فهرس المحتويات

مقدمة المركز | 7

المقدمة | 9

■ الفصل الأول / جينالوجيا صدام الحضارات | 13

● المبحث الأول / تحديد مفهومي الصراع والصدام | 14

أولاً / مفهوم الصراع | 14

ثانياً / مفهوم الصدام | 20

● المبحث الثاني / صدام الحضارات في الفكر المعاصر | 25

أولاً / صدام الحضارات عند توينبي | 25

ثانياً / صدام الحضارات عند برنارد لويس | 31

ثالثاً / صدام الحضارات عند المهدي المنجرة | 35

● المبحث الثالث صدام الحضارات عند هنتنغتون | 40

■ الفصل الثاني / المرتكزات الفلسفية لأطروحة صدام الحضارات عند هنتنغتون | 55

● المبحث الأول / الأنموذج الحضاري | 56

أولاً/ فكرة الأنموذج | 56

ثانياً / توظيف هنتنغتون فكرة الأنموذج في أطروحته | 61

● المبحث الثاني / التفسير الحضاري عند هنتنغتون | 73

أولاً / التفسير الحضاري للتاريخ | 73

ثانياً / التفسير الحضاري عند هنتنغتون | 80

■ الفصل الثالث/ نقد صِدام الحضارات | 93

● المبحث الأول/  السياسة العالمية بين الدولة والحضارة | 94

● المبحث الثاني /النماذج النقدية لأطروحة صدام الحضارات | 101

أولاً/ حوار الحضارات | 101

ثانياً/ أنموذج تعارف الحضارات | 105

الخاتمة | 109

المصادر | 113

سلسلة مصطلحات معاصرة 3 العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية صدام الحضارات دراسة نقدية في جينالوجيا المفهوم تأليف قيس ناصر راهي
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها،وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظمة الفكرية المختلفة. ثانيا:إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لا سيما وأن كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقة. ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة رابعا::رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ومجال استخداماته العلمية فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الاخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية
(4)

الفهرس

مقدمة المركز7

المقدمة9

الفصل الأول / جينالوجيا صدام الحضارات

المبحث الأول / تحديد مفهومي الصراع والصدام14

أولاً / مفهوم الصراع14

ثانياً / مفهوم الصدام20

المبحث الثاني / صدام الحضارات في الفكر المعاصر25

أولاً / صدام الحضارات عند توينبي25

ثانياً / صدام الحضارات عند برنارد لويس31

ثالثاً / صدام الحضارات عند المهدي المنجرة35

المبحث الثالث صدام الحضارات عند هنتنغتون40

الفصل الثاني / المرتكزات الفلسفية لأطروحة

صدام الحضارات عند هنتنغتون56

المبحث الأول / الأنموذج الحضاري56

(5)

الفهرس

أولاً/ فكرة الأنموذج56

ثانياً / توظيف هنتنغتون فكرة الأنموذج في أطروحته61

المبحث الثاني / التفسير الحضاري عند هنتنغتون73

أولاً / التفسير الحضاري للتاريخ73

ثانياً / التفسير الحضاري عند هنتنغتون81

الفصل الثالث/ نقد صِدام الحضارات

المبحث الأول/  السياسة العالمية بين الدولة والحضارة94

المبحث الثاني /النماذج النقدية لأطروحة صدام الحضارات101

أولاً/ حوار الحضارات101

ثانياً/ أنموذج تعارف الحضارات105

الخاتمة109

المصادر113

(6)

مقدمة المركز

تكمن أهمية المصطلحات بما تحتويه من معاني ومفاهيم في أنّها:

1- أداة التعارف وتبادل المعلومات بين بني البشر.

2- انّ العلوم والمعارف ليست الّا مجموعة مصطلحات ومفاهيم مترابطة.

3- انّ المصطلحات بما فيها من علوم ومعارف هي التي تصوغ منظومة الإنسان المعرفية وشاكلته الفكرية.

4- انّ سلوك الإنسان العلمي والاجتماعي يُصاغ من خلال هذه المنظومة المعرفية وسلامتها واتقانها وبُعدها عن الخطأ يسلم الإنسان ويستقيم سلوكه وبتبعه يستقيم المجتمع.

فالمصطلح له أهمية مضاعفة لما يمتلكه من محورية في بناء الفرد والمجتمع، ومن هذا المنطلق جاءت هذه السلسلة: (أي سلسلة مصطلحات معاصرة) تسلط الضوء على ما كثر تداوله في الآونة الأخيرة سيما بعد الثورة المعلوماتية الكبيرة التي رفعت الحدود وأزالت القيود، وسهّلت عملية الوصول إلى الأوعية المعرفية لكل أحد حيث أخرجت العلوم بما فيها من مصطلحات تخصصية معروفة لأهلها؛ وأتاحتها لعامة الناس ممّا أدّى إلى فوضى معرفية هائلة.

وقد أدّت هذه الفوضى - في بعض حالاتها- إلى قطع جسور التواصل وعلق باب التبادل والتفاهم المعرفي بين الكاتب والقارئ،  

(7)

فانغلقت النصوص لانغلاق معاني المصطلحات وبُعدها عن ذهن القارئ وعدم أُنسه بها وعدم وقوفه على سير تطورها منذ النشأة والى يومنا الحاضر.

جاءت هذه السلسلة لتسد هذا الفراغ، وتقدّم المصطلحات المعاصرة إلى القارئ الكريم بنظرة تحليلية نقدية، ليقف المطالع على حقيقة الأمر ويأمن الخطأ والزلل.

*      *      *

هذه الحلقة من سلسلة مصطلحات معاصرة، تُلقي الضوء على مصطلح صدام الحضارات، الذي تحوّل إلى مفهوم شائع في الفكر السياسي العالمي المعاصر، كما تُعاين ظروف نشأته والأسباب الفكريّة والسياسيّة، التي أفضت إلى ولادته والسجالات التي ترتّبت عليه بين النخب، وعلى مستوى مراكز الدراسات والأبحاث.

في هذه الدراسة يتناول الباحث العراقي قيس ناصر راهي هذا المفهوم الذي كان المفكر الأميركي صموئيل هنتنغتون من أبرز الذين اقترحوه في سياق التنظير للأطروحة الأميركية وسيادتها على العالم بعد نهاية الحرب الباردة.

يشرح المؤلّف هذا المفهوم ويسلط الضوء عليه في فصول كتابه الثلاثة مع الإشارة إلى جذور المفهوم وأسبابه وامتداداته وما اُخذ عليه شرقاً وغرباً.

 

والله ولي التوفيق

(8)

المقدمة

مع انتهاء الحرب الباردة دأب عدد من المفكرين على البحث واستشراف صورة العالم، والتحديات التي قد تواجه البشرية في المستقبل، وفي هذا الإطار انبثقت أطروحة صدام الحضارات، فذاع صيتها لأسباب عديدة أبرزها وقوف الخطاب الاعلامي الغربي معها وإسهامه بالترويج لها، فضلاً عن عدّ الحضارة محوراً للسياسة العالمية بعد أن كانت الدولة هي المحور، لذلك يبدو أن مفهوم صدام الحضارات للوهلة الأولى يسعى لتوضيح الأسس التي تتحدد من خلالها العلاقات بين الدول في وسط جو من التنافس بين مراكز الحضارة التي تسود عالمنا الكبير، لما لها من أثر واضح في السياسة الدولية بل حتى السياسة الداخلية لعدد من الدول.

ومن خلال نظرة شاملة لمسرح الأحداث العالمية يُلحظ أن الصدام الذي يبدو للعيان هو صدام بين الدول تستنجد وتستنفد تلك الدول بكل ما أوتيت به من قوة عسكرية و سياسية، لكن ما الذي يختفي خلف ستار كواليس الحروب؟ إنها الثقافات، إنها الأيديولوجيات، إنها الحضارات، لذلك نجد أن مؤلف كتاب صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي الجديد قد كشف عن المحرك الذي لا يتوقف في دفع ذلك الصدام بديمومة بين الدول، وهذه ظاهرة بدأت تبدو للعيان.

اعتاد كثير من الباحثين التعبير عن صدام الحضارات بصر

(9)

الحضارات، فهل هذان المفهومان مترادفان أم إنهما مختلفان؟ هذا ما سنحاول الوقوف عنده في المبحث الأول من الفصل الأول من خلال تحديد مفهومي الصراع والصدام، ولأن فكرة صدام الحضارات لها امتدادات في الفكر المعاصر، فقد جاء المبحث الثاني تعريفاً بهذه الامتدادات عند كل من توينبي، وبرنارد لويس، والمهدي المنجرة، وربما يكون هناك من الباحثين من قال او أشار إلى فكرة صدام الحضارات من غير المذكورين سابقاً، لكن هؤلاء هم الأبرز بناءً على ما تضمنته دراساتهم من استغراق في بحث الفكرة والتنظير لها، أما المبحث الثالث فقد تضمن تعريفاً بالسيرة الفكرية لهنتنغتون وعرضاً لمؤلفاته ولاسيما كتابه الذي تضمن فكرة صدام الحضارات، والتعرض لأبرز الأفكار التي احتواها. 

لقد استثمر هنتنغتون كل ما يمكنه من حقل الدراسات الفلسفية لصياغة أطروحته (صدام الحضارات)، ووظفها أيديولوجيا، فقد لجأ إلى فلسفة العلم ليستعير منها فكرة الأنموذج لتأييد أطروحته فضلا عن لجوئه إلى فلسفة التاريخ لتمكنه من تقديم تفسير حضاري للسياسة العالمية المعاصرة، وهذا ما سنسعى إلى الوقوف علية في الفصل الثاني، ولهذا عني المبحث الأول بمعالجة فكرة الأنموذج، وكيفية توظيف هنتنغتون لها، أما المبحث الثاني فقد تضمن معالجة التفسير الحضاري عند هنتنغتون، ومقاربة رؤيته مع رؤى ابرز رواد هذا التفسير. 

وكان للباحث وقفة نقدية مع هذه الأطروحة (صدام الحضارات) لمعرفة الدور الذي تلعبه الدولة بعد أن جعل هنتنغتون الحضارة هي  

(10)

محور السياسة العالمية، حين ازداد الصدام بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، في الوقت الذي تبدو فيه الصحوة الإسلامية في عالمنا وهذا ما دفع هنتنغتون إلى أن يُضفي صبغة دينية على النزاعات السياسية الجارية فيه. 

وحين يأتي الحديث عن المشاريع الحضارية يكون هناك أيضاً الحاح سؤال عن المستقبل وعن وعي الإنسان بشكل عام، وعلى وعي الإنسان العربي المسلم بشكل خاص، وهو ما يدفعه إلى التوتر وطرح سؤاله القلق عن موقعه الآتي من مسيرة الحضارة، والقلق على مصيره في زمن شهد و يشهد فيه الفكر الانساني تحولات مختلفة منذ نشأته، وصعودا إلى زمننا الحاضر، فمن الثورة الزراعية مرورا بالثورة الصناعية وصولا إلى الثورة المعلوماتية والتكنلوجية هو زمن التقدم اذن. لكن بما ان العالم العربي الإسلامي طرف يعيش فيه على وفق سياقات وشروط خاصة به تفرض عليه تلك السياقات ان يقدم نظرة اكثر واقعية لتحديد موقفه مما يستجد من خطابات، وهنا يبدو ان الخطاب الهانتغتوني قد فعل فعله، فحين يكون هناك من يدعو إلى حوار وتعارف بين الحضارات اذن كان هناك من دعا إلى صدامها مسبقا منبعثا من غايات، فكان هو الوسيلة لتحقيقه، فلم يتركها عاجزة عن تنفيذ ما عجزت عنه الحروب؟، ولاشك في ان كلا من الحوار والتعارف يمثلان الشكل الاسمى من الصراع، فلينظر كل إلى اي ينتمي.

وحين يكون كل ذلك اين نكون ؟ أنكون في ظل الاعتزاز بالتراث لنعود إلى بدء؟ التراث الذي أُنتج في لحظات مماثلة  

(11)

للحظة الأزمة التي يشهدها الإنسان المسلم في الوقت الحاضر او في ظروف أخرى أيضا، وما كان لمفكرينا الآن إلا إعادة استرجاعها وإعادة إنتاجها وتطوير خطابها بما يتلاءم والظروف المستجدة لتلبي حاجات العصر. هكذا يبدو المشروع الحضاري الإسلامي سواءً في تعارف الحضارات أو حوار الحضارات فمصطلح التعارف يعود ابتكاره إلى القرآن، أما مصطلح الحضارة فهو موضوع محمول في النص القرآني أيضا بالمعنى والدلالة التي يتم تداولها اليوم حين وردت في الآية الكريمة (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) (سورة الأعراف 163)

(12)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

جينالوجيا صدام الحضارات

(13)

المبحث الأول:

تحديد مفهومي الصِدام والصراع

يستعمل بعض الباحثين العرب مفهوم الصراع Conflict للدلالة على مفهوم الصدام Clash في خلال حديثهم عن صدام الحضارات، فهل هذا يعني أَن مفهومي الصدام والصراع يحملان المعنى نفسه أم ان لكل منهما معنى مختلفاً؟ وللإجابة عن هذا السؤال لابد من الوقوف على مفهومي الصراع والصدام في اللغة والاصطلاح.

أولاً / مفهوم الصراع Conflict

تدل لفظة الصراع في اللغة على المعنى الآتي ((صَرعهُ – صرعاً، طرحه على الأرض، ويقال: صرعتهُ المنية، وصَرعت الريح الزرع، فهو مصروع وصريع))[1](1).

أما في موسوعة لالاند الفلسفية، فإن معنى الصراع هو ((علاقة قوتين أو مبدأين تستلزم تطبيقاتها على شيء واحد تعيينات متناقضة، هناك بوجه خاص صراع واجبات عندما يظهر عمل واحد في الأخلاق العملية مشروعاً وغير مشروع في أن يحسب القاعدة المعتمد عليها، يمكن وجود نزاع سلطة واحدة مع ذاتها إذا كانت لا تستطيع الانطباق على موضوع معين دون أن تقع في تناقض  

(14)

((صراع العقل مع ذاته))، وان عبارة صراع الميول مستعملة في علم النفس، وفي التحليل النفسي خصوصاً فيما يتعلق بالمنازعات بين الوعي واللاوعي في ظاهرة الكبت))[1]، وفي المعجم الفلسفي نجد جميل صليبا يقول إن أصل الصراع ((نزاع بين شخصين يحاول كل منهما أن يتغلب على الآخر بقوته المادية، كالصراع بين الأبطال الرياضيين، أو الصراع بين الدول في الحرب، ويطلق الصراع مجازاً على النزاع بين قوتين معنويتين تحاول كل منهما أن تحل محل الأَخرى كالصراع بين رغبتين، أو نزعتين أو مبدأين أو وسيلتين، أو هدفين أو الصراع بين القوانين أو الصراع بين الحب والواجب، أو الصراع بين الشعور واللاشعور في ظاهرة الكبت ولهذا النوع من الصراع عند علماء النفس خطورة بالغة في تفسير مظاهر الشخصية والشخصية الشاذة))[2]، أما في معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية فإن الصراع يعني: ((أحد أنماط التفاعل الاجتماعي الذي ينشأ عن تعارض المصالح وهو الموقف التنافسي حيث يعرف كل من المتنافسين غريمهُ، ويدرك انه لا سبيل إلى التوفيق بين مصالحه وبين مصالح الغريم، فتنقلب المنافسة بهمتها إلى صراع حيث يعمل كل منهما على تحطيم الآخر والتفوق عليه))[3]، وفي موسوعة السياسة تدل لفظة صراع على وجود ((تنافس أو صدام بين اثنين أو

(15)

أكثر من القوى أو الأشخاص الحقيقيين أو الاعتباريين (كالشركات والدول) يحاول فيه كل طرف تحقيق أغراضه، وأهدافه، ومصالحه، ومنع الطرف الآخر من تحقيق ذلك بوسائل وطرق مختلفة، والصراع ظاهرة طبيعية في الحياة والمجتمعات الإنسانية، وفي كل الميادين، وقد يكون مباشراً أو غير مباشر سلمياً أو ملحاً واضحاً أو كامناً، وأشهر أنواع الصراعات هي الصراع الدولي والصراع الطبقي))[1].

من خلال ما ذكر سابقاً يتبين أَن الصراع هو حالة متبادلة بين شيئين أو أمرين يحاول كل منهما التغلب على الآخر وإلغاءه لأن اجتماعهما غير ممكن، ومن أشكال الصراع، الصراع الاجتماعي وصراع الميول النفسية، ولنا ان نأخذ شكلاً من أشكال الصراع مثالاً تعريفياً وهو الصراع الاجتماعي.

وهو ((الاتجاه الذي يهدف إلى الفوز على الأفراد أو الجماعات أو الإضرار بها أو بممتلكاتها أو ثقافتها أو بأي شئ تتعلق به، ومن ثم يأخذ الصراع شكل هجوم أو دفاع))[2]، يؤكد الفكر الاجتماعي للقرن التاسع عشر أهمية الصراع الاجتماعي في تنمية المجتمعات ونهوضها، ومن أبرز النظريات التي فسرت الصراع الاجتماعي النظرية الدارونية التي تعد امتداداً لنظرية هوبز القائلة بأن المجتمع هو في حالة صراع مستمر فالقوي دائماً يسلب حقوق الضعيف، وهذا القوي لابد أن يضعف فيقدم عليه شخص أقوى منه فيسلبه

(16)

أمواله وحقوقه، وقد أيدت نظرية دارون(Charles Darwin)[1] نظرية هوبز لكنها أضافت بأن البقاء هو للأصلح وأنَّ الصراع الذي يخوضه الجنس البشري ما هو إلا حالة طبيعية يمارسها بصورة مستمرة من اجل البقاء[2]، والصراع من أجل البقاء هو ((مقاومة الكائنات العضوية لعوامل الطبيعة الحية وغير الحية غير الملائمة لحياتها وانتشارها، ونتيجة لهذا الصراع فإِن الأنواع التي تتكيف على نحو أفضل مع ظروفها البيئية تعيش وتنتج أوفر سلالة وأكثرها مقدرة على الحياة، والصراع من أجل البقاء واحد من أشكال العلاقة بين الكائنات الحية داخل النوع الواحد وبين ممثلي الأنواع المختلفة))[3]، ومن ثم تطورت نظرية دارون اثر انتقالها من الميدان البيولوجي إلى ميدان المجتمع البشري، فالمجتمع في هذه الرؤية  ميدان صراع لا يرحم، يكسب فيه الأقوى، والصراع الاجتماعي عندهم ليس إلا صورة من صور الصراع على البقاء بين الأقوياء والضعفاء[4].

أما النظرية الأخرى التي فسرت الصراع الاجتماعي فهي النظرية الماركسية اذ اعتقد ماركس ان جوهر الصراع يكمن في التضارب

(17)

والتناقض بين مصالح الطبقات الاجتماعية التي تقررها طبيعة العلاقات الإنتاجية التي يكونها الإنسان مع وسائل الإنتاج والتي تقود إلى الصراع الطبقي الدائم[1]، حيث يذكر ماركس وانجلز في البيان الشيوعي[2] ((ان تاريخ المجتمعات كلها حتى يومنا هذا لهو تاريخ الصراع الطبقي ذلك أَن الحر والعبد، والنبيل والعامي، السيد والخادم، المعلم والصانع، وباختصار فإِن المستغِلين والمستَغَلين كانوا دائماً في مواجهة محتدمة، فانتظموا في صراع غير منقطع، ظاهر للعيان أحيانا، ومستتر في أحيان أخرى، انتهى تارة بانقلاب ثوري شمل المجتمع بأسره وتارة أخرى بانهيار الطبقتين المتصارعتين معاً))[3]، وبعد تطبيق ماركس للمادية التاريخية التي هي تطبيق للمادية الجدلية على الحياة الاجتماعية والسياسية يستنتج من التطور التاريخي وما تخلله من نظم اجتماعية ((إنَّ كل نظام اجتماعي يحمل في داخله بذور فنائه، ففي كل نظام اجتماعي تنشأ قوى تناهضه وتقاتله حتى تقضي عليه وتزيله لتنشئ مكانه نظاماً جديداً، وفي هذا النظام الجديد تنشأ قوى جديدة تناهضه وتقاتله

(18)

حتى تقضي عليه وتقيم مكانهُ نظاماً جديداً، وهكذا يتسم التاريخ بتقديم نظم اجتماعية جديدة وفي حلقات متصلة قائمة أساساً على التناقض متبلورة في الصراع بين الطبقات)) [1].

من خلال ما تقدم يتبين ان نظرية الصراع الاجتماعي تنظر إلى الظواهر الاجتماعية سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل على أنها نتيجة للصراع الذي يعد المحور في العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس العدائية او الفوارق الطبقية.

وفي الفكر الفلسفي الإسلامي هناك من رأى أن المجتمع وتكوينه قائم على أساس الصراع أمثال ابن خلدون الذي أعطى للصراع العصبي[2] أهمية كبيرة في دراسته للمجتمع العربي اذ جعل من هذا الصراع القوة المحركة للتاريخ وعده طبعاً من طبائع العمران، فهو في منظوره نتيجة لطبيعيتين بشريتين متناقضتين، الأولى منها نزعة طبيعية تمثل صلة الرحم، والثانية الطبع العدواني الذي يمثل أهم مظهر من مظاهر آثار الحيوانية فيهم من جهة أخرى[3].

يقول ابن خلدون عن صلة الرحم ((وذلك ان صلة الرحم طبيعي

(19)

في البشر إلا في الأقل ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة فإِن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبة أو العداء عليه ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المصاعب والمهالك نزعة طبيعية في البشر منذ كانوا))[1]، أما عن العدوان الذي يتحدث عنه ابن خلدون ويجعل منه الحافز الموقظ للعصبية فإِنه يستهدف المعاش بالمقام الأول[2].

وتأسيساً على ما تقدم  فإن الصراع العصبي الذي هو رؤية تفسيرية للظواهر الاجتماعية يكون قائماً على أساس نعرة البشر وعلاقاتهم بأرحامهم، وكذلك العدوان الذي يهدف إلى الحفاظ على البقاء، وعليه فإن نزعة صلة الأرحام والعدوان من أجل البقاء يكونان ركيزة أساسية للصراع العصبي الذي يكون محركاً للتاريخ عند ابن خلدون.

ثانياً /مفهوم الصدام Clash

لقد ورد في اللغة الحديث عن معنى الصدام بما يأتي ((صدم الشيء صدماً: صكهُ ودفعه ويقال صدم الرجل غيره وصدمة الشر بالشر وصدمهُ بالقول: أسكته، (صادمه): مصادمة وصداماً: دافعهُ (اصطدما): صدم كل منهما الآخر (تصادماً): اصطدما: ويقال: تصادمت الآراء: تضاربت (الصدمة): الدفعة يقال: صرعهُ بصدمة))[3].

(20)

وفي موسوعة السياسة ورد لفظة صدام وهي تعني ((مفهوم اجتماعي معارض للنظرية الوظيفية التكاملية في البناء الاجتماعي ينطلق من الواقع التاريخي الذي يشير إلى ان التضارب في القيم والمصالح يشكل ظاهرة عضوية في الأشكال والعلاقات الاجتماعية، وتحتل ظاهرة الصدام موقعاً هاماً في نظريات علم السياسة لأنها تفرض التنظيم السياسي بوصفه ضرورة للمجتمع، وتبرر استخدام القوى والإكراه في السياسة، وتفسر ظاهرة الدولة ومركزية السيادة في التنظيم السياسي للمجتمع، وينشأ الصدام بوصفه محصلة للتعددية الاجتماعية كما ينشأ عن اصطدام لا محدودية المطالب الفئوية بمحدودية الموارد والثروة في المجتمع كما ان التمركز الاجتماعي يأخذ أشكالاً هرمية تؤدي إلى قيام ظاهرة الغنى والفقر والحاكم والمحكوم (علاقات القوة في المجتمع)، ولقد سعت السياسة والنظريات السياسية إلى احتواء ظاهرة الصدام نظراً لان إطلاقها يحول الحياة الاجتماعية إلى حالة تسودها (شريعة الغاب)، فلا قانون ولا رادع أو نظام إلا القوة الوحشية العارية التي لا تعرف الرحمة أو العدالة، ومن البديهي أن يكون ذلك في غير صالح ترقية الحياة المنتظمة والمتحضرة بل حتى ضد جميع أشكال التنظيم الاجتماعي المقدم بما في تلك العائلة، وعلى هذا الأساس لجأت المجتمعات البشرية إلى تأطير الصدام وتقنينه في إطار العقد الاجتماعي أو في ضمن مفهوم السلطة والقبول بمنطق تقديم التنازلات(عن الحرية المطلقة) مقابل التمتع بميزات السلم الاجتماعي والالتزام بمحاولة تحقيق الأهداف والمصالح والقيم الاجتماعية بأشكال وطرق قانونية مشروعة))[1].

(21)

يتبين مما سبق ان الصدام هو حال متبادلة بين شيئين أو أمرين إلا أن اجتماعهما ممكن وهذا المفهوم أبرز ما يميز الصدام عن الصراع الذي لا يمكن فيه الاجتماع أو التعددية ومن الممكن السيطرة على الصدام. أما الصراع فلا يمكن السيطرة عليه، ومن أشكال الصدام ((صدام الحضارات)) فقد اشتهر استعمال عبارة صدام الحضارات في نهايات القرن العشرين بالرغم من ظهورها في بدايته، وقبل الوقوف على معنى هذه العبارة سنحاول معرفة معنى الحضارة.

لقد كان أول ظهور لمصطلح Civilization في فرنسا، اذ كانت كلمةCivilize في البداية مرادفة في معناها لوجود حكومة جيدة، أو حكومة منظمة جيداً  Policeمن الناحية الاجتماعية، وسرعان ما أصبحت كلمة Civilization تعني ما هو أكثر من مجرد شكل محدد للحكومة، بل أصبحت تدل على عملية نقل الناس من العادات والمؤسسات والوجود المادي الذي كان يوصف بالبدائية إلى شكل آخر أكثر رقياً وتحضراً [1]، وقد صاحب انتشار لفظ الحضارة في أوربا لفظ Culture الذي يعني الثقافة وهذا المعنى قريب من المعنى الذي يحمله لفظ الحضارة فأصبح لفظ الثقافة مرادفاً للفظ الحضارة[2]، وأول من استعمل اللفظ هم الألمان، فقالوا إن لفظةKulture   تعني الحضارة، واستعملوها بهذا المعنى زمناً طويلاً، إذ اخذوا اللفظة من أصلها اللاتيني، وهي تعني من اللاتينية إصلاح الشيء وتهذيبه وإعداده للاستعمال [3].

(22)

وتعرف الحضارة ((بأنها التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير على السواء)) [1]، والحضارة بوصفها شكلاً من العمران البشري يخبرنا عنها ابن خلدون بأنها ((تفنن في الترف وأحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله، فلكل واحد منها صنائع في منتجاته، والتأنق فيه تختص به، ويتلو بعضها بعضاً، وتتكثر باختلاف ما تنزع إِليه النفوس من الشهوات والملاذ والتنعم بأحوال الترف وما تتلون به من العوائد))[2].

يتضح مما تقدم ان مفهوم الحضارة فُسر معناه على أساس انه مضاد للبربرية أو البداوة أما المعنى الثاني فأنه يقارب لمفهوم الثقافة.

و يبدو أن استعمال عبارة Civilization The Clash of وترجمتها إلى صدام الحضارات يجعل من مدلول Clash أقرب إلى الصدام منه إلى الصراع إذ إِن الصدام ((حالة التأثير الحاصل بين شيئين متجانسين، أو غير متجانسين في مادة التكوين (الطبيعة) أو الفاعلية (السبب) أو الغائية(الغرض)، لدى التقائهما في زمان ومكان معينين، إذا أعاق احدهما انتشار الآخر أو منعه أو دعاه إلى التراجع))[3]، أما الصراع ((فيعني حالة التأثير الفاعل المتبادل بين شيئين او أمرين غير متجانسين في مادة التكوين (الطبيعة) أو الغائية (الغرض)، لدى التقائهما في زمان ومكان معينين، حالما ينتشر أحدهما باتجاه

(23)

الآخر، لأن اجتماعهما غير ممكن بسبب اللاتجانس في تلك الخاصيات الثلاث، التي تشكل الواحدة منها قوة طاردة لنقيضها (الخصم)))[1]، وفيما يتعلق بتعريف صراع الحضارات فيقول احد الباحثين ((وهذا يعني ان فكرة معينة (أطروحة، إثباتا) لا يمكن أن تلقي مع خصيمها النقيض (طباق، نفي) إلا إذا أدخلت تغييرات جذرية عليهما معاً، وما ينتج عن ذلك، ليس اجتماع الفكرتين بل فكرة ثالثة جديدة تنتفي منهما التناقضات الضمنية (تركيب، نفي النفي) ولو كانت تشبه كلا من سابقتها باعتبار ما))[2].

 وربما من خلال الكلام السابق تتحقق الإجابة عن السؤال الذي طرح في بداية المبحث، وهو هل ان مفهومي الصدام والصراع يحملان المعنى نفسه أم ان لهما معاني مختلفة؟ وتكون الإجابة من خلال ما ذكر سابقا هو إن مفردة الصدام مختلفة عن مفردة الصراع وان الأصح استعمال مفردة صدام الحضارات بدلا من صراع الحضارات في ترجمة  The clash of civilization، ذلك لأن في صدام الحضارات إشارة إلى إمكان وجود حضارات متعددة في آن ومكان معينين أما في صراع الحضارات فإِنه لا يمكن ذلك.

(24)

المبحث الثاني:

 صدام الحضارات في الفكر المعاصر

لقد شهد القرن العشرين حروباً بين دول تنتمي إلى حضارات مختلفة، مما دفع بعض  المفكرين إلى إرجاع أسباب هذه الحروب إلى الخلفية الحضارية التي تنتمي اليها هذه الدول، ولم يتوقف التأمل الفكري عند هذا الحد بل تجاوزه إلى تقديم رؤية عن العلاقات الدولية المستقبلية المتمثلة بصدام الحضارات، ومن اجل بيان هذه الرؤى سنقف عند أبرز من قال بهذه الأطروحة لتفسير العلاقات الدولية.

أولاً/ صدام الحضارات عند ارنولد توينبي(Arnold Toynbee)[1]

لعل ابرز من تحدث عن صدام الحضارات في بداية القرن الماضي هو ارنولد توينبي اذ كان حديثه عن هذه الفكرة جزءاً من تصوره لاهتمامات المؤرخين في الثلاث آلاف سنة المقبلة،  فذكر أَن أهم قضية سينشغل بها المؤرخون هي قضية صدام الحضارات.

والحضارة عند توينبي هي ((أصغر وحدة من الدراسة التاريخية

(25)

يصل المرء إليها عندما يحاول أن يفهم تاريخ وطنه كالولايات المتحدة أو المملكة المتحدة مثلاً))[1]، أي إِنها كيان اجتماعي موحد لا يمكن فهمها بعيداً عن تأثيرات الظواهر الاجتماعية التي تظهر في المجتمع، فهي وحدة حضارية تهيئ للدارس الأرضية التي يمكن أن يفهم من خلالها تعيين وتحديد عوامل نشوء المجتمع وعوامل اندثاره ايضاً[2]، وهذا يعني أَنه لا يمكن دراسة انجلترا تاريخياً بصورة مستقلة عن تاريخ سائر دول أوربا، وان الوحدات التاريخية لمجتمعات العالم هي: الحضارة المسيحية الغربية، والحضارة المسيحية الشرقية الأرذوكسية، و الحضارة الإسلامية، و الحضارة الهندية، وحضارة الشرق الأقصى، وهذه هي الحضارات الخمس المتبقية من إحدى وعشرين حضارة تحدث عنها توينبي في دراسته للتاريخ[3].

أما صدام الحضارات[4]، فهو الموضوع الذي تناوله توينبي بصورة واضحة في كتابه الحضارة في الميزان[5]، إذ بدأه بسؤال

(26)

حاول الاجابة عنه في مفاصل الكتاب، ونص السؤال يمثله قوله ((ما هي الحادثة التي سيقع عليها اختيار مؤرخي المستقبل ويرون أنها أبرز الحوادث في عصرنا إِذا ما نظروا وراءهم إلى النصف الأول من القرن العشرين وحاولوا أن يروا ما جرى فيه من وجوه النشاط والتجارب بتلك النسبة الدقيقة التي تكشف عن النظرة الشاملة إلى الزمن في بعض الأحيان؟))[1].

وينفي توينبي أن تكون الحادثة التي ستشغل القرن الحادي والعشرين من الحوادث السياسية والاقتصادية المثيرة أو المفجعة التي تشغل عناوين الصحف، وتحتل مكاناً متقدماً في أذهاننا، ولا من الحروب والثورات والمذابح وحوادث النفي والمجاعات وإغراق الأسواق بالسلع والهبوط الفجائي في الأسعار وازدهار الحالة الاقتصادية[2]، إنما الأمر الذي سيشغل مؤرخي المستقبل هو اصطدام الحضارة الغربية بسائر الحضارات الأخرى وهذا ما يشير اليه بقوله ((إِن مؤرخي المستقبل سيقولون إِن الحادثة الكبرى في القرن العشرين هي اصطدام الحضارة الغربية بسائر المجتمعات الاخرى القائمة في العالم إبان ذلك العصر وسيقولون عن هذا الصدام انه بلغ من القوة والشمول بحيث أدى إلى قلب حياة ضحاياه رأسا على عقب وبطناً لظهر وأثر بشدة في سلوكهم وآرائهم ومشاعرهم وعقائدهم رجالاً ونساء وأطفالاً من أوتار الروح ما لا تحسه القوى المادية الخارجية وحدهما مهما بلغ من شدتها وهولها. إنني اعتقد

(27)

ان هذا ما سيقوله المؤرخون الذين ينظرون خلفهم إلى عصرنا حتى من تلك السنة القريبة منا إلا وهي سنة 2047م))[1].

ومن الممكن أن نحصي توقعات توينبي للمؤرخين على مدى ثلاثة آلاف سنة القادمة بما يأتي:

1- مؤرخو سنة 3047 م، يذكر عنهم توينبي أنهم سيهتمون بتأثيرات الحضارات المعتدية على الحضارات المعتدى عليها، وهذه التأثيرات راجعة إلى الحضارة المعتدية قبل ذلك الوقت، أما عن الحضارة الغربية فإِنه يقول ((وربما تكون الحضارة الغربية قد تغيرت قبل نهاية سنة 3047 تغيراً يكاد يكون تاماً عما فهمه أسلافنا الغربيون خلال الاثني عشر أو الثلاثة عشر قرناً الأخير منذ بروزها من القرون الوسطى، وذلك بفعل إشعاع المؤثرات المضادة الصادرة عن العوالم الأجنبية التي تعمل اليوم على ابتلاعها في عالمنا مؤثرات من العالم المسيحي الارذوكسي ومن الإسلام ومن الهندوس ومن الشرق الأقصى))[2].

2- مؤرخو سنة 4047، يذكر عنهم توينبي أنهم سيقولون: إنَّ اصطدام الحضارة الغربية بمعاصريها في النصف الثاني من الألف العام الثاني الميلادي هو أهم حادث في ذلك العصر لأنه سيكون الخطوة الأولى نحو توحيد العالم في مجتمع واحد [3](11).

3- مؤرخو سنة 5047م يقول عنهم توينبي ((أظن ان مؤرخي سنة 5047 سيقولون ان أهمية هذا التوحيد الاجتماعي للعالم لا تمثل في

(28)

ميدان الفنون الصناعية والاقتصاد ولا في ميدان الحرب والسياسة إنما تمثل في ميدان الدين))[1](12).

بالرغم من ان حديث توينبي ينصب على تصوره لاهتمامات مؤرخي المستقبل، لكنه يجعل العصر الذي ينتمي اليه محوراً اساسياً في دراسته ويمكن أن نستنتج من كلام توينبي أربعة مميزات لعصره:

الميزة الأولى/ صدام الحضارات

الميزة الثانية / مؤثرات الحضارات غير الغربية في الحضارة الغربية.

الميزة الثالثة / الحضارة العالمية الناتجة عن اصطدام الحضارة الغربية بالحضارات الأخرى.

الميزة الرابعة / مركزية الحضارة العالمية تأتي من توحيد الدين.

فضلاً عن هذا نستنتج من كلام توينبي ان المحور في هذا الصدام هو الحضارة الغربية، أما الأسباب التي دفعت توينبي إلى هذا التصور فإِنه يحصرها بما يأتي:-

أولاً: امتلاك البشرية تاريخاً عمره ستة آلاف سنة يمكن من خلاله الحكم على المستقبل[2](13).

ثانياً: تشابه انتشار الحضارة الغربية بانتشار الحضارة اليونانية

(29)

الرومانية على يد الاسكندر الأكبر، اذ لم يبقَ في العالم إلا أمريكا الوسطى التي لم تصلها الحضارة اليونانية الرومانية[1].

ثالثاً: عند النظر في تاريخ العالم اليوناني الروماني خلال القرون الأربعة الأولى ق.م، يتبين أَن حركة غزو الحضارة اليونانية الرومانية للعالم هي التي تبرز دون سواها [2].

رابعاً: ويرجع اهتمامه بالصدام بين الحضارة الرومانية اليونانية والحضارات الأخرى إلى ردة فعل الحضارات الاخرى(الهجوم المضاد) ضد العالم الروماني اليوناني [3].

خامساً: إنَّ صدام الحضارة الرومانية اليونانية بالحضارات الأخرى يماثل صدام الحضارة الغربية بالحضارات المعاصرة لها [4].

سادساً: وهذا المقياس الزمني الذي وضعه توينبي وكون من خلاله رؤيته عن الصدام بين الحضارة الغربية والحضارات المعاصرة في هذه المرة لم يبدأ الغرب بالصدام وإنما بدأه العثمانيون وفي هذا يقول ((ويمكن القول: إِن هذا الصراع بدء بهجوم العثمانيين على مواطن الحضارة الغربية وبرحلات الكشف الكبرى التي قام الغرب بها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي وطوال هذه المدة لا يزيد على أربعة قرون ونصف حتى الوقت الحاضر))[5].

(30)

ثانياً/ صدام الحضارات عند برنارد لويس(Bernard Lewis)[1]

يذكر برنارد لويس في مقدمة كتابه «في الإسلام» 2005 وبافتخار انه كان أول من أطلق عبارة «صدام الحضارات»، وذلك منذ عام 1957، بعد الأزمة التي أثارتها قضية تأميم قناة السويس من قبل مصر في زمن الرئيس جمال عبدالناصر في 29 سبتمبر 1956 اذ يقول في هذه المقدمة ((باستطاعتنا أن نفهم جيداً مشاعر الاستياء والحقد اللذين هيمنا على شعوب الشرق الأوسط، وفي هذه الأيام إذا اعتبرنا ان التوتر القائم الآن ليس ناجماً عن صراع بين دول أمم، وانما هو نتيجة لصدام بين حضارتين (000) لقد بذلت قصارى جهدي من اجل تقديم

(31)

شكل الشرق الأوسط باعتباره ليس مجرد صراع بين الدول، بل هو بالأحرى صدام بين الحضارات))[1].

 ولم يكتفِ برنارد لويس بقوله بصدام الحضارات في عام 1957، بل أعادها في عام 1990 إذ يقول ((علينا أن نفكر في الأمر على انه صدام للحضارات ورد فعل قد يكون انفعاليا، ولكنه بالتأكيد حقيقي وتاريخي، انه رد فعل خصم قديم لتراثنا اليهودي والمسيحي، ولحاضرنا الحداثي المعاصر))[2]، فقد خصص موضوعات عدة للبحث في صدام الحضارات، ((فهو في جانب تتبع أصول العلمانية في الغرب مشدداً على الفصل بين الكنيسة والدولة في الصراعات المسيحية، وانتقل إلى الموازنة بينها وبين الإسلام الذي أوضح ان هناك اختلافات دينية فيه بين الفرق والمذاهب التي تنتمي له لكنها حسب رؤيته لم تبلغ الشدة التي وجدت بين البروتستانت والكاثوليك وحسب رأيه ان الإسلام ليس مهيئاً نظرياً ولا عملياً إلى العلمانية، وأن رد الفعل الإسلامي على تنامي الحضارة الغربية تمثل من جهة بالإعجاب بها ومن جانب آخر بالرغبة في منافستها ومحاكاتها غير أنها محاكاة نابعة من الضعف والفقر والتخلف الذي يعيشه المسلمون فانقلب إلى حالة عداء ورفض، فقد شعر المسلمون بالخيبة والذلة بواقعهم بأنهم ورثة حضارة قديمة

(32)

يفتخرون بها))[1]، يتضح من كلام لويس ان الصدام بين الحضارات هو صدام بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، ولكن المحرك لديه في الصدام ليس الغرب بل الإسلام إذ يشير إلى ان الثقافة الدينية الإسلامية يوجد فيها حالة من الجيشان والتمزق حينما يثور الغضب ليكون الوسيلة لخليط ممزوج من الكراهية والمقت يدفعان حتى الحكومات العريقة والمتحضرة، وحتى المتحدثين باسم ذلك الدين العظيم، إلى مناصرة أعمال الخطف والاغتيال ويحاولون إيجاد في مسيرة نبيهم استحساناً وسوابق لأعمال كهذه، وإرجاع سبب تمزق حياتهم القديمة إلى الهيمنة الغربية والتأثير الغربي والقدرة الغربية[2].

ولم يتوقف لويس عند هذا الحد في جعل العنف لصيقاً بالثقافة الإسلامية، بل جعل ظهور الاسلام من خلال القتال وفي ذلك يقول ((إذا كان المقاتلون في سبيل الإسلام، الحرب المقدسة في سبيل الله، يقاتلون من اجل الله، فإِن ذلكم يتتبع القول ان خصومهم يقاتلون ضد الله ربما ان الله هو المهيمن ومصدر السلطات من حيث المبدأ وهو أيضا القائد العلوي للدولة الإسلامية والنبي، وخلفاؤه ممن بعده وكلاء مباشرون عنه، فإِن الله إِذن هو راعي الجيش وقائد الجيش. والجيش هو جيش الله والأعداء هم أعداء

(33)

الله فواجب جنود الله إذن هو إرسال أعداء الله بأقصى سرعة ممكنة إلى حيث سيتولى الله بنفسه معاقبتهم وتأديبهم أي إلى الآخرة))[1]، وفي أطروحته يتبين من خلال كلامه أن كراهية المسلمين للغرب سببها الرئيس رفضهم للقيم الغربية وعدّها خطراً يهدد قيمهم ونمط حياتهم، ويُعد لويس ان المسلمين يعيشون تحت وقع احباطات عدة متتالية تتجسد في فقدانهم النفوذ العالمي لصالح الغرب من خلال فقدانهم حضاراتهم السابقة، وفي اكتساح القيم الغربية المتزايد للعالم الإسلامي.

 يلاحظ كذلك من خلال ما سبق أن توينبي يرى أن صدام الحضارات يحدث بين الحضارة الغربية وأي حضارة أخرى، وربما يكون هذا الصدام بين حضارات عدة وليس حضارتين فحسب، أما مع برنارد لويس فإِن صدام الحضارات هو صدام حضارتين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، ويعتقد لويس ان الحضارة الإسلامية تحمل صفة العدائية للغرب وقيمه، ولكن لو راجعنا محاولته الأولى في طرحه فكرة صدام الحضارات، وذلك بعد العدوان الثلاثي على مصر لانتفى ما أدعاه لأن العرب في ذلك الوقت كانوا مدافعين عن حقوقهم التي استلبها منهم الاستعمار الغربي، ولم يقتصر الدفاع العربي على المسلمين فقط بل شمل حتى العرب المسيح، والمسيحيين هم المكون الرئيس للحضارة الغربية مع اليهود حسب رؤية لويس، وفي ذلك الوقت ربما لم تجد فكرته صدى كبيراً لأن الغربيين كانوا في مواجهة المعسكر الشرقي وهم ليسو بحاجة إلى

(34)

عدو آخر، أما بعد انتصارهم على عدوهم المعسكر الشرقي فقد شعروا بالفراغ لما هم عليه من عدم وجود عدو لهم، فأعيد إِحياء فكرة صدام الحضارات من قبل لويس وغيره كي يتوفر الطرف الآخر لهذا الصدام، فإن حليفهم وصنيعتهم بالأمس (تنظيم القاعدة) قد شعر بالفراغ ايضاً من عدم وجود عدو لديه، فجاء لويس مستقرئاً الواقع الإسلامي من خلال القاعدة والتخلف الذي هو عليه، مبيناً أن هذا هو الإسلام وأنه سوف يعيش في صدام مع الغرب.

 ثالثاً/ صدام الحضارات عند المهدي المنجرة[1]

لقد أولى المهدي المنجرة القيم الثقافية والحوار الثقافي أهمية كبيرة بوصفها مرتكزات مهمة في العلاقات الدولية، فقد ركز اهتمامه على التفاعلات الثقافية في مضمونها القيمي ليستخلص تأثيرها في مجالات التاريخ والاقتصاد والسياسة والشؤون الدولية، وفي منظوره يمثل رهان التنوع الثقافي مفتاح البقاء مستقبلاً[2]، و يعد المنجرة

(35)

واحداً من الباحثين الأوائل الذين تنبهوا إلى الوظيفة المركزية للهوية الثقافية في تحديد طبيعة الصراعات الدولية المقبلة، ففي عام 1979 م نشر تقرير نادي روما الذي شارك في إعداده، وذلك تحت عنوان «من المهد إلى اللحد» إذ أعلن في التقرير أن ((الهوية الثقافية تشكل مصدراً متنامياً للنزاعات الاجتماعية والدولية، فهي تشكل على المستويين الوطني والدولي واحدة من أهم الحاجات النفسية غير المادية، ويمكن أن تكون مصدراً من مصادر الصراع المتزايد في داخل المجتمعات، وبين مجتمع آخر))[1]، وفي حوار معهُ حول مستقبل العلاقات الدولية في برنامج عرضته المحطة التلفزيونية اليابانية K.H.N يوم 12 اكتوبر 1986 عبر عن يقينه بأنَّ الحروب القادمة سوف تكون حرب حضارات، وأكد ذلك في حوار معهُ عام1991[2].

وفي الفصل العاشر من كتاب (صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي) يعترف صموئيل هنتنغتون بمرجعية مفهوم صدام الحضارات إلى المهدي المنجرة اذ يقول هنتنغتون ((العلامة المغربي المهدي المنجرة أطلق على حرب الخليج بأنها الحرب الحضارية الأولى، وهي في الحقيقة الحرب الحضارية الثانية، الأولى كانت الحرب الأفغانية السوفيتية
1979-1989، كلا من الحربين بدأت بغزو دولة لدولة أخرى، ولكنها

(36)

تحولت بشكل واسع، وأعيد تحديدها كحرب حضارات في الحقيقة انها حروب انتقالية إلى مرحلة سيعود فيها الصراع ألاثني وحروب خط الصدع بين جماعات من حضارات أخرى مختلفة))[1]، ولعل ابرز موقع تعرض فيه المنجرة لفكرته عن صدام الحضارات في كتابه (الحرب الحضارية الأولى ـ مستقبل الماضي وماضي المستقبل) إذ سلط فيه الأضواء على ما جرى في منطقة الخليج والعالم العربي والإسلامي والعالم الثالث خاصة، ولعل من أبرز مميزات هذا الكتاب ((محاولة المنجرة في استشراف المستقبل استشرافاً علمياً يستند إلى أدق مناهج البحث المستقبلي وطرائقه، وهو ما يبرر الربط الموجود في كتابه بين حرب الخليج و مستقبل العالم الثالث الذي تمثل هذه الحرب في تاريخه تحدياً لهيمنة جديدة)) [2].

ويتكون كتاب الحرب الحضارية الأولى مستقبل الماضي وماضي المستقبل من أربعة فصول:

الفصل الأول:

يعالج فيه الاحداث من 2/8/1990 إلى حدود 17/1/1991، تاريخ بداية الحرب على العراق بعد غزو النظام العراقي السابق للكويت، وهي المرحلة التي يسميها الدكتور المنجرة بمرحلة (عهد ما بعد الاستعمار) [3]، وتتضمن مقالات وحوارات أنجزها المؤلف

(37)

خلال مرحلة ما قبل الحرب، يحلل فيها أبعاد الأزمة وآثارها وأسبابها ويتنبأ فيها منذ 12 أكتوبر 1990 بحتمية التطور وصولاً إلى مستوى النزاع المسلح[1].

الفصل الثاني:

ويناقش فيه المؤلف مرحلة ما بعد 17/1/1991 بوصفها مرحلة انطلاق لأول حرب حضارية أولى حقيقة، وبداية لأول صدام حضاري، واضح بين الشمال والجنوب، وكذلك يحلل خلال هذا الفصل تناقضات الغرب بين ما كان يحمله من شعارات، وبين ما عبر عنه خلال الحرب، ويركز في هذا الفصل على تحليل أبعاد الحرب بوصفها بداية الصراع ومن ثم ستحتد درجته ما بين الشمال والجنوب، وفي نهاية هذا الفصل يتناول المؤلف الجانب المتعلق بآفاق هذه الحرب خلال المستقبل القريب والمتوسط على العالم الثالث عامة والعالم العربي والإسلامي خاصة سواء في علاقته مع نفسه أو مع دول الشمال [2].

الفصل الثالث:

وهو عبارة عن مجموعة من الدراسات التي كتبها المنجرة ما بين 1957 – 1991 والتي يكشف فيها عن حجم الأخطار المسلطة

(38)

على دول الجنوب لتركز مظاهر التخلف فيه، وكذلك عن مستقبل هذا الجنوب الذي يظهر تحققه خلال هذه الحرب وان أهمية هذا الفصل تكمن في الآفاق التي يحللها لمستقبل العالم الثالث على عتبة عام 2000م [1].

الفصل الرابع:

وهو فصل خاص بالملحقات، وملخص خاص بالسيرة العلمية للمؤلف[2].

ما يلفت الانتباه من خلال ما سبق ذكره ان المهدي المنجرة يتفق مع رؤية بعض الباحثين القائمة على تقسيم العالم إلى شمال وجنوب من منطلق جغرافي، وان الشمال دائماً يكون أفضل من الجنوب في الجانب الاقتصادي خصوصاً، وجوانب أخرى باستثناء جنوب بريطانيا الذي يعد أفضل من الشمال، والمنجرة في دراسته يجعل من الغرب ممثلاً للشمال حسب التقسيم الجغرافي والعرب والمسلمين يمثلون الجنوب.

(39)

المبحث الثالث:

 صدام الحضارات عند صموئيل هنتنغتون

(Samuel Huntington)

أولاً/ عرض تحليلي لكتاب  صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي[1]1996:

هذا الكتاب تطوير لما حملته مقالة هنتنغتون «صدام الحضارات» المنشورة في مجلة شؤون خارجية[2](2).

ان الفكرة الرئيسة في هذا الكتاب هي ان الثقافة أو الهوية الثقافية هي في أوسع معانيها الهوية الحضارية، التي تمثل نماذج التماسك والتفكك في عالم ما بعد الحرب الباردة[3].

يتكون كتاب صدام الحضارات لصموئيل هنتنغتون من اثنى عشر فصلاً موزعة على خمسة أبواب يتضمن الباب الأول ثلاثة فصول، الفصل الأول يؤكد فيه المؤلف على ان نهاية الحرب الباردة

(40)

دشنت حقيقة جديدة في العلاقات الدولية، وهي ان الحضارات والهوية الثقافية هي الأساس في تقييم العالم وتصنيفه.

الفصل الثاني يتعرض فيه المؤلف بإطار تاريخي واجتماعي إلى طبيعة الحضارات والعلاقات بينهما، أما الفصل الثالث فيطرح فيه المؤلف سؤالاً محاولاً الإجابة عنه وهذا السؤال هو: هل هناك حضارة عالمية واحدة أم لا؟

ويجيب عن هذا السؤال بمعالجة العلاقة بين التحديث والتغريب ليؤكد ان التحديث يكون تغريباً في مراحله الأولى أما في المراحل المتقدمة فيرجع إلى أصوله الثقافية، وهذا يعني عدم وجود حضارة عالمية واحدة تنصهر فيها شعوب المعمورة بل يعني ان العالم مقسم على حضارات مختلفة، حيث يقول في ذلك ((لأول مرة في التاريخ فإِن السياسة العالمية هي في آن واحد متعددة الأقطاب ومتعددة الحضارات، ان التنمية السياسية او التحديث Modernization  هي مفهوم مختلف عن الحداثة على النمط الغربي Westernization  أو الغربنة، وهو- أي: التحديث - يتكون من نتيجة لأي حضارة عامة بأي معنى ذي مضمون ولا يكون من نتيجة غربنة المجتمعات غير الغربية))[1].

الباب الثاني يتضمن فصلين: (الرابع والخامس) الفصل الرابع: يتحدث فيه المؤلف عن التوازن المتغير للحضارات ويعالج فيه اضمحلال الغرب، أما الفصل الخامس فيتناول فيه ظهور حضارات التحدي سواء كانت آسيوية أم إسلامية، ويقول في ذلك ((ان توازن

(41)

القوى بين الحضارات آخذ في التغير: فالغرب يتقهقر في نفوذه النسبي، والحضارات الآسيوية تقوم بتوسيع قواها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، والإسلام ينفجر سكانياً مصحوباً بنتائج عدم الاستقرار للدول الإسلامية وجاراتها والحضارات غير الغربية بشكل عام هي الآن تؤكد مرة أخرى على قيمة ثقافتها))[1].

الباب الثالث يتضمن كذلك فصلين (السادس والسابع)، ويعالج المؤلف في الفصل السادس السياسة الكونية ليؤكد أن الحضارات باقية على حالها لأنها تتحول أو تتبدل بصعوبة وان هذه الاستمرارية الحضارية هي التي تهدد الدولة القومية وتجعلها تتفتت من الداخل كما يحدث في الحروب وما يعقبها من انتشار ظاهرة الدول الممزقة والدول المنهارة، أما الفصل السابع فيتناول المؤلف فيه الحضارات المختلفة (الغربية، السلافية، الارذوكسية، الإسلامية، الصينية) وبشأن الاسلام يؤكد المؤلف على الزيادة المتواصلة لعدد أتباعه وخاصة من الشباب مع تأكيده على عدم تماسكهم لغياب دولة مركزية معترف بها من الجميع.

الباب الرابع يتضمن أربعة فصول (الثامن، التاسع، العاشر، الحادي عشر) فيعالج في الفصل الثامن وضع الغرب وبقية أنحاء العالم في عالم تتداخل حضاراته، أما الفصل التاسع يعالج السياسات العالمية للحضارات إذ يتناول فيه الدولة الأساسية وصدام خطوط الصدع والحضارة الإسلامية والحضارة الغربية وآسيا والصين وأمريكا وانبثاق التحالف بين الحضارات (أمثال الصين والإسلام).

الفصل العاشر: ينتقل فيه المؤلف إلى الحروب الحضارية،

(42)

ويتكلم فيه عن الحدود الدامية للحضارة الإسلامية، ويتناول الأسباب المحركة لهذا الصراع، أما الفصل الحادي عشر فيتكلم فيه عن ديناميات حروب خط الصدع ونهوض الوعي الحضاري.

ويقول هنتنغتون تعليقاً على هذا الباب ((ان دعاوى العالمية أو الانسانية التي يطرحها الغرب تضعه بشكل متزايد في صراع مع الحضارات الأخرى، وبشكل أكثر خطورة مع الاسلام والصين، وعلى المستوى المحلي فإِن حروب خطوط الصدع التي تقع بشكل رئيس بين المسلمين وغير المسلمين تولد الحشود التي تؤيدها دولة تشاطرها حضارتها والتهديد بتوسيع حدود الصراع وبالتالي تبذل الدول الكبرى جهوداً من اجل إنهاء هذه الحروب))[1].

وفي الباب الخامس والأخير الذي يتكون من فصل واحد ألا وهو الفصل الثاني عشر يقدم فيه المؤلف رؤية عامة عن الغرب في عالم يموج بالمشاكل والصراعات الدموية، ويتناول مرة أخرى ما إذا كانت هناك إمكانية لتكوين حضارة عالمية.

اذ يقول تعليقاً على هذا الباب ((ان استمرار حياة الغرب يعتمد على الأمريكيين وهم يعيدون تأكيد هويتهم الغربية وعلى سكان العالم الغربي وقد قبلوا حضارتهم على أنها متميزة وليست عالمية او كونية وقد أكدو الغرض تجديدها وصيانتها ضد التحديات من المجتمعات غير الغربية، أي: تجنب حرب عالمية بين الحضارات يعتمد على قادة العالم لقبولهم وتعاونهم للحفاظ على الطابع المتعدد الحضارات للسياسة العالمية))[2].

(43)

5- كتاب من نحن ؟ (التحديات التي تواجه الهوية الأمريكية):

يتعامل هذا الكتاب مع التغيرات الجارية في سمات الهوية الوطنية الامريكية البارزة وجوهرها، والسمة البارزة هي الأهمية التي يعزوها الأمريكيون لهويتهم الوطنية مقارنة بهوياتهم الكثيرة الأخرى، أما الجوهر فيشير إلى ما يظن الأمريكيون أنهم يمتلكونه بشكل مشترك ويميزهم عن الشعوب الأخرى[1](8).

ويبين في كتاب من نحن؟ حاجة الأمريكيين إلى تأكيد القيم المركزية التي جعلتهم أمريكيين، ولا شيء في خطر أكثر من هويتهم القومية، ان الخطر الذي يهدد الهوية الامريكية يأتي من مصدرين:

الأول / يكمن في الهجرة المكسيكية والأمريكية اللاتينية [2]

الثاني / يتمثل في العولمة [3].

(44)

ثانياً/ أبرز الأفكار الأساسية لأطروحة صدام الحضارات[1]

عند هنتنغتون

1- يذكر هنتنغتون ان المصدر الجوهري للتصادم في عالم ما بعد الحرب الباردة سيكون العامل الثقافي، وهذه الصدامات الرئيسة للسياسات الكونية ستحدث بين الدول والمجموعات المنتمية لحضارات مختلفة، إذ سيهيمن صدام الحضارات على السياسات الكونية[2](12)، ومن المتوقع أن تنشب الصدامات وأعمال العنف أيضا بين الدول والجماعات في ضمن الحضارة الواحدة، ومثل هذه الصدامات تكون اقل حدة واقل فرصة للانتشار من الصدامات التي تنشب بين الحضارات المختلفة، فالانتماء المشترك لحضارة واحدة يقلل من أَرجحية اندلاع

(45)

العنف في الحالات التي تحدث فيها بين المنتمين لحضارات مختلفة [1].

2- وانه سيكون الصدام بين الحضارات احدث مرحلة في تطور النزاعات في العالم الحديث، وهذه النزاعات كانت في المقام الاول نزاعات داخل إطار الحضارة الغربية اذ كانت حروباً بين الدول الغربية ومع انتهاء الحرب الباردة انتقلت السياسات العالمية من طورها الغربي ليصبح محورها الأساس التفاعل بين حضارة الغرب والحضارات الأخرى[2].

3- ويذكر هنتنغتون انه ليس منطقياً أن نصنف بلدان العالم بعد انتهاء الحرب الباردة على أساس أنظمتها السياسية والاقتصادية، وإنما على أساس ثقافتها اذ تشترك الدول الغربية بملامح ثقافية تميزها عن المجتمعات الإسلامية أو الصينية، وان المسلمين والصينين والغربيين ليسوا جزءا من كيان ثقافي أوسع بل أن كلاً منهما يشكل حضارة بذاتها [3].

4- وكذلك يبين هنتنغتون أن من بين كل المقومات الموضوعية (الدم، اللغة، الديانة) التي تحدد الحضارة فإِن أكثرها أهمية عادة الدين، ويرجع هذه الأهمية لما أكده الأثينيون، وأن الحضارات الكبرى في التاريخ البشري كانت قد ارتبطت في تحديدها بالديانات العالمية العظمى، فالحضارة هي كيان ثقافي في أوسع معانيه[4](16)،

(46)

وهذه الحضارات هي (الحضارة الغربية، والحضارة الصينية، والحضارة اليابانية، والحضارة الإسلامية، والحضارة الهندوسية، والحضارة السلافية الارذوكسية، والحضارة الأمريكية اللاتينية، وربما الحضارة الإفريقية)[1].

7- أسباب الصدام بين هذه الحضارات

يبين هنتنغتون اسباباً عدة للصدام بين الحضارات وهذه الاسباب هي:

 أ- إن الاختلافات بين الحضارات أساسية واختلافات الحضارات أكثر جوهرية من السياسية، وهذه الاختلافات لا تعني بالضرورة الصدام، والصدام لا يعني بالضرورة العنف[2].

ب- تعمق الوعي الحضاري والإحساس بالاختلاف بين الحضارات المصاحب للعداء بينها بسبب الزيادة في التفاعلات بين الشعوب التي تنتمي إلى حضارات مختلفة[3].

ج- ان عمليات التحديث الاقتصادي والتغير الاجتماعي تفصل

(47)

الناس عن الهويات المحلية وكذلك تضعف الدولة القومية بوصفها مصدراً للهوية الذاتية، ويتحرك الدين لسد هذه الثغرة في الهوية وإحياء الدين يقدم أساسا للهوية [1].

د- يتعزز نمو الدور الحضاري بفعل الدور المزدوج للغرب من ناحية ان الغرب في قمة قوته، وربما نتيجة لذلك يتبنى غير المنتمين إلى الحضارة الغربية ظاهرة العودة إلى الجذور الثقافية لهم [2].

ر- تعزز الإقليمية الاقتصادية نتيجة الوعي الحضاري من ناحية، وقد تنجح الإقليمية الاقتصادية فقط عندما تتجذر في حضارة مشتركة [3].

8- ان جهود الغرب الساعية إلى ترويج قيم الديمقراطية والليبرالية بوصفهما مبادئ شاملة والاحتفاظ بهيمنته العسكرية وتوسيع مصالحة الاقتصادية تؤدي إلى استجابات مضادة من قبل حضارات أخرى [4].

9- أما مستويات صدام الحضارات فإِنه كما يصفها هنتنغتون تحدث على مستويين: المستوى الأضيق إذ تتصادم المجموعات المتجاورة والفاصلة بين الحضارات، وعلى المستوى الأوسع تتنافس دول مختلفة الحضارات للسيطرة على المؤسسات الدولية[5].

(48)

10- خطوط الصدع بين الحضارات تحل محل الحدود الأيديولوجية للحرب الباردة [1].

11- في السنوات القادمة ستشهد الصراعات المحلية الاكثر ارجحية تصعيداً، لتتحول إلى حروب رئيسة تكون كتلك التي تشهدها البوسنة والقوقاز على طول خطوط الصدع بين الحضارات وعلى هذا فإِن الحرب العالمية الثالثة إذا نشبت تكون حرباً بين الحضارات [2].

12- ان اندلاع حرب عسكرية بين الدول الغربية أمر بعيد الاحتمال [3].

13- في المستقبل بعد ان يميز الناس أنفسهم بحضاراتهم تتعرض البلدان المشتملة على أعداد هائلة من الناس الذين ينتمون إلى حضارات مختلفة على شاكلة الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا فإنها ستتعرض إلى التمزق ومن أمثلة الدول الممزقة تركيا والمكسيك

(49)

وروسيا[1]، وان أكثرها تمزقا روسيا حسب رؤية هنتنغتون [2].

14- ولادة العلاقة الصينية الإسلامية التي برزت لتتحدى مصالح الغرب[3] وقوته، وتستهدف ترويج الأسلحة والتكنولوجيا التي تصنعها للوقوف بوجه القدرة الغربية[4].

15- ان الغرب الآن ـ وسيبقى لسنوات قادمة ـ الحضارة الأكثر قوة[5]، غير ان قوته النسبية في مواجهة الحضارات الاخرى آخذة في الهبوط وفي الوقت الذي يحاول فيه الغرب أن يؤكد قيمه ويدافع

(50)

عن مصالحة، فإِن المجتمعات غير الغربية تعيش نمواً، فبعضهم يحاول أن يماري الغرب وينحاز اليه على حين أن المجتمعات الصينية والإسلامية تحاول ان توسع قوتها الاقتصادية والعسكرية وتعمل على توازن ضد الغرب[1].

16- توجد صورتان عن قوة الغرب حسب رؤية هنتنغتون الصورة الأولى: الهيمنة المتفوقة والمنتصرة والشاملة غالباً للغرب[2]، أما الصورة الثانية: فهي حضارة في حال اضمحلال نصيبها من القوة العالمية السياسية والاقتصادية والعسكرية آخذة في الهبوط بالقياس إلى قوة الحضارات الأخرى [3].

17- ان تعبير حضارة عالمية ممكن استعماله ليشير إلى ما تشترك فيه المجتمعات المتحضرة مثل المدن والتعليم الذي يميزهم عن المجتمعات البدائية والبربرية، ان تعبير حضارة عالمية ربما يشير إلى الافتراضات والقيم والمذاهب التي تتمسك بها حالياً مجموعة من الشعوب في الحضارة الغربية وبعض الشعوب من الحضارات الأخرى[4]، ثم إن فكرة حضارة عالمية أو كونية هي نتاج متميز للحضارة الغربية، وإن العالمية الكونية أو الكونية Universalism  هي أيديولوجية الغرب في مواجهة الثقافات غير الغربية[5](43)، وفكرة

(51)

حضارة عالمية لا تجد إلا تأييدا بسيطاً في الحضارات الأخرى[1]، ومن ثم فإن حضارة عالمية تتطلب قوة عالمية [2].

18- التحديث والتغريب[3]

يذكر هنتنغتون انه بسبب توسع الغرب فإِنه سوف تختلف الاستجابة وردة الفعل من قبل الزعماء السياسيين والمفكرين المنتمين إلى حضارات غير الغربية لما يتعلق بالتحديث والتمدن على النمط الغربي، وانه سوف تتمثل ردة فعل هؤلاء الزعماء والمفكرين بثلاثة طرق: أما رفض كلا من التحديث والتغريب او قبولهما معا أو قبول الأول ورفض الثاني، فإن الموقف الأول متمثل بموقف اليابان مع الغرب منذ عام 1542-1854 السنة التي انتهى فيها هذا الموقف بالقوة بعد ان احتلت اليابان من قبل الغرب[4]، أما الموقف الثاني المتضمن قبول التحديث والتغريب فيتمثل بموقف تركيا الذي قاده مصطفى كمال أتاتورك(1881-1939)[5]، والموقف الثالث هو الموقف التوفيقي، ومحاولة الجمع بين

(52)

التحديث والحفاظ على القيم والممارسات والمؤسسات الأساسية لثقافة المجتمع ويعطي هنتنغتون مثالاً على ذلك الصين ومصر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر[1].

(53)

المبحث الأول: الأنموذج الحضاري

لم يكن هنتنغتون بعيداً عن منجزات فلسفة العلم[1](1) في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد سعى إلى توظيف أبرز منجزاتها الفكرية في أطروحته محاولاً من خلال ذلك تفسير السياسة العالمية بعد الحرب الباردة، ولتحقيق تلك الغاية استعار فكرة الأنموذج عند توماس كون (Thomas kuhn)[2](2) حتى يصل إلى غايته المنشودة، وهي (تفسير السياسة العالمية لما بعد الحرب الباردة)، وهذا ما سنحاول الكشف عنه في هذا المبحث.

أولاً/ فكرة الأنموذج (Paradigm):

الباراديغم (الأنموذج) أصلها من المفردة اليونانية (Paradeigma)، وهي تعني ((جملة المقدمات النظرية التي ترسم طريق البحث العلمي، وتعترف بها الأوساط العلمية في المرحلة المعنية))[3]، فضلاً عن ذلك فإن الباراديغم يعني ((النظرية العامة

(54)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

المرتكزات الفلسفية

لأطروحة صدام الحضارات

عند هنتنغتون

 

(55)

المبحث الأول: الأنموذج الحضاري

لم يكن هنتنغتون بعيداً عن منجزات فلسفة العلم[1](1) في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد سعى إلى توظيف أبرز منجزاتها الفكرية في أطروحته محاولاً من خلال ذلك تفسير السياسة العالمية بعد الحرب الباردة، ولتحقيق تلك الغاية استعار فكرة الأنموذج عند توماس كون (Thomas kuhn)[2](2) حتى يصل إلى غايته المنشودة، وهي (تفسير السياسة العالمية لما بعد الحرب الباردة)، وهذا ما سنحاول الكشف عنه في هذا المبحث.

أولاً/ فكرة الأنموذج (Paradigm):

الباراديغم (الأنموذج) أصلها من المفردة اليونانية (Paradeigma)، وهي تعني ((جملة المقدمات النظرية التي ترسم

(56)

طريق البحث العلمي، وتعترف بها الأوساط العلمية في المرحلة المعنية))[1]، فضلاً عن ذلك فإن الباراديغم يعني ((النظرية العامة التي يلتزم بها المجتمع العلمي في مرحلة ما، وبلوغ النظرية مرتبة الأنموذج الإرشادي يعني أنها أفضل من كل منافساتها، أي: ثبتت ووجب التسليم بها وبكل مسلماتها ومناهجها ومفاهيمها العلمية وخلفياتها الميتافيزيقية، فتغدو النظرية بكل هذه الإبعاد بمنزلة أنموذج إرشادي يحدد مدلول الوقائع التجريبية بطرح معايير الاختبار والتقويم والتنقيح والتعديل إذا لزم الأمر والأكثر فاعلية انه يطرح المشاكل التي يجب دراستها وأنماط الحلول المطلوبة))[2]، ولقد ادخل توماس كون هذا المصطلح في دراسته المتعلقة بفلسفة العلم حيث كتب في كتابه (تركيب الثورات العلمية)[3] واصفاً ما يحدث داخل العلم قائلاً ((ان العلماء خلال الثورات العلمية يشاهدون See أشياء جديدة ومختلفة حين ينظرون بالآلات المألوفة من الأماكن عينها التي نظروا منها من قبل، والسبب في ذلك ان تغيرات الأنموذج تجعل العلماء فعلاً يشاهدون عالم أبحاثهم الخاصة بطريقة مختلفة تماماً عن ذلك العالم الذي كانوا ينتمون اليه من قبل))[4]، إن ما يريد ان يشير اليه كون من خلال هذا القول أمران:

(57)

الأول: إن رؤية العالم للأشياء تتغير عندما يكتشف علاقات جديدة بين الأشياء كان يجهلها سابقاً، والأمر الثاني: إن هذه الرؤية الجديدة والمختلفة لا تكون إلا من خلال أنموذج جديد يجعل العالم يفسر الأشياء التي سبق ان شاهدها وفسرها من قبل ان يفسرها من جديد تفسيراً مخالفاً لذلك التفسير الذي قدمه سابقاً على وفق الأنموذج القديم[1].

لقد استعار كون كلمة الأنموذج ((Paradigm من حقل التحليل الهندسي إذ تشير فيه إلى مثال او شكل يستعمل أنموذجاً لأشكال أخرى عديدة[2]، و يعرف كون الأنموذج بأنه مبدأ منظم يحكم عمليه الإدراك وفيه يقول ((إذا قمنا بإجراء عملية مسح للتجارب الغزيرة في التراث، والتي استمدت منها هذه الأمثلة، فإِن المرء سوف يتبين له على الفور ان الأنموذج مبدأ منظم يحكم عمليه الإدراك، ولهذا فإِن النماذج تحدد لنا قطاعات واسعة من الخبرة))[3]، وباكتشافه أنموذجاً جديداً اثبت قدرته على قيادة بحث مجموعة من العلماء ادى إلى تطور العلم[4]، فحسب تصور كون ((ان العلم في فترة من الفترات يحقق ارتباطاً كلياً بين نظرياته المختلفة، بمعنى ان

(58)

هذه النظريات تؤلف كلاً متماسكاً هو ما نطلق عليه مصطلح الأنموذج (Paradigm)، والعلماء في هذه الفترة يسيرون في أبحاثهم العلمية على وفق هذا الأنموذج، ويعملون من خلاله إلا انهُ يحدث اثناء وجود هذا الأنموذج، والتزام العلماء به، ان يأتي احد العلماء ويضع يديه بطريقة أو بأخرى على كشف علمي Scientific Discovery هام يخالف به الآراء السائدة في الأنموذج العلمي المعمول به فعلاً، فتتغير نظريات العلماء المعمول بها في ظل الأنموذج السائد، لتحل مكانها نظريات جديدة ترتبت على الكشف الجديد، ويبدأ العلم مسيرته مرة أخرى وفق أفكار وآراء جديدة من خلال أنموذج جديد مخالف تماماً للأنموذج الذي ألفه العلماء فيما مضى))[1]، وفكرة الأنموذج تعد من أهم الأفكار التي قال بها كون في كتابه (تركيب الثورات العلمية)، إلا أن الفكرة ـ حسب رؤية احد الباحثين- يكتنفها كثير من الغموض حيث تصور كون أن  نظريات العلم المختلفة في فترة من الفترات تحقق ارتباطاً كلياً بمعنى آخر إن هذه النظريات سوف تؤلف كلا متماسكاً هو ما يطلق عليه مصطلح الأنموذج[2]، ولكن تبقى فكرة الأنموذج يكتنفها الغموض لأنه لم يقدم الفكرة من خلال مفهوم واحد، بل أشار في مواضع متعددة من الكتاب إلى مفاهيم متعددة

(59)

وتعريفات مختلفة لفكرة الأنموذج[1]، ولقد جمع احد الباحثين هذه المعاني التي وضعها كون لفكرة الأنموذج في التصنيفات الآتية:

1-  الربط بين فكرة الأنموذج والاعتقاد، إذ يقول ((لا يمكن لأي جماعة علمية ان تمارس عملها بدون ان تكون لديها مجموعة معينة من الاعتقادات، وهذا يعني ان العلماء يضعون في اعتبارهم أفكار الأنموذج المسبقة، كما ان اعتقادهم في نظريات وأراء معينة يوجه عملهم ونشاطهم العلمي أثناء الممارسة العلمية ذاتها))[2].

2- الربط بين فكرة الأنموذج والأسطورة، فهو يقول ((إذا كانت الاعتقادات القديمة يمكن ان نطلق عليها أساطير، إذاً فإِنه يمكن أن تنتج الأساطير بنفس المناهج وتؤدي إلى نفس الأسباب التي تفضي إلى المعرفة العلمية في عالم اليوم، ومن ناحية أخرى فانه إذاً كان من الممكن ان تسمى علماً، إذاً فالعلم يتضمن معتقدات لا متسقة مع ما نعلمه اليوم)) [3].

3- الربط بين الأنموذج والتأملات الميتافيزيقية وفي ذلك يقول ((في المراحل الأولى لتطور أي علم فان الأشخاص المختلفين يواجهون نفس مجال الظواهر، ولكن ليس نفس الظواهر الخاصة، وهم يصفونها ويؤولونها بطرق مختلفة، وما هو مدهش وفريد بالنسبة لما نطلق عليه (علم) هو ان الاختلافات المؤقتة لا بد من

(60)

أن تختفي، ولنقل أنموذجاً معيناً فلا بد من أن تبدو النظرية أفضل من منافساتها، والنظرية هنا لا تحتاج إلى تفسير كل الوقائع التي تواجهها. وفي موضع آخر يقول ((وكما تتغير المشكلات كذلك تتغير المقاييس التي تميز الحل العلمي الحقيقي من مجرد التأمل الميتافيزيقي أو اللعبة الرياضية))[1].

4- تأكيد كون على أنَّ المبدأ ينظم عملية الإدراك[2].

ولكن بالرغم من هذا كله تبقى فكرة الأنموذج من أهم الأفكار التي جاء بها فلاسفة العلم في القرن العشرين لما قدمته من قدرة تفسيرية ليس في المجالات العلمية البحتة فقط بل تجاوزت ذلك لتقدم خدمة في مجالات العلوم الإنسانية الأخرى، ومنها مجال العلوم السياسية التي سنحاول في الصفحات القادمة توضيحها من خلال الحديث عن توظيفها عند صموئيل هنتنغتون.

ثانياً / توظيف هنتنغتون فكرة الأنموذج في أطروحتهِ

لقد رأى هنتنغتون أن التفكير بشأن السياسة العالمية قائم على أنموذج يقدمه الباحث لتفسير الشؤون السياسية العالمية، ولهذا يقبل الباحث على الوضع العالمي وهو يمتلك أنموذجاً يقوم بتفسير السياسة العالمية من خلاله، ولهذا كانت دراسة هنتنغتون وتفسيره السياسة العالمية قائمة على أنموذج يعتمد عليه محاولاً استثمار منجزات كون في فلسفة العلم، والتي أهمها فكرة الأنموذج.

(61)

يعتمد هنتنغتون الأنموذج أساساً للتفكير في الشؤون السياسية إذ يقول ((إننا لو شئنا التفكير بشكل جدي حول العالم ونتحرك بفاعلية داخلة، فإنه من الضروري أن يكون لدينا نوع من الخريطة المبسطة عن الحقيقة أو نوع من النظرية أو الفكرة أو الأنموذج أو النظرية العامة (البرادايغم)))[1]، ويحاول أن يعرض فهمه لفكرة الأنموذج عند كون فيقول ((إن التقدم العقلي والعلمي كما أوضح توماس كون في دراسته الشهيرة «تركيب الثورات العلمية» يتشكل من إزاحة نظرية عامة سائدة، والتي تكون قد صارت بشكل متزايد غير قادرة على تفسير حقائق جديدة أو حقائق قد تم للتو اكتشافها، واستبدالها بنظرية جديدة (برادايغم)، والتي تقدم فعلاً تفسيراً لتلك الحقائق بشكل يعتبر أكثر إقناعا))[2]، ومن خلال هذا الفهم يحاول هنتنغتون إيجاد أنموذج يمكنه من تفسير السياسة العالمية، وبنفس الوقت يزيح النماذج السابقة المشتركة معه في التفسير، ويبرر هنتنغتون لجوءه إلى توظيف فكرة الأنموذج معللاً ذلك بأن الأنموذج يساعد على قيادة السلوك وتوجيهه، وإذا لم يكن لدى الباحث أنموذج ويتعامل مع كل حالة حسب خصائصها، فإنه سوف يضلل نفسه، ويرجع ذلك هنتنغتون إلى أن العقل الإنساني تختبئ فيه افتراضات، وتحيزات وأفكار مسبقة تحدد المنهج الذي يسير عليه الباحث [3]، ويذكر هنتنغتون أن الأنموذج يساعد على:

((1- التنظيم والتعميم حول الحقيقة.

(62)

2- فهم العلاقات السببية بين الظواهر.

 3- توقع وإذا كنا محظوظين التنبؤ بالتطورات المستقبلية.

 4- تمييز ما هو هام وما هو غير هام.

 5- توضيح الطريق الذي ينبغي أن نسلكه حتى نحقق أهدافنا))[1].

ومن خلال ما تقدم ذكره يبين هنتنغتون سبب لجوئهِ إلى توظيف فكرة الأنموذج، والتي ينصح من خلالها الباحثين بتوظيف فكرة الأنموذج في دراستهم لضمان الوصول إلى الحقائق بعيداً عن المؤثرات العقائدية التي يدرسونها، وربما يشوش عليهم الوصول إلى الحقائق، وبعد أن يبين هنتنغتون أهمية الاعتماد على الأنموذج في التفسير يحاول إزاحة النماذج التي حاولت تفسير السياسة العالمية بعد الحرب الباردة ليحل محلها الأنموذج الذي يضعه ليفسر من خلاله السياسة العالمية بعد الحرب الباردة، أما محاولة هنتنغتون إزاحة النماذج غير المتفق معها ونقده لها فهي كالآتي:-

أ- أنموذج عالم واحد (الإحساس بالتعافي والانسجام):

وهذا الأنموذج يمثله حسب رؤية هنتنغتون أطروحة نهاية التاريخ التي قال بها فرنسيس فوكوياما[2](22)، يقول عنها هنتنغتون ((ان النظرية التي تطرح عالماً واحداً متناغماً هي بكل وضوح بعيدة كل البعد عن الحقيقة، حتى تكون مرشداً مفيداً لعالم ما بعد الحرب الباردة))[3]، ويبرر قوله هذا بأن الإحساس بالتعافي تحت نظام

(63)

عالمي واحد هو نتيجة الوهم بذلك، وأما الواقع فهو غير ذلك من حيث الزيادة في النزاعات العرقية، والتطهير العرقي، وانهيار القانون والنظام، وظهور أشكال جديدة من التحالفات والصراع بين الدول، وانبعاث أصوليه دينية، ونهاية علاقة القبول في علاقات روسيا مع الغرب، وعجز الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية في حل النزاعات المحلية لبعض الدول، وازدياد تأكيد الذات من قبل الصين[1].

ويعرب هنتنغتون - بعد هذا التحليل النقدي- عن عدم رضاه عن هذه الرؤية التي تقول بولادة عالم واحد منسجم يكون مصدر الشعور بالبهجة والتوافق، ويشير إلى ان الأحداث قد أثبتت أنَّ شيئاً فعلياً من هذا لم يتحقق، وبقيت أمور كثيرة على أحوالها التي كانت عليها قبل انتهاء الحرب الباردة إن لم تكن أمور أخرى قد زادت أحوالها سوءا.

ب- أنموذج عالمين (نحن وهم):

يذكر هنتنغتون أن هذا الأنموذج يثير اهتمام عدد من الباحثين الذين دأبوا على تقسيم العالم على قسمين، ولم يقتصر على باحثين منتمين إلى عالم معين، بل شمل باحثين ينتمون إلى حضارات عدة، أما تقسيمات الباحثين، فهناك تقسيم جرى على أساس: الشرق والغرب، والشمال والجنوب، والمركز والهامش، ويذكر انه في الاسلام يقسم العالم إلى دار السلم ودار الحرب، وهذه التفرقة بين عالمين حسب رأي هنتنغتون قد وجدت صداها عند علماء السياسة

(64)

الأمريكيين إذ قسموا العالم إلى مناطق السلام ومناطق الفوضى، ولا يحاول هنتنغتون نفي مطابقة هذا الأنموذج مع الحقيقة إذ يقول ((بان الصورة عن عالم مكون من جزأين ربما تكون إلى حد ما متطابقة مع الحقيقة)) [1].

ويأخذ نوعين من هذا الأنموذج: أنموذج التقسيم الاقتصادي على أساس الغنى والفقر، وهذا التقسيم بالرغم من انه يصور بعض عناصر الحقيقة إلا أن الصراعات بين الأغنياء والفقراء تبدو بعيدة حسب رؤية هنتنغتون، ويعزو سبب ذلك إلى ان الدول الفقيرة تفتقد الوحدة السياسية، وإذا كان في آسيا وأمريكا اللاتينية دول اقتصادية غنية، فإن شعوبها ستكون منقسمة في داخلها على قسمين: الذين يملكون والذين لا يملكون، ومن ثم يتوصل إلى ان الدول الغنية هي التي تدخل حروباً تجارية فيما بينها والدول الفقيرة كذلك ممكن أن تدخل حروباً فيما بينها، أما ان تقع حرب بين العالم الغني والعالم الفقير، فهو أمر بعيد الاحتمال ومثله مثل الأنموذج الأول أنموذج عالم واحد سعيد ومتناغم[2].

أما التقسيم الأخير فهو التقسيم الثقافي القائم على أساس رؤية العالم من خلال عالمين هما (الشرق والغرب)، التي يؤكد هنتنغتون انها من مبتدعات الغرب وتأكيداتهم على وحدة العالم غير الغربي (اليابانيون، الصينيون، الهنود، المسلمون، الأفارقة)، وهذه الثنائية يعبر عنها هنتنغتون بالخرافات التي تعاني مثالب الاستشراق الذي

(65)

عالجه ادوارد سعيد[1] لكنه ـ حسب رؤية هنتنغتون - كرس بدراسته التفرقة بين الغرب و الشرق [2].

يتبين مما سبق أنّ الرؤية البسيطة ربما تتفق مع تقسيم العالم إلى عالمين او أكثر إذ تفشى سابقاً تقسيم بلدان العالم على عالم أول، عالم ثاني، عالم ثالث، على أساس التنمية الاقتصادية في البلدان، وهناك تقسيم دارج عند اغلب الباحثين على عالم شرقي وعالم غربي، وجاء هذا نتيجة ترسيخ فكرة نحن وهم، وربما جاءت اغلب هذه الدعوات من الباحثين المنتمين للغرب، وكانت ردة فعل الباحثين المنتمين إلى الشرق ردة دفاع عن الهجوم الغربي على ما يمتلكه الشرق من أفكار، وتعامل الغرب معه على انه صاحب رؤية للعالم أدنى مما يحمله المنتمون إلى الغرب من رؤية لهذا العالم، و هنتنغتون يذكر خطأ هذه الرؤية، وخطأ من يبين خطأ أطروحتها المتمثلة بالدراسات الاستشراقية لأنها تسهم بعملها هذا إلى ترسيخ أنموذج (نحن وهم) المتمثل بالغرب والشرق كأنموذج لهُ.

ج- أنموذج دولة أكثر أو اقل (النظرية الدولاتية):

هذا الأنموذج يمثل النظرية الواقعية في العلاقات الدولية التي تشير إلى ان الوحدات الفاعلة الوحيدة أوليا أو فعلياً في الشؤون

(66)

الدولية هي الدول، وان العلاقات بين الدول علاقات فوضى، ولكي تؤمن استمرارية أمنها واستقرارها، فإنها تحاول أن تضاعف من قوتها، وتنافس الدول الاخرى على ان تكون أفضل منهم عن طريق زيادة قوتها او تحالفها مع الدول الأخرى[1].

ويرجح هنتنغتون هذا الأنموذج على الأنموذجين السابقين، ويصفه بأنه أكثر واقعية لأنه قد ثبت صحة هذا الأنموذج عبر التاريخ لكن هذا لا يعني استمرارية نجاحه، وذلك حسب قول هنتنغتون ((فهي لا تساعدنا على فهم الكيفية التي بها ستختلف السياسة العالمية بعد الحرب عن السياسة العالمية خلال وقبل الحرب الباردة))[2].

وبهذا فإن هنتنغتون على الرغم من إشارته إلى نجاح أنموذج النظرية الدولاتية إلا أَنه يؤكد على عدم نفعهِ في تفسير السياسة العالمية بعد الحرب الباردة.

د- أنموذج فوضى مطلقة:

هذا الأنموذج يقوم على تصور العالم في حالة فوضى متمثلة بدمار السلطة الحكومية، وتمزق الدول، وتفاقم النزاعات القبلية، والعرقية والدينية، وتضاعف اللاجئين إلى عشرات الملايين، وتكاثر الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، وانتشار الإرهاب وتفشي المذابح والتطهير العرقي[3].

(67)

هذه هي صورة العالم التي يرتكز عليها القائلون بأنموذج فوضى مطلقة، والذي يعلق عليه هنتنغتون بقوله ((ومثلما هو الحال في النظرية الدولاتية، فان نظرية الفوضى قريبة من الحقيقة، فهي تزودنا بصورة حية وصحيحة عن كثير مما يجري في العالم وعلى عكس النظرية الدولاتية فهي تحدد معالم التغييرات في السياسة الدولية، والتي حدثت مع نهاية الحرب الباردة...... وبالرغم من ذلك فهي تعاني أكثر من النظرية الدولاتية في كونها قريبة جداً من الحقيقة، ان العالم يمكن ان يكون في فوضى وليس كلياً بدون نظام، إن صورة الفوضى العامة وغير المميزة تعطي علامات قليلة لفهم العالم، من اجل ترتيب الوقائع وتقييم أهميتها، ومن اجل التنبؤ بتيارات الفوضى، والتمييز بين أنماط من الفوضى واحتمالية أسبابها المختلفة ونتائجها المختلفة، ومن اجل تطوير برامج عمل لصانعي السياسة الحكومية))[1].

وبهذا القول فإن هنتنغتون لا يقبل بتفسير السياسة العالمية لما بعد الحرب الباردة على أساس أنموذج الفوضى المطلقة بالرغم من تأكيده على قربهِ من الواقع أكثر من أنموذج النظرية الدولاتية، لأنه لا يمنح القدرة على التنبؤ بالأحداث المستقبلية للسياسة العالمية، وبعدم قبول هنتنغتون لهذا الأنموذج فإنه لا يقبل بأي أنموذج مطروح لتفسير السياسة العالمية لما بعد الحرب الباردة، ولم يكتفِ بذلك بل يحاول إزاحة أي أنموذج لا يقبل به، وبعد رفضه لهذا الأنموذج و النماذج الأخرى على الرغم من ميله نسبياً إلى اثنين منهما يقترح هنتنغتون أنموذجا خاصا به.

(68)

الأنموذج الذي يقدمه هنتنغتون بديلاً عن النماذج يرتكز على المنظور الحضاري، أو على تصنيف العالم في ضمن منظومات حضارية.

إذ يبين أنه في غياب بديل أفضل من أنموذج الحضارات سيبقى هذا الأنموذج يقدم أفضل من أي بديل آخر نقطة بداية نافعة لتفسير المتغيرات الجارية في العالم، وهنتنغتون يبين مدى قدرة أنموذجه وما يمتلكه من قوة تفسيرية واقناعية وتفوقه على النماذج الأخرى. كل هذه الأمور وغيرها يمتلكها أنموذج الحضارات[1]، ويوضح ذلك هنتنغتون بقولهِ ((هذه النظرة لا تضحي بالواقعية من أجل التحديد الضيق كما تفعل نظريتا عالم واحد وعالمين، كما أنها لا تضحي بالتحديد الضيق من أجل واقعية مثلما الحال في نظريتي الدولاتية وحالة الفوضى، وهي تزودنا بإطار واضح وسهل الفهم باستيعاب العالم، مميزاً بين ما هو هام عما هو غير هام بين الصراعات المعقدة، ومتنبئاً بالتطورات المستقبلية ومزوداً بنقاط استرشادية لصانعي السياسة))[2]، وكذلك يذكر هنتنغتون انه استثمر الأطر العامة للنماذج السابقة في صياغته الأنموذج الحضاراتي[3]، ومن هذه الأطر التي استثمرها ما يأتي:

1- استثماره الإطار العام لأنموذج (عالم واحد منسجم) وهذا الإطار هو ان القوى المتحدة في العالم سوف تولد قوى مضادة من تأكيد الذات الثقافي والوعي الحضاري.

(69)

2- يستثمر إطار أنموذج (نحن وهم) ويصف العالم بأنه منقسم بين عالم غربي وعوالم غير غربية.

3- استثمار أنموذج (الدولاتية) ويؤكد ان الدولة القومية لا زالت من أهم الوحدات المحركة في الشؤون الدولية، لكنه يرجع اجتماعها وصراعها ومصالحها إلى عوامل ثقافية وحضارية تتشكل منها بشكل متناغم.

4- يوافق أنموذج (الفوضى) بأن العالم فوضوي، وأنه حافل بالنزاعات لكنه يؤكد على ان أكثر النزاعات خطراً على الاستقرار هي تلك النزاعات القائمة بين الدول أو الجماعات من حضارات مختلفة.

 وبهذه الأطر الأربعة يستثمر هنتنغتون الأطر العامة للنماذج الأربعة السابقة الذكر، ويوظفها على حساب ما يلائم أنموذجه، وبالرغم من قول هنتنغتون بالأنموذج الحضاراتي إلا انه يؤكد ان هذا الأنموذج ليس صالحاً للأبد مقارناً إياه بأنموذج الحرب الباردة الذي استمر أربعين سنة لكنه أصبح لا ينفع، وهذا ما سيواجه أنموذج التفسير الحضاراتي[1].

وحسب رأي هنتنغتون فإن كثيراً من التطورات الهامة بعد نهاية الحرب كانت منسجمة مع أنموذج التفسير الحضاراتي، وكان بالإمكان التنبؤ بها بواسطة هذه التطورات هي ((سقوط الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا، والحروب الدائرة على أقاليمها السابقة، صعود الأصولية الدينية في مناطق العالم، الصراع داخل روسيا

(70)

وتركيا والمكسيك حول الهوية، شدة المنازعات التجارية بين الولايات المتحدة واليابان، مقاومة الدول الإسلامية الضغط الغربي على العراق وليبيا والجهود التي تبذلها الدول الإسلامية والصينية للحصول على الأسلحة النووية ووسائط اطلاقها، دور الصين المستمر كدولة عظمى خارجية واندماج نظم ديمقراطية جديدة لبعض الدول وليس في بعضها الآخر، وتطور التنافس على التسليح في شرق آسيا))[1].

وبالرغم من التحفظ على ما جاءت به أطروحة هنتنغتون لكن لا يمكن إنكار نجاحه في توظيف منجزات فلسفة العلم في القرن العشرين، والتي منها فكرة الأنموذج. لكن ما مدى فهمه لفكرة الأنموذج؟

نستنتج مما سبق ذكره في الصفحات السابقة ان هنتنغتون فهم فكرة الأنموذج عند كون وذلك عن طريق ما يأتي:-

انه لا يمكن أن يقبل الباحث على تفسير السياسة العالمية، وهو لا يملك أنموذجاً يفسرها بوساطته، وهذا ما عمل به هنتنغتون بقوله بأنموذج التفسير الحضاري.

تطور الأحداث السياسية تدفع إلى إيجاد أنموذج جديد لتفسيرها للأحداث وهذا ما عمل به هنتنغتون ولم يعتمد على النماذج السابقة.

عمل على إزاحة النماذج السابقة التي تفسر السياسة العالمية لما بعد الحرب الباردة، وهذا ما يعمله الأنموذج الجديد من إزاحة للنماذج القديمة.

(71)

وتبقى الفلسفة بفروعها مصدراً للتقدم الفكري في كل المجالات العلمية سواء العلوم الانسانية أو العلوم التطبيقية البحتة لما تقدمه من معطيات تساعد العالم على سعة أفقه في قراءته للواقع، وما توفره له من إطار فكري يمكنه من فهم الأحداث، وهذا الإطار مختلف عما هو موجود لدى من لا يهتم بالمعرفة الفلسفية.

 

(72)

المبحث الثاني

التفسير الحضاري عند هنتنغتون

لقد تبين في المبحث الأول من هذا الفصل كيف استثمر هنتنغتون منجزات فلسفة العلم، وخصوصاً فكرة الأنموذج عند توماس كون، ولم يكتف هنتنغتون بتوظيف فلسفة العلم في دراسته بل لجأ إلى حقل آخر من حقول الفلسفة ألا وهو حقل فلسفة التاريخ[1]، فبعد أن اخذ الإطار الفكري لأطروحته من فلسفة العلم راح يدعمها ويثبتها من خلال التفسير الحضاري.

أولاً/ التفسير الحضاري للتاريخ

يعد التفسير الحضاري واحداً من بين تفسيرات عدة للتاريخ، تعد فيه الحضارة محور الدراسة ونقطة انطلاق المفسرين للتاريخ، ولقد عرف الفكر البشري عدداً من رواد هذه النظرية منهم ابن خلدون، و اشبنجلر، و توينبي، وحتى يتم التعرف أكثر على طبيعة هذا التفسير سوف نتعرض إلى طبيعة تفسير المفكرين كلاً على حدة.

 
(73)

أ- التفسير الحضاري عند ابن خلدون:

امتاز ابن خلدون ((بسعة اطلاعه على ما كتب الأقدمون، وعلى أحوال البشر وكان قادراً على استعراض الآراء ونقدها، وهو دقيق الملاحظة في أثناء ذلك كله مع حرية في التفكير))[1]، وبالرغم من أن بعض الباحثين يرى أن الدولة هي محور حركة التاريخ عند ابن خلدون، وهذه حقيقة لايمكن تجاوزها ألا أنّه عني بالحضارة بوصفها طور من الأطوار التي تمر بها الدولة[2]، فهو يقسم المراحل التي تمر بها الدولة على أطوار، فالطور الأول من أطوار الدولة هو طور البداوة، والطور الثاني هو طور الحضارة، والثالث هو طور التدهور ويتحدث احد الباحثين عن مفهوم الحضارة عند ابن خلدون فيقول ((نجد ان ابن خلدون كان يعني بالحضارة هذا النمط من السلوك والأخلاق وأساليب الحياة المترفة الذي يخص أصحاب الدولة حكامها وحاشيتها ومواليها وموظفيها، وهو نمط إدانة وذم أهلها، فالحضارة وان كانت كما يقول غاية العمران، ولكنها في الوقت نفسه تشكل نهاية لعمره، وأنها مؤذنة بفساده، وأنها وما يلازمها من النعيم والترف تمثل سن الوقوف لعمر العمران والدولة، ومن ثم فإن

(74)

الحضارة حينما تحل مرحلتها سوف تؤدي إلى زوال العمران ونهاية الدولة)) [1]، وبهذا فإن الحضارة عند ابن خلدون هي الأحوال العامة الزائدة على الضروري ويبين أن غاية العمران هي الحضارة والترف وانه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد[2](5).

ويتبين مما سبق ذكره ان ابن خلدون عني بالحضارة، ولكنه لم يجعلها محور دراسته للتاريخ، وإنما جعلها طوراً من أطوار الدولة، ونذيراً على انهيارها، ومن خلال اهتمامه هذا يمكن عد نظريته النواة الأولى للتفسير الحضاري.

ب- التفسير الحضاري عند اشبنجلر:

تعد الحضارات جوهر التاريخ في نظر اشبنجلر إذ إن مجمل رؤيته للتاريخ  ترتكز على الحضارات من خلال مسيرتها ومصيرها [3]، فالحضارة عنده هي الظاهرة الأولية للتاريخ البشري[4]، الذي يرى من خلال دراسته له أن هناك ثمان حضارات عليا رئيسة هي الحضارة المصرية، والحضارة البابلية، والحضارة الهندية، والحضارة الصينية، والحضارة الكلاسيكية (اليونانية، الرومانية)، والحضارة العربية، والحضارة المكسيكية، والحضارة الغربية (الأوربية، الامريكية)، والحضارة الروسية، وقد تناول اشبنجلر في دراسته ستاً من هذه الحضارات، وركز على ثلاث منها: الحضارة الكلاسيكية، الحضارة العربية، الحضارة الغربية، وعد كل واحدة

(75)

من هذه الحضارات لها استقلاليتها، وهي عبارة عن كيان قائم بذاته غير متأثر بالآخر، ولكل حضارة رمز خاص بها يعد بمثابة المفتاح الحقيقي لفهما وإدراك تاريخها[1]، وبرؤيته هذه فإن اشبنجلر خالف كثيراً من الباحثين الذين جعلوا من الحضارة الغربية المحور الثابت الذي يرتكز عليه التاريخ العام، وكذلك ليس هناك من وجهة نظر تاريخ عام واحد بل تاريخ مكون من وحدات مستقلة منفصلة عن بعضها البعض وهي الحضارات[2].

ولا بد من الإشارة إلى ان أهم ما تميزت به دراسة اشبنجلر للحضارات ما يأتي:

1- الجانب الأساسي والايجابي في دراسة اشبنجلر للتاريخ هو انطلاقه من الحضارات على أنها محور التاريخ[3]، والتي يرى فيها أنها ((وحدة الدراسة التاريخية أو الظاهرة الأولية للتاريخ العالمي كله ما كان منه وما سيكون، لأن الحضارة ظاهرة روحية لجماعة من الناس لها تصور واحد عن العالم، وتتبلور وحدة تصورهم في مظاهر حضارية من فن ودين وفلسفة وسياسة وعلم، وتشكل هذه الوحدة شخصية حضارية لها خصائصها الذاتية))[4].

2- لقد حرص اشبنجلر على إبراز الطابع الخاص لكل حضارة في مجالات العلوم والثقافة والفنون، وهذا ما يتوضح لنا من خلال النص الآتي ((يسمي اشبنجلر كل حضارة بأهم سمة أو مفهوم

(76)

لها، فالحضارة اليونانية يسميها الابولونية، وهي تتمثل فنياً في التمثال المحدود في الأجزاء المتناسقة ذلك ان اليوناني قد عبر عن روحه الفنية في الجسم المنعزل الساكن))[1]، أما الحضارة العربية، ((فيعتبرها اشبنجلر سحرية حيث يشعر الفرد بوجوده الروحي باعتباره جزءاً من روح كبرى، يتجاوز المسلم في هذه الحضارة ما هو محسوس إلى ما هو مجرد، فلأن إلهه مجرد من التجسيم، فقد تمثل طابع التجريد لديه في الفن))[2] أما الحضارة الغربية، فطابعها الروح الفاوستية المتمثلة بالكاتدرائيات أما روحها الفنية، فمعبرة في لغة روحية متحركة في موسيقى باخ[3].

3- تجاهل اشبنجلر قدرة الأمة أو الشعب على صنع الحضارة، ويرى تبعية الشعوب للحضارة[4].

4- أن المحور المركزي الذي يسيطر على مجموع دراسة اشبنجلر للحضارات هو تصوره لها بوصفها كائناً عضوياً حيّاً[5]، ((اذ يتوالى على كل حضارة ما يتوالى على أي كائن عضوي حي من ولادة ونمو وفناء وشيخوخة))[6].

يُستنتج مما سبق ذكره ان التفسير الحضاري قد ازدهر مع اشبنجلر، وأصبحت الحضارات هي محور دراسة التاريخ بعد ان

(77)

كانت الدول، ولم يهتم اشبنجلر بحضارته فقط، وانما تجاوزها للاهتمام بالحضارات الأخرى، مبيناً استقلالية كل حضارة عن الحضارات الأخرى، وواصفاً الحضارة بالكائن الحي.

ج- التفسير الحضاري عند ارنولد توينبي:

إن دراسة التاريخ حسب رؤية توينبي لا تكتمل إلا بدراسة الحضارات التي ظهرت في مسار التاريخ العام[1]، ولا يرجع توينبي الحضارة إلى نتاج عرق أو جنس بشري يتميز بخصال معينة، ولا هي من صنع البيئة وحدها ولا هي نتيجة الصراع الطبقي وعوامل الاقتصاد وحدها، وإنما كل هذه العوامل تدخل في صنع الحضارة[2]، وان وراء كل حضارة ديانة عالمية، فالحضارات الخمس في عالمنا المعاصر يصنفها توينبي على الأساس الديني[3]، وكما هو مشار إليه سابقا من ان توينبي لم يرجع بدء الحضارات إلى عامل واحد وانما هي نتيجة تفاعل عوامل عدة، وذلك عن طريق خلق حالة تتجاوز أوضاع الركود التي تخيم على المجتمعات البدائية، وتنقلها إلى أوضاع الحركة والإبداع التي تتسم بها المجتمعات المتقدمة حضارياً، وقد أطلق توينبي على هذه العملية عبارة(التحدي والاستجابة)[4].

((في ضوء دراسة توينبي للمجتمعات البشرية فإِنه قد خلص

(78)

إلى ان العامل الرئيس في عملية نشوء الحضارة وظهورها راجع إلى حد كبير إلى استجابة المجتمع لتحدٍ صادر أما عن البيئة المادية أو الوسط البشري أو عن كليهما معاً، ومن هنا جاءت تسمية نظريته التحدي والاستجابة، فالمجتمع خلال تطوره يصادف صعاباً تهدد وجوده وكيانه، وليواجه هذا التحدي يبذل جهوداً مضاعفة، والتغلب عليه يمكن من زيادة قوته الداخلية، وقدرته الخلاقة بحيث يؤدي ذلك إلى نشوء ما نطلق عليه اسم (الحضارة)، أما إذا لم يتمكن المجتمع من مواجهة هذا التحدي بنجاح فإِنه يفقد قيمته وهيئته ورفاهيته المادية وربما آل به الأمر إلى الفناء والزوال))[1].

وقد جعل توينبي من مفهوم التحدي والاستجابة أساس فلسفة التاريخ لديه، والذي تمكن من خلاله فهم نمو الحضارات وتطورها وتحللها، ذلك أن النمو والتحلل يتوقفان على مدى الاستجابة، وعلى ما تصيبه الحضارات من نجاح أو فشل حيال تحديات البيئة الطبيعية والبشرية[2].

يتبين مما سبق ذكره ان توينبي استمر على خطى اشبنجلر في جعل الحضارات محور دراسة التاريخ لكنه أضاف بأن جعل من الدين أساساً في دراستهِ للحضارات المتبقية حسب رؤيته، وكذلك لم يجعل نشوء الحضارة وانهيارها راجعاً إلى عامل واحد، وإنما هو راجع لعوامل عدة، موضحاً ذلك في نظريته التي اعتمدها في تفسير التاريخ والتي هي (التحدي والاستجابة).

(79)

ومن خلال الحديث عن التفسير الحضاري عند توينبي واشبنجلر يتبين أن هذا التفسير قائم على أساس ان الحضارات، وليس الدول هي محور الدراسة التاريخية، وعندما يُطلق على احد أنواع التفاسير تسمية التفسير الحضاري، فهذا يعني أَن الباحث يجعل من الحضارات محوراً اساساً في دراستهِ.

ثانياً/ التفسير الحضاري عند هنتنغتون

باستخدام هنتنغتون الأنموذج الحضاري في تفسيره السياسة العالمية لما بعد الحرب الباردة، فانه لجأ إلى دراسات فلسفة التاريخ كي يقدم ركائز لأطروحته، ومن هذه الركائز التفسير الحضاري للتاريخ، ولكن بدلاً من أن تكون غايته دراسة التاريخ كانت الغاية لديه تفسير السياسة العالمية لما بعد الحرب الباردة، أما طبيعة التفسير الحضاري عند هنتنغتون، فهذا ما سنتعرف عليه في هذا المقصد.

أ- الحضارات عند هنتنغتون:

إن رؤية هنتنغتون للتاريخ البشري هي امتداد لرؤية اشبنجلر وتوينبي المرتكزة على أساس أن الحضارات محور دراسة التاريخ إذ يقول هنتنغتون ((إن التاريخ البشري هو تاريخ الحضارات، وانه لمن المستحيل أن نفكر في أي شكل آخر من تطور البشرية، وتمتد القصة عبر أجيال من الحضارات من السومريين والمصريين القدماء إلى الحضارات الأمريكية العتيقة والوسطى إلى الحضارة المسيحية والإسلامية مروراً ببروز حضارات متعاقبة صينية وهندوسية))[1].

(80)

وحينما يأتي هنتنغتون إلى عدد الحضارات يرى أن الباحثين المختصين على الرغم من أنهم يتفقون في تحديدهم للحضارات الكبرى في التاريخ إلا أنهم يختلفون حول العدد الكلي للحضارات التي وجدت عبر التاريخ[1](25)، اذ يذكر أن اشبنجلر حدد ثمان حضارات، وتوينبي حدد إِحدى وعشرين حضارة، وباحث آخر ذكر وجود تسع حضارات، وآخر غيره ذكر وجود ست عشرة حضارة، ويرجع هنتنغتون جزءاً من هذه الاختلافات إلى أنّ بعض الباحثين جعل من الصين والهند حضارة واحدة عبر التاريخ، وأن إحداهما وليدة للأخرى إلا أن هذه الاختلافات في تحديد عدد الحضارات حسب وجهة نظر هنتنغتون لا تواجه معارضة[2].

أما الحضارات المعاصرة عند هنتنغتون فهي:

1- الحضارة الصينية:

التي أطلق عليها في مقالته (صِدام الحضارات) المنشورة في مجلة شؤون خارجية اسم الحضارة الكونفوشيوسية لكنه ذكرها في كتابه بأسم الصينية معللاً ذلك بأن
الصينية أوسع من الكونفوشيوسية وأنها تتخطى حدود الصين بوصفها كياناً سياسياً[3]، وأن اصطلاح صيني «Sinic» بدأ يطلق على الثقافة المشتركة في الصين، وثقافة الجماعات الصينية في جنوب شرق آسيا، ومناطق أخرى خارج الصين، وكذلك الثقافات القريبة منها في فيتنام وكوريا[4].

(81)

2- الحضارة اليابانية:

على الرغم من ان بعض الباحثين يدمجون الحضارة الصينية واليابانية تحت مسمى حضارة الشرق الأقصى، وبعضهم الآخر يذكر أن اليابانية وليدة الحضارة الصينية وأنها ظهرت خلال الفترة ما بين 100 – 400 ق.م، إلا أنّ هنتنغتون لا يقول باشتراك الحضارتين الصينية واليابانية تحت حضارة واحدة، وهي حضارة الشرق الأقصى، ذلك انه يرى أن كلاً من الحضارتين مستقلة على حدة[1]، وبذلك يتعارض مع توينبي، ويتفق مع رؤية اشبنجلر القائلة بوجود حضارة صينية مستقلة.

3- الحضارة الهندوكية او الهندية:

ويذكر عنها هنتنغتون أنها وجدت في القارة الهندية منذ 1500 ق.م، وأنها غالباً ما يشار إليها على أنها هندية أو هندوكية أو هندوسية، إلا أنَّه لا يحبذ تسميتها بالهندوسية، ورأيه هنا مشابه لرأيه حول تسمية الحضارة الصينية بدلاً من الحضارة الكونفوشيوسية لسببين الأول: إن الهندية حسب رأيه أوسع من الهندوسية، ولا تقف عند الهند فقط، والسبب الثاني: إنَّ في الهند ديانات مثل الاسلام[2]، وهذا يجعل منها تحتوي على أكثر من ديانة.

4- الحضارة الإسلامية:

يقول هنتنغتون ((كل العلماء الكبار يعترفون بوجود حضارة إسلامية متميزة، وعند بروزها في شبه الجزيرة العربية في القرن

(82)

السابع الميلادي، انتشر الاسلام بسرعة عبر شمال أفريقيا، وشبه الجزيرة الآيبيرية وكذلك شرقاً إلى وسط آسيا، وشبه القارة الهندية، وجنوب شرق آسيا، وكنتيجة لذلك توجد ثقافات عديدة متميزة أو فروع حضارية داخل الاسلام، بما في ذلك العرب، والأتراك والفرس))[1]، وما يلاحظ على هنتنغتون في رؤيته عن الحضارة الإسلامية، وعلى الرغم من ذكره لمكونات مختلفة، إلا أنه يرجعهم إلى حضارة واحدة مؤطرة بإطار الدين الإسلامي، وهذا يرجع ربما إلى تعريفه الحضارة بأنها كيان ثقافي بأوسع معانيه.

5- الحضارة الارذوكسية:

يتماشى هنتنغتون مع رؤية الباحثين الذين يفرقون بين الحضارة الارذوكسية التي هي  متمركزة في روسيا، وبين حضارة العالم المسيحي الغربي[2]، ويلاحظ أن هذا التفريق موجود أيضا عند توينبي إذ بين سبب ذلك بقوله ((أما افتراق المسيحيتين الغربية والارذوكسية إلى مجتمعين منفصلين، فيمكن أن نعزوه إلى انشقاق الشرنقة المشتركة التي خرجا منها، وهي الكنيسة الكاثوليكية المنشقة إلى هيئتين: الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والكنسية الارذوكسية، وقد استغرق هذا الانشقاق ثلاثة قرون ليستكمل مقوماته بادئاً من الجدل حول تحطيم الأيقونات في القرن الثامن الميلادي، ومنتهياً بقطع العلائق نهائياً عام 1054 ميلادياً اثر اختلاف حول مسألة لاهوتية، وفي الوقت نفسه اصطبغت كل من كنيستي المجتمعين

(83)

أبان التباين السريع بينهما بصفات سياسية متعارضة تعارضاً حاداً، فأصبحت الكنيسة الكاثوليكية في الغرب ترتكز على سلطة مستقلة هي بابوية القرون الوسطى بينما غدت الكنيسة الارذوكسية إدارة طيعة تابعة للدولة البيزنطية))[1].

6- الحضارة الغربية:

ويرجع هنتنغتون جذورها إلى سنة 700 أو 800 ق.م، وأنها مكونة من ثلاثة عناصر رئيسة هي أوربا، وأمريكا الشمالية، وأمريكا اللاتينية [2].

وهنتنغتون يؤصل الحضارة الغربية الموجودة اليوم بأن لها جذوراً قديمة، وأنها وريثة الحضارة اليونانية والرومانية الممتدة إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح (ع)، ولكن في دراسة اشبنجلر للتاريخ جعل من الحضارة اليونانية (الكلاسيكية) حضارة مستقلة، ولها رموزها الخاصة، فكيف يجعل هنتنغتون الحضارة الغربية وريثة للحضارة اليونانية القديمة؟

7- الحضارة الامريكية اللاتينية:

على الرغم من جعل هنتنغتون أمريكا اللاتينية جزءا من الحضارة الغربية إلا أنّه يمنحها استقلاليتها، ويعدها وليدة الحضارة الأوربية، ولكنها تطورت مع مرور الزمن، وسلكت مسلكا ثقافياً مخالفا لما

(84)

هو موجود في أوربا متمثلا في ثقافة كوربوراتية (Corporatist)[1] وتسلطية[2].

8- الحضارة الإفريقية:

وهو يعدها حضارة محتملة لأن أغلب الباحثين أنكروا وجود هكذا حضارة باستثناء بروديل (Braudel)[3]، ويرجع هنتنغتون سبب احتماليتها إلى اختلاف الهويات الثقافية فيها بحيث لا توجد هوية واحدة ممكن ان تمثل جميع المنتمين لها [4].

يتبين مما سبق أَن رؤية هنتنغتون للحضارات المتبقية رؤية توفيقية بين آراء الباحثين المختصين بدراسة الحضارات، إذ أخذ من توينبي تصنيف الحضارات على أساس ديني وخصوصاً الإسلامية والارذوكسية، وأخذ عن بروديل قوله بوجود الحضارة الأفريقية لكنه جعلها محتملة، وأضاف إلى التصنيف حضارة أمريكا اللاتينية، وفصل اليابانية عن الصينية، ولم يعالج في دراسته أسباب نشوء

(85)

الحضارات، وانما اكتفى بجهود المختصين بهذا المجال، وانما اخذ عنهم ما يلائم أطروحته، وهو وجود عالم متعدد الحضارات موجود في هذا العصر كي يبني رؤية واضحة للسياسة العالمية.

ب- العلاقة بين الحضارات:

يصف هنتنغتون العلاقة بين الحضارات بأنها اتسمت في بدايتها كانت مرحلة مواجهات، ومن ثم مرحلة تأثير حضارة على الحضارات الأخرى، وتأتي بعدها مرحلة تفاعلات بين حضارات متعددة وهذه المراحل كالآتي:

1- المرحلة الأولى: مرحلة المواجهات منذ 1500 ق.م، إذ يصف فيها هنتنغتون العلاقة بين الحضارات التي كانت مفصولة عن بعضها البعض بالزمان والمكان، فلم يوجد إلا عدد قليل من الحضارات في الوقت نفسه، وإِنْ وجدت فإن عوامل الاتصال تكون غير موجودة، ويعلل هنتنغتون ذلك بالتباعد الجغرافي بين الحضارات، فالاتصالات والعلاقات التجارية تكون مقيدة، أما عن انتقال الأفكار والتقنية من حضارة إلى حضارة أخرى فإِنه يقول عنها ((وانتقلت الأفكار والتقنية من حضارة إلى حضارة، ولكن كان ذلك يستغرق قروناً وربما أكثر، فالانتقال الثقافي الهام لم يكن نتيجة للغزو بل كان لانتشار البوذية[1] في الصين بعد 600 سنة من ظهورها

(86)

شمال  الهند))[1]، ومن خلال قول هنتنغتون هذا يتبين انه يرى بأن انتقال الأفكار والتقنية يحتاج إلى فترة زمنية طويلة، وهذا طبيعي في العصور القديمة لعدم توفر وسائل الاتصال الحديثة كما هي الآن في هذا العصر.

ويتحدث هنتنغتون عن سبب المواجهات التي اتسمت بها هذه المرحلة من العلاقة قائلاً ((إن أكثر الصلات أهمية وخطورة بين الحضارات كان عندما قام شعب من حضارة ما بغزو وإذلال وإخضاع شعب من حضارة أخرى، ولم تكن هذه الصلات في العادة عنيفة فحسب، بل قصيرة، وحدثت فقط بشكل متقطع، ومع مطلع القرن السابع ق.م بدأت فعلاً الصلات بين الحضارات، واستمرت باقية لفترات كما حصل بين الاسلام والغرب والإسلام والهند))[2]، ويشير هنتنغتون إلى أنّ معظم العلاقات التجارية والثقافية والعسكرية في هذه المرحلة كانت داخل الحضارة الواحدة فيما كانت الصين والهند عرضة من حين إلى آخر للغزو والخضوع من قبل المغول، وان هناك حروباً طويلة جرت داخل الحضارة الواحدة، وهذا ما حدث داخل الحضارة الإغريقية فقد حارب الإغريق بعضهم بعضاً[3].

2- المرحلة الثانية: مرحلة التأثير / نهوض الغرب:

يذكر هنتنغتون بعد أن انتهت مرحلة المواجهات المنقطعة أو المحدودة والمتعددة الاتجاهات بين الحضارات مهدت السبيل

(87)

لتأثير غربي متميز بعد أن بدأ الغرب بالظهور المتميز في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبرز على أنه متفوق في القوة على كل الحضارات الأخرى حيث سيطر الغرب طوال قرون عدة على اغلب أجزاء العالم[1]، وأن الأسباب التي أدت إلى هذا التطور المنفرد والخطير حسب رأي هنتنغتون هي ((التركيبة الاجتماعية والعلاقات الطبقية في الغرب، ظهور المدن والتجارة، والتوزيع النسبي للسلطة داخل المجتمعات الغربية بين الطبقات الاجتماعية والملوك، بين السلطات الدينية والدنيوية، نمو الشعور القومي بين الشعوب الأوربية وتطور بيروقراطيات الدولة))[2]، أما مصادر التوسع الغربي، فيرجعه هنتنغتون إلى أسباب تكنولوجية متعلقة باكتشاف وسائل الملاحة العابرة للمحيط للوصول إلى شعوب بعيدة، وتطور القدرة العسكرية الغربية[3].

أما سبب تغلب الغرب على شعوب العالم، فيقول عن ذلك هنتنغتون ((لقد تغلب الغرب على العالم ليس من خلال تفوقه في الأفكار أو القيم أو الديانة (التي تحولت إليها أعداد قليلة من حضارات أخرى)، ولكن بسبب تفوقه في تطبيق العنف المنظم، الغربيون غالباً ما ينسون هذه الحقيقة، أما غير الغربيين فلا))[4]، ويذكر هنتنغتون انه منذ عام 1900 كان العالم واحداً سياسياً واقتصادياً أكثر من أي وقت مضى في التاريخ، فمن الناحية التجارية

(88)

ومن ناحية الاستثمار، ومن ناحية الحضارة كانت تعني الحضارة الغربية، والقانون الدولي قانوناً غربياً[1]، ويتجاهل هنتنغتون حكومة الدولة العثمانية التي كانت تحكم تقريباً ربع أوربا[2]، وهذه المرحلة هي مرحلة هيمنة الغرب على المجتمعات غير الغربية.

3- المرحلة الثالثة: مرحلة التفاعلات / النظام متعدد الحضارات:

يذكر هنتنغتون أن في القرن العشرين تحولت العلاقات بين الحضارات من شكل هيمن عليه تأثير أحادي الاتجاه لحضارة واحدة على كل الحضارات الأخرى إلى شكل من التفاعلات الحادة المستمرة والمتعددة الأقطاب بين كل الحضارات، وأن خواص المرحلة السابقة بدأت بالاختفاء في هذه المرحلة[3]، ويشير هنتنغتون إلى أن النظام الدولي اتسع إلى ما وراء الغرب، وأصبح متعدد الحضارات، ومع نهاية القرن العشرين بدأ الغرب يتحرك من ظاهرة الدولة المحاربة نحو ظاهرة الدولة العالمية، وان الإيديولوجيات السياسية للقرن العشرين جميعها تحمل شيئاً واحداً مشتركاً ألا وإنها من منتجات الحضارات الغربية ولا توجد حضارة أخرى أنتجت إيديولوجيا مهمة حسب رؤية هنتنغتون[4]، وهو يذكر أن الإيديولوجيات التي ميزت الحضارة الغربية قد سقطت، وحلت محلها أشكال قائمة على أساس

(89)

الدين، وأشكال ثقافية من الهوية والولاء او الالتزام، وإن فصل الدين عن الدولة هو نتاج غربي قد وصل إلى نهايته، واخذ الدين يدخل عنوة السياسة العالمية، وبعد أن كان الصدام داخل الحضارة الواحدة[1] صار صداماً بين الحضارات.

ويتبين مما سبق أن مميزات التفسير الحضاري عند هنتنغتون هي:

1- الحضارات عند هنتنغتون هي محور السياسة العالمية وليست الدول.

2- لقد حاول هنتنغتون الإفادة من دراسات الباحثين المختصين بالتفسير الحضاري.

3- لم تكن غاية هنتنغتون من التفسير الحضاري دراسة التاريخ، وانما توفير المرتكز الفلسفي للأنموذج الحضاري الذي طرحة لتفسير السياسة العالمية لما بعد الحرب الباردة.

(90)

4- في العلاقة بين الحضارات اعتمد على مقولة التحقيب[1] وكذلك في الصدام بين مكونات الحضارة الغربية.

من خلال معالجة هنتنغتون لطبيعة العلاقات بين الحضارات يتبين أنها اتسمت بطابع الصدام إذ انحسرت العلاقات الايجابية (ثقافية، تجارية) داخل الحضارة الواحدة في المرحلة الأولى، والمرحلة الثانية هيمن الغرب على العالم، والمرحلة الثالثة عالم متعدد الحضارات لكن تحكمه علاقة الصدام.

(91)
(92)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

 نقد صِدام الحضارات

(93)

المبحث الأول

السياسة العالمية بين الدولة والحضارة

لعل من أبرز الأفكار التي ذكرها هنتنغتون بعد تأكيده على العامل الثقافي هي أننا امام حقبة جديدة لن تكون فيها الدولة القومية محط الاهتمام، وان كانت ستبقى بوصفها وجوداً رئيسياً على المسرح العالمي، وذلك حسب قوله ((لأن الناس أصبحوا يميلون للاندماج في كينونة أكبر من دولهم الصغيرة، فالألمان مثلا أصبحوا ينظرون إلى أنفسهم أوربيين أكثر من كونهم ألماناً، وهذه الفكرة هي التي بدأت تنتشر بأنماط مختلفة في العالم كله، وأن الدول لا زالت تشكل الفاعل الأساسي في الساحة الدولية، لكن لابد من إدراك أن تجمعات الدول لم تعُد تتشكل في إطار الكتل الثلاث للحرب الباردة (الشرق، الغرب، العالم الثالث) بل إنها تتطور في ظل تجمعات ثقافية كبرى تتمحور حول سبع أو ثمان حضارات)) [1]. هكذا يقلل هنتنغتون من دور الدولة ليضع محلها الحضارة بوصفها كياناً سياسياً سيهيمن على مسار السياسة الدولية، اذ يقول في هذا المجال فؤاد عجمي[2]: ((إن هنتنغتون يرى أن الدول ستحارب من أجل الروابط والولاءات الحضارية، في حين أنها تتدافع بالمناكب

(94)

من اجل حصتها في السوق وتتعلم كيف تتنافس في اقتصاد عالمي لا يعرف الرحمة... ومن يؤمنون بأن المصالح بددت العواطف في عالم اليوم يعرفون جيدا أن الناس يريدون سوني Sony وليس سويل Soil (التربة او الأرض بالانجليزية)، فقد مل الناس من الطوباوية وأصبحوا أكثر نفورا من الحملات التي تستند إلى المبادئ والمعتقدات، ومن الصعب التخيل أن روسيا التي خربها التضخم ستتبنى القضية السامية لإقامة بيزنطة الثانية، حاملة راية المشعل الارذوكسي السلافي)) [1].

ومن هنا يتبين أن انتقاد فؤاد عجمي قائم على تجاهل هنتنغتون للدور الذي تقوم به الدول في الصراعات، وسياسات المصلحة والمكر التي تتبعها لتأكيد نفوذها وسيطرتها، اذ يرى عجمي أن الدول هي التي تتحكم بالعلاقات والروابط الحضارية وليس العكس، أي: إنها تؤكد على هذه الروابط فقط إذا رأت أنها تخدم مصالحها السياسية والاقتصادية[2]

وليس عجمي فقط من يشكل على هنتنغتون ذلك بل عدد من الباحثين الآخرين، اذ يشير أحدهم إلى أن هنتنغتون يتجاهل الدولة كلياً، ومكانتها في ظل النظام العالمي، فالواضح انه لا الأديان ولا الثقافات ولا الحضارات تسيطر على الدول بل على العكس، الدول هي التي تسيطر على الثقافات وتفسرها كما تشاء، الدول لا تهمها الهويات الثقافية والحضارية والذي يهمها هو مصلحتها ولتحقيق

(95)

هذه المصلحة تسعى إلى جميع الوسائل الأخلاقية واللااخلاقية. فكيف نستطيع تفسير مبيعات الأسلحة الأمريكية او الفرنسية والبريطانية أي: الأسلحة الغربية إلى المملكة العربية السعودية وإمارات الخليج ؟ وكيف نفسر موقف بعض الدول العربية من المشاركة في حرب الخليج الثانية والوقوف في صف واحد مع التحالف الغربي ؟ او ما يجري الحال عليه الآن من تحالف بعض الدول الخليجية مع الدول الغربية من اجل تغيير الأنظمة العربية؟ فالدول انتهازية لا تراعي هذه التحالفات الحضارية التي يتحدث عنها هنتنغتون، فحتى مبيعات الأسلحة الصينية او أسلحة كوريا الشمالية لإيران وسوريا ليس لها علاقة بالتحالف الحضاري بقدر ما هو في مصلحة الدول والذين يقومون على إدارتها فهذه الدول ستتحالف مع أي حضارة او دولة ما دام ذلك يحقق مصلحتها هذا هو الذي يتجاهله هنتنغتون [1].

لعل إغفال هنتنغتون لدور الدولة او التقليل من شأنها في الصراعات والتفاعلات الدولية المستقبلية هي نقطة الضعف الأساسية التي تجعل من تحليله تحليلا غير واقعي يتناقض مع الدور الفعال الذي تلعبه الدولة في الساحة الدولية، رغم الاستدراك الاضطراري لهنتنغتون بقوله ((إن الدول ستظل هي أقوى القوى الفاعلة في الشؤون الدولية)) [2].

وهنا هنتنغتون مُربك نتيجة لهدفه في تأكيده على دور الحضارة

(96)

في السياسة العالمية، وعدم إنكاره لدور الدولة، وهذا واضح لمن تتبع أطروحته، فهو في الوقت الذي يشير فيه إلى إنكار دور الدولة يشير إلى أهمية دورها لكن بإطار الحضارة التي تنتمي اليها.

من خلال حديث هنتنغتون عن دور الدولة فإنه يشير إلى أن في نظام الحضارات العالمي الجديد، تحل الدول الأساسية للحضارات الكبرى محل القوتين العظميين في الحرب الباردة كأقطاب رئيسة للجذب والنفور للدول الأخرى، وهذا ما يؤكده بقوله ((الدولة تميل إلى اتباع الدول ذات نفس الثقافة وتتوازن ضد الدول التي تفتقر معها إلى التجانس الثقافي)) [1]، وإن العالم سيكون نظامه مؤسساً على أساس الحضارات[2]، والدول الأساسية للحضارات هي مصدر النظام داخل الحضارات ومن خلال التفاوض مع دول أساسية أخرى بين الحضارات[3]، والتجانس الثقافي يضفي الشرعية على القيادة وعلى الوظيفة المتمثلة في إعطاء الأوامر من الدول الأساسية إلى كل الدول الأعضاء والقوى والمؤسسات الخارجية[4]، كذلك يقول: ((في الحرب الباردة، الدول كانت ذات علاقة بالقوتين العظميين كدول متحالفة، او تابعة، او عملية، او محايدة، او غير منحازة. في عالم مابعد الحرب الباردة، الدول تحدد علاقتها بالحضارة كدول أعضاء، دول أساسية، دول وحيدة، دول منقسمة، ودول مفتته أو

(97)

ممزقة. ومثل القبائل والأمم، فالحضارات لها بٌنية سياسية)) [1]. ويبين هنتنغتون طبيعة هذه الدول وتصنيفها، اذ يلاحظ عليه انه ينطلق من مرتكز ثقافي لتصنيف الدول فهو يصنفها بوصفها دولاً أعضاء، دولاً أساسية، دولاً وحيدة، دولاً منقسمة، ودولاً مفتته، أو ممزقة.

1- الدولة العضو هي دولة تتحدد هويتها كليا ثقافيا بحضارة معينة، مثل مصر بالحضارة العربية الإسلامية، وايطاليا بالحضارة الأوربية الغربية، الحضارة يمكن أن تشتمل على شعب يتقاسم ثقافة تتحدد بها هويته، ولكن هذا الشعب يعيش في دول تسيطر عليها دول أعضاء لحضارة أخرى [2].  

2- الدول القومية تظل الوحدات الرئيسية الفاعلة في الشؤون العالمية وسلوكها يتشكل كما في الماضي بسعيها نحو القوة والثروة، ولكن أيضا يتشكل بالاختبارات والاجماعات والاختلافات الثقافية[3].

3- الدولة الممزقة مع نهاية الحرب الباردة أصبحت روسيا مرة أخرى دولة ممزقة بإعادة ظهور الصراع التقليدي بين الغربيين وعشاق السلافية [4]. يرى الخبراء الغربيون أن روسيا مصابة بأعراض الدولة الممزقة والضعيفة ما بعد الكولونيالية المميزة لدول العالم الثالث وهي حالة غير شاذة وغير عابرة ومن الممكن أن تمتد بضع عشرات من السنين وأنها لا تشبه ألمانيا فيما بعد الحربين اذ إن روسيا ليس لديها في الواقع أي من المؤسسات الضرورية على

(98)

الإطلاق التي تستطيع توظيف اقتصاد سوق فعال، دولة ليس لديها نظام الضرائب، تتناقض فيها معدلات الأعمار بشكل حاد ويتراجع فيها التعداد العام للسكان على نحو مطرد [1].

4- الدولة الأساسية هي الدولة او الدول الأكثر قوة والأكثر مركزية ثقافيا، وإن عدد الدول ودور الدول الأساسية يختلف من حضارة إلى أخرى ومن الممكن أن يتغير مع الزمن [2].

5- الدولة الوحيدة تفتقر إلى التماثل او التجانس الثقافي مع مجتمعات أخرى. أثيوبيا على سبيل المثال، معزولة ثقافيا بلغتها السائدة، الامهرية، التي تكتب بالخط الإثيوبي، ودينها السائد، الارذوكسية القبطية، تاريخها الاستعماري، وتميزها الديني يفصلها عن الشعوب المسلمة الكبيرة المحيطة بها[3].

6- الدولة المتصدعة التي تتخطى إقليميا خطوط الصدع بين الحضارات تواجه مشكلات خاصة في المحافظة على وحدتها، في السودان استمرت الحرب الأهلية لعقود من الزمن بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي في معظمه[4].

ومما تقدم يتضح انه على الرغم من أن هنتنغتون قد أولى أهمية للحضارات في تشكيل السياسة العالمية بعد الحرب الباردة إلا أنه

(99)

لم ينفِ دور الدولة وإنما جعل الدولة هي التي تشكل السياسة التي يوحيها لها انتماؤها الحضاري، لكن الخطاب العام للأطروحة يسير عكس ذلك أي إلى اعتبار أن الحضارات ستكون هي القوى الفاعلة المحركة للصراعات، والمثير للدهشة أن هذا الرأي يصدر عن مفكر يعد واحدا من ألمع وأكبر الباحثين الدارسين لعلم السياسة وللدولة في العالم الغربي، فكيف يغفل التناسق بين دور الدولة ودور الحضارة ؟ ومن ثَمَّ فإن السياسات لا تصنعها وتتحكم فيها الحضارات والولاءات الحضارية فقط بل الدول في إطار سعيها لتحقيق مصالحها الذاتية كذلك، وهذا لا ينفي أهمية البعد الحضاري في الصراعات الدولية.

 

(100)

المبحث الثاني

 النماذج النقدية لمفهوم صدام الحضارات

أولاً/ حوار الحضارات

كُثر هم من رفضوا الخطاب الهانتغتوني، وقدموا خطابا بديلاً منطلقين من استمرارية التلاقي الحضاري بوسائل مختلفة، فبعد الاحداث الهائلة التي تسارعت منذ عام 1989 الذي يعد نقطة تحول في العقد الاخير في القرن العشرين تغيرت ظروف الحوار بين الحضارات و تطبيقاته، في ظل ما بعد الحداثة، بوصفه اسلوباً في التفكير وتعميق الكونية وانتشار العلاقات المتعددة الاطراف وأبرزها التكتلات الاقليمية واحياء القومية[1]، وقد قدم احد الباحثين دراسة فيها عرض تاريخي وتحليلي للحوار بين الحضارات في المدة بين 1949-1989، وقد أدى هذا العرض إلى اثارة السؤال الآتي: هل تساند التغيرات السياسية الهائلة في اوروبا الشرقية وما احدثته من صدى دولي كبير للحوار بين اوروبا و العالم، والسعي نحو الحريات والديمقراطية في افريقيا واسيا وامريكا اللاتينية[2].

أن الحوار بين الحضارات وحده يمكن أن يولد مشروعاً كونياً يتسق مع اختراع المستقبل، وذلك ابتغاء ان يختار الجميع ان

(101)

التجارب الحالية في آسيا وامريكا اللاتينية تجارب غاندي و تجربة الثورة الثقافية الصينية تجارب الجماعية في افريقيا، مثل تجارب لاهوتي التحرر في بيرو تتيح لنا أن نرسم الخطوة الاولى للمشروع الكوني في القرن الحادي والعشرين مشروع الأمل[1]، ان حوار الحضارات وقد فصمته ستة قرون من الاستعمار وازدراء الثقافات اللاغربية لم يستأنف الا في القرن العشرين ولا ريب في أن رسالة القرن الحادي والعشرين تمثل في القضاء على العوائق الاخيرة وفي المضي إلى النهاية في تحقيق فن عالمي وثقافة عالمية[2]، فهو يكافح العزلة المتبجحة ويبرز الواقع الحقيقي الذي هو بالدرجة الاولى علاقة بالآخر وعلاقة بالكمال، وهو يعلمنا ألَّا نتصور المستقبل في شكل ايمان ساذج بالتقدم، ولا في صورة فيض من انجاز مشاريعنا انجازا تقنيا بل على هيأة طفو حياة جديدة جدة تامة بنسك اللا أنا واللا عمل واللا معرفة من حوار الحضارات، وهذا سيساعدنا على ان ننفتح في الصعيد الثقافي على افاق لا نهاية لها في المنظور الذي توحي به في المجالات جميعها أحدث تجددات الثقافة الغربية، إن كل ذلك يتيح لنا أن نقيم علاقة جدلية تمنح السياسة بعدا جديدا بالاستعاضة عن مفهوم أداتي وحيد البعد. السياسة بوصفها تقنية تغيير البنيات بمفهوم ينخرط فيه الإنسان بجملته ويكون العمل الخارجي فيه تعبيرا عن الايمان الداخلي[3].

(102)

الا أن للحوار شروطا من اجل ان يثمر منها:

1-لابد من أن يؤسس الحوار على معرفة مسبقة قوامها معرفة معمقة من قبل المحاور بهويته الحضارية.

2- ان يكون مؤسسا على معرفة بالآخر فالوعي بالآخر يحصن الذات من الابتلاع او الذوبان وهي تحاور، فالحوار المؤسس على المجهول لا ينتج معلوما، وبذلك يتقدم الحوار ليكون استكمالا لمساحة المعرفة الناقصة بهدف استتمامها وانجاز متطلباتها[1].

الا ان عالمنا اليوم لم يحقق من وجهة نظر غادامير تقدما في سبيل الحوار لكن المستقبل سيجبرنا على الحوار الحقيقي الذي يتيح التعرف على الاخر[2]، وهنا تبرز أهمية القيمة الفكرية لأطروحة غارودي لأنه حاول ان يعرف بين الحضارات ولعل هذه المعرفة التي كونها غارودي هي التي اوصلته إلى ضرورة حوار الحضارات[3].

  فقد أكد أحد مؤيدي أنموذج حوار الحضارات قائلا((لقد حظي مقترح حوار الحضارات بترحيب واسع في المحافل الدولية لاسيما في الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث رحبت به الحكومات والمثقفون ومختلف شرائح الناس وينطوي هذا الأمر بحد ذاته على أهمية كبيرة ذلك أننا نعلم ان الرأي العام العالمي ليس مستعدا على

(103)

الدوام لقبول ما يوجه اليه من دعوات)) [1]، ويوضح كذلك ادوات الحوار قائلا((من الممكن تفسير حوار الحضارات والثقافات من خلال صور متنوعة ومستويات عدة ومن شأن التدبر الدقيق في مفهوم الحوار أَن يتيح لنا مدخلا صحيحا إلى الموضوع ولا شك في ان ذلك يتطلب الخوض في ابحاث ذات علاقة بالفلسفة والتاريخ و يحتاج إلى فرز بين جوانب اللاهوت والفلسفة في الحوار وعملية التأمل المونولوج فيما يتصل بآراء كبار المفكرين)) [2].

ان هذا الحوار يتطلب أَن تنصت للآخر كما تتحدث اليه بالضبط فالإنصات فضيلة علينا ان نتحلى بها وليس ذلك بالأمر السهل بل لابد في سبيل ذلك من ان يبادر الإنسان إلى امتلاك لون خاص من الاخلاق وتهذيب النفس والرياضة العقلية، لكن الانصات يختلف عن الصمت فهو ليس مجرد ممارسة انفعالية نتأثر خلالها وانما يعبر عن فعل ونشاط نقوم به بالنحو الذي يؤدي إلى انفتاح السامع بكيانه ووجوده على ذلك العالم الذي يتولى المتحدث الكشف عنه او يقوم بخلقه وانشائه وهكذا فان الفشل سيكون حليف عملية الحوار مالم تقترن بعملية الاصغاء [3].

وهنا ادراك لنوعية الحوار الحضاري الذي يريد ان ينتجه جعله يقدم بديلا لأساس تقليدي قامت عليه العلاقات الدولية خلال القرن العشرين وهو أساس القوة و الهيمنة وهكذا يطمح إلى جعل

(104)

انموذج القرن الحادي والعشرين في مطلق العلاقات بين البلدان والشعوب ضرورة يفسر عليها المستقبل قبل كل شيء [1]، ان القرن العشرين هو حقيقة لا نظير لها في التاريخ من حيث انه شهد أشرس أنماط الحروب والظلم والاستغلال وهو قرن يمثل حصيلة مشتركة لما عرضه المفكرون من فكر فلسفي وما اتخذه كبار الساسة من قرارات ولا يمكننا التغلب على الازمات الا بإعادة النظر في المبادئ التي قام عليها كل من الفكر والسياسة،فضلا عن الشكل الراهن للعلاقات الدولية واستبدالها بمشروع جديد كحوار الحضارات والثقافات[2].

ثانياً/ تعارف الحضارات

في ظل النماذج التي تتسابق لرسم صورة لسياسة العالم وتقويم التحولات العالمية واستشراف المستقبل تبرز أطروحة تعارف الحضارات مجيبة بذلك عن سؤال يتبادر في اذهان كثيرين: أين ومن نحن؟ محاولة الاستعانة بالموروث الديني واحيائه حتى تكون افكارنا من صميم موروثنا الذي سعى لحل ازماتنا ومشاكلنا من اجل ان تكون لدينا القدرة على النهوض بواقعنا فيكون بإمكان الدين ان يعلن عن طريق مفكريه قدرته على توجيه الحياة وقيادتها.

ويجيب احد الباحثين عن السؤال السابق قائلا((لطالما نادى الاسلام بهذه المرجعية اي: (التفسير الحضاري) ودعا إلى اعتمادها منذ أربعة عشر قرنا، لكن خطابه كان اسير التغييب الناتج عن عي العقول، وعن فرض العزلة عليه، حتى جاء الامام الخميني بمشروعه

(105)

الحضاري الإسلامي، وبمعنى من المعاني ان المنهج الحضاري في تفسير التاريخ المعاد اكتشافه على يد هنتغتون هو المنهج الاصلح وبمعاييره الدقيقة)) [1].

ومن اجل ما تقدم قُدَّم انموذج تعارف الحضارات محاولا ايجاد رؤية تعبر عن موقف المسلمين في تفسير الحدث السياسي مستقاة من الدين إذ يقول أحد القائلين بهذا الأنموذج ((السؤال الذي يطرح على مفكري العالم العربي هو ما هي افكارنا واطروحاتنا الجادة في تقويم التحولات العالمية والاتجاهات السياسية والحضارية لما بعد الحرب الباردة وعن موقع الاسلام والعالم الإسلامي من النظام العالمي ومشكلاته الكبرى)) [2]، هذا من جهة، ومن جهة اخرى ان الملاحظ بصورة عامة ان كل حضارة تشتكي من الحضارات الاخرى على انها لا تعرف بالشكل الذي ينبغي، او لا تعرف الا من خلال بعض الظواهر العابرة مما يؤكد أن هناك جهلا متبادلا بين الحضارات هذا الجهل هو من أشد العوائق تأثيرا في عرقلة بناء الحضارات ويكون سببا في أي تصادم يحصل بين الحضارات، ورفع هذا الجهل هو احد ابعاد اطروحة تعارف الحضارات الذي ينبغي ان يشترك الجميع في رفعه وتحقيقه[3].

إن من اهم المرتكزات التي تنبني عليها هذه الأطروحة هو

(106)

المرتكز الأخلاقي الذي يتضح في ختام اية التعارف ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (سورة الحجرات، الآية:13) وينظر إلى ان الامم والشعوب اذا التزمت بمبدأ هذه الآية سوف تتعالى على الاحقاد والعصبيات التي تحصل بين الامم والشعوب حين تتمحور معايير التفاضل في اطار عالم الإنسان وتتعالى فيها معايير القوم والفرق واللغة وهكذا يتحول الدين والثقافة والعلم إلى عصبيات وتطرف[1]، فضلا عن ان العلاقات بين الامم والشعوب والحضارات في المنظور الإسلامي ليست مجرد مصالح ومنافع وليست محكومة بالسياسة والاقتصاد بل ان العالم لا يستطيع ان يعالج ازماته بهما، فالسياسة تحولت إلى اداة لجلب المصالح، والاقتصاد محكوم بالمنافع وبقاعدة الربح والخسارة، حتى العلم انفصل عن القيم، والذي يضيفه الاسلام في مجال العلاقات الدولية (التقوى)، فهي تزيل العصبيات بكل اشكالها العرقية والقومية فضلا عن انها تعطي دفعة قوية للتعارف في توثيقها والحفاظ عليها و تفعيلها، وبمعنى اخر ادخال منظومة من القيم والاخلاق والآداب. وقد بات من المؤكد ان العالم بأمس الحاجة اليها لان من اشد ما يفتقده العالم المعاصر هو انعدام العامل الروحي والوجداني والاخلاقي في العلاقات الدولية[2].

لقد اختار الله للشعوب سننا وقوانينَ لعمارة الارض و بناء

(107)

الحضارة و لأَن الله هو (العليم الخبير) [1] لم يلغ مبدأ التفاضل بين الشعوب، ذلك ان التفاضل يعبر عن واقع موضوعي لا يتعارض مع مبدأ العدل والمساواة، لكن الذي حاول القرآن تغييره هو (مقياس التفاضل) من مقاييس التفاخر بالعرق والنسب إلى مقاييس سامية تربط الأمم والحضارات بالقيم، وأهمها (الايمان بالله) سبحانه و تعالى[2]

ليس هناك شك في أن اطروحة تعارف الحضارات كانت تعبيرا عن رد فعل إزاء النماذج السابقة عليها، النماذج التي مزج بعضها بين السياسة والثقافة في تكوين بنيتها المفاهيمية و في نظرتها للعالم الخارجي، وبعضها الآخر كان الطابع السياسي هو الطابع الأبرز فيها.

(108)

الخاتمة

ربما يكون من الخطأ أن يطلق على أطروحة هنتنغتون صراع الحضارات بدلاً من صدام الحضارات، لأن في صدام الحضارات إشارة إلى إمكان وجود حضارات متعددة في آن ومكان معينين أما في صراع الحضارات، فلا يمكن ذلك لأنهما لو التقيا سوف ينتج مركب من  الشيئين الملتقيين.

 لم تكن فكرة صدام الحضارات بالفكرة الجديدة في عصرنا، وانما لها امتدادات تاريخية تبدأ منذ بدايات القرن العشرين، ولاسيما في منتصفه مع توينبي وبرنارد لويس، ولكن هذه الفكرة برزت على الساحة الإعلامية نتيجة لتقديم دراسة معاصرة من هنتنغتون قائمه على أساس تصور ان السياسة العالمية تحكمها فكرة صدام الحضارات وحصلت على دعم من الخطاب الأمريكي السياسي في حينها، والترويج الإعلامي لها.

لقد حاول هنتنغتون استثمار منجزات فلسفة العلم في القرن العشرين، ولاسيما فكرة الأنموذج إذ اخذ من فلسفة العلم الإطار العام لأطروحته، وحاول عن طريقه وضع الإطار العام لتفسير السياسة العالمية، فهو لم يكن غافلا عن إمكانية توظيف بعض الأفكار الفلسفية في الدراسات السياسية.

4-فضلاً عن استثمار هنتنغتون بعض منجزات فلسفة العلم إذ حاول استثمار فلسفة التاريخ عن طريق الاعتماد على التفسير

(109)

الحضاري نتيجته لاستخدامه الأنموذج الحضاراتي في أطروحته، وهذا ما يجعل دراسته امتداداً لدراسات المعنيين بمجال التفسير الحضاري.

5-على الرغم من استعمال هنتنغتون التفسير الحضاري إلا أنه لم يكن يريد أن يفسر التاريخ بقدر ما كان يريد أن يقدم تفسير للسياسة العالمية بعد الحرب الباردة.

6-من المعروف أن الدولة تُعدّ هي محور العلاقات الدولية في تحديد طبيعة السياسة العالمية، ولكن الأمر مع هنتنغتون قد اختلف، اذ جعل من الحضارة المحور الذي تدور حوله السياسة العالمية وهذا شيء يلفت الانتباه.

7-مع هنتنغتون أصبحت الدول تحدد هويتها ومصالحها وتكتلاتها بمقاييس حضارية، فالثقافة أصبحت عنصر قوة ووحدة وتماسك، ووحدها الدول والمجموعات ذات الانسجام والتماسك الثقافي تستطيع ضمان مواقع سياسية واقتصادية متقدمة في القرن الحادي والعشرين.

8-إن هنتنغتون على الرغم من إرباكه في إعطاء دور للدولة في أطروحته إلا أنه مختلف عن أسلافه الذين سبقوه في تصور صدام الحضارات، سواءً أكان  توينبي أو برنارد لويس أو المهدي المنجرة، اذ يلاحظ على توينبي أن دور الدولة غائب في أطروحته، وانما المحور الأساس في أطروحته هو الحضارة ولم يشر إلى دور الدولة حتى بالنزر اليسير، أما برنارد لويس الذي يمكن عده بأنه راعي أطروحة صدام الحضارات حتى أكثر من هنتنغتون، فعلى الرغم

(110)

من تأكيده على أن الصدام يحدث بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية إلا أنه يعطي لدول الشرق الأوسط دوراً رئيساً و محركاً في عملية صدام الحضارات بسبب رفضهم للقيم الغربية متناسيا سبب دفاعهم عن حقوقهم المستلبة من دول الحضارة الغربية، أما عن المهدي المنجرة فمن الملاحظ عليه انه قد أشار بوضوح إلى أن بداية مرحلة صدام الحضارات منذ حرب الخليج الثانية التي تمثلت باجتياح النظام العراقي للكويت من ثم أصبحت هذه المسألة ذريعة لتدخل دول الحضارة الغربية في منطقة الخليج والعالم الإسلامي، وعلى الرغم من اتفاق هنتنغتون معه حول صدام الحضارات إلا انه يختلف في تحديد بدايات الصدام، اذ هنتنغتون يجعل من الحرب الأفغانية السوفيتية بداية للصدام بين الحضارات

9-مجموعة من الباحثين يشكلون على هنتنغتون عدم اهتمامه بالدولة بوصفها محوراً ضمن السياسة العالمية لكن الحقيقة أن هنتنغتون لم ينكر دور الدولة بل قد جعل دور الدولة في ضمن إطار الحضارة، وهذا الشيء غير واضح، ففي الوقت الذي يشير فيه إلى أهمية الحضارة فإنه يؤكد على دور الدولة، فما الذي يتحكم في علاقات الدول من حضارات مختلفة، هل هي الهوية أم المصالح؟ وهذا ما لم نجد له إجابة واضحة عند هنتنغتون.

10-إن دور الدولة في أطروحة صدام الحضارات يُبين أن هنتنغتون على الرغم من تأكيده على دور الحضارة وعمل الدولة بإطار الحضارة إلا أنه لم يستطع إثبات ذلك، ولم يستطع إثبات أن الحضارة هي المحور في السياسة العالمية، مع الاتفاق معه

(111)

على البعد الحضاري في السياسة العالمية، لكن الحتمية والتعميم والاعتماد على حالات جزئية للتعبير عن تفسير السياسة العالمية هي نقطة الضعف الأساسية في أطروحته، وكذلك ما يمكن الاشاره اليه أنه بعيداً عن آراء بعض الباحثين الذين ينطلقون من منطق مشابه لما ينطلق منه هنتنغتون فإن هذه الأطروحة تبقى من أبرز الاطاريح التي اعتمدت على التفسير الحضاري للسياسة.

 

(112)

المصادر والمراجع

الموسوعات والمعاجم

1- بدوي، احمد زكي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت، بلا سنة طبع.

2- الحسن، إحسان محمد، موسوعة علم الاجتماع، الدار العربية للموسوعات، بيروت، ط اولى، 1999.

3- ديديه، جوليا، قاموس الفلسفة، ترجمة فرنسوا أيوب، واخرون، مكتبة انطوان، بيروت، ط أولى، 1992.

4-  روزنتال، م.ب يودين، الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة، ط ثانية، بيروت، 2006.

5- الرويلي، ميجان، والبازعي، سعد، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط ثالثة، 2002.

6- زيادة، معن، الموسوعة الفلسفية العربية، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط أولى، 1986.

7- صليبا، جميل، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط أولى، 1971.

8- الكيالي، عبدالوهاب، موسوعة السياسة، ج ثالث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط ثانية، 1993.

9- لالاند، اندريه، موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة خليل احمد خليل، منشورات عويدات، بيروت – باريس، ط ثانية، 2001.

(113)
المؤلف في السطور قيس ناصر راهي استاذ الفلسفة السياسية-الجامعة المستنصرية- العراق عضو الهيئة التدريسية في جامعة البصرة باحث في مركز دراسات البصرة والخليج العربي-قسم الدراسات السياسية والاستراتيجية عضو جمعية المترجمين العراقيين-بغداد من البحوث المنشورة: 1-نهاية التاريخ بين محمد باقر الصدر والفكر الوضعي-مجلة رسالة الرافدين-السنة الاولى-العدد الثالث-2005 2-دور الدولة في اطروحة صدام الحضارات لصموئيل هنتنغتون-دولة المملكة العربية الاسلامية انموذجا،مجلة الخليج العربي،العدد 2-1،2012 3-اطروحة تعارف الحضارات عند زكي الميلاد بعدها السياسي ومرتكزها الفكري،مجلة دراسات تاريخية،العدد الخامس عشر ،2013 4-مرتكزات التوتاليتارية العراقية،مجلة اداب الكوفة،2013 5-تداعيات احداث الحادي عشر من ، ادب البصرة العدد 71،2014 6-فلسفة التغيير مستقبل النظام السعودي من منظور فلسفي،حولية المنتدى،السنة السابعة،العدد التاسع عشر،2014 7-رؤية فرنسيس فوكوياما لبناء الدولة-الدولة العراقية ما بعد صدام نموذجا-،مجلة الخليج العربي،المجلد الثاني والاربعون، العدد 4-3 ، 2014 مؤلفات نقد اطياف التمركز الغربي (مشترك) الفكر السياسي الاميركي المعاصر واثره على الوطن العربي (مشترك) له العشرات من الأبحاث والدراسات في ميدان الفكر السياسي المعاصر
هذا الكاتب صدام الحضارات دراسة نقدية في جينالوجيا المفهوم هذه الحلقة من سلسلة مصطلحات معاصرة تلقي الضوء على مصطلح صدام الحضارات، الذي تحول إلى مفهوم شائع في الفكر السياسي العالمي المعاصر كما تعاين ظروف نشأته والأسباب الفكرية والسياسية التي افضت الى ولادته والسجالات التي ترتبت عليه بين النخب وعلى مستوى مراكز الدراسات والابحاث. في هذه الدراسة يتناول الباحث العراقي قيس ناصر راهي هذا المفهوم الذي كان المفكر الاميركي صموئيل هنتنغتون من أبرز الذين اقترحوه في سياق التنظير للاطروحة الاميركية وسيادتها على العالم بعد نهاية الحرب الباردة. يشرح المؤلف هذا المفهوم ويسلط الضوء عليه في فصول كتابة الثلاثة مع الاشارة الى جذور المفهوم وأسبابه وامتداداته وما اخذ عليه شرقا وغربا. من مقدمة المركز المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف