فهرس المحتويات

سلسلة مصطلحات معاصرة 6 العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية الليبرالية تأليف شهريارزرشناس ترجمة حسن الصراف
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها،وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظمة الفكرية المختلفة. ثانيا:إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لا سيما وأن كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقة. ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة رابعا::رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ومجال استخداماته العلمية فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الاخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية
(4)

الفهرس 

مقدمة  المركز7

تمهيد9

تأصيل النظرية الليبرالية ومعناها اللغوي11

مراحل نشوء الليبرالية الكلاسيكية15

أ ــ تكوّن الإنسان الحداثوي18

ب ـ نشوء الإقتصاد الرأسمالي الحداثوي26

آراء الممهدين للنظرية الليبرالية31

بي ير دوبوا33

مارسيليوس من بادوفا35

نيكولومكيافيلي37

الأسس الفلسفية لليبرالية الكلاسيكيّة56

 التجريبيّة57

المذهب الذرّي59

القراءة الحداثويّة للإنسان61

(5)

الفهرس

الأخلاق العلمانيّة ــ الإنسانويّة في عصر الحداثة63

القراءة الحداثويّة لمفهومَي السلطة والسياسة66

الديمقراطية الحداثويّة69

نظريّة التقدّم73

فلسفة الحق ذات النزعة الإنسانويّة75

الليبرالية والماسونيّة والقبلانيّة83

4 ـ الحسيديّة المتأخّرة (الجديدة)89

حول الجانب الأيديولوجي98

خصائص الليبرالية الكلاسيكية121

الخلاصة148

(6)

 مقدمة  المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية  يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف الى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً الى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحو التالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم  والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات

(7)

العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

 *      *       *

هذا البحث من سلسلة مصطلحات معاصرة محاولة للإحاطة بالليبرالية كنظرية ومصطلح ومفهوم فيه يقدّم الباحث الإيراني شهريار زرشناس قراءة تاريخية للنظرية الليبرالية بوجهيها الكلاسيكي والمعاصر، ويبين الأسس الفكرية والفلسفية التي ارتكزت إليها كما وردت في المدارس والتيارات الحديثة في أوروبا.

والله ولي التوفيق

(8)

تمهيد

الليبرالية هي الأيديولوجيا الأولى والأقوى في العالم الحديث. لقد تحوّلت الليبرالية منذ العقود الأخيرة من القرن العشرين إلى ما يُسمّى بـ "نيوليبرالية _ Neoliberalism" أو"الليبرالية الحديثة"، وأصبحت الأيديولوجيا المُهيمنة على العالم الغربي وكذلك العالم الحداثوي المتأثّر بالغرب. لا شكّ في أنّ الليبرالية هي الأيديولوجيا الرائدة والأساسية في الفكر الحداثوي ويبدوأنّها أقدم نظريّة في الفكر الغربي وأكثرها صموداً. إنّها تمثّل الأيديولوجيا الرئيسة في النظام الرأسمالي الغربي الحديث وهي أكثر نظريّة تتطابق وتتواءم مع مصالح الطبقة الرأسمالية الحديثة والعلمانيّة.

لقد تمخّضت النظرية الليبرالية عن الفكر الغربي في القرن السادس عشر وأصبحت أيديولوجية واضحة المعالم ومهيمنة في القرن السابع عشر، وانتشرت بشكل متدرّج ولعبت دوراً أساسياً ومهمّاً في المجال السياسي طوال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت سبباً في تحولات اجتماعية وسياسية عظمى في المجتمعات الغربيّة. وفي سياق تطوّرها التاريخي أصبحت لليبرالية أقسامٌ مختلفة، ويمكن تلخيص هذه العناوين وتمييزها في الأنواع الثلاثة الآتية:

1_ الليبرالية الكلاسيكية: التي نشأت في القرن السادس عشر وكانت كهيئة الجنين الذي لم يكتمل، وبرزت في القرن السابع عشر بهيئة أيديولوجية متكاملة ومؤثّرة، ولعبت دوراً بارزاً وأساسياً طوال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر خدمةً للمصالح الرأسمالية الحديثة في المجتمعات الغربية، وكذلك لتأمين الأهداف الاستعمارية التي رسمها المستعمرون الغربيون في البلدان والدول غير الغربية. كما

(9)

استمرّت حياة الليبرالية الكلاسيكية إلى حدّ ما طوال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين. ولكن تراجع دورها المؤثّر بالتدرّج بتوسع الأيديولوجيات الفاشيّة والاشتراكية ذات التوجه الماركسي، والاشتراكية ذات التوجه الديمقراطي.

2_ الديمقوراطية الاشتراكية التي تعود نشأتها للنصف الثاني من القرن التاسع عشر تمثّل الجانب المعتدل من الليبرالية، إذ تبلورت إثر الأزمات والانتكاسات التي واجهتها الليبرالية الكلاسيكية، واعتُمدِت كمنهجٍ لإنقاذ الرأسمالية الغربيّة.

لقد صعد نجم الديمقراطية الاشتراكية في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية واستمرت حتى العقد الثامن من القرن العشرين، وتراجع دورها لاحقاً مع نشوء الليبرالية الحديثة.

تقدّم الديمقراطية الاشتراكية قراءةً ليبرالية للنظرية «الاشتراكية»، وهي تعمل وفق المنظومة الفكرية الليبرالية ولا تحيد عن الغاية النهائية في دعم المصالح الرأسمالية وفق المعايير الليبرالية الرئيسة. ولكنّها تسعى في الوقت ذاته للتقليل من ضغط أصحاب رؤوس الأموال على الأوساط العمّالية في المجتمعات الغربيّة، وغالباً ما تخدع هؤلاء بتقديمها بعض الامتيازات (التي تكون أقلّ بكثير من استحقاق العامل والمستضعف في المجتمع الغربي)، وبذلك تدفع خطر الاحتجاجات والمظاهرات والاضرابات العمّالية، وتحافظ على الهيمنة الاستعمارية والرأسمالية ذات التوجه العلماني والحداثوي.

على الرغم من أنّ الديمقراطية الاشتراكية تستعير مفاهيمها

(10)

ومصطلحاتها وشعاراتها من الاشتراكية الحديثة إلّا أنْ نسقها العام يعتمد النظريّة الليبرالية وتلتزم بالغايات الليبرالية بصورة غير مباشرة.

3_ الليبرالية الحديثة (Neoliberalism): تمثّل أحد أنماط المدرسة الليبرالية، إذ تشكّل أساسها النظري في بدايات القرن العشرين، (ويمكن إرجاع ذلك إلى أواخر القرن التاسع عشر). ولكنّ تنظيرها الحقيقي والمنسجم بدأ بعد النصف الثاني من القرن العشرين، وبرزت منذ أواخر السبعينيات بصفتها الأيديولوجيا المهيمنة والمتنفذة في الفكر الغربي، وهي الآن تعدّ النظرية الرائدة والحاكمة بلا منازع في العالم الحديث.

تأصيل النظرية الليبرالية ومعناها اللغوي

إنَ النواة الأساسية في النظرية الليبرالية تعتمد «الحريّة الفرديّة». إنّ كلمة (Liberalism) مأخوذة من الأصل اللاتيني (Liber)[1] بمعنى (الحُرّ)، وعليه يمكن القول إنّ الليبرالية في اللغة تعني «الدعوة إلى الحرية»؛ على أنَّ هذا المنظور للحرية يجب أن يخضع لدراسة تأويلية.

إن كلمة «ليبرال» هي ككلمة (Liberty/ الحريّة) مأخوذة من الجذر اللاتيني (Liber) بمعنى «الحُر».[2] ولكن لفهم معنى الليبرالية بصفتها أيديولوجية واضحة المعالم يجب البحث والتنقيب في مفهوم «الحريّة الفرديّة»، وقد لا يتحصّل ذلك إلّا بالمنهج التأويلي.

ولتقديم قراءة تأويلية لمفهوم «الحريّة الفرديّة» يجب الوقوف

(11)

على مفهومَي «الحريّة» و«الفردانيّة»[1]. عندما نتحدث عن الحريّة نجد أمامنا سؤالَين مهمَّين: «الحريّة من أيّ شيء؟ أوممّن؟» و«الحريّة مِنْ أجل ماذا ومِنْ أجل مَنْ؟»

إنّ حقيقة وجود الإنسان هوعين الربط والتعلّق، فلذلك نجد البشر في العالم الواقعي (وليس في عالم الأوهام الخاص بالنفس الأمّارة المستقلة في العالم الحديث) في ساحة العبوديّة والتعلّق والتبعية من الولاية. فلذلك لا يمكن الحديث مطلقاً عن حريّةٍ مطلقةٍ للفرد (سواء كان ذلك ممكن الحدوث، أومسألة حاصلة فعلاً). ثمّة تعلّق وعبوديّة موجودة دوماً وراء أي حريّة، وعليه ينبغي الانتباه إلى أننا عندما نكون بإزاء الحريّة وشعاراتها يفترض بنا أن نعلم أنّ هذه الحرية تكون من أيّ شيء أومِمَّن؟ وما هي النتائج المطلوبة من هذه الحرية، وإن الفرد المتحرر يفترض أن يكون تحت إمرة من؟ إن البحث في مفهوم الحريّة لا يستفسر عن وجود العبودية أوعدم وجودها، بل يريد أن يعرف من الذي يتحرر منه الفرد عندما يكون حرّاً وإلى من ينقاد بعدئذ؟ فعندما نتحرر هل نتحرر من عبوديّة الحق لنكون عبيداً للطاغوت والشيطان؟ أم نتحرر من عبودية الشيطان والطاغوت لنصل إلى عبودية الحق واتباع الولاية الإلهية؟ إن الليبرالية بصفتها نظرية ذات طابع حداثوي تدعوإلى اتباع النفس الأمّارة، ولكنّها في شعاراتها الداعية للحرية تدعوإلى تحرير الفرد من كلّ الأمور التي تناوئ النفس الأمّارة. إذن إن أحد

(12)

المطالب الجوهريّة في الشعارات الليبرالية الداعية للحرية هي الخضوع لهيمنة النفس الأمّارة والقبول بالعبوديّة لها[1].

إنّ هذه النواة الأساسيّة في متبنيات الليبرالية (أي: الحرية الفردية) تقدّم قراءةً حداثويّة لمفهوم «الفرد»، إذ تبلورت هذه القراءة في المنظومة الفكريّة الليبرالية تحت عنوان (الفردانيّة _ Individualism). تَعدُّ الليبرالية «الوجهَ الفرديَّ للنّفس الأمّارة» حقيقة الإنسان، إذ جرى تعريف الإنسان في هذه المنظومة الفكريّة وفقاً لهذا المنظور الذي يعدّ الإنسان كائناً نفسانيّاً قائماً بذاته، (أي: إنّه كائن يتحرك ويتحفّز بأمياله وآماله غير المحدودة وغير المقيّدة وغير المشروعة والنفعيّة والباحثة عن التلذذ والسلطة والتكبّر والاستثمار)، وهوفي ذاته لا يملك أي حسّ وحافز إيجابي تجاه نظيره الآخر، بل إنّ ما يقرّبه من الآخرين بصورة مؤقّتة، أويبعده عنهم هوعوزه وميله لتحقيق الرغبات والهيمنة على الآخر. إنّ البُنية الداخلية في الفردانيّة التي تُعد من أساسيات الليبرالية، والتي قد يمكن أن نسميها الفردانيّة الليبرالية تستبطن نظرةً نفعيّة بحتة للإنسان وللحياة. ويمكن القول إذن إنّ مصداق «الفرد» وفق المنظور الليبرالي هوالفرد الحداثوي الحائز رأس المال. يقول هارولد لاسكي [2] بهذا الصدد:

إنّ الفرد في هذه الحقبة هومظهرٌ للتاجر الحداثوي، أوربُّ عملٍ حديث، أومكتشف حديث [من صنف هؤلاء المغامرين القساة الذين كانوا روّاد الاستعمار الغربي  في البلدان الآسيويّة والغربية

(13)

وأمريكا اللاتينية] يستهوي الأخطار بأفكار جديدة.[1]

يعتمد مفهوم الفردانيّة في النظريّة الليبرالية مفهوماً آخر نسمّيه «الفرد المنتَشَر»، إذ يمثّل المظلّة العامّة لمحور الفردانيّة في النظرية الليبرالية. إن مفهوم الفرد المنتَشَر يشير إلى تلك الصورة المثاليّة التي ترسمها الحداثة عن الإنسان. إن الحداثة تريد أفراداً سطحيين ومتناسقين في نمط الحياة والسلوك والهويّة العامّة، ليتكوّن مجتمعاً يتواءم مع المصالح الرأسماليّة؛ فهي تروّج النظرة النفعيّة والسالبة للهويّة كنموذج لنمط العيش وتدعوالجميع لاتباعه. إن البنية الأساسية للفردانيّة الليبرالية تتقابل مع الفردانيّة الإنسانيّة الأصيلة (التي تؤكّد الرجوع إلى الصورة الإنسانيّة الثابتة والحقيقية)، وإنّ الحريّة الليبرالية أيضاً تتعارض مع الكمال والحق والعدالة، وتتماشى مع التبعيّة والعبودية الخالصة للنفس الفرديّة الأمّارة. إنّ الليبرالية بصورها المختلفة هي الأيديولوجيا المدافعة عن الرأسمالية في إطارها الحداثوي والعلماني والمبررة لها، ولا تقدّم شيئاً للمحرومين والمستضعفين سوى الفقر والظلم. إنّ الليبرالية تنشد الحريّة لمصلحة الفرد المنتَشَر، وإنّ الأخير هوالأنموذج الليبرالي والمتزلزل للكائن البشري الحداثوي، وهوالنموذج المطلوب والأنسب وفق المنظور الليبرالي، إذ يمثّل صورة مشوّهة وممسوخة عن الفردانيّة الحقيقية ذات البُعد الإنساني الأصيل. إنّ الفرد المنتَشَر يمثّل تلك الصورة الكاذبة التي ترسمها النظرية الليبرالية عن المجتمع الخاضع لسلطة رأس المال.

ما هي ملامح الفرد المنتَشَر في النظام الليبرالي الرأسمالي؟

(14)

1_ إنّه يمثل إنساناً وسطيّاً عاميّاً يعتمد العقل الجمعي المشترك (common sence).

2_ إنّه أسير عقل معيش. أي العقل المنقطع عن عقل الهداية، والذي لا يكترث أبداً بالمعاد وعالم المعنى والملكوت، ويمضي غارقاً في النفعيّة الليبرالية.

3_ إن الفرد المنتَشَر هوفردٌ فاقدٌ لأيّ غاية وهدف، وتتلخص حياته ومعناها في توفير المستلزمات الماديّة لحياة حداثوية برجوازيّة.

4_ إنّه كائنٌ فاقدٌ للمسؤولية الاجتماعيّة والشعور الإنساني، ولا يستمع لنداء «الضمير الذي يدعوإلى الحُب والروحانيّة».

5_ يمثّل الفرد المنتَشَر الصورة الحقيقية للفردانيّة الليبرالية. إنّه يعيش وفق نمط الطبقة الرأسماليّة.

مراحل نشوء الليبرالية الكلاسيكية

تمثّل الليبرالية الكلاسيكية_كما أسلفنا_ الصورة الأولى من صور النظرية الليبرالية، وفي الوقت نفسه تُعَد النظرية الرائدة والمهيمنة في العالم الحديث. يمكن تعقّب الجذور النظريّة الأولى التي سبقت نشوء الليبرالية الكلاسيكية في القرن الخامس عشر، وذلك في آراء أصحاب النزعة «المركنتيلية»[1] الاقتصادية. ولكنّ التبلور النظري الأوّل لليبرالية الكلاسيكية بصفتها نظريّة واضحة المعالم يعود إلى القرن السادس عشر.

(15)

قد يُطرح سؤالٌ يفيد: ما هي الأسباب الرئيسة التي أدّت إلى نشوء الليبرالية الكلاسيكية في القرن السادس عشر؟ وما هي العوامل التي أدّت إلى صعود نجمها في القرنَين السابع عشر والثامن عشر؟ للإجابة على هذين السؤالين يمكن الولوج من عدّة محاور. فعلى الرغم من أنّ هذه المحاور مندمجة تماماً في الإطار التاريخي ولا يمكن تجزئتها، ولكن لتبسيط الإجابة نبادر إلى تفكيكها:

أــ تكوّن الإنسان الحداثوي

ب ــ نشوء الاقتصاد الرأسمالي الحداثوي

ج ــ نشوء الأفكار الحداثوية التي مهدت لنشوء النظرية الليبرالية

إنّ الأحداث التي وقعت في التاريخ الأوربّي إبّان القرنَين الثالث عشر والرابع عشر، وإنّ القراءة التأويلية للتطورات الكبيرة التي حصلت على مستوى التفكير والسلوك الغربيَين منذ أواخر القرن الثالث عشر تشير إلى بزوغ عالَم جديد في ذلك الحين. إنْ شئنا قراءة الأمر من وجهة نظر فلسفة التاريخ المعنويّة، وإنْ اعتمدنا الفهم التأويلي في هذه القراءة فسنرى أنّ هذا العالم الجديد (أي العالم الغربي الحداثوي) هوعالم أصالة الإنسان وعالم استفلاليته، حيث تكون الأصالة التامّة والمطلقة للإنسان الحداثوي، ويكون مهيمناً على العالم بدلاً من الله.

إذن يمكننا أنْ نتحدّث عن ظهور عالم جديد منذ القرن الرابع عشر، وهوعالم تهيمن عليه النفس الأمّارة، وتتمثل روحه الباعثة لتوحيده في النظرية الإنسانية (H0umanism)[1]. إنّ الإنسانيّة هي

(16)

من جوهر العالم الحداثوي ومن داخل ذاته، وإنّ سائر الخصائص والصفات والمظاهر هي من مظاهر هذه الذات الجوهريّة. إنّ العالم الغربي الحديث هوعالم «الاستكبار الإنسانوي»، فبظهور الاستكبار الحديث اقترن تاريخ الغرب الحداثوي بالنفس الأمّارة وبكلّ ما فيها من صفات وخصائص وجوانب مختلفة ليتكوّن بعد ذلك عالمٌ تكتنف حقيقته بهيمنة هذه النفس على المستوى النظري (كالفكر والفلسفة والفن والأدب والعلوم والشعر والخطابة والكلام، حتّى إن كان ذلك في إطارٍ ديني) وعلى المستوى العملي (كنمط العيش والعلاقات الاقتصادية والنظام الأُسَري والنسق المعماري وتخطيط المدن ونظام التعليم والجيش والحروب وسائر المظاهر التكنيكية وغيرها من وجوه الحياة الماديّة المتوعة والمعقّدة). إنّ العالم الحديث هذا قد تورّط وانهمك بالعدميّة والعلمانيّة بصورة أشدّ وأعمق مما هو كان في العالم الغربي الإغريقي والروماني.

إن العالم الحديث الذي ولد في أحضان النفس الأمّارة والروح الداعية للنظرية الإنسانوية يتبلور في إطار التعريف الجديد لعلاقة الإنسان مع هذا العالم. إنّ العالم الإنسانوي المستقل ليس بمعزلٍ عن الإنسان المستقل صاحب النزعة النفسانيّة.

بناءً على ما تقدّم يمكن أنْ نعرّف انساناً جديداً ظهر منذ أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر، وهوما سميّ بالإنسان الحداثوي (الإنسان المنتمي للنظرية الإنسانويّة)، وبناءً على العلاقة الموجودة بين هذا الإنسان والعالم، واستناداً إلى

(17)

طبيعة قراءته لنفسه ولله وللعالم يتعرّف العالم الحديث.

أ ــ تكوّن الإنسان الحداثوي

يتبلور عالم الإنسان بناءً على ذلك العهد الذي يبرمه الإنسان مع معبوده. إن التاريخ الغربي الحديث قد تكوّن في إطار النفس البشريّة، لذلك إنّ صورة الإنسان النوعيّة تعبد النفس الأمّارة. لطالما كانت الصورة الإنسانيّة المثاليّة في مختلف الحِقَب التاريخية تتبع الشيء أوالذات التي يعبدها الإنسان. إن الصورة المثالية للإنسان الحداثوي هي ماهيّةٌ سُمّيَت بـ «الإنسان البرجوازي». إن القصد من الإنسان البرجوازي ليس تلك الطبقة التي سمّاها «كارل ماركس» الطبقة البرجوازية. إنّ الصورة المثاليّة للإنسان البرجوازي هي ماهيّة لا يحدّها المفهوم الطبقي (وفق المنظور الماركسي)، بل هي تشير إلى حقيقة الإنسان الحداثوي وبواطنه، أي (الطبيعة التاريخية للإنسان الحداثوي). إنّ الطبقات والفئات الاجتماعيّة والأفراد في العالم الحداثوي يُدرَجون تحت تلك الصورة المثاليّة للإنسان الحداثوي. إذن لمعرفة الذات والطبيعة التاريخية للإنسان الحديث يجب دراسة ماهية «الصورة المثاليّة للفرد البرجوازي». وهنا يجب تأكيد على أن مفهوم (البرجوازي) في دراستنا هذه هي بمعنى «Borg» أي «المدينة» أو«المدينة العصريّة». عندما أصبح الإنسان الحداثوي في أوروبا خلال القرنَين الثالث عشر والرابع عشر يسكن في المدن الحديثة، وجعل من المدن مركزاً لنشاطاته  اليوميّة أطلق عليه «البرجوازي» (أي ساكن المدينة الحديثة)، وبعبارة وجيزة سُمّيَ كلّ من يعيش في العالم الحديث، وكلّ من يروّج ويجسّد الآمال والأهداف النفعيّة والاقتصاديّة والنفسيّة للعالم الحديث سُمّيَ بـ«البرجوازي».

(18)

إنّ الصورة المثاليّة للإنسان البرجوازي تمثّل الحقيقة النوعيّة للإنسان الحداثوي الغربي والمغترب الذي نشأ خلال العصور الحديثة وفي المجتمعات الغربية الحديثة أوالمستغرَبة بمختلف الصور والمستويات والوجوه وفي الطبقات الاقتصادية والاجتماعية المتنوعة كالرأسماليين والعمّال والطبقات الوسطى حتّى الريفيين والرعاع (اللومبنبروليتريا ـ  Lumpenproletariat)[1]. يمثّل الإنسان البرجوازي الصورة المثاليّة لكلّ إنسان حداثوي، لا ينتمي بالضرورة لطبقة اجتماعيّة محددة. على الرغم من ذلك فإنّ التجليات المثاليّة للفرد البرجوازي تختلف من طبقةٍ وفئةٍ اجتماعية إلى أخرى.

لنا أنّ نتساءل هنا ما هي الخصائص الأصليّة للفرد البرجوازي الذي يمثّل الصورة المثاليّة للإنسان الحداثوي؟ إنّ علاقة الفرد البرجوازي مع العالم وسائر الأفراد تتعرف في نطاق مفاهيم النظرية الإنسانوية، فإنّه يتعامل باستقلاليّة مع ذاته والطبيعة وسائر الأفراد. إنّ الفرد البرجوازي بصفته موضوعاً نفسانيّاً يمثّل «حيواناً اقتصادياً» أكثر من أيّ شيء آخر. بعبارة أخرى إنه حيوان نفعي يبحث عن الأرباح فقط، ولا يحدّه أي شيء ولا يردعه في سبيل جني الأرباح. إنّ باطن الفرد البرجوازي قد يتأسس على جني الأرباح بصورة غير مشروعة وغير محدودة، وهي نزعة استثماريّة تعود جذورها إلى علاقة الإنسان الذاتانيّة[2] مع العالم والآخرين.

یمکن تلخیص ملامح الصورة المثاليّة للفرد الحداثوي التي عبّرنا

(19)

عنها بـ «الفرد البرجوازي» في النقاط الآتية:

1ــ محورية جني الأرباح في نطاق الحيوان الاقتصادي.

2ــ النظرة الاستثمارية والأدواتيّة لسائر الأفراد وللبيئة الاجتماعية، (سواء كانت عن وعي أوعن غير وعي)، وهي نزعة مبنيّة على رؤيةٍ تنمو من التكبّر، وهي راسخة في فكر الإنسان الحداثوي وفي سلوكه وكلامه، وهي في الأساس جزء من عالمه الخاص الذي يعيشه.

3_ الانهماك بالاستغراب والتورط به؛ الأمر المتجذّر في الجانب الإنسانوي من الفرد الحداثوي وفي طبيعة علاقته مع الكون، وهوما يكشف مدى ابتعاد هذا الإنسان عن الحق والحقيقة.

4_ الانهماك بالبُعد الرأسمالي واعتماد ثالوث المال والربح ورأس المال (وفق المنظور الحداثوي والعلماني)، وهوما يكشف عن نزول الإنسان إلى مستوى بات يُعَبَّر عنه بـ«الحيوان الاقتصادي النفعي المتاجر».

5_ اعتماد العقل الحداثوي [العقل ذوالنزعة الإنسانويّة] الذي غالباً ما يكون رافضاً للقضايا الغيبيّة، ويميل للاستقلاليّة في التفكير، الأمر الذي يؤدّي إلى انكار الولاية الإلهيّة بمختلف الأشكال والأساليب، إذ يتباهى بإعراضه عن الحقّ والحقيقة. وهوأشبه ما يكون بالنزعة الفكريّة التي اعتمدها الفلاسفة في عصر التنوير، إذ تؤكّد مخالفتها ومجابهتها للتعاليم الدينية، وكتعريفِ «كانت» بالتنوير، إذ يعدّه معادلاً لنبذ العبوديّة لأي موجودٍ بمن فيهم الله، أوكالآراء الفلسفيّة والأيديولوجية التي اعتمدها الحداثويون والكثير من أتباع نظرية ما بعد الحداثة المعاصرين.

(20)

إنّ العقل الحداثوي لا يؤمن بالغيب والأمور القدسيّة والولاية الإلهيّة على الإنسان، ويسعى جاهداً للاستيلاء على العالم والإنسان لتسيير أغراضه النفسانيّة. إنّ العقل الحداثوي التي تبلور بصورٍ شتّى في عقلانيّة[1] ديكارت، وفي تفسير كانت، وبشكلٍ ما في تعريف «هيغل»؛ ولكنّه في المحصلّة النهائية يشترك في منهجٍ واحد، إذ يفكّر بطريقة «كمّيّة»، ويعجز تماماً عن فهم ماهيّات الأمور، ويبادر في بعض المَواطن إلى تخطئة السير نحومعرفة الماهيّات، وقد ينكر وجودها في بعض الحالات.

إنّ «الإنسان البرجوازي» بصفته الصورة المثاليّة للفرد الحداثوي، حاضرٌ بصورةٍ أوأخرى في كلّ فردٍ ينتمي للعالم الحديث ويتنفس فيه. إذ إنّ الخصائص آنفة الذكر مهيمنة (بمستوياتٍ متفاوتة) على كلّ هؤلاء، وإنّ الأفراد كلّهم بمختلف فئاتهم الاجتماعية الحديثة من قبيل العامل والتاجر والتكنوقراط وصاحب المصنع والفلّاح والمثقف و... ينتسبون بدرجاتٍ متفاوتة لهذه الصورة المثاليّة، ويبلور كلٌّ منهم من موقعه الوجوه المختلفة والمتفاوتة للإنسان البرجوازي.

إنّ باطن «الإنسان البرجوازي» الذي يفصح عن روحه وحقيقته هوبمثابة علامة فارقة نعرفّها بـ«الحيوان الاقتصادي». إنّ الإنسان البرجوازي قبل كلّ شي هوحيوان نفعيّ اقتصادي، وإنّ هذه المنفعة التي يمكن أن نعبّر عنها بـ«منفعةٍ علمانيّة إنسانويّة» أو«منفعة ذاتانيّة» أومنفعة حداثويّة» تتعارض في ماهيتها مع ما يعبَّر عنه في المنظور الإسلامي بالمنفعة أوبما يطلق عليه بـ«العلم النافع». إن النفعيّة

(21)

الحداثويّة هي نفعيّة بعيدة تماماً عن الحدود الشرعيّة والأخلاقيّة، إذ لا يحدّها حدٌّ ولا قيد؛ ولأنّها مبثوقة عن النزعة الإنسانويّة فتكون لها صبغة علمانيّة، وبالتالي تكون ذات توجّه استثماريّ وأدواتيّ.

إنّ المحتوى الرئيس في النفعيّة الإنسانويّة هوالجانب الاقتصادي أكثر من أيّ شيء آخَر، إذ تتجلّى في المجتمعات الغربيّة في إطار تنافس مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية، وكذلك في نطاق الصراع بين مصالح الشعوب والدول الحديثة.

لقد اتخذ مفهوم الربح والمنفعة طابعاً اقتصاديّاً منذ بداية عصر الحداثة وبتأثير من الصورة المثالية التي فرضها الفرد البرجوازي، إذ كان كنز الأرباح يعتمد النهج الرأسمالي وبتوجّهٍ علمانيّ، واتسع هذا المنظور خلال القرنَين السابع عشر والثامن عشر. يقول ألبيرت إيريشمان[1] حول تغلّب مفهوم المنفعة والربح (بمعناه الرأسمالي والحداثوي) واختزال هذين المفهومين في الإطار الاقتصادي:

«عندما بدأت الأفكار واللغات تتطور انحسر معنى «منفعة» الأشخاص والفئات في النطاق الاقتصادي، ولم يكن في اللغة الدارجة واليوميّة فحسب، بل أصبح مصطلحاً تخصصياً في علم الاجتماع واشتقت منه مفاهيم أخرى كـ»المنفعة الطبقيّة» و«الفئات المنتفعة». وقد تجاوز معنى المنفعة الحاكمَ ليشمل سائر الفئات الخاضعة للحاكم في كلٍّ من فرنسا وبريطانيا. وفي هذا السياق حققت رسالة «مصالح الأمراء والممالك المسيحية» للدوق هنري

(22)

أثراً كبيراً، وقد تُرجمَت فوراً للغة الانجليزية وأثارت ردود أفعالٍ واسعة. إن أحد أكثر العبارات تأثيراً في هذه الرسالة تكمن في الصفحات الأولى التي تقول: إنّ المنفعة هي الوحيدة التي لا تغيب أبداً... وهي عبارة تعود للمثل القائل: «المنفعة لا تكذب أبداً»، وقد راج هذا المثل كثيراً في بريطانيا خلال القرن السابع عشر. وقد نوقشت هذه العبارة أوهذه الرؤية كثيراً ــ بحسب الحاجة الاقتصادية لها ــ طوال هذا القرن وذلك خلال المناقشات والمباحثات الرامية إلى التهدئة السياسية وإيجاد نوع من التسامح الديني رعاية لمصالح الفئات الاجتماعية. يقول «فليكس روب» في نهاية هامشه على رسالة طويلة حول «المنفعة»:

في نهاية هذه الحِقبة، أي في نهاية القرن السابع عشر، اتخذت المنفعة معنى اقتصادياً بحتاً. يقول «جي.اي.غان» بعبارة أشمل: إنّ المنفعة انتقلت سريعاً من غرف الاجتماعات والمجالس إلى الأسواق. وفي بدايات القرن الثامن عشر نجد «اللورد شافتسبري»[1] يعرّف المنفعة أو(الربح) بـ«نزعة لإيجاد تسهيلات» تمكننا من البقاء والاستمرار، ويعدّ كنز الثروات «أهواءً نفسيّة» تكون نافعة جدّاً. لذلك يرى «هيوم»[2] أنّ «الميل النفسي لتحقيق المنفعة» أو«العاطفة المرتكزة على المنفعة» هي مترادفة مع «الحرص لكسب المال والمنال» أومع «حبّ الربح». إنّ فكرة المنفعة (بمعنى الربح) التي تشكّلت في الأدبيات السياسيّة بعد ميكيافيلي ــ أي المعرفة المنضبطة لكلّ شيء يضيف من السلطة والثروة والهيمنة ــ اعتُمدَت

(23)

بشكلٍ عام في فرنسا في بدايات القرن السابع عشر، وخلال فترة وجيزة أقبل منظّرو الأخلاق البارزون وغيرهم من الكتّاب على هذه الفكرة وتناولوها في دراساتهم المعمّقة حول طبيعة الإنسان[1].

يعود نشوء الإنسان الحداثوي إلى أواخر القرن الثالث عشر، وتتمثل صورته المثاليّة بالفرد البرجوازي. أمّا الصورة المثاليّة للفرد البرجوازي فقد انبثقت طوال المدّة من القرن الرابع عشر حتّى القرن السادس عشر وهيمنت على كلّ جوانب حياة الأفراد في المجتمعات الحديثة، وقد شرعت الجهود الفكريّة منذ بدايات القرن السابع عشر لتبرير هذه الهويّة، بل تمجيدها. من هنا تحوّل «هوى النفس» إلى قضيّة ممدوحة، وأصبح الخضوع لهوى النفس أمراً معقولاً ومطلوباً. ومع صعود نجم النظام الرأسمالي إبّان القرن السابع عشر تبلورت هذه الرؤية وصُرّح بها في النصوص الفكريّة، وأمسى «جوهر هوى النفس» يُعرَّف في سياق الحديث عن المنفعة الاقتصادية المنشودة[2]. ومن هنا بات الإنسان الحداثوي يتباهى بكونه حيواناً اقتصاديّاً داعياً لجني الأرباح وتحقيق المنفعة، وأنّه «إنسان يتبع المال» (حتّى إنْ أدّى ذلك إلى تجرّده عن الإنسانيّة). بهذا نشأ نظام أخلاقيٌّ يعدّ الأنانيّة والنفعيّة والربح غير المشروع وغير المُنصِف أمراً مقبولاً؛ وليس هذا فحسب، بل يعدّه أمراً معقولاً ومطلوباً، معرّفاً الحقيقة الإنسانيّة بهذه الخصال والخصائص النفعيّة والربحيّة. إنّ الإنسان من منظور العالم الغربيّ هوتجسيدٌ لـ«النفس الأمّارة»، وإنّ العقل والإرادة يتبعانها، بل يتعدّيان ذلك ويصبحان عين شهوات النفس الأمّارة (وفي مقدمتها شهوة المال والربح في

(24)

الإطار العلماني ـ الإنسانوي، ومن ثمّ الشهوة الجنسيّة المشروعة وغير المشروعة وغير المحدودة). وقد صرّح بذلك «ديفيد هيوم» ــ الفيلسوف الانجليزي في عصر الظلمات، أوالعصر الذي يُطلَق عليه «عصر التنوير» ـ إذ يقول: «إنَّ العقل هوستارة الأهواء النفسيّة (الشهوات)، ويجب أنْ يكون كذلك»[1].

إنّ النفعيّة غير المحدودة وغير المقيّدة بشرط وغير المشروعة (النفعيّة العلمانيّة الإنسانويّة) هي ظاهرة جديدة ظهرت في التاريخ الغربي، ولم تكن لها أيّ سابقة في سائر الحضارات القديمة ولاسيما الشرقيّة منها وغير الحداثويّة. يقول روبرت هيلبرونر[2] بهذا الصدد:

إنّ هذه النفعيّة وهذه الفكرة القائلة: «على الجميع البحث عن الطرائق الكفيلة بتحسين وضعه المادّي»، هي فكرة لم تكن موجودة لدى الطبقات الدنيا والوسطى في المجتمعات البشرية القديمة كالمصريّة والإغريقيّة والرومانيّة. فضلاً عن ذلك فإنّ هذه الفكرة لم تكن موجودة أيضاً في القرون الوسطى الأوروبيّة، بل ظهرت واتسعت خلال عصر التنوير وانتشرت طوال فترة الإصلاحات في حين يمكن تأكيد غيابها في المجتمعات الشرقيّة. إنّ هذه الظاهرة الاجتماعية البارزة في كلّ مكان هي ظاهرة جديدة وتشبه حرفة الطباعة من حيث حداثتها[3].

إنّ نشوء مفهوم «المنفعة أوالربح» من المنظور العلماني والإنسانوي هومن نتاجات الغرب الحداثوي. فكمّا جرت الإشارة

(25)

لم يكن للفكرة أيّ حضور أوهيمنة قبل عصر الحداثة، بل على العكس تماماً، إذ كانت تُقَبَّح بشدّة كلّ محاولة في كنز المال والأرباح بالطرق غير المحدودة وغير المشروعة[1]، وكان يُعَبَّر عن ذلك بأسوء الأهواء النفسيّة وفي مقدمة الذنوب الكبيرة[2].

ب ـ نشوء الإقتصاد الرأسمالي الحداثوي

إنّ الليبرالية الكلاسيكية وغيرها من صور الليبرالية هي الأيديولوجية الخاصّة بالنظام الرأسمالي، وتمثّل فكر الطبقة الرأسماليّة. إنّ الليبرالية بكافّة أقسامها (الليبرالية الكلاسيكية، والليبرالية الجديدة، والليبرالية الديمقراطية ذات الطابع الاشتراكي) هي للذود عن مصالح الطبقة الرأسمالية العلمانية، وتتصدّى وتقارع كلّ فكرة أونظريّة تخالفها في الأسس والمتبنيات.

ما هوالنظام الرأسمالي الحداثوي؟ قبل الخوض في الحديث عن النظام الرأسمالي يجب أنْ نؤكّد على أنّ (النظام الرأسمالي العلماني ــ الإنسانوي ــ الحداثوي) يتفاوت في ماهيته مع سائر الأنظمة الدّاعية إلى كنز المال، إذ أنّ «رأس المال» هومفهوم يختلف عن مفهوم «الثروة». إنّ مفهوم «رأس المال» هوواقع اقتصادي واجتماعي ينتمي إلى عصر الحداثة، وبعبارة وجيزة يمكن أنْ نقول بأنّ رأس المال هوالوجه الاقتصادي للذاتانيّة (Subjectivism) والإنسانويّة (Humanitarianism). إنّ ثروة الحُكّام والملوك والعصور السابقة للحداثة على عظمتها لم تُعَد «رأسُ مالٍ». إن

(26)

رأس المال تكوّن في عالمٍ اتخذ من استقلاليّة الذات البشرية محوراً وأساساً، وأصبح ــ أي رأس المال ــ الوجه الاقتصادي للحداثة، مثلما تكوّن النظرية الميكيافيليّة[1] الوجه السياسي للحداثة. بعبارة أخرى لا يمكن أنْ نطلق على أيّ ثروة مفهوم «رأس المال». إن رأس المال هوثروة سيّالة لتحقيق غايات النزعة النفعيّة، وإن قيمته هي في اعتماده لكنز المزيد من المال، ومن ثمّ جني المزيد من الأرباح من خلال استثمار الموارد الطبيعة والإنسانيّة وكلّ ما هومتاح في هذا العالم. إنّ رأس المال من خلال هيمنته على العالَم والإنسان، وباعتماده قوّة داخليّة تتمثّل بالطمع والجشع اللامتناهيين، يصنع لنفسه مسارات توصله إلى غاياته النفعيّة ومشاريعه التي تهدف إلى جني الأرباح من دون الاكتراث بأي مبدأ ديني أوحكم شرعي أوأخلاقي، ويستمرّ بكنز المزيد من الأموال وبلا انقطاع.

إنّ محفّز رأس المال الرئيس في هذا المسار هو النفعيّة الإنسانويّة، (لا الربح المحدود والمشروع والأخلاقي الذي أقرّته الشريعة الإلهيّة)، وإنّ رأس المال يجسّد العلاقة الإنسانويّة الذاتانيّة الموجودة بين الإنسان والعالم في الوجه الاقتصادي. ولأنّ رأس المال يتبع النزعة النفعيّة غير الشرعيّة، ولأنّه يتخذ من استثمار الموارد الطبيعية والإنسانيّة بصورةٍ هدّامة (وليس بصورة عقلانيّة) فسيكون افتقاره للشرعيّة موجوداً في ذاته. إن رأس المال هووجه اقتصادي طاغ على الإنسان الحداثوي (الذي يعرّف نفسه موضوعاً نفسانيّاً، وإن حقيقته الوجوديّة هي النفس الأمّارة). وبعبارة أخرى إنّ

(27)

رأس المال هوالوجه الاقتصادي للنفس الأمّارة البشريّة، إذ تأصّل وهيمن وتسلّط في إطار النزعة الرأسماليّة في العالم الحداثوي.

إن النظام الرأسمالي مبنيٌّ على مبدأ «أصالة رأس المال»، وسيطرته على كلّ شيء. إنّه نظام اقتصادي _ اجتماعي بنزعة إنسانويّة، إذ نشأ في بدايات القرن الرابع عشر الميلادي (وحسب رأي بعض المؤرخين في أواخر القرن الثالث عشر)، وتحوّل طوال بضعة قرونٍ إلى النظام الاقتصادي المُيهمن على العالَم. على الرغم من أنّ الثروة وكنز المال كانا أمراً متداولاً قبل عصر الحداثة، ولكنّ ما كان للمبادىء الرأسماليّة أيّ وجودٍ قبل عصر الحديث، فهي _أي هذه المبادىء_ من نتاجات العالم الغربي الحداثوي ومن صلب ذاته الإنسانويّة. ولأنّ النظام الرأسمالي خاضعٌ ليهمنة رأس المال (بمعناه الحداثوي)، لذا فسيكون نظاماً استثماريّاً منتهكاً وعلمانيّاً وغير عادل. إنّ غلبة المنظور الربحي المُعَلْمَن والإنسانويّ في النظام الرأسمالي، وكذلك توجهه الاستثماري الذاتي يتبلور في علاقاتٍ اجتماعية واقتصادية غير عادلة، وكلّما تكاثَرَت أرباح أصحاب رؤوس الأموال أصبح سائر أفراد المجتمع أشدّ فقراً، ويتخبّطون في بؤس وعوزٍ أكثر من قبل. إنّ الظلم والعلاقات المبنية على تهميش بعض الفئات هي من الصفات الذاتية في الرأسماليّة والملازمة لها، فمن دونها ما كان للإنسان الحداثوي أنْ يظهر للوجود، ولَما هيمنت النزعة النفعيّة الإنسانويّة العلمانيّة، ولَما نشأت الرأسماليّة أصلاً. إنّ الرأسماليّة الحداثويّة، ورأس المال نفسه يمثّلان تجسيداً للرؤية الإنسانويّة، ولذلك يتصفان بمعارضتهما للدين والتدين والعالَم الديني. يقول «هارولد لاسكي» حول نشوء الرأسماليّة الحداثوية في الغرب:

(28)

كانت طريقة التفكير الرأسمالية مترسّخة في الأذهان وبشكلٍ ملحوظ إبّان القرن الرابع عشر الميلادي، ولذلك تولّدت نزعة كنز المال والثروات وأصبحت الحافز الرئيس للنشاط البشري. قبل هذه الفترة وتحديداً في القرون الوسطى كانت القواعد الأخلاقيّة التي يروّج لها رجال الدين عاملاً في تقييد نزعة كنز المال. ولكن تضاءلت قوّة هذه المحددات بعد عام (1500م). الملحَظ المهم في هذا السياق هوأنّ أثر نزعة «كنز المال» قبل القرن الخامس عشر لم تهيمن مطلقاً على فكر الأفراد. لم يُعَد كنز المال [رأس المال] قبل هذه الحقبة سبباً لمشروعية سلوك الأفراد وأحقّيته، بل كانت الأعمال تقيَّم وفق أصول وقواعد أخلاقيّة، وكانت الأصول الأخلاقيّة مقدّمة على الأصوال الاقتصادية. لقد كانت المُنتِج خلال القرون الوسطى في نشاطاته الاقتصاديّة كافّة (كالتجارة والصناعة) يراعي الأصول الأخلاقيّة ليضفي الشرعيّة على نشاطه. بالطبع كان يحقّ للفرد بأنْ يسعى لتحقيق راحته وسعادته، ولكنْ كان عليه تحقيق ذلك وفق القواعد الأخلاقيّة، فمثلاً ما كان مسموحاً له بأنْ يحدد سعر بضاعته بناءً على نسبة العرض والطلب، وما كان يستطيع تحديد الأجور بحسب قيمة العمل الحقيقية. لقد كانت ساعات العمل وجودة المُنتج وطريقة البيع وآلية الربح تابعة لأصول ومبادىء أخلاقية كان على الفرد مراعاتها لينال السعادة الروحيّة والمعنويّة. لقد كانت هذه الأمنيّة من الأمور المتعارَف عليها في القرون الوسطى، إذ على الفرد مواءمة أفعاله وسلوكياته في هذا العالم الفاني مع تلك المبادئ والأصول المعنويّة لينال سعادةً أسمى وفلاحاً في العالم الأخروي. إنّ كنز الثروات (جمع رأس المال/ جمع الأرباح غير المشروعة) يتعارض مع هذه المبادىء. لقد كانت الثروات الماديّة

(29)

في القرون الوسطى بمثابة ثروة المجتمع ورأس ماله، إذ لم يكن الفرد هوالمالك الحقيقي، ولَم يستغلّ الثروة من أجل راحته فقط، ولم تنحصر همومه بتحقيق المنفعة الشخصيّة، بل كان يعدّ ما عنده ملكاً للمجتمع، ويعدّ نفسه أميناً على ذلك. وبهذا كان الفرد يحدد نفسه من جهتين: مرّةً من جهة صرف المال الذي حصل عليه، وثانيةً من جهة الطرائق التي يكسب بها هذا المال. كانت هذه القضيّة هي التي تشكّل أساس الأخلاق الاجتماعيّة في القرون الوسطى. ولكن انحسرت هذه الرؤى والتوجهات بالتدرّج مع صعود الرأسماليّة واستبدلت نظرية «الملكيّة الجماعيّة» بنظرية «الملكيّة الفرديّة»، وغاب الاعتقاد بوجود قوّة إلهيّة ناظرة على أعمالنا وسلوكياتنا الفرديّة، وتبلورت رؤيةٌ تفيد بأنّ كلّ عملٍ عندما تكون فيه منفعة فإنّه مشروع... لم يكن للرأسماليّة أيّ حضور في الثقافة السائدة في القرون الوسطى، ولذلك ارتأت الرأسماليّة أن تخلق مناخاً فكريّاً وثقافيّاً يتلاءم مع آرائها وتوجهاتها. لا شكّ في أنّها فعلت ذلك بكلّ هدوء وصمت ولم تنجح إلّا بعد مضيّ ثلاثة قرون، وبعد أنْ تمكّنت من رفع الحواجز. كانت الرأسماليّة تحاول أنْ تسجّل حقّاً لرأس المال، وأنْ تصونه من تدخّل أيّ قوّة خارجيّة. وبهذا أصبحت الرأسماليّة في ذاتها نظريّة فلسفيّة، وإنّ المؤمنين بها لا يحتاجون إلى أدلّة من خارج منظومتها الفكريّة ليبرروا بها سلوكهم، ولذلك أصبحت الشؤون الفرديّة والسلوكيّات كافّة منطوية تحت مظلّة الرأسمالية المتمثلّة بـكنز الأرباح والثروات. إنّ الحركة الاجتماعية التي قادت إلى إزالة النظام الاقطاعي وانتشار النظام الرأسمالي دحضت المنظور القائل بأن السعادة الاجتماعية تتحقق من خلال مراقبة أعمال الفرد من قبل المجتمع، وجلبت منظوراً جديداً يفيد بأن

(30)

السعادة الاجتماعيّة تحصل من خلال تحرير الأعمال والابتكارات والنشاطات الفرديّة من أيّ رقيب)[1].

مع ظهور النظام الرأسمالي واتساع رقعته أصبحت الحاجة ملحّة لإنشاء نظريّة تروّج لهذا النظام وتدافع عنه. ومن هنا انتشرت البذور الأولى للآراء الليبراليّة إبّان القرن السادس عشر، وأينعت هذه البذور في تربة المدرسة الإنسانويّة الغربيّة، وظهرت في القرن السابع عشر في آراء «جون لوك»[2] على شاكلة النظرية الليبرالية الكلاسيكية.

آراء الممهدين للنظرية الليبرالية

كما جرت  الإشارة آنفاً إنّ ماهيّة النظريّة الليبرالية الكلاسيكية وكذلك الليبرالية ذات التوجه «الديمقراطي ـ الاشتراكي» و«الليبرالية الحديثة» منطبقة مع أسس المدرسة الإنسانويّة. تعود أصول آراء المدرسة الإنسانويّة إلى كتابات «بيير دوبوا»[3]، و«مارسيليوس من بادوا»[4] و«فرانشيسكوبتراركا»[5]، و«جيوفاني بوكاتشيو«[6]،

(31)

و«لورنزوفالا»[1]، و«نقولاس الكوزاني»[2]، و«بيكوديلا ميراندولا»[3]، و«مارسيليوفيسينو«[4] و«نيكولومكيافيلي»[5]، و«مارتن لوثر»[6]، و«جان كالفن»[7]، و«دسيدريوس إيرازموس»[8] وغيرهم من الكتّاب والفكّرين. لقد تبلور في كتابات هؤلاء (خلال القرنَين الرابع عشر والخامس عشر) التعريف الإنسانوي للبشر، إذ انتشرت هذه النظريّة للتتكوّن روح الرأسماليّة وكلّ ما يلحق بها من سياسةٍ وأخلاق وآدابٍ وفنون. لقد روّج الكاتب الإنسانويّ الإيطالي في القرن الخامس عشر «ليوناردوبروني»[9] في كتابه (الإنسانويّة) المنظور المادّي والنهج الرأسمالي في كنز الأرباح واتباع الملذّات، كما فعل ذلك الكاتب المعاصر له «لورنزوفالا» من قبل، وقد قام « فرانشيسكوبتراركا» بذلك قبلهما بقرنٍ، إذ مدح في نصوصه جمع الأرباح والأموال. وفي القرن

(32)

الخامس عشر نفسه كتب «بوجيوبراشيوليني»[1] في عام 1428 رسالةً في (الجشع)، مروجاً ومشجعاً للروح النفعيّة الحداثويّة. وقد تبعهم في ذلك الفيلسوف الإنسانويّ الإيطالي « ليون باتيستا ألبيرتي»[2] وروّج للروح الرأسماليّة، متناولاً إيّاها من جوانب أخرى.[3] وإنْ شئنا ذكر كلّ هذه الشخصيّات المهمّة والمؤثّرة فستطول القائمة. لذا رعايةً للاختصار نتناول في ما يلي وبشكلٍ موجز بعضاً من هذه الشخصيّات الفكريّة التي أثّر نتاجها لاحقاً في القرن السادس عشر في ظهور النظريّة الليبراليّة. وسنتناول بهذا الصدد الممهدين للنظرية الليبرالية (بدءً من 1300م ولغاية 1600م).

بي ير دوبوا

بي ير دوبوا (المولود في سنة 1255م والمتوفى سنة 1321م) هومفكّر سياسي وحقوقي فرنسيّ. كان دوبوا مستشاراً قانونيّاً ومنظّراً سياسيّاً في بلاط الملك الفرنسي «فيليب الرابع»[4]، ويمكن أن نعدّ آراءه السياسيّة والقانونيّة من أقدم الآراء التي أنتجها الفكر السياسي الغربي في العصر الحديث وفي ظلّ حكومة ملكية مطلقة؛ (وهنا

(33)

يجب ألّا ننسى أنّ أوّل نموذج للدولة الحديثة في الغرب الحداثوي هو الدولة المطلقة).

كان دوبوا من أشدّ المناوئين للكنيسة الكاثوليكية، وكان من مروّجي النموذج الفرنسي للعلمانيّة[1] ومن دعاة هيمنة الملك على الكنيسة ومن المطالبين بإجراء إصلاحات برجوازية في الأراضي الزراعيّة.

قد لا يمكن أنْ نطلق على دوبوا عنوان (الليبرالي) بصورةٍ دقيقة، إذ لم تتبلور في القرن الرابع عشر البيئة المناسبة لنشوء الليبرالية، ولا يمكن البحث عن هذه المدرسة الفكريّة في هذه الفترة)، ولكن «النظريّة الليبرالية الكلاسيكية» قد أعادت لاحقاً بعض جوانب أفكاره وآراءه. فعلى سبيل المثال كانت رؤية دوبوا المناوئة للكنيسة، ومطالبته بتحديد صلاحياتها، وكذلك جهوده لإرساء نظام قانونيّ دوليّ معلمَن ومحاولاته في إيجاد تغييرات علمانيّة في النظام القضائي لإزالة طابعه الديني، أوتأكيده تقويض أسس الاقتصاد الإقطاعي، كلّ ذلك هي من القضايا التي تطرحها الليبرالية الكلاسيكيّة، وكذلك الثورات الليبرالية. على الرغم من أنّ «بي ير دوبوا» لم يُعَد من منظري الليبرالية الرئيسين، ولكنّ لا شكّ في أنّ آرائه القانونيّة والسياسيّة ساهمت في توجيه البوصلة الفكريّة على مدى ثلاثة قرون لاحقة، لتنتهي إلى النظرية الليبرالية.

كان دوبوا عدوّاً لدوداً للمسلمين، وكان يفكّر دوماً في كيفية الاستيلاء على بيت المقدس (الذي لم يكن تحت هيمنة الصليبيّن في القرن الرابع عشر)، وقد قدّم بهذا الصدد خططاً عديدة لتنصير

(34)

المسلمين الشرقيّين، وللحدّ من نفوذهم وتقليل أعدادهم، وإطلاق حملات التبشير ونشر المسيحية، (التي أصبحت في ما بعد من الأساليب الخاصة لتوسيع المستعمرات). ومن الخدَع التي استعملها بهذا الصدد الاعتماد على الاغرائات الجنسيّة، إذ اقترح تدريب مجموعة من النساء الأوروبيّات ليتمكنّ من اغراء الرجال المسلمين الشرقيين والزواج بهم، ولاسيما رجال الدين المسلمين، ليتحوّلوا تدرّجاً إلى الديانة المسيحية. ومما قيل في هذا الموضوع: (إنّ دوبوا كان يقول درّبوا مجموعة كبيرة من ذوات الجوراب الأزرق (كناية عن الفتيات المسيحيات الأروبيات) ليتزوجن برجال الدين الشرقيين. بعد الزواج يستطعن تنصير الشرقيين وتحويلهم للمسيحية)[1].

مارسيليوس من بادوفا

مارسيليوس (المولود في عام 1270 والمتوفى في عام 1343 للميلاد) كان من أهالي مدينة «بادوفا»[2] في إيطاليا. درس في الكنيسة وتعلّم الطب، وأصبح رئيسا لجامعة باريس مدةً من الزمن، وعيّنه البابا (يوحنا الثاني والعشرون)[3] قاضيّاً شرعيّاً في كنيسة بادوفا. كان مارسيليوس (الذي يُعرَف أيضاً بـ«مارسيليوالبادافي») يستلهم آراءه الفلسفيّة من كتابات «ابن رشد»، وكان يرى ــ كسائر المتأثرين بابن رشد المعاصرين له ــ إمكانية قيام دولة غير دينيّة تستطيع توفير سبل العيش الوفير والسعادة للأفراد، وكتب مع «جان جاندون»[4] وهومن

(35)

المتأثرين بابن رشد أيضاً كتاب «حامي السلام»[1]. كان مارسيليوس من دعاة «الديمقراطية الإنسانويّة»، وتوجد في آرائه ملامح من النزعة الفرديّة والنفعيّة، الأمر الذي نعدّه تمهيداً مُمتدرّجاً لنشوء الليبرالية على الصعيد النظري.

إن القراءة التي قدّمها مارسيليوس عن الإنسان في بدايات القرن الرابع عشر أصبحت فيما بعد من أساسيات الرؤية الليبرالية للإنسان. لقد عرّف مارسيليوس حقيقة الإنسان في إطارٍ فرديّ ونفعي. يقول «بارنز»[2] و«بيكر»[3] في كتابهما المعنَون (Social thought from lore to science)[4] حول الجوهر الليبرالي في قراءة مارسيليوس للإنسان:

«اتبع مارسيليوس طريقة الأبيقوريين[5] وبدت آرائه متشابهة مع آراء اللاحقين من أمثال «ميكيافيلي» و«هوبز»[6] و«بنثام»[7] في

(36)

تناوله قضية الفردانيّة والنفعية. فالأفراد ــ وفق رؤيته ــ يتعاونون أويتخاصمون معاً وفقاً لعقولهم النفعيّة. يقول «آلن» حول آراء مارسيليوس في النفعيّة والفردانيّة التي تخالف تماماً آراء باباوات الكنيسة ولاسيما آراء «توما الأكويني»[1]: إنّ هذا الرأي الذي ينقد بشدّة المسيحيين الأصلاء في العصر الوسيط يشبه رأي ميكيافيلي، وهوقريب من رأي هوبز. إنّه يترك الأساس الأخلاقي السامي وينتصر «للنفعيّة»، ولا يرى أيّ علاقة لثنائية الحقّ والباطل مع الحياة الأخرويّة، ولا توجد لها أيّ آصرة مع نظم الكون.)[2]

إن مصدر السلطة والقانون وفق قراءة مارسيليوس هوالإنسان، وهذه رؤية إنسانويّة اعتمدها في تنظيم أفكاره وفي نقده للكنيسة الكاثوليكيّة. لذا يمكن أنْ نعدّ مارسيليوس من روّاد النظرية الديمقراطية ذات الطابع الإنسانوي والعلمانية والإصلاح الديني وغيرها من المفاهيم الأساسيّة في النظريّة الليبرالية خلال النصف الأوّل من القرن الرابع عشر الميلادي.

نيكولومكيافيلي

ولد مكيافيلي عام 1469 وتوفي عام 1527 للميلاد. تعود أصوله لمدينة فلورانسا الإيطالية، وجاءت شهرته بـ«ميكيافيلي» بسبب آرائه السياسية التي طرحها في نصوصه. فضلاً عن اشتغاله في الفكر السياسي فإنّه كان شاعراً ومسرحيّاً أيضاً، إذ تُعَدّ مسرحيته

(37)

(ماندارك)[1] من المسرحيات الكوميديّة الشهيرة في إيطاليا حتّى الآن، فهومن المؤثرين في السرد القصصي والنثر. إذ يمكن أن نعدّ ذلك دليلاً على اتّباعه لنهج «»جيوفاني بوكاتشيو« الذي رسمه في الأدب الغربي خلال القرن الرابع عشر، وقد تطوّر لاحقاً في القرنين السابع عشر والثامن عشر وتبلور في إطار «الروايّة».

كان مكيافيلي مفكّراً حداثويّاً وأنموذجاً لطبيعة النفس البشريّة في الغرب إبّان عصر التنوير. إن الجانب السياسي هوالجانب الأنضج والأبرز في مجموعة نصوصه وآرائه، ويمكن أنْ نقول إنّ الفلسفة السياسيّة الميكيافيليّة[2] تمثّل الوجه الظاهري والباطني للسياسة الغربية الحديثة، وإنّ العُنف والرذيلة والخداع وحبّ الهيمنة الكامنة فيها تروي الجوهر الباطني والخفيّ في حقيقة السياسة التي تبنّتها الحداثة.

تحدّث مكيافيلي في كتابَيه «الأمير»[3] و«نقاشات حول ليفي»[4] عن الروح النفسانيّة في السياسة الحديثة، وينحاز تماماً للمنظور الحداثوي عن السلطة، متخذاً من ذلك أساساً لنظرته السياسية للعالم والإنسان.

كان مكيافيلي كاتباً علمانيّاً، وهومن أرسى قواعد النظريات

(38)

السياسية الحديثة بقراءته الحداثويّة عن السلطة السياسية، وهي قراءة تتمحور حول هيمنة النفعيّة ذات المنحى الإنسانويّ، وبهذا أصبحت السلطة وفق المنظور الذي أرساه مكيافيلي حاضرةً في السجالات الفكريّة والأيديولوجية الحديثة كافّة بما فيها الليبرالية التي تُعد تحصيلاً لآراء مكيافيلي، إذ تطرح النشاط السياسي في إطار المنظور الحداثوي لمفهوم السلطة (الذي بيّنه مكيافيلي).

إضافة إلى القراءة الجديدة لمفهوم السلطة فإنّ مكيافيلي بلور قراءة جديدة وحداثوية أخرى تتناول مفهوم الحريّة، إذ تكون مبنيّة على نوعٍ من الهيمنة الامبريالية، وإنّ هذه القراءة الاستعمارية والاستثمارية لمفهوم الحرية لدى مكيافيلي هي من أسس الدعوة للحرية التي تبنتها الليبرالية، إذ تبلور ذلك في الليبرالية الكلاسيكية وفي سائر الليبراليات.

مارتن لوثر وجان كالفن، البروتستانتيّة[1] والكالفينيّة[2] والبيوريتانيّة[3].

(39)

ولد مارتن لوثر» في ألمانيا سنة 1483، وهوقسيس وراهب مسيحي رفع راية المخالفة والاعتراض ضدّ البنية الفكريّة والتنظيمية للكنيسة الكاثوليكية في سنة 1517. كان لوثر ابناً لعائلة ريفيّة فقيرة في ولاية ساكسونيا[1] في شرق ألمانيا. قاد لوثر حركة الاحتجاج ضدّ الكنيسة الكاثوليكيّة، التي انتهت بانشقاق كبير في الكنيسة المسيحية، إذ أُسّست البروتستانيّة في مقابل الكاثوليكيّة.

تعدّ البروتستانيّة المسيحية قراءة إنسانويّة لهذه الديانة، وتعتمد التراث اليهودي الموجود في التعاليم والأحكام المسيحية. إنّ مارتن لوثر بحركته الاحتجاجيّة التي انتهت بتأسيس البروتستانيّة، مهّد ــ سواء عن قصد أومن دون قصد ــ لانتشار الرأسمالية الحديثة والأخلاقيات والثقافة الرأسمالية ذات الطابع الإنسانويّ في أوربّا الوسطى والشماليّة، وبهذا يكون من المساهمين في إرساء قواعد الليبرالية.[2]

يرى هارولد لاسكي في سياق حديثه عن العلاقة بين البروتستانتية المسيحية ونشوء الليبرالية أنّ البروتستانتية ساعدت في تطور وانتشار الفلسفة الليبرالية ولا شكّ في ذلك. كما يرى أنّ حركة الاصلاح بتقويضها سلطة الكنيسة الكاثوليكية أوجدت «فلسفة إلهيّة» جديدة تقوم بإحداث تغييرات واسعة النطاق في توزيع الثروات، ممهدة بذلك لنشوء دول غير دينية (علمانيّة).[3]

(40)

على الرغم من أنّ حركة مارتن لوثر لم تتميز بمنظومة فكرية منسجمة وواضحة المعالم، ولكنّ عمله انصبّ على خدمة التيارات الرأسماليّة الناشئة في العالم الحداثوي، ممهداً لنشر الأفكار النفعيّة (وفق ما تريده الليبرالية وتياراتها في القرن السابع عشر).

إنّ مارتن لوثر بمخالفته للكنيسة الكاثوليكية أصبح ــ عن قصدٍ أومن دون قصد ــ عاملاً لترويج الأخلاقيات ذات التوجّه الرأسمالي والعلماني، والنزعة الفردانيّة الليبرالية. فعلى الرغم من أنّ لوثر لا يعدّ منظراً أومفكّراً ليبراليّاً، ولكنّه مهّد لنشوء «الليبرالية» في القرن السادس عشر.

تشير بعض القرائن والأدلّة التاريخية إلى أن مارتن لوثر كان يهوديّاً متخفّياً[1] (اليهود المارانوس)[2]أي (اليهود الذين يتظاهرون باعتناق دين آخر غير اليهودية، بسبب الظروف المختلفة)، وفي كثيرٍ من المواطن كان يعجز عن إخفاء تعلّقه باليهوديّة، إذ كتب في عام 1523 كتاباً بعنوان (عيسى ولد يهوديّاً)، أثنى فيه على اليهود واصفاً إيّاهم بـ«شعب الله المختار»، وقد أفرط كثيراً في انحيازه لليهود حتّى تسبب بتوجيه انتقادات كثيرة له، مما جعله يشكومن انتقادات مخالفيه في كتابه آنف الذكر بقوله:

(41)

(إنّي أتحدّث مع الكاثوليكيين وكلامي موجّه إليهم. إذا تعبوا من وصفي بالكافر فبإمكانهم أنْ يسمّوني بـ«اليهودي»)[1].

إنّ مارتن لوثر بطرحه الأفكار والآراء الداعية للإصلاح الديني، حَـوّلَ البُنية التاريخية للديانة المسيحية لمصلحة  اليهود. فمن خلال المقارنة بين آراء الكنيسة الكاثوليكيّة في القرن السادس عشر وآراء لوثر وغيره من المبلغين البروتستانتيين المسيحيين يمكن أنْ نقف على الأسس العقائديّة للمذهب البروتستانتي الذي يعتمد عقائد يهوديّة وينصبّ في مصلحة أصحاب رؤوس الأموال اليهود (الذين يشكّلون الفئة الكبرى لأصحاب رؤوس الأموال في الغرب منذ عدّة قرون)، وبهذا تكون البروتستانتيّة حلقة وصلٍ بين اليهوديّة والنظريّة الليبراليّة وذلك من خلال القراءة العلمانيّة والنفعيّة التي قدّمتها عن الإنسان والتعاليم الأخلاقية والعقائد المسيحية.

على الرغم من أنّ «البروتستانتيّة المسيحيّة» بدأت على يد مارتن لوثر، ولكنّها لم تقف عند آرائه ونهجه، بل تعدّت ذلك وتبلورت في آراء آخرين، يكون في مقدّمتهم «جان كالفن» الذي أرسى قواعد جديدة للبروتستانتيّة، ممهداً بذلك وبشكلٍ ملحوظ لانتشار النزعة الرأسماليّة والنفعيّة في المجتمع الغربي.

من هو«جان كالفن»؟ ولد كالفن في فرنسا عام (1509م) في عائلة كاثوليكيّة. ولكنّه تحوّل للمذهب البروتستانتي اللوثري في عام (1533م). بعد فترةٍ ذهب إلى «ستراسبورغ»[2] التي كانت

(42)

مركزاً لمناصري المذهب البروتستانتي. ثمَّ ذهب إلى «بازل»[1] في سويسرا ونشر كتابه المعروف بعنوان «تأسيس الديانة المسيحيّة»[2] في عام (1536م). من ثمّ أصبح كالفن بشكل متدرّج المنظّر الرئيس والمتحدّث باسم البروتستانتيّة في كلٍّ من فرنسا وسويسرا، إذ أسس في جنيف مدرسةً لترويج آرائه، وبمرور الوقت تحوّل مع أنصاره إلى السلطة الحاكمة في جنيف خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر.[3] كانت تعاليم كالفن متشدّدة، إذ كان يفرض على أتباعه ضوابط خاصّة ونوعاً من الزهد في نمط العيش. اللافت للانتباه هوأن زهد كالفن وأحكامه الصارمة قبل أنْ تكون لغرض الهداية وتنشئة الفرد الصالح والارتقاء المعنوي كانت لغرض ترويج الالتزام بالأعمال الدنيويّة التي يرافقها الزهد، وهذا ما كان متماشياً مع نزعة كنز الأموال والأرباح ورأس المال التي كانت السمة البارزة لحياة أصحاب رؤوس الأموال في القرنَين السادس عشر والسابع عشر.

لقد تمثّل الجمهور الرئيس للحركة الكالفينيّة بالطبقات العاملة في المجال التجاري والصناعي الذين كانوا بمثابة أحدث فئة اجتماعيّة وقتئذ. كان رجال الدين الكالفينيّون المتمركزون في جنيف وفي المدن التجاريّة الأخرى مثل «أنتويرب»[4] التي كانت مدعومة من مدن

(43)

صناعية عظمى مثل لندن وآمستردام يوجهون خطابهم لهذه الفئات، وبطبيعة الحال كانت تعاليمهم تؤيّد رأس المال والأعمال المصرفيّة والتجاريّة الواسعة وغيرها من شؤون الحياة اليوميّة في تلك البيئة. بهذا أُسِّست مبادىء جديدة تتقاطع مع التراث الديني السابق الذي كان يوبّخ السعي للمنفعة الاقتصادية والحصول على ما هوغير ضروريّ للعيش، وتبلورت آراءٌ مغايرة عن الأفكار القديمة التي كانت تعدّ الوسيط والمرابي لصّاً... كانت الكالفينيّة في بادئ الأمر تسعى لإدارة شؤونها الاقتصاديّة الخاصة بها، وكانت متشددة في ذلك، ولكنّها لم تبدِ ضدّية مع سائر الغايات الاقتصاديّة، ولم تعدّ أصحاب رؤوس الأموال طبقة تتسبب في بؤس الفئات والطبقات الاجتماعيّة الأخرى. أوأنّها ما عادت تعدّ الفقر في نفسه فضيلة؛ فلعلّها هي المنظومة الفكريّة الدينية الأولى التي أقرّت بالأسس الاقتصاديّة الحديثة وأثنت عليها ولم تُعادِ عمليّة كنز الأموال... وبهذا أصبحت الكالفينيّة تمثّل البنية الأخلاقيّة للمجتمع المدني والتجاري الحديث... إن مثل هذه التعاليم، مع كلّ ما فيها من محاسن ومعايب دينية، اعتُمدَت لاحقاً كوسيلة لتحرير الطاقات الاقتصادية وتدعيم الطبقة البرجوازية الناشئة وتحويلها إلى قوة اجتماعية منضبطة وفاعلة... لذا ليس من الخيال إنْ قُلنا إنّ الخدمة التي قدّمها كالفن (وإنّ كانت بمستوى أقل، ولكنها بأدواتٍ لم تكن أقلّ ضعفاً) للبرجوازيّة في القرن السادس عشر هي الخدمة ذاتها التي قدّمها ماركس للطبقة البوليتايّة في القرن العشرين.[1]

نظراً لموائمة تعاليم كالفن البروتستانتيّة لمبادئ الرأسمالية لذا واجهت ترحيباً من الرأسماليين الهولنديين في القرن السابع عشر،

(44)

(نظراً لحضور التجّار اليهود الكبار في هولندا خلال القرن السابع عشر لذلك أصبحت وقتئذ مركزاً للرأسمالية الغربية) وأصبحت الرأسماليّة الهولندية من مناصري الكالفينيّة[1]، وعُرِفَت الثورة الرأسمالية الهولندية (خلال الأعوام 1556 ـ 1609) هي الثورة الحداثويّة الليبرالية الغربيّة التي حدثت بزعامة الرأسماليّة ذات التوجّه الكالفيني.

كانت لكالفن (كنظيره لوثر) ميول يهوديّة، ولاسيما أنّه كان يمجّدهم في كتاباته. إن التفسير الاقتصادي الذي يستخرجه كالفن من التعاليم المسيحية تضع هذه الديانة في إطار اليهودية. بعبارةٍ أخرى يعتمد كالفن قراءة يهوديّة للديانة المسيحيّة، ويؤسس منظوراً حداثويّاً لهذا الدين ليكون أكثر ميلاً لليهوديّة وأقرب للمصالح الرأسماليّة مقارنةً مع نظيره لوثر.

تشير القرائن التاريخية إلى أنّ الكالفينيّة مقارنةً مع سائر مذاهب البروتستانتيّة والإصلاح المسيحي (من قبيل البروتستانتيّة اللوثريّة أوالزوينكليّة[2] أوحركة الإصلاح في الكنيسة الانكليزية التي أسسها «هنري الثامن»، أوتعاليم الحرکة التي عُرفَت بتجديديّة العماد[3]) هي أكثر احتواءً للمضامين الرأسماليّة، وأكثر فائدة لمصالح أصحاب

(45)

رؤوس الأموال، وهذا نابعٌ من روحها اليهوديّة.

إنّ انحياز كالفن لليهود وتمجيده لهم جعل بعض المؤرخين يعدّه يهوديّاً متخفّياً[1]، إذ يرون أنّه كان يخفي دينه الأصلي لأسباب خاصّة.[2] يذكر لنا التاريخ أنّ المسيحيّة الكالفينية باقترانها مع أصحاب رؤوس الأموال اليهود جعلت مدينة آمستردام من أهم المراكز الاقتصاديّة في العالم خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر، وإنّ أصحاب رؤوس الأموال الإنسانويين العلمانيين المنتمين للتيار الكالفيني في هولندا قادوا الحداثة الهولندية، وروّجوا قراءتهم الرأسمالية لنصوص التورات التي غلّفوها بالآراء البروتستانتيّة ذات التوجّه الكالفيني. إنّ مثل هذا المدّ الرأسمالي لم يقتصر دوره على استغلال الطبيعة والإنسان والقوّة العاملة في أوروبّا، بل راح يؤسس حملة استعماريّة لنهب ثروات سائر الشعوب في خارج أوربّا؛ الأمر الذي أدّى إلى أن يكون الموقع الأوليغارشي[3] لليهود في النظام الرأسمالي يتخذ طابعاً سلطوياً[4] أكثر من قبل، إذ تسلّط اليهود في آمستردام على إنتاج التبغ وتجارته وكذلك حرفة الطباعة والنشر وتجارة الماس. فضلاً عن ذلك فإنّهم (أي اليهود في آمستردام) كانوا خلال القرن السابع عشر مهيمنين على البورصة العالميّة وقتئذ،

(46)

ونالوا دوراً أكثر من قبل في إدارة الشركات المساهمة العملاقة في تلك الفترة (من قبيل « شركة الهند الشرقية الهولندية»[1] و«شركة الهند الغربيّة الهولندية»[2]) وحصلوا على أضعاف ما كانوا يحصلونه من نهب الثروات والمصادر الطبيعية المتوافرة لدى الشعوب الأخرى. إنّ الكالفينية بتأثيرها وترويجها الثقافة والأخلاقيات والتوجهات الرأسماليّة مهّدت بشكلٍ واسع لانتشار الرأسماليّة المهيمنة، ولعبت دوراً كبيراً في ترسيخ أسس النظريّة الليبراليّة الكلاسيكيّة.

أسس أتباع جان كالفن في بريطانيا في القرن السابع عشر حركة دينية عرفَت بـ«البيوريتانية» أوالتطهيريّة، فهي حركة إصلاحيّة في الديانة المسيحيّة اعتمدت آراء وتعاليم جان كالفن في بريطانيا، ومنحازة للديانة اليهودية أكثر من كالفن نفسه. لقد لعبت التطهيريّة دوراً كبيراً في صعود نجم «الرأسماليّة» في بريطانيا وأمريكا، ويتضح الأمر أكثر إذا عرفنا أنّ أقطاب الليبراليّة الرأسمالية في بريطانيا وأمريكا (من أمثال «جون لوك» و«أوليفر كرمويل»[3] و«جورج واشنطن»[4] و«بنجامين فرانكلين»[5]) الذين كانوا ينتمون لجمعيات ماسونيّة، كانوا من أتباع الحركة التطهيريّة.

يمكن القول إنّ التطهيريّة هي المذهب الرئيس لأغلب الليبراليين

(47)

الماسونيين خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر في كلٍّ من الولايات المتحدة وبريطاينا.

إنّ التطهيريّة (البيوريتانية) التي أسّست على يد «ويليام تيندال»[1] في بريطانيا متأثّرة إلى حدٍّ كبير بالديانة اليهوديّة. لقد وردت كلمة «البيوريتانية» في دائرة المعارف اليهوديّة كالتالي: إنّ «البيوريتانية» تعني التهويد على الطريقة الإنجليزيّة، وإنّ أسسها الأخلاقيّة تتفق تماماً مع تعاليم التورات. لقد أرسى قواعدها رجل كالفينيّ بروتستانتي يدعى «ويليام تيندال» وانتشرت في بريطانيا، وهي فرع من فروع الكالفينيّة.

في الوقت الحاضر يمكن أنْ نعدّ البروتستانيين الإنجليكيين في الولايات المتحدة (أتباع الكنيسة الأنجليكانية) امتداداً للتطهيريّة، ويقال إنّ السياسة الخارجيّة الأمريكية متأثّرة إلى حدٍّ بعيد بتعاليم التطهيرية. ولكنّ الأمر اللافت للانتباه هوارتباط التطهيريّة باليهوديّة. إنّ دائرة المعارف اليهوديّة تعرّف التطهيريّة في الفصل المخصص بـ«أنصار اليهود»، ولاسيما أنها (أي التطهيرية) تتضمن كاليهوديّة فلسفة دنيويّة غير أخرويّة، الأمر الذي ساهم بشكل واسع في ترسيخ الرأسمالية (Capitalism). إنّ هذا المذهب المناصر لليهود اتخذ من الثروة ركناً رئيساً في تنظيره ودعم عملية تأسيس النظام البرلماني وانتصر للطبقة البرجوازيّة الرأسمالية الناشئة، وقد ساهم من قبل في ترسيخ البروتستانتيّة ذات التوجّه الليبرالي وإنضاجها. إنّ تعلّق التطهيريّة باليهوديّة وانحيازها لها جعلها تسبق كلّ الحركات المناظرة

(48)

لها في دعم اليهود. وفي حقيقة الأمر إن التطهيريّة ليست إلّا تهويداً بريطانيّاً، إذ إنها تطبق تعاليم التورات بكلّ دقّة، وأعطت لـ«القديس بولص» (الذي كان مؤسس التعاليم النصرانيّة لبني اسرائيل) مكانة مرموقة داخل هذه الحركة. إضافة إلى أنّ التطهيريين كانوا يساوون بين أنفسهم واليهود، فإنّهم اكتسبوا هويّة يهوديّة جديدة، وسمّوا أبناءهم بأسماء يهوديّة من قبيل «صاموئيل» و«عاموس» و«سارا» و«جوديت».[1]

إثْر ظهور «البروتستانتيّة» في الديانة المسيحيّة انتشرت واتسعت مذاهبها المختلفة في أرجاء أوروبا وأمريكا. إذ انتشرت تعاليم مارتن لوثر في شمال ألمانيا ووصلت إلى الدنمارك والنروج والسويد وفنلندا. أمّا أنصار « هولدريخ زوينكلي» فقد نشروا تعاليم زعيمهم في سويسرا ومناطق مختلفة في النمسا وهولندا. وفي عشيّة عام 1550 عُرفت الكالفينيّة بصفتها المذهب البروتستانتي الأشهر والأقوى في أوروبّا، إذ انتشرت في بعض أجزاء سوسيرا وهيمنت في «بازل» و«جنيف»، واتسعت رقعتها وصولاً إلى فرنسا وهولندا، ووجدت لها أنصاراً في أسكتلندا عن طريق أحد تلامذة كالفن والمسمّى بـ«جون نوكس»[2]. أمّا «ويليام تيندال» الذي كان كالفينيّا ومتخصصّاً بترجمة الكتاب المقدّس لم يعدّ الإصلاح الحداثوي في الكنيسة الإنجليزيّة كافياً، ودعا إلى إصلاحات أكثر وأوسع وانتهى إلى تأسيس مذهب عرف بـ« البيوريتانية» (التطهيريّة).

كان أتباع جان كالفن في بريطانيا يطالبون بالمزيد من

(49)

الإصلاحات، وعملوا على تطهير الكنيسة، ومن هنا أُطلِقَت عليهم تسمية «ذوي الدين الطاهر» أوالتطهيريين (Puritans).[1]

لقد تحوّلت التطهيريّة في بدايات القرن السابع عشر إلى مظلّة دينيّة وثقافيّة تجمع الأوساط اليهوديّة المتموّلة والرأسماليّة البريطانيّة ذات الأطماع الاستعماريّة. ولأنّهم كانوا يشعرون بالتقارب بين الكنيسة الكاثوليكيّة والإمبراطوريّة الإسبانيّة، راحوا يعتمدون شعارات الحركة التطهيريّة ذات المضمون الديني من أجل بسط إمكانات الإمبراطورية البريطانيّة الماديّة والمعنويّة ولترويج «الرأسماليّة» ودعم السياسات الاستعماريّة البريطانيّة وبالتالي دحر الإمبراطوريّة الإسبانيّة الكاثوليكيّة.

كانت الطبقة الرأسماليّة العلمانيّة في بريطانيا متآلفة مع الأوليغارشيّة اليهوديّة، وقدّمت نفسها من دعاة المسيحيّة من خلال ترويجها تعاليم المذهب التطهيري، وبهذا النهج استطاعت أن تستقطب العواطف الدينية وتحفّز الطبقات الدُنيا العاملة في مجال الزراعة والصناعة للهجرة إلى القارّة الأمريكيّة، متخذةً من البيئة الجديدة (أمريكا) مكاناً بكراً لترويج تعاليمها دعماً للشركات الرأسماليّة في أرجاء هذه القارّة، ولتصبح الأخيرة بعد ذلك تحت هيمنة الرأسماليّة اليهوديّة المدعومة من التيار التطهيري الديني. إن مثلث التطهيريّة والماسونيّة والرأسماليّة في الأرض الجديدة التي عُرِفَت لاحقاً بـ«الولايات المتحدّة الأمريكيّة» كان تحت قيادة الأوساط الأوليغارشيّة اليهوديّة، وهم من مهّدوا الأجواء لنشوء 

(50)

«الجمهوريّة الماسونيّة والرأسماليّة»، أي (جمهورية الولايات المتحدة). لقد كانت الليبرالية الكلاسيكية بمثابة الأيديولوجية الأولى للرأسماليّة الماسونيّة اليهوديّة، ومثلّت التطهيريّةُ (بمختلف تفرعاتها) الوجه الديني المطلوب لليبراليّة الكلاسيكيّة، بل يمكن القول مثلّت الوجه الديني الأنسب لليبرالية وللطبقة الرأسمالية الحداثويّة والاستعمار العابر للحدود.

يقول «تاوني»[1] في أهميّة التطهيريّة في بريطانيا:

(إنّ نشوء التطهيريّة وانتصارها هوالتحوّل الأبرز والأهم في القرن السابع عشر، فإنّها تمثّل الحركة الإصلاحيّة الدينيّة الواقعيّة في بريطانيا، وتفوق من حيث الأهميّة حادثة انفصال الملك ثيودور[2] من كنيسة روما، فبصمودها ونضالها تحررت بريطانيا من النظام القديم وأصبحت حداثويّة... يرى ناقدٌ مخالف بهذا الصدد أنّ «السبب الرئيس لنشوء التطهيريّة هي  مدينة لندن (بؤرة هذه العصابة المثيرة للفتن)، وذلك من خلال تجارتها (الاستعماريّة) والعالميّة التي عمّت المملكة البريطانيّة. إنّ السلع المصنوعة في لندن تنقل هذا الداء المتفشّي لسائر المدن وتنشره بين مختلف الفئات الاجتماعيّة، وبهذا سمَّمَت مدن ومحافظات بأكملها». وفي لانكشر[3]، المدن المتخصصة بصناعة النسيج، كانت بمثابة الجزر الحاضنة للتطهيرية في بحر الكاثوليكيّة الرومانيّة الذي كان يحيط

(51)

بكلّ شيء. كما أغلب الشركات التجاريّة التي كانت عُشّاً لمثيري الفتنة. أما بؤسنا الراهن فإنّه ناشئ من متاجر هؤلاء الكسبة... فحتّى أفراد البلاط وطبقة الأشراف الساكنين في سائر المدن صاروا يخضعون لهؤلاء للحصول على منحة أوقرضٍ ما، وأطلقوا عليهم تسمية المرابين أومصاصي الدماء.

يستمرّ «تاوني» قائلاً: (إن النصوص التي كُتِبَت حول الرأسماليين المؤمنين بالتطهيريّة الذين كانوا يشتهرون بإقراض المال، كانت تُكتَب عن حقدٍ وكراهيّة، فمما قيل في ذلك هو: أنّهم كانوا يتهربون من دفع أي ضريبة أوأيّ مالٍ آخر للكنيسة وللملك والفقراء (الذين يعدّهم ذوو المشاعر المرهفة سادة أجلّاء ومن النبلاء). إنّهم كانوا يرفضون أيّ تنازلات أوضرائب تشمل أموالهم وعقاراتهم، ويتهربون من أيّ عقد أوحلفٍ يفرض التزاماً أووفاء للمصلحة العامّة. إنّ الآخرين يحترمونهم لسلوكهم المادّي وتفكيرهم بعيد المدى وبالتالي ينشغلون بكلّ ارتياح بكنز الأموال والثروات ومن دون أيّ متاعب ومتظاهرين بالدين والتدين. وكذلك بهيمنتهم على الاقتصاد يثمنون العقار ويقنّنون السوق، وبسلطتهم التامة على المال يديرون المناصب العليا التي حصلوا عليها، وبهذا يوسعون بؤرهم المتمثلة بالشركات)[1].

إن التطهيريّة بصفتها التيار البروتستانتي الأشدّ تطرفاً في مناصرة اليهود قدّمت خدمة واسعة للرأسماليّة الإنسانويّة وللطبقة الأوليغارشيّة اليهوديّة، ولينتج من ذلك نشوء أحد أقسى الأنظمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة في تاريخ البشريّة، المتمثّل بالرأسماليّة  

(52)

العلمانيّة الحداثوية المبنيّة على بحرٍ من الدماء والاستثمار والمشاق والفقر والمجاعة والظلم والحرمان في بريطانيا وفي العالم الغربي كلّه، وأخيراً في أرجاء العالم الخاضع لهيمنة الشركات الاستعماريّة الإجراميّة. لقد لعبت «التطهيرية» دوراً كبيراً في تحكيم هذا النظام الرأسمالي، فمنذ تشأتها كانت تدعوإلى الفردانيّة والنفعيّة والحريّة المبنيّة على هذين المفهومين، مما جعلها مقترنة بالليبراليّة الكلاسيكية. إن «جون لوك» الذي يعدّونه المنظّر الرئيس للنظرية الليبرالية كان تطهيريّاً. وإنّ «أوليفر كرمويل» الذي تزعّم أوّل ثورة (برجوازيّة ليبرالية) في انجلترا كان تطهيريّاً، إذ قاد هذه الثورة بمساعدة مجموعة من التطهيرين في البرلمان البريطاني خلال الأعوام (1649) حتّى (1657). إنّ الثورة الليبرالية البريطانيّة في عام (1688م) التي عرفت بـ«الثورة المجيدة»[1] كانت في الواقع انقلاباً ماسونيّا مدبّراً قادَه مجموعةٌ من التطهيريين المتأثّرين بآراء «جون لوك»، واستطاعوا تتويج «ويليام اورانج»[2] ملكاً لانجلترا الذي كان بدوره تطهيريّاً منصّباً من قبل الجمعيات (الماسونيّة ــ اليهوديّة) المستقرّة في آمستردام، ولتكتمل بذلك الهيمنة السياسية لليبرالية والماسونيّة من خلال شعارات التيار التطهيري. ثمّة أمثلة مشابهة أخرى في بعض الأحداث السياسية التي وقعت قبل الثورة المجيدة، (مثل الثورة الهولنديّة)، أوبعدها الثورة الأمريكية، التي قادها ليبراليون تطهيريون منتمون لجمعيات ماسونيّة.

يقدّم «ماكس فيبر»[3] توضيحاً جيّداً حول العلاقة يبن اليهوديّة  

(53)

والتطهيريّة والرأسماليّة الحداثوية، إذ يقول:

(كان الكتّاب في تلك الفترة [القرن السادس عشر والقرن السابع عشر] يعدّون جذور التطهيريّة، (ولاسيما جذورها في إنجلترا) «تهويداً إنجليزيّاً». إذا فهمنا قصدهم بالطريقة الصحيحة فيمكن أنْ نقول إنّهم لم يكونوا مخطئين. على الرغم من ذلك يجب ألّا نعدّ هذا الوصف للتهويد الفلسطيني، بل هوتهويد كان يعتمد تعاليم التلمود[1] الصارمة على مدى قرون طويلة. إنّ انتشار التيار التطهيري وقراءته لظواهر الحياة كان أكثر نفعاً وفاعليّة من الاقتصار على ترويج رأس المال وتجميعه. لقد دعمت التطهيرية نمط الحياة البرجوازيّة التي كانت هي الأكثر عقلانيّة من الجانب الاقتصادي. إنّ هذا الأمر هوالعامل الرئيس، بل الوحيد في تنمية هذه الحياة الجديدة، وبعبارة أخرى كان هذا التيار يواظب على مهد «الإنسان الاقتصادي» الذي ولِدَ توّاً. لا شكّ في أن التطهيريين أنفسهم كانوا يعلمون بأنّ الأهداف التطهيريّة كانت متأثرة وتابعة لوساوس الثروة والمال. إنّ أحد العناصر البنيويّة في الروح الرأسماليّة الجديدة، بل إنّ نمط الحياة العقليّة قد ولدت من الروحية النسكيّة والرهبانيّة المسيحيّة التي تبنتها التطهيرية. إنّ أسس ذلك المنظور الذي سُمّي بالروح الرأسماليّة تتواءم مع المضامين الرهبانيّة الدنيويّة في التيار التطهري)[2].

على الرغم من أنّ الليبراليّة الكلاسيكية كانت على علاقة وثيقة مع التطهريّة وتعاليمها خلال القرنَين السادس عشر والسابع عشر،  

(54)

وكانت تتفق مع دعوتها إلى العمل الاستثماري وكنز المال والربا والنفعيّة، ولكنْ واجهت هذه العلاقة الوثيقة فتوراً لافتاً إبّان القرن الثامن عشر ولاسيما في القرن التاسع عشر عشيّة المرحلة الأولى من الثورة الصناعيّة وانتاج السِلَع والحاجة إلى الاستهلاك والمستمر؛ الوضع الذي أدّى حدوث تغيير كبير في السلوك الاقتصادي المهيمن الذي تنشده الرأسماليّة بنسختيها الليبرالية الحداثويّة، والليبرالية ذات الطابع الديمقراطي الاشتراكي (إبّان القرن العشرين). لقد نتج من هذا التغيير انفصالاً عن التيار التطهيريّ، واقبالاً على المدارس الفلسفيّة كـ»الإلحاديّة»[1] و«الماديّة»[2] و«الربوبية»[3] و«اللاأدريّة»[4]، حتّى إقبال على بعض القراءات الماركسيّة الإصلاحيّة[5]، وتغيّرت الثقافة الدينية والإطار الديني العام بالمقارنة مع الوضع السائد في أواخر القرن السادس عشر والقرن السابع عشر. ولكن هذا لا الأمر لا يجعلنا أنْ ننكر الدور الكبير الذي لعبته التطهيرية في نشوء الليبراليّة الكلاسيكية وإسنادها في القرنَين السادس عشر والسابع عشر، وفي بعض العقود من القرن الثامن عشر.

(55)

الأسس الفلسفية لليبرالية الكلاسيكيّة

إنّ «الليبرالية الكلاسيكية» بصفتها نظريّة (علمانيّة ــ إنسانويّة) ناتجة من البُنية الفلسفيّة الإنسانويّة في الفكر الغربي، وتبلورت في إطار العقل الحداثوي النفعيّ. إنّ حقيقة الإنسانويّة (Humanism) تستبطن الأنانيّة والجشع، وإنّ الليبرالية الكلاسيكية كسائر النظريات الحديثة متجذّرة في الفلسفة الإنسانويّة. قد تبدوبعض النظريات الحداثويّة أقرب إلى مدارس فلسفية أخرى متفاوتة ومختلفة، فعلى سبيل المثال إنّ نظرية «القوميّة ــ الاشتراكية» نابعة من فلسفة «فيشتة»[1]، وقد تكون متأثرة في بعض الوجوه بموروث المدرسة «المثالية الألمانيّة»[2]، في حين أن الليبرالية الكلاسيكية تعود أسسها الفلسفيّة للمنظور التجريبي. ولكن على الرغم من كلّ ذلك يمكن إرجاع كلّ هذه النظريات إلى باطن الفلسفة الإنسانويّة.

يمكن سرد الأسس الفلسفيّة للنظرية الليبرالية الكلاسيكية كالآتي:

العقلانيّة التجريبيّة الحداثويّة الناتجة عن العقل الحداثوي (الإنسانوي). إنّ العقل الحداثوي الذي هوالأساس لكلّ فلسفة وتفكير في الغرب الحداثوي هوتجسيم ومصداق لـ«النفس الأمّارة». إنّ العقل الحداثوي يستبطن تضادّاً للعقل الحقيقي (العقل الديني)، فإنّه نفسانيّ وخاضع للنفعيّة، ومهتمّ

(56)

بالكمّيات. إنّ العقل الحداثوي ليس بعقل، بل هووجه من أوجه الفضاعة. إنّ البحث عن الحقيقة ليست في ذات العقل الحداثوي، بل إنّ ما هوموجود فيه هوالبحث عن القوّة والسلطة والهيمنة، وإنّ أدوات هذه الهيمنة هي النفعيّة الإنسانويّة والعلمانيّة.

يمكن أنْ نعدّ العقل الحداثوي «عقلاً تجريبيّاً» لذاته التجريبيّة الذاتانيّة. إنّ العقل التجريبي يمتاز بطابعٍ أدواتي ولا يسعه النشاط إلّا في الأمور الكمّية والعدديّة، وإنّ غايته النفعيّة والسلطويّة أدّت إلى اقترانه بالتجريبيّة والمنهج الحسّي التجريبي المختبري. إنّ العقل التجريبي من أجل تحقيق غاياته يقدّم صورة اعتباريّة عن الطبيعة، إذ لم تكن صورة حقيقية عن العالم، بل وهمية. إنّه صورة غائيّة للعمل، ويحمل في ذاته تفكيكاً بين «الكائنات» و«ما يجب أن يكون».

 التجريبيّة[1]

إنّ التجريبيّة (الفلسفة الحسيّة التجريبية) هي أحد فروع الفلسفة الإنسانويّة، ولها صلة وثيقة مع الليبراليّة الكلاسيكية، وقد تمخّضت

(57)

عنها «الوضعيّة»[1] و«البرغماتيّة»[2]. وإن الأخيرَتَين أيضاً (أي: الوضعية والبرغماتيّة) كانتا على صلة وثيقة مع الليبرالية الكلاسيكية عند نشأتهما. لقد كانت الفلسفة الوضعيّة وكذلك البرغماتيّة في كلٍّ من بريطاينا والولايات تعملان في مجال الابستمولوجيا والأخلاق والاجتماعيات، وتدعمان الليبرالية الكلاسيكية وتمهدان للنيوليبرالية. يقول «جورج نواك»[3] بهذا الصدد:

إنّ بريطانيا تملك أقدم تراث للرأسماليّة، وإنّ الفلسفة التجريبيّة تمثّل هذا التراث خير تمثيل. إنّ الصلة بين المنهج التجريبي والنظام الاجتماعي الرأسمالي لم تكن مصادفة، بل هي صلة عضويّة. تعدّ التجريبيّة (بحكم محتواها النظري) رؤية كونيّة وتلعب دوراً اجتماعيّاً بصفتها منهجيّة فكريّة مناسبة للظروف التاريخيّة خدمةً لاحتياجات الطبقة البرجوازيّة. كما أنّ أدوارها المتلاحقة ــ بدءاً من الولادة والبلوغ ووصولًا للهَرَم ــ مرتبطة بنشوء البرجوازيّة وأفولها... إنّ التجريبيّة تمثّل الإشكاليّة الفلسفيّة التي واجهها المجتمع البرجوازي الكاثوليكي في روما. لقد اقتربت الفلسفة التجريبيّة في أبرز أشكالها من مواقف الفلسفة الماديّة، وعُدَّت حركةً بنيويّة في حقل الفلسفة. كما عملت التجريبيّة على إحياء الماديّة، ومهدت الطريق لنموالعلوم الطبيعيّة والاجتماعيّة)[4].

(58)

إنّ الليبرالية الكلاسيكية بامتلاكها خصائص من قبيل «الفردانيّة» و«النفعيّة» الجشعة، ولسطحيتها التي تتكسب بها، اعتمدت على أبسط صور العقل المتخصص بتأمين موارد العيش. فضلاً عن ذلك فإنّ ميولها البرغماتيّة وصلتها العضويّة مع المصالح الضيّقة والماديّة للطبقة الرأسماليّة جعلتها أكثر تعلّقاً واتباعاً لآراء الفلسفة التجريبيّة السطحيّة الممتزجة بتوجهات ذرائعية (برغماتيّة)، وقد كان ذلك جليّاً في تاريخ الليبراليّة الكلاسيكيّة منذ القرن السابع عشر حتى القرن العشرين. وقد نجد أصولاً بيّنة وواضحة لآراء المدرسة الوضعيّة (Positivism) وكذلك الوضعية الجديدة في نصوص وآراء الليبراليين الجدد ذوي النزعة ما بعد الحداثويّة من أمثال «فردريش فون هايك»[1] و«كارل بوبر»[2] و«ريتشارد رورتي»[3]، أوالليبراليين الجدد من أمثال «اشعيا برلين»[4]

المذهب الذرّي

ثمّة مذهب فكريّ متجذّر في الفلسفة الإنسانويّة الغربيّة يسعى إلى تفسير الكون والوجود من مبدأ الذرّة.[5] تمثّلت أحد فروع هذا

(59)

التيار الفكري بالذرية الوجوديّة، وتمظهرت بصورة أخرى في نظرية «المونادات»[1] لدى «لايبنيتس».[2] اتخذ هذا المذهب الذرّي في حقل السياسة والأخلاق وعلم المناهج منحى فردانيّاً، وأصبح داعياً للمنهجيّة الفردانيّة في مجال الأخلاق والسياسة.

إنّ الفردانيّة الأنطولوجيّة التي تمثّل الأساس النظري لقراءة الليبرالية الكلاسيكيّة عن العالم، تنفي «الكلّانية الفلسفيّة»[3] وتمنح الأصالة للجزء والذرّة. إنّ هذا المنظور ينكر وجود الماهيات ومفاهيم أخرى كـ»المجتمع» و«الفئة» و«الطبقة» و«العالَم» ويعدّها غير علميّة، إذ يرى الليبراليون والليبراليون الجدد أنّ «التوتاليتاريّة»[4] أو«الشموليّة» تعتمد هذه الأسس الواهية. وهذا ما يجعلهم أنْ يعطوا الأصالة للفرد، وأنْ يعدّوا المجتمع مفهوماً اعتباريّاً غير واقعي.

إذن فإنّ الفردانيّة أوبتعبيرٍ آخَر الذريّة والتفكّر المنكِر لأيّ كلّانيّة وماهيّة تمثّل إحدى الفرضيات الفلسفيّة الأساسيّة في الليبراليّة الكلاسيكية التي تبلورت بصورة واضحة في القرن العشرين في  

(60)

آراء الليبراليين الجُدُد من أمثال «كارل بوبر»، و«اشعيا برلين» و«فردريش فون هايك». إنّ هذه القراءة الذرّية مواكبة للمنهجَين التجريبي والوضعي، إذ تقدّم أسساً نظريّة لتبرير الجوهر الفردانيّ للإنسان والمجتمع وغيرها من الأمور السياسية والقانونيّة والحقوقيّة والتعليميّة والتربويّة والأدبية والسايكولوجيّة.

إنّ الفردانيّة التي تتبناها الليبرالية الكلاسيكية متأثّرة في أحد جوانبها من الموضوعانيّة[1] في تراث «ديكارت»[2] الفلسفي. يرى ديكارت أنّ قراءة الإنسان بصفته موضوعاً نفسانيّاً تجري من خلال قاعدته الفلسفيّة المعروفة التي اختصرها في عبارة: (أنا أفكّر، إذن أنا موجود)، جاعلاً من ذلك مبدأ لنظام فلسفيّ ما بعد طبيعي، إذ سيكون محوره الفردانيّ من المحاور الأساسيّة والرئيسة والمهيمنة في الليبرالية الكلاسيكية وكذلك في سائر تفرعاتها. إنّ القراءة الفردانيّة للإنسان الحداثوي (بصفته موضوعاً نفسانيّاً) تبلورت بعد ديكارت في آراء «سبينوزا»[3] و«لايبنيتس» وفي آراء الفلاسفة الوضعيين الأمريكيين والأسكتلنديين، وأثرّت بصورٍ شتّى في الليبراليّة الكلاسيكيّة.

القراءة الحداثويّة للإنسان

إنّ النظريات الفلسفيّة الحداثوية كافة اعتمدت «القراءة الإنسانويّة» للإنسان. فهي قراءة تعدّ الإنسان للوهلة الأولى حيواناً

(61)

نفعيّاً سلطويّاً شهوانيّاً. وفي القراءة الحداثويّة (التي تبلورت في أواخر القرن الثامن عشر، وظهرت في القرن التاسع عشر في إطار علم الأحياء أو«البيولوجيا»، ولاسيما في آراء «لاماركـ»[1] و«داروين»[2] وفي نظرية «التطوّر») يكون الإنسان نتاجاً لتطوّر بيولوجي، إذ تكون الفاصلة بينه وبين أجداده فاصلة كمّيّة (وليست ماهويّة). إنّ دور الله سبحانه في هذا التغيير البيولوجي حسب رأي أنصار نظرية التطوّر (من غير الملحدين) يقتصر على الفكرة اليهودية القائلة بـ«الله صانع الساعة». فهي فكرة لم تقتصر على انكار «الربوبيّة التشريعية» لله جلّ شأنه، بل تنكر «الربوبيّة التكوينيّة» أيضاً. إنّ هذه القراءة الحداثوية المناوئة للدين تغفل تماماً خلقة الإنسان التي عبّر عنها النص القرآني بـ«الفطرة» التي تستبطن جانباً ملكوتيّاً عبّر عنه الله سبحانه بقوله: «ونفخت فيه من روحي»[3].

إنّ الإنسان في المدرسة الإنسانويّة هو«حيوان يصنع الآلات»، وإن الآلات التي يصنعها تمنحه القوّة لتحقيق غاياته السلطويّة والنفعيّة، وقد تجسّدت عملية صناعة الأدوات واستغلالها لتحقيق الغايات السلطوية في التكنولوجيا الحديثة. إن الفرق بين الإنسان والحيوان ــ وفق الفلسفة الإنسانويّة ــ هوفرق كمّي، إذ يتفوق على الحيوان في الجوانب الفيزيولوجيّة وبامتلاكه العقل والذكاء فقط. ولمثل هذا الإنسان ــ وفق المنظور الإنسانوي ــ الحقّ في السلطة والتشريع وإدارة العالَم، وهوالمعيار لأيّ قيمة وحكم أخلاقي وحقوقي وسياسي.

(62)

إنّ الليبرالية بنسخها (الكلاسيكية) و(الجديدة) و(الديمقراطية ذات التوجه الاشتراكي) تعتمد آراء الفلاسفة الإنسانويين الذين يعرّفون الإنسان في إطار «الفردانيّة» ويعتقدون بأنّ الإنسان لا يملك تمظهراً حقيقيّاً أصيلاً غير تمظهره الفردي، وإن المفاهيم الأخرى الجَمع والمجتمع والاجتماع هي مفاهيم اعتباريّة غير علميّة، وهي مجرد توهمات توتاليتاريّة. إنّ هذا التعريف الفردانيّ الحداثوي للإنسان يمكن أن نجده في آراء « بيكوديلا ميراندولا « و« فرانشيسكوبتراركا»، وإلى حدّ ما في آراء «توماس هوبز» و«جون لوك» و«آدام فرغوسن»[1]. إنّ روح الليبرالية ونظرتها للإنسان متجذّرة في القراءة الحداثوية للإنسان وتختلف تماماً عن القراءة الدينية، وهي قراءة رافضة لولاية الحق ومروجة لولاية الشيطان على الإنسان الغافل والجاهل.

الأخلاق العلمانيّة ــ الإنسانويّة في عصر الحداثة

إن الأخلاق المبتنية على الأسس العلمانيّة والإنسانويّة هي من المبادئ الأساسية في النظرية الليبرالية الكلاسيكية. كما النظريات الحداثويّة الأخرى أيضاً (مثل الاشتراكيّة والفاشيّة والنسويّة والفلسفة المحافظة[2]، فكلّها مستلهمة أومتأثّرة بالأنظمة الأخلاقية الحداثويّة.

على الرغم من أنّ للأخلاقيات الحديثة نمطاً واحداً يُوحدّها في إطارٍ عام، ولكنّ لهذه الوحدة النوعيّة تنوع وتكثّر في الوقت نفسه، إذ تجلّت في باطن هذا التنوع الأوجه المتعددة للأخلاقيات العلمانيّة الإنسانويّة.

(63)

يمكن تلخيص خصائص الأخلاقيات الحديثة في النقاط الآتية:

1 ــ تستمدّ الأخلاقيات الحداثويّة معاييرها وأحكامها بعيداً عن الحقيقة الدينيّة، وتعتمد أوّلاً وآخراً الاستقلاليّة النفسانيّة البشريّة بعيداً عن الولاية الإلهيّة. بناءً على ذلك يمكن أنْ نعدّ الأخلاقيات الإنسانويّة ضرباً من «العدميّة»[1].

2ــ إنّ الأخلاقيات الحديثة ــ بعضّ النظر عن شعاراتها وادّعاءاتها ــ فهي لا تسعى إلّا لتحقيق الأغراض والغايات التي تمليها النفس البشريّة، (ولاسيما عند تأكيدها النفعيّة والشهوانيّة). إنّ المفاهيم والتعبيرات المختلفة من قبيل الكمال والسعادة والفضيلة والسرور والسكينة والحريّة هي كلّها أغلفة لتلك الأغراض النفسيّة.

3ــ إنّ للأخلاقيات الحداثوية ماهيّة علمانيّة حداثويّة، وهي ما تسعى بشتّى الطرائق لتثبيت وتبرير الاستكبار والنفس البشريّة المستقلّة. إنّ هذه الأخلاقيات ــ سواء كانت ملحدة، أوتظاهرت بمفاهيم دينيّة «كالأخلاقيات التطهريّة» ــ فهي تستبطن في ذاتها أخلاقيات غير دينيّة والمنظور الذاتانيّ (Subjectivism)، وقد نجد كلّ هذه التفرعات والأشكال والأنواع المختلفة متجسّدة في النفس الأمّارة.

4ــ إنّ للأخلاقيات العلمانيّة الإنسانويّة الحداثويّة أنماطاً متعددة. فمنها ما تكون نسبويّة[2] ومنها ذهنيّة (أوذاتانيّة) ومنها

(64)

عينيّة (أوموضوعيّة). على الرغم من الاختلافات الموجودة بين هذه الأنماط إلّا أنّ كلها تتوحد في مستوى الماهيّة وتحت مظلّة الإنسانويّة.

5ــ يمكن تقسيم الأخلاقيات الحداثويّة على «العينيّة» و«الذهنيّة». ومن جهة أخرى نجد تقسيمات متنوعة كـ»النفعيّة» (Utilitarianism)[1] و«الرومانسيّة» و«الذرائعية» و«الحسيّة الخياليّة» المتبلورة في آراء أمثال «ديفيد هيوم» الأخلاقية.

تشير التجارب التاريخيّة إلى أنّ الليبرالية الكلاسيكية بصفتها أيديولوجيّة واضحة المعالم تتواءم مع الأخلاقيات النفعيّة في آراء «لوك» و«هيوم» و« هلفتيوس»[2] و«بنثام»، وكذلك مع الأخلاقيات الذرائعية في فلسفة «كانْت»[3]، والأخلاقيات (الذهنيّة ــ الحسيّة ــ العاطفيّة) في آراء هيوم. مثلما كانَت الأخلاقيات (الكالفينيّة ــ التطهريّة) التي تفرض العمل الصارم والمنضبط لجمع الأرباح تصبّ خلال فترة من الفترات في مصلحة الأهداف الليبرالية.

إنّ جوهر الأخلاق (العلمانيّة ــ الإنسانويّة) مبنيٌّ على التفكيك والانفصال بين القيم الحقائق الأخلاقيّة وواقع العالم، وهذا ما ظهر بصورةٍ متفاوتة في آراء فلاسفة الأخلاق الإنسانويين، وقد تجلّى ذلك في النظرية الأخلاقية المثبّته وفق القيم الليبرالية، إذ إنها

(65)

اعتمدت في إرساء نظريتها الأخلاقية على آراء الفلاسفة البرغماتيين والمتخصصين في فلسفة كانت.

القراءة الحداثويّة لمفهومَي السلطة والسياسة

إنّ لِمفهوم السلطة (بمعناه الحداثوي) ماهيّة إنسانويّة. إذ إن المذهب الإنسانوي يعرّف السلطة في علاقتها بـ«البشر» بصفته نفسٌ أمّارة، وإنّ مصدر السلطة ومعيار «شرعيّتها» يكون في إرادة الإنسان الحداثوي. إن الجوهر الحداثوي لمفهوم السلطة يؤدّي إلى تقويض الذات الإنسانيّة، إذ تجعل من الإنسان كائناً مبذّراً ومستهلِكاً للطبيعة، وكذلك غريباً في علاقته مع نظيره الآخر، وبهذا تُزال الأُلفة والمودّة بين الأفراد، وتتحول العلاقات إلى علاقات نفعيّة تهيمن عليها المصالح.

إنّ الليبراليّة كسائر النظريات الحداثويّة مستمدّة من المفهوم الحداثوي للسلطة. إن السلطة في إطارها الحداثوي تمثّل النواة الرئيسة للسياسة الحديثة، وإنّ النسق العام لسياسات الغرب وسائر النظريات المنتمية له (كتلك الأبحاث النظريّة المتعلّقة بالعلوم السياسية والإنسانيّة والاجتماعيّة، وكذلك تطبيقات السياسة الحديثة كالأنظمة الإداريّة والبيروقراطيّة الحكوميّة والسياسيّة والأحزاب والتنافس السلمي وغير السلمي، ونمط ممارسة السلطة في المجالات كافة) تعتمد بصورة وأخرى على هذه القراءة لهذا المفهوم.

يمكن تلخيص الخصائص الرئيسة للقراءة الحداثويّة لمفهوم السلطة كالآتي:

1ـ إنّ لمفهوم السلطة في الفكر الحداثوي صبغة فيزيائيّة[1] وكمّيّة.

(66)

إنّ كلّاً من «نيكولومكيافيلي» و«توماس هوبز» هما أوّل من بيّن وبلور مفهوم السلطة وفق المنظور الحداثوي. يرى «هوبز» بأنّ للسلطة صبغة «كمّيّة»، وهي تجعل من الطبيعة والعالَم والحياة الاجتماعيّة والسياسيّة تحت تصرّف الإنسان الحداثوي (بصفته النفس الأمّارة). إن ظهور الميكانيكا الكلاسيكيّة[1] على يد «غاليلو»[2] و«نيوتن»[3] (من خلال انتشار العلمويّة «Scientism» بشكلٍ واسع) ساهم إلى حدٍّ كبير في إرساء هذه النظرة الفيزيائيّة والكمّيّة لمفهوم السلطة. إنّ نظرة «هوبز» لمفهوم السلطة (السارية في الفكر والسلوك السياسي الغربي) هي نظرة ميكانيكيّة كمّيّة فيزياويّة، إذ تبدوالحلقة المكمّلة للهندسة الإقليديّة[4] والميكانيا الغاليليّة، فكأنّ اللغة الرياضيّة ــ الفيزيائيّة في العالم الحداثويّ قد دخلت في حقل العلوم الإنسانيّة والحياة الاجتماعيّة[5].

2ــ إنّ لذات السلطة ولجوهرها وفي باطنها طابع «استكباري». إنّ السلطة بمفهومها الحداثوي تعدّ النفس الأمّارة والرغبات الإنسانيّة واحتياجاته وإرادته مصدراً للقوّة أوما تسمّيه بالشرعيّة. إنّ السلطة

(67)

الحداثويّة لا تسعى لإحقاق الحق وبسط العدل والقسط وحكم المستضعفين وإجراء الأحكام الإلهيّة. بل تسعى لاحقاق «الإرادة التابعة للنفس الأمّارة»، ولأنّها تعامل الإنسان الحداثوي بصفته فرداً، وتعدّ المجتمعات البشريّة والطبقات الاجتماعية مصاديق للفرد، وتتخذ من الأفراد وسيلة لتحقيق المنفعة فإنّها تؤدّي إلى حدوث الخصومة والمنافسة السلبية بين الأفراد وأيجاد الغرابة بينهم.

3ـ إنّ السلطة بمعناها الحداثوي لا تستهدف إلّا غايات نفعيّة بحتة تصبّ في استعباد الإنسان. إن السلطة في العالم الحداثوي لا تعمل إلّا على بسط الظلم والاستكبار في العالم، وإنّ انتشار هذا المفهوم وهيمنته هونتيجة لطغيان الإنسان الحداثوي واعراضه عن الحقّ والدّين.

4ــ إنّ العلوم السياسية الحديثة والنظريات المتبلورة في إطار النزعة الإنسانويّة كافة تنتظم تحت لواء المفهوم الحداثوي للسلطة. إن الليبرالية الكلاسيكية أيضاً كسائر الإيديولوجيات الحداثويّة هي في مقدّمة النظريات التي تعوّل على مفهوم السلطة الحداثوي، لأنّها هي وأخواتها (كالليبرالية الجديدة) تمثّل تلك الفئات والطبقات الاجتماعيّة التي برزت في العالم الحديث (كالطبقة الرأسماليّة) إذ تعتمد القراءة الحداثوية لمفهوم السلطة وهي بحدّ ذاتها تجسد هذا المفهوم.

(68)

الديمقراطية الحداثويّة

إنّ الديمقراطية وفق النزعة الإنسانويّة، تمثّل الخطاب[1] الاجتماعي والسياسي الذي يتبنّاه العالم الغربي والحداثوي والمستغرب. وفي الواقع فإنّ حياة البشر في إطارها العام وكذلك البيئات الثقافية والاجتماعيّة والسياسيّة تتعرّف في حقل الديمقراطيّة، وعلى الصعيد العملي أيضاّ يجري تقييمها وفق المعايير التي تفرضها الديمقراطيّة.

إنّ الإنسان الحداثوي في المجالات السياسية والاجتماعيّة، وكذلك على الصعيد الفردي والحياة الشخصيّة يعدّ نفسه أحد  مصاديق «ديموس Demos /الشعب». وفي النظريات الحداثوية أيضاً يعرّف الإنسان بصفته (ديموس/الشعب). أي إنّه حيوان اقتصادي نفعي يرى نفسه مديراً للعالم، ويعدّ التشريع والحكم وأيّ تصرفٍ آخَر في سبيل تحقيق غاياته النفسيّة حقّاً من حقوقه! إنّ مصداق مفهوم (ديموس) يختلف من أيديولوجية لأخرى؛ ولكن في الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الحديثة والديمقراطية الاشتراكيّة يكون الفرد كياناّ أونواة نفسيّة قائمة بذاتها. أمّا في النظريات الأخرى (كالاشتراكيّة والنسويّة والاشتراكية القوميّة) يأخد مفهوم (ديموس) تعريفات أخرى. فعلى سبيل المثال يكون الـ(ديموس) منطبقاً على «البوليتاريا» أو«العِرق» و«القوميّة» أو«الجنس المؤنّث». ولكن على الرغم من كل ذلك تتمظهر الأيديولوجيات الحداثويّة كلّها تحت لواء  الديمقراطية ذات النزعة الإنسانويّة.

إنّ الليبرالية الكلاسيكية أيضاً (بصفتها أيديولوجية ذات نزعة

(69)

إنسانويّة) متجذّرة في الديمقراطية الحداثويّة. إن الديمقراطية في عالم الحداثة تعطي لـ«ديموس» أوللذات النفسيّة أو«البشر بصفته نفس أمّارة» حقّاً في التشريع والحكم، وتعدّه خالقاً للقيم الأخلاقيّة ومعياراً لكل الأمور. إنّ الليبرالية الكلاسيكية بصفتها أيديولوجيّة ديمقراطية تضع الفرد الليبرالي في أولى اهتماماتها، وتؤكّد ــ من بين كلّ التمنّيات الفرديّة ــ مفهوم الحريّة (حريّة النفس الأمّارة الفرديّة). إن الحريّة الفردية التي تدعوإليها الليبرالية هي حريّة مبنيّة على مبدأ النفعيّة إذ تنشد غاياتها في نظام رأسمالي علماني إنسانوي.

عند الحديث عن الديمقراطية ذات النزعة الإنسانويّة لن يكون ثمّة فرق بين الليبرالية والفاشيّة والليبرالية الجديدة والماركسيّة. فلذلك تكون لدينا «ديمقراطيّة ليبرالية» و«ديمقراطيّة فاشيّة» و«ديمقراطية اشتراكيّة» (وكذلك ماركسيّة واستالينيّة). وإذا كان مفهوم الديمقراطية في وقتنا الحاضر محصوراً بالليبرالية (الديمقراطيّة الليبرالية) فهذا من نتاج قوة الأجهزة الإعلامية لدى القوى العظمى والشركات التي تتبنى هذا النمط من الديمقراطية. فضلاً عن ذلك فإنّ منظّري الليبرالية الذين جعلوا من الديمقراطيّة ذات النزعة الإنسانويّة أمراً مقدّساً زاخراً بالفوائد والحسنات وروّجوا لليبرالية الكلاسيكية والجديدة بصفتها المصداق الواقعي للنظام الديمقراطي، سعوا كثيراً لإقصاء النظريات المنافسة. علماً هناك مِن الليبراليين مَن قَبِلَ بوضع نظرية (الديمقراطية الاشتراكية) و(الأنظمة الليبرالية ذات التوجه الاشتراكي والديمقراطي كالسويد وفنلاندا والنروج) ضمن دائرة الأنظمة السياسية الديمقراطية. ولكن الليبراليون الجدد المتشددين المدافعين عن الرأسماليّة الشخصيّة من أمثال «فردريش فون هايك» فإنّهم يرفضون ذلك تماماً ويحصرون الديمقراطية بنسختها الليبرالية الكلاسيكية والجديدة فقط.

(70)

تبلور الخطاب الديمقراطي الإنسانوي في الغرب الحديث في أوائل عصر النهضة، إذ أُسِّست في فلورانسا الإيطالية في عام 1300 جمهورية حديثة طبّقت بعض الأسس والمبادىء الديمقراطية. وقد يمكن تتبع بعض الآراء ذات الطابع الديمقرطي في نصوص «مارسيليوفيسينو» و«نقولاس الكوزاني»، إذ تناولوا بعض الموضوعات التي أصبحت لاحقاً من أسس الديمقراطية. إنّ غالب النقاشات والسجالات الفكريّة في التاريخ الغربي (بعد مارسيليووالكوزاني وميكيافيلي) تتمحور حول تعريف مصداق الـ(ديموس) وحدوده وحقّه في التشريع والحكم، إذ كانت غالب الجهود الفكرية تنصب في وضع قاعدة نظريّة منسجمة للديقمراطية الإنسانويّة واشكالياتها العديدة. لقد بادر «جان جاك روسو« الذي كان أحد الفلاسفة الإنسانويين في عصر النهضة إلى وضع قواعد الديمقراطية ذات النزعة الإنسانيّة، مبلوراً الفكر الديمقراطي ليكون بعد ذلك منعطفاً هامّاً في تاريخ الفكر الغربي. إنّ ما فعله «روسو« هوتوسيع رقعة مصاديق «ديموس»، إذ شمل الطبقات الفقيرة والمعدمة أيضاً في دائرة الـ «ديموس».

إنّ الليبرالية الكلاسيكية بصفتها نظرية ديمقراطية ذات نزعة إنسانيّة طوال القرنَين السابع عشر والثامن عشر كانت تعارض توسيع دائرة الديموس وترفض شمول الطبقات والفئات الفقيرة والنساء، وهذا ما نجده في نصوص «جون لوك» بصفته رائد الليبرالية الكلاسيكية، وكذلك في آراء «ايمانوئل كانط» بصفته المنظّر والفيلسوف المؤثر الذي اعتمده لاحقاً الليبراليون من أتباع الديمقراطية الاشتراكية والليبرالية الجديدة.

لقد صرّح كانط برأيه القائل: إنّ امتلاك رأس المال، (وحسب

(71)

تعبيره الاستقلاليّة والسيادة) هوالشرط الأساس الذي يجعل الفرد مواطناً ومتساوياً مع سائر المواطنين الأحرار، وهذا هوالذي يمتلك حق التصويت والتشريع والحكم. وإذا فقد هذا الشرط فسيفقد الحقوق السياسية المخصصة للديموس. يقول كانط بكلّ صراحة إنّ العمّال أوالعبيد وكلّ من لا يملك رأس المال يُحرَم من النشاط السياسي والاجتماعي[1]، (فضلاً عن ذلك فإنّ النساء أيضاً لا يملكن أي حقّ من حقوق المواطنة وفق آراء كانط). بعبارة أخرى يرى كانط أنّ مفهوم المواطنة فق المجتمع الليبرالي الحديث يشمل من يملك الاستقلاليّة، ولا تتحقق هذه الاستقلاليّة (التي هي استقلاليّة اقتصاديّة) إلّا بامتلاك رأس المال. يرى كانط أنّ الفرد الذي يملك رأس المال ولا يعمل لدى شخص أومؤسسة أخرى، بل يؤمّن عيشه من خلال رأس ماله فهومستقلّ وسيّد نفسه ويتمتع بحقوق المواطنة، وإنّ هذه الاستقلاليّة هي من شروط «الديموس/الشعب» وفق المنظور الديمقراطي.

على الرغم من آراء كانط حول «حقوق الإنسان» و«الكرامة الإنسانيّة» و«الحريّة» و«رفض الاستبداد»، إلّا أنّه يقصي الفقراء والطبقات المعدمة من أيّ نشاط سياسي واجتماعي ويحرمهم من حقّ المواطنة لسببٍ واحد وهوعدم امتلاكهم رأس المال. ومن هنا يتّضح الوجه الظالم للفكر الليبرالي وزيف شعاراتها الداعية لحقوق الإنسان.

قد نجد الليبرالية في بدايات القرن العشرين مستجيبة لموجة الاعتراضات والنهضات التي قادتها الطبقات الفقيرة في المجتمعات

(72)

الغربية، إذ أعطت بعض الحقوق الأساسية لمن لا يملك رأس المال وللنساء ولذوي البشرة السوداء؛ ولكن على الرغم من كلّ ذلك فإن الطابع التمييزي بين الأفراد والنزعة الظالمة في جوهر الليبرالية ما زالت باقية، بل اتسعت وانتشرت أكثر من قبل، ما زالت الأصوات الداعية للحرية والعدالة العالميّة تقمع وتحارب.

إنّ الخطابات التي تبلورها كلٌّ من «الديمقراطية الإنسانيّة» و«العلمانيّة الإنسانيّة» و«نظرية التقدّم» تلعب أدواراً أساسيّة في العالم الغربي على الصعيدَين النظري والعملي، إذ اعتمدتها الليبرالية الكلاسيكيّة في منظومتها المعرفيّة. ولكن مع ذلك فإنّ العلاقة بين هذه الخطابات الثلاثة ليست في مستوى واحد، فثمّة اختلاف في آلية التأثير ومقداره، ولكن مع ذلك تجتمع نظريات عالم الحداثة وأيديولوجياتها تحت مظلّة هذه الخطابات.

نظريّة التقدّم[1]

إن أحد الخطابات الفعّالة والمؤثرة في الليبرالية (بكلّ نسخها) هي «نظرية التقدّم». تبلور هذه النظرية خطاباً يُعدّ من الأسس الرئيسة في «تاريخ النزعة الإنسانيّة» وتذهب الى استقلالية الذات البشريّة لتقول: إنّ العالم الحداثوي بمثابة الفترة التاريخية الأنضج والأفضل التي مرّ بها الإنسان. إنّ معايير التقدّم وفق هذه النظريّة تتمثل بـ: تجميع رأس المال وتداوله[2]، وكذلك بهيمنة القيم الحداثوية وعقليتها وانتشار التكنوقراطية[3] والبيروقراطية الحديثة[4]، واعتماد

(73)

العلم والعلمويّة[1]والتقنيات الحديثة. إنّ العلمانيّة بنزعةٍ إنسانيّة ورفض التعاليم الدينية هي من ملازمات نظريّة التقدّم، فهي فرضيّة ترى بأنّ تقدّم الإنسان يعني دخوله في عالم الحداثة وتحديثه، وعلى هذا الأساس سيكون الإيمان بالوحي (حتّى إنْ كان نقيّاً غير ممتزج بشوائب الحداثة) انتهاجاً للخرافة والأفكار الظلاميّة، وإنّ كل فرد أوكلّ مجتمع غير حداثوي يُعَد (متخلّفاً) بالمقارنة مع المجتمعات الحداثويّة. إنّ فرضيّة التقدّم المبنيّة على قراءة علمانيّة واقتصاديّة للتاريخ تعدّ التكنولوجيا الحديثة والمعقّدة وقوّتها على التدمير دليلاً على «تقدّم»!!؟ العالم الغربي؛ فإنّها تنبذ وتقصي كل العلوم والمعارف المتداولة قبل عصر الحداثة وتعدّها متخلّفة ورجعيّة، أوفي أفضل الأحوال تعدّها نموذجاً ناقصاً وغير مكتمل للعلوم الحديثة. وبهذا تكون نظريّة التقدّم كعَصا لضرب الشعوب غير الحداثويّة وتحقيرها، ولإبراز الفرد الحداثوي والمجتمعات الحداثويّة الغربيّة في مكانٍ أعلى مرتبة من غيرهم. ولكن على الرغم من كلّ ذلك فإنّ في البيئة الغربية نفسها ظهرت في شتّى الحقول العلميّة والمعرفيّة كفلسفة العلم والعلوم الاجتماعيّة وفلسفة التاريخ والتكنولوجيا والأخلاق والاقتصاد، ظهرت أفكار ما بعد الحداثة (بدءً من «نيتشه»[2] و«هايدغر»[3] ووصولاً ل«ماركوزه»[4] و«هوركهايمر»[5]

(74)

و«بودريار»[1] و«فوكو»[2] و«كوهن»[3] و«فايرابند»[4])، وكذلك نزعات روحيّة ومعنويّة، وهي توجهات وأفكار تنقد بشدّة مبادئ وأسس نظريّة التقدّم آنفة الذكر، وتعدّها فرضيّة  فاقدة لأيّ اعتبار وضرباً من «الأوهام» داخل النزعة الإنسانية، إذ يكون هدفها بسط سلطة العالم الحداثوي.

إنّ الليبرالية الكلاسيكية ممزوجة بخطاب نظرية التقدّم، إذ يجد الباطن البرغماتي ذا النزعة الاستعماريّة الكامن في نظريّة التقدّم مجالاً مناسباً للظهور في الرأسماليّة الليبرالية.

ظهرت البوادر الأولى لنظريّة التقدّم في أفكار وآراء «فرانسيس بيكون»[5]، واتسعت وانتشرت الفكرة لاحقاً في الفكر الغربي.

فلسفة الحق ذات النزعة الإنسانويّة

إنّ إحدى الأفكار السائدة والمشتركة في الحضارتّين الاغريقيّة والرومانيّة هي «علم الكون». كان الكون لدى الإغريق هومصدر الحقوق ومعيارها. إنّ نظام الأفلاك والكواكب وفق التفكير الاغريقي والروماني يسير وفق العدل والخير، وإنّ حضور الآلهة الشبيهة

(75)

بالإنسان وغير المقدّسة كـ («زيوس»[1] و«يوبيتر»[2] و«أفروديت»[3] و«فينوس»[4]) هوجزء من نظم هذه الأفلاك. إنّ حركة الكون والأفلاك (أوالطبيعة التي هي جزء من النظام الكوني) في الفكر الإغريقي والروماني تسير وفق العدل، وهذه هي عدالة ذاتيّة في نظام الأفلاك، وسارية في الطبيعة. لقد استنبط الفكر الإغريقي من هذه العدالة نظاماً حقوقيّاً يتطابق مع طبيعة العدالة الكونيّة وسمّاها بـ«الحقوق الطبيعيّة»، وأصبحت هذه الحقوق لاحقاً أساساً لفكرة «دولة المدينة»[5] في الحضارة الإغريقيّة، مع بعض الاختلافات والتغييرات بين الأنظمة الجمهوريّة لدى الإغريق والإمبراطوريات لدى الرومان. بناء على ذلك أصبح النظام السياسي الحاكم في «دولة المدينة» الإغريقية والإمبراطورية الرومانية نسخة ثانية لعدالة الكون أوالطبيعة، مستمدّاً شرعيته من هذه العدالة. لقد كان أرسطويعدّ دولة المدينة نسخة ثانية من النظام الكوني، ومجالاً لظهور الحقوق الطبيعيّة، ولذلك عَدّها (أي: دولة المدينة) من ضمن الواقعيات الطبيعيّة، إذ عرّف الحقيقة الإنسانيّة في إطار علاقتها بدولة المدينة. وهذا ما أدّى باليونانيين إلى الاعتقاد بأنّ كلّ فرد أومجتمع خارج نظام دولة المدينة هوخارج دائرة الإنسانيّة، وليس بإنسان[6].

إنّ ما كان يطلَق عليه في العالم الغربي القديم الحقوق الطبيعيّة

(76)

كانوا يعدّونه انعكاساً لنظم الطبيعة ونظامها، ولأنّ لنظام الكواكب والأفلاك وآلهتها صبغة مقدسة فلذلك تكون الحقوق المستمدّة من هذا النظام مقدّسة أيضاً.

أمّا في القرون الوسطى فقد كانت فكرة (محورية الله)[1] هي جوهر ذلك العصر وروحه. إن (ثيو) أو(ثيوس) أو(إلوهيم)[2] الذي كان يعدّ هوالرَّب هونتاج مفبرك من التراث اليهودي والإغريقي الذي كان يقدّس (زيوس)، وهوإله بباطن غير ديني ووثني، ومتخفٍّ بظاهره الشرائعي. إن الثقافة السائدة في الغرب طوال القرون الوسطى لم تكن ثقافة دينيّة نقيّة، بل كانت مشوبة بشِرْكٍ أفرزه التراث اليهودي واليوناني، وهوما تمظهر في فلسفة قرون الوسطى، ولاسيما في دهاليز «الاستدلالات» المقتبسة من الميتافيزيقا اليونانيّة التي ارتدت ثوباً دينيّاً مزيّفاً. بحلول القرن الثاني عشر الميلادي، وتحديداً بعد عصر «القديس ابيلار»[3] وبظهور فلسفة «توما الأكويني» تبلورت النزعة الدهريّة الكامنة في التراث (اليهودي ــ الإغريقي) المشترك. (لا نقصد هنا تخطئة فلسفة الأكويني، بل نريد الإشارة إلى دور فلسفته في التمهيد لظهور الروح العلمانيّة الإنسانويّة في الغرب). على الرغم من أنّ الأكويني لم يكن مؤمناً بـ«الحقوق الطبيعية» وفق المفهوم اليوناني، ولكنّه (عن غير قصد) مهّد الطريق لبلورة قراءة حداثويّة للحقوق الطبيعية وذلك من خلال تفسيره لهذه الحقوق

(77)

الذي التزم فيه بقواعد الفلسفة المدرسيّة.[1]

على الرغم من أنّ فلسفة الحقوق الإنسانويّة ومنظومتها المعرفيّة لا تنحصر بنظرية «الحقوق الطبيعيّة»، ولكنّ لهذه النظريّة مكانة مهمّة في فلسفة الحقوق الإنسانويّة التي مهدت الطريق لنشوء الليبرالية الكلاسيكية. ثمّة فلاسفة في العالم الغربي الحديث من أمثال «جوهانس التوزيوس»[2] و«غروتيوس»[3] و«جان بودان»[4] قدّموا قراءة إنسانويّة عن فلسفة الحق. إنّ الإنسان في فلسفة الحق الإنسانويّة يُعَدّ مصدراً للحقوق، وبناء على هذا الحق يخوّل بالتصرف في وضع القوانين والحقوق معاً بطريقةٍ لا يحدّها أي شيء آخر.

إنّ الفلاسفة الإنسانويين المؤسسين لنظريّة الحقوق الإنسانويّة يعدّون الإنسان المستقل بذاته (وتحديداً النموذج البرجوازي) مصدراً لشرعيّة الحكم، وإنّ الدويلات المدنيّة في عصر الحداثة تستمد شرعيتها من هذه الفكرة.

إن فلسفة الحقوق الإنسانويّة مبنيّة على الأسس الآتية:

1ـ إنّ حقّ الحُكم ليس لله تعالى، بل هوتابع لرأي الإنسان ورغبته

(78)

وإرادته، ويتحقق حسب رغبة الأفراد وتوافقهم.

2ـ إنّ الأنظمة القانونيّة والسياسية في الدول الناشئة عن هذا الحق يجب أن تتأسس لتحقيق رغبات الإنسان وغاياته (النفعيّة) ذات التوجّه العلماني والإنسانوي. لقد تبلورت مثل هذه الغايات في آراء المفكّرين والاقتصاديين والاجتماعيين بعناوين مختلفة من قبيل: «الرفاه»[1] و«تأمين الحاجات الإنسانيّة».

3ـ إنّ للإنسان حقوقاً طبيعيّة وذاتيّة، وعلى الحكومات الاعتراف بها. تطالب هذه الحقوق بتحقيق تلك الغايات الإنسانيّة آنفة الذكر.

إنّ جوهانس آلتوزيوس (الذي كان ينتمي لتجمّعات يهوديّة وماسونيّة) طرح نظرية «حكم الشعب» في إطار فلسفة الحقوق الإنسانويّة المستلهمة من «الحق الطبيعي» الذي يُعَد مفهوماً غير قابل للإثبات ولم يتحقق من صحّته، ولا يوجد أيَّ دليل أوقرينة تاريخية أواستدلال تجريبي يؤيّد صحّته، ولكنّه يُعدّ في الفلسفة الإنسانويّة مفهوماً يقينيّاً مفروضاً. ذهب آلتوزيوس إلى أنّ الشعب هومصدر الشرعية للسلطة السياسية، مقدّماً قراءة أخرى للصورة الجمعية عن النفس الأمّارة  التي يمكن موائمتها مع النفسيّة الفردانيّة.

كان آلتوزيوس أحد أتباع الكالفينيّة من مناصري الرأسماليّة الفرنسيّة الذين كانوا يسمّوَن بـ«الهجنوت»، وإنّ نظريته في «حكم الشعب» منحتهم ذريعة سياسيّة ليرسّخوا نهجهم الرأسمالي المناهض للإقطاعيّة والنظام السياسي السائد في فرنسا وقتئد. كان الهجنوت كسائر التيارات الكالفينيّة يعكسون الأهداف والغايات

(79)

اليهوديّة في إطار آراءٍ جديدة عن الديانة المسيحية وبنزعة حداثويّة.

على الرغم من أنّ نظرية «حكم الشعب» في القرن السادس عشر كانت متبلورة على يد «جان بودان»، إلّا أنّ آلتوزيوس في نظريته المشابهة كان يعتمد «الحقّ الطبيعي» أكثر من غيره. ويجب الانتباه إلى أنّ «الشعب» في هذه النظريات يحمل مضامين (علمانيّة ــ حداثويّة)، ويُراد منه صورةً من صور الـ «ديموس»، إذ يُزَج به في إطار نظامٍ كليّ ليُطلَق عليه تسمية «الشعب» الذي يملك حقّ الحكم والتشريع. إنّ نظرية حكم الشعب هي أحد الفروع المهمّة في النظريّة الديمقراطية، إذ تبلورت في القرن السادس عشر، وكان لها القول الفصل طوال القرنَين السابع عشر والثامن عشر، ولاسيما في الثورات (الليبرالية ــ الماسونيّة) في كلٍّ من بريطانيا وفرنسا، اقترنت بالليبرالية وأصبحت جزءً من الأسس الفكرية لدى الدول الناتجة من تلك الثورات.

إضافة إلى آلتوزيوس فقد كان للقانوني الهولندي «هوغوغروتيوس»، دورٌ مهمّ في وضع فلسفة الحقوق الإنسانويّة في الغرب الحداثوي، إذ أثّرت آراؤه كثيراً في نشوء النظام القانوني والحقوقي الإنسانويّ بنزعة ليبرالية. ولد «غروتيوس» في أسرة أرستقراطيّة هولنديّة ودرس في المدارس الدينيّة المسيحيّة في مدينة اورليان الفرنسيّة، واختير بعد عودته إلى هولندا نائباً في البرلمان الهولندي. بعد فترة نشب خلاف بينه وبين القائد العسكري الهولندي وهذا ما جعله يذهب لباريس، حيث عمل في البلاط الفرنسي، ونشر كتباً في القانون الدولي. إنّ رؤيته في القانون الدولي هي رؤية غربيّة بامتياز، إذ لا يعدّ أي حقوق لغير الغربيين في القانون الدولي، مبلوراً بذلك أسساً فكرية وقانونيّة للحركات الاستعماريّة الغربيّة التي اضطهدت الشعوب غير الغربيّة.

(80)

يوجد في النظام القانوني الذي أرساه غروتيوس نزعة علمانيّة واضحة، إذ هومبنيٌّ على القراءة الإنسانويّة لفكرة حقوق الإنسان.

إنّ هارولد لاسكي الذي يُعرَف بميوله الحداثوية والاستعماريّة يقدّم شرحاً موجزاً ومفيداً لأسباب نشوء النظام الحقوقي الحديث. يقول هذا العالم الاقتصادي بهذا الصدد:

لقد اقتضت الحاجة الاجتماعيّة في القرن السادس عشر إنشاء قواعد حديثة للنظام القضائي. يمكن قراءة هذه القواعد الحديثة من منظارَين: أوّلاً لقد أدّت هذه القواعد إلى وضع القانون الدولي بمفهومه الراهن الذي تعتمده الدول في الوقت الحاضر. ثانياً تمايزت الحقوق العامّة والحقوق الخاصّة التي كانت ممزوجة في أيّام الإقطاعيّة. لم تقتصر القوانين على أنّها وضعت وفق أسس جديدة، بل إن مناهج التفكير ترقّت وتطورت [يقصد لاسكي الفكر الإنسانويّ] وراح المشرّع يطابق القوانين مع الحاجة الاقتصادية. [يقصد لاسكي الاقتصاد الاستعماري الرأسمالي الغربي، الذي تمثّل بالأنظمة الرأسماليّة المبنيّة على الملكيّات الشخصيّة واسعة النطاق] وقد أعيد النظر في مفهوم الحق من وجهة نظر قانونيّة. يمكن القول إنّ نتائج ظهور المجتمع الجديد لم تتبلور في أيّ محورٍ اجتماعي آخَر مثل تبلوره في الجوانب القانونيّة والحقوقيّة. فعلى خلفيّة الاصلاح الديني [أي البروتستانتيّة ومذاهبها] أصبحت الحاجة ملحّة لسنّ القوانين الدوليّة. وعلى خلفية الاكتشافات الجغرافيّة [أي الفتوحات والنهب والاحتلال وتوسيع الإمبراطوريات الغربية على حساب سائر الشعوب غير الغربيّة] تولّد السؤال القائل: كيف ترسم حدود الأراضي المستعمرة وكيف تُقَسَّم؟ إنّ سلطة كنيسة البابا لم تكن كافيّة، لأنّ

(81)

البروتستانتيين ما كانوا يطيعون البابا. ولذلك كان الحلّ في وضع قوانين جديدة غير مستمدّة من سلطة البابا. فضلاً عن ذلك فإنّ ظهور الدول القوميّة الجديدة حفزّت المشرعين على وضع قوانين دوليّة جديدة. إنّ الدول التي أُسِّستْ على أساس الوحدة القوميّة كانت تترابط فيما بينها اقتصادياً، فعلى أعقاب تشكيل الجمهوريات الاتحاديّة مثل جمهورية هولندا[1] أصبحت الحاجة ملحّة لوجود القوانين الدوليّة... لذا بادر القانونيون لوضع قوانين جديدة لا يعتمد تنفيذها جانباً إلهيّاً، [أي تكون علمانيّة وإنسانويّة]، وأنْ تكون قابلة للتنفيذ بصرف النظر عن المعتقدات الدينية... طرح  غروتيوس آراءً  حول نشوء الدولة، ولم يعتمد في ذلك العلوم الدينية القديمة، بل استند إلى العلوم الجديدة. [بعبارةٍ أخرى كانت آراء غروتيوس تعتمد النزعة الإنسانوية والعلوم الحديثة، ومدبرة عن التعاليم الدينية والموضوعات الفلسفيّة غير الإنسانويّة]. لقد أرسى غروتيوس قواعد جديدة لنشوء الدولة، مستنداً إلى القوانين المنطقيّة والطبيعيّة، [أي استند للديمقراطية ذات النزعة الإنسانويّة والتفسير الإنسانوي للفرد وطبيعة البشر والسياسة والأسس القانونيّة]، وصرّح بأنّ الغاية من تشكيل المجتمع هوبقاء الفرد.[2] [أي الفردانيّة الإنسانويّة].

لقد ظهر مذهب فلسفيّ إنسانويّ في القرنَين السابع عشر والثامن عشر متبلوراً في آراء «هوبز» و«لوك» و«روسو«، إذ عُرِفَ بـ«الحَقّ الطبيعي»، وقد لعب دوراً أساسيّاً في إبراز الوجه القانوني للنظريّة الليبرالية الكلاسيكية وفي بسط فلسفة الحقوق الإنسانويّة.

(82)

الليبرالية والماسونيّة والقبلانيّة

إنّ الماسونيّة هي تجمّع سرّي يروّج للإنسانويّة والرأسماليّة، ولعب دوراً كبيراً في مجمل التطورات السياسيّة والاجتماعيّة في العالم الحداثوي. على الرغم من أنّ الماسونيّة قد بدأت في عام 1717 (حسب رأي الباحثين المنتمين لها) ولكن يبدوأنّ هناك مجموعة من المحافل والتجمعات والمنظمات السريّة وشبه السريّة كانت تعمل منذ منتصف القرون الوسطى على ترويج الآراء الإنسانويّة معتمدةً في ذلك تفاسير وتأويلات شتّى من الآراء اليهوديّة والتعاليم القبلانيّة.[1] وقد كانت الغاية من وراء ذلك نشر الثقافة الإنسانويّة وبسطها. فضلاً عن ذلك فإنّها أفرزت الشبكة الواسعة والمتنفذة للماسونيّة الرسميّة التي ظهرت في القرن الثامن عشر، وتفرّعت عنها التيارات المتصديّة للمؤامرات.

منذ تشكيل التنظيم السرّي المعروف بـ«فرسان المعبد»[2] (Knights Templar) في عام (1118م)[3] تشكّلت الكثير من التنظيمات السريّة المكتنفة بالألغاز في كلٍّ من إيطاليا وإسبانيا، وفي سائر مناطق أوربّا. كانت هذه التنظيمات تعتمد نوعاً من اللغة الروحانيّة والتعاليم اليهوديّة والهيرمنوطيقية لتوسيع دائرة النزعة الإنسانويّة، وكذلك لنشر اليهوديّة

(83)

بصورة علنيّة وخفيّة، والآراء المشبوهة الصهيونيّة ضدّ الإسلاميّة، والدعوة لاستعمار الشعوب الإسلاميّة. لقد لعبت هذه التنظيمات واسعة النطاق دوراً مهمّاً في بلورة الآراء الإنسانويّة وتوجيه أفكار الشعراء والكُتّاب والفلاسفة والرسامين والمتكلّمين والسياسيين، وبعبارة أخرى مناصري الإنسانويّة والحداثة. إنّ طيفاً كبيراً من أعلام الغرب الحداثوي من أمثال «ليوناردودافينشي»[1] و«ميكيل آنجيلو»[2] و«كيبلر»[3] و«بيكوديلا ميراندولا» و«نيوتن» و«كريستوفر كولمبوس»[4] و«مارتين لوثر» و«جان كالفن» وفلاسفة عصر التنوير من أمثال «كرومويل»[5] و«يان هوس»[6] و«مونتسر»[7] وغيرهم كانوا من المنتمين لهذه التنظيمات.

إنّ التنظيمات شبه الماسونيّة التي نشطت منذ بدايات القرن الثاني عشر تحوّلت في القرنَين الرابع عشر والخامس عشر إلى تيّاراتٍ فكريّةٍ واجتماعيّةٍ مؤثّرة، وانبثقت عنها التنظيمات الماسونيّة الرسميّة في القرن الثامن عشر، حتّى أصبحت الماسونيّة في القرن التاسع عشر تنظيماً عالميّاً قويّاً ومعقّداً وواسعاً ومتشعّباً، وله فروع

(84)

عديدة في دولٍ شتّى ومنتمين إلى مختلف القوميّات والشعوب. ونظراً للتعقيد الذي حدث في طبيعة العلاقات الداخليّة وتنوع المنتمين تميّزت هذه التنظيمات ببعض الفوارق والاختلافاتات والتنافس والتضادات الداخليّة التي أدّت إلى بروز بعض التعقيدات والخلافات بين تياراتها المختلفة (من قبيل الخلاف النظري بين المحافل والتنظيمات الذي يتعلّق بعرق المنتمين، أوبطبيعة الأفكار، مثل الماسونيين الليبراليين والماسونيين الاشتراكيين، أوالخلافات المنبثقة عن المشاكل السابقة بين المحافل.) هنا يجب أن نؤكّد أنّ هذه الخلافات ــ على الرغم من أنّها قد ترتقي لتصبح مشاكل جادّة ــ ولكنّها لا تنفي أبداً الماهيّة الاستكباريّة المشتركة بين التنظيمات الماسونيّة كافّة، فلا شكّ في أنّها تمثل إحدى الآليات المهمّة لدعم الرأسماليّة، وأنّ غايتها النهائية (على الرغم من بعض الخلافات) هي بسط سلطة النزعة الإنسانويّة المستكبرة في العالم.

بقراءة تاريخية للتنظيمات والمحافل الماسونيّة، سواء قبل تأسيسها الرسمي في عام (1717 في بريطانيا) أوبعد تأسيسها، نرى أنّ لهذه الحركة منذ القرن الثاني عشر وحتّى القرن الثامن عشر توجّهين بارزَين:

1ــ الدفاع الصريح والقويّ عن الرأسماليّة المُعَلمنة ــ الإنسانويّة. كان هذا المذهب (الذي انتمى اليه كثيرون من أمثال فرانسيس بيكون» و«جون لوك» و«جون ميلتون»[1][2] و«لايبنيتس» و«بيكوديلا

(85)

ميراندولا» و«هوغوغروتيوس» و«اسحاق لوريا»[1] و«جان كالفن» و«مارتين لوثر» و...) ينتصر للرأسماليّة، وطرح مفاهيم وآراء أصبحت في القرن السابع عشر والثامن عشر من أساسيات النظريّة الليبرالية. إنّ هذا التوجّه أوالمذهب يمثّل النزعة الرئيسة والمهيمنة على غالب المحافل شبه الماسونيّة، وإنّ ورثة هؤلاء قاموا بتأسيس الماسونيّة في (1717) وتوسيعها وبقوا مستمرين إلى وقتنا الحاضر.

2ــ مذهب ضعيف وخافت وغير متنفذ أصبح أكثر ضعفاً منذ قمع الثورة الفلّاحيّة في عام 1525، وليس له أيّ دورٍ في الماسونيّة الرسمية التي تشكّلت في القرن الثامن عشر. بقى هذا المذهب ضعيفاً وانحسر في تجمّعات صغيرة وغير مؤثّرة وبعيدة عن التيار الماسوني الرئيس، وليس له أيّ دورٍ بارز في الوقت الحاضر. كان لهذا المذهب نزعة ومعتقدات اشتراكيّة عرفت فيما بعد بالقوميّة الاشتراكية. من أشهر المنتمين لهذا المذهب هم «يان هوس» و«ويكليف»[2] و«توماس مونتسر» و«فردريش فيختل»[3] و«كارل

(86)

ماركس» وأعضاء «جمعية العدالة» و«جمعية ثول»[1].

على الرغم من وجود شيء من التقاطع بين هاتين النزعتين إلّا أنّ كليهما يشتركان في الدعوة إلى الحداثة والفلسفة الإنسانويّة، إذ اقتصر الخلاف على تبنّي بعض الشعارات السياسية والثقافية الداعية للعدالة الاجتماعية.

إنّ التيارات شبه الماسونية وكذلك الماسونيّة الرسميّة متجذّرة في التعاليم القبلانيّة، وهي بدورها تعود لتعاليم الشرك لدى الكهان المصريين في عصر الفراعنة (المعروفين بـ«هيرميتيكا». بعبارة أخرى إنّ كلّاً من المحافل شبه الماسونيّة وكذلك تنظيم الماسونيّة تعتمد التعاليم القبلانيّة (أوما يسمّى بالعرفان اليهودي). ولكن ما هي القبلانيّة؟

يُذكَرُ للقبلانيّة معنيان:

1ــ القبالة بمعنى التصوّف اليهودي. وفق هذا المعنى فإنّ كلّ ما يُعد تصوفاً في الديانة اليهوديّة (سواء كان صحيحاً أوخاطئاً) هوالقبالة، والمذهب الداعي لها يسمّى بـ«القبلانيّة».

2ــ يشير المعنى الثاني إلى الآراء العرفانيّة في الديانة اليهوديّة التي بدأت على يد «اسحاق الأعمى»[2] (المنظّر والصوفي اليهودي الفرنسي المتوفى سنة 1235م). وثمّة يهوديّ آخر يدعى «موسى بن نحمان»[3] وفي اللاتينية بـ«نهمانيدس» (وهومن أهالي مقاطعة

(87)

كتالونيا الإسبانيّة)، قام ببسط آراء اسحاق الأعمى وشرحها وكتب ما يقارب خمسين كتاباً ورسالةً في هذا المجال. تُعَدّ كتابات «ابن نحمان» إلى جانب كتاب «الزوهار»[1] لـ«موسى دي ليون» من أهمّ النصوص والتعاليم القبلانيّة.

لا تُعَدّ القبلانيّة وفق المعنى الثاني معادلاً لكلّ التيارات العرفانيّة اليهوديّة، بل يعبّر عنها بـ«الكاباليّة» أو«القبلانيّة».

عند قراءة تاريخ العرفان اليهودي نكون بإزاء المراحل الثلاث الآتية:

1ــ مرحلة العرفان الغنوصي

2ـ مرحلة النهضة الحسيدية الألمانية[2] [3].

3ـ مرحلة القبلانيّة التي بدأت على يد اسحاق الأعمى في أواخر القرن الثاني عشر في إيطاليا، واستمرت على يد «موسى بن نحمان» في اسبانيا طوال القرن الثالث عشر، وبلغت ذروتها بتأليف كتاب «الزوهار» بين العامَين (1280 لغاية 1286م).

(88)

4 ـ الحسيديّة المتأخّرة (الجديدة)

قد يمكن أنْ نعدّ القبلانيّة بمثابة الإطار العام للفكر العرفاني اليهودي، ولاسيما أن الآراء والأفكار التي طرحها إسحاق الأعمى، ومن بعده موسى بن نحمان، والتي جُمعَت في كتاب الزوهار (المعبّر عنه بـ كابالا) هي النواة الأساسيّة والوجه الغالب للعرفان اليهوديّ، وعند البحث في موضوع العرفان اليهودي يجب التركيز في هذا الجانب.

إنّ كلمة (كابالا) تلفظ في العِبريّة بـ«كباله»، وفي العربية بـ«قبالة» و«قبالا»، وهي مأخوذة من الأصل العبري (qbl) بمعنى القبول.[1] وفي المعنى الاصطلاحي يدلّ هذا المفهوم على التعاليم العرفانيّة والرمزيّة في الديانة اليهودية. لقد أطلِق هذا المصطلح منذ بدايات القرنين الثالث عشر على التيار العرفاني في الديانة اليهودية، وأصبحت القبلانيّة مرادفة للعرفان اليهودي. على الرغم من أنّ النصوص القبلانية دوّنِت في نهايات القرن الثاني عشر وطوال القرن الثالث عشر، ولكنّ جذورها النظريّة تعود للفلسفة الأفلاطونيّة المحدَثة وبعض التعاليم الشركيّة للحضارات الشرقيّة.[2] مع ذلك يمكن أنْ نُرجع الأصول الجوهريّة في القبلانيّة إلى عقائد الكهنة في مصر الفرعونيّة القديمة التي تسمّى بـ(المتون الهرمسيّة)[3].

(89)

بعبارة أخرى إنّ ما روّج له في القرن الثاني عشر والثالث عشر في كتاب (الزوهار) هوقراءة جديدة بنزعةٍ إنسانويّة للآراء الهرمسيّة بنزعة الفلسفة الأفلاطونيّة المحدثة، وقد لاقت رواجاً واسعاً لدى أنصار المدرسة الإنسانويّة. ومن هنا يمكن أن نرى المزج المتقَن بين العقائد الإنسانويّة في عصر التنوير مع عقائد القبلانيّة والتراث الهرمسي الفرعوني الممزوج بالشرك. وبهذا تكون الأسس النظرية الموحدة للفكر الغربي متجذرة في القبلانيّة والهرمسيّة.

إنّ القبلانيّة هي مجموعة من الأفكار الشركيّة التي غلبت عليها النزعة الإنسانويّة في نصوصها المكتوبة في القرن الثالث عشر. أمّا على الصعيد الأنطولوجي فإنّها مبنيّة على وحدة وجودٍ (علمانيّة ــ شركيّة) تعدّ الإنسان والله من سنخٍ واحد ومن ذاتٍ واحدة، وبالتالي تنكر أنْ يكون الإنسان مخلوقاً والله خالقاً. على الرغم من أنّ القبلانيّة هي الوجه الرئيس للعرفان اليهودي ولكنها مبنيّة على أسس ممزوجة بالشرك تلقاها اليهود في أيّام الحضارة الفرعونيّة من كهنة المعابد. تشير الروايات التاريخية بأنّ نبيّ الله موسى عليه‌السلام بصفته مبشّراً بالتوحيد قد تصدّى بهذه العقائد الشركيّة (المعروفة بالهرمسيّة)، فضلاً عن ذلك فإنّ عبادة العِجل لدى بني اسرائيل (عجل السامري) تعود للعقائد الهرمسيّة الممزوجة بالشرك. إنّ مثل هذه العقائد الشركيّة الفرعونيّة تمثّل الأسس الفكرية والعقائدية للقبلانيّة.[1] إذ أنّ المدرسة القبلانيّة التي راجت خلال القرن الثالث عشر في كلٍّ من إسبانيا وايطاليا تعتمد أفكاراً ممزوجة من الفلسفة الأفلاطونيّة المحدثة والهرمسيّة، وقد أعيدت قرائتها من

(90)

منطلقات إنسانويّة، وقد تكفّل هذه القراءة فلاسفة وشعراء من أمثال «بيكوديلا ميراندولا» و«نقولاس الكوزاني» و«كوبرنيكـ» وأتباع الآكاديمية الأفلاطونيّة في فلورانسا. وقد انعكست الروح الإنسانويّة المكتنفة بالرموز والعقائد اليهوديّة في أعمال دافينشي و«بوتشيلي» و«جون ملتون» و«شكسبير» وفي آراء «مارتن لوثر» و«جان كالفن» و«فرنسيس بيكون» و«جوردانوبرونو»، وعدد كثير من مفكري عصر التنوير والعصور اللاحقة له.

إنّ العلاقة بين الإنسانويّة والقبلانيّة مؤكّدة في مصادر مختلفة. من هذه المصادر كتابٌ للكاتب الشهير «مالاتشي مارتن»[1] المعنوَن: (مفاتيح من هذا الدم)[2]. يرى مارتن في كتابه هذا بأنّ أثر القبلانيّة واضحٌ في عقائد الإنسانويين الذين برزوا في إيطاليا في أوائل عصر التنوير، إذ كانوا يرومون الهروب من الأجواء السياسية والاجتماعية المشحونة بالصراعات وأسسوا من أجل ذلك تجمّعات تتبنى آراء إنسانويّة. لقد تبلور في هذه التجمّعات مجموعة من العقائد عُدَّت علماً سرّيّاً لمجموعة من الأحكام الغنوصيّة المستمدّة من حضارات شمال افريقيا ــ لاسيما الحضارة المصريّة ــ وكذلك من القبلانيّة الكلاسيكية لدى اليهود. لقد قام الإنسانويون الإيطاليون بتشذيب العقيدة القبلانيّة، وغيّروا فيها كثيراً، وحدّثوا مفهوم الحكمة الغنوصيّة وحولوه إلى مفهوم يعاصرهم. إنّ الحكمة الغنوصيّة التي كانوا ينشدونها كانت علماً سرّيّاً يهدف إلى السيطرة على القوى الطبيعية لتحقيق أغراضٍ اجتماعيّة وسياسيّة. خلاصة القول هوأنّ التجمّعات الإنسانويّة التي تألّفَت في تلك الحقبة كانت تدعوإلى

(91)

استبدال الثقافة المسيحية الأوروبيّة بثقافة جديدة مستمدّة من القبلانيّة، وقد بادروا إلى إيجاد تغييرات اجتماعيّة وسياسيّة لهذا الغرض... ولذلك ظهرت منظمةٌ ماسونيّة إنسانويّة في أوربّا في القرن الرابع عشر تتبنى العقيدة القبلانيّة. إنّ المنتمون لهذه المنظمة ما كانوا كاليهود والنصارى والمسلمين ليؤمنوا بالله الأحد الخالق والحاكم المطلق على الكون. بل عبّروا بدلاً من الذات الإلهيّة بمفاهيم أخرى مثل «مهندس عظيم للكون»[1]، وعدّوه جزءاً من العالم المادّي.

بنظرة فاحصة لمجموعة النصوص الماسونيّة نرى أنّ هذه المنظمة ليست سوى إنسانويّة جرى تأطيرها في منظّمة ترنوإلى بسط النزعة الإنسانويّة والعلمانيّة في العالم.[2]

إنّ الماسونيّة هي منظمة إنسانويّة لخدمة الغايات الاستكباريّة للعالم الغربي الحديث، وتستمد أصولها الفكريّة من التعاليم القبلانيّة. عند دراسة العلاقة الكامنة بين الماسونيّة والأيديولوجيات الحداثويّة نرى أنّ الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الجديدة تمثلان النظريتين الأقرب صلةً للماسونيّة، وببيان أدقّ نقول إنّ الليبرالية بنسختيها الكلاسيكية والجديدة مولودة من رحم الماسونيّة، إذ أن الليبرالية ولدت في المحافل الماسونيّة، وترفع شعارات ماسونيّة.

يمكن أنْ نوجز الأسس الفكريّة للماسونيّة في النقاط الآتية:

1ـ الاعتقاد بوجود إلهٍ صانع ساعات وكذلك الاعتقاد بالربوبيّة

(92)

(Deism) بمختلف أشكالها؛ (في نماذج أخرى من الماسونية يكون الاعتقاد بالماديّة أوالإلحاد بديلاً من الربوبيّة وفرضية الإله صانع الساعات).

2ـ العلمانيّة ذات النزعة الإنسانويّة وفصل الدين عن الدولة.

3ـ نظرية التقدّم

4ـ نظرية التسامح والتساهل

5ـ ترويج نظرية التعددية الدينية بين المعتقدين بالأديان السماويّة

6ـ الاعتقاد بالنظام الرأسمالي الحديث بصفته قمّة «التقدّم» و«التطوّر»!

7ـ الاعتقاد بشعار «الحريّة، والمساواة، والأخوّة»

8ـ الفردانيّة ونظرية حقوق الإنسان ذات النزعة الفرديّة

إنَّ مفهوم «الحُريّة» في العقيدة الماسونيّة يستبطن نزعةً فردانيّة ورأسماليّة، وهذا دليل على العلاقة الوثيقة بين العقيدة الماسونيّة والنظريّة الليبرالية. فضلاً عن ذلك فإنّ مفهوم «المساواة» الذي تتبناه العقيدة الماسونية يتضمن ماهيّة ليبرالية. إنّ لهذه المساواة ظاهراً قانونيّاً وحقوقياً ومن القضايا المحوريّة في النظرية الليبرالية والليبرالية الجديدة. بيد أنّ مفهوم «المساواة» هذا يحتوي على عدم مساواة وظلم مطلق، وإنّ المساواة القانونيّة الظاهريّة هي لغرض إخفاء تلك اللامساواة المستبطنة.

إنّ الليبراليين يؤكّدون في كلّ توجهاتهم السياسية (ولاسيما في

(93)

القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر) على مفهوم «المساواة»، وإنّ هذا التأكيد مستمر إلى الآن. إنّ باطن هذا بالشعار الذي يرفعه الليبراليون يعتمد مضامين ماسونيّة.[1] فعلى سبيل المثال نجد زعماء الثورة الفرنسيّة الليبراليين استبدلوا الشعار الرئيس للثورة «الحريّة، والمساواة، والأخوّة». إنّ الماسونيين انتظموا في محافل ومجاميع كبيرة ومتنوعة، وفي الوقت نفسه منسجمة، وكان أحدهم يخاطب الآخر بـ«الأخ»، وهم يتبعون نمطاً مؤسساتيّاً موحداً ملتزمين بنظامٍ منضبط. ومن هنا نجد النشاطات الثقافية والسياسية التابعة للماسونيّة في الدول المختلفة تتبع نظاماً وحداً (وخفيّاً في أغلب الأحيان)، ويدعمون بعضهم بعضاً. إنّ جوهر الأخوّة في المحفل الماسوني بهدف دعم الأعضاء لتحقيق الأغراض الماسونيّة ذات الطابع الشيطاني.

إنّ في الليبرالية الكلاسيكيّة والليبراليّة الجديدة تماثلات كثيرة مع العقيدة الماسونيّة. فضلاً عن أنّ غالب الليبراليين والليبراليين الجُدد كانوا ينتمون لمحافل ماسونيّة. إنّ زعماء الثورة الفرنسية الليبراليين من أمثال «ميرابو« و«بريسو« و«رونالد» و«بيتون» وكذلك الليبراليون الذين قادوا الثورة الأمريكية من أمثال «جورج واشنطن» و«توماس جفرسون» و«الكساندر هميلتون» و«بنيامين فرانكلين»، حتّى روّاد الثورات الليبرالية ــ  ذات النزعة التطهيريّة خلال القرن السابع عشر في بريطانيا، كلّ هؤلاء كانوا ماسونيين. إنّ «جون لوك» الذي يَعدّه الكثير من مؤرخي الفلسفة (أباً لليبرالية) كان ينتمي لمحافلَ شبه ماسونيّة في بريطانيا وهولندا خلال القرن السابع عشر.

(94)

وكذلك «مونتسكيو« و«فولتير» و«هلوسيوس» الذين ساهموا بشكلٍ كبير في إرساء قواعد الفكر الليبرالي كانوا من الماسونيين. إجمالاً يمكن القول إنّ الأيديولوجيا الليبرالية الكلاسيكية ولدت من رحم المحافل الماسونيّة، وهوينطبق أيضاً على الليبرالية الجديدة وروّادها من أمثال «هايك» و«فريدمان» و«بوبر» و«برلين».

إنّ الآراء الماسونيّة تشكّل الركيزة الأساسيّة التي تستند إليها الليبرالية الكلاسيكية، وإنّ أغلب منظّري الليبرالية ينتمون لمحافل ماسونيّة. إنّ ما نروم توكيده بهذا الصدد هي قضيّة العلاقة بين آراء القبلانيّة اليهوديّة والليبرالية الكلاسيكية. ما نقصده من القبلانيّة والعرفان القبلاني يتمثّل بالتعاليم والآراء التي وردت في نصوص كتاب «الزهار» الذي كُتِب في القرن الثالث عشر الميلادي وفي غيرها من النصوص. لقد كان هذا النظام الفكري سائداً خلال عصر التنوير الإيطالي، وكان الأساس النظري لمناهج «الأكاديميّة الأفلاطونيّة في فلورانس» التي أسسها «كوزيمودمديسي»[1] سنة (1439) وهورأسماليّ إيطالي. إنّ كلّاً من «لورنزوفالا» و«بيكودلا ميراندولا» و«مارسيليوفيجينو« و«نقولاس الكوزاني» و«غیلام بوده" (الذي أسس في سنة 1530 جامعةً لترويج الفكر والثقافة الإنسانويّة في فرنسا، التي كان يُدَرَّس فيها اللغة العِبريّة)[2] وكذلك الوجوه البارزة والنافذة في أسرة مديتشي، ودسیدریوس اراسموس، فرانشیسکو بتراركا، جيفاني بوكاتشيو، وغيرها من الشخصيات المؤثرة والفلسفيّة والثقافيّة في التنوير الإيطالي، وفي أوروبا الوسطى؛ كلّ هؤلاء كانوا متأثرين ومؤمنين بـ«القبلانيّة اليهوديّة»،

(95)

وإنّ بعضاً منهم من أمثال (ميراندولا) سعى لتأسيس قبلانيّة مسيحيّة.

يمكن تلخيص القراءة القبلانيّة للكون كالآتي: (وقبل ذاك نرجومن البارئ واسع المغفرة أنْ يغفر لنا استعراض هذه الرؤية الشِركيّة، وكذلك نعتذر لعباده المؤمنين، فالغاية من ذكرنا هذه الآراء هي توضيح هذه العقيدة).

إنّ الله ــ وفق العقيدة القبلانيّة ــ يتجلّى، وإنّ تجلّيه الخَفيّ يكون بصورة الإنسان، (بصورةٍ فرديّة وجمعيّة، وفي المجتمعات وعلى مدى التاريخ). في بادىء الأمر هنالك وحدة وانسجام بين الذات الإلهيّة الأزليّة التي تُسمّى في العِبريّة بـ«عين سوف»[1] وتجلّيه الذي يعبَّر عنه بـ« شيخينة». ولكنّ الذنوب وكذلك هبوط الإنسان أدّى إلى حدوث فواصل بين الذات الأزليّة والإنسان، وبهذا يُنفى الإنسان. (إنّ نفي بني إسرائيل يمثّل نموذجاً لنفي الإنسان. لأنّ حقيقة الأخير وفق العقيدة القبلانيّة تتجلى في الفرد اليهودي فقط.) وبهذا تتقوّض عقيدة وحدة الله (والعياذ بالله) ويحدث فيها شرخٌ كبير ويظهر الفساد. ترى العقيدة القبلانية أنّ هذا الشرخ والابتعاد هو إقصاء للشرّ، وتعبّر عن ذلك ببيان ممزوج بالكفر قائلةً: إنّ هذا الشَّر (والعياذ بالله) هونتيجة لوجود الشر في الذات الإلهيّة، إذ يمثّل أحد أوجه تلك الذات!

إنّ الإنسان وفق العقيدة القبلانيّة هوشريك الله (والعياذ بالله)، وإنّ الله محتاج إلى الإنسان، وإنّ وظيفة الإنسان تتمثل بإعادة تلك الوحدة الباطنيّة بينه وبين الله، وملء الفراغ ومعالجة هذا الشرخ، ويستند كلّ ذلك إلى إرادة الإنسان. لأنّه وفق العقيدة القبلانيّة هوالوجه الرئيس

(96)

لـ «شيخينة»، (أي التجلّي العيني لـ«عين سوف»). من هنا يدّعي القبلانيون أنّ الإنسان هوجزء من ذات الله، وبما أنّ هذه العقيدة مبنيّة على نزعة عنصريّة وتعدّ قوم اليهود ممثلاً للباطن الإنساني الأصيل، لذلك تدّعي أنّ هؤلاء القوم (أي اليهود) هم جزء من ذات الله. ومن هنا عدّوا نفي اليهود من أورشليم خلال فترة التجسيد القديمة تطبيقاً لفكرة تجزئة الله. وإنّ عودتهم إلى الأرض الموعودة تعني إعادة الوحدة إلى باطن الذات الإلهيّة! إن عودة «شيخينة» (الجانب الأنثوي في الذات الإلهيّة وفق التعاليم القبلانيّة!) إلى «عين سوف»، وكذلك تحقق الوحدة في الذات الإلهيّة تتحق بعودة اليهود إلى الأرض الموعودة، وبتحقق وحدة الله سيعمّ العالم النظم والهدوء، وستنتظم كلّ الأمور. لذلك ترى القبلانيّة أنّ وجود اليهود وعملهم وعودتهم للأرض الموعودة وحركتهم في هذا الاتجاه هوعامل رئيس لتحقيق التوازن في العالم ولتحرير الإنسان وتنظيم أموره. الإنسان (أوبالأَحرى الفرد اليهودي) قادرٌ على القيام بمهامّه ومساعدة الله من أجل تحقيق وحدته الباطنيّة، ولا يحتاج إلى أيِّ مساعدة من الله؛ بل يعتمد سلوكه المبنيّ على نوع من التصوّف الجنسي (وهونوع من التصوّف الكاذب الإباحي) والتساهل والتسامح، وعن طريق تفعيل رأس المال وتفضيله، وهي طريقة تؤدّي إلى سيطرة اليهود، (لأنّ الرأسماليّة العلمانيّة الحداثويّة هي نتاج سيطرة المنظور اليهودي للمال والربا والاستثمار) وتعوّل على الإنسانويّة التي يتمثّل جوهرها بمعصية الله وعدّه شريكاً للإنسان. إنّ مثل هذا الإنسان باعتماده المنهجيّة آنفة الذكر قادرٌ على العودة إلى الأرض الموعودة واستعادة الوئام (تيكون/الخلاص). إنّ النظرة الدينية المتماشية مع هذا القراءة للعالَم والإنسان وعلاقتهما مع الله تتمثل بالنظرية الربوبيّة (Deism)

(97)

التي اعتمدها وروّج لها الفلاسفة اليهود وكثيرٌ من الليبراليين في عصر التنوير. إذن على وفق المزاعم القبلانيّة فإنّ اليهود باعتمادهم النمط الرأسمالي في العيش ورفع شعار التسامح والتساهل، ومن خلال السلوك الجنسي الغامض، وبالتالي الاستقرار في الأرض الموعودة وإعادة بناء المعبد سينقذون البشريّة جمعاء، ويوحدون الذات الإلهيّة! (والعياذ بالله). إنّ الإنسان (على وفق التعاليم القبلانيّة) يستطيع أن يتقدّم في مسيرة المعرفة مستقلاً وأن يحصل على كامل المعرفة، وإنّ الوصول إلى هذا الكمال المعرفي يقتضي منافسة الله ومعارضته (والعياذ بالله). إن الذنب والخطئية وارتكابها وفق المنظور القبلانيّ هي من حقّ الإنسان.[1]

كما نرى فإنّ الأصول المحوريّة المتعلّقة بالأيديولوجية الليبرالية مستمدّة من التعاليم القبلانيّة، وبهذا تكون الليبرالية (على الصعيد النظري) مرهونة بالعقيدة القبلانيّة ومتمخّضة عنها.

حول الجانب الأيديولوجي

إنّ كلّاً من «الليبرالية الكلاسيكية» و«الديمقراطية الإشتراكية ذات التوجه الليبرالي» و«الليبرالية الجديدة» تمثّل ثلاثة أيديولوجيات مختلفة ومتفاوتة، وفي الوقت ذاته تنتمي كلّ منها لأسرة واحدة وتجتمع تحت مظلّة أيديولوجيّة واحدة يمكن أنْ نعبّر عنها بـ«اللبرلة الديمقراطية». إنّ اللبرلة الديمقراطية ليست أيديولوجية واضحة المعالم بقدر ما هي مظلّة أومنظومة من المفاهيم الأساسية للنظرية الليبرالية التي انصهرت في الخطاب الديمقراطي الفردانيّ

(98)

والإنسانوي. ولأنّ الليبراليات الثلاث آنفة الذكر تجتمع تحت هذه المظلّة الأُم فيمكن أنْ نعدّ كلّاً منها بمثابة أبنائها المتفاوتين، ولكن على الرغم من الاختلاف الموجود بين هذه الثلاث إلّا أنّ في كلّ منها مشتركات أساسيّة تجعلها قريبة من الأخرى تتمثل بـ: «الفردانيّة» و«الحريّة ـ بمفهومها الليبرالي» و«أصل المكليّة» (غير المحدد وغير المشروع وبمنظورٍ رأسمالي)، ومفهوم «حقوق الإنسان» و«النظام البرلماني» و«الفصل بين السلطات».

إنّ الفلسفة الإنسانوية ولّدت بعضاً من الأيديولوجيات، منها فكرة اللبرلة الديمقراطية التي أصبحت مظلة تجمع الليبرالية بأنماطها الثلاث، إذ مدّتها بالمفاهيم الأصليّة المشتركة برغم وجود بعض الاختلافات في بعض مفاهيمها الأخرى.

تتمثّل بعض هذه الفوارق في المجال الأخلاقي، إذ تؤمن الليبرالية الكلاسيكية ببعض الثوابت الأخلاقيّة، على عكس الليبرالية الجديدة التي تروّج للنسبيّة في الأخلاق. ومن جانب آخَر تؤمن الليبرالية الكلاسيكيّة بنوعٍ من الأحادية[1] الثقافية، في الوقت الذي تدعو الليبرالية الجديدة إلى التعددية[2] الثقافية. هذا وقد يتمثل الاختلاف الثالث بمفهوم العقل التجريبي الذي يُعَد الأساس الابستمولوجي وتارةً الأخلاقي في النظرية الليبرالية الكلاسيكية، في حين ليس للعقل التجريبي مثل هذه المكانة في الليبرالية الحديثة. وعلى صعيد متصل يتقلّص المفهوم الليبرالي لكلٍّ من الفردانيّة والحريّة

(99)

إلى حدّ ما في الديمقراطية الاشتراكية ذات التوجه الليبرالي، وهوأمرٌ مرفوض تماماً في الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الجديدة. وكذلك قد نرى تراجعاً ملحوظاً لسيطرة سوق العمل في الديمقراطية الاشتراكية ذات التوجه الليبرالي، وذلك بحسب بعض المقتضيات وفي بعض الأماكن فقط، في حين لا يوجد هذا التراجع في الليبرالية الكلاسيكية ولا في الليبرالية الجديدة. حتّى الآراء الماركسيّة قد تكون حاضرة في الديمقراطية الاشتراكية، ولكن يستحيل اعتمادها في الليبرالية الكلاسيكية والجديدة.

على الرغم من كلّ هذه الاختلافات فإنّ هذه الأيديولوجيات الثلاث تجتمع تحت مظلّة فكريّة واحدة تتمثل باللبرلة الديمقراطية، وإنّ هذا التقارب يكون أكثر وضوحاً في الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الجديدة.

ثمّة حقولٍ أيديولوجيّة أخرى تندرج تحت الفلسفة الإنسانويّة الحداثويّة، منها (الجماعيّة[1] العرقيّة ــ القوميّة اليمنيّة) التي أفرزت (الفاشيّة والاشتراكيّة القوميّة)، وكذلك النظريات المؤدلجة التي ولّدت (الماركسيّة بمختلف أنماطها، والجيفاريّة، والاشتراكيات الثوريّة المتطرفة غير الماركسية).

إنّ الليبرالية الكلاسيكية بصفتها الأيديولوجية الأولى والمهيمنة في العالم الحديث، تركت أثراً كبيراً في التاريخ الغربي الحديث، ولَمْ يكُن تأسيسها على يد فيلسوفٍ واحدٍ بعَينه، بل هي تيّار يشمل

(100)

مجموعة من الآراء والأفكار الفلسفيّة والاقتصاديّة التي ظهرت في القرن السادس عشر، من دون أنْ تتعمد في تحقيق غاية محددة. لقد قدّم «جون لوك» في القرن السابع عشر صورة منسجمة من المفاهيم التي أصبحت لاحقاً النواة الأساسيّة لنظريّة تدعوإلى الحريّة الفرديّة وعرفت بالليبرالية الكلاسيكيّة، ولكنّه من دون أنْ يهدف إلى تأسيس نظريّة معيّنة، إذ كان يسعى لتحقيق مجموعة من الغايات الاقتصاديّة والسياسيّة لطبقة اجتماعيّة معيّنة. لذلك يرى أغلب مؤرخي الأفكار أنّ «جون لوك» هورائد النظريّة الليبرالية، وهورأي صحيح.

لقد تطوّرت الليبرالية الكلاسيكية بعد لوك، وتناولها العديد من الفلاسفة والمفكّرين طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، وللوقوف على آراء أبرزهم نشير إلى آراء (لوك)، وثلاثة فلاسفة آخرين. ونؤكّد أنّ رعاية الايجاز منعنا من إيضاح آراء أقطاب الليبرالية الكلاسيكية من أمثال «آدم فرغوسن» و«ماندويل» و«بنيامن كونستان»[1] و«جيريمي بنثام» و«جون ستيوارت مل»[2]، وكذلك الفيلسوف المؤثّر الليبرالي الأهم «عاموئيل كانط»، وإنّ عدم تناول آراء سائر الفلاسفة لا يعني عدم اعتنائنا بدورهم في بلورة الليبرالية الكلاسيكية.

أ_ «جون لوك»، تطهيريٌّ ليبراليّ، ومالك عبيدٍ يدعو إلى حقوق الإنسان!

ولد «جون لوك» في (29/ آب/ 1632م) في منطقة قريبة من مدينة «بريستول» في بريطانيا. كان والده محامياً يساند البرلمان في أيّام

(101)

الحرب البريطانيّة الداخلية، وكان من أنصار التطهيريين المنضوين تحت راية «كرومويل» ضدّ الملك «تشارلز الأوّل». بانتصار جبهة البرلمان في الحرب الداخليّة نالت أسرة «لوك» مكانة اجتماعيّة مرموقة، وقد تمكّن «لوك» من الالتحاق بمدرسة «وستمنستر»[1] (التي كانت من أفضل المراكز التعليمية في بريطانيا وقتئذ، ولا يدخلها إلّا أبناء العوائل المتنفذة والثريّة)، وبعدها درس في كليّة «كريستشيرش» التابعة لجامعة آكسفورد.

شرع «لوك» في بادئ الأمر بتعلّم اللغات الأوروبية الكلاسيكية واللغة العربية، ولكنّه عند التاسعة والعشرين من عمره توجّه لتعلّم الطب. تعرّف في عام (1662) إلى «اللورد آشلي»[2] الذي كان دوق شافتسبري، وإنّ هذه العلاقة حسمت مستقبل لوك ومسيرته الفكريّة. كان «اللورد آشلي» من المنتمين للطبقة الرأسمالية الناشطة في المحافل شبه الماسونيّة التي كانت على صلةٍ بالمحافل الأوليغارشيّة اليهوديّة وتجمّعاتهم السريّة في آمستردام. كان هؤلاء يمثلّون التيّار الرأسمالي في الحركة التطهيريّة البريطانيّة، ويعملون على محاربة سلطة الستيوراتيين[3] ومناهضة دعوتهم للكاثوليكيّة.

كان «لوك» الطبيب الشخصي لـ «اللورد آشلي» ومستشاراً له، ومنظّراً للآراء الليبرالية المطروحة في المحافل شبه الماسونيّة،

(102)

وكذلك كان مفكّراً للتيار الرأسمالي في الحركة التطهيريّة ذات النزعة اليهوديّة في بريطانيا، وبقي ملازماً لـ «آشلي» حتّى وفاة الأخير في عام (1683م)[1].

يُعد «جون لوك» المنظّر الرئيس للـ «الليبرالية الكلاسيكية» الذي لم تقتصر جهوده في الجانب الفكريّ وحسب، بل عمل على دعم المصالح الرأسماليّة للحركة التطهيرية في بريطانيا ونشر الآراء الليبرالية.

كان «جون لوك» عضواً في نقابةٍ عُرِفَت بـ(الكليّة الخفيّة)[2] التي جمعت عدداً من المفكّرين والكتّاب والعلماء الطبيعيين الذين كانوا على علاقة وثيقة بالأوليغارشيّة اليهوديّة، وكانوا يؤمنون بتعاليمٍ تكتنفها الألغاز والرموز. لقد استطاعت هذه الكلّية أن تؤسس «الجمعيّة الملكيّة» في عام (1645م). وكانت هذه النقابة تعمل لتحقيق مصالح الطبقة الرأسمالية البريطانيّة، وقد حذت الجمعيّة الملكية البريطانيّة حذوها واستمرّت في دعم الرأسماليّة. إنّ كلّاً من «اسحاق نيوتن» و«روبرت بويل»[3] و«روبرت هوك»[4] الذين كانوا من أبرز العلماء الطبيعيين، ينتمون للكليّة الخفيّة، وإنّ

(103)

نيوتن الذي كان يهوديّاً هومن مروجي العلمانيّة الإنسانويّة ونظرية الربوبيّة[1] وغايات صهيونيّة أخرى. لقد انتمى «جون لوك» للجمعيّة الملكيّة في عام (1688م)، وكتب بعد انتمائه مقالاً عن التسامح[2]، دعا من خلالها إلى الليبرالية بإطارٍ ماسوني، ودافع عن فكرة (التسامح الديني) ومنح حقّ المواطنة لليهود.[3] اللافت للنظر هوأنّ «لوك» على الرغم من أنّه كان من دعاة التسامح الديني ومنح حقّ المواطنة لليهود، ولكنّه كان من أشدّ المعارضين لفكرة التسامح مع الكاثوليكيين الذين كانوا يمثلون في تلك الحقبة الجبهة المخالفة والمناوئة للمذهب السياسي الذي يؤمن به لوك والمحفل الرأسمالي الماسوني المنتمي إليه[4].

على الرغم من أنّ «لوك» كان من دعاة الليبرالية و«حقوق الإنسان»، (وهي فكرة مستمدّة من القراءة الإنسانويّة للذات البشريّة، والقراءة العلمانيّة الرأسماليّة للعلاقات الإنسانيّة المتعارضة مع الحقوق والواجبات الدينية والآراء الأخلاقيّة للكنيسة الكاثوليكيّة)

(104)

فإنّه كان يعمل في مجال تجارة العبيد، ومن المساندين لفكرة بسط الاستعمار البريطانيّ في القارّة الآسيويّة. يرى «موريس كرنستون»[1] في دراسته لآراء «لوك» بأنّ هذا الفيلسوف هو«رائد الإمبرياليّة البريطانيّة». فهوفي النصف الثاني من القرن السابع عشر يُعَد منظّر الليبرالية الكلاسيكية وزعيمها الأوّل، المساند للرأسماليّة الإستعماريّة المتآلفة مع الأوليغارشيّة اليهوديّة في بريطانيا.

يمكن إيجاز آراء لوك التي كوّنت الليبرالية الكلاسيكية في المحاور الآتية:

1_ دعا لوك إلى نوع من العقلانيّة التجريبيّة، (وهي خليط من العقل الإنسانويّ المبني على الابستمولوجيا التجريبيّة والحسّية). لقد أصبح هذا النوع من العقلانيّة من دعائم العلوم الحديثة، وكذلك من الأساسيات المعرفيّة للنظرية الليبرالية، أوعلى أقلّ تقدير من أسس الليبرالية الكلاسيكية طوال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر.

2_ إنّ التفسير التجريبي _الحسّي المستمد من تلقّي الإنسان هوبمثابة (الصفحة البيضاء) التي تأتي مع ولادة الفرد، وقد أصبحت محطّ اهتمام النزعة الفرديّة المهيمنة في العلم الحديث، ولاقت ترحيباً لدى بعض الليبراليين الكلاسيكيين (الذين كانوا متناغمين مع الفلسفة التجريبية الحسيّة والتحليليّة في بريطانيا)، وقد أصبحت فيما بعد أساساً لدراسة الإنسان لدى أحدَ تيارات الليبرالية الكلاسيكية.

(105)

3_ إنّ «جون لوك» هوأحد المفكّرين البارزين الذين بلوروا مفهوماً سياسيّاً وقانونيّاً استُعرض تحت عنوان «الوضع الطبيعي»، وعُرف بـ«نظريّة العقد الاجتماعي» التي لاقت رواجاً واسعاً لدى أحد  التيارات الليبرالية المتنفذة، وعُدَّت من الفرضيات الأساسيّة في حقول العلوم السياسيّة والقانونيّة والاجتماعيّة. على الرغم من أنّ «لوك» لم يكن المنظّر الأوّل لنظرية العقد الاجتماعي، ولكنّه لعب دوراً أساسيّاً في ترويج هذه النظريّة ترويجاً للنظرية الليبرالية الكلاسيكية.

4_ يرى «لوك» أنّ رضا النّاس هومصدر الشرعيّة السياسيّة، وقد أصبح ذلك من أسس الليبرالية الكلاسيكية، الإطار العام للديمقراطية الليبرالية. ولكنّ الملحَظ الأهم هو أنّ مقصود لوك من «النّاس» (مثل كانط وأغلب الليبراليين في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر) يقتصر على أصحاب رؤوس الأموال، وإنّ العمّال والفقراء والطبقات المعدمِة والذين لا يملكون أرضاً لا يُعَدّون ضمن «الناس» من وجهة نظر لوك.[1] إذن فإن جوهر ما يدّعيه لوك هوأنّ رضا أصحاب رؤوس الأموال هومصدر الشرعية السياسية، وإنّ من لا يملك رأس المال، على الرغم من أنّه تابع للمجتمع المدني، ولكنّه (حسب رأي لوك) لا يُعَدّ عضواً فيه، ولا تحقّ له المشاركة السياسية. يتحدّث لوك عن الطبقات الفقيرة والعمّال بلغةٍ غير لائقة وباستخفاف ويعبّر عنهم بـ(من يعيشون على قوت يومهم)، ويقصيهم ويحرمهم في نظريته من الانتماء للمجتمع المدني. كتب

(106)

لوك عن الطبقة الفقيرة والمستضعفة (الذين كانوا يمثلّون الغالبية العظمى من أفراد المجتمع البريطاني في أيّام لوك، ويمثلّون اليوم الغالبية العظمى في المجتمعات الرأسماليّة):

(إنّ العمّال الأجراء هم جزء من المجتمع. ولكن بما أنّهم لا يتمتعون بالملكيّة الخاصة فإنّهم مرهونون بأجرِهم اليومي. إذن فإنّ مقدار أجرهم يحقق أدنى متطلبات العيش اليومي. إنّ مثل هؤلاء يعيشون على قوت يومهم، ويجب أنْ يكونوا كذلك)[1].

ما يتّضح من آراء لوك هوأن المجتمع المدني الذي يتحدّث عنه ويدعوإلى مشاركته ورضاه من أجل تأسيس حكومة شرعيّة (على حدّ تعبيره) هوفي الحقيقة مجتمع الرأسماليين وطبقة الملّاك والاقتصاديين.

5_ يطرح «لوك» نظريّة «التسامح الديني» في إطاره الماسونيّ، ويقدّمه ركناً من أركان الديمقراطية الليبرالية. كما سبقت الإشارة فإنّ مفهوم التسامح هذا، على خلاف ظاهره لا يشمل أتباع كلّ الديانات، ويستبطن اشارات صريحة للدعوة إلى العُنف وعدم التسامح مع أنصار البابويّة وأعداء الرأسماليّة الليبرالية التطهيريّة ذات النزعة اليهودية في بريطانيا. يأتي هذا المفهوم تلبية لحاجة الرأسمالية البريطانية التي تزعّمها التطهيريون، إذ أرادوا الائتلاف مع الأوليغارشيّة اليهوديّة المستقرّة في آمستردام وقتئذ، وذلك من أجل فسح المجال أمامهم لينشطوا في المجال السياسي والاجتماعي في بريطانيا. فضلاً عن ذلك فإنّ الأيديولوجيات الليبرالية والديمقراطية المختلفة بسبب

(107)

جذورها الماسونيّة، وكذلك بسبب صبغتها العلمانيّة والمناوئة للدين، واستبطانها النزعة الماديّة، فقد اعتمدت هذا الشعار أينما اقتضت الحاجة إليها. والعكس أيضاً! أي أينما اقتضت الحاجة تراجعت عن هذا المفهوم ومارست شتّى أساليب القمع والتنكيل ضدّ التيارات والحركات المطالبة بالعدالة، وكذلك الثورات الدينية.

6_ يمثّل مفهوم «الفصل بين السلطات» إحدى الفرضيات الأساسيّة التي كان لوك من روّادها، وقد اتفق معه مونتيسكيولاحقاً ليصبح هذا المفهوم أحد الأسس الرئيسة في الأيديولوجية الليبرالية والديمقراطية، ولتكون من أشهر الآراء السياسيّة في عصر الحداثة. عرض «لوك» فكرة الفصل بين السلطات في ظروفٍ سياسيّة خاصة في المجتمع السياسي البريطاني، وتحديداً بعد فترة «كرومويل»، وكانت غايته من هذه النظريّة هي ايجاد تغيير في التشكيلة السياسية البريطانية وقتئذ، إذ كان الصراع محتدماً مع الإقطاعيين والأرستقراطيين من أتباع الكنيسة الكاثوليكية.

إنّ توازن القوى الذي سعت لتحقيقه السياسة البريطانية وقتئذ ولّد ظرفاً لا يسمح للرأسماليّة التطهيريّة أنْ تهيمن على كلّ جوانب السلطة. لذلك طرح لوك نظرية الفصل بين السلطات (تجزئة السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية) وأولى اهتمامه بالبرلمان (بصفته ممثلاً للسلطة التشريعية) ورسم نظاماً نيابيّاً ليحوز الجناح الرأسمالي الليبرالي التطهيري (الذي كان منظّراً له) على النسبة الأعلى من السلطة. لقد كانت السلطة القضائيّة في ذلك الحين بيد

(108)

الإقطاعيين، والبرلمان والسلطة التشريعية بيد الرأسماليين الليبراليين متمثلين بمجموعة من القوى السياسية والاجتماعية التي عرفت بـ«الطبقة الثالثة». (لقد عبّر الخطاب السياسي عن هؤلاء خلال القرنَين السابع عشر والثامن عشر بـ«الطبقة الثالثة»، على الرغم من عدم صحّة إطلاق هذا المفهوم عليهم، لأنّهم مجموعة من الفئات الاجتماعيّة). إن النموذج الذي أطلقه لوك مبنيٌّ على الفصل بين السلطات واعتماد النظام البرلماني، وهذا النموذج يهدف إلى توسيع رقعة السلطة السياسية للرأسمالية الليبرالية.

لقد عمل أقطاب الليبرالية الكلاسيكية لاحقاً على نشر النظام البرلماني ودعمه ليتصدوا لمنافسيهم السياسيين، وليصبح النظام البرلماني بشكلٍ متدرّجٍ من الأسس الأيديولوجية الأساسية للديمقراطية الليبرالية.

7_ يُعرَف «لوك» بصفته واضعاً لنظريّة «حقوق الإنسان». إنّ هذه النظريّة تعتمد تعريفاً إنسانويّاً فردانيّاً للكائن البشري، وهوتعريف يعدّ حقيقة الإنسان ذاتاً أونواة نفعيّة قائمة بذاتها، وتروم تحقيق الملذّات، وإنّ ما يحفّز ويحرّك هذه الذات هي الأهداف النفعيّة والملذات الماديّة والدنيويّة، وتتنافس وتتنازع في هذه الحياة مع سائر الذوات التي تشترك معها في هذه الصفات؛ وإنّ علاقاته وتعاملاته مع الآخرين، وكذلك فإنّ صداقاته وعداءه وشراكاته كلّها مستمدّة من هذا المنطق النفعي والعلاقة المبنية على أنماط السوق الرأسماليّة. بناءً على هذا تحاول نظرية حقوق الإنسان التي تعدّ

(109)

الفرد كائناً نفسانيّاً قائماً بذاته، أنْ تحافظ على حقوق الناس الفرديّة بصفتهم ذرّات نفسانيّة، وأنْ تنظّم علاقاتهم في إطارٍ نفعيٍّ ممتزج بشراهةٍ مقيتة، ولتُصان كلّ ذرّة نفسانيّة (أي الفرد) من تجاوز سائر الأفراد ومن سطوة الدولة الحديثة ذات الماهيّة المطلقة.

إنّ نظرية حقوق الإنسان مبنيّةٌ على قراءة ذريّة للإنسان، وتعتمد منطقاً علمانيّاً نفعيّاً، ولها صبغة وماهيّة إنسانويّة، إذ عُرِضَت في مصافّ «نظام التكاليف الدينية» من أجل تنظيم واقع الانسان الحداثوي على الصعيدَين الاجتماعي والحقوقي، ولاسيما في المجتمعات الليبرالية والرأسمالية. إنّ نظرية حقوق الإنسان هي جزء لا يتجزّأ من البُنية الاجتماعية في الأنظمة السياسية الليبرالية والرأسمالية وتُعَد ركناً أساسيّاً في المدرسة الليبرالية والديمقراطية ذات الماهيّة النفسانيّة والعلمانيّة غير الدينية، وتُعتمد ذراعاً مقوّمة لدى السلطات الرأسماليّة الليبرالية والليبرالية الحديثة.

8_ يدعو«لوك» في آرائه وكتاباته إلى جمع رأس المال، ولا يضع حدّاً لذلك، فهوالمناصر والمدافع عن المصالح الرأسمالية والإستعمار والاستثمار. يرى أغلب مؤرخي تاريخ الأفكار أنّ آراء «لوك» هي سعيٌ علميٌ جاد لتلبية المطالب الرأسمالية الليبرالية المتنامية في بريطانيا خلال القرن السابع عشر،[1] ولاسيما أنّه المنظّر الرئيس لليبرالية الكلاسيكية.

(110)

ب_ شارل مونتيسكيووطرح جديد لليبراليةٍ دستوريةٍ[1] معتدلة (1689_1755)

ولد شارل لوي دي سيكوندا بارون (دولابرد) المعروف باسم مونتيسكيوفي 18 يناير من سنة (1689م) في «قصر لابرد»[2] على مقربة من مدينة «بوردو«[3] الفرنسيّة. كان والده قاضياً ثريّاً من الطبقة الأرستقراطية. ورث شارل لويي عن عمّه (رئاسة الديوان العالي للتمييز في البرلمان) في بوردوالتي كانت مؤسسة قضائية محليّة قبل الثورة الفرنسيّة.[4] إن الانتماء لعائلة أرستقرطية جعلت من مونتيسكيوالذي أصبح من المنظرّين الكبار لليبرالية الكلاسيكية أنْ يراعي مصالح الطبقة الأرستقراطيّة والإقطاعيين في تنظيراته السياسية، إذ حاول أنْ يطرح نظاماً ليبرالياً لا يقمع أولا يقصي الإقطاعيين الأرستقراطيين، بل يجري وئاماً ومصالحة تاريخية بين النخبة البرجوازية والنخبة الإقطاعية، مع إعطاء الأولوية للبرجوازيين.

سافر مونتيسكيوكثيراً في أيّام شبابه، وتأثّر في بريطانيا بالحكومة

(111)

الليبرالية المنبثقة عمّا سمّيَتْ بـ«الثورة المجيدة»[1] التي تُعَد من نتاجات أفكار «جون لوك». وقد كوّن هناك صداقات مع أشخاص ينتمون لمحافل ماسونيّة.

بقي مونتيسكيوحتّى آخر أيّام حياته من أبرز الداعين إلى نظامٍ (ليبرالي ــ ماسوني) مبنيّ على مبدأ الفصل بين السلطات والعلمانيّة. وقد نشر أفكاره في أشهر مؤلّفاته كـ «الرسائل الفارسيّة»[2] و«نظرات في أسباب عظمة الرومان وسقوطهم» و«روح القوانين»[3] ليكون أحد أبرز فلاسفة الليبرالية.

قد يكون مونيسكيوأقل تأثيراً من «لوك» في نشر أسس الليبرالية الكلاسيكية، ولكن بنظرة واقعيّة يمكن أنْ نعدّه صاحب الدور الأبرز في بلورة الجوانب القانونيّة والسياسية لنظرية الليبرالية الكلاسيكية، ورائداً لنظرية الفصل بين السلطات، ومن الفلاسفة المؤمنين بالنزعة العلمانيّة ــ الإنسانويّة في تاريخ البشر، ومن مروجي الماسونيّة ومفرداتها كـ»التسامح الديني» و«الربوبيّة ـ Deism».

أثّرت أفكار مونتيسكيوفي نشوء الليبرالية الجديدة خلال القرن العشرين، وأولاها  الليبراليون الجدد اهتماماً خاصّاً من أمثال «أشعيا برلين».

(112)

يمكن تلخيص المحاور الأساسيّة لآراء مونتيسكيوفي النقاط الآتية:

1_ ينتمي مونتيسكيومن الناحية الابستمولوجيّة لأتباع «الفلسفة التجريبيّة الحديثة»، وإنّ أفكاره تصنَّف ضمن العقل التجريبي.

2_ لقد وسّع مونتيسكيووشرح نظرية (الفصل بين السلطات) _التي بلورها «لوك» قبله_ وعدّها ركناً أساسيّاً في الفكر السياسي والقانوني للنظرية الليبرالية الكلاسيكية. وقد أدّى دوراً كبيراً في إرساء القواعد القانونيّة والسياسية للنظام السياسي الليبرالي الذي دعا إليه.

3_ أثّرت بعض آراء مونتيسكيوفي البنية التاريخية للفلسفة الإنسانويّة التمحورة حول «نظرية التقدّم». غير أنّ النزعة الليبرالية في آرائه، ولاسيما تقديمه تفسيراً ليبرالياً لفلسفة التاريخ كان لها الدور الأكبر في ذلك.

4_ يؤكّد مونتيسكيو(كسائر فلاسفة الليبرالية) شعار (الحريّة الليبرالية)، ويعدّ الحريّة بنسختها الليبراليّة النواة الأولى والبُنية الأساسيّة لأفكاره السياسية والقانونيّة وآرائه التاريخية. ولكنّه عندما يتحدّث عن الحريّة الليبرالية ويوضّح تعارضها مع مفهوم الاستبداد لا يلتفت إلى أنّ الليبرالية نفسها تستبطن ماهيّة استبداديّة. يرى مونتيسكيو أنّ النظام السياسي عندما يستند للقوانين في الحكم سيُزال عنه الطابع الاستبدادي، غافلاً عن حقيقة واضحة للعيان تفيد بأنّ القانون نفسه قد يستبطن طابعاً استبداديّاً، وإنّ ما يفصل الاستبداد عن غيره لا يتمثّل بالاستناد إلى سلطة القانون الليبرالي. إنّ مونتيسكيوباعتماده القراءة الليبرالية لمفهوم الاستبداد يقدّم

(113)

حلوله في إطار سلطة القانون ليُعلن أنّ الأنظمة الرأسماليّة الأوروبيّة (الاستبداديّة) بمجرد اتباعها القانون الليبرالي فهي «حرّة»، كما يطبّق المبدأ الليبرالي الخاطئ نفسه على الشرق بنظرة دونيّة ويُدينه ويعتقد بأنّ الحياة الانسانيّة الشرقيّة لافتقادها المفهوم النفسانيّ _الذريّ والفرادنيّ والقانون الليبرالي هي حياة استبداديّة.

إنّ نظرة مونتيسكيولمفهوم الاستبداد لاقت رواجاً واسعاً في الفكر الغربي واعتمدها كُتّاب ومفكّرون ومبشّرون ليبراليون ونيولبراليون آخرون، وتعدّى هذا الانتشار ليشمل مفكّرين ليبراليين في داخل إيران أيضاً، فغالباً ما يعتمدون نظرة مونتيسكيوالليبرالية عند تناولهم مفاهيم من قبيل (الحريّة) و(الاستبداد) في دراسة التاريخ الإيراني. يمكن قراءة مثل هذه التحليلات والآراء في نصوص «محمّد علي (همايون) كاتوزيان»[1] الكاتب الإيراني الليبرالي المعاصر المقيم في بريطانيا، إذ تُنشَر كتبه على مستوى واسع في داخل إيران، وللأسف يعتمده كثيرٌ من الأساتذة والمتصدين لوضع المناهج الدراسيّة في التخصصات الآكاديمية المَعنيّة كالعلوم السياسية والاقتصاد، واختيرت بعض كتبه كمصدرٍ أساسي في أقسام التاريخ في الكليّات الانسانيّة في الدراسات العليا. إنّ جوهر آراء كاتوزيان فيما يتعلّق بما يسمّيه بـ«الاستبداد الإيراني» بمثابة قراءة تاريخية لآراء مونتيسكيوفي ما يخصّ الاستبداد والقانون والحريّة وعلاقة كلّ ذلك بالحضارات الشرقيّة، وإنّ النواة الأساسيّة لآرائه مقتبسة

(114)

من نظرية مونتيسكيوالليبرالية حول الحريّة.

5_ لعب مونتيسكيودوراً بارزاً في تدوين النظام القانوني والحقوقي العلماني ـ الليبرالي الفردانيّ، إذ أثرى بآرائه المحور القانوني والحقوقي والسياسي في نظرية الليبرالية الكلاسيكية.

6_ إنّ مونتيسكيوكغيره من الليبراليين الكلاسيكيين ساهم في الترويج لقضية تهميش اليهود وظلامتهم في إطار (الدفاع عن اليهود وحقوقهم)، وذلك من أجل فسح المجال لنشاط الأقليّة اليهودية وهيمنتهم على مقدّرات الدول الغربية، (الأمر الذي تحقق بالثورة الفرنسيّة وغيرها من التحولات والأحداث السياسية والتاريخية).

7_ ينتمي مونتيسكيولذلك الجناح الفكري من الليبراليين الذين لم يؤمنوا بنظرية «العقد الاجتماعي». إن الليبراليين الجُدد (نيوليبراليين) في القرن العشرين الذين رفضوا فكرة (العقد الاجتماعي) من أمثال «هايك» و«برلين» استندوا إلى آراء مونتيسكيوواعتمدوها كثيراً.

لا شكّ في أن مونتيسكيوهوأحد المنظرين الأساسيين في المدرسة الليبرالية الكلاسيكية، إذ أثّرت آراؤه في تكوين البُنية الثقافية والفكرية التي يعتمدها الغرب الحداثوي في تعامله مع الشرق، وكذلك في ترسيخ الأسس الفكرية المعتمدة في تدوين فلسفة التاريخ الإنسانوي، والعلوم الإنسانيّة العلمانيّة الحديثة والنظام الحقوقي الإنسانوي وغيرها من الحقول المعرفيّة الغربيّة.

(115)

ج_ فولتير والتسامح الماسوني الليبرالي بنزعةٍ رأسمالية (1694_1778م)

ولد «فرانسوا ماري آروويه» المعروف بـ «فولتير» في فرنسا عام (1694). وكان الابن الخامس لـ «فرانسوا أرويه» و«ماري مارجريت دومارت»، وينتمي لأسرة أرستقراطية. يُعَد فولتير تجسيداً للرؤى والآراء السائدة في عصر التنوير بفرنسا، فهورائد النزعة الماسونية ومن أبرز الدعاة إلى التسامح في المدرسة الليبرالية الكلاسيكية.

لم يكن فولتير مفكّراً عميقاً قطّ، ولكنْ بصفته مفكّراً مستنيراً ليبرالياً منتمياً للماسونيّة، وباعتباره كاتباً هزليّاً متهتّكاً وبارعاً، لعب دوراً كبيراً في ترويج النزعة التنويرية والليبرالية ذات الميول الأرستقراطية.

نشر فولتير كتاب (الرسائل الفلسفيّة) في عام (1734)، مروجاً فيها أفكاراً تنويرية. وقد أمضى ثلاث سنوات من حياته في بريطانيا وتأثّر إلى حدٍّ بعيد بآراء «جون لوك».

يُعَد فولتير كاتباً ماسونيّاً ليبرالياً اعتمد في آرائه وأفكاره الفلسفية العقلَ التجريبي، والمنهجية المتبلورة على يد «فرانسيس بيكون» و«جون لوك» و«اسحاق نيوتن»، وبعد عودته إلى فرنسا أصبح المنظّر والشارح الأوّل للرأسمالية ذات النزعة التجريبية التي تلقّاها في الجمعية الملكيّة. لقد أخذ فولتر مفهوم التسامح الديني من المحافل الماسونية، وأخذ على عاتقه ترويج هذا المفهوم بصفته أحد المنتمين لهذه المحافل.

(116)

يمكن تلخيص المحاور الرئيسة في آراء فولتير في النقاط الآتية:

1_ كان فولتير من المؤمنين بالعقل التجريبي والابستمولوجيا التجريبية لدى «بيكون» و«لوك».

2_ كان فولتير ربوبيّاً (Deism) ومن المؤمنين بالنظرية اليهوديّة الماسونيّة التي روجها «نيوتن» والتي تقول: إنّ الإله كصانع الساعة الذي يصنع الساعة ويتركها تعمل وحدها.

3_ كان فولتير مولعاً بالرأسمالية الليبرالية في بريطانيا، وهوعضونشط في المحافل الماسونية، وكان يرى في الائتلاف الحاصل بين الرأسمالية الليبرالية العلمانيّة والطبقة الأرستقراطية في بريطانيا أنموذجاً مثالياً تمنّى تطبيقه في فرنسا.

4_ كان فولتير ليبرالياً يدعو للاصلاحات التدريجية، ويعارض أي نوعٍ من الحركات الثوريّة وأيَّ حضورٍ لأيّ طبقة اجتماعيّة مُعدَمة في مجال المشاركة السياسية. إنّه كان يدعولنوعٍ من الأنظمة الليبرالية الأرستقراطية التي يتزعّمها مستبدٌّ مستنيرٌ مؤمنٌ بعقائد تنويريّة.

5_ يؤمن فولتير بالحريّة الفرديّة وهي من أسس الليبرالية.

6_ كان فولتير من أشدّ المعارضين للكنيسة ورجال الدين، وكان متهتّكاً وماجناً في نصوصه، لاسيما في كتاباته التي تناولت الأنبياء ورجال الدين، فهومن أبرز الداعين إلى حكومة علمانيّة تفصل السلطة عن أيّ هويّةٍ أومعتقد ديني.

(117)

7_ إن النواة الأولى في فكر فولتير هي القراءة الليبرالية الماسونيّة لمفهوم «التسامح والتساهل»، التي تُعد الأساس النظري الأهم في الليبرالية الكلاسيكية. إن جوهر مفهوم «التسامح والتساهل» وفق الرؤية الماسونيّة والليبرالية هي إقصاء (الاختلاف) والالتزام بالأطُر الدينية والمعايير الأخلاقية من أجل ردم الحدود الفاصلة بين الحق والباطل، والدين والكُفر، وإنّ الغاية من وراء ذلك هي ادخال المعتقدات والقيَم الشركيّة، والقضاء على الخلوص وثبات الإيمان في الأفراد والأمَم والمجتمعات.

عندما تُهيمن النزعة الفكريّة المستلهمة من مفهوم التسامح والتساهل (وفق الرؤية الماسونيّة) ستفقد مفاهيم أخرى معانيها الحقيقيّة من قبيل: الحق والباطل، والدين والكُفر، ومحاربة الشيطان، وتجنّب المحرّمات، ورعاية الحدود والقيود الدينية والأخلاقية وإجراء الأحكام الإلهيّة. وبهذا سيكون الظرف مواتياً لهيمنة الاستكبار الإنسانويّ الحداثوي الفردانيّ (أوالديمقراطية الليبرالية التي خرجت من رحم الماسونيّة)؛ وإنّ فولتير وغيره من الليبراليين الماسونيين كانوا يدعون للتسامح والتساهل من أجل تحقق هذا الهدف.

د_ آدام سميث[1]، رائد النظرية الاقتصادية الليبرالية الرأسماليّة (1723_1790)

يُعَد «آدام سميث» مؤسس الاقتصاد الليبرالية الرأسمالية ورائده،

(118)

وإنّ النظريّة الاقتصاديّة في المدرسة الليبرالية الكلاسيكية قد تبلورت على يده.

على الرغم من أنّ سميث عمل في مجالات فلسفيّة أخرى غير الاقتصاد، إذ كان مهتماً بفلسفة الأخلاق، وكتب رسالة عن ذلك وتصدّى لتدريس هذا الحقل، على الرغم من ذلك فإنّ المحور الأهم من تخصصه يتعلّق بـالجانب الاقتصادي في «الليبرالية الكلاسيكية» ليكون رائد النظرية الاقتصادية في الليبرالية الكلاسيكية حتّى في الليبرالية الجديدة.

ولد «آدام سميث» في «كير كالدي»[1] في ولاية «فايف»[2] الاسكتلندية»، ويبدوأنّه قد جرى تعميده[3] في الخامس من حزيران سنة (1723م). عندما ولد «آدام» لم يكن والده على قيد الحياة، وقد نشأ في عائلة متوسطة، وأمضى كلّ مراحل حياته وهوعلى علاقة طيّبة جدّاً مع والدته، ولم يتزوج «سميث» طوال حياته قطّ.

دَرَسَ سميث في جامعة آكسفورد، وكان يشكودوماً من ضحالة تعليم أساتذة تلك الجامعة. عمل لفترةً من الزمن بصفته محاضراً محترفاً في جامعة ادنبرة[4]، ودَرَّسَ المنطق بعدها في «جامعة كلاسكو«[5]، وأصبح فيما بعد أستاذاً لفلسفة الأخلاق في الجامعة ذاتها.

(119)

سافر سميث إلى جينيف وباريس والتقى بفولتير وأصبح مولعاً بهذا الكاتب الفرنسي الليبرالي الماسوني. يستمدّ سميث أصول آرائه الفلسفية إلى حدٍّ بعيد من آراء صديقه المقرَّب له «ديفيد هيوم» (الفيلسوف التجريبي الشكّاك الانجليزي ذوالميول الوضعيّة ـ Positivism)، ولاسيما وأنّه كان يعدّ هيوم أكبر فيلسوف في عصره.

إنّ السبب الرئيس لشهرة «آدام سميث» يأتي من آرائه الاقتصادية التي تُعد الأساس النظري والفلسفي للرأسمالية، وكذلك من كتابه «ثروة الأمم»[1] الذي نشره عام (1776م). إنّ كتاب (ثروة الأمم) هورسالة مفصّلة في توضيح كيفية نشوء النظام الرأسمالي العلماني الإنسانوي، وللدفاع عن أحقيته. يعبّر سميث عن النظام الرأسمالي بنظام «الحرية الكاملة»، ويستند لفرضيةٍ تحت عنوان (اليد الخفيّة)[2] ليبيّن ويروّج ويدافع عن هذا النظام. بغضّ البصر عن نوايا آدام سميث وحافزه، فإنّه في كتاب (ثروة الأمم) يروّج لنموذج من الحياة المبنية على النفعية غير المشروعة وتجميع رأس المال. لقد طرح سميث ادعاءً خاطئاً قال من خلاله: إن الفرد في المجتمع الحداثوي [انتبهوا «للفرد» بمفهومه الليبرالي] عندما يتصرّف بمقتضى غاياته النفعيّة والشخصيّة، وعندما يستند إلى نوعٍ من النفعيّة والأنانيّة، عندها تأتي خفيّة وتنشط في هذه الدائرة الرأسماليّة وتحقق توازناً وتناسقاً بين الأفراد النفعيين، وإنّ هذا

(120)

التنسيق (الذي شبهه سميث بيدٍ خفيّة) يؤدّي إلى تحقيق المصالح والغايات الماديّة لدى كلّ الأفراد.

يمكن القول إنّ مفهوم (اليد الخفيّة) هي من الركائز الأساسية الداعمة للنزعة الفردانيّة النفعية الرامية لتحقيق المصالح الرأسماليّة الإنسانويّة. إنّ آراء سميث أصبحت من ضمن الأسس الاقتصاديّة الهامّة في المدرسة الليبرالية ليكون المنظّر الاقتصادي الأبرز الذي لعب دوراً كبيراً في بلورة الليبرالية الكلاسيكية.

بعد نشوء الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية) في القرن العشرين عادت نظرية اليد الخفيّة لميدان البحث والتنظير، إذ تناولها الاقتصاديون الداعمون للأنظمة الرأسماليّة، وأعيدت بنيتها على يد «فردريش فون هايك» في إطار ما سمّاه بـ«النظام التلقائي»[1].

خصائص الليبرالية الكلاسيكية

«الليبرالية الكلاسيكية» هي الأيديولوجيا الأولى في الغرب الحداثوي، والحلقة الأولى من السلسلة الفكريّة المتمثلة بالديمقراطية الليبرالية. يمكن تبيين خصائص الليبرالية الكلاسيكية وفق النقاط الآتية:

1_ إنّ النواة الأساسيّة لليبرالية الكلاسيكية هي «الحريّة الفرديّة» (المفهوم الليبرالي للحريّة). إنّ الحريّة الليبرالية هي حريّة نفسانيّة، وجوهرها مستمّد من (المنفعة، والملذّة المُعَلمَنة الإنسانويّة)، وهي

(121)

لا محدودة وغير مشروعة وغير مقيّدة بشروط ومتنامية ومخرّبة (مخرّبة للطبيعة والبيئة، ومقوّضة للنفس والروح البشريّة). إنّ ماهيّة الحرية الليبرالية غير سليمة وهي ضد تنمية الإنسان وكماله، وتودي به إلى الأسر والفساد.

تتمحور الليبرالية الكلاسيكية حول الحريّة الليبرالية، وإنّ غاية الحرية في إطارها الليبرالي هي تحقيق المصالح والمطامع غير المقيّدة وغير المشروعة، وفي مرحلة ثانية تهدف إلى تحقيق ملذّات شهوانيّة واباحيّة.

لطالما كانت «الحريّة» الليبرالية تدعوإلى الاستثمار وتحقيق المنافع الفرديّة، وقد كان ذلك منذ نشوء الرأسمالية الإنسانويّة وتطورها من القرن الرابع عشر حتّى القرن الثامن عشر، وكذلك عند هيمنتها بصفتها القوّة الاستكبارية والاستعماريّة القاهرة، حتّى بعد تعرّضها لمختلف الأزمات ووصول الغرب الحداثوي إلى حافّة الهاوية.

استمراراً لهذا الحضور راحت الحريّة الليبرالية تروّج علناً للاباحية وللتحرر من كلّ القيود الأخلاقيّة، إذ كان ذلك في بدايات القرن العشرين، وفي بدايات الستينيات في الولايات المتحدة، حيث حدث ما يسمّى بـ«الثورة الجنسية»[1] وانتشرت نزعة إباحيّة وجنسيّة غير مسبوقة تشجع على حريّة العلاقات الجنسية وتعرّي النساء ليصبح الفرد الحداثوي بعد ذلك أسيراً في هذه النزعة الجنسانيّة،

(122)

وليتبلور الوجه الآخر لمفهوم الحريّة الليبرالية.

إنّ الحريّة الليبرالية على خلاف ما يقول دعاتُها لا تتوخّى سوى النفعيّة المعلمنة والإنسانويّة، وإنّ غالب ما يقولونه عن حريّة التعبير وحريّة الصحافة ليس سوى ظواهر وقشور لإخفاء تلك الرذائل الأخلاقيّة والنفعيّة المقيتة التي تدعوإليها هذه الحريّة.

2_ النفسانيّة ذات النزعة الذريّة (Atomism)، التي تتبلور في إطار الفردانيّة (Individualism)، أوما يُعَبَّر عنه بأصالة الفرد. إنّ الليبرالية الكلاسيكية تعتمد الفردانيّة (أصالة النفس الأمّارة الفرديّة)، وإنّ الإنسان وفق هذه النظريّة يُعَرَّف بأنّه ذرّة نفسانيّة قائمة بذاتها. بعبارة أخرى فإنّ الإنسان في الليبرالية الكلاسيكية هوتجسيد للنفس الأمّارة الفرديّة، وإنّ يُعَبَّر عنه بـ(الجمع) في الأيديولوجيات الشمولية (Collective) الغربية كـ(الاشتراكية القوميّة، أوالاشتراكيات المتطرفة) ليس إلّا جمعاً للأنفس الأمّارة. مع ذلك لا تعترف الليبرالية الكلاسيكية بهذه الرؤية وتؤكّد الأصالة الفرديّة للنفس الأمّارة، وتناهض أيَّ نوعٍ من الجمعيّة أوالشموليّة.

إنّ غالب الآراء والفرضيات التي يطرحها الليبراليون في إطار (الحقوق والحريّات الفرديّة)، و(حقوق الإنسان) مبنيّة على قراءة فردانيّة وعلى تأصيل النفس الأمّارة. ومن هنا تكون الليبرالية الكلاسيكية في سجال دائم مع الأيديولوجيات الشموليّة الجمعيّة.

3_ إنّ الليبرالية الكلاسيكية تتبنّى نظرية «الحقوق الطبيعية» ونظرية «العقد الاجتماعي»، فهاتان النظريتان من الأسس الأيديولوجية في

(123)

المدرسة الليبرالية. على الرغم من ذلك هنالك بعض الليبراليين يقدّمون قراءة متفاوتة لنظرية الحقوق الطبيعية، أويرفضون نظرية العقد الاجتماعي.

لقد تبلورت نظرية الحقوق الطبيعية على يد «جون لوك» وبعض منظّري الليبرالية الكلاسيكية في سياق سجالهم الفكري مع الاقطاعيّة والكنيسة الكاثوليكية. يُعَد «جون لوك» المنظّر الأوّل والأهم لنظرية «الحق الطبيعي» التي بلورها لغايات ليبرالية. إنّ الإنسان ـ وفق نظرية الحقوق الطبيعية_ يملك مجموعة من الحقوق منذ ولادته، وإنّ الليبرالية الكلاسيكية بتبنّيها هذا الرأي (الذي لا تقدّم له أيّ دليل وشاهد واستدلال) تدّعي أنّ نظام حقوق الإنسان هونظام ذاتي وطبيعي. إنّ خلاصة ما تدعيه هذه النظريّة هي إن للإنسان حقوقاً منذ لحظة ولادته، وهويبحث عن منافعه وملذّاته العلمانيّة الإنسانويّة، وكلّ ذلك هوأمر طبيعي. إنّ نظرية الحقوق الطبيعية المستمدّة من قراءة ليبرالية للكائن البشري خاضت سجالاً ثقافيّاً مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية وسلطة الإقطاعيّة، فهي تدافع عن المصالح الرأسماليّة وتهدف إلى شرعنة النزعة النفعيّة الإنسانويّة للطبقة الرأسماليّة.

إذن فإنّ «نظرية الحقوق الطبيعية» كانت وسيلة عقليّة اعتمدها الليبراليون الأوائل لمقارعة القمع السياسي الذي مارسته الاقطاعيّة... إنّ مثل هذه القراءة تفصح عن عقيدة تفيد بأنّ الليبرالية الكلاسيكية كان مبنيّة على شكلٍ من أشكال البرجوازيّة أوالفردانيّة، متوخيّةً تحقيق الأهداف الشخصيّة، ولاسيما كنز الأموال [رأس

(124)

المال] حتّى إن كان ثمن ذلك التزامات اجتماعيّة أخرى. يقول «جون لوك» في نص (رسالتان في الحُكم)[1] إنّ الهدف النهائي الذي يجعل الأفراد يشتركون في المصالح ويرضخون للحكومة هو«حفظ أموالهم». إذن ستكون الليبرالية هي المصدر المشرّع لتلك الحكومة التي تسمح للأفراد بأن يتعاونوا فيما بينهم (بغضّ النظر عن السعي لتحقيق الصالح العام) من أجل تكاثر الثروة وخدمة لأهداف شخصيّة أخرى[2].

إنّ نظرية «الحقوق الطبيعية» تعتمد قراءة ليبرالية للإنسان وتسعى لشرعنة نزعة نفعيّة مكتنفة بالظلم والتلذذ المادّي غير المشروع وغير الأخلاقي، وتقدّمه أمراً طبيعيّاً وتعدّه من الحقوق الطبيعيّة لكلّ فرد، وأمراً بديهيّاً لا يحتاج للإثبات!

إنّ ما يعدّه اليبراليون «حقوقاً للإنسان» مستمدّ من هذا الوهم المعنوَن بـ«الحقوق الطبيعيّة»؛ فحقوق الإنسان الأنموذج الأكثر تطوراً لفكرة «الحقوق الطبيعية»، وإنّ الحقوقيين وفقهاء القانون والمنظّرين والفلاسفة وكلّ من ينتصر للديمقراطية الليبرالية لم يقدّموا أيّ دليل يؤيّد صحّة هذا الرأي، مقتنعين بأنّه من القضايا البديهية والطبيعية! في الحقيقة إنّ المَزاعم الواهية كالحقوق الطبيعية وحقوق الإنسان هي لغرض تبرير النزعة النفعية الاستثماريّة والملذات غير الأخلاقيّة، خدمةً للطبقة الرأسماليّة العلمانيّة، لأنّ العلاقات البشريّة

(125)

في المجتمعات الحداثويّة، تهيمن عليها هذه الطبقة وتعمل على تحقيق المصالح المُعَلمَنة والحداثويّة، وليست فكرة الحقوق الطبيعية وحقوق الإنسان سوى تبرير وترويج ودعم لمصالحهم ومفاسدهم.

يشير «جون كيلي»[1] في كتابٍ حول تاريخ النظرية الحقوقيّة في العالم الغربي[2] إلى ظروف نشأة نظرية الحقوق الطبيعية في آراء «غروتيوس»[3]، متحدّثاً عن الماهيّة العلمانيّة في هذه النظريّة، ومدى الإقبال الواسع الذي لاقته هذه النظريّة في القرن الثامن عشر. وعلى حدّ تعبير «كيلي» فإنّ (الله) في نظريّة الحقوق الطبيعية ليس سوى فكرة مترفة في مبحث عقلاني! (والعياذ بالله). وبهذا أصبحت نظرية الحقوق الطبيعية بمثابة الغطاء الحقوقي والقانوني للدفاع عن أغراض الطبقة الرأسماليّة ومصالحها.

ثمّة مفهوم آخر في الآراء السياسية التي تطرحها الليبرالية الكلاسيكية عبّروا عنه بـ«العقد الاجتماعي». إنّ «جون لوك» بصفته المنظّر الليبرالي الرئيس في القرن السابع عشر يدّعي أنّ الإنسان قبل نشوء «المجتمع المدني» كان يعيش في «الوضع الطبيعي»، وأنّ في الوضع الطبيعي على الرغم من وجود شيء من الضمان لحقوق الأفراد إلّا أنّ المجتمع كان يعاني مشاكل في ضمان الحقوق الطبيعية بسبب غياب الدولة والمجتمع المدني. لهذا السبب عمل

(126)

الأفراد على حماية أموالهم ومصالحهم وحريّاتهم المستلهمة من الحقوق الطبيعية وذلك من خلال إبرامهم «العقد الاجتماعي» وتأسيسهم المجتمع المدني.

يبدوأن فكرة «العقد الاجتماعي» لدى لوك هي مجرد فَرضيّة، ويُستبعَد أن يكون «لوك» مؤمناً بحدوث فكرة العقد الاجتماعي في حقبة تاريخيةٍ ما على أرض الواقع. حسب ادعاء «لوك» فإنّ إبرام هذا (العقد الاجتماعي) ينتج مجتمعاً مدنيّاً، وإنّ روح هذا المجتمع المدني وقوامه ليس إلّا رعاية مصالح الأفراد ومنافعهم، وبالطبع المقصود من الأفراد هنا هو: أصحاب رؤوس الأموال، لأنّ لوك يرى كسائر منظّري الليبرالية أنّ صاحب رأس المال وحده هومن يمثّل المجتمع المدني ويكون عضواً فيه، ووفق الرؤية الليبرالية الديمقراطية لم يكن المجتمع المدني إلّا حيّزاً لتنافس أصحاب رؤوس الأموال والنفوس الأمّارة الفردانيّة (الذريّة) المتطبّعة بصفات الذئب!

4_ تُعد (نظرية التقدّم_ (Idea of Progress من الفرضيات الرئيسة في الليبرالية الكلاسيكية. إنّ من بين النظريات الإنسانويّة الحداثوية يمكن أنْ نقول إنّ نظرية الليبرالية الكلاسيكية، والديمقراطية الليبرالية ذات التوجه الاشتراكي، والنيوليبرالية أوالليبرالية الجديدة، والماركسيّة، وبعض التوجهات في النظريّة النسويّة[1] هي من أكثر النظريات الحداثويّة التي تؤمن بنظريّة التقدّم التي ليست إلّا مفهوماً واهياً وهميّاً بلورها التحريف الإنسانوي للتاريخ.

(127)

5_ تستنكر الليبرالية الكلاسيكية أي تدخّل للدولة والسلطة في المجال الاقتصادي، ولاسيما إذا كان هذا التدخل من أجل حماية الطبقات المعدمة والفقيرة، وللحد من هيمنة الطبقة الرأسماليّة. يدّعي الليبراليون الكلاسيكيون في شعاراتهم أنّ رفضهم لتدخل الدولة في الاقتصاد هومن أجل الحفاظ على الحريّة وضماناً لـ(التدفق الدائري للاقتصاد والدخل)[1]. ولكنّهم على الصعيد العملي والواقعي عندما يكون تدخل الدولة في ظروف خاصّة ومن أجل حماية المنافع ورؤوس الأموال يرحبون بتدخلها. ولكنّهم ما إن يشعرون بأنّ تدخل الدولة هومن أجل ضمان حقوق الفقراء والحد من النزعة النفعية حتى ينطلقوا من شعار «الاقتصاد الحر» والدفاع عن مبدأ «التدفق الدائري للاقتصاد» ونظرية «اليد الخفيّة/ Invisible hand» ويطالبوا بالدولة الصغيرة والنظام  الرأسمالي الحر.

خلاصة القول إن الليبرالية الكلاسيكية تدعوإلى اقتصادٍ رأسماليّ حُر تكون النزعة النفعيّة البحتة فيه هي المهيمنة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وألّا تتصرف الدولة تصرّفاً يؤدي إلى انخفاض حجم رأس المال وأرباح الطبقة الرأسمالية، حتّى إن كان ذلك التدخل يصب في مصلحة الفقراء والطبقة المعدمة.

إنّ الدولة التي تنشدها الليبرالية الكلاسيكية هي دولة صغيرة تحرص على أمن الطبقة الرأسماليّة وتحقيق مصالحها. على الرغم

(128)

من ذلك فقد كانت الدول الليبرالية الرأسمالية في الواقع دولاً كبيرة ذات بيروقراطية منظّمة ومعقّدة وأجهزة بوليسيّة وقمعيّة واسعة تعمل على حماية الغايات الاستعمارية والرأسماليّة.

6_ إنّ التسامح والتساهل الليبرالي الماسوني الذي رُوّجَ له منذ القرن السابع عشر حتّى القرن التاسع عشر مثّل أحد شعارات الليبرالية لتختفي خلفه الرأسماليّة المرتبطة بالتجمعات اليهوديّة ـ الماسونيّة، ولتتاح لليهود إمكانية العمل والنشاط الثقافي والاقتصادي والإعلامي. فضلاً عن ذلك فإنّ مثل هذا المناخ يسمح للملحدين والعلمانيين أنْ يمارسوا نشاطهم المناهض للدين بحريّة تامّة. هذا وفي الوقت نفسه كلّما واجه النظام الليبرالي خطراً يهدد استمراره أهمل شعار (التسامح والتساهل) ومارس القمع ضدّ مخالفيه. ففي واقع الحال إنّ هذا الشعار هوغطاء إعلامي خادع لتستّر على الطابع القمعي والعنيف لليبرالية الكلاسيكية (وسائر النظريات في حقل الليبرالية)، وهوإطار نظري رئيس يخدم الأغراض الماسونية المناهضة للدين.

7_ إنّ الليبرالية الكلاسيكية تؤكّد نظرية الفصل بين السلطات في بنية النظام السياسي_الاجتماعي. بغض البصر عن مواءمة هذه النظريّة مع مصالح الطبقة (الارستقرطيّة الرأسمالية) في القرنَين السابع عشر والثامن عشر عند سجالها السياسي الطبقة (الأرستقراطية الإقطاعيّة) فإنّها (أي نظرية الفصل بين السلطات) تؤدّي دوراً كبيراً في إخفاء الوجه المستبدّ المهمين للسلطة السياسية والاجتماعيّة في

(129)

المجتمعات الليبرالية، وكذلك في خداع الأفراد الخاضعين لهذه الأنظمة التي تروّج أوهاماً من قبيل الفصل بين السلطات.
8_ تدافع الليبرالية الكلاسيكية عن المُلكية الفرديّة في إطارٍ علمانيّ رأسمالي، وهي تقترب من الليبرالية الجديدة من هذه الناحية.
تؤمن الليبرالية الكلاسيكية بوجود أحكام أخلاقيّة ثابتة ومطلقة في إطار الأخلاقيات الليبرالية الحداثوية التي تنتصر للفردانيّة والرأسماليّة الإنسانويّة. غير أنّ هناك نظريات أخلاقية متعددة في الإطار النظري الخاص بالليبرالية الكلاسيكية، (كنظرية الأخلاق الذاتانيّة لدى «ديفيد هيوم»، ونظرية الأخلاق النفعيّة التي دعا إليها «هلفتيوس» و«بنثام»، ونظرية الأخلاق الذرائعية لدى «كانت» و...) تبدومختلفة في بعض الجوانب، ولكنّها تعمل وفق المصالح الليبرالية.
على صعيد المقارنة والتقييم في حقل النظريات الأخلاقيّة في اطار الليبرالية يمكن أنْ نقول إنّ الأخلاق النفعيّة (Utilitarianism) لها مكانة وأهميّة مميزة.
إنّ الليبرالية الكلاسيكية عند مقارنتها بين القيم الأخلاقيّة والواقعيّات العينيّة تؤمن بالفصل بين «حقيقة الشيء» و«ما يجب أنْ 

(130)

يكون»[1]، وترى أنّ الأحكام الأخلاقيّة هي نتاج «الإنشاء»، وهي من صنف «القضايا القياسيّة المستقلة عن القضايا الخبريّة».

9_ إنّ الليبرالية الكلاسيكية بدورها النظرية الرأسماليّة الحداثويّة منذ القرن السادس عشر حتّى القرن التاسع عشر عملت على دعم «التجارة الحُرّة» من أجل دعم الأهداف النفعيّة وكنز رأس المال. إن الليبرالية الكلاسيكية وأخواتها لا تكترث بما إذا كانت هذه التجارة الحُرّة نافعة لأفراد المجتمع وللحقيقة الإنسانيّة، حتّى إذا كانت ضارّة وتسبب الشقاء. إنّ منطق «التجارة الحُرّة» في الليبرالية الكلاسيكية لا يمثّل سوى دعوة تتبع النفعيّة غير المشروعة وغير المحدودة في إطار حداثوي.

10_ تركّز الليبرالية الكلاسيكية في القراءة النفسانيّة لمفهوم الحريّة[2]. على الرغم من أنّ بعض الشعارات والمزاعم التي تتبنها الليبرالية، إلّا أنّها لا تكترث بالعدالة الاقتصادية والاجتماعيّة، وإن حديثها عن العدالة لا يتجاوز الاطار العام الذي ترسمه الحريّة بمفهومها الليبرالي التي تدحض كلّ صور العدالة.

11_ إنّ النموذج السياسي الذي تقدّمه الليبرالية الكلاسيكية يسعى لبلورة نوع من الديمقراطية بنزعة إنسانويّة ورأسماليّة التي

(131)

تعتمد النظام البرلماني. إنّ الإعلام الليبرالي يروّج للحكومة البرلمانية ويقدّم النظام النيابي بصفته النموذج المثالي للسياسة والحكم. ولكن عند قراءة الأحداث التاريخية على مرّ العصور نرى أنّ منظّري الليبرالية عند تحقيق المصالح الاستعماريّة والرأسمالية نراهم ينتصرون لأنطمة سياسية غير برلمانيّة، لم تلتزم بالضوابط الديمقراطية الليبرالية، ونجد هذه الظاهرة لدى الليبراليين الجدد أيضاً.

12_ يمثّل مفهوم «المجتمع المدني» أحد المفاهيم الأساسيّة والمهمة لدى الليبرالية الكلاسيكية. إن مفهوم «المجتمع المدني» ومفهوم «حقوق الإنسان» يؤلّفان البنية الخفيّة والمعقّدة للطبقية الاجتماعية في المجتمعات الليبرالية_ الرأسمالية، وهي بُنية قمعيّة تفرض الرقابة الخفية على الرأي العام وتهيمن على ضمائر الأفراد وتديرها، وتدمّر الفردانيّة الحقيقية لدى الأفراد عند دفاعها عن الفرد والحقوق والحريّات الفرديّة، وتجذّر التبعيّة والانسلاخ عن الذوات، وتسوق الأفراد إلى الدنوّ والبؤس والشقاء.

القمع والتسافل، تنافس متوحش: باطن المجتمع المدني الليبرالي

لقد تطوّر مفهوم المجتمع المدني في تاريخ الفكر الغربي على مدى تاريخ الأفكار. إنّ مفهوم المجتمع المدني في الفلسفة السياسية التي قدّمها «توماس هوبز» تقابل مفهوم الوضع الطبيعي، ومن أجل تبرير الحكم المطلق الذي عبّر عنه في تنظيره. ولكن «جون لوك»

(132)

بصفته المنظّر الرئيس لليبرالية الكلاسيكية اعتمد مفهوم «المجتمع المدني» أنموذجاً مثاليّاً لمجتمعٍ ليبرالي ـ رأسمالي، إذ تحكم فيه الموازين الليبرالية والرأسمالية.

التفت علماء الاقتصاد خلال القرن الثامن عشر لمفهوم «المجتمع المدني» وأكّدوه في آرائهم. إنّ ما يسمّيه الفلاسفة والاقتصاديون والمفكّرون الليبراليون بـ«المجتمع المدني» هوبيان للباطن المتوحش والمستعمر للغرب الحداثوي. إن المجتمع المدني يمثّل الوجه الحقيقي للمجتمع الليبرالي الحداثوي، فهومجتمع فردانيّ نفعيّ رأسماليّ يتصف بصفات الذئب، ويكون فيه الإنسان بصفته «فرداً» أو«مواطناً» يتنافس ويتخاصم مع الآخرين من أجل تحقيق مكاسبه ومصالحه وآماله النفسانيّة. وفي خضمّ هذا المعترك عمل الفكر الليبرالي على تنظيم هذا السجال والصراع والتنافس المتوحش القائم بين الأفراد (الذين هم ذرّات نفسانيّة وفق المفهوم الليبرالي الإنسانوي، وإن التعبير السياسي يسميهم بـ«المواطنين»)، وقد سنّ مجموعة من القوانين والأحكام لتنظيم هذا الصراع وأطلق عليها تسمية «حقوق الإنسان»، ليكون هذا الصراع النفعي وهذا التخاصم مقنناً، وكي لا يؤدّي إلى الاصطدام والعنف بين التجّار والرابحين. على الرغم من أنّ تقنين هذا التنافس والتخاصم يحول دون انهيار المجتمع المدني، ولكنّه يعجز عن الحفاظ على المجتمع المدني وإبعاده عن الانهيار المحتوم، وهوالواقع الذي شعر به هيغل

(133)

وماركس وكثير من الفلاسفة والمفكّرين الإنسانويين[1].

تقول الباحثة السياسية (نيرا شاندوك)[2] حول مفهوم المجتمع المدني في الفلسفة السياسية الحديثة:

إنّ الاقتصاد السياسي الكلاسيكي عندما يقدّم قراءة حديثة للمجتمع لم يقدّم علماً جديداً حول المجتمع فحسب، بل افترض أنّ هذا العلم كوّن قوانين شاملة عالميّة. لقد جرى تقسيم العقل والتطور المادي والتطور الأخلاقي في درجات متباينة، وقد جمعت كلّ هذه المعايير في مفهوم «المجتمع المدني». بعبارةٍ أخرى، لقد أصبح مفهوم المجتمع المدني معياراً لقياس مدى تطور المجتمعات، وإن بعض المفكرين من أمثال «آدام فرغوسن» استنتجوا أنّ المجتمعات المتطورة هي مجتمعات مدنية، ولكن المجتمعات البدائية ليست كذلك، وهنا نشهد دوراً تاريخيّا لافتاً. لم يعد المجتمع المدني النقطة المقابلة للوضع الطبيعي (كما بلورها أصحاب نظرية العقد الاجتماعي)، بل أصبح النقطة المقابلة للاستبداد الشرقي والغربي والإقطاعيّة... إن علماء الاقتصاد يعتقدون بأن المجتمع المدني يمثّل المرحلة الأخيرة  والأكثر تطوّراً في التاريخ، ويقدّم مستوى عالياً من النمووالتنمية... إنّ كلّاً من «فرغوسن» و«استورت» و«آدام سميث» لعبوا دوراً مهمّاً في صياغة مصطلحات علم الاقتصاد والاجتماع. نجد هنا فجوة بين النظرة الأرسطيّة للسياسة: إنّ وضع

(134)

الإنسان الطبيعي يتألّف في المجتمع الاقتصادي لا في المجتمع السياسي. يصبح المجتمع المدني هنا مكاناً لتحقيق الأهواء الشخصيّة واحتياجات حياة الفرد اليوميّة، وعلى هذا الأساس يكون الاقتصاد في الحياة الفردية والاجتماعية في الدرجة الأولى من الأهميّة والسياسة في المرتبة الثانية.

... إنّ المجتمع المدني هوالنطاق الخاص لبلورة الأنانيّة الجماعيّة، حيث أعدّ كل فردٍ وسيلة لتحقيق أهدافي. وإن أصدق مثال على ذلك يتمثل بالحياة الاقتصادية، التي أمارس فيها عملية البيع والشراء ليس من أجل تلبية حوائج الناس، بل من أجل استغلال احتياج الناس لتلبية احتياجاتي الشخصية. إنّ أهدافي تتحقق من خلال احتياجات الآخرين. فكلّما كان الآخرون أشدّ احتياجاً للذي أستطيع تحقيقه سأتمتع بمكانة أفضل... ففي حقيقة الأمر كان رأي آدام سميث في نشوء المجتمع المدني هوبسبب النزعة النفعيّة لدى الأفراد، وليس بإرادة الحكّام وتخطيطهم... إن المجتمع المدني الناضج من وجهة نظر الاقتصاد السياسي يتكوّن من ثلاثة عناصر في أقل تقدير: الفردانيّة، والمُلكيّة والسوق. وإنّ هذه العناصر الثلاثة كانت بمثابة القيم المطلقة المسلّمة بها في النظرية الليبرالية. لقد أصبحت الغاية الرئيسة من استقلال الفرد في التعاملات الاقتصاديّة تتمثل بحقّ الحريّة والمساواة في المجال السياسي... وبهذا صار الاقتصاديون السياسيون يضعون برنامج عمل الليبراليين. على أن مفهوم المجتمع المدني في وجهة نظر الفريقَين يتمتع بالموقع المحوري والمركزي بصفته النطاق

(135)

الذي تتبلور فيه تاريخ الحقوق والحريّات الفرديّة، وهوالنطاق الذي يتنافس فيه الأفراد لتحقيق رغباتهم الشخصيّة والخاصّة بهم... وبهذا يتحول المجتمع المدني إلى مساحةٍ يُسمَح فيه للفرد ليعمل على تحقيق رغباته الشخصيّة بحريّة تامّة، وأنْ يتمتع بالحريّة نفسها لتحديد رغباته وعقائده... إنّ الفردانيّة والملكيّة والسوق الحرّة هي العناصر المؤلّفة للمجتمع المدني، وتمثّل الأساس الرئيس للاقتصاد السياسي والنظريّة الليبرالية)[1].

إنّ حريّة التعبير وحريّة العقيدة وغيرها من المزاعم التي تنادي بها الليبرالية الكلاسيكية ليست سوى محاولات لبسط حريّة أكثر من أجل تحقيق وتفعيل (الثنائي المتلازم المتمثل بالنفعيّة والتلذذ الإنسانوي العلماني). كما يجب تأكيد ملحظ هام، وهو أنّ هذا الثنائي يستبطن غايات غير مشروعة وغير أخلاقية، وأنّ انتقادنا له لا يعني مخالفتنا مع النفعية المشروعة والأخلاقيّة والتمتع بالملذات المشروعة والأخلاقيّة.

إنّ المجتمع المدني الليبرالي هومجتمع تكون علاقات الأفراد فيه وفق ذرائعيةٍ تحكمها المنفعة والربح. إنّ الإنسان في مثل هذا المجتمع يعتمد رؤية نفعيّة مستمدّة من أساس الربح الاقتصادي البَحْت، وينظر لسائر الأفراد في إطار علاقته معهم بنظرة ذرائعية لتحقيق أهدافه، وإنّ كل إنسان يجلب ذاته وهويّته للسوق من أجل

(136)

التبادل والتعامل التجاري. إنّ الروح التي تحكم المجتمع المدني الليبرالي منبثقة من الاغتراب والانسلاخ عن الذوات لدى الأفراد، ومن تغلّب ذلك الشعور المرير بالغربة والاضطراب المنهِك الذي تعانيه  الذات الإنسانيّة المعاصرة. إنّ المجتمع المدني هومجتمع مخدوع خضع طوال القرنَين التاسع عشر والعشرين للنظريات العلمانيّة والعلوم الإنسانيّة ذات الطابع الإنسانوي، إذ هيمنت على أفراده أجهزة الإعلام والرقابة الأمنية والبوليسية والقمعيه. فضلاً عن ذلك فإنّه مجتمعٌ تحکمه نزعة فردانيّة (ذاتانيّة/Subjectivism) تقدّم الصورة الفرديّة للنزعة الذاتنية الحداثوية، وإنّ كلّ كائن إنساني يعدّ ذاته موضوعة نفسيّة، وبهذا يتكوّن تنافس عنيف بين الذوات النفسيّة الفرديّة في مناخ ممتلئ بالمنافسة المتوحشة بين الأفراد، وتحدث خصومة عميقة في بيئة ملأى بالشعور بالوحدة والعداء وسوء الظن والمحاربة بين الأفراد. إنّ المجتمع المدني في صورته ما بعد الحداثويّة في القرن العشرين (المرحلة التي نسمّيها بمرحلة المدينة المتأزّمة ما بعد الحداثوية) ولاسيما في مرحلته الموسومة بـ«اللامعياريّة»[1] التي ظهرت وهيمنت خلال العقدَين الأخيرَين من القرن العشرين، يفتقر للمعنى وأسير بـ(العبثيّة)[2]، إذ ينتهي

(137)

إلى تدمير نفسه بنفسه. لأنَّ دوّامة (ثنائية) الربح_التلذذ الإنسانويّ المُعَلمَن لا تستطيع الاستمرار حتّى اللانهاية، وإنّ منطقها الوجودي يقتضي أنّ الوصول إلى مرحلة المجتمع المدني المسلوب من المعنى والعبث يؤدّي إلى التغيير والسير باتجاه الانهيار.

يشير الفيلسوف الحداثوي الألماني «فيلهلم فردريش هيغل» إلى هيمنة منطق الربح الفردانيّ و«السلوكيات الاجتماعيّة» المتطابقة مع منطق الاقتصاد الرأسمالي في سياق حديثه عن مفهوم المجتمع المدني، ويستنتج أنّ المجتمع المدني الليبرالي الرأسمالي سيقضي على نفسه في نهاية المطاف. لقد حاول هيغل أن يقدّم نموذجاً ينظّم المجتمع المدني «تنظيماً عموديّاً» كي يكون حائلاً دون انهياره. ولكنّ محاولته باءت بالفشل ولم تلقَ ترحيباً لدى الليبراليين، حتّى انتقدوا فكرته.

إنّ المجتمع المدني عند هيغل يتمثل بمجموعة من السلوكيات الاجتماعيّة التي يحددها منطق الاقتصاد الرأسمالي، الذي يعكس بدوره نمط السوق وسلوكه، ولكنّ وجودها (السلوكيات) يمتاز عن ماهيّة الاقتصاد. إنّ هيغل وضع هذه السلوكيات بين الأسرة والدولة وأضفى عليها معنىً تاريخيّاً. إنّ المجتمع المدني هي اقليم الفرد الأنانيّ الباحث عن ذاته الذي يبحث عن سبل تحقيق رغباته...

(138)

يتأسّف هيغل على هذا الواقع، إذ يرى أنّ المجتمع الحداثوي فقد طاقاته لاستيعاب الحياة الأخلاقيّة. إن المجتمع المدني يسمح للفرد المتحرر بأن يُهتَدى من خلال رغباته فقط وأنْ يحرر نفسه من كلّ القيود الأخلاقية. إن ردّ الفعل الاجتماعيّ يعكس سلوك السوق وهي قضيّة ذرائعية فحسب، فكلُّ فردٍ يعدّ الآخر وسيلة لتحقيق أهدافه. إنّ المجتمع المدني هومكان فردٍ يكون موضوعاً لأهدافه الشخصيّة. إذن فإنّه مجتمع تصطدم فيه المصلحة الشخصيّة الفرديّة مع المصالح الفرديّة لدى الآخر، وتشيع فيه الفردانيّة والأنانيّة والتجزئة. لقد تناول هيغل فكرة ضياع الأخلاقيات في المجتمع الحداثوي، وفكّر مليّاً في خطورة غياب الحياة الأخلاقية من المجتمع المدني، وأوضح أنّ هذا المجتمع إنْ تُرك هكذا لحاله سيقوّض ذاته: (إن الجزئيّة [يقصد المجتمع المدني] إنِ استمرّت هكذا في تلبية الاحتياجات والرغبات الآنيّة، وأطلقت العنان للأهواء الذهنيّة، فستقوّض نفسها ومفهومها الأساسيّ خلال عملية تلبية هذه الغايات). إنّ الحلّ الثالث الذي يقدّمه هيغل للمجتمع المدني يتبلور في تأكيده استيعاب حقيقة تنصّ على استحالة ترك المجتمع المدني لحاله، وإلّا فإنّه سينهار ويتجزّأ[1].

نرى بعد هيغل، «كارل ماركس» الذي تناول قضيّة المجتمع المدني الليبرالي، مبيّناً أنّ الفرد والحريّات والمصالح الخاصّة

(139)

والفرديّة والأنانيّة هي العناصر المؤلّفة للمجتمع المدني. كان ماركس يعتقد بأن المجتمع المدني هومجتمع مجزّأ يكون موضوعه الإنسان الأنانيّ السلبي[1].

يتحدّث ماركس في كتابه المعنون (حول المسألة اليهودية)[2] عن حقوق الإنسان والمجتمع المدني قائلاً:

قبل كلّ شيء يجب أن نعرف أنّ ما يطلق عليه (حقوق الإنسان) للتمايز عن (حقوق المواطن) ليس هوسوى حقوق حقوق أعضاء المجتمع المدني، أي حقوق الإنسان الأناني المنفصل عن سائر الأفراد والمنسلخ عن الجماعة[3].

يرى ماركس أنّ المجتمع المدني هومجتمع الأفراد (المنغمسين في ذواتهم والمتقيدين بالأهواء الشخصيّة والمنفصلة عن الجماعة)، ويعتقد بأن كلّ ما ورد في (حقوق الإنسان) لا تتجاوز  ذلك الإنسان المنطوي والمنعمس في ذاته والأسير بقيود أهوائه ومصالحه ورغباته. يقول ماركس بهذا الصدد:

إنّ مفهوم الأمن لا يتيح للمجتمع المدني إمكانية التغلّب على أنانيّته. على العكس من ذلك، إنّ الأمن يضمن الأنانيّة. إذن فإنّ (حقوق الإنسان) لا يتجاوز حدود الإنسان المدني المنطوي على

(140)

إلى تدمير نفسه بنفسه. لأنَّ دوّامة (ثنائية) الربح_التلذذ الإنسانويّ المُعَلمَن لا تستطيع الاستمرار حتّى اللانهاية، وإنّ منطقها الوجودي يقتضي أنّ الوصول إلى مرحلة المجتمع المدني المسلوب من المعنى والعبث يؤدّي إلى التغيير والسير باتجاه الانهيار.

يشير الفيلسوف الحداثوي الألماني «فيلهلم فردريش هيغل» إلى هيمنة منطق الربح الفردانيّ و«السلوكيات الاجتماعيّة» المتطابقة مع منطق الاقتصاد الرأسمالي في سياق حديثه عن مفهوم المجتمع المدني، ويستنتج أنّ المجتمع المدني الليبرالي الرأسمالي سيقضي على نفسه في نهاية المطاف. لقد حاول هيغل أن يقدّم نموذجاً ينظّم المجتمع المدني «تنظيماً عموديّاً» كي يكون حائلاً دون انهياره. ولكنّ محاولته باءت بالفشل ولم تلقَ ترحيباً لدى الليبراليين، حتّى انتقدوا فكرته.

إنّ المجتمع المدني عند هيغل يتمثل بمجموعة من السلوكيات الاجتماعيّة التي يحددها منطق الاقتصاد الرأسمالي، الذي يعكس بدوره نمط السوق وسلوكه، ولكنّ وجودها (السلوكيات) يمتاز عن ماهيّة الاقتصاد. إنّ هيغل وضع هذه السلوكيات بين الأسرة والدولة وأضفى عليها معنىً تاريخيّاً. إنّ المجتمع المدني هي اقليم الفرد الأنانيّ الباحث عن ذاته الذي يبحث عن سبل تحقيق رغباته... نفسه والمتقيّد برغباته وغاياته الشخصيّة والمنسلخ عن الجماعة. إنّ مفهوم (حقوق الإنسان) لا يعدّ الإنسان كائناً نوعيّاً؛ وليس هذا وحسب، بل إنّ الحياة النوعيّة والمجتمع أيضاً يُعد (وفق نظرية الحقوق الإنسان) مجالاً غريباً على الفرد، يتسبب  بالتقييد لاستقلال الأفراد. إنّ القيد الوحيد الذي يخلق الآصرة بين الأفراد هوالاحتياج الطبيعي والمصالح الشخصيّة وحفظ الملكيّة وأناتهم الذاتيّة.[1]

إنّ المجتمع المدني الليبرالي هومجتمع الأنانيين والنفعيين والمنقطعين عن الآخر، فكلّ فردٍ في هذا المجتمع يعدّ نفسه ذرّة قائمة بذاتها، إذ تحرّكها (النفعيّة والتلذذ العلماني الإنسانوي) وتسيّر سلوكها وتحدد حياتها، وإن هذه الذات، أوهذا الفرد يعدّ الآخرين وسائل لتحقيق رغباته، وإنّ اقترابه وابتعاده عن الآخر منوط بمنطق (المنفعة والربح) والسوق الليبرالية. إنّ باطن المجتمع المدني الليبرالي يتمثّل بالأنانيّة واستقلالية الذات الإنسانويّة، إذ يضفي على جوهر العلاقات الفردية والمدنية طابعاً ذرائعيّاً وربحيّاً، ويبعد الكائن البشري عن حقيقته وفرديته الأصيلة. إنّ مثل هذا المجتمع هومجتمع الغرباء والجشعين والاستغلاليين وعبيد الدينار والدرهم، حيث تقتصر الغايات والأماني الإنسانيّة الساميّة في أتفه الأهداف والمطامع الضيّقة والماديّة، وتهيمن روحية التشاؤم والتنافس وسوء الظن وحبّ المال والجاه على طبيعة العلاقات الفرديّة والأسريّة

(141)

وبين الأصدقاء والأقارب والزملاء والجيران. يعبّر المجتمع المدني عن هذه الأنانيّة والحرص على الربح والتلذذ الماديّ بـمسميات عدّة كـ»الإزدهار الفردي» و«الاستقلال الفردي» و«البحث عن السعادة» و«العقلانيّة» واتباع «منطق السوق الحرّة» و«البلوغ الفردي» و«حبّ الذات» و«الرفاه» و«التقدّم»، ويروّج لهذه المصطلحات ويمجّدها ويعد المجتمعات الفاقدة لها مجتمعات (متخلّفة) وغير (متطوّرة) و(الفاقدة للمجتمع المدني).

يمكن تلخيص الخصائص الرئيسة للمجتمع المدني الليبرالي في النقاط الآتية، وهي نفسها من صميم نظرية الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الجديدة والديمقراطية الاشتراكية بمختلف أنماطها، وكذلك من خصائص المجتمعات الليبرالية الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية:

1_ إنّ المجتمع المدني هومجتمع ذرّي (Atomism) يكون كل فردٍ فيه ذرّة أنانيّة نفعيّة قائمة بذاتها.

2_ إنّ المنطق الحاكم على سلوك الأفراد (الذرّات النفسانيّة) في المجتمع المدني يتمثّل بثنائية (الربح_التلذذ) المُعَلمَن الإنسانوي.

3_ إنّ الأفراد في المجتمع المدني يمثلون ذراتٍ منفصلة ومنفردة وغريبة بعضها عن بعض، يتنافسون في حلبةٍ غير معلنة ويتخاصمون على تحقيق المزيد من الأرباح. إنّ كل ذرّة نفسانيّة أوكلّ فرد في هذه المباراة يعدّ الآخرين أعداءه، (سواء بالقوّة أوبالفعل)، ويحدد

(142)

علاقاته معهم على أساس هذه النظرة الذرائعية، وفي إطار منطق الربح السوقي الرأسمالي المعلمَن.

4_ إنّ الأفرادَ في المجتمع المدني منفصلون بعضهم عن بعض وغرباء ومتخوّفون بعضهم من بعض، حيث يعيشون في بيئة مشحونة بالتشاؤم وسوء الظن والعداء. إن هذه القيود المفروضة على الأفراد تدرج ضمن الغايات الدنيئة للحداثة التي تدعوإلى نزعة إنسانويّة في علاقة الإنسان بعالمه، وبالتالي أقصت الأفراد عن حقيقتهم النوعيّة وفرديتهم الأصيلة لتولّد عندهم شعوراً عميقاً بالاضطراب والهول والقلق.

5_ إنّ المجتمع المدني في أولى مراتب تمظهره  أقصى المضامين الدينية الأصيلة والسامية، ولاسيما مضامين العقيدة الكاثوليكية وأمثالها، وروّج لأهداف معلمَنة كالرغبة في الحصول على رأس المال، وبثّ أوهام  لدى الأفراد جعلهم يعتقدون بأنّه بالعمل الشاق وبكنز الأرباح (كتلك النزعة المادية التي نراها لدى أصحاب رؤوس الأموال الجشعين في العصر الفيكتوري في أوروبا والداعين لها، وتحديداً في أعمال «تشارلز ديكنز»[1] و«أونوريه دي بلزاك»[2]) يمكن الوصول إلى الطبقة الأرستقراطية البرجوازية، وأنْ يكون الفرد من أصحاب رؤوس الأموال الكبار واللحاق بطبقة الأثرياء، وبهذا تكوّن

(143)

ضرباً من المعاني الناسوتيّة المعلمَنة النفعيّة للحياة الدنيويّة. لقد انصبّت جلّ المحاولات والجهود الفرديّة خلال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر في سبيل اتباع هذا السلوك، إذ كانت الأماني الفرديّة تتحقق بالوصول إلى (النموذج المثالي للفرد البرجوازي الذي نجد نماذجه في الطبقة الرأسماليّة العلمانيّة وقتئذ). لقد اعتمدت الأجيال المتلاحقة والمجتمعات المدنية الليبرالية هذا السلوك، وظهرت حركة كبيرة بين الأفراد (وهي حركة لم تحقق شيئاً إلّا للقليل من الأفراد، وكانت عبثاً للكثير منهم) للوصول إلى الإنسان البرجوازي المتكامل. في هذه الأثناء كانت آراء فلاسفة عصر التنوير ووعودهم الواهية المنسوجة في الخيال، ترسم صوراً عن السلام والرفاه والحريّة والجنّة الأرضيّة، كانت تعزز هذا النهج السلوكي الذي عصف بالشعوب الأوروبيّة. ولكن ما إن دخل الغرب الحداثوي في مرحلة ما بعد الحداثة وواجه أزماتها ارتطمت رؤوس المتوهمين والمخدوعين بصخرة الواقع، وانهارت المرحلة الأولى من مراحل المجتمع المدني التي كانت مبنيّة على الليبرالية الكلاسيكية. لقد كانت نظرية المجتمع المدني في أولى مراحلها تدعوإلى تحقيق الحريّة والمساواة بين الأفراد، وكذلك تروّج أفكاراً إلحاديّة كمحاربة الدين والتعاليم الدينية، (التي عبّر عنها بعضٌ بالخرافة) وتبنّت الحركة النسويّة (Feminism) بحجة المطالبة بحقوق النساء، ورفعت شعارات كاذبة كانقاذ سائر الشعوب من الجهل والأسر والعبوديّة (!!) من أجل تبرير الخطط الاستعماريّة، وقد اعتمدت هذه النظريّة (نظرية المجتمع المدني) كل

(144)

هذه المزاعم والشعارات والمتبنيات من أجل تدعيم حياة أفرادها.

6_ تحوّل المجتمع المدني خلال مرحلته الثانية بالتدرّج إلى مجتمعٍ مضاد للمثاليات وهارب منها، إذ واجه العالم الغربي بدءً من القرن العشرين أزمة ما بعد الحداثة، وظهرت المدينة المأزومة ما بعد الحداثويّة، ونسي المجتمع المدني المثاليات العلمانيّة التي كان ينشدها في مرحلته الأولى. لم يعد المجتمع المدني فاقداً للمعاني المتعالية المنشودة فحسب، بل أصبح فاقداً لأيّ معنى. إنّ مثل هذا المجتمع الذي تورّط بأزمة تقويض المعنى، باستناده إلى (ثنائيّة الربح ـ التلذذ) أمسى أسيراً بـ (عالم الحياة الجنسيّة)[1]، لتظهر للعيان نتائج خطيرة كتساقط كلّ القيم، والتهرّب من المسؤوليّة على نطاق واسع، وأزمة الهويّة، واستلاب المعنى من كلّ المعاني، وتفريغ نزعة (التلذذ) من اللذة، ليهيمن ويفرض سيطرته (عالم الحياة الجنسيّة) على كلّ الأمور. في مثل هذه المرحلة يميل الوجه الغالب للإنسان المدني (في مرحلته الثانية) إلى صورة «ميرسولت»[2] التي

(145)

رسمها «كامو»[1] في نصوصه، ويوضّح عبثيّته، لتتّضح انعكاساتها الأدبيّة في نصوص «صاموئيل بكيت»[2] و«فردريش دورينمات»[3] وفي رواية «رجل يتأرجح»[4] لـ «سول بيلو»[5]، وتتضاعف وتنتشر في سائر النصوص والانتاجات الأدبيّة.

7_ إنّ المجتمع المدني ليس مجتمع الواعين الذين يملكون حريّة الاختيار. لقد كان هذا المجتمع في مرحلته الأولى مجتمع المتوهمين الربحيين الذين كانوا ينشدون تحقيق المستحيل، وفي مرحلته الثانية أمسى مجتمع الذوات المضطربة والمرهونة بالعَبَثية الذين واجهوا أزمة تقويض المعنى. ولمّا كانت اللذة الجنسيّة هي اللذة الأخرى المشمولة بمشروع تقويض المعنى، أمست فاقدة للمعنى أيضاً. ولذلك ملأوا بيئتهم بضربٍ من الجنسانيّة السقيمة التي قال عنها «رولان بارت»[6]: (إنّ الجنسانيّة موجودة في كلّ مكان، إلّا في داخل الأمر الجنسي). إن المجتمع المدني في القرن العشرين وفي العقدين الأولَين من القرن الواحد والعشرين يمثّل تلك المدينة المأزومة في عصر ما بعد الحداثة التي تغوص يوميّاً

(146)

في مستنقع العبثيّة. إن أجهزة الإعلام وخطابها، والعلوم الإنسانيّة، والنظرية النيوليبرالية، وعالم الحياة الجنسيّة المنبثقة من رحم الثورة الجنسانيّة، والفنون والأدب والعمارة والثقافة المبنيّة عليها، كل هذه الحقول تهيمن على الإنسان الواقف في ساحة العبثيّة، وتحرّكه وتسيّره وتستخفّ بأساليبها وأدواتها الخاصّة من دون أنْ يشعر، وتقمع طاقاته ورغباته وامكانياته التي تستيطع النهوض به وتنميته، مبررة عبوديته تحت لواء الحريّة والبحث عن السعادة واللذة والرفاه. ولكن المحنة المستمرة التي يعانيها منها الإنسان المتورط بالمجتمع المدني المأزوم، (وهي محنة تبدومن دون سبب) تنذره دوماً بأنّه يواجه وضعاً خطيراً، وهوأسير في سجن مُظلِم. ولو إنّ الإنسان المنتمي للنزعة الذريّة (Atomism) والمرمي في عبثيّة المجتمع المدني الثاني لا يملك آذاناً صاغية لمثل هذا الإنذار. ولكن النزعة الذريّة ودوّامة (الربح_التلذذ) المغلَقة التي تسببت بانهيار المعنى على نطاق واسع، حتّى على صعيد (الربح والتلذذ)، ستنتج _كما تنبّأ هيغل _ انفجاراً هائلاً ومقوّضاً يمكن أن يكون مقدمة لمعرفة عمق الفاجعة التي يواجهها الإنسان الذرّي، عسى أن يعود لإيمانه الديني، ويُزيل عاهة (العبثيّة)، ويردم جدران سجن المجتمع المدني الليبرالي، ليتمتع بالحريّة باتباعه الولاية الإلهيّة.

(147)

الخلاصة

* إن الليبرالية الكلاسيكية هي أوّل أيديدولوجية بلورها الفكر الغربي الحداثوي.

* إن النظريات المنتمية لنظرية الليبرالية الديمقراطية هي المتحدّثة الرسمية باسم أصحاب رؤوس الأموال العلمانيين الإنسانويين في عالم الحداثة. وإن حقل الليبرالية الديمقراطية تتضمن ثلاث نظريات: الليبرالية الكلاسيكية، والليبرالية الاشتراكية (الديمقراطية الاشتراكية)، والنيوليبرالية (الليبرالية الجديدة).

* تبلورت الأسس الفكرية لليبرالية الكلاسيكية في القرن السادس عشر، وظهرت الليبرالية الكلاسيكية كنظرية واضحة المعالم في القرن السابع عشر. يُعَد «جون لوك» أحد أقطاب الليبرالية الكلاسيكية الذين قدّموا لأوّل مرّة صورة واضحة لمحاور الليبرالية الكلاسيكية وأساسياتها.

* إنّ النواة الأساسيّة لليبرالية الكلاسيكية

(148)

تتمثل بالحريّة الفرديّة، إذ يُعَبَّر عنها بالحرية الليبرالية، وإنّ جوهر الحرية الليبرالية يتمثّل (بالربح والتلذذ) بنزعة علمانيّة إنسانويّة.

* إنّ الحريّة الليبرالية باعتبارها حريّة نفسانيّة (ذاتنية) تسعى للحفاظ على المصالح الرأسماليّة. وبعبارة أخرى إن الحريّة التي تدعوإليها الليبرالية هي لدعم رأس المال ولتداوله بحريّة تامة.

* إن «نظرية التقدّم» و«نظرية حقوق الإنسان» ذات النزعة الليبرالية والإنسانويّة، وكذلك «نظرية المجتمع المدني» و«نظرية العقد الاجتماعي» هي من الفرضيات الأساسيّة والرئيسة في النظرية الليبرالية، وإنّ كلّاً منها تبرر بطريقة أوأخرى النزعة الرأسماليّة المعلمَنة التي تدعهما الليبرالية الكلاسيكية.

* إنّ النموذج السياسي الذي تقدّمه الليبرالية الكلاسيكية يدعوإلى بناء دولة صغيرة غير متدخلة، كي لا تتدخل في جشع أصحاب رؤوس الأموال وما يمارسونه من نهبٍ لثروات وحقوق الطبقات الفقيرة والمعدمة. وإنّ شعار

(149)

عدم تدخل الدولة في المجال الاقتصادي هوضمان عدم تدخلها في علمية جني الأرباح على حساب الفقراء.

* تؤمن الليبرالية الكلاسيكية بمجموعة من الأحكام الأخلاقية الثابتة التي يكون لها ماهية علمانيّة إنسانوية، وهي أخلاقيات تفصح عن شعارات الليبرالية ومتبنياتها، وتعكس نمط عيش الفرد الليبرالي والبرجوازي والنفعي والرأسمالي. إنّ جوهر هذه الأخلاقيات مناهض للعدالة.

* تتبنى الليبرالية الكلاسيكية شعار (التسامح والتساهل) المتجذّر في جهود أصحاب رؤوس الأموال المناهضة للدين ذات الطابع الماسوني. إنّ شعار التسامح والتساهل الديني والثقافي مؤطّر بالليبرالية والماسونية، ويعد وسيلة لبسط الجهود الرامية لمناهضة الدين.

* أرسيَت قواعد الليبرالية الكلاسيكية في القرن السابع عشر، وانتشرت وصعد نجمها خلال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر. ولكن

(150)

خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، ومع ظهور نتائجها الوخيمة هوى نجم الليبرالية الكلاسيكية وواجهت أزمة شديدة، واشتدّت الأزمة خلال العقود الأولى من القرن العشرين تزامناً مع الحرب العالمية الأولى، ومع بروز العديد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعيّة، ليتبلور بطلان أسسها الفكريّة وشعاراتها الواهية وفرضياتها، وفقدت اعتبارها بالتدرّج وعُزِلَتْ.

 

(151)
المؤلف في سطور شهريارزرشناس شهريار زرشناس مواليد 1928 في طهران،باحث في مجال الأدب والثقافة والسياسة الاسلامي. من مؤلفاته: دراسات في الرواية المعاصرة،شهريار زارشناس،الناشر:جمعية أفكار الشباب العدمية ،شهيار زارشناس،الناشر:جمعية أفكار الشباب بانوراما من الأدب المعاصر من zarshenas في بهلوي،الناشر : صباح كتب الأزمة العالمية للديمقراطية وفكرة الديمقراطية الدينية في ايران،شهريار زارشناس،الناشر:جيش جمهورية ايران الاسلامية،والجمهورية الاسلامية ، والمكتب السياسي-1383 الرأسمالية (الرأسمالية): نظرة عامة kalbdshkafanh لطبيعة والتطور التاريخي،شهريار زارشناس،الناشر:كتب الصباح المجتمع المدني zarshenas الناشر:كتاب صباحا-1381 حول zarshenas الديمقراطية،والناشر: صباح كتب النهج الدخل والمدارس الأدبية، الكتاب الأول: srbastan نهاية الرومانسية، شهريار زارشناس، الناشر: منظمة الثقافة الاسلامية والفكر الابحاث المنشورة النهج الدخل والمدارس الادبية،مكتب الثاني:عصر الواقعية للأدب ما بعد الحداثة،شهريار زارشناس،الناشر:منظمة الثقافة الاسلامية والفكر الابحاث المنشوره.
هذا الكتاب الليبرالية هذا البحث من سلسلة مصطلحات معاصرة محاولة لاحاطة بالليبرالية كنظرية ومصطلح ومفهوم فيه يقدم الباحث الايراني شهريار زرشناس قراءة تاريخية للنظرية الليبرالية بوجهيها الكلاسيكي والمعاصر،ويبين الأسس الفكرية والفلسفية التي ارتكزت اليها كما وردت في المدارس والتيارات الحديثة في اوروبا. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف