تأليف
د. مريم صانع بور
ترجمة
أسعد مندي الكعبي
مقدمة المركز
ما فتئ جدل التراث والحداثة يغادر الأندية الثقافيّة في العالم الإسلامي منذ 200 سنة، حيث نرى كمّاً هائلاً من الدراسات والبحوث والمؤتمرات والندوات وغيرها من الأعمال الفكريّة والثقافيّة، التي تطرّقت إلى هذا الموضوع وأولته اهتماماً بالغاً، ولو تم تدوين ببليوغرافيا حول ما كتب في هذا الجدل لبلغ مجلدات عدّة.
إنّ السبب الرئيس في احتدام هذا الجدل، هو محاولة التمّلص من الماضي للالتحاق بالغرب، زعماً من دعاة التغريب والحداثة في العالم الإسلامي أنّ الغرب أصبح غرباً عندما تخلّص من ماضيه وتراثه وأحدث قطيعةً معه.
ولكن لو ألقينا نظرةً فاحصةً إلى الغرب لرأينا أنّ الغرب لم يقطع مع ماضيه، وإنْ كانت ثمة قطيعةٌ فهي مع الدين ومع الحقبة المسيحية، جرّاء ما حصل بين الكنيسة والعلوم الجديدة، أما ماعدا هذا فالغرب لم ينفك عن ماضيه وقد استمد منه الأسس والمباني، فالحضارة الغربيّة والحداثة الغربيّة تراثيّةٌ في جذورها وأسسها ومبانيها.
وقد جاء هذا الكتاب ليلقي نظرةً على هذا الإنبناء الماضوي للحداثة والحضارة الغربيّة، ويوصل رسالةً واضحةً إلى دعاة التغريب والحداثة في العالم الإسلامي بأّن الغرب علمانيٌّ في جذوره وأسسه وقد رجع إليها، كما أنّ العالم الإسلامي إيمانيٌّ وإسلاميٌّ في جذوره وأسسه فلا بد من الرجوع إليه. إنّ الماضي الإغريقي يشكل هويّة الغرب وقد تمسك به أشدّ تمسّك، كما أنّ الماضي الإسلامي والإيماني يشكّل هويّة العالم الإسلامي، فلا بد من الاهتمام والتمسك به.
ونحن إذ نقدم ترجمة هذا الكتاب القيّم إلى الساحة العربيّة، نتقدم بالشكر للدكتورة مريم صانع بور حيث سمحت بترجمة هذا الكتاب مشكورة ونتمنى لها دوام التوفيق والعطاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الامين وآله الميامين.
النجف الأشرف
ربيع الأول 1440 هـ
مقدمة المؤلف
لو أردنا الاطّلاع على المعالم الأساسية لكلّ ثقافةٍ فلا محيص لنا من الإلمام بمبادئها التي تبلورت في رحابها، وفي هذا السياق يمكن اعتبار الأساطير القديمة بأنّها خلفياتٌ ارتكازيّةٌ للحضارات البشريّة التي ازدهرت على مرّ العصور، لذا وصف الباحثون المختصّون الأساطير الإغريقية بكونها ركيزةً أولى للثقافة المدنية الأوروبية، حيث بادر الإنسانيون (Humanists) الأوروبيون في عصر تجدّد الثقافة الأوروبية الذي عرف بعصر النهضة (Renaissance) إلى دراسة وتحليل هذه الأساطير بهدف إحياء القابليات والطاقات الفكريّة لأسلافهم الإغريق وتوسيع نطاقها في المجتمع.[1]
الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر قال حتّى وإن اقتضت ظروف العالم المعاصر تهميش الأساطير وحذفها بداعي عدم فاعليتها، إلا أنّ الرموز الأسطوريّة لم تضمحلّ من الفكر البشري مطلقاً، بل كان لها دورٌ في نشأة العالم المعاصر وما زالت إلى الآن مطروحةٌ في رحابه.[2]
الإنسان بحسب الأساطير الإغريقية مرتبطٌ ارتباطاً وطيداً بالطبيعة، أي بالأرض والبحر والشجر وسائر المظاهر الطبيعية الأخرى، وهذا الأمر على خلاف ما يطرح في العالم الغربي المعاصر؛ فالأساطير كانت وليدةً للتصوّر البشري بينما العقل لم يكن له دورٌ في هذا المضمار، ومن أمثلة ذلك أنّ مبدعي الأساطير في تلك الآونة كانوا يصوّرون حوريات الجنّ في أساطيرهم وكأنّهنّ جالسات على حافّة حوضٍ ماؤه زلال وهنّ يشربن الماء، أو كأنّهنّ يهربن من البشر بين أشجار الغابة والرياح تهبّ هنا وهناك؛ كما صوّروا إحدى الإلاهات وهي تقطن في أعماق المياه الجارية، حيث كانوا ينظرون إلى الطبيعة في أساطيرهم من زاويةٍ حيّةٍ مليئةٍ بالأعاجيب.
الميثولوجيا الإغريقية ابتدأت من أسطورة الإلياذة (Iliad) التي دوّنها هوميروس (Homer Homeros) في إطارٍ أدبي ومعبّرٍ زاخرٍ بالصور البلاغيّة والفنون البيانيّة، حيث وصف فيها الآلهة وأسلاف الإنسان الغربي بأنّهم بلغوا الذروة في العقل وارتقوا قمم الثقافة وامتازو بالحنكة السياسية[3]؛ والجدير بالذكر هنا أنّ الأوديسة (Odyssey) هي الأخرى من جملة الأساطير التي دوّنها وذلك بحدود 800 سنة قبل الميلاد.
كما أنّ آثار الشاعر هسيود (Hesiod Hesiodes)-الذي عاش قبل الميلاد بما يقارب 700 سنة- تعتبر من أهمّ الأساطير الإغريقية، وهو على خلاف سلفه هوميروس الذي كانت حياته مرفّهةً، حيث كان فلاحاً فقيراً يعيش من عرق جبينه وكدّ يمينه، وفي أسطورته الشعريّة «الأعمال والأيام» (Works and Days) وضّح كيف أنّ الإنسان له القدرة على التمتّع بحياةٍ هانئةٍ حتّى وإن عاش في عالمٍ زاخرٍ بالمصاعب؛ وتنسب له أيضاً أسطورة أنساب الآلهة (Theogony) التي دوّنها حينما كان مقيماً في مزرعةٍ نائيةٍ بعيدةٍ عن ضوضاء البشر، حيث ذكر فيها إعجابه ممّا يجري في هذه الحياة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا الشاعر الإغريقي تحدّث في أساطيره عن خلقة العالم ونشأة ذراري الآلهة، وهذا الأمر يعدّ واحداً من أهمّ المواضيع المطروحة في الميثولوجيا.[4]
الأساطير القديمة غالباً ما تتمحور مواضيعها حول العهود التي سبقت نشأة الكون، ومراحل نشأته، وظهور الآلهة، والأبطال الذين عاشوا في مرحلة ما قبل التأريخ، كما تتطرّق إلى النظام المدني للبشرية؛ لذا تتضمّن مفاهيماً في ما وراء الزمان وذات طابعٍ تصويري بالنسبة إلى الإنسان المتجدّد، ومن هذا المنطلق أكّد مؤرّخ الأديان المعاصر والخبير في الميثولوجيا والفلسفة الرومانية ميرتشا إلياده (Mircea Eliade) على أنّ احتمال وقوع الإنسان البدائي بالأخطاء جرّاء اتّباعه فطرته الخالصة في الجنّة الحيوانية بعيداً عن حكم العقل، مطروحٌ على مرّ التأريخ، كما أنّه مطروحٌ أيضاً بالنسبة إلى الإنسان المتحضّر، وذلك بحسب طبعه البشري الثابت ونزعته إلى الحرّية والاختيار والإبداع؛ فهو على ضوء هذا الخطأ المحتمل يتمكّن من الغلبة على ما يتعرّض له في العصر الحديث من اضطرابٍ وغربةٍ عن النفس عن طريق توجيه نقدٍ للخوف والمعاناة المشار إليهما في الأساطير القديمة، ولربّما يستطيع من خلال ذلك استعادة الطمأنينة التي افتقدها واستعادة اتّزانه الذي كان يتمتّع به في الطبيعة النقية التي عاش في رحابها إبّان عهود ما قبل التأريخ[5].
إذاً، يمكن القول بحسب رأي إلياده، أنّ الإنسان الغربي المتجدّد الذي كان يبحث في عصر النهضة والحداثة عن دعائم ثقافته الجديدة بالرجوع إلى العصر الإغريقي الذهبي، قد بادر إلى مقارعة الخوف والمعاناة والاضطراب الذي واجهته البشرية على مرّ التأريخ اعتماداً على فطرته السليمة غير الملوّثة التي اتّصف بها أسلافه في فترة ما قبل التأريخ، لذلك حاول إحياء قابلياته الإنسانية الكامنة في ذاته، والتي أُشير إليها في الأساطير الإغريقية القديمة بهدف نيل حقوقه المتمثّلة بالحرّية والاختيار والإبداع، والتي سلبت منه جرّاء استبداد أرباب الكنائس في القرون الوسطى[6].
الأساطير الإغريقية تمّ تناقلها من جيلٍ إلى آخر حتّى وصلت إلى الإنسان المعاصر، لذا فهي تعدّ من أهمّ أنواع التراث الثقافي، ولو تأمّلنا بها ندرك أنّ مختلف القوميات البشريّة حتّى وإن كان مصيرها التغيير والتحوّل إثر مختلف العوامل الداخلية والخارجية، إلا أنّ مجتمعاتها امتلكت أصولاً ميثولوجيةً ثابتةً وراسخةً رغم التغييرات التدريجية التي طرأت على بنيتها الاجتماعية خلال مرّ الأيام؛ وفي هذا السياق، أكّد الفيلسوف وعالم الميثولوجيا الأميركي إديث هاملتون (Edith Hamilton) على أنّ الأصل الثابت للدراسات الميثولوجيّة الإغريقيّة، هو عبارةٌ عن حركتها الدقيقة والشمولية نحو عالمٍ عقلانيٍّ بحيث أسفرت عن ظهور الإنسان الغربي المتجدّد على هيئة حيوانٍ اجتماعيٍّ يسعى إلى تحقيق أهدافٍ لا يحدّها حدٌّ معيّنٌ ولا يقيّدها قيدٌ وضابطةٌ، لذلك ساعد هذا السعي المصحوب بتطوّرٍ ملحوظٍ على تجريده بشكلٍ تدريجيٍّ من طبيعته الإنسانية فجعله غريباً عن ذاته، ومن ثمّ بدأ يشعر مرّةً أخرى أنّه بحاجةٍ إلى تشذيب الأساطير الطبيعية والسير على نهجها وكأنّها تراثٌ يجب إحياؤه من جديدٍ؛ والجدير بالذكر هنا أنّ فكرة إعادة قراءة الأساطير القديمة والعمل على إحيائها أسفرت عن التفكير بجدٍّ للعيش في رحاب عالمٍ من نمطٍ جديدٍ مليءٍ بالمغامرات.
وأمّا الفيلسوف السياسي الإيطالي والمؤرّخ والحقوقي والخبير بالميثولوجيا جيامباتيستا فيكو (Giambattista Vico) الذي عاش في القرن السابع عشر والمعروف بدعوته إلى النزعة العقلانية الحديثة، وصف الأساطير الإغريقية بكونها البنية الأساسيّة للحداثة الغربية؛ وممّا قاله في هذا المضمار ما يلي:
1) من المستحيل بمكانٍ ولادة حضارةٍ في طرفة عينٍ، بل كلّ حضارةٍ لا بدّ وأن تتقوّم على الخلفيات الثقافية للمجتمع الذي تنشأ فيه على ضوء مسيرةٍ تكامليّةٍ.
2) أساطير كلّ مجتمعٍ حيةٌ وفاعلةٌ في جانبه الاجتماعي اللاشعوري، وهذا اللاشعور هو الذي يصوغ نظامه الذي يتقوّم عليه في جميع أبعاده الوجوديّة.
3) الحداثة الغربيّة خلال عصر النهضة إضافةً إلى أنّها تأثّرت بشكلٍ قهريٍّ ولاشعوري بالأساطير الإغريقية التي ظهرت في العصر الإغريقي الذهبي، فقد أقبلت أيضاً عليها بشكلٍ إراديٍّ ليتمخّض عن ذلك ظهور ثقافةٍ وحضارةٍ بمحوريّة الإنسان والفكر الإنساني في شتّى جوانبهما.
4) الإنسان الحديث اعتمد على ذاته في صياغة جميع قضاياه الفرديّة والاجتماعيّة، وهذا الأمر أسفر عن إيجاد حاجبٍ يحول بينه وبين منشئه؛ بمعنى أنّه انعزل عن الطبيعة الأمّ.
هذا الحاجب تسبّب في تشويش فكر الإنسان وشعوره بالغربة عن ذاته، لذا وجد نفسه مضطرّاً للعودة إلى الأساطير الإغريقية كي يتمكّن من استعادة هويّته الأصيلة المفقودة على ضوء التفاعل مع الارتباط الوثيق للإنسان اليوناني القديم بالأرض والسماء ومختلف المعالم والأحداث الطبيعية التي يشهدها البشر طوال حياتهم.
مؤسّس علم النفس التحليلي المفكّر السويسري كارل يونج[7] (Carl Jung) اعتبر الإنسان في دراساته وبحوثه ظاهرةً تأريخانيّةً احتفظ في جانبه اللاشعوري بالمراحل الأولى للتطوّر النفسي الاجتماعي الذي ورثه من أسلافه، وهذا اللاشعور الموروث يتجلّى بشكلٍ رمزيٍّ على ضوء ميزاته النفسانيّة في جميع مراحل حياته؛ كما اعتبر الأحلام التي يراها في منامه أنموذجاً يثبت ادّعاءه هذا، فهي برأيه تعكس ما يجول في باطنه اللاشعوري، فكلّ إنسانٍ يعلم أنّ الأشياء والأحداث التي يشاهدها في عالم المنام خارجةٌ عن نطاق اختياره في التفكير، ويعرف أنّ بعضها متأثّرٌ بالجانب اللاشعوري الجماعي (The Collective Unconscious) المكنون في باطنه، وهذا الكلام يعني أنّ الرؤيا المناميّة تراثٌ نفسيٌّ مشتركٌ بين البشر، حيث يضرب بجذوره في العهود القديمة؛ والإنسان الحديث جاهلٌ بمدى قدمه ولا يعرف تأريخه المحدّد، لذا لا يمتلك القابلية على فهم الرموز التي تكتنف نفسه في عالم اللاشعور دون واسطةٍ. وأضاف هذا الخبير النفساني أنّ الرموز السائدة بين الناس في العالم المعاصر تعدّ تبلوراً وانعكاساً للاشعور الجماعي الذي ورثوه من معتقدات أسلافهم والتقاليد التي كانت سائدةً بينهم في العهود القديمة؛ فعلى سبيل المثال نلاحظ أنّ الإنسان الأوروبي المعاصر يتأثّر بشكلٍ كبيرٍ بالأساطير الملحميّة القديمة كالإلياذة والأوديسة رغم عدم وجود أيّ وجه شبهٍ في قواعد الاشتباك العسكري بين حرب طروادة والحروب الشرسة والمدمّرة الحديثة، وعلى هذا الأساس يمكن القول أنّ الأساطير الإغريقيّة تعتبر وقائع في ما وراء الزمان والمكان بالنسبة للمجتمع الأوروبي المعاصر،[8] لذا تنشأ وتتنامى الفكرة الرمزيّة للأساطير عن طريق اللاشعور الجماعي الكائن في نفس الإنسان الحديث.
العلاقة بين الأساطير والرموز التراثية في الوجدان اللاشعوري للإنسان، ساعد الباحثين على تفسير الرموز وفكّ شفراتها وفق رؤيةٍ تأريخيةٍ، كذلك ساعدت الخبراء في علم النفس التحليلي على بيان طبيعة الرموز التي يشاهدها الإنسان في عالم المنام وفق أساليب ومبادئ علم النفس.[9]
إضافةً إلى الدور الذي لعبه اللاشعور الجماعي في نشأة العالم الغربي الحديث، فالأساطير الإغريقية هي الأخرى لها تأثيرٌ في هذا المضمار، حيث أقبل روّاد حركة النهضة الحديثة على تحليل هذه الأساطير وبيان جزئياتها، ومن هذا المنطلق طرح العلماء والباحثون الأوروبيون نظرياتٍ إنسانيةً في شتّى الصعد المعرفية الحديثة؛ وبهذا الأسلوب جرّدت أساطير ما قبل التأريخ من رمزيتها القديمة التي كانت سائدةً في بلاد الإغريق.[10]
فضلاً عن أنّ العلماء والمفكّرين الأوروبيين اعتبروا العلوم الحديثة متأخّرةً رتبةً عن الأساطير الإغريقية من الناحية التأريخية، فقد قال عالم الميثولوجيا المقارنة الأمريكي جوزيف كامبل(Joseph Campbell)[11] إنّ هذه الأساطير مسبوقةٌ بالأساطير الفارسيّة الزاخرة بالمفاهيم وكذلك سبقتها الأساطير الصينيّة والهنديّة، كما أكّد على أنّ الأساطير الشرقية أثّرت إلى حدٍّ كبيرٍ على التجارب العملية للإغريق وفهمم لشتّى الأمور في الحياة البشرية.[12]
وبشكلٍ عامٍّ يمكن القول بأنّ ميزتين أساسيّتين تشترك فيهما كلٌّ من الميثولوجيا باعتبارها علماً شاملاً والميثولوجيا الإغريقية (علم الأساطير اليوناني)، وهاتان الميزتان كالتالي:
الميزة الأولى: ارتباط الأساطير بعالم الطبيعة بصفته أمراً كلّياً وشمولياً، وبالإنسان بصفته جزءاً منه.
الميزة الثانية: ارتباط الأساطير بواقع الحياة الاجتماعيّة، أي إنّها ذات صبغةٍ اجتماعيةٍ.
جوزيف كامبل بدوره أكّد على وجود هاتين الميزتين في الأساطير الغربية أيضاً،[13] ومن هذا المنطلق اعتبر الأساطير التي كانت سائدةً بين مختلف الشعوب والأمم أساساً لحضاراتها وحياتها المدنية، وأمّا الباحث كارل جوستاف يونج فهو يعتقد بعدم إمكانية تفسير الأساطير بصفتها قضايا خبريّة، لذا لا يمكن وصفها بالصدق والكذب، بل لا بدّ للباحثين من التطرّق إلى شرحها وتحليلها من حيث مدى تأثيرها أو عدم تأثيرها في الحياة البشرية، أو تناولها بالنقد باعتبارها آفاتٍ عانت منها المجتمعات على مرّ العصور.
جوزيف كامبل على ضوء دراساته وبحوثه التي أجراءها حول الميثولوجيا باعتبارها انعكاساً طبيعياً أو اجتماعياً يتجلّى في السلوك الإنساني، حذا حذو كارل يونج وادّعى أنّ التأثير اللاشعوري للأساطير القديمة يعدّ أمراً ملموساً في التوجّهات النفسيّة من الناحيتين الاجتماعيّة والثقافيّة، وهذه الرؤية بطبيعة الحال تُخرج الميثولوجيا من إطارها الطبيعي ومن طابعها البيولوجي لتسوقها في حيّزٍ ثقافيٍّ تأريخيٍّ بحيث تصبح ذات طابعٍ معرفي، حيث أكّد على الأهمّية البالغة لهذا الأمر في مجال دراسة وتحليل واقع المجتمعات البشرية المعاصرة.[14]
الفيلسوف والمؤرّخ الإيطالي جيامباتيستا فيكو (Giambattista Vico) قال: إنّ كلّ مفهومٍ مرتبطٍ بالطبيعة الإنسانية، له القابلية على إيجاد تغييراتٍ في تأريخ المجتمع الذي يطرح فيه. ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار الأساطير القديمة بمثابة أمثالٍ تجلّت إلى الوجود على هيئة مفاهيمَ صاغها العقل البشري، لذا يتمكّن باحثو كلّ عصرٍ من القيام باكتشافاتٍ جديدةٍ حول التأريخ عن طريق دراسة وتحليل أساطيرَ مختلف الشعوب والأمم. بناءً على ما ذُكر يجب تفسير الروايات الأسطوريّة وفق الظروف التأريخية التي نشأت في رحابها، وهذا هو الأسلوب الذي اتّبعه فيكو في فكّ الرموز الأسطوريّة وتحليل مفاهيمها الغامضة.[15]
الخبير بالدراسات الأدبيّة الإغريقيّة والرومانيّة فيرنر جايجر (Werner Jaeger) المولود سنة 1888م في بروسيا، كان منحازاً للحضارة الإغريقية بشكلٍ مبالغٍ فيه، حيث قال في كتابه الشهير «بايديا» (Paideia) الذي ألّفه تعصّباً للتراث اليوناني: إنّ التأريخ الواقعي للمجتمعات الأوروبية ابتدأ من بلاد الإغريق، وذلك أنّ اليونانيين القدماء خلّفوا تراثاً ثرياً لسائر الشعوب القديمة في إطار إنجازٍ ثقافي، ولولا هذا التراث القديم لما ولدت الثقافة الغربية في تلك الحقبة القديمة. كما أكّد هذا الباحث على أنّ المقوّمات التنظيميّة الاجتماعيّة، والنظام التربوي للشعب اليوناني القديم، يختلفان بالكامل عن شرائع بني إسرائيل، والتوجّه الكونفوشيوسي الصيني والديانة الدارمية الهندية من حيث طبيعتهما ومبادئهما المعنوية، فهذا الأمر متحقّقٌ رغم امتلاك جميع الشعوب والأمم نظاماً تربوياً؛ مثلاً هناك تعارضٌ بين الأساطير الإغريقيّة والشرقيّة، فالأولى تدعو إلى النزعة الفردانيّة وحرّية الإنسان، في حين أنّ الأساطير الشرقيّة التي شاعت على مرّ التأريخ تؤكّد على تهميش الذات الإنسانية ولا تمنحها تلك الأهميّة التي أعارتها لها الأساطير الإغريقية، فضلاً عن ذلك لا نلمس لدى الشرقيين توجّهاتٍ ميتافيزيقيّةً في أساطيرهم القديمة، إلا أنّ الغربيين يعتبرون روح كلّ إنسانٍ بحدّ ذاتها غايةً خاصّةً وذات قيمةٍ لا حدود لها. وفي هذا السياق أكّد فيرنر جايجر على أنّ الديانة المسيحيّة كان لها دورٌ ملحوظٌ في توسيع نطاق هذه التوجّهات الغربية، الأمر الذي تمخّض عنه إحياء الثقافة الغربية الأوروبية، ومن ثمّ ترسيخها وتأصيلها في المجتمع. وقال في كتابه الذي أشرنا له سابقاً «بايديا» (Paideia): إنّ مفهوم الطبيعة طرح لأوّل مرّةٍ من قبل العقل اليوناني. وهذا الأمر برأيه ينمّ عن توجّهاته الذاتية وأسلوبه الفكري الخاصّ، وعلى ضوء نزعته العنصريّة ادّعى أنّ الشعب الإغريقي نظر إلى الدنيا بصفتها وجوداً متكاملاً بحيث لا يوجد فيها جزءٌ منفصلٌ عن سائر الأجزاء، وعلى هذا الأساس وصفوا جميع عناصرها بأنّها أجزاءٌ من أمرٍ متكاملٍ مفعمٍ بالحياة بحيث يكتسب كلّ عنصرٍ فيها منزلته الخاصّة ودلالته المحدّدة من هذا الكلّ الذي يُكمل بعضه بعضاً. ومن جملة آرائه أنّ كلّ أمّةٍ حتّى وإن وضعت لنفسها قوانين وقواعد لنظم أمورها، إلا أنّ الإنسان اليوناني كان يبحث عن قوانين وقواعد موحّدةٍ تصوغ نظم جميع مقوّمات الحياة في باطنه، وتؤثّر على كلّ شيءٍ يواجهه في حياته، وعلى هذا الأساس سعى إلى تنسيق الحياة والفكر الإنسانيين مع القوانين والقواعد.[16]
نستشفّ ممّا ذكر أنّ فيرنر جايجر اعتبر الجنس اليوناني فريداً من نوعه لكونه أفضل ذاتياً من سائر الأجناس البشرية القديمة، إلا أنّ الشبهة التي ترد على رأيه هذا أنّ بعض الميزات التي نسبها إلى الإغريق قد دوّنت في تأريخ البشريّة ضمن الأساطير الشعبيّة القديمة ببلاد ما بين النهرين، التي من جملتها الأصول التربويّة الصحيحة والفكر الماورائي المطروحان على ضوء مفهوم الطبيعة والإيديولوجيا الشمولية، ومنها سنّ قوانين متناغمة مع بعضها بحيث تنسجم مع الوحدة الذاتية للأشياء ومع الوحدة الكائنة بينها وبين نظائرها من أشياء أخرى، ونحن هنا لا نتطرّق إلى تفنيد رأي فيرنر هذا، بل سنوكله إلى المباحث اللاحقة.
وأمّا بالنسبة إلى تأثير الأدب الأسطوري على الفلسفة الإغريقية، فقد تبنّى هذا المفكّر الغربي فكرة أنّ النظريات الفلسفية التي طرحت في الأوساط العلمية ببلاد الإغريق، ذات ارتباطٍ وطيدٍ بالشعر والفنّ الإغريقيين، وذلك لأنّ الفلسفة لا تقتصر على العناصر العقلية فحسب، وإنّما تعتبر كلّ موضوعٍ أمراً عامّاً ذا طابعٍ كلّي، وهذا يعني أنّ كلّ إنسانٍ يدرك في ذاته فكرةً معيّنةً، أي يشاهد نموذجاً مرئياً.
كما اعتبر الشعب الإغريقي أنموذجاً فردياً يفوق الشعوب الأخرى ويُرجَّح عليها، وعلى هذا الأساس أكّد على أنّ أبناءه حاولوا تصوير كلّ شيءٍ بكونه تبلوراً لجزءٍ من وجودٍ كلّي مثالي، وهذه الرؤية الشمولية والتجسّم يتجلّيان في جميع شؤون الحياة ابتداءً من الحكومة المدنيّة وصولاً إلى النظام التربوي والثقافي، كما أنّ اللوغوس (Logos) الذي اعتبروه حقيقةً مشتركةً في أذهان جميع البشر، بات كالقانون المشترك بين جميع المواطنين، وهو يدلّ بكلّ وضوحٍ على الرؤية الكلّية والشمولية وتجسّم الأشياء في رحاب الفكر الإغريقي. أضف إلى ذلك فإنّ أساطيرهم تحكي عن نزعتهم الإنسانية، ومن هذا المنطلق صوّروا آلهتهم وكأنّها كائناتٌ تمتلك أجساماً ووجوهاً بشريّةً،[17] وهذا التجسيم يعتبر أهمّ ميزةٍ لفنّ النحت والفنّ التشكيلي في تلك الديار.
هذا التجسّم البشري في التراث الأسطوري الإغريقي، أثّر بشكلٍ كبيرٍ على الفلسفة القديمة في تلك الديار، والتي تنامت بأسلوبٍ منطقيٍّ ابتداءً من علم الكون - الكوزمولوجيا - ثمّ اتّجهت نحو علم الإنسان - الأنثروبولوجيا - وقد بلغ هذا الأمر ذروته في التوجّهات الفكريّة لكلٍّ من سقراط وأفلاطون وأرسطو، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أشعار أبرز شعراء تلك الآونة ابتداءً من هوميروس وصولاً إلى آخر عهدٍ في الثقافة الإغريقيّة، قد تمحورت حول بيان طبيعة ابن آدم ومصيره الذي سيؤول إليه. وممّا طرحه فيرنر جايجر في هذا المضمار أنّ المفكّرين اليونانيين القدماء لم يتبنّوا نزعةً فردانيةً في مختلف نظرياتهم وأشعارهم، وإنّما كانت نزعاتهم ذات طابعٍ فكريٍّ عامّ، ومثال ذلك أنّ الـ «بايديا» كانت فكرةً وليست فرداً، وهذا هو النموذج والمثل الأعلى الذي طمح إلى بلوغه معلّموهم وشعراؤهم وفنّانونهم وفلاسفتهم طوال مسيرتهم الفكريّة ونشاطاتهم العلميّة على المستويين النظري والعملي.[18]
أمّا المؤرّخ الإيطالي جيامباتيستا فيكو فقد جرّد الأساطير من قدسيتها في إحدى أطروحاته الفكريّة، ومن هذا المنطلق وصف الآلهة الأسطوريّة القديمة بكونها تبلوراً لحالةٍ من الفكر البشري بحيث تتجلّى فيها الضرورات والخصال الإنسانية بشكلٍ رمزي، كما اعتبر الأساطير البطوليّة انعكاساً لشخصيات أسطوريّةٍ إنسانيّةٍ واقعيّةٍ وقال أنّها صورةٌ للأعراف التي سادت بين البشر، وفي هذا المجال تبنّى فكرة أنّ أشعار هوميروس تضمّنت أطروحات تأريخيّةٍ للحقّ الطبيعي، لذلك أكّد على الأهمّية البالغة لعلم اللغة ففي رحابه يتسنّى لنا اعتبار الأساطير كوثائق تأريخية كما يمكننا تفسيرها على ضوء النظريات الفلسفيّة العامّة، وعلى هذا الأساس توصّل إلى نتيجةٍ فحواها أنّ الأساطير لا تدلّ على قضايا ماورائية بحتة ولا تقتصر على زمنٍ معيّنٍ.
من جملة ما أكّد عليه هذا المؤرّخ، أنّ ميثولوجيا الفنّ لو تمّ تحليلها في إطارٍ نقدي، سوف يتسنّى لنا استكشاف بعض أصول الفهم العرفي أو الشعور المتعارف بين مختلف الشعوب والأمم، فتصوّر وجود عددٍ من الآلهة والاعتقاد بربوبيتها ومن ثمّ عبوديتها في شتّى العهود القديمة، ينمّ عن كون العبوديّة أمراً فطرياً لدى بني آدم، ناهيك عن أنّ ضرورة الميثولوجيا تأخذ بيد المفكّر والمؤرّخ نحو معرفة واقع التأريخ المثالي الخالد (Ideal eternal history).
الباحثة البريطانية كارين أرمسترونج (Caren Armstrong) التي دوّنت العديد من الكتب والمقالات في الدراسات المقارنة حول الأديان، سعت في كتابها الذي ألّفته تحت عنوان «تأريخ قصير للأسطورة» إلى استنباط جوانب أنثروبولوجيّة من الأساطير القديمة، وفي هذا السياق ذكرت لها أربع ميزاتٍ أساسيةٍ هي كالتالي:
1) حياة البشر الأوائل ذات ارتباطٍ وثيقٍ بالطقوس والمناسك العبادية.
2) الميثولوجيا تعين الباحثين على استكشاف قضايا في ما وراء التجربة.
3) أساطير كلّ ثقافةٍ تعتبر مصدراً تعليمياً للقيم التي يتبنّاها أبناء تلك الثقافة.
4) جميع الأساطير تعدّ تبلوراً لشعور البشر الأوائل بالهيبة والخشية من عالم الآلهة.
وهذه الباحثة الغربية حذت حذو جيامباتيستا فيكو ووصفت الرؤية التأريخية بكونها متقوّمةً على التوالي الزماني، ومن هذا المنطلق تطرّقت إلى دراسة وتحليل طبيعة كلّ واقعةٍ ضمن نطاق زمان حدوثها، في حين أنّ نمط دراسة الأساطير يمنح الباحث رؤيةً في ما وراء التأريخ والزمان كي يتمكّن من فهم كلّ أسطورةٍ في رحاب معناها المتعالي.[19]
استناداً إلى ما ذكر يتّضح لنا أنّ الأساطير برأي علماء الميثولوجيا تحكي عن مختلف الجوانب الشعورية المتعارفة بين البشر وشتّى طباعهم الفرديّة والاجتماعيّة، وهذه المسائل انتقلت في ما بعد إلى الحضارات اللاحقة باعتبارها قضايا تتعدّى نطاق التأريخ والزمان، لذا لا محيص من الإذعان إلى حقيقةٍ فحواها أنّ الثقافات قد تأثّرت بشكلٍ كبيرٍ بمعتقدات الأسلاف والقدماء سواءً من الناحية اللاشعوريّة الجماعيّة أو من ناحية الإدراك العرفي للأشياء أو المآثر الأدبية، وهذا يعني أنّ الحداثة الغربية تأثّرت بشكلٍ مؤكّدٍ بالأساطير الإغريقية. وفي هذا الصدد قال الباحث فيرنر جايجر: إنّ الإنسان المذكور في التراث الإغريقي هو إنسانٌ سياسي. كما استنتج أنّ الأصول التربويّة الحديثة في العالم الغربي ورثت هذه الخصلة الإنسانيّة من الحضارة الإغريقيّة التي أكّدت على كون السياسة والنظام الحاكم لهما مكانةٌ عليا في المجتمعات البشريّة، وهذا الأمر يدلّ بوضوحٍ على تلك المكانة المرموقة التي امتلكها الشعراء والساسة والحكماء بحيث يمكن اعتبارهم أرقى الشخصيات الاجتماعيّة في مجال القيادة والتعليم آنذاك وأفضلهم منزلةً بين سائر الناس.
والجدير بالذكر هنا أنّ المبادئ الأخلاقيّة التي كانت سائدةً في المجتمعات البشريّة البدائيّة والتي انتقلت إلى الأجيال اللاحقة عن طريق الأساطير، تمحورت حول السلوكيات المناسبة تجاه الآلهة والوالدين وسائر الناس، وفي المراحل التأريخية التالية تمّ تدوينها على هيئة قوانين في مختلف المجتمعات التي توالت في بلاد الإغريق، حيث أكّد علماؤهم ومفكّروهم على وجود ارتباطٍ وثيقٍ بين القوانين والأخلاق، لذلك دوّنوا جوانب هذا الارتباط في مختلف آثارهم.[20]
إضافةً إلى ما ذكر فقد اعتبر فيرنر جايجر نشأة الثقافة الوطنية الهيلينية التي صوّرت الإنسان بطابعٍ خاصٍّ ضمن الحياة المرفّهة في بلاد الإغريق، بأنّها نقطةُ انطلاقٍ لتأريخ التربية الإغريقيّة، وعلى هذا الأساس يمكن وصف التربية بكونها تبلوراً لأهداف الطبقة المرفّهة في اليونان القديمة حيث تتواكب مع الأمور الروحيّة والمعنويّة. يذكر هنا أنّ الـ «بايديا» ظهرت لأوّل مرّةٍ في الأساطير الحماسيّة لهوميروس، وهذه الأساطير تعدّ مصادر تأريخيّةً مناسبةً لمعرفة طبيعة الحياة في العهد الإغريقي، فهي الركيزة الأساسية في خلود القيم التي كانت سائدةً إبّان العهود الأسطورية القديمة.
الجدير بالذكر هنا أنّ مفهوم الفضيلة -أريتي Arete- في التراث الإغريقي اتّسع نطاقه وتشعّبت معانيه ودلالاته في المراحل الزمنيّة اللاحقة وكذلك في الملاحم الحماسيّة التي دوّنها هوميروس، لذا لم يقتصر بعد ذلك على بيان خصائص أبناء الطبقة الأرستقراطية وأفضليتهم على غيرهم، وإنّما شمل نطاق دلالاته المعنى الكمالي لسائر الكائنات غير البشرية مثل الآلهة وحركة الخيول الأصيلة وخفّتها، إلا أنّه لا يطلق على عوامّ الناس لكونهم في خدمة الطبقة الأرستقراطية، وحتّى لو أنّ أحد أبناء هذه الطبقة انطبقت عليه بعض ميزات العبوديّة للآلهة، فربّ الأرباب زيوس يجعله مشمولاً بمقدار النصف من الأريتي.[21]
إذاً، نستشفّ من ذلك أنّ الأريتي تُعتبر صفةً مائزةً لأبناء الطبقة الأرستقراطية،[22] وترتكز على القيم والمبادئ المذكورة في الأساطير الإغريقيّة التي تتقوّم عليها العديد من الأصول الأخلاقيّة المطروحة من قبل أفلاطون وأرسطو. وعلى الرغم من أنّ المفاهيم الأسطوريّة القديمة افتقدت طابعها الطبقي جرّاء انخراطها في المبادئ الفلسفية العامّة، إلا أنّها بقيت متّسمةً بطابعها الأساسي الذي ولدت من رحمه بحيث لم تُمحَ هويتها السابقة.[23]
وممّا أكّد عليه فيرنر جايجر أنّ مفهوم «الخير» المطروح في فلسفة أفلاطون قد تأثّر بشكلٍ مباشرٍ بفضيلة الشجاعة التي كانت سائدةً في العهد الإغريقي، وقال إنّ الجانب الروحي والمعنوي للتربية الهوميروسية انتقل إلى فلسفة أفلاطون عن طريق أفكار الشاعر الغنائي الإغريقي بندار «بنداروس» (Pindar[24]) إلا أنّ هذا الانتقال لم يكن تدريجياً وتكاملياً، بل تزامن مع شتّى مراحل ازدهار وحيويّة الذهن الإغريقي على مرّ العصور القديمة[25] رغم أنّ تعيين نقطة انطلاق الفكر العقلاني في هذه الحضارة يعدّ أمراً في غاية الصعوبة، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المجتمع الهوميروسي قد انخرط في هذه المسيرة الفكرية، وأمّا اندماج العناصر العقلية بالفكر الأسطوري في بادئ الأمر كان عميقاً بحيث استحال آنذاك الفصل بينهما، لكن رغم كلّ ذلك لو قمنا بتحليل الملاحم الحماسيّة الإغريقيّة من هذه الزاوية، لاستطعنا معرفة طبيعة الارتباط الجذري بين الفكر والعقل في تلك الأساطير، وعلى سبيل المثال يمكن وصف النزعة الفكريّة لهوميروس والتي تعتبر البحر مصدراً لجميع الأشياء بأنّها الركيزةُ الأساسيّة لنظريّة طاليس والتي أكّد فيها على كون الماء هو المبدأ لهذا الكون، كما تعدّ المرتكز الأساسي لنظرية ولادة الآلهة التي طرحها الشاعر هسيود في ملاحمه الشعريّة، وهذه النظريّة تتقوّم على أصولٍ عقليةٍ وهي ثمرةٌ للتحرّي الواعي عن المبدأ لهذا الكون، لذلك أصبحت البنية الأساسيّة للفلسفة العلميّة المطروحة من قبل الفلاسفة الأيونيين.
يشار هنا إلى أنّ فيرنر جايجر أكّد في نظريّته على أنّ بعض أصول فلسفة أفلاطون وأرسطو عبارة عن مفاهيم أسطورية، مثلاً هناك جذورٌ أسطوريّةٌ إغريقيّةٌ في نظريّة «النفس» الأفلاطونية ونظرية «المحبّة» الأرسطويّة التي تحكي عن المحبّة الكامنة في ذات المتحرّك لمحرّكه المنزّه عن الحركة.
فضلاً عمّا ذكر فالفيلسوف الألماني المعاصر إيمانوئيل كانط (Immanuel Kant) هو الآخر اعتبر العقلانيّة الحديثة بحاجةٍ للأساطير القديمة، ومن هذا المنطلق يقال أنّ الفكر الأسطوري على غرار الفكر التجريبي، فهو أعمى في ما لو لم يرتكز على العنصر العقلي - الإدراك البشري - كما أنّ النظريات العقلية التي تخلو من منطلقات أسطوريّةٍ حيّةٍ قديمة، تعدّ خاويةً ولا مضمون لها.[26]
الباحث النفساني المعاصر كارل جوستاف يونج[27] أكّد على وجود إحدى الأساطير الخفيّة في ما وراء كلّ نشاطٍ عقليٍّ ومبادئ فلسفيّةٍ تنويريّةٍ ونظامٍ عقليٍّ دينيّ، وهذه الأسطورة برأيه إمّا أن تتقوّم على مبادئ تأريخيّةٍ أو أنّها ليست سوى تصوّرٍ بحتٍ، لكنّها في جميع الأحوال تُطرح في نهاية المطاف باعتبارها حقيقةً عينيّةً وواقعاً ملموساً، لذا من المستحيل بمكانٍ تجريد الثقافات والحضارات عن الأساطير التي شاعت بين أبنائها، فضلاً عن ذلك فهي تعدّ ركائز أساسيّة في الأنظمة الاجتماعية الحديثة ولها تأثيرٌ ملحوظٌ عليها، كما أنّها ذات دورٍ فاعلٍ في الوجدان اللاشعوري لكلّ إنسانٍ بحيث تتجلّى على أرض الواقع في الوقت المناسب على هيئة مبادئ مثالية، لذا يمكن القول أنّ اللاشعور هو الجسر الذي يربط البشر ومجتمعاتهم مع الحضارات والثقافات السالفة، وهو موروثٌ من الأساطير القديمة، وعلى هذا الأساس مهما حاولت العقلانيّة الغربيّة الحديثة ترسيخ أُسس النزعات العقليّة الفرديّة والجماعية والتصدّي للفكر الأسطوري، فهي ستفشل في مساعيها هذه لأنّ انقطاع كلّ قومٍ عن أساطيرهم القديمة يسفر عن تجريد كلّ ما يدركونه عن جذوره الأصيلة، ومن ثمّ يخسرون مرتكزاتهم الموروثة وتراثهم الأصيل ويفقدون هويتهم بحيث لا يبقى لكيانهم أيّ معنى وفي نهاية المطاف يكتنفهم شعورٌ بتحقيرٍ ثقافي.[28]
الروائي والناقد الاجتماعي الألماني توماس مان المتوفّى سنة 1955م، هو الآخر رأى ضرورة سعي الباحثين والعلماء لاستكشاف العلاقات المتبادلة بين التجربة الأوروبية الحديثة والأساطير الإغريقية حتّى وإن اعتبرت الحداثة أمراً مبتدعاً، فالحداثة برأيه ليست سوى كاريكاتيرٍ مرسومٍ في كمٍّ هائلٍ من الكتب تمّ تدوينها بخصوص الحضارة الغربية فيما لو انقطع ارتباطها عن الأساطير القديمة. والحقيقة أنّ الرؤية المنطقية الدقيقة تؤكّد على وجود تناسبٍ بين العالم الغربي المعاصر وبين ماضيه وأساطيره بصفتها أصولاً حديثةً، وعلى ضوء هذا التناسب تتسنّى لنا معرفة واقع الإنسانية الغربية وجوهرها.[29]
ويرى الباحثان ثيودور أدورنو[30] وماكس هوركهايمر[31] أنّ المعرفة حتّى وإن كانت أساساً للتنوير الفكري ومقارعة الخرافات وتفنيد الأساطير وإزالة جميع الأفكار والتصوّرات الوهمية من المجتمعتات البشرية، إلا أنّ الأساطير الإغريقية منذ العهود السالفة تضمّنت بحدّ ذاتها برنامجاً تنويرياً يناظر البرنامج التنويري الغربي؛ ناهيك عن أنّ التنوير بذاته في كلّ خطوةٍ يخطوها يلج في الوقائع الأسطورية أكثر وأكثر، ورغم أنّه سخّر المبادئ الميثولوجية واتّخذها وسيلةً للقضاء على الخرافات الأسطورية بهدف تفعيل دور النزعة العقلانية الحديثة في مختلف الأوساط البشرية، لكنّه مع ذلك ارتكز على الأساطير حتّى في مهمّته التي حملها على عاتقه بصفته ركيزةً أساسيةً للبتّ بما هو صائب أو خاطئ في شتّى جوانب الحياة.[32]
بعد هذه المقدّمة الطويلة نسبياً، نرى من الضروري ذكر بعض النقاط الهامّة التي ترتبط بموضوع البحث ضمن المحورين التاليين:
أوّلاً: الأساطير تصنّف إلى دينيّةٍ وغير دينيّةٍ، وفي هذا الكتاب سوف نسلّط الضوء على الأساطير الإغريقيّة غير الدينيّة بهدف بيان مدى تأثيرها على تيار عصر النهضة والحداثة.
ثانياً: الضرورة تقتضي معرفة الجذور الأسطورية للتجدّد الغربي، وفي هذا المضمار لا بدّ من البحث عن الوجهة المشتركة بين الأساطير والحداثة باعتبارهما متضادّين في ظاهرهما، ويمكن القول بهذا الخصوص أنّ نقطة التلاحم والاشتراك في ما بينهما تكمن في التوجّه الإنساني الذي شاع في رحابهما؛ فالنخبة العلمية والثقافية وروّاد عصر النهضة والحداثة، امتعضوا من استبداد رجال الدين آنذاك، وحاولوا إرساء دعائم حضارةٍ تتقوّم على القيم والقابليات البشرية، وقطع الطريق على أرباب الكنيسة بغية عدم إتاحة أيّ فرصةٍ لهم للتدخّل والمساهمة في الحركة التغييرية الواسعة، ومن هذا المنطلق بادروا إلى إعادة قراءة الأساطير الإغريقية واستلهموا منها مبادئاً وقيماً ساروا على نهجها.
بناءً على ما ذكر، يمكن تلخيص القواعد والأصول الإنسانية التي اتّسم بها عصر التنوير الفكري وحركة النهضة الأوروبية، بالنقاط التالية:
1) الإنسان هو المعيار الثابت والمرتكز الأساسي لكلّ شيءٍ في الحياة.
2) الضرورة تقتضي إعادة قراءة الأساطير القديمة لأجل استثمار القابليات الفكريّة للأسلاف وتفعيل دور طاقاتهم المعرفية.
3) الضغوط والممارسات القاسية التي واجهها المجتمع الغربي إبّان القرون الوسطى، جعلت دعاة التحرّر والتجدّد يصرّون على ضروة تفعيل دور الحرّية والإرادة الإنسانية في شتّى المجالات.
4) عدم الإذعان مطلقاً بوجود أيّ وساطةٍ بين رجال الدين والإله.
5) الإنسان هو صاحب الحقّ المطلق في تعيين مصيره، وجرّاء هذه الفكرة انقلبت الصورة التي كانت سائدةً آنذاك وتحوّلت العقيدة الجبرية المتعارفة إبّان القرون الوسطى إلى اعتقادٍ قوامه حرّية الإنسان وإرادته المطلقة.
6) الإنسان هو المحور الارتكازي والأساس في هذا الكون.
7) العقل الإنساني متكافئٌ مع العقل الإلهي ولا ينقص عنه بشيءٍ مطلقاً.
8) تفنيد صواب الاستدلالات الانتزاعية التي كانت تطرح حول القيم والأصول الإنسانية.
9) معارضة الممارسات الدينية والروحية التي يراد منها ترويض البدن، وفي الحين ذاته التأكيد على ضرورة الاهتمام بتنمية البدن وتوفير جميع الملذّات التي هو بحاجةٍ إليها.
10) العقل البشري هو الزعيم الأوحد في الكون وصاحب القول الفصل في كلّ شيءٍ، بينما الدين ليس له أيّ دورٍ رياديٍّ في المجتمع، لذا اقتضت الضرورة تهميشه بالكامل من حياة البشرية.
11) لا بدّ من العمل على تمهيد الأرضية المناسبة للرفاهية في الحياة باعتبار أنّ الهدف من كلّ نشاطٍ وحركةٍ هو تلبية الملذّات البدنية لكلّ إنسانٍ.
12) الإنسان ليس سوى أداةٍ سياسيةٍ.
13) عالم السياسة نأى بنفسه بعيداً عن التوجّهات والنظريات الميتافيزيقية والشؤون الروحية والدينية قاطبةً، واعتُبر الإنسان بكونه الحاكم المطلق على كلّ شيءٍ وصاحب الإرادة الحرّة في عالم السياسة.
14) القوانين الانتزاعية العامّة لم يعد لها أيّ دورٍ عمليٍّ من الناحية النفسية.
15) تسليط الضوء على شخصية كلّ إنسانٍ بشكلٍ مستقلٍّ باعتبارها متميّزةً عن غيرها.
16) الإنسان هو الذي ابتدع البيئة الاجتماعية التي يعيش في رحابها، ومن ثمّ لا يمكن اعتباره ثمرةً لها.
17) الإنسان كائنٌ مستقلٌّ بذاته بنحوٍ مطلقٍ، لذا بإمكانه تفعيل طاقاته الخلاقة وإبداعاته دون الحاجة للإيمان.[33]
نستشفّ ممّا ذكر أنّ التوجّهات العقلية التي سادت في حركة التجدّد الفكري، اتّصفت بنزعةٍ إنسانيةٍ مبالغٍ فيها، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّها انطلقت من النظريات الفلسفيّة لروّاد الفكر الغربي الحديث من أمثال رينيه ديكارت وباروخ سبينوزا وإيمانوئيل كانط، فهؤلاء الثلاثة هم الذين أرسوا دعائمها، وإثر ذلك ظهرت مدارسٌ فكريّةٌ عديدةٌ كالشيوعيّة والبراغماتية والشخصانية والوجودية، حيث تجلّت أطروحاتها الفكرية ضمن أطرٍ معرفيّةٍ متنوّعةٍ قوامها النزعة الإنسانية البحتة.
إذاً، يمكن اعتبار التجدّد الفكري الغربي المعاصر بأنّه حركةٌ جسّدت ردّة فعلٍ تجاه التقاليد والأعراف التي كانت سائدةً إبّان القرون الوسطى، حيث تمخّض عنه تأسيس حضارةٍ متقوّمةٍ على مبادئ وأصولٍ رأسماليةٍ وصناعيّةٍ تختلف بالكامل عمّا كان عليه حال المجتمعات المسيحية في فترة القرون الوسطى؛ لذلك أكّد عالم الاجتماع البريطاني أنطوني جيدنز (Anthony Giddens)[34] على أنّ الحداثة هي العامل الأساسي لشتّى التغييرات التي شهدتها البشرية في العصر الحديث، والسبب في فاعليتها المؤثّرة هذه أنّها تتمحور على الدور البشري والقيم الإنسانية.[35]
وفي الختام ننوّه إلى أنّ محور البحث في هذا الكتاب هو بيان العناصر الأساسيّة للعقل الاستدلالي (Reason) الذي يرتكز عليه الفكر الإنساني (Humanistic) في رحاب العصر الحديث، وتسليط الضوء على الإبستمولوجيا الإنسانية لهذا العصر إلى جانب طرح مباحث حول عناصر الحداثة والأفكار الأسطورية الإغريقية ذات الطابع الإنساني.
----------------------------------
[1]- See: Abbagnano, Nicola (1976) “Humanism”, Encyclopedia of Philosophy, Ed. Paul Edwards New York, Mc Millan.
[2]- إرنست كاسيرر، افسانه دولت (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية نجف دريا بندري، إيران، طهران، منشورات «خوارزمي»، 1983م، ص 376.
[3]- Hamilton, Edith, 1969, Mythology, Doris fielding Reid, p. 13 - 14.
[4]- Ibid, p. 21 - 22.
[5]- Eliade, Mercea, 1959, Cosmos and History (the Myth of Eternal Return, Trans. From the French by Willard R. Trak, Haper Torch Books, New York, p. 155 - 157.
[6]- للاطّلاع أكثر، راجع: مريم صانع بور، نقدي بر مبناي معرفت شناسي اومانيستي (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات «دانش و انديشه معاصر» - مركز دراسات الثقافة والفكر الإسلامي، 1999م، ص 17 - 21.
[7]- 1875 - 1961.
[8]- Jung. C. G. 1964, Man and his symbols. Joseph L. Henderson Jolande Jacobi. Aniela Jaffel Atdus Book, p. 107.
[9]- Ibid, p. 109.
[10]- Antoin. Faiver, 1995, The Eternal Hermes from Greek God to the Alchemical Magus with thirty nine plates, trans by Joscleyn Gdowin, Phanes press, p. 69.
[11]- 1904 - 1987.
[12]- Campbell, Joseph 1973, Myth to live by, Bantam Books, p. 13 - 14.
[13]- Campbell & Bill Moyers 1988, The Power of Myth, ed. Bety su. Flowers, Double day, p. 22.
[14]- Campbell, Joseph 1972, The Flight of the Wild Gander Explorations in the Mythological Dimension, Henry Regnery company, Chicago, p. 5 - 7.
[15]- Berlin, Isiah 1976, Vico and Herder: Two studies in the History of Ideas, London, Hogarth, p. 35 - 36.
[16]- فيرنر جايجر، بايديا (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمّد حسن لطفي، إيران، طهران، منشورات خوارزمي، 1997م، ص 20 - 30.
[17]- http://www. Theoi.com / georgikos / pan.html pan - God.
[18]- فيرنر جايجر، پايديا (باللغة الفارسية)، مصدر سابق، ص 32 - 39.
[19]- see: Armstrong, Karen 2005, A Short History of Myth, Conongate Myth Series.
[20]- فيرنر جايجر، پايديا (باللغة الفارسية)، مصدر سابق، ص 32 - 39.
[21]- هذا الكلام يشير إلى المقطوعة السابعة عشرة من ملحمة الأوديسة التي أنشدها هوميروس والتي أكّد فيها على أنّ كلّ إنسانٍ يبتلى بعبوديةٍ كبرى، سوف يحرمه إله الكون من نصف الفضيلة. وهذا النمط الفكري نلمسه جلياً في المبادئ الأخلاقية التي تبنّاها المفكّرون الذين تأثّر بهم الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه.
[22]- فيرنر جايجر، پايديا (باللغة الفارسية)، مصدر سابق، ص 40 - 41.
[23]- المصدر السابق، ص 50 - 51.
[24]- 443 - 522 B. C.
[25]- فيرنر جايجر، پايديا (باللغة الفارسية)، مصدر سابق، ص 79.
[26]- المصدر السابق، ص 323.
[27]- كارل جوستاف يونج طبيب نفساني سويسري توفّي في عام 1961م، وقد عرف بدراساته النفسية التحليلية بخصوص الفلسفتين الشرقية والغربية، كما كانت له دراسات في علوم الكيمياء والفلك والمجتمع والآداب؛ وهو الذي طرح نظرية اللاشعور الجماعي التي لها ارتباطٌ مباشرٌ مع الأساطير القديمة.
[28]- Jung, Carl G. & Kereny 1, 1973, Essays on a science of Mythology, the Myth of the Divine Child and the Mysteries of Elersis, Boollingen Series / prenceton university press, p. 76 - 77.
[29]- see: Hollwack, Thomas 2006, Thomas Mann1s work on Myth: The uses of the past.
[30]- ثيودور أدورنو ولد في ألمانيا سنة 1903م، وهو فيلسوف وعالم اجتماع وكان أحد أعضاء مدرسة فرانكفورت.
[31]- ماكس هوركهايمر ولد في ألمانيا سنة 1895م، وقد عرف بدراساته الفلسفية التنويرية، واشتهر بنظرياته الاجتماعية والنقدية.
[32]- فيرنر جايجر، پايديا (باللغة الفارسية)، مصدر سابق، ص 43.
[33]- Abagnano 1976, Humanism, Encyclopedia of philosophy, ed. Paul Edwards, New York, McMillan, IV. 70.
راجع أيضاً: مريم صانع پور، نقدي بر مباني معرفت شناسي اومانيستي - دانش و انديشه معاصر (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات «پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامي»، 1999م، ص 9 - 33.
[34]- 1938 .
[35]- Giddens, Antony 1998, The third waym The Renewal of social Democracy, Cambridge: Polity (publisher), p. 94.