تاليف
الأستاذ الدكتور ستار جبر حمود الاعرجي
تقديم
ان هذه الرسالة في دراستها للنص القرآني تعيد لهذه الامة الكريمة هيبتها وحضارتها وموضوعيتها واستمداد مواقفها من النص الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه..
لكل امة تراث.. تراثنا في الادب العربي وتراثنا في الشعر الجاهلي وتراثنا في الثقافات الماضية.
ولكن قمة مايبقينا ويوحدنا ويخلدنا ويجعلنا خير امة اخرجت للناس هو القران العظيم هذا الكتاب الذي يتهيب الطلاب دراسته اما لانحرافهم عن الخط الديني واما لصعوبة هذا النص على المستوى المعاصر.
جاءت هذه الرسالة سدا لكثير من الثغرات وعالجت موضوعا مهما بروح موضوعية.
الموضوع عالج مذاهب للمسلمين كافة متمثلة بابرز فرقهم الامامية والمعتزلة والاشاعرة.
ولكنني كما رايت الطالب كان موضوعيا لم يتحيز الى فئة ولم يقف عند راي الا مناقشا ومحللا فكان رجلا موضوعيا وطالبا مجدا متأنيا.
رايت فيه حضور شخصيته فلم ينقل النصوص جزافا وان تكررت لان الفرق كل منها يبحث نفس الموضوع لاسيما في المحكم والمتشابه وقضية العقل وهذا امر مفروغ منه.
ان الجامعات العريقة في العالم كالسوربون وكامبرج واكسفورد وهارفرد وجامعة لندن وجامعة القاهرة لاتخرج افضل من هذه الرسالة.
لقد قرأت الكثير من الرسالات على سوية عالمية وكانت هذه الرسالة احدى هذه الرسالات التي تتسم بالصبغة العالمية .
ان هذه الرسالة تعد بحق مفخرة لجامعة الكوفة .
الاستاذ المتمرّس الدكتور
محمد حسين علي الصغير
استاذ الدراسات القرانية والبلاغية والنقدية
في جامعة الكوفة 9/ 8 / 2000
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف خلقه اجمعين محمد واله الطيبين الطاهرين وصحبه الاخيار المنتجبين.
وبعد:
فقد انزل تعالى كتابه الكريم هداية للناس وبينات من الهدى والفرقان، وجعله شرعة ومنهاجا، لايغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها تبيانا لكل شيء ودستوراً لتنظيم امور العباد، وجعل السنة شارحة له، ومبينة لاحكامه وتعاليمه، وجعل العقل رسولا ثانياَ فأسس منظورا لمنظومة المرجعيات المشكٍّلة للعقيدة، ودعى الى تدبر آياته وانتزاع الحقيقة الكبرى من بين الاف آياته: انه لايعتريه نقص ولايعتوره اختلاف {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} واسَّس لاصول المنهجيات والانعكاسات عن النص، ونظَّم أصول فهم دلالاته وكشف معانيه، ووضع المعايير لمعالجة تعارضاته الظاهرية فرسم منهج تفسيره بان ارجع فهمه الى رد متشابهاته الى محكماته، ورده الى الراسخين في العلم ممن اختصهم الله تعالى بان كشف لهم عن دلالاته.
ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم، وان أي فهم يجب ان يكون انعكاسا عنه لاعكساً عليه لتبقى للنص مرجعيته المركزية كونه الخطاب المركزي والدستور الالهي.
لقد اسست الدعوة للتفكر والتدبر عند تحققهما لمعيارية مهمة ومنطلقات تاصيلية لطبيعة الرؤية التي يجب ان يستضاء النص لتكوينها حتى تكون مؤهلة لأن يقال انها منظومة عقيدة.
ففي هدي القران تنطلق افاق متجددة من الفهم لكي ترتبط باصوله فان عليها ان تستحضر مباديء ومعايير فهم مقنن باطاره الذي جاء لتصويره وتقريره ببعديه الزمانيين النزولي والمفتوح غير المقيد بزمان أو مكان.
هكذا كان النص واحداً وسيبقى واحدا مابقي حلال محمد حلالاً وحرامه حراماً، وما النظرات والتمثلات للنص الا رؤى، كان بعضها موفقا حيث برفت وومضت في ذهن اصحابها استضاءات بضوابط ومعايير فهمه كما ارساها وكما اسَّس لها المنهج النبوي وتمثلها المؤهلون الحقيقيون لكشف دلالاته وكان بعضها زيغا وابتغاء فتنة، اتبع متشابهات الكتاب ابتغاء عكس الطروحات والاهواء والاراء الخاصة للنص لانتزاع تأهيل غير مشروع دخيل على النص كما هو دخيل على الانعكاسات الايجابية عن النص من ركائز الفكر الاسلامي والمشروع المركزي المستضيء بالنص والمشكل للنسق العقائدي.
أصَّل القرآن لمعياريات ومباديء فهم، فبيَّن انه تبيان لكل شيء، وان فروعه ترد الى اصوله، وانه لايتناقض، وانه لايزيد ولاينقص، وانه لايتحدد بزمان، وانه سقف لكل تطور، لايعلوه فهم ولايسبقه منظور، وان فهمه يجري باستدعاء كامل جزئيات منظوره الخاص لان أي فهم محدود يهمِّش النص ويعوِّم مفاهيمه لتطفوعلى سطح الفكر محاولات محدودة القدرة على التعبير عن اجواء النص ومفاهيمه وطرحه للعقيدة.
ان حركة النص متجددة ومفاهيمه تتخطى كل الابعاد والانعكاسات عنه ربما جمدت في اطارها الزمني الضيق، والنص لاينتظر المتخلفين عن حركته، فدعوته للتدبر استعجالا للهمم واستنهاضاً للعزائم للحاق بركب الكمال، وعدم الانزواء في حدود الاطار النزولي، أو الجمود على ظاهر وتحديده بفهم ساذج ينحرف بالنص عن اطاره البياني البعيد غوراً الذي يغوص في ابعاد ماكانَ للعقل البشري ان يسبرها بقدراته المحدودة بالغة مابلغت.
لقد انبثقت افهام عكست على النص رؤية تهّمشه وتسلبه مرجعيته لتفتتها في عملية استقطاب لبعض ابعاد النص، لتحميلها الهوى المذهبي والطرح اللاموضوعي البعيد عن افاق النص ومراميه وغاياته، وكان لابد من وقفة تستضي المعايير التي اسسها القرآن وتحفظ للنص مركزية الخطاب وحاكمية التأسيس ومنح الاهلية لكل فهم يتصدى لكشف دلالاته.
واذا كان النص واحدا والافهام متعددة فهذا مقبول ومساوق للطبيعة البشرية ولتفاوت الادراكات والقدرات والافهام، ولكن لايمكن قبول نص واحد وافهام متناقضة تحمل النص مسؤولية التناقض والتعدد المتنافر الاقطاب وتبرء نفسها بل تدعي لطرحها استضاءة خطاب المركز والسير في هدي نسقه العقيدي.
فالقران الكريم جاء ليدعو الى التعدد الوحدوي في الافهام بما يخلق حالة التلامَح الفكري والتدبر الايجابي وصولا الى صياغة المشروع الفكري الاسلامي، استضاءةً بومضات الاشعاع التي تنعكس عن كل نص من نصوصه، ودعا الى فهم منضبط يستدعي تلك الاضاءات، ويستحضر تلك المعايير ويسترشد بتلك الضوابط.
ان هذا البحث قد حاول ان يتلمس هذا التعدد الوحدوي في فهم النص القرآني ووجد في الساحة الفكرية الاسلامية الاتجاهات التي تمثلت هذه الاسس وعالجت طروحاتها وآراءها في ضوء تلك المعايير وتصدت لعملية كشف لدلالات النص انتزاعا للمنظور القرآني للعقيدة.
وهذا مايستدعي استبعاد كل الافهام التي انحرفت عن مسيرة النص وهديه، وشكلت محاولة لحرف مسيرة الاتجاهات المنضبطة عن الوصول الى النتيجة الحتمية التي هي من لوازم كون القرآن واحدا وان دعوته الوحدة. تلك النتيجة هي توحد الاتجاهات المتعددة في صياغة تكاملية تتظافر في كشف منظور ونسق عقائدي مبدؤه الاول التوحيد والتنزيه ومنتهاه تحصين عقيدة الانسان من عوامل الزيغ والانحراف تحقيقا لاهلية تمثيل امة كانت خير امة اخرجت للناس.
لذلك فان هذا البحث اكتفى باستقراء مناهج المذاهب الكبرى المنضبطة في فهمها للنص، واضطر الى استبعاد بعض المناهج الاخرى، تحاشيا للاطالة والتوسع الذي ربما احتاج الى اضعاف حجمه الحالي. لذلك قام البحث بمحاولة متواضعة ربما خذلتها الادوات وربما قصرت بها الاستعدادات الشخصية المحدودة، ولكنه حاول جاهدا الاخلاص والموضوعية في تصديه لتلمس اسس واصول منهج فهم النص عند المتكلمين فجاء هذا البحث الذي اختار ان يتناول (منهج المتكلمين في فهم النص القرآني)) وقد انتظم في مقدمة وتمهيد وثلاثة ابواب وخاتمة.
وقد تصدى الباب الاول لمحاولة كشف منهج الامامية في فهم النص القراني، وجاء متوزعا على مدخل تاريخي كان لابد منه للتعريف بهذا المذهب الكلامي الذي اشاح عنه اغلب مؤرخي ودارسي المذاهب الكلامية ولم يعطوه مايوجبه البحث الموضوعي من مساحة مناسبة.
ثم انقسم البحث على ثلاثة فصول استقرأ الاول منها اثر الائمة من اهل البيت في تأسيس منهج الامامية في فهم النص القراني لكونهم الناطقين بلسان الوحي وورثة متلقيه لخصوصية علمهم وليس لأنهم يعدون ضمن المتكلمين.
وتصدى الفصل الثاني للكشف عن منهج متكلمي الامامية في التعامل مع النص في حالتي الظهور والتشابه.
وكشف الفصل الثالث عن موقفهم من التأويل واسُسه وضوابطه ليختم بنماذج تطبيقية لفهم متكلمي الامامية للنصوص القرانية، وتوظيفها في تشكيل منظورهم للعقيدة في ضوء النص.
وتخصص الباب الثاني في الكشف عن منهج المعتزلة في فهم النص القراني، فابتدأ بمدخل تاريخي مختصر حاول استحضار بدايات الظهور وجذور النشأة عند المعتزلة.
وتوزع باقي البحث فيه على ثلاثة فصول حاول الاول منها تلمس دور العقل في منهج المعتزلة في فهم النص، وتصدى الفصل الثاني لاستبيان اهم اسس وركائز المنهج العقلي عند المعتزلة، وافرد الثالث لنماذج تطبيقية في فهم المعتزلة للنص القرآني، وجاء الباب الثالث والاخير محاولة لاستكشاف المنهج الاشعري في فهم النص القراني، فابتدأ بوقفة ضرورية في مدخل تاريخي حاول تلمس جوانب الارتباط والتاثير لموقف السلف واهل الحديث (اهل السنة) على المذهب تاريخيا وفكريا.
ثم توزع باقي البحث في الباب على ثلاثة فصول رئيسية تصدى الاول منها لاستبيان فهم متكلمي الاشعرية لطبيعة العلاقة بين الشرع والعقل، ومن ثم طرق الاستدلال على العقيدة في ضوء هذه العلاقة.
وتصدى الفصل الثاني للكشف عن موقف الاشعرية في التعامل مع خصائص النص القرآني في احتوائه المحكم والمتشابه وكيفية تعاملهم مع ظاهر النص.
وانتهى الباب بالفصل الثالث الذي استعرض نماذج تطبيقية لفهم متكلمي الاشعرية للنص القراني.
لينتهي البحث بخاتمة حاولت ان تلم بشتات الموضوع، نتلمس منها اهم النتائج المتحصلة عن هذا الخوض في عباب المناهج الكلامية في فهم النص القرآني، لتنتهي تلك الخاتمة بتوصيات واقتراحات تصدر عن قدرة متواضعة، لكنها حاولت مخلصة ان يكون لها حصة في بلورة معايير وضوابط فهم النص القراني عند المعاصرين لتحقيق حالة التوائم مع النص، وترسيخ مرجعيته.
وقبل الدخول في تفاصيل هذه البحث لابد من الاشارة الى جملة امور ينبغي التنبيه عليها اهمها:
1 ـ ان هذه الرسالة جاءت محاولةً للكشف عن منهج المتكلمين في فهم النص القرآني تحديداً وليست رسالة في الكشف عن المناهج الكلامية بكل ابعادها وطروحاتها.
2 ـ ان الرسالة لم تخض في بحر المقارنة بين هذه المناهج، وانما حاولت جاهدة الكشف عن كل منهج منها، وبيان اصوله واركانه، وطبيعة معالجاته للنص، ليتم في خاتمتها تلمس عوامل التوحد والتقارب بين تلك المناهج وتحاشى البحث المقارنات ايضاً للابتعاد عن الوقوع في التكرار والاطناب والاطالة.
3 ـ ان البحث اختص المذاهب الكلامية الكبرى الثلاثة الامامية والمعتزلة والاشعرية، واشاح صفحا عن باقي المذاهب مع مايمتلكه بعضها من المقومات المشابهة لهذه الثلاثة، ولكن ساحة البحث فيه لاتسمح بالتوسع الكبير لاسيما وقد جاء بحالته هذه واسعا.
4 ـ ان البحث ضمن كل فصل عن كل مذهب حاول تلمس القواسم المشتركة بين اقطابه ومتكلميه، واخذ عينات من هؤلاء الاقطاب، ممن له منظومة كلامية كاملة، وله تاثير واضح في صياغة منظور ذلك المذهب للعقيدة، ولم يتوسع كثيرا في متابعة الامتدادات للشخصيات أو الامتدادات التاريخية، وكاد ان يحصر نفسه في القرون الثالث والرابع والخامس والسادس الهجرية لما برز في هذه القرون خصوصا الثالث والرابع منها من اقطاب كبار تمثلوا النهضة الفكرية وشكّلوا ملامح مهمة في صياغة مذاهبهم التي ينتمون اليها.
5 ـ حاول البحث استقراء المرجعيات المؤثرة في كل منهج، وصياغة طبيعة حاكمية هذه المرجعيات على طروحاته.
6 ـ اختلفت نوعا ما طبيعة المعالجة وتحكيم النقاط السابقة بين مذهب واخر بما تفرضه طبيعة كل منها وسماته المميزة التي تقتضي نوعا من الطبيعة الخاصة في التعامل معه.
ولايسع المؤلف في النهاية الا ان يدعو الله مخلصا ان يكون قد وفق في سبر وكشف ملامح المنهج الاسلامي المتعدد المذاهب المتوحد الاستضاءة بالنص، والسير بهديه، فان وفق لذلك فما هو الا توفيق بالله وان اخفق فما هي الا محدودية الاستعدادات، وضعف القدرات وعزاؤه انه اخلص النية واستنهض الهمة في محاولته فما عليه الا التوكل على من هو حسب من توكل عليه واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
المؤلف