحات كثيرة متداخلة فيه، وأخرى مختلفة عنه. فما الأصل اللغوي، وما الدلالة الاصطلاحية للثنائيات الضدية؟

(14)

1 - الثنائيات الضدية (Binary oppositions) لغة واصطلاحاً

تعود الثنائيات إلى الجذر الثلاثي ث ن ي، ومن معانيها تكرار الشيء مرتين متواليتين[1] والثّني: ردّ الشيء بعضه على بعض[2] وقيل: إن الثنائي من الأشياء ما كان ذا شقين[3].

يتعين على ما سبق أن دلالات الثنائيات تفترض وجود طرفين، وتعتمد على التثنية، وهذان الاثنان قد يكونان متواليين، أو معطوفين، أو متزامنين.

ويدلّ المعنى اللغوي للثنائيات على ما هو أكثر من الواحد مهما كان عدد الثنائيات، فقد تتعدد الثنائيات، لكنها تظل تدور في فلك الرقم اثنين.

ويعني لفظ الثنائية ضعف العدد واحد، وقد يكون هذا الضّعف شبيهه، أو نظيره، أو ضدّه، ويعني هذا الأمر أن العدد واحد يشكّل مع واحد آخر ثنائية مهما كانت العلاقة بينهما، وفي هذه الحال يلازم كلّ طرف من طرفي الثنائية الآخر، ولا ينفكّ عنه، وإذا كان قابلاً للانفكاك عنه انتفت عنه صفة الثنائية.

ويختلف المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي من جهة عمقه، وأبعاده الفلسفية والعلمية، فقد عرّفها المعجم الفلسفي بأنها “الثنائي من الأشياء ما كان ذا شقين، والثنائية هي القول بزوجية المبادئ المفسّرة للكون، كثنائية الأضداد وتعاقبها، أو ثنائية الواحد والمادة - من جهة ماهية مبدأ عدم التعيين - أو ثنائية الواحد وغير المتناهي عند الفيثاغورثيين أو ثنائية عالم المثل وعالم المحسوسات عند أفلاطون ... الخ، والثنائية

(15)

مرادفة للاثنينية، وهي كون الطبيعة ذات مبدأين، ويقابلها كون الطبيعة ذات مبدأ واحد، أو عدة مبادئ (الثنوية والاثنينية)”[1].

فالاثنينية هي كون الطبيعة ذات وحدتين، أو هي كون الشيء الواحد مشتملاً على حدّين متقابلين، ومتطابقين كتقابل الفكر، والعمل.

ويعني الكلام السابق أن الاثنينية تفترض اشتمال الشيء على مبدأين مستقلين لا يذوب أحدهما في الآخر، ولا يشبهه، كالظلام والنور، والليل والنهار... [2].

إن الثنائيات الضدية نظرة فلسفية عميقة، تتجاوز الجمع المباشر، والسطحي بين طرفين. فهذان الطرفان تربطهما رابطة هي رابطة التضاد؛ إذ يجتمع الخير والشر، أو الظلام والنور في ثنائيات ضدية لا متناقضة، فثمة علاقة بين المتضادّين المجتمعين في ثنائية، فلا ينفي أحدهما الآخر، بل يدخلان في علاقة تواز، وبهذا الشكل لا يتناقضان، بل يتكاملان. فحقيقة الوجود تنطوي على تقابل دائم بين طرفين، لكلّ منهما قوانينه الخاصة.

وقد حملت اللغة العربية الثنائيات الضدية، ففي القرآن الكريم ثنائيات ضدية في مواضع متعددة، يمكن أن نشير إلى بعضها:

- ثنائية الخير/ الشر: يقول تعالى:(وإنه لحُبِّ الخير لشديد)[3] (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرّ لكم، والله

(16)

يعلم وأنتم لا تعلمون)[1] (والصلح خيرٌ)[2] (وما الحياة الدنيا إلا لعبٌ ولهو، وللدار الآخرةُ خير للذين يتقون أفلا تعقلون)[3] (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل بكم قالوا خيرا)[4].

لقد وضّح تعالى مفهوم الخير للإنسان الذي يستخلص أحياناً مفهومات خاطئة للخير من غرائزه، فالله تعالى هو الذي يضع المقاييس الصحيحة للخير فيما يتعلق بشؤون الحياة، والدنيا شرّ مقابل خير الآخرة، وطاعة الله في الحياة الدنيا تعلي من قدره عند الله. فثمة جانب نوراني أخلاقي يحضّ عليه يمثل الخير، يقابله جانب مظلم يمثل الشر.

- ثنائية الظلمات/ النور: يقول تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور)[5] وردت الظلمات بصيغة الجمع قبل النور، فيمثل النور في الكون نسبة ضئيلة من المجال غير المرئي الشاسع جداً، يظهر على شكل لون أسود معبَّرٍ عنه بالظلمات. فثمة مجال مرئي، ومجالات غير مرئية للموجات الكهرومغناطيسية.

- ثنائية الأمر بالمعروف/ النهي عن المنكر: يقول تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون)[6]، فالفلاح في الدنيا والآخرة مرتبط بالعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

وبني كتاب نهج البلاغة  ـ على سبيل المثل على تقابلات ضدية

(17)

عميقة، وهو يتسم بمستوى جمالي عال، فهو نثر شعري، والشعرية هي المحور الرئيس في نهج البلاغة؛ إذ يرتقي هذا الكتاب إلى ذروة الشعرية بوفرة الثنائيات الضدية. من ذلك:

-“أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعُها قصير، وجوعها طويل”[1].

ثمة دلالات مركزة تنطوي على جملة ثنائيات، منها: الإنسان الصالح/ الإنسان الطالح، الهدى/ الضلال، الحياة/ الموت، القلة/ الكثرة، الشبع/ الجوع، القليل/ الكثير. وهي ثنائيات تنفتح على آفاق من التأويل.

-“ضادّ النورَ بالظلمة، والوضوحَ بالبُهمة، والجمود بالبللِ، والحَرورَ بالصَّرَدِ مؤلفٌ بين متعادياتها، مقارِنٌ بين متبايناتها، مقرّبٌ بين متباعداتها، مفرّقٌ بين متدانياتها”[2]

إنه تضاد يتجاوز الجمع بين مفردتين متعاكستين إلى تضاد موقف، ورؤيا، والتميز يكون بالأضداد؛ إذ تمنح المتضادات متعة التأمل للمتلقي، وتشكّل لغة الثنائيات الضدية العلاقة بين الداخل والخارج، فقد وردت جملة ثنائيات في وحدة موضوعية متناغمة.

-“الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة”[3].

-“لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه”[4].

يعبّر التضاد عن توترات الواقع، ومعاناة الوجود، ويؤثر الجمع بين المتضادَّين في وجدان المتلقي، وترتبط الثنننائيات الضدية ارتباطاً وثيقاًًً

(18)

بالوجود، والمشاعر الإنسانية، وصفاء النفس.

وقد وردت تعريفات متعددة للثنائيات الضدية من وجهة نظر فلسفية؛ إذ يقول بعض الفلاسفة بوجود عالمين، أو قوتين، أو نوعين من الحياة متضادين، ومثالاً على ذلك أطروحة القديس أوغسطين في كتابه “مدينة الله” التي تعتمد على فكرة وجود مدينتين: واحدة أرضية، وأخرى سماوية، وترجع المجتمعات البشرية كلها إلى هاتين المدينتين، ويرى أن مدينة الله ـ وهي السماوية ـ ليست خيّرة بالطبع، ولا تلك الأرضية شريرة بالطبع، بل ينتمي كل فرد إلى إحدى المدينتين بمحض إرادته، وبينهما حرب هائلة؛ إذ تجاهد مدينة الله في سبيل العدل، وتجاهد الأخرى لتنصر الظالم، ولا تزال هذه الحرب مستمرة إلى نهاية العالم إلى أن يفضي الله أمره[1].

واهتمت الفلسفة الغربية ذات الميول الدينية بتفسير الثنائيات من منطق أن الكون نتيجة أبدية لمعارضة اثنين[2] فالعالم مزدوج، ثنائي، يتكون من بدايتين متضادتين، تتقابلان، وتتكاملان. فطرفا الثنائية متعاكسان في العمل.

وتقوم الثنائية بوصفها فكرة فلسفية على فكرة أن ثمة قدرة على الربط بين الظواهر التي يبدو أنها منفصلة، فالتضاد رابطة مثل التماثل، والتناقض رابطة؛ لأنه يعني نفي النقيض، فوجود الحق ينفي وجود الباطل؛ لذا يدخل الحق والباطل في علاقة تناقض، أما وجود الأبيض فيتضاد مع الأسود، فالعلاقة بينهما علاقة تضاد، فالضد “مقولة تعبر عن جانب واحد من جوانب التناقض ووحدة الأضداد، والجوانب والاتجاهات المتضادة بشكل حاد تشكل تناقضاً يعدُّ هو القوة المحرّكة مصدر تطور الأشياء...

(19)

والضد مقابل الاختلافات التي لا يكون فيها التناقض قد نضج بعد ولا يزال يوجد بذاته إلى حدّ كبير يعني تناقضاً متطوراً أبرز في المقدمة، ووصل إلى مرحلة أعلى من تطوره عندما يصل صراع الأضداد والاتجاهات إلى المكان النهائي لتطور مراحلها”[1].

فالحالتان المتضادتان إذا تتالتا، أو اجتمعتا معاً في نفس المدرك كان شعوره بهما أتم وأوضح، وهذا لا يَصدق على الإحساسات والإدراكات والصور العقلية فحسب بل يصدق على جميع حالات الشعور كاللذة والألم والتعب والراحة.. فالحالات النفسية المتضادة يوضح بعضها بعضاً، وبضدِّها تتميز الأشياء، وقانون التضاد أحد قوانين التداعي والتقابل[2].

والتقابل (opposition) (هو علاقة بين شيئين أحدهما مواجه للآخر، أو علاقة بين متحركين يقتربان سوية من نقطة واحدة، أو يبتعدان عنها، وفي المنطق يأخذ التقابل وجهين أحدهما تقابل الحدود، والآخر هو تقابل القضايا. فالمتقابلان في تقابل الحدود هما اللذان لا يجتمعان في شيء واحد، في زمان واحد، ويمكن التمييز هنا بين أربعة أقسام، أو أنواع من التقابل:

1- تقابل السلب والإيجاب مثل الشعور واللاشعور.

2- تقابل المتضايفين مثل الأبوة والنبوة.

3- تقابل الضدّين مثل السواد والبياض.

4- تقابل العدم والملكة مثل العمى والبصر.

أما تقابل القضايا فيطلق على القضيتين اللتين تختلفان بالكم، أو بالكيف أو بهما معاً، ويكون موضوعهما أو محمولهما واحداً، ولهذا

(20)

التقابل أربعة أقسام أيضاً.

ـ التداخل عند اختلاف القضيتين بالكم فقط.

ـ التضاد عند اختلافهما بالكيف فقط.

ـ التضاد الفرعي عند الاختلاف بالكيف فقط شرط أن تكون كلّ من القضيتين جزئية.

ـ التناقض عند الاختلاف بالكم والكيف معاً[1].

ولا ترضى طبيعة الدماغ البشري بالفصل، فحين تقوم بعملية التقابل الثنائي تضع الطرف الأول في حال تعارض مع الطرف الثاني، ومع أطراف أخرى تشترك معه في الحال، أو الصفة... لكنّ هذين الطرفين إذا نظرنا إليهما على أنهما طرفا عصا فثمة ما يربط بينهما، ويشكّل موقعاً وسطاً هو ما يمكن أن نسميه حال شبه التضاد، أو العلاقة بين طرفي الثنائية، فـ لا يرضى الدماغ البشري عن الانفصال الناجم عن إقامة مثل هذا التقابل القطبي، فيبحث عن موقع وسط”.[2] فثمة منطقة وسطى بين السالب والموجب في الفكر الفلسفي تربط بين الطرفين، ويستطيع الدماغ البشري أن يلتقط المنطقة الوسطى بين طرفي الثنائية، أو الجزء الأوسط الواقع بين حدّيها.

وقد مثّل كلود ليفي شتراوس لهذه العملية بالإشارات الضوئية، فثمة إشارة وسط بين الأحمر والأخضر تتيح مسافة للذهن البشري؛ ليتهيأ، والفعل البشري هو الذي يختارها[3].

يشترط في الضدين أن يكونا من جنس واحد كاللذة / الألم “هما من

(21)

الكيفيات النفسية الأولية، فليست اللذة خروجاً من الألم، ولا الألم خروجاً من اللذة، بل اللذة والألم كلاهما وجوديان، ولكل منهما شروط خاصة

تدل على أنهما إيجابيان”[1] والإيجاب / السلب “والإيجاب عند الفلاسفة هو إيقاع النسبة وإيجادها، وفي الجملة هو الحكم بوجود محمول لموضوع، وهو نقيض السلب، كما أن الإثبات هو نقيض النفي”[2].

وتشكل الأضداد ما يسمى بقانون وحدة الأضداد وصراعها، فكل شيء يحتوي على أضداد، ووحدة الأضداد نسبية، وصراعها مطلق، وهو قانون “مطلق للواقع، وفهمه بالعقل الإنساني يعبر عن ماهية الجدل المادي ولبّه.. وصراع الأضداد يعني أن التناقض داخل ماهية شيء ما يتم حلُّه بشكل دائم، ولما كان يُعاد تقديمه بشكل دائم فإنه يتسبب في تحويل القديم إلى جديد... وقد فسّرت الماركسية، وعرفت قانون وحدة الأضداد بأنه قانون المعرفة، وقانون العالم الموضوعي”[3].

(22)

2ـ  الثنائيات الضدية والمصطلحات المتعارضة معها

2-1 -الثنائيات الضدية والتناقض

تعني الثنائيات الضدية وجود أمرين متضادين مرتبطين برباط واحد، وهي فكرة يقوم عليها إيقاع الكون، إنها قانون الكون، وناموس الطبيعة الكونية، فالنور والظلمة في النهار والليل ثنائية ضدية يجمعها اليوم، والفرح والحزن متضادان، ويختفي أحدهما وراء الآخر، وكذلك النجاح والفشل، والغنى والفقر، والعلم والجهل....

لكن العلاقة بين الثنائيات الضدية علاقة تضاد؛ أي تواز بين طرفي الثنائية، أما علاقة التناقض فتقوم على النفي، فوجود طرف ينفي وجود الطرف الآخر [1].

والتناقض لغوياً إبطال بعض الكلام بعضه، فلا يمكن أن يكون نور وظلام في الوقت نفسه، فهو التخالف، والتعارض، والإبطال[2].

أما التناقض (Contradiction) اصطلاحاً فهو القول إن الشيء لا يمكن أن يكون حقاً وباطلاً معاً. فقد تتعدد أضداد الشيء، لكنّ له نقيضاً واحداً.

وللتناقض قانونه الخاص، فالقضيتان المتناقضتان لا تصدقان معاً، ولا تكذبان معاً، وإذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى، فالتناقض “اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب اختلافاً يلزم عنه لذاته أن يكون أحدهما صادقاً، والآخر كاذباً”[3] فالثلج لا يكون أبيض وغير أبيض معاً، فهذا يسمى

(23)

بمبدأ الاثنينية. أما إذا قلنا: زيد عالم، وعمرو ليس بعالم فلا يتحقق التناقض.

وقد يكون التناقض ذاتياً، فيناقض الشيء نفسه، أو يحتوي على تناقض، وقد يكون وجدانياً كالانفعالات المتضاربة في الوقت نفسه.

وإذا كان التضاد يقع في الأفعال فإن التناقض في الأقوال، لكن الصفتين المتناقضتين لا تصدقان على شيء واحد في الوقت نفسه، ومن الجهة نفسها، ولا تكذبان. فالأسود والأبيض متضادان، لكن الأسود واللا أسود متناقضان، ففي التناقض إذا صدقت إحدى الصفتين على شيء فالأخرى كاذبة حكماً، فيجب أن تصدق إحدى الصفتين، وتكذب الأخرى.

ويعني ما سبق أن ثمة فرقاً بين التضاد والتناقض والتباين والتضارب والتعارض والتغاير والتفاوت والفَرق والمخالفة والمعاكسة.

ويرى أرسطو Aristotalis أن لكل إيجاب سلباً يقابله، والإيجاب هو الحكم بشيء على شيء، والسلب هو الحكم بنفي شيء عن شيء[1] لكنه يخلط بين التناقض والتقابل والتضاد “فليكن التناقض هو هذا؛ أعني إيجاباً وسلباً متقابلين”[2].

ونجد هذا الخلط عند الفارابي وابن رشد، فقد تحدث الفارابي عن التقابل بأنه مقابلة الواحد بعينه لمعنى واحد بعينه، ولكن ليس على سبيل الاتفاق، فيقترب من تعريف أرسطو، لكن الفارابي يرى أن التقابل في السلب والإيجاب يخص موضوع القضية ومحمولها، بأن يكون كلاهما واحداً في الشروط نفسها، فالتقابل هو التناقض[3].

(24)

ويرى ابن سينا أن التقابل إما أن يكون على معنى التقابل، أو معنى التضاد، وأن معنى التقابل أعم من معنى التناقض؛ لشموله الأحكام الأربعة من تناقض، وتضاد، وما تحت التضاد، وتداخل مؤكداً أن التقابل بين السلب والإيجاب هو التناقض[1] فيؤكد أن التقابل بين القضيتين في السلب والإيجاب يجعل هذا التقابل إحدى القضيتين صادقة، والأخرى كاذبة. لكن التقابل لا يعني سلباً وإيجاباً دائماً، فقد تكون القضيتان صادقتين، أو كاذبتين.

والضدان لدى ابن سينا هما المختلفان غاية في المعنى الواحد بعينه، فلكل إيجاب سلب قبالته، ولكل سلب إيجاب قبالته.

2-2 - الثنائية والثنوية والقطبية

يختلط مصطلح الثنائية بمصطلح الثنوية، وهو المعتقد الذي يقول بوجود أصلين أو مبدأين متناقضين وراء مظاهر الوجود، وصيرورة الزمن والتاريخ. وهذان المبدآن شيمتهما الصراع من أجل أن يلغي أحدهما الآخر.[2] ولا يتفق هذا التعريف مع مصطلح الثنائيات الضدية؛ إذ تكون العلاقة بين الطرفين المتضادين علاقة تكامل. وثمة فرق بين الاثنينية والمثنى[3].

(25)

أما مصطلح القطبية فيقول بوجود ثنائية أصلية لها قطبان متعارضان، في كل شيء، ولكنهما متعاونان، ولا قيام لأحدهما من غير الآخر. ومن تضادهما، وتعاونهما تنشأ مظاهر الوجود، وتستمر. والأنموذج الذي يفسر القطبية معتقد التاو الصيني الذي وضع أسسه العالم “لاو تسو” ق6 ق.م فالتاو مبدأ أزلي قديم، هو القاع الكلي للوجود، ومن هذا المبدأ صدرت قوتان مجردتان هما قوة اليانغ الموجبة، وقوة الين السالبة، وبدوران هاتين القوتين المتضادتين نشأ كل شيء. فالأبيض قوة يانغ يرمز إلى النور، والين قوة سالبة/ أسود يرمز إلى الظلام، ولكن لا يمكن فصل النور عن الظلام، ولا يسعى أحدهما إلى التغلب على الآخر، أو إقصائه؛ لأن غلبة طرف على طرف أو إقصاءه تعود بالكون إلى حالة الهيولى التي نشأ عنها. إنهما قطبان كقطبي المغناطيس، لا يعمل إلا بوجودهما معاً[1].

ويعني الكلام السابق أن ثمة فرقاً بين القطبية والثنوية، ففي القطبية صراع شكلي بين طرفي الثنائية، وتكامل في المستوى العميق، أما الثنوية فتمثل الصراع الذي يسعى إلى إقصاء أحد الطرفين الآخر.

2-3 - الثنائيات الضدية والتناظر (Symmetry)

التناظر لغوياً نظير الشيء، ومثله، ويحيل التناظر على معنى التساوي، والشبه، والتجادل[2] ويعني المعنى اللغوي أن التناظر علاقة بين طرفين؛ إذ يكون الشيء متناظراً بالنسبة إلى شيء آخر.

والتناظر علمياً هو عدم التغير في جملة إن حدث تحويل ما، فالمربع مثلاً إذا قمنا بتدويره بزاوية قائمة فلن نستطيع التمييز بين المربع قبل

(26)

التدوير وبعده، ونسمي هذا تناظراً بالنسبة إلى التدوير، وهو أساس مهم جداً في الفيزياء النظرية[1].

والتناظر خاصية يمكن بها وصف العديد من الأشياء كالأجسام الهندسية، والمعادلات الرياضية.

وحين نتحدث عن التناظر نتحدث عن ثنائية يناظر أحد طرفيها الطرف الآخر. ونواجه التناظر في أبسط مستوياته حين ننظر إلى خيالنا في المرآة المستوية، وليس مصطلح التناظر مقابلاً لمصطلح الوحدة، وحين يكون الطرفان متناظرين فنحن نرفعهما إلى مستوى الوحدة، فتكون الوحدة على حساب التعددية، فكل طرف من طرفي الثنائية لقطة، ويشكّل الطرفان وحدة[2].

ويشترك التناظر مع الترادف، ففي المصطلحين يأتي المعنى وما يشبهه، لكن يتمّ التفريق بينهما من جهة أن الترادف يكون بين مفردتين، والتناظر يكون أوسع بين جملتين.

3 - الثنائيات الضدية والمصطلحات المتداخلة معها

3-1 - الثنائيات الضدية والجدل (Dialectic)

الديالكتيك هو علم دراسة الأضداد الموجودة في الأشياء، ومحاولة فهمها، وإيجاد حلول لها، ويعدّ هيغل G.W.F. Hegel أول فيلسوف تكلّم على الجدل، وأخذ منه ماركس K.H. Marx ما يعرف بالديالكتيكية المادية. وقد عدّ هيغل الفكر سابقاً المادة، وعد المادة انعكاساً للوعي، فالظواهر الطبيعية والاجتماعية كلها تقوم على أساس ثنائية المطلق/ العقل، أو الروح/ الفكرة المطلقة. ورأى في صراع الأضداد الدافع لكل

(27)

تطور، وعرف قانون نفي النفي، ويلتقي ديالكتيك هيغل ديالكتيك ماركس الذي أخذ عنه، وطوّر أفكاره[1].

وتعد وحدة صراع الأضداد أهم قوانين الجدل/ الديالكتيك، ويعني أن الظاهرة وضدها موجودان في وحدة، لا ينفصلان، فكل ظاهرة تحمل ضدها معها في الوحدة نفسها.

وفي الوحدة الواحدة تكون الأضداد في حال حركة مستمرة، وصراع دائم، فالقديم والجديد ضدان، ويوجدان معاً، ولا ينفي أحدهما الآخر، بل يتصارعان. وينتهي صراع الأضداد في الجدل بسيطرة أحد الضدين. ولا ينفي الضد ظهور ضد جديد، وإلا توقف التطور.

وتثير الماركسية فكرة الصراع الطبقي بقضاء طرف على ضده، والحلول مكانه؛ أي تحاول البروليتاريا “الطبقة العاملة” القضاء على الطبقة البورجوازية، واستلام السلطة، وتطبيق ديكتاتوريتها البروليتارية، لكن تطور الرأسمالية، والثروات الهائلة التي حققتها تمكنت من جعل الصراع غير تناحري، فلا يهدف لقضاء طرف على طرف، بل غدا صراعاً يتمثل في مطالب نقابية.

وقد عدّ كارل ماركس وفريدريك أنجلز F. Angels المادية الجدلية “الديالكتيك” قاعدة لتفسير جميع الظواهر الطبيعية، والمجتمعية.

والحركة بمفهومها الجدلي تعني معنى واسعاً لتشمل الحركة الداخلية، فالمادة حيوية، متحركة بحركة جدلية داخلية، هذه الحركة هي التي تفسر

(28)

التطور، والتقدم في الطبيعة، والإنسان، والمجتمع حسب أنجلز وماركس[1].

وفي الحقيقة لا يمكن فصل ظاهرة، أو فهمها بمعزل عن ضدّها، فمثلاً سرّ بقاء الإنسان، واستمرار حياته موت خلاياه، وتجددها، فكل شيء يشتمل على ضده، ويشكلان سيرورة متسارعة داخلياً.

3-2 - الثنائيات الضدية والتقابل (Opposition)

يقوم مصطلح الثنائيات الضدية على الوحدة التي تشتمل على تعددية داخلية، وتأخذ شكل مركبات ثنائية يحكمها التضاد بين طرفين متضادين، ويمكن أن تتولد صور لا نهائية من المتضادات.

والتقابل مظهر من مظاهر العلاقة بين الألفاظ والمعاني، والعلاقة بينهما جدلية، وتتباين العلاقة بين الألفاظ والمعاني بتباين الأنساق الثقافية للألفاظ، فتتضاد مفردتان لغوياً، أو يكون للفظ الواحد دلالتان متضادتان، كالجَوْن الذي يحيل على الأبيض والأسود معاً.78919172

ويخضع التقابل لمبدأ الثنائية الازدواجية بوصفها مبدأ أساسياً يحكم الظاهرة التقابلية، وثمة جوانب متضادة، وجوانب مشتركة بين المتقابلين، فذكر وأنثى يختلفان جنساً، ويشتركان في البعد الإنساني، والأداء الوظيفي، وربما يمكن القول إن التضاد بين المتقابلين أقل من درجة التماثل، فكل مقابل يدل على مقابله بطريقة غير مباشرة[2].

وتتقارب الكلمات المتصاحبة دلالياً مشكّلة ترادفاً، وتتباعد دلالياً مشكّلة التضاد، وهذا ما دفع إلى القول: إن المتقابلين في الحقيقة مترادفان لكن من نوع خاص.

(29)

والتقابل اللغوي ظاهرة معجمية سياقية، وترتبط التقابلات الثنائية إلى حد كبير بالذاتية؛ لأنها نتاج الوعي، لا العالم الموضوعي.

وترد المتقابلات في سياقات لا نهائية، فتقابل كبير/ صغير يندرج فيه جملة من الثنائيات لا حصر لها، كوكب صغير/ كوكب كبير..... ورب سائل يسأل: لماذا تكون التقابلات ثنائية، لا ثلاثية، ولا رباعية؟

إن الازدواجية اهم مقومات التقابل، وتنتظم الثنائية المفاهيم، والقيم المعرفية، والحقائق، والتصورات عن الكون والحياة والإنسان، ويتم على أساسها التمييز بين الأشياء، وتصنيفها، وإدراك اختلافها، ومن غير التقابلات يتعذر على الإنسان أن يتعرف المحيط حوله.

ولغوياً يعدّ النص اللغوي مجموعة من التقابلات الثنائية (Binary Opposition) فكل كلمة في ثنائية تستدعي حضوراً لكلمة غائبة؛ لتحديد الدلالة الحاضرة.[1]

3-3 - الثنائيات الضدية والمفارقة (Irony)

المفارقة لغةً من الجذر الثلاثي فرق، وفارق الشيء مفارقة وفراقاً باينه[2]، والمعنى الاصطلاحي قريب من المعنى اللغوي، ويتفق معه، فهي العدول إلى اللا متوقَّع في الخطاب.

المفارقة صيغة بلاغية تعبر عن القصد باستخدام كلمات تحمل المعنى المضاد، والأصل الإغريقي لهذه الكلمة هو “آيرون” أحد الشخصيات في الكوميديا الذي صفته آيرونيئيا؛ أي التظاهر والادعاء بغير الحقيقة، ويفيد

(30)

الاسم معنى المفرّق الذي يفرّق بين الحقيقة والمظهر[1].

وتعتمد المفارقة على أسلوب مراوغة، فهي حيلة كلامية، وإشارية، تقوم على إظهار جدليات الصراع. إنها توليف ضدي يجمع الأجزاء المتنافرة في سياق واحد.

ويتجلى أثر المفارقة في المتلقي حين تفارق توقعاته، وتعبر عن رؤية للعالم، فيوجِد صانع المفارقة عوالم متصارعة متضادة يقدّم بها رؤية للعالم والوجود برؤية مغايرة، فثمة علاقة ضدية في بنية النص المفارِق تثير في المتلقي الرغبة لاكتشافها.

ويعني الكلام السابق أن المفارقة على علاقة بلعبة الأضداد، فينحرف الخطاب عند نقطة معينة، وتفارق المفارقة الحقيقة، والواقع حين حين تنتقل بالمتلقي من العفوي إلى اللا المتوقَّع.

إن ثمة ثنائية لدى المتلقي فيما هو متوقَّع وما يحدث حقاً، فيأتي معنى يتضاد مع معنى آخر ثابت في الذهن، ويعني ذلك أن جوهر المفارقة قائم على الصراع، فيعمد صانع المفارقة إلى تشكيل العالم الخارجي وفق عالمه الذاتي، أو محو العالم الخارجي لبناء عالمه الذاتي. فثمة صراع بين النسبي والكلي، المعلوم والمجهول، وتنجم المفارقة عن وعي شديد بالتناقض في ذهن صانع المفارقة[2] .

تضمر المفارقة نسقين: نسق صانع المفارقة الذي تتكون لديه رؤية خاصة للعالم، ونسق الآخر ضحية المفارقة. وهذان النظامان غير متآلفين،

(31)

فهما نظامان متداخلان، باختصار “المفارقة تقلّص الثنائية إلى وحدة”[1]

3-4- الثنائيات الضدية والطباق والتكافؤ والتضاد

يعني مصطلح الثنائيات الضدية أن طرفي الثنائية متصلان، وأن ظهور طرف لا يعني غياب الطرف الآخر، بل تخفّيه، فيمكن أن يحوي الطرف الظاهر من الثنائية في بنيته العميقة نسقاً مضمراً يتعلق برؤية خاصة للحياة بكلية أضدادها، وحين تتضارب هذه الأضداد، وتتصادم تكشف جوهر الوعي الإنساني، وطبيعة الحياة، وجوهر الصراع فيها.

وتتداخل بعض المصطلحات في الدرس النقدي البلاغي القديم مع مفهوم الثنائيات الضدية، ومن هذه المصطلحات الطباق، والتكافؤ، والتضاد.

فالطباق هو الجمع بين الشيء وضده على مستوى الجملة، أو على مستوى البيت من القصيدة. يقول أبو هلال العسكري: “قد أجمع الناس أن المطابقة في الكلام هو الجمع بين الشيء وضده في جزء من أجزاء الرسالة، أو الخطبة، أو البيت من بيوت القصيدة، مثل الجمع بين البياض والسواد، والليل والنهار، والحر والبرد.”[2].

وورد مصطلح التكافؤ عند قدامة بن جعفر في حديثه عن نعوت المعاني، ويقصد به الطرفين المتقابلين من جهة السلب والإيجاب، أو غيرهما. وقد ورد لديه أيضاً على مستوى الجملة، وهو تكافؤ لغوي “ومن نعوت المعاني التكافؤ، وهو أن يصف الشاعر شيئاً، أو يذمه، ويتكلم فيه، أي معنى كان، فيأتي بمعنيين متكافئين، والذي أريد بقولي متكافئين في هذا الموضع أي متقابلين إما من جهة المصادرة، أو السلب والإيجاب،

(32)

أو غيرهما من أقسام التقابل، مثل قول أبي الشعب العبسي:

حلو الشمائل وهو مرٌّ باسلٌ            يحمي الذِّمارَ صبيحةَ الأرهانِ

فقوله مرّ وحلو تكافؤ”[1]

وقد وردت المصطلحات الثلاثة السابقة: الطباق والتضاد والتكافؤ لدى يحيى بن حمزة العلوي بالمعنى السابق نفسه، وهو الإتيان بالشيء وضده في الكلام: “واعلم أن هذا النوع من البديع متفق على صحة معناه، وعلى تسميته بالتضاد والتكافؤ، وإنما وقع الخلاف في تسميته بالطباق والمطابقة والتطبيق، فأكثر علماء البيان على تلقيبه بما ذكرناه إلا قدامة الكاتب فإنه قال: لقب المطابقة يليق بالتجنيس؛ لأنها مأخوذة من مطابقة الفرس والبعير لوضع رجله مكان يده عند السير، وليس هذا منه، وزعموا أنه يسمى طباقاً من غير اشتقاق، والأجود تلقيبه بالمقابلة؛ لأن الضدّين يتقابلان كالسواد والبياض، وغير ذلك من الأضداد من غير حاجة إلى تلقيبه بالطباق والمقابلة...”[2].

ولا يخرج النقاد والبلاغيون القدماء عن معنى واحد ورد عندهم، فالطباق ويشبهه التكافؤ، والمطابق، والتطبيق، والمقابلة، والتضاد.[3] وقد ورد عند ثعلب مصطلح مجاورة الأضداد، وقصد به تكرير اللفظة بمعنيين

(33)

مختلفين[1] وقد ورد التضاد لدى النقاد القدامى بمعنى الطباق[2].

إن ثمة تعدداً اصطلاحياً لكن الحقيقة أن بلاغيينا القدامى أغفلوا الوظيفة الفكرية العميقة للتضاد، وعلاقته بالأنساق الثقافية في النص الأدبي، ونظروا إليه على أنه الجمع بين الشيء وضدّه. ويعدّ عبد القاهر الجرجاني استثنائياً حين تحدث عن أهمية التضاد في تشكيل الصورة الفنية قائلاً: “وهل تشك في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر لك بعد ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المشئم والمعرِق.. ويريك التئام عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والنار مجتمعين، كما يقال في الممدوح هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه، ويجعل الشيء من جهة ماء، ومن أخرى ناراً”[3]

خاطب الجرجاني العقل في أثناء كلامه على التضاد، ومعنى ذلك أنه يدرك أثر الثنائيات الضدية المتشكلة ضمن أنساق ضدية في خلق المعنى في النص.

في الصورة لدى الجرجاني تنصهر الثنائيات الضدية؛ لتولّد المعنى، وفي حديثه عن التضاد يخاطب عقل المتلقي، فالتضاد نزعة عقلية في النهاية، ويدرك الأثر النفسي الذي يولّده اجتماع الضدين لدى المتلقي.

4ـ  طبيعة الثنائيات الضدية وبنيتها

إن الجمع بين طرفي ثنائية ضدية يولّد مسافة من التوتر يتولّد عنها حركة ديناميّة فاعلة، فللتضاد أهمية كبرى في إيجاد شبكة علاقات تتنامى

(34)

فيها الأنساق المتضادة بهدف الوصول إلى مفهوم الوحدة، أو الانسجام (Harmony).

وقد أشار كلود ليفي شتراوس إلى أن البنية تحمل أولاً وقبل أي شيء طابع النسق، أو النظام، فتتألف البنية من عناصر يكون من شأن أي تحوّل يعرض للواحد منها أن يحدث تحولاً في سائر العناصر الأخرى.[1]

وأشار الناقد الفرنسي جيل دولوز G. Deleuze إلى طبيعة الجانب النسقي للبنية بوصفها نظاماً مؤتلفاً من العلاقات والعناصر المتفاضلة[2] وكلّ تحوّل يطرأ على البنية يطرأ على داخلها، لا على الخارج.

وتتميز الثنائيات الضدية بخاصية التحويل (Transformation) أي تحويل الكلمات إلى أشياء، وهذا ما يجعلها مصدراً مهماً من مصادر الشعرية، فالذي يدعو إلى لفت الانتباه، وتيقظ الفكر، وشدة الاهتمام، وتوليد اللغة الشعرية التضاد، لا المشابهة؛ إذ يعدّ الجمع بين المتضادات مولّداً أساسياً للشعرية.

إن وجود الثنائيات الضدية يعني وجود نسق ظاهر، وآخر مضمر يُستنتج استنتاجاً. ولا يتعلق أمر الثنائيات الضدية بظهور طرف، وتخفي آخر وراءه، بل يتعلق بمتلقي هذه الثنائية الذي يؤوّلها، ويستقبلها بناء على تضاد الطرفين، وظهور طرف، وتخفي آخر. وقد أطلق يونغ Carl Jung  على هذه العملية التأليف الأعلى للمتضادات، فرأى أن جميع الرموز والصور النمطية البدئية التي تتجسد فيها العملية أدوات للوظيفة التجاوزية؛ أي أدوات لتوحيد الزوجين المختلفين للتعارضات النفسية

(35)

المتقابلة في تأليف يتجاوز الضدين المتقابلين[1] فعن طريق تفاعل طرفي الثنائية يتولد لدى المتلقي أثر خاص، ونظرة فلسفية خاصة للحياة والكون.

5ـ الثنائيات الضدية وعلاقتها بطبيعة النفس البشرية

يعتمد الفكر بعامة في نشاطه على الثنائيات الضدية، وحوار الحدود المتقابلة والمتباينة، وهو ما يسمى بالفلسفة الجدلية، أو الديالكتيك، وهي كلمة ذات أصل يوناني يعني الحوار.

والحوار في الحال العادية يكون بين شخصين مختلفين فكراً. وقد عُدَّ هيراقليطس Heraclitus جدّ الجدلية، ثم أتى فيما بعد هيغل، وماركس وأتباعه.

ويعدّ الجدل خصيصة فكرية موجودة في تراث الحضارات كلها، وقد اتخذ لدى هيغل صورة الجدل المثالي، ولدى ماركس الجدل المادي، وثمة جدلية لدى اللغويين تتمثل في الأضداد في اللغة، وجدلية لدى الصوفية....

تجتمع في النفس البشرية  ـ إذن ـ ثنائيات ضدية يمكن عدُّها كامنة في أغوار النفس الإنسانية، فالحياة غريزة واضحة الأثر في حركاتنا وسكناتنا، والموت غريزة ماثلة أمام أعيننا، والسواد والبياض موجودان جنباً إلى جنب في الحياة، ويمكن القول: إن مظاهر الحياة كلها هي نتيجة ذلك التجاذب بين قطبي هذه الثنائية.

ويحدث أن يحاول طرف من الثنائية أن يشل حركة الطرف الآخر، ويحدث أن نجد منطقة وسطى بين الطرفين.

الثنائيات الموجودة في الحياة ليست ثنائيات دوغماتية، بمعنى

(36)

أن الحدود قائمة بين طرفيها. فثمة حق/ باطل، وخير/ شرّ. الثنائيات إيديولوجية، وفهمها فهماً دوغماتياً يعني أنها تصدر عن الوعي المطلق والنهائي واليقيني، وبذلك يصعب تطبيقها على واقع تحكمه النسبية المرتبطة بتعقيدات الواقع. والحديث عنها يعني حديثاً عن توازي الثنائيات، وسير طرفيها جنباً إلى جنب معاً. فالكون يمثل وحدة، وهذه الوحدة هي في النهاية تعددية ضمن الوحدة وقد حاول الفلاسفة أن يفهموا الكون، فقسموه إلى ذات (إنسان) وموضوع (كون)، ووضعوا بينهما برزخاً يفصل بين جوهر الأشياء الوجودية، فنظروا إلى كلّ حدّ على أنه طرف منفصل عن الآخر، ونجم عن هذا الفصل بين الأطراف وجود ثنائيات لاهوتية: الخير/ الشر، الحق/ الباطل...، وضدية: الظلام/ النور، واجتماعية: الظالم / المظلوم..

ونجم عن هذا التصنيف الثنائي الصراعات بأشكالها، والعنف نتيجة ثنائية كون/ إنسان، وأدّى هذا الأمر إلى تمرّد الذات على ثنائية الوجود، أو تعدديته، ودخلت الأنا في حال صراع مع الأنوات الأخرى للسيطرة على الخارج، فثمة لا نهاية كبرى، ولا نهاية صغرى، وبينهما لا نهاية وسط هي نقطة لقاء هاتين اللانهايتين في الإنسان. ففي داخل النفس البشرية يلتقي طرفا هذه الثنائية التي انشغل بها الفكر الإنساني كثيراً عبر اختلاف عصوره، وبدت الحياة صعبة التفسير بمعزل عن فكرة الأضداد والثنائيات، وبدت قائمة في كثير من جوانبها على أضداد، وثنائيات.

لقد تجاذبَ الفكُر والثنائياتُ التأثيرَ والتأثرَ على نحو تظهر العلاقة بينهما جدلية. فلا وجود لفكر إنساني من غير ثنائيات ضدية.

يمكن أن نحدّد ـ بناء على ما سبق ـ مفهوم الثنائيات الضدية، إنه اجتماع الأمر وضدّه في مقام واحد، وتكون العلاقة بين الطرفين علاقة

(37)

توازٍ، ويهدف التضاد بين الطرفين المتوازيين إلى التكامل، ومن هذه الفكرة وجدنا أن الثنائيات الضدية تختلف عن الثنوية التي تعني إقصاء أحد الطرفين الطرف الآخر، في حين أن هدف الثنائيات الضدية التكامل بين المتضادين، كما يختلف هذا المصطلح عن التناقض؛ لأن العلاقة بين المتناقضين علاقة نفي؛ فوجود أحد الطرفين ينفي وجود الآخر، أما الطرفان المتضادان فيتوازيان، ولا يلتقيان، ويختفي أحدهما وراء الآخر، كما يختلف عن مصطلح التناظر الذي لا يشترط فيه التضاد، ويلتقي مصطلحَ الجدل الذي عرّفناه بأنه صراع الأضداد في وحدة، ويأخذ هذا الصراع شكلاً لولبياً نامياً، ويتفق مع مصطلح القطبية التي يكون الصراع بين الطرفين شكلياً يهدف على المستوى العميق إلى التكامل، ويلتقي في بعض جوانبه مصطلحَ المفارقة والتضاد والطباق والمقابلة، ففي المفارقة الجمع بين الأمر وضده، وكذا في الطباق يعني الجمع بين الكلمة وضدها، مع أن مصطلح الثنائيات الضدية أوسع من ذلك.

ولأن الثنائيات الضدية محور حياتنا بفروعها كلِّها تجلى حضورها في العلم، وبخاصة علوم الطاقة.

(38)

المصادر والمراجع

1-آل ياسين، جعفر: 2012، الفارابي في حدوده ورسومه، ط1، منشورات المركز العلمي العراقي، بغداد، مكتبة البصائر، بيروت

2-إبراهيم، زكريا: د.ت، مشكلة البنية أو أضواء على البنيوية، دار مصر للطباعة

3-إبراهيم، نبيلة: 1987، المفارقة، مجلة فصول، الهيئة العامة المصرية للكتاب، المجلد 7، العددان 3-4 إبريل- سبتمبر

4-أرسطوطاليس: 1999، العبارة- النص الكامل لمنطق أرسطو، تحقيق: د. فريد جبر، ط1، دار الفكر اللبناني، بيروت

5-إمام عبد الفتاح إمام: د.ت، المنهج الجدلي عند هيغل، دار المعارف، القاهرة.

6-فاسيلي بودوستنيك، فاسيلي، وياخوت، أوفشي: 1979، ألف باء المادية الجدلية، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت.

7-ثعلب، أبو العباس: د. ت، قواعد الشعر، شرحه وعلق عليه: محمد عبد المنعم خفاجي، الدار المصرية اللبنانية، مكتبة الخانجي، مصر

8-الجرجاني، عبد القاهر: 1991، أسرار البلاغة، ط1، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة.

9-ابن جعفر، قدامة: د. ت، نقد الشعر، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت.

10-جاكوبي، يولاند: 1993، علم النفس اليونغي، ط1، ترجمة: ندرة يازجي، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق

(39)

11-الحسن، عيسى: 2007، موسوعة الحضارات، الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن.

12-حمودة، د. عبد العزيز: 1998، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، نيسان

13-حيدر، محمود: 2016، الفيلسوف الحائر في الحضرة، فصلية الاستغراب، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العدد الخامس، السنة الثانية، بيروت، خريف 2016.

14-الخطيب القزويني: 1993، الإيضاح في علوم البلاغة، ط3، شرح وتعليق محمد عبد المنعم خفاجي، المكتبة الأزهرية للتراث.

15-دمنهوري، أحمد: 1427هـ، رسالة في المنطق- إيضاح المبهم في معاني السلم، ط2، مكتبة العارف، بيروت.

16-الرازي، أبو بكر: 1982، روضة الفصاحة، ط1، تحقيق أحمد النادي شعلة، دار الطباعة المحمدية.

17-ابن رشد: 1992، تلخيص منطق أرسطو- كتاب العبارة، تحقيق: د. جيرار التهامي، ط1، دار الفكر اللبناني، بيروت

18-السواح، فراس: 2002، الرحمن والشيطان- الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، ط1، دار علاء الدين، دمشق

19-ابن سينا: 1953، الشفاء- كتاب العبارة، تحقيق: د. محمود محمد الخضيري، ود. سعيد زايد، المطبعة الأميرية، القاهرة.

20-صليبا، جميل: د. ت، المعجم الفلسفي، ج1، دار الكتاب اللبناني، بيروت.

21-العسكري، أبو هلال: 1981، كتاب الصناعتين، ط1، حققه وضبط

(40)

نصّه: مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت.

22-ابن حمزة العلوي، يحيى: 1980، كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، بيروت.

23-ابن فارس بن زكريا، أحمد: 2008، مقاييس اللغة، بعناية محمد عوض مرعب، وفاطمة محمد أصلان، دار إحياء التراث العربي.

24-فضل، صلاح: 1998، أساليب الشعرية المعاصرة، دار قباء، القاهرة

25-القرطاجني، حازم: 1981، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ط2، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت.  

26-ليتش، إدموند: 2002، كلود ليفي شتراوس دراسة فكرية، ترجمة: د. ثائر ديب، منشورات وزارة الثقافة، دمشق.

27-ماكوين، جون: 1990، الترميز- موسوعة المصطلح النقدي، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد.

28-ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم: 1994، لسان العرب، ط3، دار صادر، بيروت.

29-ابن منقذ، أسامة: 1960، البديع في نقد الشعر، تحقيق: أحمد بدوي وحامد عبد المجيد، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، مصر.

30-ميويك، د. سي: 1982، المفارقة، ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة، دار الرشيد للنشر، بغداد.

31-نهج البلاغة، مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين، شرح الإمام الشيخ محمد عبده، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 4ج

(41)

المواقع الالكترونية.

1ـ موقع الحوار المتمدن، مقال التأويل اللاهوتي للتاريخ عند أوغسطين، عامر عبد زيد، العدد 3636، 12/2/2012

http://www.alhewar.org

2ـ الثنائية مرجعهم فيه، أدولف أوغي فجوي في كتابه الثورة ضد ثنائية، موقع: http://mb-soft.com

موقع الباحثون السوريون:

http://www.syr-res.com/article/4423.html

- http://ar.wikipedia.org/wiki

موقع الباحثون السوريون، مبادئ الفكر الماركسي، ج1:

http://www.syr-res.com/article/7232.html

(42)

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

الثنائيّات الضدّية والعلم

(43)

تتقابل الأضداد في حياتنا، وتجتمع في ثنائيات، ويتحوّل بعضها إلى بعض، فحين يسير شيء في اتجاه ما، ويبلغ غايته، يخالف اتجاهه، ويعود إلى الاتجاه الآخر، فالحَرّ حين يبلغ منهاه يرتد إلى الوراء، ويحلّ البرد مكانه.

ويقوم منطق الثنائيات الضدية على أن الضد يمكن أن يحمل شيئاً من خصائص ضده، فثنائية النور والظلام –على سبيل المثال- أشد الثنائيات ظهوراً في حياتنا، فثمة نور ساطع جداً، وظلام شديد الظلمة، وكلاهما يحدث الأثر نفسه في العين، وهنا ينتفي التعارض بين النور والظلام، ويعني هذا الكلام أن في الظلام نوراً بطريقة ما، وأن في النور ظلاماً بمعنى خاص.

والصراع بين الأضداد سبب في حدوث التغييرات الكميّة إلى حدّ معين، فتحدث قفزة إلى تغيير نوعي، فحين ترتفع درجة حرارة الماء في وعاء فإن قوتين متضادتين تظهران، هما قوّتا جذب، وتنافر، وتتصارعان؛ لتصلا إلى مرحلة تفقد دقائق الماء قدرتها على التماسك، وحينذاك يحدث التغير النوعي للماء من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية، ويشترط لحدوث ذلك ارتفاع درجة الحرارة في الوعاء من جهة، وصراع الضدين: التضاد بين جزيئات الماء داخلياً.

وتوجد الثنائيات الضدية في محتوى ما، فتأخذ الأضداد وضعياتها بطريقة معينة، ويتعين على ذلك أن الظاهرة مجموع ثنائيات ضدية، باجتماعها تأخذ ظاهرة ما معنى معيناً.

إن جزيء الماء على سبيل المثال يدخل في كلّ شيء تقريباً، لكن هذه

(44)

الظاهرة في حركة دائمة، وناجمة عن التقاء داخلي للضدّين، فجزيء الماء H2O هو تحديداً ذرتان من الهيدروجين، وذرة من الأوكسجين، وليس ثلاث ذرات (من نفس العنصر) مثلاً، وهذه الظاهرة الجزئية تدخل في تركيب ظواهر ضدية أكبر.

1- حضور الثنائيات الضدية في علم الطاقة

إن الحياة مؤلفة من وجهين متضادين هما: المادية، واللا مادية، وتعدّ الذرة أصغر وحدة فيها، فذرة الهيدروجين مؤلفة من بروتون واحد موجب، والكترون واحد سالب يسبح حوله.

وفي العصر الحالي يتم التركيز على العلوم المادية، ولم يستطع العلماء فهم العالم الخفي للطاقة، والأرواح، ولكنّ الجانبين يتكاملان، فهنالك أمور أبعد من النظرة العلمية للعلوم الحديثة، والاعتقادُ بطرف واحد من هذه الثنائية: المادية/ اللا مادية يجعل وجهة النظر أحادية، فالوجهان ثنائية ضدية تمثل جوهراً واحداً للحياة.

“وقد توصل العلم الفيزيائي للذرة إلى أن المادة تساوي الطاقة انطلاقاً من مختلف العناصر إلى الذرة، وأخيراً إلى الالكترونات والبروتونات وغير ذلك من الجزيئات الذرية التي اكتشفت، وحُلِّلت مؤخراً، وحين تمّ مراقبة الالكترونات بدقة تبيّن أنها مؤلفة من كتل من الطاقة، وليست صلبة على الإطلاق، فالأشياء المادية ليست إلا كتلاً من الطاقة، تتذبذب، وتتموج، وتتغير باستمرار، وزيادة على ذلك تتكثف المادة باستمرار من الطاقة؛ لتتحلل مجدداً، وتعود إلى الطاقة”[1].

ويعني هذا الكلام أن الذرات التي تظهر على شكل كتل صلبة ما هي

(45)

في الحقيقة إلا كتل طاقية، فتأخذ سمتين متضادتين، تتكاملان؛ لتولّدا هذا الشكل النهائي.

ويمكن أن نجد الثنائيات الضدية في كل حركة، واتجاه، فكلما ارتفعنا عن سطح الأرض ازدادت قوة الطرد الأرضية، وحصل انخفاض في مستوى الضغط الجوي، وبالمقابل ستزداد الطاقة الجوية القادمة من خارج الأرض قوة كلما اقتربنا من باطن الأرض؛ لذا يتعاظم الضغط الجوّي في المناطق المنخفضة، ففي قعر المحيط مثلاً يكون الضغط الجوي أقوى من الضغط الجوي في نقطة متساوية مع سطح البحر.

ويؤكد هذا الكلام أنّ ثمة حركة كونية قادمة من الفضاء إلى الأرض، وحركة مضادة صادرة من الأرض إلى الفضاء، فهما حركتان متضادتان، ومتكاملتان[1].

يتعين على ما سبق أن عالمنا مادي، وروحاني، تتقابل فيه ثنائيات العقل/ الجسد، والروح/ المادة، ويستطيع الإنسان كشف العالم المادي بأحاسيسه، وثمة أناس ميولهم مادية، وآخرون ميولهم روحية، والظاهرتان المادية والروحية تجلّ لأمر واحد في النهاية.

ومثالاً على ذلك تتساوى الصحة الفيزيائية مع الصحة الروحية، فلو أخذنا طرفاً واحداً من الثنائية فلن نستطيع الوصول إلى صحة كاملة فيزيائياً، وروحياً، فكلا الطرفين وجه لحقيقة كونية واحدة.

وتتكون العناصر من اتحاد الالكترونات والبروتونات، وتسير الثنائيات الضدية في حال تحوّل دائم.

“والجنين حين يتكوّن في رحم الأم ينشأ من اتحاد النطفة، والبويضة،

(46)

ثم ينشأ في وسط مائي، ويخرج إلى وسط هوائي، فيتغذى من الأرض/ الأم، بعد أن كان يتغذى من المشيمة/ الأم.

وعند الموت تنفصل الحياة البيولوجية إلى فصلين: الفصل الأول هو الجسد الذي يعود إلى الأرض كالمشيمة التي انتهى عملها بوصفها عنصراً مغذياً للجنين، والفصل الثاني هو الجسد الطاقي”. [1]

وسيكمل الجسد الطاقي بقاءه في الحياة في العالم الروحي، فيتحول إلى كتلة من الطاقة –حسب علماء الطاقة-فالعالم الروحي موجود في بعد أعلى من البعد الثالث الذي نعيش فيه؛ لذا سيكون صعباً جداً إدراكنا له، فالعالم الفيزيائي، والعالم الروحي وجهان لحقيقة واحدة، هما ثنائية ضدية، لكن أحد طرفيها يكمّل الآخر.

“وتطوف الأرض حول الشمس مولّدة طاقة منبعثة إلى الخارج، تصطدم بالطاقة الآتية من النظام الشمسي، وتكوّن جواً مكثّفاً، ومشحوناً بالذبذبات، وتشكل –كما يؤكد العلم الحديث- حقلاً مغناطيسياً يسمى الجوالمغناطيسي للأرض.

أما الجو الذبذبي للنظام الشمسي ككل فيتخذ شكل الكرة، الجزء الفيزيائي منه، أو المرئي هو الصميم، أما الباقي فهو الجزء اللا مرئي من الحقل الذبذبي الذي يغطي الجزء المرئي، أو ما يسمى الهالة التي تشع من النظام الشمسي”[2] ويشكل هذان الطرفان معاً وجهين مختلفين مكمّلين لوحدة كونية.

إن الجسد الفيزيائي شكل مكثّف للطاقة –كما سبق- وهو مشحون بطاقة سماوية، وأخرى أرضية، وتعني ثنائية الحياة/ الموت أن كل كائن ولد في

(47)

هذا العالم يجب أن يموت؛ ليولد في حياة تالية، فتمثل الحياة استمرارية من خلال الموت، ويعني ذلك أننا ننمو، ونتطور من بعد إلى آخر[1].

ولنلاحظ حركة الماء، تتبخر المياه، وتتمدد في الجو صعوداً بشكل بخار خفي، فتتكثّف، وتتساقط مجدداً على شكل حبيبات مرئية من الندى، والمطر، فترتفع، وتتساقط في حركة ضدية، وبحركتين: تصاعدية، وانحدارية.

“وفي المحيط الحيوي للأرض تربة، وماء، وهواء تتحول إلى حياة نباتية، وحين تموت النباتات تتحلل، وتفرج عن تلك العناصر، فتعود إلى الطبيعة، فيجري إعادة إحيائها مجدداً بأجيال جديدة من النباتات”[2]

وهكذا تدخل الثنائيات في متواليات من دورة الحياة، فالتبادل الطاقي موجود في كل مكان، وعلى سبيل المثال حين نمشي ننتصب بحركة عمودية، وحين ننام نستلقي في حركة أفقية في أثناء الليل، وهذا التكافؤ أساس هذه الثنائية الضدية.

وبالانتقال إلى الدماغ البشري تمثل الجهة اليسرى فيه الطاقة الاستيعابية التحليلية المنطقية، وهي تعمل في انسجام وتناغم مع الجهة اليمنى وهي طاقة استيعابية واعية للقدرة الفكرية، والماورائيات.

والقوة الفضائية الآتية إلى الأرض مصدرها “الحد اللا نهائي للفضاء باتجاه المركز الوسطي للأرض، وتسمى الطاقة السماوية، والقوة الأرضية هي المنبعثة من المركز الوسطي لباطن الأرض”القلب أو الصميم” باتجاه الحد الأقصى للفضاء تسمى الطاقة الأرضية، فقوة الأرض هذه

(48)

ناجمة عن دوران الأرض حول نفسها، وحول الشمس”[1] فتأتي الطاقة الخارجية (القوة السماوية) بشكل جاذب نحو مركز الأرض، وقد سماها العلماء طاقة اليانغ، ولاحظوا أن القوة الأرضية هي قوة مركزية طاردة نحو الخارج، أو قوة انفلاشية، وقد صنّفها العلماء على أنها طاقة ين، “فتتجه هاتان الطاقتان نحو سطح الأرض، فالأولى تأتي من الفضاء الخارجي، والأخرى تنبعث من باطن الأرض، ومن الواضح أن كل شيء على هذا الكوكب يعمل على أساس هاتين القوتين”[2].

ويعني الكلام السابق أن كل ما في الأرض من هواء، وماء، وتراب محكوم بهاتين القوتين، الطاقتين المتضادتين، والمتكاملتين في الوقت نفسه، فكل شيء قابل لثنائية اليانغ/ الين، أو بتعبير ميتشو كوشي M. Kushi الانفلاش/ الانكماش.

والجدير ذكره أن هذه الفكرة لا تتعارض مع المعتقد الديني، فقد ورد في الكتب المقدّسة أن الله تعالى خلق أولاً السماء والأرض، وبعد ذلك تم تكوين كل شيء آخر.

ويؤكد هذا الكلام أن السماء والأرض مصدر رئيس للطاقة، فحين تلتقي هاتان القوتان: الانفلاش/ الانكماش تتولد طاقة عالية الشحنات، تعرف لدى علماء الطاقة بالشاكرات (Shakra). تتولد الشاكرات في أجسادالكائنات الحية، وماقصده كوشي هو دوامات الطاقة في جسم الإنسان.

ومثالاً على ذلك يورد ميتشو كوشي جملة أمثلة، “فأوراق النباتات تتفتح بطريقة انفلاشية، بينما خلايا جسم الإنسان تتطور بطريقة انكماشية، فالطاقة القادمة من الفضاء، والطاقة المنبعثة من الأرض تقومان بشحن

(49)

دائم لكل خلية من الجسم بقوة الحياة، وتتغذى هذه الخلايا عبر الطاقات المادية كالأوكسجين، والأغذية المتنوعة التي تتوافر لها عبر الدورة الدموية، وتعتمد حياتنا، وصحتنا على التكامل بين هذين المصدرين من الطاقة: الأول هو التدفق المساري من البيئة الكونية المحيطة بنا، وينتج الثاني من التحولات الكيميائية لشتى الأطعمة المختلفة”[1].

إن جسد الإنسان صورة مصغّرة عن الكون، ومثالاً على ذلك تبدو شعرة من رأس الإنسان تحت المجهر شديدة الشبه بشجرة، وكلا الطرفين مكون بشكل لولبي، “المحتوى الرئيس للشجرة له صلة بالكاربوهيدرات، بينما شعرة الرأس لها صلة بالكيراتين، وهو نوع من البروتين”[2] وهاتان المادتان عضويتان، ومتضادتان، ومتكاملتان، فتتشابهان في الشكل والنمو تقريباً، وتختلفان في القياس والحجم.

وكما أن جذور النباتات تُغمر في التراب تُغمر جذور الشعر في جيوب خاصة، فأجسادنا شكل مكثف للطبيعة من حولنا، ويعني ذلك أن الداخل يقابله الخارج، ويتساوى معه، والكبير يقابل الصغير، ويتكامل معه.

والطاقتان السماوية والأرضية حاضرتان ومتكاملتان، ونجد صدى لهذا التكامل في جسد الإنسان، فـ”الكبد متماسك، وجامد، ولهذا نرى أنه مكوّن من طاقة لولبية مركزية، وانفلاشية، والمرارة جوفاء بنسبة أكبر، لهذا نرى أنها مكونة من طاقة لولبية طاردة مركزية آتية من أقاصي الفضاء، الكبد والمرارة مختلفان في التكوين، لكنهما يعملان بوصفهما كلاً واحداً”[3]

ويعمل القلب بحركتين متضادتين في الوقت نفسه، فهو يضخ الدم

(50)

من جهة، وينكمش من جهة أخرى، وبتكامل هاتين الحركتين المتضادتين يكتمل عمل القلب، ويمنح الحياة للجسد، فالتجاويف الموجودة في الجهة اليمنى تعمل على جمع الدم، وإرساله إلى الرئتين، أما التجاويف الموجودة في الجهة اليسرى للقلب فتعمل على ضخ هذا الدم المنتعش القادم من الرئتين إلى جميع أنحاء الجسم، ومن الحركتين المتضادتين يوزَّع الدم إلى كلّ خلية من خلايا الجسم التي لا تعدّ ولا تحصى، والتي تشبه مجرات الفضاء.

وتعمل الجهة اليمنى للقلب بطريقة اليانع إذ يجتمع الدم من أنحاء الجسم في القلب؛ لذلك تكون الجهة اليمنى أكبر من الجهة اليسرى، وتضخ الجهة اليسرى الدم إلى أنحاء الجسم، فتعمل بطريقة الين، وتتمتع بعضلات أقوى، وتعمل هاتان الطاقتان معاً. فـ” طاقة الأرض طاقة صعود من الجهة اليمنى للجسم، وطاقة السماء طاقة انحدار إلى الجهة اليسرى من الجسم”[1] لذا لا يتشابه شيئان تشابهاً تاماً، فالكلية اليمنى أقل انفلاشاً، وأعلى موضعاً من الكلية اليسرى –على سبيل المثال- فكل شيء في الحياة محكوم بالقوتين المتضادتين، التمدد/ التقلص، الشهيق/ الزفير.

وعناصر الطبيعة تعمل بطريقة الثنائيات الضدية، وكل منها يتمم الآخر[2] فالنار موجودة في الكبريت، والماء في الزئبق، وحين يوجدان معاً في أعماق الأرض ينتجان مركبّاً ناجماً عن اجتماع الضدين. هو HgS كبريتيد الزئبق (Mercury sulfide).

ويعدّ الهيدروجين أصغر ذرة مكونة من بروتون موجب –كما سبق- والكترون سالب، وهما موجودان معاً مهما زاد عدد الذرات، فعدد

(51)

البروتونات الموجودة، والمشحونة إيجابياً في كل نواة يساوي عدد الالكترونات المشحونة سلبياً، والتي تطوف في الحد الأقصى من الذرة، والكربون والأكسجين لهما مواصفات متقابلة، لكنهما يتآلفان بسهولة بالغة، وكذلك الأكسجين والهيدروجين لهما صفات متباعدة لكنهما يتآلفان في الماء، ويتكاملان، وهذا الانجذاب بين العناصر المتقابلة سبب وجود الماء التي تغطي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وأكثر من 70 % من وزن الإنسان.

يعني الكلام السابق أن أي عنصرين متحدين يجب أن يكونا متقابلين، ومتكاملين، وحسب لغة علم الطاقة يجب أن يكون أحدهما “يانغ”، والآخر “ين”.؛ إذ يقول ميتشو كوشي إن الصوديوم والبوتاسيوم يعملان بهذه الطريقة، فالصوديوم يعمل بطريقة الانكماش في الجسم، والبوتاسيوم يعمل بالطاقة الانفلاشية[1] فالطرفان حدّان لثنائية ضدية، متنافران، ومتكاملان في الوقت نفسه. ومن الجدير ذكره أن التكامل في هذين العنصرين ليس في عملهما في بنية واحدة بل في عملهما في كامل الجسم، فلا يمكن أن يتحد الصوديوم والبوتاسيوم بل يتم التحول من عنصر إلى آخر على وفق شروط استمرار عمل جسم الإنسان (أو الكائن الحي).

2- ثنائية الين واليانغ وعناصر الطبيعة الخمس[2]

يمثّل الخشب، والنار، والتراب، والمعدن، والماء طاقات الطبيعة الخمس، وتعدّ هذه العناصر نشاطات ملموسة لثنائية اليانغ/ الين، فباتحاد الين واليانغ تنشأ طاقات العناصر الخمسة، ولكل منها حصّتها من الين

(52)

واليانغ، والواحدة منها تبطل الأخرى، “فثمة تحوّل من الفراغ إلى الوفرة، ومن الوفرة إلى الفراغ، فتأخذ دورات الطبيعة مجراها، وتمتزج طاقات العناصر الخمسة بطرق لا نهائية؛ لكي تنتج الوجود الظاهري، فتحتوي الأشياء في الطبيعة على العناصر الخمسة جميعها، ولكن بنسب متفاوتة، ويوضح الشكل الآتي اشتمال الأشياء في الطبيعة على هذه العناصر على وفق ثنائية الين واليانغ على وفق الرؤية التاوية[1]

تختلف العناصر، وتتقابل، وتتكامل، فالماء هو طاقة العنصر المرافقة للشتاء، تتكثّف الطاقة خلاله، وتُخزّن، ويصبح الماء قوة كامنة تنتظر أن

تُحرّر، ثم يأتي الربيع بطاقة الخشب التي تنشأ من الطاقة الكامنة للماء، كما تنمو النباتات من الأرض بأمطار الربيع، وهي طاقة متجددة تترافق بالحيوية، والنمو، والتطور.

وتنضج طاقة الخشب؛ لتعطي طاقة النار المزهرة في فصل الصيف، فتنضج أشكال الحياة في الصيف؛ بسبب التوهج المستمر لطاقة النار.

(53)

وفي نهاية الصيف تحوّل الطاقة نفسها إلى طاقة عنصر التراب، وهي طاقة متوازنة، وعند التحول من الصيف إلى الخريف تتحول الطاقة إلى طاقة معدن، تبدأ بالانكماش، والانسحاب إلى الداخل، فالخشب بملامسة المعدن يُقطَع، والنار بملامسة الماء تُطفأ، والتراب بملامسة

الخشب يُختَرق، والمعدن بملامسة النار يُذاب، والماء بملامسة التراب يوقَف، كما يوضّح الشكل الآتي:

فالنار ـ على سبيل المثال ـ يساعد التراب، ويساعده الخشب، ويعيق المعدن، ويعيقه الماء، والماء يساعد الخشب، ويساعده المعدن، ويعيق النار، ويعيقه التراب، وهكذا تتوالى الثنائيات الضدية.

وترتبط أعضاء الجسم، ومسارات الطاقة فيه بالعناصر الخمسة عن طريق الوظائف التي تقوم بها، فجميع الأشياء تُشتق من العناصر الخمسة التي تتحكم في المادة، والمشاعر، والتغيرات الموسمية[1].

(54)

وتوضح نظرية العناصر الخمسة أن الماء يتسبب في تكوين الخشب، الذي يمثل السبب في تكوين النار، والتي بدورها تعيد المكوّنات للأرض، فتتكون المعادن، مما يتسبب في تكوين الماء مرة أخرى.

3- الثنائيات الضدية وفقاً للعلوم الرياضية والفيزيائية والكيمائية

ينتظم الكون المحيط بنا أبعاد متعددة، ومنها:

ـ البعد الصّفري، وهو النقطة، وفي النقطة تنعدم الحركة، ومَنْ يكون موجوداً في البعد الصفري يكون مقيداً بهذا البعد.

ـ البعد الأول، وهو المستقيم المتشكّل من عدد لا نهائي من النقاط، وتكون حركة مَن يكون موجوداً في هذا البعد إلى الأمام، وإلى الخلف فقط؛ لأنه محكوم بالبعد الموجود فيه.

ـ البعد الثاني، ويمكن التحرك فيه إلى الامام، والخلف، واليمين، واليسار، لكن مَن يكون موجوداً في هذا البعد يكون محروماً من الحركة إلى الأعلى، والأسفل.

ـ البعد الثالث، باجتماع عدد لا نهائي من البعد الثاني يتكون لدينا البعد الثالث، وهو عالمنا الذي نحيا فيه، وفيه حرية الحركة في الاتجاهات كلها، ومن بدهيات البعد الثالث أن الشيء نفسه لا يمكن أن يكون في مكانين مختلفين في الوقت نفسه، كما لا يمكن لشيئين أن يكونا في المكان، والزمان نفسهما.

وثمة علماء يتكلمون على أبعاد أخرى، كالبعد الرابع، وفيه تصبح قوانين الفيزياء التي تتحكم بالبعد الثالث مجرد لعبة.[1]

(55)

إن عالم البعد الواحد تحدّه نسختان من عالم البعد الصفري، وعالم الأبعاد الثلاثة الأولى مكاني، في حين أن البعد الرابع زمني.

ومَن يعيش في عالمنا؛ عالم البعد الثالث غير قادر على اختراق بعد أعلى منه، لكنه قادر على ذلك في البعد الأدنى منه، والبعد الثالث بعد محكوم بمنطق الثنائيات الضدية، وحين نرتقي إلى بعد أعلى يتحول التضاد إلى وحدة.

وتَظهر دراسة الأبعاد عن طريق نظرية الأوتار، أو نظرية الخيطية (String Theory) فالأشياء، أو المادة مكوّنة من أوتار حَلَقية مفتوحة، وأخرى متناهية في الصغر، فكلّ ما في الكون مكوّن من أوتار دقيقة مهتزة بدءاً بجسد الكائنات الحية وانتهاء بالمجرات، وبحسب هذه النظرية يعزف الكون سيمفونية أوتار فائقة متذبذبة، فالكون عزف موسيقي، ومن الممكن معرفة الكون من خلال معرفة الأوتار، ونغماتها[1].

والمهم في الكلام السابق أن البعد الثالث بعد الثنائيات الضدية، أما البعد الرابع[2] ـ كما يرى العلماء ـ فيمكن أن يوجد فيه شخص ما في مكانين مختلفين،وهذا الأمر غير ممكن في البعد الثالث الذي ندركه،فالبعد الثالث الذي نعيش فيه هو الذي حكم علينا بمنطق الثنائيات، والتضاد في

 
(56)

مراحل متقدمة يتحول إلى التكامل، وفي بعدنا الثالث نحتاج إلى طرفي الثنائية، فوجود أحد طرفيها فقط يعني أننا انخفضنا بالبعد إلى بعد أدنى، فالثنائية أساس البعد الثالث؛ لأن انتفاء أحد طرفيها يعيدنا إلى البعد الثاني، فيذهب الجدل، ونعود إلى حالة سكون؛ أي موت مطلق، وللتغلب على هذه الحالة يظهر طرف الثنائية الآخر.

وقد سبق أن مثّلنا الثنائية الضدية بمغناطيس له قطبان، سالب، وموجب، ويتعين على ذلك أن الأضداد القطبية تكون مشروطة بالتأثير المتبادل للقطبين المتضادين أحدهما في الآخر، ويعني انفصال أحد هذين القطبين تعطل آلية الثنائية الضدية، فلا توجد إلا في ارتباطهما، واتحادهما معاً، ولا وجود لارتباطهما إلا في تضادهما، كما لا وجود لاتحادهما إلا باختلافهما، وانفصالهما، ويعني هذا الكلام أن ثمة طبيعة ديالكتيكية لطرفي الثنائية الضدية.

ولا ينشأ المنطق إلا من المتضادات، كالسبب/ النتيجة، العلة/ المعلول، التماثل/ الاختلاف، المظهر/ الجوهر....

ويعني ما سبق أن العمليات الكيميائية ترتدّ إلى ظاهرتي الجذب والدفع الكيميائيتين، وتتوزع الكهرباء بين جسمين أو أكثر، مشحونين بشحنتين متضادتين.

وفي الرياضيات تبدأ الهندسة باكتشاف أن المستقيم والمنحني ضدان، ويتعذر التعبير عن المنحني بمستقيم واحد، وأن الاثنين غير متقايسين، ومع ذلك يبدو حساب الدائرة متعذراً إلا بالتعبير عن محيطها من خلال الخطوط المستقيمة، لكن فيما يتعلق بالمنحنيات التي لها خطوط متقاربة يصبح المستقيم مندمجاً تماماً في المنحني،

(57)

والمنحني في المستقيم تماماً كما في التوازي[1].

والنظام الثنائي الرياضي يكمن وراء الحاسوب الالكتروني الحديث، إنه أساس رموز التكويد (Codes) التي تستند إليها معظم العمليات الحسابية، فتدار المفاتيح (Switches) بـ “ فتح” On  و”قفل” Off وحين نريد كتابة حرف ما فإن تياراً جارياً فيه يتوقف حين نضغط على الحرف في لوحة المفاتيح، فنقطع هذا التيار الجاري، وهي ثنائية ضدية تكاملية.

تأخذ الحواسيب رقمين فقط في النظام الثنائي هما 1 ويمثله On و0 ويمثله Off ويستعمل الشخص العامل على الحاسوب عادة الأعداد المكتوبة بالنظام العشري ولكن الحاسوب يحوّل هذه الأعداد إلى أعداد مكتوبة بالنظام الثنائي قبل معالجتها[2]

يحوّل الحاسوب أيّ عدد يعالجه إلى نظام 0/1 ويفترض بول G. Boole أن لدينا تياراً يمرّ من دارة من خلال مجموعة من المفاتيح التي تعمل بصورة مستقلة، فأيّ مفتاح منها يمكن أن يكون في وضع الفتح On أو وضع الإغلاق Off والحرف G مثلاً في النظام الثنائي هو 1110010

ويستعمل كود ASCII  في الحواسيب الحديثة التي تقوم بمعالجة النصوص، فيترجم الحاسوب جميع أحرف اللوحة، والفراغات، والأرقام، وتحكمات اللوحة حين يقرع عليها إلى مكآفئاتها في ASCII  لإجراء العمل الداخلي والتخزين في الذاكرة، ثم يحوّل هذه الأعداد ثانية من الـ ASCII  إلى الأحرف والفراغات وأوامر التحكم التي تظهر على

(58)

الشاشة، أو تطبع الشكل ذاته في الوثيقة الأصلية[1]

وفي الفيزياء وصل الفيزيائيون الغربيون إلى نتيجة مفادها أن المتضادات هي المتمّمات؛ إذ تقوم المفاهيم المتضادة على علاقة قطبية، أو متمّمة بين المفهوم، والطرف الآخر[2].

ومثالاً على هذه العلاقة بين أزواج المفاهيم قدّم نيلز بور N. Bhor فكرة التتام، فعدّ صورة الجسيم، وصورة الموجة، وَصْفَين متتامّين للواقع نفسه، كلّ منهما صحيح جزئياً، وله مجال محدود من التطبيق، فكلّ صورة منهما ضرورية لتقديم وصف كامل للواقع الذرّي[3].

في الفيزياء الحديثة كلّ جسيم يوجد مقابله مضادّ له بكتلة متساوية، وشحنة متعاكسة[4] فثمة وجود لجسيم مضاد لكل جسيم بكتلة متساوية، لكن بشحنة معاكسة، فالفوتون مثلاً هو الجسيم المضاد لنفسه، والجسيم المضاد للالكترون هو البوزيترون، ومن ثمّ هنالك بروتون مضاد، ونيوترون مضاد، وحين يصدم البروتون والبروتون المضاد توجد ثمانية بيونات ناجمة عن هذا التصادم[5] حين تكون الطاقة عالية.

(59)

إن هنالك تدفقاً دائماً في الطاقة ترقص فيه الجسيمات رقصاً إيقاعياً مؤدّية عمليتي الخلق والتدمير، فقد بنيت الفيزياء الحديثة على فكرة الحركة والإيقاع، فكل مادة في الأرض، أو في الكون الخارجي موجودة في حال رقص كوني مستمر.

ومثالاً على هذه الحركة يوجد جُسيم ما دون الذرّة في منطقة ضيقة من الفراغ، ويقوم بردّ فعل على احتباسه فيها بالتحرك دائرياً، وكلما ازدادت المنطقة المحتبس فيها ضيقاً ازدادت سرعة اهتزازه، ودورانه[1] ويعني ذلك أن الجسيمات تميل إلى رد الفعل على الحصار بالحركة، فهي لا تعرف الراحة، بل تميل ميلاً فطرياً إلى الدوران؛ لأنها غير مستقرة أساساً.

المادة ليست سلبية وخامدة في الفيزياء، بل تتحرك حركة دؤوبة وراقصة، تقوم البنى النووية، والذرية بتحديد إيقاعها تبعاً لثنائية التقييد/ الحركة، وينطبق هذا الكلام على عالم النجوم، والمجرات، فالكون ليس ثابتاً بل يندرج في ثنائية: تمدد/ تقلص، فالكون  ـ حسب علم الفلك الحديث- يأخذ في الاتساع والتمدد دورياً على وفق إيقاع خاص بالخلق الكوني[2]

وتعدّ ثنائية “الامتلاء والفراغ” الثنائية التي تأسست عليها ذرّية ديمقريط Democritus ونيوتن I.Newton ولا يمكن لهذين المفهومين في النسبية العامة ل إنشتاين A. Einstein أن ينفصلا، فحيثما يكون جسم ضخم سيكون أيضاً حقل جاذبي يُظهر انحناء في الفضاء المحيط بذلك

(60)

الجسم، لكن الاثنين لا يمكن التفريق بينهما، فلا يمكن للمادة –في نظرية إنشتاين[1] أن تنفصل عن حقل جاذبيتها، وحقل الجاذبية لا يمكن أن ينفصل عن الفضاء المنحني، فالمادة والفضاء يبدوان غير منفصلين، وجزأين مترابطين يمثلان كلاً واحداً.

-المصادر والمراجع

- أنجلز، فريدريك 1988، ديالكتيك الطبيعة، ط1، ترجمة وتقديم: توفيق سلوم، دار الفارابي، بيروت

-كابرا، فرتيجوف: 1999، الطاوية والفيزياء الحديثة، ط1، ترجمة: حنا عبود، دار طلاس، دمشق

-ماكليش، جون: العدد- من الحضارات القديمة حتى عصر الكمبيوتر، ترجمة: د. خضر الأحمد، د. موفق دعبول، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 251، نوفمبر.

-المراجع الأجنبية

Mitchio Kushi with Edward Esko, OTHER DIMINSIONS Exploring the Unexplained, 1992, Avery publishing Group Inc. Garden city park, New York.

-المراجع الالكترونية

http://nasainarabic.net

Malt Williams: http://universetoday.com/author/mvill7nov2016

http://ar.m.wikipedia.org

www.alaalsayid.com

(61)
(62)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

الثنائيات الضدية

 والبعد الفلسفي

(63)

الثنائية (Dualism) نظرية فلسفية تقول بازدواج المبادئ المفسّرة للكون، ومنها ثنائية الأضداد وتعاقبها، فهي تعدّ الجوهرين: الروحي، والمادي جوهرين متساويين، لا ينحلّ أحدهما في الآخر، خلاف الواحدية.

وتتمثل خلاصة الفلسفة المادية الثنائية في أنها اجتماع الأضداد؛ إذ يتغلب الضد على ضده، فلا توجد حالة إلا وهي تنطوي على ما يتضاد معها، فلا تبلغ تمامها إلا بظهور الضد، فالتضاد –حسب الفلسفة- جذر كل مادة حيوية [1].

والثنائية من الملامح البارزة لفلسفة أفلاطون  Plato، وديكارت R. Descartes، وكانت، وتشير الثنائية إلى أصل العالم القائم على مبدأين متضادين متمايزين: الوجود المادي، والوجود الذهني، فكل كيان يمتلك صفاته الخاصة والمتضادة مع الكيان الآخر، وعبّرت نظرية المثل عند أفلاطون عن أنموذج مثالي للفكر الثنائي، وأقام أفلاطون فكره الاثنيني على ثنائية الحقيقي؛ أي المثل، واللا حقيقي؛ أي الموضوع الحسي الذي يمثل اللا يقين، وهو موجود؛ لأنه ظلّ، ومرآة تظهر ذلك المثال.

وحاول أرسطو تجاوز ثنائية أفلاطون، فظهرت الثنائية في الفلسفة الأرسطية في قطبي الوجود: المادة/ الصورة، ويرفض أرسطو التقاء المتضادات مع أنها موجودة في الطبيعة، فتمثل المادة الإمكان الوجودي، وتمثل الصورة الوجود الفعلي.

(64)

وفي العصر الحديث يطالعنا رينيه ديكارت بثنائيته، فالعقل والجسد غير متوائمين، رأى ديكارت أن العقل غير مادي، ويقصد به الإدراك والوعي الذاتي، وفرّقه عن الدماغ بأنه موضع الذكاء، فكان أول من صاغ ثنائية العقل، والجسد[1].

1- بناء الفلسفة على الثنائية الضدية

بحثت الفلسفة في ثنائيات متعددة[2]، أبرزها:

-ثنائية الوحدة/ الكثرة، وهي أكبر الثنائيات الفلسفية، دخلت في جوانب علمية، وإنسانية، ولاهوتية.. وصدرت عنها ثنائية الخلق/ الأزلية، ويعني طرف الخلق أن الواحد أصل الكثرة في حين تعني الأزلية أن الأشياء يصدر بعضها عن بعض، وجميعها أزلية، وقائمة في ذاتها، ودخلت هذه الثنائية في فلسفة الأخلاق، وفلسفة علم الاجتماع، فتُقابل الكثرةُ الوحدةَ، وهي كثرة مركّبة من جملة آحاد، وتثير هذه الثنائية أسئلة وجودية، فهل الكثرة في الوجود بوصفها جملة آحاد يمكن ردّها إلى الوحدة؟

-ثنائية حدوث الوجود/ قدمه، وهي ثنائية أثير حولها جدل كبير؛ لاتصالها بموضوع الإيمان الديني، فقد قال الفلاسفة اليونان بقدم العالم، وفلاسفة آخرون قالوا بحدوثه.

-ثنائية الطبيعي/ فوق الطبيعي، يرى طرف

(65)

طبيعي وما فوق طبيعي، ويعني ذلك أن الروح تبقى في العالم فوق الطبيعي بعد موت الجسم الطبيعي.

2 - الثنائيات الضدية في الفلسفة القديمة:

2-1-الفلسفة الصينية وثنائية الين واليانغ

ترى الفلسفة الصينية القديمة أن كلّ قطب من القطبين السالب، والموجب لا يقوم بمعزل عن القطب المضاد له، ولكلّ قطب صفات مضادة لصفات القطب الآخر، وتلك الصفات تحدّد نوعية ما ينجم عنه من مظاهر الكون، فاليانغ الموجب إذا غلب الين السالب نجم ما له صفة موجبة، وإذا غلب الين السالب نجم ما له صفة سالبة، وعلى ذلك يقوم نظام الكون، فكل ما فيه نتيجة تجاذب أقطاب الخير والشر التي تمثّل النور/ الظلام، الحياة/ الموت، الذكر/ الأنثى، ويعني هذا الكلام أن الفلسفة الصينية تقوم على فكرة القطبين المتجاذبين، لا المتنافرين؛ إذ يجتمع الين واليانغ في إطار واحد، ولا فاعلية لأحدهما من غير الآخر.[1]

تشكل الثنائيات الضدية ـ إذن ـ جزءاً من الإيقاع الكوني والبشري، صاغه الفكر الصيني في تناوب المبدأين “يانع وين”، وهي ثنائيات تمثل أمثلة متعددة من أزواج كونيات، واجتماعيات، ودينيات ضمنت التناوب الإيقاعي للحياة والعالم، وتلتقي جميع الفلسفات والديانات القديمة في فكرة الثنائية، كالثنائية الفارسية لزرادشت في المانوية، فقد عدّ زرادشت العالم خليطاً من الروحي والمادي، ويكون الخلاص نتيجة جهد طويل

(66)

وصعب من أجل فصل النفس عن المادة، والنور عن الظلمات التي تأسره.

وفي الحقيقة انطلقت الروحية الإيرانية، والعرفان (الغنوصي) الهلنستي، والغنوصيات الهندية (السمهكياريوجا والبوذية) من فكرة الثنائيات الضدية. وأعظم الثنائيات لدى اليانغ والين ثنائية الوجود في العالم المادي المتجسد، وضدّه غير المتجسد (الطاقة الكونية) أو الأثير الذي يحتفظ بخصائص الكلي: اللامرئي، الذي لا شكل له، ولا نهاية..، وترمز ثنائية اليانغ والين إلى الوظيفة التي كانوا يعتقدونها للقوى الثنائية المختلفة للكون، فالين يمثل القمر، والأنوثة، والسكون، والبرودة، والسلبية في حين يمثل اليانغ الذكورة، والشمس، والحركة، والحرارة، والإيجابية.

في هذه الفلسفة بحث عن التضاد المتكامل لصيغتين للحياة، ولتناوب مبدأين كونيين اليانع والين. فالإيقاعات الكونية محكومة بتفاعل اليانغ، والين. ويمكن القول: إن اتجاهات الفكر الديني كلها في الصين القديمة لها قاسم مشترك في عدد من الأفكار الأساسية، فالحياة والموت للكائنات يفسَّران بتناوب اليانع، والين: الأول ينشط الطاقات الحيوية، والثاني يجلب الراحة.[1]

 وتنطلق الديانة في عصر البرونز في ديانات الصين القديمة من ثنائية النور/ الظلمة، فالحياة منبثقة من الظلمات، ومن الموت، ومما يميزها أيضاً “اتحاد الصور المتعاكسة (الأفعى ذات الريش، الأفعى والنسر...) وبعبارة أخرى إن جدلية الأضداد، واتحاد المتعارضات لازمة مركزية بالنسبة للفلاسفة والصوفيين التاويين.”[2]

(67)

ترتد أصولية الفكر الصيني إلى دورة المبادئ المتضادة، والمتكاملة، والمعروفة تحت اليانغ والين “وإن النماذج الجذورية المفصلية بدأت من مختلف الأنواع للانشطار الثنائي أو التعددي، ومن الازدواجية أو التناوب، ومن أزواج متضادة، ومن توافق المتضادات تصادف في كل مكان من العالم، وعلى كل مستويات الثقافة، وتأتي أهمية الزوجين من الأضداد يانع وين من واقعة أنها لم تخدم نظاماً للتصنيف الشامل فحسب، ولكن من كونها إضافة إلى ذلك قد تطورت في علم كوني “كوزمولجيا”، ومنهجت عدداً كبيراً من تقنيات الجسد، ونظامات الروح من جهة، وحثّت على التأملات الفلسفية الأكثر فالأكثر دقة ومنهجية من جهة أخرى.”[1]

ويعدّ كتاب التغيرات “إي- جنج” أقدم وثيقة ورقية مكتوبة حفظها التراث الصيني القديم، استمد منه كونفوشيوس حكمه، وجاء فيه أن الثنائية الرمزية “الين واليانغ” مصدر الحقائق الكونية.[2]

ويوضح الشكل الآتي تشكل مظاهر الطبيعة كلها من تضاد الين واليانغ ودروانهما المستمر:

وقد أتت التاوية، وأسهبت في فاعلية اليانغ والين في الكون، ويُرمز للتاو في الفكر الصيني القديم بدائرة يتناوب فيها الأبيض والأسود، أو اليانغ والين، تنجم عن دوران القوتين الموجبة والسالبة، ويدخل الأبيض في الأسود، ويدخل الأسود في الأبيض، فلا حدود بين الطرفين المتضادين،

(68)

ويحمل الضدّ شيئاً من خصائص ضده، ويتخذ كل ضد معناه من ضده حيث لا نور من غير ظلام، ولا خير من غير شر، ويعبّر الخط الفاصل بين

المساحتين في الدائرة عن ظهور المتضادات إلى الوجود، فظهر المكان من رحم الهيولى، وانحلت الوحدة إلى قوى متعارضة، متضادة، متجاذبة في الوقت نفسه

في القسم الأبيض نقطة سوداء، فلا اليانغ يتجلى في حاله الصرفة، ولا الين، ففي كل إيجاب شيء من السلب، وفي كل سلب شيء من الإيجاب، ويتخذ القسمان وضعاً دورانياً حركياً إشارة إلى التناوب الدائم بينهما:

ويقابل الين واليانغ الصينية فكرة الكامي اليابانية، لكن في اليابان لها اسم واحد بوظيفة مزدوجة ضدية الفعل، فمنها القوى النافعة، والقوى

(69)

الضارة.[1] فالكامي فلسفة يابانية خاصة يصدر عنه الخير والشر، فالكامي قوة مؤثرة في الكون، ومن نتائج تأثيرها أفعال الخير والشر، ويشمل كل من يمتلك قوى غير طبيعية تثير الاحترام والتبجيل حيناً، وتبعث على الخوف

والرهبة حيناً آخر.

ومن أقوال لاوتسو التي بنيت على الثنائيات الضدية:

-الانحناء هو الاستقامة

-الفراغ هو الامتلاء

ومن أقوال جنك تسي:

-لأن هنالك قبحاً يرون في الجميل جمالاً[2]

وحين ينعدم التضاد بين هذا الطرف وذاك نبلغ التاو- الانسجام الكلي،

(70)

فالثنائية الضدية تكاملية، ولا يوجد أيُّ طرف منها إلا مقترناً بالطرف الآخر، فلا شهيق من غير زفير، ولا ذكر من غير أنثى، وكل منهما يحمل القدرة على التحول نحو الآخر. فثنائية الخير/ الشر تعني أنه لا يوجد خير مطلق، وشر مطلق، وثنائية ذكر/ أنثى تعني أن في الرجولة بعضاً من سمات الأنوثة، وكذلك الأمر في الأنوثة.

2-2-الثنائيات الضدية والمانوية

المانوية سفيرة مصطلح الثنائيات الضدية إلى العالم، وتقول المانوية إن الكون قائم على ثنائية الخير والشر الضدية، وهما أبديان متساويان في كل شيء، ولا ينتصر أحدهما على الآخر. إن الظلام والنور –حسب المانوية- أصلان أزليان، ولا فرق بينهما إلا في التضاد[1]

لقد انشغلت الديانات القديمة، والأفكار الفلسفية بثنائية الفناء/ الخلود، وغيرها من الثنائيات. فالروح ـ لا الحياة ـ هي الشيء الأكثر قيمة؛ لأنها تنتمي إلى عالم مثاليّ وأبدي. [2] والفكر الديني الهندي منذ عصر البراهمانا- على سبيل المثال- سعى إلى اتجاه التوفيق بين الأضداد، فكان هذا الاتجاه أبرز ما يميزه،[3]  وقال المذهب المانوي بالصراع بين النور والظلام، وقامت الزردشتية والمانوية على ثنائية الخير/ الشر. والمانوية لسفة غنوصية (عرفانية) دمجت البوذية والزردشتية واليهودية والمسيحية،

(71)

انطلقت من فكرة وجود إلهين أزليين: إله الظلمة، وإله النور، وقد نشأ العالم- حسب معتقداتها ـ من امتزاج النور بالظلمة. فالله هو الخير والنور. والشيطان هو الخطيئة والظلام، ولا بد من احتقار الحياة، ونبذ الجسد، وتفضيل الموت من أجل تخليص الروح والنور من سجن الجسد والظلام.

والمانوية عقيدة دينية غنوصية، أي عرفان رباني بلا وساطة، يهدف إلى كنه الأسرار الإلهية، ظهرت في فارس في القرن الثالث الميلادي، ونسبت إلى الحكيم الفارسي ماني المرتبط بمذهب غنوصي.[1]

وتعني المانوية الروح العارفة التي تحقق الاستنارة، وتدرك أصلها النوراني، و يجعل العرفانُ النورَ منتصراً على الظلام، وقد ادّعى ماني أن كشفين إلهيين دفعاه إلى إعلان مذهبه، ويقوم هذا المذهب على الاعتراف ببعض الديانات السابقة ماعدا اليهودية التي كان يبغضها، وقال إنه جاء؛ ليتمم عمل زرادشت وبوذا والمسيح، وتتبنى هذه العقيدة بعض المفهومات التقليدية الفارسية المتمثلة بالثنائية النور و الظلمة، والأسطورة والأخروية... والعالم ـ في رأيها ـ مصنوع من النور والظلمة، وهما أصلان أزليان قديمان، وقد أُبدع العالم المادي بدئياً من قوة شيطانية ولدتها الظلمة، والإنسان هو عمل قوى شيطانية تأتمر بأمر أمير الظلام، وخَلْقُ الإنسان تمّ بحركة يائسة من المادة كي تمسك بجزئيات النور، فوجود الإنسان والطبيعة والحياة يرجع إلى عدو الله أمير الظلام[2].

للنور فعل الخير والصلاح والسرور والنظام، وللظلمة فعل الشر والفساد والضرر والغم.. وثمة أضداد للطرق المعلنة من قبل أب النور، ويقتضي الخلاص ثلاث محطات: اليقظة، وكشف العلم المنقذ،

(72)

والذكرى، وفي النهاية تعجز الظلمة عن غزو مملكة النور.[1] ولا تنفصل الماهيتان نهائياً إلى حين تتخلص الأرواح- جوهر النور- من سجن المادة، فيصل كلٌّ إلى عالمه، وتلك هي القيامة والمعاد. فكون العالم محكوماً بالشرّ ناجم عن عملية المزج بين المادة، والروح، والخير، والشرّ.

وتمثّل المانوية الثنائية المطلقة التي تقول بوجود أصلين أزليين للعالم، مستقلّين: عالم الروح/ النور الأزلي، وعالم المادة/ الظلمة الازلية، وحين دخلت الظلمة في نسيج النور كان لا بد من الفصل بينهما مجدداً، في حين تمثّل الزردشتية الثنوية الجذرية التي تقول بوجود أصلين ليسا أزليين، بل متولّدين عن الإله الأزلي الواحد القديم، وهما في حال صراع منذ وجودهما[2].

2-3 - البوذية وثنائية الشقاء والسعادة

البوذية حركة فكرية فلسفية تدعو إلى التعامل مع منغصات الحياة، وكيفية التغلب عليها، ويعني بوذا المستنير، وتنص فلسفته على أن الحياة ألم، وتعب، وشقاء، وتعاسة، فإذا وضع الإنسان يده على مصدر الشقاء،

(73)

وعرف سببه، وكيف يقضي عليه يكون بذلك قد توصل إلى سرّ السعادة التي تخلصه من تكرار المولد، وتوصله إلى النيرفانا، وهي هدف البوذي من هذه الحياة، وتعني النيرفانا انتهاء الشهوة، وخمودها.[1] تقوم البوذية ـ إذن ـ على فكرة أن الضد يظهر من ضدّه.

وتأتي الهندوسية بفلسفة يغلب عليها الزهد، والتصوف، والهندوسية خليط من أديان وعقائد، حوت تحت جناحيها الطقوس الدينية، وغير الدينية، فثمة تعدد آلهة، ووحدانية، هي دين المتضادات في العبادات، والمعتقدات، وفيها الطقوس الدينية، وغير الدينية، وفيها التعدد والتفرد في المعتقد الإلهي.

3- الصوفية والبعد الفلسفي المبني على الثنائيات الضدية

نجد في كتابات الصوفية التضاد الواضح، فالإنسان هو كلّ شيء، وهو لا شيء، فمن منطق النفس يكون الإنسان لا شيء، ومن منطق الروح يكون الإنسان العالم الأكبر، وقد رأى جلال الدين الرومي أن الإنسان الكامل المثالي هو الجدول الذي ينبع من الداخل، ويكون صافياً، فتنعكس فيه صورة الأشياء، وأن ما من شيء في الحياة إلا يحمل ضده معه، فيكون حياة لطرف، وموتاً لطرف آخر:

“-فما يكون قوة لأحد يكون قيداً لآخر، يكون سماً بالنسبة إلى أحد، ولآخر كأنه السكر.

-وسمّ الحية يكون حياة لتلك الحية، ولكنه بالنسبة إلى الإنسان موت.

-والبحر بالنسبة إلى أحياء البحر كالحديقة، لكنه لمخلوقات الأرض موت، ومصيبة.”[2]

(74)

ويقوم كتاب “مثنوي” على الجمع بين الثنائيات الضدية، ورؤية كل طرف من الثنائية بالآخر، وتؤدي الثنائيات إلى التكامل لدى المتصوّفة، فالإنسان الكامل هو القاسم المشترك الأعظم في أعمالهم: الإنسان في تساميه وشعفه، علوّه وسقوطه، طهره ودنسه.

والعلاقة بين المعبود والعابد خاصة لديهم؛ إذ يشعر الإنسان أنه مخلوق شبه إلهي يفنى عن ذاته كلياً، وهذا الحضور الدائم لله في الإنسان يعطي للجدلية الصوفية بعض الغرابة.

إن المخلوق الذي فيه نغمة من الإله نزل على الأرض ـ مقرّ منفاه وغربته ـ لا بد أن يكون جديراً بالعودة إلى أصله؛ لذا لا بدّ أن يرتفع الإنسان عن التضاد الشديد الذي يوصله إلى الحيرة والصراع. وهذا ما عبّر عنه حافظ الشيرازي بقوله:

-لا أدري من يوجد بداخلي أنا المعذّب، فأنا صامت، وهو في صراخ وعويل”[1]

يتحد الإنسان بالفضاء الطبيعي، ويرى نفسه في كل شيء جميل في الطبيعة، ويقوم كل شيء حوله على ثنائيات ركيزتها التضاد، وهدفها التكامل، والفكرة المهمة لديهم عظمة الإنسان، وسيادته، إنه يتمثّل في كل شيء في الطبيعة:

“-إننا نشعر بألوان من الحب نحو هذا التراب، لقد خُلق في حال من أحوال الرضا؛ ذلك لأن هذا التراب ذو ظاهر أغبر، لكنه في الباطن ذو صفات نورانية.

-وقد اشتبك ظاهره مع باطنه في جدال، فباطنه كالجوهر، وظاهره كالحجر.

(75)

-فجسدك كالأرض، ورأسك بمنزلة السماء، وحواسك الأنجم والشمس بمنزلة الروح.

-والعظام كالجبل فهي شديدة، ونباتك هو الشعر، وأطرافك هي الشجرة”[1].

4ـ أشكال إيشر Maurits Cornelis Escher المجازية

تنهض رسومات الفنان إيشر[2] على أساس فلسفي قائم على الثنائيات الضدية، فقد كان مفتوناً بالتناظر اللوني (Color Symmrtry)، والترتيب، وتُستخدَم أعماله حالياً في إيضاح بعض المفاهيم الواردة في علم الرياضيات، والبلوريات. وسنتحدث عن رسوماته ذات الطابع الفلسفي في إيضاح الركيزة التي قامت عليها، وهي الثنائيات الضدية، وحضورها في الفن التشكيلي فلسفياً.

كتب إيشر أن الدافع الرئيس لأعماله الاهتمام الشديد بالقوانين الهندسية (Geometric) التي تحكم الطبيعة من حولنا. [3] وقد عبّر

(76)

عن أفكاره في أعماله البيانية (Graphic) وقدّم أشكالاً مجازية للأفكار المتعلقة بالعلوم المذكورة.

ويعدّ مبدأ التناظر الذي أقام عليه إيشر رسوماته ذات الطابع الفلسفي ثنائية ضدية، فالثنائية هي الغالبة على موضوعاته الأخيرة، ففي الرياضيات لكل مقولة نفي، ولكل مجموعة مجموعة أخرى متممة لها، وفي الأحوال كلها فإن كل طرف من طرفي الثنائية الضدية يتمم أحدهما الآخر، وفي نهاية الدائرة لا وجود لحدود، فالدائرة شكل ليس له أبعاد، وتوجد الأبعاد داخلها، وبالعودة إلى لوحة إيشر الشهيرة: “ملائكة وشياطين”[1] يتبين التكامل بين طرفي الثنائية:

تلتفّ ستّ فراشات بألوان متناوبة بين الأبيض والأسود حول نقطة تلتقي فيها أطراف الأجنحة اليسرى الأمامية، كما أن ثلاثاً منها بألوان متناوبة تدور حول نقطة تتلامس فيها الاجنحة اليمنى الخلفية، وفضلاً عن التناظر الدوراني ثمة تناظر انسحابي مبني على شبكة من المثلثات، يمكن لهذا الأنموذج أن يستمر إلى ما لا نهاية في جميع الاتجاهات، ويوفر هذا الشكل تمثيلاً مجازياً ضمنياً للا نهاية.

يقوم هذا الشكل على ثنائيات ضدية، فيغدو الشكل ذو اللون الأبيض ممثلاً الملائكة، والأسود يمثل الشياطين في دائرة لا تنتهي، فمحيطات  (Contours) للملائكة والشياطين يحدّد بعضها بعضاً، وكلّ واحد من هؤلاء هو شكل، أو خلفية، ويحذف إيشر التفاصيل في نصف الأشكال، وفي هذا الرصف الزائدي (Heperbolic) تبدو الأشكال لأعيننا الإقليدية (Euclidean) وقد ازدادت تشوّهاً كلما صغر حجمها، بيد أنه لدى إجراء القياس وفق

(77)

الهندسة الخاصة بعالم هذا الرسم يكون للملائكة القدر والشكل نفسهما، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشياطين، وكلّ عدد غير منته من النسخ يتكرر أبداً من غير أن يتجاوز حدود الدائرة. إنها الثنائية الضدية التي يسير طرفاها في خطين متوازيين من غير أن يلتقيا، وهما متكاملان في الصورة النهائية.

وكتب إيشر أن كلّ من يغوص في اللانهاية في كلّ من الزمان والمكان، ويتعمق فيها من غير توقف بحاجة إلى نقاط مثبتة، تكون بمنزلة معالم في طريقه في أثناء انطلاقه بسرعة؛ لأنه إذا لم يتحقق ذلك تعذر عليه التمييز بين

حركته، ووقوفه ساكناً، ويتعين عليه أن يجزّئ عالمه إلى وحدات لها أطوال محددة، وإلى أقسام منفصلة يكرّر كلّ منها الآخر بتعاقب لا ينتهي.[1]

ويعني الكلام السابق أن عالم البعد الثالث الذي نعيش فيه هو عالم

(78)

ثنائيات ضدية، أما إذا ارتقينا إلى عالم أعلى حيث الدائرة فلا أبعاد، وتكتمل الثنائيات فيه، فقد كان يريد أن يكرر أشكالاً تتكرر أبداً مقتربة من حد يحيط بها، من غير أن تدرك هذا الحدّ.

وقد كان إيشر أستاذاً في الخلط بين الأبعاد، كما بيّن في لوحته السابقة “ليل ونهار”[1]:

تُمسخ مزارع ثنائية البعد على نحو خفي إلى إوزّ ثلاثي البعد. فالبعد Dimension)) هو ذلك المفهوم الذي يميز بوضوح النقطة، والخط المستوي، والفضاء. ولإيضاح الغموض في هذا المفهوم استغل إيشر الصفحة المطبوعة التي لا بد أن تخدع الناظر إليها حين تصوِّر منظراً ثلاثي الأبعاد. وفي الليل والنهار تُمسَخ الرقعة المنبسطة للأرض الزراعية في أسفل الصفحة إلى سربين من الإوز، ويوجد كذلك الانعكاس والثنائية الضدية، فالإوز الأسود يطير فوق قرية مضاءة بنور الشمس، ويرفرف الإوز الأبيض بجناحيه في منظر ليلي، يشكّل خيالاً مرآوياً للمنظر نفسه.

5 ـ الفلسفة الحديثة والثنائيات الضدية

ظهرت رحلة الشك في العصر الحديث بجدل بدأ بمادية جون لوك J. Locke، ومثالية عمانويل كانت I. Kant، وهو شك يشتركان فيه على الرغم من التضاد المبدئي بين المدرستين، وأدت رحلة الشك هذه إلى ظهور ثنائية الداخل/ الخارج، وهي ثنائية جديدة في مضمونها، وتعني القول بوجود عالم خارجي يرى المنادون بحقيقته أنه مصدر المعرفة،

(79)

وعالم داخلي يحتوي على النماذج العليا للمعرفة الإنسانية، وأدت هذه الثنائية إلى ظهور ثنائية أخرى مماثلة في تفسير وظيفة اللغة، وتحديد معنى النص الأدبي[1].

وقد تأرجحت الفلسفة الغربية عبر ما يقرب من ثلاثة قرون بين الداخل والخارج، بين فكر واقعي يعتمد التجربة الحسية بوصفها أساساً للمعرفة

الإنسانية، وفكر مثالي يضع أسس المعرفة داخل العقل البشري، ويتحرك بين القطبين عدد من رواد الشك الذين يرون استحالة المعرفة اليقينية سواء انطلقنا من الداخل، أو من الخارج.

إن الميل إلى قطب الداخل يولّد اتجاهاً معاكساً يقترب من قطب الخارج، وسرعان ما يولّد هو الآخر عودة إلى القطب الأول في حركة دائمة، وقد ازدادت هذه الحركة المتضادة في القرن العشرين، ويعدّ لوك، وهيوم، وهوبز T. Hobbes، وهيغل ، ونيتشه F. Nietzsche ممثّلين لقطب الخارج، وديكارت، وبيركلي Berkeley وكانت I. Kant ممثلين

(80)

لقطب الداخل، والمنطقة الوسطى، منطقة البين بين تضمّهم جميعاً بين حين، وآخر.

إن الأساس الفلسفي هو الذي ارتبط باللغة والنقد، فللاتجاهات النقدية الكبرى أسس فلسفية، وكان معظم النقاد فلاسفة، وسيتم التوسع لاحقاً في هذه الفكرة. فكيف تجلى الأساس الفلسفي في المدارس النقدية القائمة على تضاد الثنائيات؟

(81)

المصادر والمراجع

- إبراهيم، إبراهيم: محمد 1406هـ، الأديان الوضعية في مصادرها المقدّسة، مطبعة الأمانة، القاهرة

- إلياد، مرسيا: 1986- 1987، تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية، ترجمة عبد الهادي عباس، ط1، دار دمشق

- بارندر، جفري: د.ت، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ترجمة إمام عبد الفتاح، مراجعة عبد الغفار مكاوي، مكتبة مدبولي

-تولا، جان لوك: 2011، فلسفة الزن- رحلة في عالم الحكمة، ط1، ترجمة ثريا إقبال، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث

-حفني، عبد المنعم: 2010، موسوعة الفلسفة والفلاسفة، مكتبة مدبولي، القاهرة

- حمودة، د. عبد العزيز: 1998، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، نيسان

-ديورانت، ول: 1988، قصة الحضارة، 24 جزءاً، تقديم د. محيي الدين صابر، ترجمة: د. زكي نجيب محمود وآخرين، دار الجيل، بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

-الرومي، مولانا جلال الدين: 2002، مثنويّ، ترجمه وشرحه وقدّم له: د. إبراهيم الدسوقي شتا، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة

-السحمراني، أسعد: 2009، ترجمان الأديان، دار النفائس للطباعة والنشر، بيروت

-سكاتشنايدر، دوريس: 1995، أشكال إيشر المجازية، مجلة العلوم، الترجمة العربية لمجلة ساينتفيك أمريكان، مؤسسة الكويت للتقدم

(82)

العلمي، مجلد 11، عدد 3، آذار- مارس.

-السواح، فراس: 2002، الرحمن والشيطان- الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، ط1، دار علاء الدين، دمشق.

- مشلب، رانية: 2001، التاو، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان

-العلوي، هادي: 2002، كتاب التاو، دار المدى، بغداد، العراق.

- لاو تسو: 1998، التاو.. تي.. تشينغ.. إنجيل الحكمة التاوية في الصين، ط1، ترجمة وشرح وتعليق: فراس السواح، دار علاء الدين، دمشق

-مجموعة من الكتاب: 2007، ط،1 هيئة الموسوعة العربية، ط1، الجمهورية العربية السورية، رئاسة الجمهورية، دمشق.

- نومسوك، عبد الله مصطفى: 1420هـ، البوذية: تاريخها، وعقائدها، وعلاقة الصوفي بها، مكتبة أضواء السلف.

-المراجع الأجنبية

The Graphic Work of M. C. Escher, 1971 Ballantine Books.

The Graphic work of M.C. ESCHER, Ninth Printing, April 1975 Ballantine Books, a division of Random House, Inc.  201 East 50th Street New York, N.Y. 10022

-المواقع الالكترونية

موقع ويكيبيديا- الموسوعة الحرّة- ثنائية ديكارتية، 26/11/2016

http://ar.wikipedia.org

(83)
(84)

 

 

 

 

الفصل الرابع

الثنائيات الضدية في التراث

الفلسفي العربي والإسلامي

(85)

اهتدى الفلاسفة إلى قانون الحركة في الوجود، وقانون التضاد في الأمر الواحد باتجاهين مختلفين، فالوجود مزدوج الحركة، يتأرجح بين مدّ وجزر، فلا اعتباط في الوجود، ويمثل التضاد جوهره.

وقد بحث الفلاسفة العرب والمسلمون في ثنائيات ضدية مختلفة تحت مسميات متعددة، وسنحاول في هذا الفصل أن نرصد جملة ثنائيات لدى عدد من هؤلاء الفلاسفة.

1 ـ الثنائيات الضدية لدى الفارابي”ت 339هـ”

1-1 - تقابل التضاد عند الفارابي

أُطلق على الفارابي لقب المعلّم الثاني بعد أرسطو، وتجعله هذه التسمية على قدم واحدة من المساواة بأرسطو، فكتب عن المدينة الفاضلة، ورويت له بعض الأشعار[1].

وتعدّ فلسفة ابن سينا، وابن رشد نتاجاً للبذور التي زرعها الفارابي، فقد تحدث عن ثنائية المادة والصورة، ونظر إلى العلاقة الداخلية التي تعمل باستقلال عن أي عامل خارجي، وهذه القوى الداخلية هي التي تحفظ وجود المادة، وتُحدِث التحولات، والتضاد، وبقاء النوع، وصيانته من الفناء[2] ويعني هذا الكلام حديثاً عن ديالكتيك العلاقة الداخلية لحركة الأشياء الطبيعية؛ أي وحدة صراع الأضداد، وبقاء المادة، وتحولها من شكل إلى آخر، فقد رأى أن كل شيء في الوجود يحتوي على ضدّه، ويكون بذلك قد اقترب كثيراً من المفهوم الهيغيلي للجدل. فالحياة تحمل بذور الموت، والموت يحمل بذور الحياة، كما أنه استشرف عدم فناء

(86)

المادة، ونستطيع أن نرى ملامح، أو نزعات مادية في فلسفته، فنراه صوفياً حيناً، فيلسوفاً مثالياً حيناً آخر، فالسعادة برأيه تكون في الحياة الدنيا، وهذه الحياة طريق لنيل السعادة القصوى في الحياة الأخرى، وتتحقق السعادة في الحياة الدنيا عن طريق الفضائل النظرية في البرهان العقلي والفكري، وباستخلاص القوانين اللازمة في معرفة ما ينفع في الحياة الاجتماعية، والفضائل الخلقية، فالسعادة هي سعادة الإنسان على هذه الأرض[1].

والتضاد لدى الفارابي هو التقابل بين أمرين وجوديين، ويكون كلّ من الأمرين طارداً بماهيته الآخر، ناظراً إليه، آبياً الاجتماع معه وجوداً. ومن أحكام التضاد أنه لا يقع بين أكثر من طرفين، فللشيء ضد واحد.[2]

1-2 - المدينة الفاضلة ومضاداتها

نعت الفارابي مدينته باسم المدينة الفاضلة في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها[3] ليميزها من المدينة الضالة، والمبتذلة وغير ذلك، فذكر خواصّ كلّ مدينة، وميولها من خير، وشرّ.

(87)

وينطلق من فكرة أن الضدّ مباين للشيء، فلا يمكن أن يكون ضد الشيء هو الشيء أصلاً، ولكن ليس كلّ مباين هو ضد، ولا كل ما لم يمكن أن يكون هو الشيء هو الضد، فالضدان في رتبة واحدة من الوجود[1].

وتبدو آراؤه مثالية، لا تنطبق على عالم أهل الأرض، فهو يريد تطبيق المثل العليا على شؤون الحياة، فيشبّه المدينة بجسم حيّ، ثم يشرع في شرح أهمية كلّ عضو من أعضاء هذه المدينة[2]، ويصل إلى نظرية عامة يطبّقها على كلّ شيء، حتى على المعايير الأخلاقية، والقواعد الأدبية والاجتماعية.

وللحكمة في مملكته حظ عظيم ـ كما هي في مملكة أفلاطون قبله ـ ويمثّل حكيمُ الفارابي زمنه، فيأتيه الوحي، وله سلطان واسع في الحكم، فتجتمع النظرة الأفلاطونية بالنظرة الفارابية، ويتكوّن من امتزاج الفكرين صورة جميلة؛ إذ يسيطر الرئيس الذي افترضه الفارابي على المدينة الفاضلة، وعليه جلب السعادة لأتباعه المرؤوسين، ولا يهتم الفاربي بشكل الحكم، بل يهتم بالسعادة، ويرى الخير فيها كما يفعل المتصوفة، وكما فعل أرسطو قبله.

ورب سائل يسأل: ما الذي دفع الفارابي إلى تخيل مدينته الفاضلة؟ ربما كانت معاصرته الأحداث الجسام التي مرّت بها الخلافة العباسية خلال الثمانين عاماً التي عاشها، وما عاناه المجتمع من جوع حداه إلى طلب السعادة الحقيقية، فوضع نظاماً فلسفياً ربط فيه بين عالم الفكر

(88)

وعالم الإنسان، وجعل السياسة غاية لفلسفته. والمدينة الفاضلة في نظره وحدة متماسكة الأجزاء تقوم على نظام مركزي دقيق.

وفي عصر الفارابي انقسمت الخلافة إلى دويلات، تحتل كلّ منها رقعة كبيرة من الأرض، وتشتمل على مدن وأقاليم كثيرة؛ لهذا الأمر كان التصور السياسي لمجتمع المدينة غريباً على الفكر الإسلامي في عصره.

ويرى تضادّ المدينة الفاضلة في صورة سلامة الأبدان، والتمتع باللذات، ويصطلح على ذلك اسم المدينة الضرورة، ويُطلق على المدينة التي تقتصر على اللذات، وتقدّم جانب الهزل واللعب اسم مدينة الخسة والسقوط، وإذا قصد أهل المدينة المدح والثناء والسمعة عبّر عن تلك المدينة بمدينة الكرامة، وإذا كانت المدينة تريد الغلبة والقهر على الآخرين سماها مدينة الغلبة، وتضادّ المدن الضالة المدن الفاضلة، وقد تعرّض إلى أهل المدن الجاهلة ، فحين ينغمس الشعب في الملذات والشهوات يفقد القيم والمدارك الكلية، ويسير في نطاق محدد تتحكم فيه الأهواء، والشهوات.

ويرى أن المدن الجاهلة الضالة إنما تحدث متى كانت الملة مبنية على بعض الآراء القديمة الفاسدة، فتتردد لديه المدن الضالة الجاهلة بين قوم رأوا الموجودات متضادة، فكلّ وجود يضادّ الآخر في إثباته لنفي الآخر، ويكون إثبات ذاته إما لدفع الوجود المضاد عنه؛ لإثباته، أو النظر إلى بطلانه، أو تستخدم الأشياء لإثبات ذاته.

ويتحدث عن الاضطرار من قبل المدينة الجاهلة على المدينة الفاضلة، فقد جعلتها خاضعة للرغبات والملذات، إذا تقبلتها النفوس صارت على وفق المدينة الجاهلة، وصار الجميع من غير تفاوت، فالضابط للأعمال القبيحة هو تقبل النفس لها، وعلى المدينة الفاضلة

(89)

أن تكافح هذه الأعمال بمقدار قدرتها على الرفض.

وعدّ الفارابي الأسرة في عداد المجتمعات الناقصة، فلم يشر إلى أهميتها بوصفها الخلية الأولى في المجتمع. والتماسك الاجتماعي في الأسرة أقوى منه في المدينة، وربما يكمن السبب في أنه وجد أن الحديث عن مجتمع الأسرة قد يقوده إلى الحديث عن النسب أو العشيرة أو القبيلة على نحو ما كان شائعاً عند العرب، وربما لتأثره بأفلاطون الذي لم يتكلم على نظام الاجتماع المنزلي، وأحلّ محله نظاماً أكثر شيوعاً، واتساعاً.

وتتميز المجتمعات الفاضلة من غيرها بالقوة: قوة النفس، قوة الاختيار، فيُنال الخير بالاختيار والإرادة، وتكون الشرور بالاختيار والإرادة، وتجتمع المدينة الفاضلة على أشياء يراد بها السعادة، ولكي تتحقق المدينة الفاضلة يجب أن يجتمع الأفراد على مجموعة من الغايات الخيّرة، ولكي تكون لديهم هذه الغايات الخيّرة لا بد أن تكون نفوسهم صالحة، والطريق الوحيدة لذلك هي قوة الإرادة التي تجعل الإنسان يختار الخير، ويترك الشر على الرغم من جاذبيته.

ويبحث الفارابي عن النفوس النقية لتسكن المدينة الفاضلة؛ لأن النقاء جزء من قوة الإرادة، وقد جعل النقاء نتيجة تربية شاقة تبدأ في الصغر، فهو ـ لديه ـ خصيصة إنسانية مرتبطة بقوة الإرادة والاختيار، فلدى البشر نقاء، لكن قلائل من يستطيعون محاربة الشرور، واختيار طريق السعادة.

والقوة لدى الفارابي ليست قوة مادية فقط، بل هي معنوية، رمزية، روحية، فهدف القوة تحصيل السعادة، ولكي يحصل الإنسان عليها لا بد أن يتحلى بالإرادة.

وتمثل القوة عند الفارابي ثنائية ضدية، فهي ليست مفهوماً سلبياً، وليست مفهوماً إيجابياً، إنها مفهوم يتشكل حسب الاستخدام، ومن

(90)

الممكن أن يحمل المعنيين، فإذا استخدمه الأفراد لتحقيق السعادة، والمدينة الفاضلة فهو إيجابي، وإذا استُخدم استخداماً مضاداً عمل على تحقيق الصراع والنزاع والبعد عن الفضيلة في المدينة الجاهلة، والفصل هنا هو الإرادة، والاختيار.

المدينة الفاضلة ـ إذن ـ هي التي يقصد منها الاجتماع، والتعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة الحقيقية[1]، فيتعاون أهلها على يبلوغ السعادة بالفكر والعمل، فقد جعل ـ كأفلاطون ـ غاية الفردوس الأرضي بلوغ السعادة والخير؛ لأن الخير غاية الكون، والإنسان.

والمدينة الجاهلة لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت في بالهم، وتقسم إلى المدينة الضرورة، يقتصر أهلها على الضروري في المأكل والمشرب والملبس، ويتعاونون لأجل ذلك فقط، ومدينة الكرامة، يتعاون أهلها على أن يكونوا مكرّمين، ممدوحين، ممجدين، معظّمين بالقول والفعل، ومدينة الخسة والشقوة، يتمتع أهلها باللذة من المحسوس، وإيثار الهزل والتعب، ومدينة التغلّب، ويكون أهلها قاهرين لغيرهم، هدفهم اللذة التي تنال من الغلبة فقط.

ومن المدن التي هي ضد المدينة الفاضلة[2]: المدينة الفاسقة التي يعلم أهلها ما يعلمه أهل المدينة الفاضلة من أسباب السعادة، ويعرفون

(91)

الله والعقل، لكن تكون أفعالهم أفعال المدينة الجاهلة، يقولون ما يقوله أهل المدينة الفاضلة، ولا يعملون به.

والمدينة المبتذلة، وقد كانت آراء أهلها وأفعالهم في القديم مماثلة لآراء أهل المدينة الفاضلة وأفعالهم لكنها تبدلت، فدخلت فيها آراء فاسدة، واستحالت أفعالهم إلى أفعال مذمومة.

والمدينة الضالة، وهي التي تعتقد في الله، والعقل الفعّال آراء فاسدة، ويكون رئيسها الأول ضالاً، يظنّ أنه يوحى إليه، وهو بعيد عن الوحي، فيغري الناس، ويخدعهم بأقواله، وأفعاله.

2ـ الثنائيات الضدية في فلسفة ابن سينا ت “427هـ”

2-1 - تقابل القضايا عند ابن سينا

تأثر ابن سينا بأرسطوطاليس لكنه عرف أنواعاً من التحليل تستجيب لمطالب التطور الذي عرفته العلوم في عصره، وهو -على الرغم من تأثره بمنطق أرسطو- لا يراه ولد معه كاملاً.

ويرى ابن سينا أن التناقض أقوى، وأوضح من التقابل؛ لأنه تقابل تام بين النفي والإثبات، فالقضيتان المتفقتان في كيفية الإيجاب والسلب، المختلفتان في الحصر تسميان متداخلتين[1] وبذلك يكتمل مربع التقابل مع ابن سينا الذي وضعه أبوليوس Apuleius في القرن الثاني الميلادي من غير أن يذكر المتداخلتين.

والتضاد هو تقابل قضيتين كليتين مختلفتي الكيف، ويكون الدخول تحت التضاد بين الجزئيتين المختلفتين في الكيف، والقضيتان المتضادتان لا تصدقان معاً، وقد تكذبان معاً، بينما القضيتان الداخلتان تحت التضاد

(92)

لا تكذبان معاً، وقد تصدقان معاً، فيقرر ابن سينا أن القضيتين المهملتين في مادة الممكن ليستا بمتضادتين، وكيف، وقد يصدق أن الإنسان كاتب، ويصدق أن يقال ليس بكاتب، فيجتمعان على الصدق.[1] وهذا حكم الجزئيتين الداخلتين تحت التضاد، ويصل إلى نتيجة أن القضية المهملة في قوة الجزئية فـ”المهملات ليست في حكم المحصورات الكلية، وإنها في حكم المحصورات الجزئية، وهي الأَولى بها أن تسمى داخلة تحت المتضادة”[2].

والقضية المهملة في حكم الجزئية لديه، فكلية الموضوع لا توجب الحكم عليه، وخلص إلى أن المهمل في حكم الجزئيتين الداخلتين تحت التضاد، فـ”لا تناقض بين المهملتين، فيبقى أن يكون التناقض بين المخصوصات والمحصورات”[3] فالنقيضان لا يكذبان معاً، ولا يصدقان معاً، ولا يتحقق التناقض إلا بمراعاة الموضوع والمحمول. فالقضية الشخصية لديه “زيد صادق” نقيضها القضية الشخصية “زيد ليس صادقاً”.

وتقتسم القضية المحصورة الموجبة الكلية، والقضية المحصورة الجزئية السالبة الصدق والكذب، والاقتسام حاصل بين الكلية السالبة، والجزئية الموجبة في كل مادة؛ أي الواجب، والممكن، والممتنع[4].

فالتناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب اختلافاً تاماً، واختلافهما في الكمية اختلافاً يلزم عنه أن إحداهما صادقة، والأخرى كاذبة، فالقضيتان المختلفتان في الكم دون الكيف تكونان صادقتين معاً،

(93)

مثل: كل إنسان حيوان، وقولنا بعض الإنسان حيوان، وتكونان كاذبتين معاً كقولنا: لا إنسان فان، وليس بعض الناس فانياً، فهذا تداخل.

 ودفع ابن سينا للحديث عن التضاد تعريفه القضايا المحصورة والمهملة، وامتحان شرائط التقابل، فالانحراف عنها يقتضي الانحراف عن التناقض، فبسط القول في الدخول تحت التضاد، وأبدع التداخل، وبحث في تقابل القضايا الشرطية، فالقضية الشرطية المتصلة الكلية الموجبة البسيطة مثلما تتألف من قضيتين حَمْليتين كليتين موجبتين تتألف كذلك من جزئيتين موجبتين، ومن كليتين سالبتين، ومن جزئيتين سالبتين، وهكذا[1] فالتقابل بين القضايا قد يكون تقابل تضاد، أو تداخل، أو تناقض، أو دخول تحت التضاد. وتجري على القضايا الشرطية قوانين تقابل القضايا الحملية ذاتها، فالمتضادتان لا تصدقان معاً، وقد تكذبان معاً، والداخلتان تحت التضاد لا تكذبان معاً، وقد تصدقان معاً، وفي التداخل إذا صدقت الكلية صدقت الجزئية معها، وإذا كذبت الجزئية كذبت الكلية معها، ولا ينعكس أحد الأمرين.

2-2 - ثنائية النفس/ الجسد عند ابن سينا

مسألة النفس من المسائل المهمة التي شغلت الفلاسفة منذ زمن الإغريق، وقد نبه سقراط Socrates على أن معرفة النفس هي الخطوة الأولى نحو المعرفة، فلا يستطيع الإنسان أن يعرف شيئاً إن لم يعرف نفسه. والنفس الإنسانية عند سقراط ظل الله في الإنسان، وجوهر الإنسان، وهي ذات طبيعة روحية إلهية، لها وجود قائم في ذاتها، من جنس مغاير للبدن، وهي القوة المحرّكة للجسم، وتستخدم النّفسُ

(94)

الجسد بإخضاعه لأوامرها، فالنفس هي الإنسان في ذاته[1].

وتحيل ثنائية نفس/ جسد لدى أرسطو على ثنائية مادة/ صورة، فالجسم مادة الإنسان، والنفس صورته، ومن المستحيل فصل المادة عن الصورة[2] فالنفس والجسد جوهران يؤلفان كائناً حياً، وهي لدى أرسطو تموت بموت الجسد خلاف أفلاطون، فالنفس تعيش في عالم المثل بعيداً عن المادة ودنسها، وجودها في الجسد بمنزلة سجن لها؛ لمعاقبتها على أخطائها.

وتمنح النفس الحياة للجسد لدى أرسطو، كما أن الصورة هي جوهر وجود المادة، فالنفس والجسد جوهران متباينان، فتتعمق ثنائية نفس/ جسد، مادة/ صورة، لدى أرسطو، وقد فصل بين طرفي الثنائية، فالنفس سيّد، وحاكم موازنة بالجسد الذي يمثل العبد، والغريزة.

وقد أخذ ابن سينا كثيراً من آرائه عن الفارابي لكنه تفوّق عليه، فتحدث عن أهمية إثبات وجود النفس فـ”من رام وصف شيء من الأشياء وقبل أن يتقدم فيثبت أنيته “وجوده” فهو معدود عند الحكماء ممن زاغ عن محجة الإيضاح”[3].

وثمة برهان طبيعي لديه يتمثل في حركة الجسم، فالإنسان يمشي مع أن له طبيعة مضادة تقتضي السكون[4] وثمة برهان نفسي، فالإنسان يتميز من غيره بانفعالاته، وقدرته على التمييز بين الخير والشر، وقدرته على الكلام.

(95)

ويعرّف ابن سينا النفس بأنها “كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري، والاستنباط بالرأي، ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية”[1].

فطوّر أفكار أرسطو حول ثنائية نفس/ جسد، لكنه فصل مفهوم الكمال عن مفهوم الصورة، فلا تموت النفس بموت البدن، ولكنها توجد قبله، فذهب مع أرسطو إلى أن النفس والجسد يوجدان في وحدة تمنح الكائن الحي الحياة. فتحدث النفس بحدوث البدن، وحدوث نفس من غير جسد تعطيل لوجود هذه النفس، ولا يوجد شيء معطل في الطبيعة، فثمة وحدة بين النفس والجسد، وتحتاج النفس إلى جسد معين؛ لتحقق وجودها، وكما أن النفس تفتقر في تشخّصها ووجودها إلى البدن فالبدن أيضاً بحاجة إلى اقترانه بالنفس، فكلاهما يوجد في تأثير متبادل، ويشغل الجسد المكان الأول في هذا التأثير، فيرى أن الحالة النفسية مرتبطة بالنشاط الفيزيولوجي للدماغ، والصحة النفسية نتيجة للصحة الفيزيولوجية للدماغ.

ولم يظهر أثر أفكار أرسطو فقط في فلسفته بل تأثر بأفكار أفلاطون، فالنفس لدى ابن سينا شيء ما أكثر كمالاً من الجسد، ليست مادية، ولا تموت بموت البدن، جوهر روحاني قائم في ذاته، مختلف عن الموجودات المادية، تغاير البدن، فالنفس ثابتة، والجسد في حال تحلل وانتقاص، والإنسان بحاجة إلى الغذاء؛ ليعوض ما تحلل من جسده، والجسد قابل للفساد، أما النفس فجوهر روحاني يفيض على الجسد المناسب له[2].

ويظهر الأثر الأفلاطوني في نظرية خلود النفس، فلا تفنى النفس بفناء الجسد عند ابن سينا؛ لأن جوهرها أقوى من جوهر البدن، وهي غير

(96)

محتاجة في وجودها إلى البدن، وحين يموت البدن تتخلص النفس منه، فإذا كان جوهر النفس كاملاً بالعلم والحكمة والعمل الصالح فإنها تذهب إلى العالم العقلي حيث تنعم بالسعادة والملذات، جوهرها عصيّ على الحسّ، سهل الظهور لدى العقل[1].

تقوم ثنائية نفس/ جسد لدى ابن سينا على أساس بين العلم والدين، وهذا ما جعله يتأرجح بين نظرية النفس عند أرسطو، وتأكيد ارتباطها بالجسد، ونظرية أفلاطون الذي أكد روحانيتها، ومغايرتها للبدن، وخلودها، فحاول أن يقرّب بين رأييهما، والرأي الديني، فظلت نظريته في النفس أرسطية في جوانب، أفلاطونية في جوانب، دينية إسلامية في جوانب أخرى.

3ـ الثنائيات الضدية بين الغزالي ت “505هـ” وابن رشد ت “520 هـ”

3-1 - مفهوم الثنائيات الضدية لدى ابن رشد

يعدّ ابن رشد من أوسع الفلاسفة المسلمين في العلوم الما ورائية، وله محاولة في الربط بين الفلسفة والشريعة في حدود تصوره لها، وقد رأى أنه إذا وجدت بعض الآيات الكريمة تضادّ الفلسفة يجب تفسيرها على وفق أن لكل آية معنيين: حرفياً للعامة، وروحياً للفلاسفة، وعلى العلماء أن يجمعوا بين الحكمة والشريعة[2].

وناقش الخلاف المتعلق بأن العالم قديم، أو محدث، ورأى أن الخلاف في هذه المسألة يعود إلى اللفظ، فهو خلاف لفظي غير جوهري،

(97)

فأوجد مسافة شبه التضاد، فالعالم مُحدَث إذا نظرنا إليه من جهة أنه معلول من الله، وقديم إذا اعتبرنا أنه وجد عن الله منذ الأزل من غير تراخ في زمن.

وقد حظيت الثنائيات الضدية بدور أنطولوجي مهم في فكر ابن رشد في مستويات الحياة كلها: الطبيعية، والمعرفية، والإنسانية، فالتضاد أساس الكون، وحركته، وتخضع المتضادات لجملة من القوانين والضوابط. [1]

وللثنائية طابع التضاد، فلا يكون التضاد إلا بين أمرين بلغا غاية الاختلاف، فينتمي المتضادان إلى نوع واحد، وهذا التضاد في الموضوع الواحد هو الذي يحيل على التكامل، وقد يتعاقب المتضادان، وقد يتوازيان، وقد يقوى أحد الطرفين المتضادين على الآخر، فيضعف الآخر، وعلى هذا يكون التضاد سبباً محدِثاً جملة من الظواهر، والأحوال.

يرى ابن رشد ـ على سبيل المثال ـ ان المرض مضادّ للصحة؛ لأن المؤلم هو الضد لا الشبيه[2] والصحة اعتدال بين المتضادات، والمرض اختلال الاعتدال بين المتضادين، وهذا التناوب الضدي هو الذي يشهد أن الجسم يتمتع بالحياة، فالمرض موجود في جوهر الكائن الحي.

ويعطي ابن رشد أهمية خاصة للكيفيات الأربع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، فهي أسباب تولِّد الكائنات التي يجري عليها الكون والفساد كلها[3] فالهواء إذا استحال من قبل الحرارة عاد ناراً، وإذا استحال من قبل البرودة عاد ماء[4].

ويرى أن صناعة الطب قادرة على فعل المتضادين معاً، فهي تفعل

(98)

الصحة والمرض[1] خلاف القوى الفاعلة غير الناطقة التي لا تستطيع أن تفعل بالذات سوى ضدّ واحد، أو فعل واحد، فالحارّ يفعل تسخيناً فقط، وليس يفعل الضدَّ الآخر الذي هو التبريد[2].

ويقبل العقل عنده الصورتين المتضادتين، وكأنهما صورة واحدة، ولعل السبب في ذلك راجع إلى أن جذر المتضادين واحد، وهو الجنس الذي ينتسبان إليه نسبة متساوية[3].

ويرى أن الصور المتضادة الموجودة في النفس هي بنحو صورة واحدة، ولذلك قبلت النفس الصور المتضادة، ويرى استحالة فعل الضدين في وقت واحد؛ لاستحالة الجمع بين المتضادين، ولو كانت صناعة الطب تفعل الشيء وضده على حد سواء كالصحة والمرض لصارت حقيقة هذه الصناعة متضادة، وهو أمر مستحيل، فالشيء لا يكون ضدّ نفسه، وتميل النفس إلى فعل أحد الضدين في وقت ما دون ضده[4].

ودعا إلى الشفاء بالمتضادات بحكم نظرته إليها بوصفها قوى طبيعية؛ ولأنه رأى أن التوازن الضدي بين المكونات العنصرية والخلطية أهم ما يميز حقيقة الصحة، والفعل الضدي هو الذي يُحدث التوازن.

وفي سياق آخر تحدث ابن رشد عن ثنائية ذكورة/ أنوثة، فقد آمنت الفلسفة الرشدية بوحدة العقل، وكان لزاماً عليها أن تؤمن بوحدة الإنسان؛ أي المساواة بين الرجل والمرأة، فينظر إلى الإنسان بوصفه إنساناً، لا بوصفه رجلاً، أو امرأة. لكن هذه الوحدة لا تلغي الاختلاف بين الرجل

(99)

والمرأة، وهو اختلاف تقابلي ضدي، لكن هل هو تضاد تكاملي؟.

لا يمكن أن يكون الإنسان رجلاً، ولا امرأة؛ لأنه هو أصلهما من جهة التساوي، والعلاقة بين الطرفين علاقة العلة بالمعلول، فلمَ لا يكون الذكر نوعاً، والأنثى نوعاً آخر؟ فيخالف الذكر الأنثى بالنوعية؛ إذ كان الذكر ضد الأنثى، والخلاف بالضدية خلاف بالنوع، فلا يرى فرقاً بينهما على الرغم من تضادّ الجنس الذي ينتمي إليه كل منهما، فهذا الاختلاف ليس جوهرياً، بل هو عرضي.

ويرى أن المساواة بين الرجل والمرأة نظرياً لا تكفي، بل لا بد من تفعيلها على المستوى العملي، فللرجل والمرأة عقل واحد، والتفاوت بينهما تفاوت عرضي، ويمكن بنظره أن تكون المرأة حاكمة، ومحبّة للحكمة في المدينة العادلة[1].

3-2 - ثنائية عقل/ نقل بين ابن رشد والغزالي

يقصد بالعقل والنقل الأدلة العقلية، والأدلة النقلية: الكتاب والسنة، وينطلق ابن رشد من فكرة أن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح حيناً، ويخالفه حيناً آخر، فقد وفّق بين الحكمة والدين، وتعارض مع الغزالي، ومن أقواله المشهورة: “الحق لا يضادّ الحق، بل يوافقه، ويشهد له”[2].

لا بد إذن من خلق انسجام بين معطيات العقل، ومعطيات الإيمان،

(100)

ما هو عقلي، وما هو إلهي، فيرى في قوله تعالى: “فاعتبروا يا أولي الأبصار”[1] دعوة صريحة إلى إعمال العقل، وتفعيله في فهم الكون وموجوداته التي هي خير دليل على وجوده[2].

وقد اعتمد ابن رشد على القياس البرهاني الذي يعرفه خاصة من الناس، ومن بينهم الفلاسفة والعلماء، والقياس الجدلي الذي يخص المتكلمين، فتستعين به الفرق الكلامية في البرهنة، والقياس الفقهي الذي يتم بحمل الفرع على الأصل لعلة مشتركة بينهما، لكنه فضّل القياس البرهاني[3] فنستطيع بالقياس البرهاني أن نصل إلى حقيقة الواجد من خلال موجوداته، ويخص هذا النوع الفلاسفة، وعلماء الدين.

ويرى أن فلسفة الأولين خادمة للشريعة، لا مضادّة لها[4]، فالفلسفة والدين يتكاملان، وما عجز العقل عن فهمه وبيانه تم تفسيره بالوحي. لكنّ للشريعة ظاهراً وباطناً، فالظاهر هو الواضح من غير حاجة إلى تفسير، والباطن ما يحتاج إلى تأويل، وهنا لا بد من إعمال العقل، وهو عمل الفلسفة.

فيعتز ابن رشد بالعقل الإنساني، والعلاقة بين العقل والنقل علاقة تكامل لديه، في حين يؤكد الغزالي أن العقل والنقل مترابطان، ولا يميل إلى العقل[5] كما يفعل المعتزلة والفلاسفة، ولا يتعسف في التأويل، ولا يقف عند ظاهر التأويل، بل يأخذ موقفاً وسطاً بين العقل، والنقل[6].

(101)

عارض الغزالي الفلاسفة الأولين في مسائل متعددة رأى فيها تناقضاً مع النص الديني، واختلفا في مسألة قِدَم العالم، ومسألة الأسباب والمسببات، ومسألة إنكار الفلاسفة البعث، والجزاء الأخروي.

وقد تحدث الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة عن خطأ الفلاسفة الذين أقرّوا بأزلية العالم، وأبديته، وهو ما أنكره الغزالي؛ لأنهم ربطوا أزلية العالم بأزلية الله، ما يعني -من وجهة نظره- أن فناء الكون فناء لله، والله لا يحده زمان، ولا مكان.[1]

ويردّ عليه ابن رشد الذي يدافع عن الفلاسفة، فهو يقرّ بقدم العالم، ولكن هذا لا يعني أنه يسلّم بمزامنته لله في الوجود؛ أي إنه ينفي صفة الزمان عن الخالق، ما يعني أن العالم حادث عن الله تعالى، وهو من أوجده.[2]

الغاية الأساسية من كتاب تهافت الفلاسفة مهاجمتهم، فقد أراد إثبات التناقض بين ما قدمه الفلاسفة أمثال الفارابي، وابن سينا، والشريعة، فهدفُ تهافت الفلاسفة إبطال ما تقدم به الفارابي، وابن سينا في فلسفتيهما[3]، لكنّ ابن رشد كان مناصراً للفلسفة، والفلاسفة، فردّ بـ”تهافت التهافت” الذي معناه التناقض ـ حسب الغزالي ـ فقصد إلى تناقض التناقض، وهدفه نفي الأفكار التي تقدّم بها الغزالي، وهدم بها أفكار ابن سينا، والفارابي، وقبلهما أرسطو.

(102)

4- الأدب الفلسفي والثنائيات الضدية

4-1- الشعر الفلسفي: عينية ابن سينا أنموذجاً

صوّرت قريحة الشاعر الفيلسوف ابن سينا ثنائية النفس، والجسد. فالجسد بعد فراق الروح يغدو طللاً، والعناصر الطبيعية الأربعة “الحرارة، والرطوبة، والبرودة، واليبوسة” تهبّ على مادة الجسد فتنطمس المعالم الأولى، ويتشوه، وتتنكّر الروح له، فالروح خالدة، تروح وتغدو، ولا تتحلل، وتفنى كالجسد.

لاحظ ابن سينا أن النفس والجسد يمثلان وحدة، وتصدر الظواهر النفسية والعقلية عنهما معاً، وكانت له شخصيته المستقلة حين عمل على إثبات النفس الإنسانية، ومغايرتها الجسم، وهي براهين لم يسبق إليها، ومهّدت لمن جاء بعده من فلاسفة العصر الحديث.

كما لاحظ أن الظواهر النفسية تستلزم المادة، ولا تتم إلا فيها فـ”اسم النفس لا يقع عليها من حيث جوهرها بل من حيث هي مدبّرة للأبدان، ومقيسة إليها، فلذلك يؤخذ البدن في حدّها، كما يؤخذ مثلاً البناء في حدّ الباني، وإن كان لا يؤخذ في حدّه من حيث هو إنسان؛ ولذلك صار النظر في النفس من العلم الطبيعي؛ لأن النظر في النفس من حيث هي نفس نظر إليها من حيث لها علاقة بالمادة، والحركة”[1]

وقسّم النفس إلى نباتية، وحيوانية، وإنسانية، وبحث علم المعاد لديه في بقاء الروح بعد فناء الجسد، والثواب والعقاب غير البدنيين، فهنالك لذات وسعادات عقلية تتمتع بها النفس المطمئنة بعد الموت ثواباً على تقواها، وإدراكها الحق.

(103)

وقد جمع ابن سينا هذه الشذرات الفلسفية في قصيدته العينية عن النفس، وفيها يقول[1]:

هبطت إليكَ من المحلّ الأرفعِ         ورقاءُ ذاتُ تعزّزٍ وتمنّعِ

ثنائية عالم علوي روحي/ عالم سفلي مادي:

كانت النفس تحيا في عالم علويّ «محلّ أرفع» وهو لدى أفلاطون عالم المثُل، وقد هبطت لتُحبَس في قفص مظلم مضادّ لطبيعتها، هو الجسد، فلا تنتمي إلى العالم المادي، لقد هبطت من عالم الروح حين تهيّأ لها الجسد الذي ستحلّ فيه، فالنفس مقابل الجسد، هي جوهر روحي غني عن الجسد الذي حلّت فيه، ويتعين على ذلك أن الجسد والروح جوهران متضادان، ولأن النفس مباينة للجسد، ومضادة له تعززت، وتمنّعت عن ملامسته، وممازجته، فمن كان على هذا القدر من السموّ في عالمه يتمنع عن ملامسة الضدّ، وملازمة عالم الكون والفساد، فالجسد يتعرض للأذى والفساد؛ ذلك أنه يتحلل، ويفنى.

وقد شبّه ابن سينا النفس بورقاء؛ أي بحمامة رمادية اللون، ومهما اختلفت التفسيرات حول لجوئه إلى رمز الورقاء فمن المعروف عن الحمام أنه يستأنس بالبشر، وقد أكثرت العرب من ذكر الحمائم في أشعارها، وللحمام حضور في الإرث الأسطوري، وله رمزية خاصة.

(104)

وقد التقى ابن سينا أفلاطون الذي شبّه النفس بطائر حبيس في قفص، يتوق إلى الخلاص منه[1]

محجوبةٌ عن كلِّ مقلةِ عارفٍ     وهي التي سفَرَت ولم تتبرقعِ

ثنائية احتجاب النفس/ سفورها:

النفس محتجبة عنا من جهة ماهيّتها، لكنها ظاهرة بأفعالها وصفاتها، فهي تتلذذ، وتتألم، وتحبّ، وتكره، وتحسّ، وتعقل، لكنها محجوبة لسرّ إلهي، فقد تجلّت بصفاتها، واحتجبت بماهيّتها.

ونستدلّ على النفس من صفاتها، وأفعالها؛ ذلك لأنها جوهر روحي متجرّد من المادّة، فلا يقوى الحسّ، أو العقل على إدراك كنهها، فهي مجردة تجرُّد مصدرها: الذات الإلهية.

وصلت على كرهٍ إليك وربما       كرهت فراقَك وهي ذاتُ تفجُّعِ

أنِفَت وما ألِفَت فلما واصلَت      أَنِسَت مجاورةَ الخرابِ البلقعِ

ثنائية نفور/ حب:

وصلت النفس إلى الجسد كارهة له، ونافرة من وصاله، لكن بعد أن أنست إليه تألمت لفراقه، فهي تدخل الجسد كارهة، وتخرج منه كارهة، لقد كرهت فراق عالمها العلوي النوراني إلى عالم الظلمات والقيد، فهذا الجسد مضادّ لطبيعتها، وطبعها، فهو خراب بلقع، لكن بعد ذلك اشتدت العلاقة بين النفس والجسد، وحدثت الألفة، فشُغفت به؛ فهو تيتح لها تحصيل لذّات لا سبيل لها من غيره، فكرهت فراقه بعد أن كانت تكره

(105)

وصاله. لقد رحلت من عالم علويّ إلى عالم سفلي، كرهت التعلق بالجسد، ثم أحبته، تتعلق به، ثم تفارقه، وتعود إلى موطنها الأصلي بعد أن تخلصت من قيود الجسد.

وأظنّها نسيت عهوداً بالحمى       ومنازلاً بفراقها لم تقنعِ

ثنائية القِدَم/ الحدوث:

تكره النفس الجسد، وتتفجّع عليه؛ لحرمانها من الملذات التي ألفتها بمجاورته مع أن في الفراق خلاصاً لها، وخروجاً من الظلمات إلى النور، وعودة إلى العالم النوراني العلويّ الكامل، لكنّ أنسها بالجسد أنساها عالمها العلوي، فالروح قديمة أزلية قبل هبوطها، حادثة زمنية بعد هبوطها، فهي جوهر وصورة في وقت واحد. ويعدّ هذا الكلام محاولة للتوفيق بين رأي أرسطو القائل بحدوث النفس، وأفلاطون القائل بقِدمها، فهي جوهر قديم يستغني عن الجسد في العالم العلوي، لكنها صورة حادثة في تعلّقها بالجسد، فحدوث النفس لدى ابن سينا هو تعلّقها بالجسد بعد هبوطها إليه، ويعني هذا الكلام أن وجودها في البعد الثالث -بعدنا- مرتبط بوجود الجسد.

حتى إذا اتصلت بهاءِ هبوطِها           فيميمِ مركزِها بذاتِ الأجرُعِ

علقت بها ثاءُ الثَّقيلِ فأصبحت         بينَ المعالمِ والطّلولِ الخُضَّعِ

تضاد الحروف، ثنائية انفصال/ اتصال:

هبطت النفس من هـ رمز الهبوط، أعلى، إلى أدنى، من م رمز المركز الذي انفصلت منه إلى ث الثقيل، وهو الجسم الثقيل، فهو من الطين، والتراب. فثمة انفصال من المركز إلى مركز الثقل/ الجسد، ومن ذات الأجرع: المكان الفسيح إلى المكان المقيّد. والثقيل هو جسد الإنسان،

(106)

وهو ثقيل؛ لأنه من التراب، وهو أثقل العناصر الطبيعية، والمعالم والطلول الخضّع هي مواضع الأحياء، وآثارهم التي تساقطت بعضها في إثر بعض.

وتعني علاقة ثاء الثقيل بالجسد أن ذلك تكليف، وهو سرّ من أسرار الألوهية، فالروح تسمو، والجسد يهبط.

تبكي إذا ذكرَتْ عهوداً بالحمى       بمدامع تهمي ولم تتقطّعِ

وتظلّ ساجعةً على الدِّمن التي      درسَتْ بتكرارِ الرياحِ الأربعِ

ثنائية السعادة/ البكاء:

حين علِقتْ ثاءُ الثقيلِ بالروح وقعت في شرك شهوات الجسد، فأصيبت بالانكسار، والخضوع للذات، وشُغِلت بمتاعِ الدنيا، ونسيت عهودها التي أخذها الله عليها قبل أن تهبط إلى عالمنا السفلي، لكنها حين تصحو من سكرتها، وتتذكّر عالمها الأصلي تبكي ألماً وحسرة على نسيانها، وهي تعلم أن سعادتها في معادِها، ومنزلتها في الآخرة بقدر اكتسابها الفضائل في الدنيا؛ لذا تبكي نادمة على مقامها في الجسد الذي عصفت به الرياح، وتعاقب عليه الزمن.

إذ عاقَها الشَّرَكُ الكثيفُ وصدّها         قفصٌ عن الأوجِ الفسيحِ المَرْبَعِ

ثنائية الحرية/ القيد:

في انفكاك الروح عن الجسد فكاك لها من شوائب المادة، وتحرر من قيود الحس إلى حيث تسبح في الفضاء اللا متناهي، فإغواء الدنيا قفص، والجسد بمنزلة القفص للروح كالقفص للطير القنيص، ولا تستطيع مغادرته إلا إذا أراد واضعها ذلك، ومع أنه قفص تجد الروح فيه نوافذ تسمح لها بإرسال الفكر إلى أرجاء الكون، ومنافذ الروح إلى الوجود هي

(107)

الحواس، والعقل، تقتنص بوساطتهما أسرار الوجود. 
إن النفس لدى ابن سينا حمامة كانت تحلّق بحرية، ثم هبطت إلى قفص الجسد، حبست فيه وامتنعت عن السمو إلى العالم النوراني، وهو قفص مضادّ لطبيعتها. 

حتى إذا قَرُبَ المسيرُ إلى الحمى      ودنا الرّحيلُ إلى الفضاءِ الأوسعِ

وغدتْ مفارقةً لكلِّ مخلّفٍ              عنها حليف التّربِ غير مشيَّعِ

ثنائية حياة النفس/ فناء الجسد: 

ترتبط الروح بالجسد ارتباطاً وثيقاً، وحين يحين الفراق تقطع ما بينه وبينها من صِلات وأسباب، فيغدو الجسد كتلة مادية معطّلة، فتتحرر إلى العالم الفسيح تاركة الجسد خراباً وتراباً، إنها فرحة بنجاتها وخلاصها، لكنها حزينة على الفراق والرحيل، فالموت هو الغاية القصوى للنفس؛ لأن فيه خلاصها. 
هجعتْ وقد كُشِفَ الغطاءُ فأبصرت          ما ليس يُدرَكُ بالعيونِ الهُجَّعِ

ثنائية النوم/ اليقظة: 

يعبر ابن سينا عن هذه الثنائية بالهجوع، وكشف الغطاء، فحين يزول حجاب البدن ينكشف الغطاء، وتدرِك ما كان يستحيل عليها إدراكه في حال الاتصال به، فحين تتلبّس الأرواحُ الأجسادَ تكون هاجعة، وحين تكون عالقة بالأبدان تكون محجوبة عن الإدراك الذي تحصّله النفوس المجرّدة، كما يحتجب النائم عن إدراك ما يدركه اليقظان، فحين تفارق الروح الجسد تكشف عن بصيرتها غطاء كان حائلاً بينها وبين الروح الإلهية، وحين تفارق البدن تتخلص من أغلالها، وتبصر أسرار الحقّ، وتكتشف أنها حين كانت هاجعة في أغلال الجسد كانت غافلة، راقدة. 

(108)

وغدت تغرِّدُ فوقَ ذروةِ شاهقٍ      والعلمُ يرفعُ كلَّ مَنْ لم يُرفَعِ

ثنائية المادة/ الصورة، أو المادة/ العقل:

غدت الحمامة تغرّد في أعلى الشجرة بعد أن تخلّصت من قيودها، وكُشف الغطاء عنها، فحين تنفض عنها القيود تتجرد من قيود المادة، وتصبح عنصراً عقلياً صرفاً مبرّأً من حاجات البدن، ترتفع إلى الأعلى بعد أن كانت حاجات البدن تجذبها إلى أسفل، فتتصل بالعالم الروحاني المجرّد، وتشعر بالسعادة بسبب الاتصال به، وقد اكتسبت من العلم حظاً وافراً، فالعلم كفيل أن يرفع من شأن من يكون في الحضيض الأسفل. ويُطلب العلم؛ لأنه أصل السعادة في الدنيا والآخرة، فكمال النفس الإنسانية يكون بالعلم.

فلأيِّ شيءٍ أُهبِطت من شامخٍ      عالٍ إلى قعرِ الحديدِ الأوضعِ

إن كانَ أرسلها الإلهُ لحكمةٍ         طويَتْ عن الفذِّ اللبيبِ الأروعِ

فهبوطُها إن كان ضربةَ لازبٍ         لتكونَ سامعةً بما لم تسمعِ

وتعود عالمةً بكلِّ حقيقةٍ             في العالمين فخرقُها لم يُرقَعِ

ثنائية الجهل/ العلم:

ما الحكمة في هبوط الروح إلى الجسد زمناً، ثم فراقها إياه؟ ولمَ العناء إذا كان مصيرها في النهاية العودة إلى عالمها النوراني؟

إنه لسؤال وجودي محيّر، وإن العقل بطاقاته المحدودة لعاجز عن الإجابة، فهو مقيّد، ومحدود، فكيف يدرك غير المقيّد، وغير المحدود؟ إن هنالك حكمة مخفية عن البشر، فإن كان الله قد ألزمها بالهبوط لحكمة فلعلها توَفَّقُ إلى اكتساب المعرفة في العالم الأرضي، واستيفاء أسباب

(109)

الكمال، فقد كانت في أولى مراحلها جاهلة، غافلة، فأهبطها؛ لتسمع ما لم تكن تعرفه من العلوم والأخلاق عن طريق الحواس، والعقل.

ومهما حصّلت الروح من ضروب العلم في هذه الحياة فهي قاصرة، فلا تنتهي العلوم عند حدّ، وحتى لو تمكنت من التحصيل فالمدة التي تقضيها في الجسد لن تكفي، لقد هبطت لكي تتعلق بالبدن، وتتخذه وسيلة إلى الكمال شرط أن تكون من أصحاب الفضيلة، والخير.

لكنّ الروح في الملأ الأعلى ناقصة، والملأ مجرّد كامل، فكيف يتفق ذلك؟ إن عالمنا مزيج من الخير والشر، فكيف تنشد الروح الكمال في الأرض؟ وهل يكون الشرُّ وسيلة إلى الخير؟

لقد جُعِل التراب حاملاً الذرة اللطيفة الربانية، وقد أودِع قلبُ الإنسان نور العرفان على الرغم من إفساده في الأرض.

وهي التي قطعَ الزّمانُ طريقَها      حتى لقد غَرَبت بغيرِ المطلعِ

فكأنها برقٌ تألّق بالحِمى                 ثمَّ انطوى فكأنه لم يلمعِ

ثنائية اللذة الروحية/ اللذة الجسدية:

قد تغفل النفس عن اللذات الروحية مقابل اللذات الجسدية، وتقصّر في تحصيل العلم، لكنّ مرور الزمن يوهن الجسد، فلا تعود قادرة على بلوغ مآربها من اللذات، فقد تعلقت بالجسد، ونسيت عالمها الأصلي الذي هبطت منه، وحين فارقت الجسد ظهر لها التضاد بين الموطنين، من ثبات إلى تغير، ومن كمال إلى نقصان، ومن معقول إلى محسوس. فالنفس في الجسد برق خاطف مهما طال زمن بقائها فيه، فهذا الزمن قصير قياساً إلى الزمن الكوني، وحياة الإنسان وميض برق يختفي سريعاً.

إن مراد النفس أن تبلغ حدّ الكمال، لكنّ الزمن لم يمهلها، وهي لم

(110)

تظفر بشيء لكنها لمغ تفقد كلّ شيء، فلم تغرب كما أشرقت، بل عرفت النعيم الذي يكون لها لو بلغت الكمال، ويكفيها هذا لمتابعة السير.

ويثار هنا سؤال: لم هبوط الروح للوصول إلى كمالها، ثمّ فصلها قبل أن تصل؟ يلتقي ابن سينا هنا فلسفة أفلاطون، فقد كانت النفس تسبح في عالم المثل الصافية، فإذا دخلت الجسد انفصلت عنه، ثم تعود من حيث أتت.

لكن ابن سينا يخالف أفلاطون في زاوية، فالنفس لديه لم تفارق عالمها نتيجة ذنب اقترفته، بل تعود إلى عالمها لتعود مرة أخرى إلى العالم الأرضي، وهي الفكرة التي نظر إليها أفلاطون على أنها وسيلة لكي تتخلص النفس من آثامها.

4-2 - ثنائية السؤال والتساؤل في أدب أبي حيان التوحيدي «414هـ» الفلسفي

يعدّ كتاب الهوامل والشوامل[1] لأبي حيان التوحيدي أثراً فريداً في الأدب العربي، وجّه فيه التوحيدي أسئلة إلى الفيلسوف مسكويه شملت مظاهر الحياة، وهموم الإنسان، أطلق عليها اسم «هوامل»؛ أي الإبل السائمة المتفرّقة، التي يهملها صاحبها، ويتركها ترعى، وأجابه مسكويه بإجابات سمّاها «شوامل» وهي التي تضبط الإبل، فتجمعها. ولعلّ أبا حيان التوحيدي هو من وضع عنوان الكتاب، وهو يشتمل على ثنائية ضدية، فالأسئلة منسوبة إلى أبي حيّان، والإجابات منسوبة إلى الفيلسوف مسكويه، وكان مسكويه قد أجاب أبا حيان مشافهة، لكنّ ذكاء أبي حيان، وقدرته الفائقة على التدوين جعلاه يلتقط هذا الأثر الفريد.

يعرض أبو حيان تساؤلاته حول مظاهر الحياة، وهموم الإنسان،

(111)

والأمور الغريبة في سلوك الناس، فأرسل أسئلة غزيرة إلى مسكويه، فغدت كالإبل المسيّبة، وأتت الشوامل إجابات ضابطة، ومحيطة لما في نفس السائل. يقول أبو حيان:

«لمَ قبح الثناء في الوجه حتى تواطؤوا على تزييفه، ولم حسُن في المغيب حتى تمنى ذلك بكلّ معنى؟ ألأن الثناء في الوجه أشبه الملق والخديعة، وفي المغيب أشبه الإخلاص والتكرمة أم لغير ذلك؟

قال أبو على مسكويه -رحمه الله-: لما كان الثناء في الوجه على الأكثر إعارة شهادة بفضائل النفس، وخديعة الإنسان بهذه الشهادة حتى صار ذلك ـ لاغتراره وتركه كثيراً من الاجتهاد في تحصيل الفضائل، وغرضُ فاعل ذلك احتراز مودة صاحبه إلى نفسه بإظهار مودته له، ومحبته إياه- صار كالمكر والحيلة، فذُمَّ وعيب.

فأما في المغيب فإنما حسُن لأن قصد المثني في الأكثر الاعتراف بفضائل غيره، والصدق عنه فيها. وفي ذلك تنبيه على مكان الفضل، وبعث للموصوف والمستمع على الازدياد والإتمام، وحضّ على أسبابه وعلله، وربما كان القصد خلاف ذلك، أعني أن يكون غرض المثني في المغيب التعقُّلَ، ولفظة العقل شبيهة بذلك؛ لأنه من العِقال، وكذلك الحِجْر.»[1]

يصوغ أبو حيان السؤال في ثنائية ضدية، فيقابل موقفاً بموقف، أو حالة بحالة، أو يفرّغ حالة من حالة، فيتعمق في سؤاله، فيبدو السؤال أكثر عمقاً من الجواب، ويبدو مؤمناً بثقافة السؤال[2].

(112)

«ما سبب من يدّعي العلم، وهو يعلم أنه لا علم عنده؟ وما الذي يحمله على الدعوى، ويدنيه من المكابرة، ويحوجه إلى السّفه والمهاترة؟

قال أبو علي مسكويه -رحمه الله-» سبب ذلك محبّة الإنسان نفسه، وشعوره بموضع الفضيلة، فهو لأجل المحبة يدّعي لها ما ليس منها. لأن صورة النفس التي تحسن، وعليها تحمد، ومن أجلها تسعد هي العلوم والمعارف. وإذا عرّيت منها، أو من جلّها حصلت له من المقابح، ووجوه الشقاء بحسب ما يفوتها من ذلك.

ومن شأن المحبة أن تغطّي المساوئ، وتظهر المحاسن إن كانت موجودة، وتدّعيها إن كانت معدومة. فإن كان هذا من فعل المحبة معلوماً، وكانت النفس محبوبة لا محالة عرض لصاحبها عارض المحبة، فلم ينكر ادّعاء الإنسان لهذه المعارف التي هي فضائلها ومحاسنها، وإن لم يكن عنده شيء من ذلك»[1].

ويعبّر السؤال عن رغبة في علم شيء مجهول، أما التساؤل فهو أسلوب تعلّم، وكان التوحيدي مولعاً بثقافة السؤال والتساؤل، فأدبه أدب فلسفي طافح بالأسئلة، والتساؤلات.

ويرتبط السؤال والتساؤل بفلسفة يصدران عنها، ويدوران في فلكها، ويعبّر السؤال عن استفهام مباشر يثيره أمام مسكويه، وينتظر إجابة عنه، أما التساؤل فهو سؤال لنفسه، ويبدو عالماً بالجواب، عميقاً فكرياً، لدرجة أن قارئ الهوامل والشوامل يشك أنه هو واضع الأسئلة، والإجابات.

وتكون الأسئلة عادة أدنى مستوى من الإجابات، لكننا واجدون فيها نضجاً فكرياً عميقاً يتجاوز مستوى باحث عن المعرفة، فيبدو التوحيدي على دراية تامة بموضوعه. وقد اختار مسكويه، وهو شخصية مشهورة؛

(113)

ليحمّلها فكره الخاص، وبملاحظة السؤال والإجابة يتضح التشابه الفكري.

وقد أثار التوحيدي السؤال مع مسكويه، ونجد التساؤل مع السجستاني، وهو من كبار المثقفين في عصره، فاستغلّ اسم السجستاني؛ ليقدّم تصوراته، وآراءه في مجالات المعرفة، والثقافة في عصره.

ونجد شبهاً بين ما فعله التوحيدي وما فعله أفلاطون سابقاً مع أرسطو أستاذه، فأسئلة التوحيدي التي وجّهها للسجستاني تساؤلات تقنعت تحت اسم السجستاني كما فعل أفلاطون في محاوراته مع سقراط.

وربما يكون في تخفي التوحيدي تحت شخصيتيّ مسكويه والسجستاني شعور بالخشية من مواجهة الآراء التي تخالفه في مجتمعه، وربما يكمن السبب في الرغبة في تقديم أسلوب جديد يخلخل الأسلوب الجامد في ثقافة عصره.

ولا تكون الإجابات مهمة بالقدر الذي توجد فيه الأسئلة والتساؤلات، فتغوص الأسئلة في قضايا فكرية وفلسفية عميقة، وتختلف الإجابات في السطحية والعمق.

ويقوم كتاب المقابسات[1] للتوحيدي على الحوار، والسؤال، والتساؤل، فمعنى المقابسات أن يشترك اثنان أو أكثر في محاورة علمية، أو فلسفية، فيقتبس أحدهما المعرفة من الآخر، ويعطيه ما عنده منها. وفي مقابسات التوحيدي محاورات، وآراء، واختيارات، ومحاضرات في موضوعات فلسفية، وعلمية، ولغوية، وأغلب هذه الأحاديث جرت عند أستاذه أبي سليمان السجستاني، فهو إما ان يكون سائلاً، أو مسؤولاً.

-«قلت لأبي سليمان: ما الفرق بين طريقة المتكلّمين وطريقة

(114)

الفلاسفة؟ فقال: ما هو ظاهر لكل ذي تميز وعقل وفهم، طريقتهم «يعني المتكلمين» مؤسسة على مكاييل اللفظ باللفظ، وموازنة الشيء بالشيء إما بشهادة من العقل مدخولة وإما بغير شهادة منه البتة. والاعتماد على الجدل، وعلى ما يسبق إلى الحس، أو يحكم به العيان.. والفلسفة أدام الله توفيقك محدودة بحدود ستة، كلها تدلك على أنها بحث عن جميع ما في العالم مما ظهر للعين، وبطن للعقل ومركب بينهما، ومائل إلى حد طرفيهما، على ما هو عليه. واستفادة اعتبار الحق من جملته وتفصيله، ومسموعه ومرئيه، وموجوده ومعدومه، من غير هوى يمال به على العقل، ولا إلف يفتقر معه إلى جناية التقليد. مع إحكام العقل الاختياري، وترتيب العقل الطبيعي..»[1].

-«قلت لأبي سليمان: إني أجد بين المنطق والنحو مناسبة غالبة، ومشابهة قريبة، وعلى ذلك فما الفرق بينهما، وهل يتعاونان بالمناسبة، ووهل يتفاوتان بالقرب فيه؟

فقال: النحو منطق عربي، والمنطق نحو عقلي، وجلّ نظر المتلقي في المعاني، وإن كان لا يجوز له الإخلال بالألفاظ التي هي لها كالحلل والمعارض، وجل نظر النحوي في الألفاظ، وإن كان لا يسوغ له الإخلال بالمعاني التي هي لها كالحقائق والجواهر.»[2].

هل كلام التوحيدي سؤال، أو تساؤل؟ إنه تساؤل في صيغة سؤال؛ ذلك أنه ينتصر للعقل، لا للوجدان، واختياره المحاورة أمر ناجم عن ثنائية ضدية، فيعرض الرأي والرأي الآخر في أسلوب فني، وحرية فكرية موفقاً بين الآراء الفلسفية والصوفية. إنه متآلف مع الاختلاف، وهو الذي يقول عن نفسه:

(115)

«أما ترى طبيعتي في تحفّظي؟ أما ترى رقدتي في تيقّظي؟ أما ترى تفرّقي في تجمّعي؟ أما ترى غصّتي في إساغتي؟ أما ترى دعائي لغيري مع قلة إجابتي؟ أما ترى ضلالي في اهتدائي؟ أما ترى رشدي في غيّي؟ أنت ترى ضعفي في قوتي..»[1]

إنها ثنائية الذات الإنسانية، فهو يجمع بين الحالات المتضادة، ويرى التكامل في اجتماع المتضادات.

إن الأساس الفلسفي هو الذي ارتبط باللغة والنقد، فللاتجاهات النقدية الكبرى أسس فلسفية، وكان معظم النقاد فلاسفة، وسيتم التوسع لاحقاً في هذه الفكرة. فكيف تجلى الأساس الفلسفي في المدارس النقدية القائمة على تضاد الثنائيات؟

(116)

المصادر والمراجع

-القرآن الكريم

- أرسطوطاليس: 1949، كتاب النفس، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، المركز القومي للترجمة، مصر

- الأصفهاني الغروي، الشيخ محمد حسين: د.ت، تحفة الحكيم، منظومة في الحكمة وللعقول، قدّم لها ودققها: الشيخ محمد رضا المظفر، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث

- التوحيدي، أبو حيان: 1982، الإشارات الإلهية، تحقيق: وداد القاضي، دار القاضي للثقافة، بيروت

- التوحيدي، أبو حيان: 1992، المقابسات، ط2، حققه حسن السندوبي، دار سعاد الصباح، الكويت

- التوحيدي، أبو حيان: 1951، الهوامل والشوامل، تحقيق: أحمد أمين والسيد أحمد صقر، القاهرة.

- خليف، فتح الله: 1974، ابن سينا ومذهبه في النفس، دار الاحد «البحيري إخوان» جامعة بيروت العربية، بيروت

- ابن رشد: 1973، تفسير ما بعد الطبيعة، تحقيق: ج. بويج، المطبعة الكاثوليكية، بيروت

-ابن رشد: 2002، تلخيص السياسة، تحقيق: حسن مجيد العبيدي، وفاطمة كاظم الذهبي، دار الطليعة، بيروت.

-ابن رشد: د.ت، تلخيص كتاب الإسطقسات، لجالينوس ضمن رسائل ابن رشد الطبية

(117)

-ابن رشد: 1964، تهافت التهافت، ط1، تحقيق: سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة

-ابن رشد: د.ت، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق: محمد عمارة، ط3، دار المعارف، القاهرة

-ابن رشد: 1319 هـ، الكشف عن منهاج الأدلة في عقائد الملة، ط1، المطبعة الحمادية، مصر

-ابن سينا: 1952، أحوال النفس، حققها وقدم لها: أحمد فؤاد الأهواني، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة

-ابن سينا: 1960، الإشارات والتنبيهات. المنطق، نشرة سليمان دنيا، دار المعارف، مصر

-ابن سينا: 1957، الديوان، تحقيق: د. حسين علي محفوظ، نشر اجتماع المستشرقين الدولي، طهران

-ابن سينا: 1970، الشفاء. العبارة، تحقيق محمود الخضري، وزارة المعارف العمومية، مصر

-ابن سينا: 1964، الشفاء. القياس، تحقيق سعيد زايد، وزارة المعارف العمومية، مصر

-ابن سينا: 1986، النفس البشرية عند ابن سينا، نصوص حققها وجمعها وقدم لها ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت

- شوقي، أحمد: 1993، الديوان، دار صادر، بيروت

- ستيس، وولتر: 1984، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة، القاهرة

- العاملي، بهاء الدين محمد بن حسين: 1998، الكشكول، دار الكتب

(118)

العلمية، بيروت.

-الغزالي: 1993، الاقتصاد في الاعتقاد، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت.

-الغزالي: 1990، تهافت الفلاسفة، تحقيق: موريس بويج، ط4، دار المشرق، بيروت.

-الغزالي: 1989، معارج القدس في مدارج معرفة النفس، ط1، شركة الشهاب، الجزائر.

-الفارابي:

 آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، www.al-mostafa.com

- قاسم، محمود: 1954، في النفس والعقل لفلاسفة الإغريق والإسلام، ط2، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة.

- مدكور، إبراهيم: 1974، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه، سميركو للطباعة والنشر، القاهرة.

- مروة، حسين: 1981، النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية، ط4، دار الفارابي، بيروت.

- مصباحي، محمد: 1995، تحولات في تاريخ الوجود والعقل، دار الغرب الإسلامي، المغرب، ص118.

- مصباحي، محمد: 2001، العلم والفكر العلمي بالغرب الإسلامي في العصر الوسيط، منشورات كلية الآداب، الرباط.

- أبو النصر، عمر: 1970، عباقرة الفكر الإسلامي، مكتب عمر أبو النصر، بيروت.

(119)
(120)

 

 

 

 

 

 

الفصل الخامس

الثنائيات الضدية

والاتجاهات النقدية

(121)

1 - الثنائيات الضدية في النقد الأدبي

يشكّل تضاد الثنائيات اللاشعور الجمعي الذي يتكون من النماذج البدائية الجمعية التي تشكلت من تراكم أفكار المجتمع ومعتقداته عبر أجيال، وهذه النماذج في حال صراع دائم، فلكل نموذج ضده، ويعبر الناس في رموزهم العقائدية، أو إنتاجهم الفني عن هذه الثنائيات المتصارعة. وتعود أسس فلسفة المصطلح إلى فكرة أن الإنسان قد هُوِس بتحديد موقعه في العالم، وقد واجه الإنسان في عصرنا الحاضر ما يسمّى بالشرذمة والانشطار، وهو يعني «الانفصال بين الكلمة والشيء، وبين الدال والمدلول، وبين الذات والموضوع، يأتي ضمن صندوق باندورا للذاتية والعدمية والإنسية والنسبية التاريخية»[1].

ويمكن عدُّ البداية الحداثية للفكرة الفلسفية تدور حول مركزية الإنسان، واستقلال وجوده، وقد وُجِدت تجليات لهذه الفكرة في العقلانية، والاستنارة، والبنيوية، والتفكيكية، في إطار من دراسة الثنائيات. فالنص دال ومدلول، والإبداع كاتب ومتلقٍّ، والثقافة فاعل ومفعول، والدعوة إلى انفصال الدال عن المدلول تعود إلى فكرة فلسفية هي عدم حاجة طرف الثنائية إلى طرفه الأول.

لقد ازداد انفصام إنسان القرن العشرين بسبب التعارض الحاد بين مفرزات الثورة الصناعية التي أعادت إنسان القرن التاسع عشر إلى موقع

(122)

السيطرة والتحكم، قابلتها الحركة الرومانسية في الأدب التي أعادت تأكيد الأنا، والذات عند الشاعر حين شعر أن العلم بمذاهبه التجريبية قد فشل في تفسير الوجود.

وقد تولت الدراسات النفسية المتطورة تطوير مرحلة الشك إلى مرحلة استحالة المعرفة الموضوعية النهائية. فأوجدت رحلة الشك ثنائية ما هو فيزيقي، وما هو ميتافيزيقي، ثنائية الداخل والخارج: الخارج مصدر المعرفة، والداخل النموذج الأعلى للمعرفة الإنسانية. وقد أدت هذه الثنائية إلى ظهور حتمي لثنائية مماثلة في تفسير اللغة، وتحديد معنى النص الأدبي. فثمة علاقة عضوية بين تصورات الفكر الفلسفي الغربي والدراسات النقدية، وقد ارتبطت بها في مراحل تطورها المختلفة، وبخاصة الجانب الفلسفي من الثقافية الغربية، فثمة ارتباط وثيق بين الحداثة الغربية والثورة الصناعية وما تبعها من تقدم علمي، وثمة ارتباط وثيق بين مفردات الواقع الثقافي الغربي، والأطر الفلسفية التي أنتجتها النظريات الأدبية الحديثة من بنيوية وتفكيكية.؛لذا لابد من محطات توقف عند بعض الفلاسفة مثل هيوم D. Hume ونيتشه، وهوسرل، وهايدغر، فقد اهتم هؤلاء الفلاسفة بموضوعات تتعلق بالكينونة، والذات، والوجود.

والأسس الثقافية فلسفية بالدرجة الأولى. “فهي تحدد التغيرات الجذرية التي طرأت على أضلاع المربع الأربعة: عالم الميتافيزيقا (الله) والإنسان والعالم المادي الفيزيقي (الطبيعة) ثم اللغة بوضعها أداة التعبير عن المعرفة التي تولدها تلك العلاقات المتشابكة. وقد توالت المذاهب

(123)

الفلسفية من واقعية، وتجريبية، ومثالية، ووجودية.. وهي مذاهب أحدثت تغيرات في العلاقة بين تلك الأضلاع بدرجات متفاوتة ما ترتب عليه من تغيرات مقابلة في استخدام الإنسان اللغةَ ونظرته إليها”[1].

2 - الرومانسية

انطلق الرومانسيون من فكرة أن الواقع ليس مصدر ثقة؛ لذا اتجهوا إلى مصدر آخر للإبداع، وأصبحت العلاقة بين الواقع والذات علاقة صدامية؛ لذا أكثر الشاعر الرومانسي من الشكوى والألم، وقد تغلبت الذات على الموضوع في علاقة ثنائية، كما تغلبت العاطفة على الفكر، واللاشعور.

لقد انطلق الوعي الجمالي الرومانسي من فلسفة استعذاب الألم وتقديسه، ويعني هذا الكلام أن الوعي الفلسفي الرومانسي يقوم على ثنائية الأنا/ العالم.

وتناولت الفلسفة الغربية العلاقة بين العقل والعاطفة، ووجدت الرومانسية أن هذه الثنائية بين العقل والذات لا تحكمها علاقة تعارض وتضاد بالضرورة[2]. ويمكن القول: إن الرومانسية كانت محاولة لإعادة بعض التوحد المفقود بين مكونات الوجود مثل الإنسان واللغة، فقد حاولوا جهدهم التقليل من خطورة التضاد، كما حاولوا إقامة جسر بين طرفي الثنائية، ونفي التعارض بين الحقيقتين العلمية، والشعرية.

ويرتبط النقد الحداثي بأزمة الإنسان الغربي الفكرية والثقافية،

(124)

والاتجاهاتُ النقديةُ الحداثيةُ استمرار للاتجاهات السابقة، فليس من مدرسة نقدية جديدة خالصة، فالبنيوية مولودة من أرض الرومانسية، فقد جعلوا اللغة موضوعاً للدراسة، وانطلقوا من ثنائية اللغة الحقيقية/ المجازية، ومن ثنائية الداخل/ الخارج في تحديد معنى النص، ومن ثنائية الاستخدام النصي/ الاستخدام السياقي للغة التي تكتسب معناها من داخل النص، لا من خارجه.

إن الذات في الرومانسية هي ذات المبدع، لا المتلقي، فقد ركزت الرومانسية على أهمية الذات، وترجمت حضورها في الفلسفة المثالية الألمانية إلى شرعية التعبير عن الأنا ما دامت القالب الذي يصب العالم فيه. فالرومانسية محاولة لإعادة التوازن بين الداخل والخارج بعد أن مالت مدة طويلة نحو الخارج المادي المحسوس، ومحاولة إعادة التوحد إلى عالم أفقدته العلوم التجريبية وحدته.

إن ثمة تأكيداً للذات في الرومانسية، وتفتيتاً لها في البنيوية، والتفكيكية. فالداخل في البنيوية هو داخل النص الأدبي مستقلاً عن ذات المبدع والمتلقي، ويمثل هذ الأمر تمرداً على الرومانسية.

عملت الرومانسية -إذن- على خرق القواعد الكلاسيّة، فهي تقف على الطرف المضاد منها، كما وقفت في وجه تشدّد قواعدها العقلية والأدبية، ودعت إلى التحرّر من القيود الاجتماعية والعقلية. وقد جعلت التحولات الاجتماعية والسياسية في أوربا الإنسان الأوربي قلقاً حزيناً، فأدى ذلك إلى ظهور الرومانسية، لكن النقاد الفرنسيين هجموا عليها؛ لأنها تسلب

(125)

الإنسان منطقه وعقله، فلا خير -في رأيهم- في عاطفة وخيال لا يحكمهما عقل، وحكمة، وإرادة.

وقد استنكر دعاة الرومانسية تدخل المجتمع في تقييم الأعمال الإبداعية، فلا ينتج الفن -عندهم- إلا في عزلة عن المجتمع، فتجاهلوا أن الفن يقوم على خبرة متوارثة.

رأى الرومانسي العالم في مرآة ذاته، فتماهت ثنائية الذات والعالم لديهم، وبحثوا عن الكمال في اللا متناهي، ورأوا الإبداع الحق في هذا المنحى.

3 - الماركسية

تقوم الماركسية على مفهومَيْ الجدلية والصراع الطبقي، فصراع المتضادات مرتكز أساس من مرتكزات الفلسفة الماركسية. وقد طبق ماركس الفكرة الهيغيلية تطبيقاً واقعياً حين تحدث عن التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية التي تنجم عن تفاعل أطروحة وطباقها، فكل تشكيلة تخلق طباقها وهكذا..

وانطلق الماركسيون من ثنائية الداخل / الخارج، وهم يرون أن الفن جزء من إيديولوجية المجتمع؛ أي البنية الفوقية للمجتمع. وقد ارتبطت النظرية الأدبية بالفكر السياسي والاقتصادي لدى ماركس وأنجلز، فدعا الماركسيون إلى سيادة العقل، والتخلص من ذاتية الرومانسية، ومن ثنائية الشكل والمضمون..

وتستند الماركسية لدى ماركس إلى أساس فلسفي، فمقولته ليس

(126)

للشكل أية قيمة مالم يكن له مضمون تطوير لآراء هيغل عن العلاقة بين طرفي الثنائية، فالطرف الثاني يحدد الشكل المناسب له، وتغيير المضمون يستتبع تغييراً حتمياً في الشكل[1].

لقد تأرجح الفكر الماركسي بين طرفي ثنائية الداخل / الخارج، وظل هذا التأرجح محور اختلاف بين فكر واقعي يعتمد التجربة الحسية بوصفها أساساً للمعرفة الإنسانية، وفكر مثالي يضع أسس المعرفة داخل العقل البشري.

ورفض البنيويون الماركسيون فكرة أن الدلالة تحددها العلاقة بين الدوال والأنساق داخل النص؛ لأن في ذلك عودة إلى قطب مفرد من الثنائية، وهو الداخل. هذه الثنائية- داخل / خارج- شهدت تباعداً في القرن العشرين وصل إلى ازدواج حاد.

وتنبع قيمة الماركسية- حسب ألتوسير L. Althusser-[2]في أنها استطاعت أن تنقل الفلسفة من الوضع الإيديولوجي إلى الوضع المادي عبر المادية الجدلية، وهي نظرية خاصة بالتطور الاجتماعي، تقوم على “فحص التناقضات في المجتمع، وهي تكوّن أساس أطروحة الصراع الطبقي بوصفه القوة المحركة في تطوير المجتمع الطبقي، وتوصل هذه الأطروحة إلى كل نتائجها الثورية”[3].

(127)

الأدب في نظر رواد النقد الماركسي مثل جورج لوكاتش G. Lukacs ورومان جاكسون R. Jakobson والمتأخرين مثل لوسيان جولدمان L. Goldman وتيري إيجلتون T. Eagleton وفريدريك جيمسون F. Jameson لا يمكن أن ينفصل عن الحقائق الاقتصادية والاجتماعية، فقد رفض الماركسيون تفريغ الشكل من مضمونه الهادف، والإبداع الفني في الفلسفة الجديدة ليس نتاجاً فردياً، ليس إلهاماً غامضاً، إنه في حقيقته إنتاج جمعي تتدخل فيه، وتحدده بصورة حتمية حقائق البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية. وقد نتجت هذه الأفكار من التحول نحو العلمية في تحديث المجتمع الروسي بعد الثورة، وهو تحول مرتبط بالاتجاه التجريبي في الفلسفة الغربية منذ بدايته حتى قيام الثورة[1].

رفض الماركسيون التفسير الآني للغة، كما رفضوا تفريغ الشكل من المضمون الهادف، فلا يمكن اختزال الفن إلى مجرد التعبير الطبقي أو الظروف الاقتصادية.

وقد احتضنت الشكليةُ الروسيةُ الماركسيةَ، لكنها انفصلت عنها بعد ذلك.[2] وقد تحمس الشكيون الروس لمنهج جديد وصل بهم في مرحلة ما إلى إنكار الموضوع، أو إنكار رسالة الأدب، وهذا ما وضعهم في نهاية الأمر في موقف مناقض لأهداف الماركسية، وتحديدها الواضح لرسالة الأدب ووظيفته، فقد اتخذ الماركسيون من جدلية هيغل والمادية التاريخية نقطتي انطلاق مبدأيتين.

(128)

إن ثمة حركة مستمرة بين الحقيقة المادية الخارجية والحقيقة الداخلية الشعرية، العلم والذات. وقد وقفت الشكلية عند حدود الطرف الأول من الثنائية، وانطلقت من العلمية بوصفها نقطة انطلاق لإنشاء علم الأدب، فتسلح الشكليون بأدوات التفكير العلمي في التعامل مع النصوص الأدبية، وهم يرون للخارج المادي حضوراً مؤثراً، ويُرجعون –غالباً- مضمون القصيدة إلى الخارج الذي يكون له حضور مؤثر في المضمون.

وقد اعتمدت الشكلانية الروسية على ثنائية الشكل والمضمون، وتبعتها مدرسة براغ، وكانت البنيوية تعني لمدرسة براغ تركيباً جدلياً (Diulectical Synthesis) أي الجمع بين ضدين في سبيل إنشاء قوة موحدة، ويضم أنموذجين فكريين شاملين، والأنموذج الفكري Paradigm)) هو المذهب الفكري، أو الفلسفي القادر على تفسير الظواهر، والأنموذج الأول هو المذهب الرومانسي، وقد تجلى بصفة أساسية في الآداب والفنون، وإن لم يقتصر عليها.

أما الأنموذج الثاني فهو المذهب الفلسفي الذي يقوم على الحقائق العلمية المستقاة من معطيات الحواس، والخبرة الحسية بالواقع، والعلاقات القائمة بينها، ويرفض البحث في أصولها الأولى، أو شطحات التأمل في بذورها وجذورها. والتضاد بين المذهبين واضح، فالرومانسية ترحّب بشطحات التأمل الفلسفية، وتعلي من شأن الخيال، والمشاعر، والقدرة على الغوص في أعماق الحقيقة (Truth) أو الواقع (Reality) أو

(129)

النفس البشرية استناداً إلى الحدس (Intuition) وحده[1].

أما مدرسة براغ فقد اهتدت إلى البنيوية. ويتضح مما سبق أن بعض المدارس النقدية قامت على التضاد، وأن ثمة تضاداً بين المدارس النقدية.

وبنظرة نقدية سريعة للماركسية نرى أنها تقصر نظرتها على رؤية طبقتين متضادتين فقط، هما طبقة العمال وهي الطبقة المستعبَدة، وطبقة الرأسماليين وهي الطبقة المستعبِدة. لكنّ الماركسية فشلت في التنبؤ بظهور طبقة وسطى في المجتمع الرأسمالي؛ لذا تحتاج النظرية الماركسية إلى إعادة نظر في منهجها الفكري العام.

لقد أعاد كارل ماركس حركة التاريخ إلى صراع الطبقات الذي سينتهي بنشوء الثورة الاشتراكية التي تحققها الطبقة العاملة على مضادّتها الطبقة البورجوازية، فتختلف حركة المجتمعات باختلاف الأحوال السياسية والاقتصادية، فقد عمل ماركس على تجميد الجدلية الهيغيلية في نظرتها للمجتمع الذي أكّد ماركس أنه آيل إلى الاشتراكية من غير أدنى شك، فالماركسية من وجهة نظر ماركس مثل المدينة الفاضلة عند أفلاطون، والفارابي.

إن منهج الديالكتيك المادي الذي اتسمت به الماركسية عاجز عن تحليل المجتمعات ومشكلاتها؛ لأن أدوات التحليل جامدة، لا تتغير بتغير الأحوال السياسية، والاقتصادية للمجتمع.

(130)

وصراع الأضداد جوهر الماركسية، فلطبيعة الصراع لديهم جدلية ثنائية، أو ما يعرف بصراع الأضداد، وهو صراع مستمد من الجدلية الهيغيلية، فالمجتمع -لدى هيغل- يتغير بتفاعل قوى متضادة، ويبقى السؤال قائماً: إذا نشأ الصراع بين المتضادات فهل سيزول في حال الوصول إلى مجتمع اشتراكي؟ وهل ستزول الطبقات في ظل هذا المجتمع؟

لا يمكن حصر الصراع بين ضدين، وليست حركة التاريخ نتاج صراع ضدين: البورجوازية/ البروليتارية، فحركة التاريخ صراع، وتفاعل، وليست الثقافات في المجتمعات المتضادة كلها أضداداً، بل يمكن أن تتفاعل، أو ينفي أحدها الآخر.

لذا يمكن القول إن الماركسية نتاج الواقع الذي وجد فيه هيغل وماركس وأنجلز، ولا يمكن تطبيقها على المجتمعات كافة؛ لجمود الأدوات التحليلية. كما عقد النقد الماركسي صلة موهومة بين النصّ، وبنيته التحتية “الاقتصاد” فقد سجنت الماركسية النص في سجن القوى الاقتصادية.

4 - البنيوية

يقوم جوهر الثنائيات الضدية في النقد الغربي على أساس فكرة فلسفية أكثر منها لغوية، وقد أتى النقاد البنيويون أولاً بهذه الطريقة في استخدام اللغة إذ تنطلق البنيوية من موت المؤلف، والتركيز على النص الأدبي من خلال الثنائيات الموجودة فيه، فتعتمد الظواهرَ اللغوية؛ لاستنتاج الدلالات والمعاني. وتوحي كلمة (binary بعبارة مؤلفة من Binary opposition

(131)

أي (شيئان ، أو مزدوج) كما في عبارة (كوكب مزدوج)، أي كوكبان تسيطر عليهما قوة جاذبية واحدة).[1] إذ تشيع الثنائيات في اللغة: أعلى/ أسفل، بطيء/ سريع، عقل/ طيش، حقيقة/كذب، أسود/ أبيض، رجل/ امرأة...الخ.  

ويشكل مفهوم الثنائيات الضدية عصب المدرسة البنائية في النقد والتحليل البنيوي/ البنائي. وينحدر هذا المفهوم بوصفه مفهوماً بنيوياً من دراسات ليفي- شتراوس حول الأساطير. ولا تستخدم اللسانيات / الألسنية، والتحليل البنيوي فكرة الثنائيات الضدية من جهة الكلمات والمفاهيم فحسب بل من جهة تقاليد النص ورموزه.

وتتضمن فكرة الثنائيات الضدية ذاتها مركزية نظام معين أو وجوده. وتعد هذه الدلالة الثنائية ثابتة ومنظمة في أعين البنيويين، وغير ثابتة ومحطمة لما بعد البنيويين[2].

حاولت البنيوية الماركسية أن تحقق حلاً وسطاً تستطيع البنيوية اللغوية للنص الأدبي على أساسه أن تكون مستقلة (الداخل) من ناحية، وأن تؤكد علاقتها بالبنى والأنظمة الأخرى كالنظام الاقتصادي والصراع الطبقي والواقع الثقافي العام (الخارج) من ناحية أخرى. أما البنيوية الأدبية فترفض الربط بين النظام اللغوي الداخلي وأية أنظمة أخرى خارجية.

يعني هذا الكلام أن ثنائية الداخل/ الخارج لازمت الفلسفة الغربية

(132)

والمدارس النقدية، وتحيل هذه الثنائية على ثنائية الذات / الموضوع، وهي ثنائية فلسفية النشأة والطابع؛ ذلك لأن رحلة المعرفة الإنسانية بين الشك واليقين طويلة، فقد أتت تجربة (جون لوك J. Locke) ، فأبرزت أهمية الحواس في إدراك الوجود المادي الخارجي، ومثالية (كانت) I. Kant وفكرة الشك في قدرة الحواس على تحقيق المعرفة اليقينية بالكون؛ لتأكيد أهمية العقل في تحقيق المعرفة، وتيارات الشك التي فقدت الإيمان بالتجريبية والمثالية، وذلك مهّد لظهور البنيوية اللغوية والأدبية.

لقد نظرت البنيوية إلى الثنائية على أنها خصيصة من خصائص الفكر الإنساني، واتخذتها بوصفها تقابلات ابستمولوجية (Epistemology): الدال / المدلول، اللغة/ الكلام، وعانت صراعاً بين طرفي ثنائية هل النص الأدبي بنية مغلقة مستقلة، أو بنية نظيرة لأنساق عامة أخرى ليست أدبية؟ بين انغلاق النص واستقلال العلامات، وبين كون النص نظيراً لأنساق ثقافية واجتماعية واقتصادية.

الصراع بين طرفي ثنائية الداخل / الخارج لدى البنيويين مع أن الداخل لا يمكن أن يكشف عنه إلا برؤية الخارجِ هذا الداخلَ، هذا الخارج هو الخارج الاجتماعي والثقافي....

أما ثنائية الذات/ الموضوع فالذات المقصودة لدى البنيويين هي الذات الدريكارتية العليا القادرة على تحقيق المعرفة الإنسانية وتشكيلها[1]حينما تفشل الحواس، وتتوقف وظيفتها عند حدود الظاهر المادي من ناحية،

(133)

وتحقيق معرفة عليا لا تحتاج إلى استخدام أدوات المنهج التجريبي؛ لإثبات صحتها من ناحية أخرى.

الذات التي ترفضها البنيوية هي الذات الفردية، أما الموضوع فهو النسق أو النظام. ويتكلم رولان بارت R. Barthes وميشيل فوكو M. Foucault على ثنائية أخرى مختلفة هي ثنائية الأنا/ الآخر متأثرَيْن بدراسات فرويد   S. Freudالنفسية، وسيكون لهذه الثنائية أثر مهم في التفكيكية-  كما سيأتي لاحقاً- إذ يقوم فكر بارت والبنيويين على كبت الذات، أو الهروب منها منطلقين من أساس فلسفي لغوي سياسي نقدي هو أن الذات المستقلة لا تتفق وأفكارَ البنيوية الجديدة فلسفياً[1].

اعتمدت الفلسفة الغربية ثنائيةَ الداخل / الخارج على أنها أساس للمعرفة، وقد مرّ سابقاً أن هيغل ونيتشه مثَّلا قطب الخارج في إرجاع المعرفة الإنسانية، وديكارت وكانت مثّلا قطب الداخل، العقل البشري، وثمة فلاسفة وقفوا في المنطقة الوسطى بين القطبين، وينسحب هذا الأمر على الدراسة النقدية، فالقول بوجود الحقيقة الخارجية يعود إلى نظرية المحاكاة الأرسطية، أما أن تكون أسس المعرفة موجودة في داخل العقل البشري فتعني تأكيد الذات. فثمة ثنائية نجم عنها ازدواج فلسفي أدّى إلى جدل مستمر بين تأكيد الذات وتفتيتها لدى البنيويين ومن بعدهم التفكيكيين[2].

يعني الكلام السابق أن القضايا الأساسية التي شغلت النقاد من القرن

(134)

السابع عشر إلى الآن عن معنى النص، ووظيفة اللغة، وحضور الذات أو غيابها سواء أكانت ذات المبدع أم ذات المتلقي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتطورات الفلسفة الغربية؛ ذلك لأن الفكر الفلسفي ليس منفصلاً عن الفكر النقدي واللغوي، فقد كان الفيلسوف الغربي ناقداً أدبياً في معظم الحالات.

والنقد البنيوي استمرار للنقد السابق، وللفلسفة التي أنشأت النقد السابق، وثورة عليها في الوقت نفسه، فقد دعا البنيويون إلى الداخل، لكنه ليس الذات الرومانسية، وليس ذات المتلقي، الداخل هو داخل النص الأدبي مستقلاً عن ذات المبدع والمتلقي، فالذات لدى النقاد الجدد هي الذات بالمفهوم التجريبي، والفلسفة الغربية هي فهم للواقع الغربي في مواجهة الذات  داخل سياق التجربة[1].

وقد وُجدت البنيوية بهدف الخروج من ثنائية مذهب علمي تجريبي لدراسة مادة غير علمية، لا تخضع لمقاييس المذهب التجريبي، فتبنوا المنهج العلمي التجريبي بعد مدة من الشك الوجودي؛ لإعادة الثقة في المنهج التجريبي الذي يُعمل العقل، فـ ،تجريبية البنيوية سبب لرفضهم المبدئي الذات الديكارتية”[2] ،فنظروا في الأنساق الداخلية للنص الأدبي، وبهذا الصنيع عملوا على نفي قدرة الذاتِ تأكيدَ نفسها، فالذات تحدّدها اللغة، وتحكم حركتها، واللغة ـ لدى البنيويين ـ هي المكوٍّن السببي للذات، تحل محلّ البنية الاقتصادية التحتية التي تفسر الأدب، والظواهر الاجتماعية.

(135)

نفت المدرسة الفلسفية الفرنسية وجود الذات على أنها نقطة انطلاق، أما الفلسفة الأمريكية فقد أكدت وجود الذات الحرة على أنها نقطة انطلاق “لذلك نظر الأمريكيون إلى البنيوية على أنها جبرية تناقض حرية الفرد، فثقافتهم تقوم في الأساس على الحرية في الاختيار”[1].

يؤكد الكلام السابق أن للنقد الغربي صيغة فلسفية واضحة مرتبطة بأزمة الإنسان الغربي، فثمة فكر فلسفي متجذر عبر قرون، وثمة ثورة صناعية وعلمية حوّلت العلاقات التقليدية إلى أزمة خاصة بالإنسان الغربي. ويمكن أن نعد جهود ليفي شتراوس في الأنثروبولوجيا البنيوية نقطة انطلاق البنيوية غير اللغوية، فقد أحدث نقلة حقيقية للأنموذج اللغوي إلى أنساق أخرى غير اللغة.

سعى شتراوس بالثنائيات المتقابلة إلى إقامة مبادئ جبر دلالي “فحين يكون السلوك الثقافي قادراً على نقل المعلومات لابد للسنَّة (الكود) التي يتم التعبير عن الرسائل بوساطتها أن تكون ذات بنية  جبرية”،[2] كما دعا إلى دراسة التمايز بين المتقابلات، فالهدف من دراسة الثنائيات في الفلسفة اكتشاف كيفية استخدام العلاقات الموجودة في الطبيعة “كما تدركها الأدمغة البشرية في توليد منتجات ثقافية تشتمل على هذه العلاقات ذاتها”[3].

وجد شتراوس أن ثمة تقابلاً بين الثقافة والطبيعة، فالثقافة تميز البشر

(136)

من بقية الحيوانات (الطبيعية)، فالمفاهيم الثنائية تشكل جزءاً من طبيعة الإنسان “وعلى سبيل المثال فإن الرجال والنساء متشابهون بمعنى ما على الرغم من أنهم متقابلون ومتبادلو الاعتماد بمعنى آخر..”[1].

ويرى أن الأنا الإنساني لا يوجد في ذاته أبداً، وليس ثمة أنا إلا وهو جزء من النحن، بل إن كل أنا هو فرد ينتمي إلى كثير من مجموعات النحن، والثقافة مكتسبة، أما الطبيعة ففطرية، وثمة ارتباط للإنسان بالطبيعة، وهو يحاول أن يصل إلى الثقافة، وبينهما تقابل، والتحول من الطبيعة إلى الثقافة تحول من العاطفة إلى العقلنة، وهو يمر بمرحلة وسطى[2].

ووجد أن الإنسان قد طوّر قدرة فريدة على الاتصال بوساطة اللغة والدوال؛ ولذلك لابد لآليات الدماغ البشري “من أن تشتمل على قدرات معينة في القيام بعمليات التمييز بين + / - وذلك من أجل تناول الثنائيات الناتجة من ذلك بوصفها أزواجاً متعالقة، والتعامل مع هذه العلاقات على النحو الذي تُعامل به في جبر المصفوفات”[3].

وبما أن الدماغ البشري ينزع إلى التعامل مع الأضداد الثنائية فقد بحث شتراوس في تدخل الأضداد في تركيب الأسطورة، فوجد أن كل أسطورة تقابل مجموعة من المفاهيم المتعارضة والمتقابلة، وهي مجموعة ثنائية مستقاة من مجالات الخبرة العملية البشرية، ثم رأى أن ذلك كله يمكن تطبيقه على الأدب، والشعر بصورة خاصة.

(137)

درس شتراوس التنظيم الثنائي في المجتمعات، وهو تنظيم بين مجتمعات تضم أكثرها بدائية، وأكثرها تقدماً، وسلسلة كاملة من المجتمعات المتوسطة، وهي علاقات يحكمها بعض التشابه، وبعض التناقض، ورأى أن التنافرات هي التي تمنح الثقافات شخصيتها.[1] وأن الثقافات المدروسة ثقافات ذات أقنعة، ومفهوم القناع هو الذي شكّل لديه مفتاح الثنائية[2].

إن ثنائية نمط معيشة مجتمع ما تؤثر في حياتهم اليومية، وتمتد إلى جميع مواقفهم النفسية، وتنظيمهم الاجتماعي، وأفكارهم الغيبية؛ لذلك تناول شتراوس أشكال الثنائية، وتجليها في البنيات الاجتماعية من خلال أشكال متعددة من الثنائيات متحدة المركز (تقابلات) بين ذكر / أنثى، عزوبة/ زواج، مقدس/ مدنس) وأشكال متعددة من الثنائية القطرية. والتنظيمات الثنائية لديه تنظيمات معقدة، فثمة ثنائيات متحدة المركز، وثنائيات قطرية، وطبيعة ثلاثية للثنائيات متحدة المركز[3].

 تابع شتراوس أيضاً ثنائية الفن التمثيلي والفن غير التمثيلي، ودرس التحول إلى ثنائيات أخرى، وأفضى ذلك كله إلى معاينة ثنائية هي علاقة متبادلة بين التعبير التشكيلي والتعبير التخطيطي، وتقدم القاسم المشترك الوظيفي لمختلف تظاهرات مبدأ ازدواج التمثيل[4].

(138)

لكنّ شتراوس حين درس الأسطورة لم ينظر في محتواها السردي بقدر ما نظر إلى العمليات الذهنية الكونية التي تبني الأسطورة مثل إقامة التقابلات الثنائية، وهي أمور تحكي عنها الأسطورة بطريقة ما. واهتم باللغة أكثر من الكلام، فركز على الدراسة الآنية للغة مع أنه لم ينكر الأبعاد التعاقبية لها. وقد افترض فرديناند وسوسير F.D. Saussure  وجود علاقة جدلية داخل النسق بين الدال (الصوت السمعي)، والمدلول (الصور الذهنية)، وأكّد مفهوم التعارضات الثنائية في اللغة، وهذا ما ساعد شتراوس على التوسط بين العناصر المتضادة مثل ساخن/ بارد، أرض/ سماء، ذكر/ أنثى، قديم/ جديد... وكذلك تقبل ميشيل فوكو التعارضات الثنائية في محاولته الكشف عن الأركولوجيا اللاواعية للمعرفة في كتابه أركولوجيا المعرفة، فقد اعتمد نظام الأشياء لديه على الفرضيات البنيوية.
 ناقش روجيه غاروديR. Garaudy  آراء شتراوس وفوكو وغيرهما، ورأى أن البنيوية قد حلت محل الوجودية الفرنسية، وجاءت ردّ فعل، فقد اشتطت الوجودية في النزعة الفردية، وشددت على الذات، ومسؤولية الإنسان، فورثتها البنيوية على أنها نقيض لها، وشددت على الصراحة العلمية والموضوعية.
وطورت البنيوية بعض ما جاء به الشكلانيون الروس، وتأثر البنيويون بمقولات سوسير، ثم خرجوا من ألسنيته مع أنه لم يستعمل كلمة بنية.

(139)

نظر الشكلانيون الروس إلى البيت الشعري على أنه بنية طباقية معقدة، وأصبحت جهودهم أحد مصادر البنيوية الفرنسية التي قدمت نفسها على أنها حركة للفكر، ومنهج نقدي يعمل على اكتشاف القوانين التي تتحكم بالاستخدام الأدبي للغة إذ يقوم التحليل البنيوي على وجود بنية كبرى للنص، وبنيات صغرى تقوم بينها علاقات تنافر وتضاد، أو تشابه ومماثلة.

قامت الدراسات البنيوية على أن مفهوم اللغة يقوم على أن ثمة نسقاً وراء استخدامنا اللغة، وهو نمط الثنائيات المتضادة، فعلى مستوى الفونيم تشمل هذه الثنائيات الصائت /الصامت، المجهور/غير المجهور... وثمة منطقة وسطى يلتقي فيها طرفا الثنائية مع احتفاظ كل طرف بتفرده.

فاتجهت الدراسات البنيوية في نسقين: النسق العام أو النظام، والأنساق الفردية، فقد درسوا الأعمال الفردية؛ ليستخلصوا من بناها الصغيرة التي ترتبط بعلاقات تضاد تحكمها قاعدة التضاد الثنائي أنموذجاً، أو نسقاً فردياً واحداً.

والنسق هو “نظام ينطوي على أفراد فاعلين تتحدد علاقاتهم بمواقفهم وأدوارهم التي تنبع من الرموز المشتركة والمقررة ثقافياً في إطار هذا النسق، وعلى نحو يغدو معه مفهوم النسق أوسع من مفهوم البناء الاجتماعي”[1]

ويعود الاهتمام بالنسق لدى البنيويين إلى تحول الاهتمام بالذات الفردية (الرومانسية) على أنها مصدر للمعنى، فاتجاهها إلى الأنساق يعني

(140)

ابتعادها بالذات عن المركز، فتغدو أداة من أدوات النسق لا أكثر.

يعايَنُ النسق من جهة كونه عملية معقدة ثنائية، أي إنها في جذورها تنبع من تمايز ظواهر معينة في جسد النص أو الحكاية، ثم من تكرارها عدداً من المرات، ثم من انحلال هذه الظواهر واختفائها، بهذه الصفة يكتسب النص طبيعة الجدلية [1]؛ لذا لابد من توافر التضاد؛ ليتشكل النسق، ولكي يتشكل لابد أن ينحل؛ لتنشأ عبر التغاير (الحضور والغياب) بنية تقوم على ثنائية ضدية تنبع من التمايز بين عنصرين أساسيين[2].

يرى ميشيل فوكو أن الذات تُبنى من خلال ضدها الآخر، إذ تؤسَّسُ الحرية بحضور الضدّ وهو القيد، وفي كل نص شعري بنية جدلية لا تظهر في نص واحد بل تنتشر في النصوص كلها، وتترابط ترابطاً جدلياً.

كما أن شبكة العلاقات المتنامية في النص تؤدي إلى خلق أبعاد خفية له تنجم عن الزئبقية التي تسم الأنساق النصية، كما أن تضاد هذه الأنساق يعمّق مدلولاتها، ويفجر طاقاتها فـ “النتاج الأدبي ينقسم إلى قصدين، ولا يمكن أن يعدّ سوى خصومة عميقة بين كيانين متباينين وحالتين متناقضتين: القرابة والعنف لحركتين متناقضتين لا يمكن أن تنسجما أبداً أو تستقرا، فالعمل لا يكشف عن تضامن، بل عن صراع دائم بين قياس العمل الذي يصبح ممكناً والزيادة في العمل التي تجنح نحو المستحيل، بين الشكل الذي يفهم به العمل، والسمة اللامحدودة التي يحافظ بها

(141)

العمل على ذاته، بين القرار الذي يجسّم كينونة البدائية واللاقرار الذي يجسّم كينونة إعادة البداية”[1].

إن لغة البنيوية غامضة، وإيحاءاتها محيّرة، وقد اتخذت طريقة في التفكير تتعارض مع الفردية، فمهّدت لبروز مقولات فلسفية مشكِّكة، كاختفاء الذات، وموت المؤلّف، واهتمت بما هو عام، وعالمي على حساب ما هو خاص، ومحلي.

وهي بإلحاحها على موت المؤلف سقطت في فخ المطلق حين حاولت إيجاد قانون عام وشامل.

وقد غرقت في الرموز المبهمة، وأغفلت الجانب الاجتماعي للرموز، كما أغفلت خاصية التحليل الرمزي؛ أي التركيز على المضمون الثقافي بهدف إبراز المعاني المرتبطة بالرموز، فركزت على الأبنية الصورية المجرّدة.

تتعامل البنيوية مع الخصائص الداخلية للنص، ومسوّغها أدبية الأدب من غير أن تهتم بأية وظيفة للأدب غير المتعة الناجمة عن الأدبية، فأبعدها بحثها في أدبية الأدب، وفي العالاقات التقابلية الضدية فيه عن الطرف الثاني من الثنائية، وهو وظيفة الأدب، فلا يعير البنيويون اهتماماً للرؤية الفكرية؛ لأنهم يحصرون اهتمامهم بالبنى، والأنساق اللغوية في النص، وهو أمر يؤدي إلى عدم التفريق بين النص الجيد، والرديء.

(142)

إن المناهج النقدية الحديثة مأخوذة من الفكر الفلسفي الغربي، فثمة علاقة وثيقة بين الحداثة النقدية والجذور الفلسفية لها، وأبين دليل على ذلك المنظومة المصطلحية للنقد الغربي مثل: الداخل/ الخارج، الشك/ اليقين، الذات/ الموضوع، اللغة الواصفة/ الميتا لغة.. وهي مصطلحات مستعارة من حقل الفلسفة، فثمة آراء فلسفية حول صراع الثنائيات، والتقائها.

وقد أقصت البنيوية التاريخ، وأهملت البعد الاجتماعي للنص الأدبي لكن فيما بعد أتت البنيوية التكوينية “الماركسية” لتتلافى النقص، فجمعت بين النقد الماركسي والنقد الشكلي مع الإبقاء على الاهتمام بالبنية اللغوية للأعمال الأدبية، وعدم عزلها عن الإيديولوجيا التي يعدّونها جزءاً من اللغة. ومن هنا صار للبنية دور وظيفي متمثّل في تقديم رؤية الكاتب التي تمثّل في النهاية رؤية الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها. لكن هذا العمل يواجه صعوبة كبيرة، فكيف يمكن إجراء تحليل بنيوي تكويني لأعمال تنتمي إلى عصر نجهل الكثير عنه.

أصرّت البنيوية على العلاقات الضدية بين العلامات، لا على العلامات نفسها، لكنها أعادت فكرة سجن النسق من جديد؛ إذ جعلت الإنسان يولد فيها، ويستجيب لأنساقها الداخلية. فعزل النص عن الخارج أمر غير مقبول؛ لأن النص ينهض في ميدان ثقافي هو اجتماعي في النهاية؛ لذا تعجز البنيوية عن دراسة ثنائية الداخل/ الخارج في النص الأدبي.

(143)

5 - ما بعد البنيوية

ارتبط مصطلح ما بعد البنيوية بكتابات المنظّرين الفرنسيين ميشيل فوكو، وجاك ديريدا J. Derrida، وهو مصطلح يشير إلى طريقة تفسير الذوات والمجتمع بطريقة تقطع مع نظريات المعرفة التقليدية السابقة، فالأفراد ـ خلاف ديكارت ـ ليسوا مبتكرين، أو مستقلين لأنفسهم، أو لمجتمعهم، بل هم بدلاً من ذلك جزء لا يتجزأ من شبكة العلاقات الاجتماعية المعقدة التي تحدد أين يمكن أن يظهر أي فرد، وبأية صفة.

وتؤكد ما بعد البنيوية أن التركيز على الفرد بوصفه وكيلاً مستقلاً يجب أن يُفكَّك. فالأطر الفكرية الفلسفية هي التي أدت إلى ظهور هذا المصطلح في الغرب، ولكي ندرس المدارس النقدية الغربية علينا دراسة تاريخ الفلسفة الغربية منذ لوك وهيوم مروراً بكانت وهيغل ونيتشه إلى هوسرل، وهايدغر M. Heidegger وجادامر H.G. Gadamer، فالمصطلح النقدي الغربي ينتمي إلى أساس فلسفي فكري غربي، والحداثة الغربية نتاج واقع مختلف تماماً عن الحداثة العربية، وحين طبق نقادنا العرب المصطلحات الغربية وقعوا في فوضى النقد؛ لأن الجديد في الغرب أتى استجابة طبيعية لتطورات اجتماعية، وفكرية، وسياسية.

5-1 - التاريخانية الجديدة/ التحليل الثقافي

مثّل النقد الثقافي نظاماً بنيوياً له بنية كامنة في أعماق الخطاب الثقافي، ونجد في هذا النظام ثنائية ظاهر / مضمر. فالدلالة النسقية مضمرة تقوم بوظيفة الفاعل المحرك في الذهن الثقافي للأمة، وهو المكوّن الخفي

(144)

لذائقتها، وأنماط تفكيرها، وصياغة أنساقها المهيمنة، فالنسق مضمر، يحتاج إلى جهد؛ لكشفه، مستتر بأقنعة البلاغة؛ لذا أوجد دعاته نظريات في القبحيات؛ لكشف حركة الأنساق، وفعلها المضاد للوعي النقدي.

والانطلاق من الثنائيات الضدية ليس مجرد أداة إجرائية لتحليل النص الأدبي، إنها رؤية للعالم والوجود ويعني هذا أن ثمة حتمية في النقد البنيوي والنقد الثقافي تشبه الحتمية الديالكتيكية في الماركسية..

وقد ظهر في الفكر النقدي ما بعد الحداثي ما يعرف بالجماليات الثقافية (Cultaral Poetics) وقد ورد هذا المصطلح عند ستيفن غرينبلات (Stephen Jay Greenblatt) التاريخانية الجديدة بيّن به الإجراءات القرائية لتأويل المظاهر التي كانت قد تشكلت من خلال البحث حول كتّاب عصر النهضة. فالتحليل الثقافي في علاقته بالسياقات الاجتماعية يفهم ضمناً على شكل خارطة مرسومة داخل الفلك الجمالي الذي يمكّننا من رصد بعض الدلالات التصويرية لهذه الخارطة[1].

ويهتم النقاد التاريخانيون ببعض التعبيرات الثقافية كالرمزي والمعتقد، والبنى الإيديولوجية للمجتمع التي تنتجها جميعاً[2].

كما يهتم النقاد التاريخانيون بفحص العلاقة بين الكتابة والمجتمع، واختصوا بدراسة أدب عصر النهضة، وأدب العصرين الفيكتوري والإليزابيثي، والداراما الشكسبيرية، فقد أصبح العهد الفيكتوري مجالاً

(145)

للتنافس والصراع بين الطبقة الأرستقراطية المعروفة بملكية الأرض والطبقة البورجوازية التجارية المتطورة، فقد يكون النص الأدبي مُظهِراً معنى ما لكنّ التأمل فيه يُظهر ضد ذلك، فقراءة العلاقات المضمرة في بعض مسرحيات شكسبير تشكّل مظاهر وجود مقاومة قوية، وأماكن ولادة طبقات اجتماعية، وسلطة الرهبان، وهي صور لوجود التمايز الثقافي والسياسي، والقومي[1].

ويركز التحليل الثقافي على التمايز بين الطبقات الاجتماعية، وتحليل طرائق إنتاج الخطاب، وآليات تشكله من قبل السلطة التي تسعى إلى الهيمنة، فقد أسهم الصراع بين الطبقات الاجتماعية الغربية وفق مفهوم التحليل الثقافي في ولادة مفاهيم ذات مرجعيات وأشكال سلطوية: كالصراع بين الأنا والآخر، المركزي والهامشي، الفحولي والأنثوي... ويقرأ الناقد هذه الثنائيات في ضوء الأحوال التاريخية التي أنشأتها. فالشيء يُعرَف بضدّه/ الآخر، فلا تُعرَف الحرية إلا بحضور الضدّ/ السجن، ولا يمكن فهم البنية الجدلية إلا في النص كاملاً، لا في حدوده الضيقة.

وتهتم التاريخانية الجديدة بمصطلحات مثل: النص، والسياق، والأدب، والتاريخ بوصفها ضداً كلياً. والعالم من حولنا بناء ثقافي متعدد الأنساق الجدلية، وحين يلجأ الناقد إلى دراسة الأنساق الجدلية لا يهمل القيمة الجمالية في النص الأدبي، بل يؤكّد ضرورتها؛ لتعزيز الثقافي خلاف أصحاب مشروع النقد الثقافي  (Cultural Criticism) الذين يرون أن

(146)

وظيفة النقد الثقافي تكمن في استتار القبحيات خلف الجماليات، ومهمة الناقد إظهار القبحيات من الأنساق المضمرة في النصوص الأدبية.

وقد أعلن عبد الله الغذّامي موت النقد الأدبي، وولادة النقد الثقافي، فقد رأى أن تركيز القراءات على الجمالي أغفل العيوب النسقية في الخطاب[1] ولا نستطيع قبول هذا الرأي، فلا يمكن أن يبنى نقد على أنقاض نقد، ولا يتحقق الخطاب الثقافي بمعزل عن جماليات اللغة، والمعنى.

ويتوسّل التحليل الثقافي قراءة الضد في البنية العميقة للخطاب الأدبي، وينمّي تضاد الأنساق الدلالة في النص الأدبي، ويفجّر طاقاته، ويولّد هذا الأمر شعرية نتيجة الجمع بين الضدين، ومسافة التوتر بينهما، والحركة الزئبقية للأنساق النصية.

إن النص الأدبي ـ وفق التحليل الثقافي- ينطوي على نسق مضمر يُظهِر جدليات الصراع بأبعاده الإنسانية والزمانية والمكانية من خلال الثنائيات الضدية، وهذا ما يعزز هيمنة النسق/ النظام، فمفهوم النسق أوسع من مفهوم البناء الاجتماعي[2].

ويضع الشكلانيون الروس النسق الأدبي مقابل النسق التاريخي، ويرون أن النسق الأدبي يتميز باستقلال تام، ويسمح هذا الاستقلال بالتفكير في مسألة أدبية[3].

(147)

واهتمت البنيوية بالنسق حين تحولت عن مفهوم الذات، أو الوعي الفردي إلى انزياح الذات عن المركز، فلا تغدو له فاعلية في تشكيل النسق، بل تغدو وسيطاً لا أكثر. أما حين نقول إن الشعر في مرحلة ما يمثل حادثة ثقافية فيعني ذلك أن الشاعر يستمد مادته من ثقافة التفاعل مع مجتمعه، فثمة نسق جمعي، ونسق فردي خاص يمثل رؤية المبدع الخاصة، وقد يتمرد النسق الفردي على النسق الجمعي المضاد، وقد يُظهِر الخضوع لسلطته، ويتمرد في النسق المضمر، وفي الأحوال كلها يعيد المبدع بناء الواقع حين يتمرد عليه. واللغة الشعرية مرآة للأسيقة التاريخية، والثقافية، والجغرافية.

ويتخذ النسق في النص الأدبي طبيعة مراوغة، فيقدِّم في النسق الظاهر الرؤية، وتدخل في علاقة ضدية مع الرؤيا في النسق المضمر، فيجسد العالم في النص الأدبي بناء ثقافياً جدلياً معقداً يقدَّم في تشكيل خيالي باللغة الشعرية على هيئة أنساق مولّدة للدلالة.

تقوم الشعرية إذن على فكرة الأنساق المضمرة، وتتأسس الأنساق على مبدأ الضدية، فتزداد مسافة التوتر بين الرؤية والرؤيا، والنسق الظاهر والنسق المضمر.

إن النص الأدبي ثمرة التفاعل بين طرفي ثنائية ضدية “القصد/الإنجاز” ومن الصعب الإمساك بهذا الجدل، فثمة أنساق إيجابية/ سلبية، جمالية/ قبحية، متجاوبة/ متصادمة، تتوالى في النص الأدبي.

تهدف التاريخانية -إذن إلى فهم العمل الأدبي في سياقه التاريخي،

(148)

والتركيز على التاريخ الأدبي والثقافي، والانفتاح على تاريخ الأفكار، فارتبطت بمفهوم التاريخ، والتطور التاريخي والثقافي، وعنيت بقراءة النصوص في ضوء مقاربة تاريخانية جديدة تعنى بكشف الأنساق المضمرة، وتقويض المقولات المركزية السائدة، فتستند التاريخانية الجديدة إلى لغة التفكيك، وفضح الأوهام الإيديولوجية في المجتمع، وترى أن ثمة تاريخين متضادين هما: تاريخ السيادة، والتاريخ المهمّش.

وربطت التاريخانية الجديدة النص بالسياق التاريخي والثقافي، وبحثت في التناص؛ إذ نظرت إلى النص على أنه شبكة من الأنساق التاريخية والثقافية المضمرة، فيزخر بالمعارف والإحالات التناصية، ويتضمن السياق الذي تمّ إنتاجه به.

ومن وجهة نظرها النص الأدبي نصّ مفكّك غير متجانس، تتحكم فيه جملة من الأمور المعرفية والفكرية، والنصّ والمؤلّف والقارئ في نظرها عوالم تتأثر بإيديولوجيا العصر، فتتفاعل النصوص تناصياً في حقبة تاريخية معينة، ويمتصّ النص الأدبي سياقياً ما تعبّر عنه النصوص الأخرى، وتتداخل معه دلالة، وتشكيلاً، ورؤية. والنصوص كلها تتفاوض وتتداخل في حقبة تاريخية معينة، فلا أفضلية لنصّ على آخر بمقوماته الفنية، والجمالية.

لكن التاريخانية الجديدة اتجهت إلى الطبقات المهمّشة، وهي التي تقع بين البنيتين الفوقية والتحتية، وهي تدّعي الحياد والموضوعية، لكنها ترتبط بخلفية إيديولوجية، فلا يميزون النص الأدبي من غيره من النصوص، ويرون أن النص الجمالي مثله مثل النصوص التاريخية

(149)

والثقافية والاجتماعية؛ إذ تتضمن هذه النصوص أبنية وأنساقاً مضمرة تحمل في طياتها إيديولوجيات ثانوية، وتعبّر عن قوى معينة طبقية، أو سياسية متصارعة.

ويتوقف النقد التاريخاني عند أوجه الخلل، ويبقى عمله نقدياً فقط، ويهمل الجوانب الفنية والجمالية، ويغضّ الطرف عن الجوانب الشكلية واللسانية والسيميائية في الأدب.

التاريخانية الجديدة منهجية متعددة الموارد، تغضّ الطرف عن الخصائص الفنية، والسمات الجمالية، وتتجاوز الشعرية الشكلانية والجمالية بهدف البحث عن الأنساق المضمرة التي تربطها علاقة تضاد بالأنساق الظاهرة.

5-2 - التفكيكية

وجد التفكيكيون أن فهم الحياة على أساس الثنائيات الضدية يؤدي إلى حصرها في نمط ثابت، وليس في الحياة ثبات، فشككوا في الثنائيات التقابلية، ووضعوا المفاهيم التي تعتمد على القياس المنظم، والاتساق المنطقي موضع الشك، والاستفهام.

وقد تميز الفكر التفكيكي بأنه فكر عدمي، فالشك سمة علمية شرط ألا يكون هنالك غلو فيه. وهذا ما أوقع التفكيكيين في مغالاة كبيرة، فثمة حقائق في الحياة، وهذا يعني أن الشك يجب أن يكون نسبياً، فالحياة قائمة على ثنائية الشك/ اليقين، وتتنازع النفس الإنسانية واحدة من طرفي هذه

(150)

الثنائية، وطبيعة الحياة قائمة على ثنائية التغير/ الثبات، فحين تتعدد الثنائيات يتعدد المسار الحركي التطوري؛ ذلك لأن الحركة تعتمد في جوهرها على وجود الأضداد. ففي النظام الواحدي تكاد تكون الحركة غير ملحوظة؛ لندرة وجودها، ولندرة الخيارات المقدمة، ومن ثمّ ندرة الثنائيات. أما في حال وفرة الثنائيات. فإن الحركة موجودة بقوة، وهذا الأمر الاجتماعي ينسحب على الأدب، فالحركة عنصر أساس للتطور.

الأسلوب التفكيكي مقوِّض للثنائيات، والحقائق الأساسية. ففيما يتصل بالتفكيكية وما بعد البنيوية لم تعط هاتان المدرستان انتباهاً كافياً للثنائيات الضدية، “لأنها تمثل حنيناً إلى حضور الذات والمركزية في النص. وينتقد الناقد الفرنسي جاك ديريدا في كتابه “التركيب والإشارة والفعل في خطاب العلوم الإنسانية 1966 سعي ليفي شتراوس من أجل القضايا الجوهرية في تفسيره الأساطير... وتسعى ممارسات النقد التفكيكي إلى تفكيك الثنائيات النمطية، والتقليل من أهميتها؛ لأنها تميل إلى تبسيط المعنى على نحو كبير جداً، ويظهر كيف يقلل النص من أثر البنية الثنائية فيه عن طريق وجود ثنائية تستعصي على الحلول السريعة المباشرة، أو عن طريق  انفتاح النص على أكثر من قراءة أو تفسير يعتمدان على استجابة القارئ أو عن طريق تعددية المعنى وتنوعه[1].

لقد سارت الثنائية في الفكر التفكيكي في الاتجاه المخالف، فبعد الدمار الذي لحق بأوربا بعد الحرب العالمية الثانية. استخدمت

(151)

الولايات المتحدة القنبلتين الذريتين، فشهدوا نتائج الدمار الذي لحق بهيروشيما وناغازاكي، وتأكد للعالم فشل العلم في تحقيق المعرفة اليقينية، وعاد الشك في قدرة العلم على تحقيق المعرفة[1]. فتمت العودة إلى الذات. لكن هذه المرة بشكل مختلف عما كانت عليه، فقد خيّم شكٌّ فلسفي على العالم، وهو شك جديد ناتج من العالم المتغير والمتحول، ويفترض تحقيق المعرفة ـ حسب ديريدا ـ وجود مركز ثابت هو الكينونة، الجوهر، الحقيقة، وهي مدلولات عليا تمثل أرضية ثابتة تقف فوقها متغيرات العالم.

نشأت التفكيكية في مناخ من الشك الفلسفي في القدرة على تحقيق معرفة يقينية، فيقوم التفكيك على تحديد الشيء، ثم كشفه وفضحه، وكانت بعض الأفكار الأساسية لديريدا مثل الحضور/ الغياب تمثل غياباً للمركز الثابت للمعرفة، ورفضاً للثوابت والقراءات المتعمدة.

أما ثنائية الدال /المدلول فتتحقق في الفكر التفكيكي حين تتسع المسافة بينهما، وقد وصل التفكيكيون في الفصل بينهما إلى أبعد نقطة ممكنة. فالوجود ـ كما يرى هايدغر ـ[2]  يعلن حضوره في اللغة التي تخفيه في علاماتها. ويجسد النص الشعري حضور الوجود وغيابه في الآن نفسه. لكن الحضور/ الغياب، الكشف / التخفي ليس ممكناً دائماً لدى هايدغر؛ لأن اللغة تصطدم بالتقاليد؛ لذلك يشن هجوماً عليها، هذا الهجوم يرتبط بثنائية الحضور/ الغياب في الفلسفة الهرمنيوطيقية.

(152)

يرى التفكيكيون أن التقاليد جامدة تحول دون تحقيق تزامن طرفي الثنائية. فحضور الوجود الأصيل في اللغة لا يتحقق؛ لأنه يختفي ويغيب خلف جدران التقاليد المتوارثة؛ لذا كان الهجوم عليها أمراً إيجابيا، فلا يعبر النص إلا عن الغياب، فيأتي زائفاً.

تحول الشك الفلسفي عملياً إلى رفض القراءات المتعمدة والتقاليد. فالذات لدى (كانت) هي البديل لسيطرة المذهب التجريبي، ثم فشله في تحقيق المعرفة اليقينية، وبذلك تحولت ذات كانت إلى أداة للمعرفة، ذات صانعة للعالم، وهذا ناجم عن الشك المطلق لا عن الثقة في قدرات الذات.[1] فذات التفكيك هي ذات المتلقي في تفسير النص؛ لذا تكثر القراءات للنص الواحد.

6 - بين البنيوية والتفكيكية

تعني التفكيكية تفكيك الخطابات والنظم الفكرية والغوص فيها بحسب عناصرها، ويرى جاك ديريدا J. Derrida إن التفكيك حركة بنائية، وضد بنائية في الآن نفسه، فنحن نفكك بناء، أو حادثاً مصطنعاً؛ لنبرز بنيانه، وأضلاعه، وهيكله، ولكن نفكك في الوقت نفسه البنية التي لا تفسر شيئاً، فهي ليست مركزاً، ولا مبدأ، ولا قوة، فالتفكيك هو طريقة حصر، أو تحليل، يذهب أبعد من القرار النقدي[2].

فالخطاب يتوالد باستمرار، ولا يتوقف بموت مؤلفه، فثمة علاقة

(153)

جدلية قائمة بين ثنائية الحضور والغياب في جسد الخطاب، الحضور سمة مرئية، وظلال الغياب عميقة غائرة، وهو المدلول المنفتح على قراءة مستمرة تحاور القارئ.

لا تبحث التفكيكية فيما قاله المبدع، بل تقول ما لم يقله، فثمة فراغات في النص، والقراءة تقرأ ما لم يقله المؤلف، فثمة علاقات حضور وغياب، وهي علاقات يحكمها التضاد.

بين البنيوية والتفكيكية بين موت المؤلف، وولادة القارئ، وبين ثنائية الحضور/ الغياب إلى أن أفق الغياب هو أفق خلفي للحضور، وحضور أحدهما أمام الوعي يؤدي إلى استدعاء الغائب، فثمة تمييز حاسم بين الوجود والعدم، الحضور والغياب. وقد ربطت البنيوية بين العلامة والمتضادات الثنائية، فجمعت بين الدلالة والتماثل بين المتقابلات. وتتبنى التفكيكية مفهوم الثنائيات الضدية، لكنها تبتعد عن التوفيق بين الأضداد. فالتفكيك تغير لا نهائي للنص بينما يرى البنيويون النص مغلقاً، والتفسير مغلقاً ونهائياً. كل قراءة، لدى التفكيكيين صحيحة إلى أن تفكك القراءة نفسها بنفسها، فكل قراءة لديهم هي إساءة قراءة. والعلاقة بين التفكيك والبنيوية –إذن- علاقة امتداد وتمرد في الآن نفسه. فقد بدا بعض التفكيكيين بنيوياً، وحين فشل المشروع البنيوي في تحقيق طموحاتهم تمردوا عليه.

ثمة ثنائية، وصراع في مجال العلاقة بالتقاليد، وتختار التفكيكية ثنائية التقاليد المتمثلة في استحالة الهروب منها، وضرورة تدميرها؛

(154)

للكشف عن الكينونة/ الوجود والتجربة الإنسانية التي حجبتها التقاليد. وقد شغلت هذه القضية هايدغر ونظريته الهرمينوطيقية. فاللغة تكشف، وتخفي في الآن نفسه.

ويمثل التضاد الثنائي عنصراً مشتركاً في الدراسات البنيوية كلها، لكن التفكيكية نتجت من ثنائية الشك واليقين، ثنائية الذات والموضوع، الداخل والخارج، بناء على ما سبق يعني القول بإمكان المعرفة تأسيساً على الحواس الشك في سلطة الطرف الآخر للثنائية، والعكس صحيح. فقد ظهرت البنيوية في أحضان العلم والتجريب، لكن الدمار الذي لحق بأوربا في أثناء الحرب العالمية الثانية التي انتهت باستخدام الولايات المتحدة قنبلتين ذريتين في هيروشيما وناغازاكي أدى إلى شعور بالرعب من نتائج التطبيقات التكنولوجية للاكتشافات العلمية، فتأكد للعالم أن العلم فشل في تحقيق السعادة والأمان والمعرفة اليقينية، وعاد عصر الشك عنيفاً: الشك في قدرة العلم على تحقيق المعرفة، فكانت موجة الشك الجديدة أكثر عمقاً وشمولاً، ومن هنا نشأ الفكر التفكيكي رافضاً الاعتراف بوجود المركز الثابت، فهم يحددون الشيء، ثم يكتشفونه، ويتعين على ذلك أن ثنائية الحضور/ الغياب ثنائية لا نهائية الدلالة[1].

وتتبنى التفكيكية –إذن- مفهوم المتضادات الثنائية مبتعدة عن التوفيق بين الأضداد (Reconciliation of Opposites) فقد أحلّ

(155)

التفكيكيون اللعب الحرّ للدوال محل التضاد الثنائي، فالدلالات/ الكلمات لا تكتسب دلالتها من تجمعها في تقابلات ثنائية يحدّد فيها معنى كلمة غائبة من معنى كلمة أخرى حاضرة في النص، بل تكتسب معناها المراوغ، والمتخفي عن طريق لعب المدلولات، وحركتها الحرّة، فيتمّ تحديد المعنى بصفة مؤقتة إلى أن يفككه قارئ آخر.

7 - الثنائيات الضدية في الفكر العربي القديم

الثنائيات الضدية وليدة فكر معرفي يتحرك، وينسج مسار حركته، ويتشكل تاريخياً، وهو ينجم عن الواقع الذي يقرؤه في أثناء حركته، يُحكم بشروط تبدأ بالاقتصاد، وتنتهي باللاوعي.

ولثنائية النسق الكوني، ما يماثلها في تفكيرنا، فقد رأى الفلاسفة أن العقل يدرك الحقيقة بالثنائية وثمة ثنائيات كثيرة لها أشد الحضور في حياتنا، فلا وجود لشيء من غير ضده. أما اللغة فهي أداة تحقيق معاني الحياة، و”لأن حقائق المعاني لا تثبت إلا بحقائق الألفاظ، فإذا انحرفت المعاني، فكذلك تتزيف الألفاظ، فالألفاظ والمعاني متلاحمة ومتواشجة...”[1].

يفعّل العقل ثنائية الفكر/ الموضوع رغبةً في الوصول إلى الحقيقة بالعقل المجرّب أمام الطبيعة. ويعدّ الجاحظ من أوائل الذي التفتوا إلى قانون الثنائية الضدية في الثقافة العربية على أنه قانون الحياة الجوهري، إذ يرى أن العالم بما فيه من الأجسام على ثلاثة أنحاء: متفق ومختلف

(156)

ومتضاد، ثم يرد هذه المستويات الثلاثة التي تجسد حيوية القانون إلى الأصل الثنائي الإشكالي مركّزاً إياه حول الحركة والسكون، يقول: “تلك الأنحاء الثلاثة، كلها في جملة القول جماد ونام، وكأن حقيقة القول في الأجسام من هذه القسمة أن يقال: نام وغير نام”[1].

ويعد كتاب المحاسن والأضداد للجاحظ مثالاً على اجتماع الفكرة وضدها في فكره، إذ يقنع المتلقي بمحاسن فكرة ما، ثم يأتي بضدّها، فيوصله إلى مرحلة الاقتناع بخلاف الفكرة السابقة، فتكلم على محسن الكتابة وضدها، ومحاسن الصدق وضده، ومحاسن الوفاء وضده، ومحاسن حب الوطن وضده، ومحاسن الجواري والمطلقات وضده.. يقول في محاسن المشورة: “يقال إذا استخار الرجل ربه، واستشار نصيحه، واجتهد فقد قضى ما عليه، ويقضي الله في أمره ما يحب، وقال آخر: حسن المشورة من المشير قضاءُ حق النعمة، وقيل: إذا استشرت فانصح، وإذا قدرت فأفصح ، وقيل: من وعظ أخاه سراً زانه، ومن وعظه جهراً شانه، وقال آخر: الاعتصام بالمشورة نجاة.

ضده: قال بعض أهل العلم: لو لم يكن في المشورة إلا استضعاف صاحبك لك، وظهور فقرك إليه لوجب اطّراح ما تفيده المشورة، وإلقاء ما يكسبه الامتنان، وما استشرتُ أحداً إلا كنت عند نفسي ضعيفا، وكان عندي قوياً، وتصاغرت له، ودخلته العزة فإياك والمشورة وإن ضاقت بك المذاهب، واختلفت عليك المسالك.. وقيل: نعم

(157)

المستشارُ العمل ونعم الوزير العقل...”[1].

8 - الثنائيات الضدية في النقد العربي الحديث:

يستمد هذا المصطلح دلالته من الإطار الفكري للفلسفة المنتجة، وحين يستعمله النقاد العرب يدخلونه في بيئة غير بيئته، لذا يجب التعامل بوعي مع المصطلح.

حاول كثير من الحداثيين العرب تطبيق المناهج الحداثية على الأدب، ولا يستندون إلى فلسفة خاصة بهم عن الذات والكون والمعرفة، فهم يستعيرون المفاهيم النهائية لدى الآخرين، وينقلون نقلاً، أو يلفقون تلفيقاً.

واتخذ موقف النقاد العرب من النقد الغربي شكل ثنائية الذات/ الآخر، وغالباً ما يعلون من شأن الآخر على حساب الذات، فينبهرون بما قدمه الغرب، أو يعتمدون على مناهج غربية ذات اتجاه واحد كالتفكيكية والبنيوية والنفسية، أو يكون منهجهم تلفيقياً، فيجمعون النقد العربي القديم والنموذج الغربي، فيفقد المنهج هويته، كما أن المناهج الغربية وليدة أسس فلسفية غربية، فقد جمع الغذامي بين البنيوية والتشريحية، وجمع كمال أبو ديب بين البنيوية والتفكيكية، أما عبد الملك مرتاض فقد جمع بين البنيوية والتقليدية.

اعتمد نقادنا على معطيات الفكر الغربي، وكل ناقد فهم الثنائيات

(158)

ضمن المنهج بطريقته الخاصة.

فثمة ثنائيات في البنيوية، لكنها لدى النقاد بنيويات لا بنيوية، واعتمد بعضهم على مقولة واحدة من مقولات منهج نقدي، فظن أنه المنهج كله، ونادراً ما عالج بعض النقاد هذا المصطلح بشكل واضح، وقد ورد في ثنايا دراستهم. كما عالج بعضهم الثنائيات الضدية من وجهة نظر المنهج البنيوي الشكلي، فلم يخرجوا عن النص، وجمع بعضهم بين المناهج النقدية، وبعضهم الآخر خرج إلى مفاهيم حداثية أكثر من البنيوية.

وتأتي دراسة كمال أبو ديب (في الشعرية) محاولة لدراسة التمايز بين الأنساق الضدية، وفجوة التوتر التي تنشأ من ذلك التمايز وهي تنشأ – في رأيه- [1] في لغة الشعر بإقحام مفهومين أو أكثر، أو تصورين، أو موقفين لا متجانسين، أو متضادين في بنية واحدة تمثل فيها كلّ منهما مكوناً أساسياً وتتحدد طبيعة التجربة الشعرية جوهرياً بطبيعة العلاقة التي تقوم بينهما ضمن هذه البنية.

الثنائيات الضدية إذن مصدر أساس من مصادر الشعرية، وترتفع درجة الشعرية في النص بازدياد درجة التضاد.

أما في كتابه (جدلية الخفاء والتجلي)[2] فقد كان ناقداً تطبيقياً، حلل الصورة والسياق، وهذا ليس من البنيوية في شيء؛ لأن همّ البنيوية

(159)

ينصب على البنيات والعلاقات التي تربط بينها لا على الصور، ثم تناول مقطوعات شعرية، وقصائد لشعراء قدماء من زاوية الثنائيات الضدية، فرأى في النص المدروس نسيجاً من الثنائيات الضدية، وانطلق من هذه الثنائيات إلى ثنائيات أخرى متوالدة منها. لكنه لجأ في نقده إلى التقعيد والتشجير، فاستحال التحليل الأدبي لديه إلى عمليات رياضية معقدة أدت إلى الغموض والتعقيد.

أما د. عبد اله الغذامي (الخطيئة والتكفير)[1]فقد سوّغ لنفسه منهجاً جامعاً بين البنيوية والسيميائية والتشريحية مع أن لكل منهج حدوده المختلفة عن الآخر. ورأى أن الإشارة مع أنها ذات طبيعة اعتباطية لا تدرك إذا لم تقترن بما يخالفها ويمايزها، فجمع العناصر التي تدور في مجال ثنائية الخطيئة / التكفير، واستخرج محاور دلالية استقبلت كافة الثنائيات، وطبق هذه الأفكار على شعر حمزة شحاتة، ففكك النص، ثم أعاد تركيبه؛ ليصل إلى كلّ عضوي يختلف عن الكل الأولي.

أما دراسة د. صلاح فضل (نظرية البنائية في النقد الأدبي)[2]
ـ وهو يقصد البنيوية ـ فقد تناول ثنائيات النظم اللغوية عند سوسير، والمقابلات الثنائية التي تكشف عن علاقاتها، وتحدد طبيعتها مثل ثنائية اللغة/ الكلام، المحور الوصفي الثابت/ المحور الزمني المتطور، النموذج السياقي/ النموذج القياسي. ثم تعقب الشكلانيين الروس الذين استبعدوا ثنائية الشكل/ المضمون، وأحلّوا محلها ثنائية الشكل / الإجراء

(160)

حفاظاً على الوحدة العضوية للعمل الأدبي، لكن عمله ينطوي على إشكال فيما يتعلق بفهمه المنهجَ البنيوي الذي يولي الثنائيات الضدية جلّ اهتمامه، فقد فهمه على أن هدفه الأساس اكتشاف تعدد المعاني في الآثار الأدبية في حين أن هدف البنيوية الأساس هو البنية.

 9 - جمالية الثنائية الضدية (الأثر والتلقي)

لعل جمالية الثنائيات الضدية تنجم عن الجمع بين ضدين في بنية واحدة، وهذا ما يؤدي إلى تعميق البنية الفكرية للنص بالحركة الجدلية بين الثنائيات الضدية.

ويثير اجتماع الثنائيات المتضادة الدهشة والمفارقة المتولدة عن اجتماع الضدين في موقف واحد، أو جملة واحدة، أو بيت شعري واحد؛ إذ يوفر الضد إمكان الموازنة بينه وبين ضده، وهذا ما يولد تصوراً معرفياً عن الأشياء يساعد المتلقي على استيلاد ثنائية من ثنائية، فثنائية النور/ الظلام مثلاً يمكن أن تحيل على ثنائية الحلم/ الواقع وغيرها..

تولِّد الثنائيات الضدية فضاء مائزاً للنص، إذ تجتمع جملة علاقات زمانية ومكانية، فعلية بأزمنة مختلفة، فتلتقي هذه العلاقات على أكثر من محور، تلتقي وتتصادم وتتقاطع وتتوازى، فتغني النص، وتعدد إمكانات الدلالة فيه، فالتضاد  الفعلي والاسمي يشكل عالماً من جدل الواقع والذات في صراعها مع الحياة، ووفرة الثنائيات في النص الأدبي دليل انسجام إيقاعاته، وانفتاحه على أكثر من محور، فيمكن أن نعثر

(161)

على مجموعة أنساق متضادة في النص الأدبي الواحد تضفي عليه مزيداً من الحيوية والحركة، هذه الأنساق المتضادة ذات صلة بالكون الذي تصوره سواء أكان ذلك الأمر بالتضاد أم بالتكامل؛ لذا تجتمع فيها الخصائص الجمالية.

يرى جان كوهن J. Cohen [1] أن الثنائية الضدية تنشأ من شعورين مختلفين يوقظان الإحساس، وواحد من هذين الشعورين فقط هو الذي يستثمر نظام الإدراك في الوعي، والثاني يظل في اللاوعي.

ويتلقى المتلقي الثنائية في النسق؛ ذلك لأنه نظام مع أن نظاميته تتجلى في مخاتلته، وطبيعته المراوغة، فتقوم الشعرية على الأنساق المضمرة، وتتأسس هذه الأنساق على مبدأ الضدية على مستوى الموضوع واللغة والصورة، وهذا ما يؤدي إلى زيادة التوتر في المسافة بين ما يظهره النص وما يضمره. وقد تكون العلاقة بين الثنائيات علاقة نفي سلبي وتضاد مطلق، وقد تكون علاقة توسط، أو تناغم وتكامل وإخصاب تكشف دراستها عن التركيب الضدي للعالم، والجدلية التي تتخلله.

وإذا كانت الثنائيات الضدية تولّد شعرية خاصة في النصّ الأدبي فكيف تجلّت أدبياً على صعيدي الشعر والنثر؟

(162)

المصادر والمراجع

1. أبو ديب، كمال: 1981، جدلية الخفاء والتجلي، دار العلم للملايين، بيروت.

2. أبو ديب، كمال: 1987، في الشعرية، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، بيروت.

3. التوحيدي، أبو حيان: 1964، البصائر والذخائر، مطبعة الإرشاد، دمشق.

4. ابن بحر، عمرو (الجاحظ): 1969، الحيوان، ط3، حققه وشرحه عبد السلام هارون، المجمع العلمي العربي الإسلامي، بيروت.

5. ابن بحر، عمرو (الجاحظ): 1912، كتاب المحاسن والأضداد، ط1، مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر.

6. حمودة، د. عبد العزيز: 1998، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، نيسان.

7. كريستيان ديكان: 1982، حوار مع جاك ديريدا، مجلة الفكر العربي المعاصر، العددان 18-19.

8. راغب، د. نبيل: 2003، موسوعة النظريات الأدبية – أدبيات- ط1، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، مكتبة لبنان ناشرون.

9. راي، وليم: 1987، المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، ط1، ترجمة: يؤئيل يوسف عزيز، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد.

(163)

10. شتراوس، كلود ليفي: 1997، الأنثروبولوجيا البنيوية، ترجمة د. مصطفى صالح، منشورات وزارة الثقافة، دمشق.

11. عزام، د. محمد: 2003، تحليل الخطاب الأدبي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق.

12. غارودي، روجيه: 1979، البنيوية فلسفة موت الإنسان، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت.

13. الغذامي، د. عبد الله: 1985، الخطيئة والتكفير، ط1، النادي الأدبي- جدة.

14. الغذامي، د. عبد الله: 1994، المشاكلة والاختلاف، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت.

15. عبد الله الغذامي: 2001، النقد الثقافي- قراءة في الأنساق الثقافية العربية، ط2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، لبنان.

16. محمد عناني: 2003، المصطلحات الأدبية الحديثة، ط3، الشركة المصرية العامة للنشر، لونجمان.

17. فضل، د. صلاح: 1985، نظرية البنائية في النقد الأدبي، دار الآفاق الجديدة، بيروت.

18. كرويزل، إديث: 1993، عصر البنيوية، ترجمة: د. جابر عصفور، ط1، دار سعاد الصباح، الكويت.

19. إيان كريب: 1999، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، محمد حسين علوم، ومحمد عصفور، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد 244، نيسان.

20. كوهن، جان: 1995، اللغة العليا- النظرية الشعرية، ترجمة وتقديم وتعليق:

(164)

أحمد درويش، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة.

21.لجنة من العلماء والأكاديميين السوفييت: 1980، الموسوعة الفلسفية، ترجمة: سمير كرم، ط2، دار الطليعة، بيروت.

22. ليتش، إدموند: 2002، كلود ليفي شتراوس دراسة فكرية، ترجمة: د. ثائر ديب، منشورات وزارة الثقافة، دمشق.

23. مجموعة من الكتاب: 2007، ط،1 هيئة الموسوعة العربية، ط1، الجمهورية العربية السورية، رئاسة الجمهورية، دمشق.

24. مجموعة من الكتاب: 1997، مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، ترجمة: رضوان ظاظا، مراجعة: المنصف الشنوفي، عالم المعرفة، الكويت، العدد 221، أيار.

المراجع الأجنبية

-J. A. Cuddon, The penguin Dictionary of literary terms and literary the ory. 1976 ven sed C.E. Preston, 1998, penguin Books 1999.

-Greenblatt, Resonance and Wonder Literary, Edited by Peter Collier and Jelg Gerer-Ryan, cornell university press, I Thaca, New York, 1990.

-Jhon Branni an, Power and its reprentationa: Anew Historicist Reading of Richar Jefferies “Snowed up” in Literary Theories.

(165)

خاتمة..  مآل المعابر

«سقراط: ما سوف يقوله أفلاطون الآن خاطئ

أفلاطون: ما قاله سقراط قبل قليل صحيح»

جورج بول

 

انطلاقاً من فكرة أن العلوم تنفتح بعضها على بعض، وتتلاقى وجدنا أن الثنائيات الضدية حاضرة في مختلف العلوم في حياتنا التي أساسها التكافؤ بين المتضادات.

والثنائيات الضدية هي توارد الأفكار في النفس البشرية، واجتماع الأمر وضده، لها أصول مرتبطة بالأيدلوجيا والفلسفة، والأسطورة، والعلم، وقد تم سحبها على النقد الأدبي فقد بُنِي سلوك الإنسان عليها، وهي قضية فلسفية لا تفهم بمعزل عن البنى الفلسفية المؤسسة للفكر الإنساني.

وقد نهضت الأساطير على تقابلات ثنائية، وبحثت بمنطق التقابلات عن الأسئلة الوجودية، وفلسفة الإنسان، ورؤيته الكون.

ولهذه الأسئلة الوجودية علاقة بالفلسفة، قد حضرت الثنائيات بقوة في الفلسفة القديمة والحديثة، وحاول الفلاسفة تقديم تصورات، وإجابات عن الكون بمنطق الثنائيات، وقد ارتبط الأساس الفلسفي باللغة والنقد، فكانت الانتجاهات النقدية الغربية الكبرى قائمة على أسس فلسفية بالدرجة الأولى.

(166)

يعود هذا المصطلح النقدي –إذن- في أساسه إلى الخلفية الفلسفية والتراث الفكري الغربي الذي أنتجه، وهو مختلف عن تراثنا وفكرنا وفلسفتنا؛ لذا يجب التعامل بوعي مع مصطلحات هي وليدة فلسفة غريبة عن فلسفتنا وعن فكرنا.

إنّ ثمة علاقة بين الحداثة والأساس الفلسفي الذي تقوم عليه، والحاضن الحقيقي للثنائيات الضدية هو الفكر الفلسفي أولاً، والبنيوية ثانياً.

ومبدأ التضاد الثنائي عنصر مشترك في الدراسات البنيوية كلها، وقد طور جاكبسون مبدأ الثنائيات المتضادة وتتبع خطى سوسير عن العلامة والثنائيات المتضادة.

وفي النقد العربي الحديث غلب التطبيق على النظرية في مجال دراسة الثنائيات الضدية؛ لتلقيهم النقد الغربي جاهزاً.

لقد حاولنا في هذه الدراسة المتواضعة أن نثبت حضور الثنائيات الضدية في أوجه الحياة المختلفة، ومجالاتها العلمية، والفلسفية، والنقدية، والأدبية، فالعلوم الإنسانية بعامة، والفنون التشكيلية تبنى أيضاً بناء تقابلياً.

(167)
المؤلف في سطور سمرجورج الديوب سمر جورج الديوب ، باحث من سورية. العنوان: سورية-حمص-جامعة البعث-كلية الآداب والعلوم الإنسانية-قسم اللغة العربية. المؤلفات [2008-2009] كتاب في أدب صدر الإسلام-تحليل نصوص أدبية- منشورات جامعة البعث. [2009] كتاب الثنائيات الضدية - دراسات في الشعر العربي القديم منشورات وزارة الثقافة الهيئة العامة السورية للكتاب دمشق. [2012] كتاب ليلى الأخيلية،سلسلة أعلام الناشئة، منشورات الطفل، منشورات وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب دمشق. [2013] التشكيل الفني في الشعر العربي القديم-شعر صدر الإسلام أنموذجا، دار أرواد، طرطوس، سورية. [2014] النص العابر:دراسات في الأدب العربي القديم، اتحاد الكتاب العرب،دمشق. [2015] مجاز العلم-دراسات في أدب الخيال العلمي-الهيئة العامة السورية للكتاب. [2016] الخطاب ثلاثي الأبعاد:دراسات في الأدب العربي المعاصر،مجاز للنشر في دائرة الثقافة والإعلام في حكومة الشارقة. المؤتمرات والندوات شاركت في مؤتمرات علمية في الأردن،ولبنان،وسوريا،ولي عدد من المشاركات في الندوات والمحاضرات.
هذا الكتاب الثنائيات الضدية الثنائيات الضدية موجودة منذ الأزل، لكن طرفي الثنائية يتوحدان في واحد كلي ، فحين تشير الثنائية إلى التعدد تنتهي إلى الوحدة،والتكامل فالشر لا يناقض في جوهره الخير،ولكنه متمم له،ولازم لوجوده، فلا تظهر الفضيلة إلا باقترانها بالضد ولا معنى للكرم من غير اقترانه بالضد فلا بد لكل شيئ من ضد يميزه ويوضحه. والثنائيات الضدية ظاهرة فلسفية أساسا تم سحبها على النقد الأدبي، وأول من طبقها على الأدب البنيويون ، ويعد هذا المصطلح مفردة من مفردات الثقافة الغربية يمثل اسسا فلسفية بالدرجة الاولى له أبعاد ايديولوجية وفلسفية موغلة في القدم، ولفهمه بأبعاده كلها لابد من العودة إلى أصله الفلسفي ليتضح معناه ثم يتعين على ذلك دراسته في حقل النقد الأدبي الذي استفاد من اصطلاحات علم الاجتماع وعلم النفس... ومن الفلسفة التي شكلت الأرض الخصبة له. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف