الباحث : أ. نبيل علي صالح
اسم المجلة : مجلة المنهاج
العدد : 47
السنة : السنة الثانية عشر خريف 1428هجـ 2007 م
تاريخ إضافة البحث : March / 22 / 2015
عدد زيارات البحث : 1210
المسلمون بين مطلب النهوض الحضاري وأزمة النظم والثقافة السائدة
أ. نبيل علي صالح (*)
تتراءى أمامي الآن ـ وأنا أكتب هذه الكلمات ـ مجموعة من الصور السريعة المتعلقة بالأحداث السياسية، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بالعالم منذ ما جرى في الحادي عشر من أيلول 2001م، عندما تلاحقت تلك الوقائع بصورة دراماتيكية لتلهب العالم كله، ممتدة في دوائرها وتأثيراتها السلبية على أكثر من مستوى في هذا الموقع أو ذاك.
ولكننا نجد أنفسنا ـ في كل ما حدث من تحولات ومتغيرات ـ ملزمون تماماً (كعرب ومسلمين) أن نقف، ونهدأ، ونتأمل قليلاً بحثاً عن حقائق الأُمور وبواطن الأشياء، ونتساءل عن جملة الأسباب الداخلية (الذاتية) ـ قبل الأسباب الخارجية الموضوعية (1)ـ الكامنة في داخل نسيجنا الاجتماعي والديني والسياسي التي تكرس ـ يوماً بعد يوم ـ جذور ومظاهر العنف الداخلي، وتقوي مواقعه وامتداداته الدولية المنتشرة هنا وهناك. ولنكن أكثر دقة وموضوعية في طرحنا لسؤالنا السابق : ألسنا مسؤولين ـ بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ عن صنع الإرهاب، وإنتاجه، وتطويره، وحتى تصدير بعضه (أو كثيره) للآخرين؟!
ألا تتحمل النخب السياسية العربية والإسلامية المثقفة في السلطة والمعارضة ـ معاً ـ المسؤولية الذاتية المباشرة عن تطور (وتزايد وتضخم) الحجم المادي والكيفي للتيارات، (والقوى والنخب) السياسية ذات التوجه الأصولي في داخل بلداننا ومجتمعاتنا؟!
________________________________________
(*)باحث وكاتب من سوريا.
(1) من المؤكد هنا ـ وهذه من دون شك من البديهيات السياسية في علم التاريخ السياسي لمنطقتنا- أنّ للتاريخ الاستعماري الطويل الذي شمل معظم أوطاننا العربية والإسلامية الدور الأكبر والأبرز في تكريس نزعة العنف والعدوان في بيئتنا ومجتمعاتنا.. كما كان لوجود إسرائيل غير الشرعي على أرض فلسطين المدعوم كليةً من الغرب دوراً مهماً في تعميق ثقافة الإرهاب والعنف.. حيث إن العنف يستولد عنفاً، والإرهاب يستولد إرهاباً، والاحتلال يستدعي مقاومةً وعنفاً مضاداً.
[الصفحة - 182]
إننا نجزم هنا بأنّ معظم الحكومات والنظم العربية القائمة عندنا تتحمل المسؤولية النفسية والمادية الكاملة عن نمو بذور العنف الداخلي، وامتداده إلى مواقع الآخرين. ويبدو لنا أنّ لهذه النتيجة الحاسمة ـ التي وقفنا عليها هنا- مقدمات أساسية ارتُكز عليها للوصول إلى النتيجة الحاسمة السابقة.. فما هي هذه المقدمات؟!
لا شك بأنّ هناك معاناة حقيقية شاملة، وتخلف سياسي واجتماعي عام يلف واقع العرب والمسلمين. ويظهر أمامنا حالياً كنتيجة طبيعية للسياسات العقيمة والفاشلة التي اتبعتها الحكومات والإدارات السياسية العربية ـ في كل مواقعها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية ـ منذ بداية عهود الاستقلال الشكلي عن الاستعمار الغربي وحتى الآن، والتي أدت إلى إلحاق الضرر والخراب الكبير بحق أبناء مجتمعاتنا، وبحق ثرواتهم، ومواردهم الطبيعية الهائلة التي أضحت نهباً ومشاعاً للدول الكبرى المرتبطة كلياً بوكلائها ومعتمديها المحليين في هذا البلد أو ذاك.
ومن المعروف ـ بالنسبة إلينا جميعاً ـ أنه لا توجد (في معظم البلدان العربية والإسلامية) حياةٌ سياسية حقيقية. حيث إنه ليس مسموحاً أبداً للشعب ـ في داخل الحياة السياسية العربية ـ لا بالتعبير عن آرائه، ولا بالتظاهر، ولا بممارسة النقد، ولا بالإضراب، ولا بالتنظيم السياسي، ولا بإقامة الانتخابات الحرة، ولا بالإعلام الحر والنزيه، ...الخ. أي أنّ هذه السياسة الشمولية المركزية تدفع المجتمع كله باتجاه سلوك طرق (واتّباع وسائل) غير سلمية للتعبير عن حقوقهم ومعتقداتهم وآرائهم وثقافاتهم، خصوصاً أُولئك الناقمين والساخطين والمتضررين مباشرة من هيمنة تلك السياسة التسلطية القاهرة.
ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أنّ سلوك طرق العنف واستخدام الوسائل العنيفة ـ في التعبير عن الرأي، وممارسة السياسة ـ هو أمر مرفوض من قبل كل من يملك عقلاً حراً ووعياً إنسانياً متقدماً في الفكر والممارسة.. ولكن المسألة هي أنّ هناك من يدفع مجتمعاتنا دفعاً نحو تلك الطرق والوسائل العمياء غير المجدية والمرفوضة كلياً.. وعند البحث عمن يكمن وراء ذلك تجد أن الفضاء الثقافي له دور، وسياسة التفقير العام المتبعة في بعض البلدان لها دور، والسلطات القائمة المشرفة والموجهة لها الدور الأهم.. فهي التي تهيئ ـ في داخل استراتيجيتها السياسية ـ
________________________________________
[الصفحة - 183]
الأجواء المناسبة، وتخلق التربة الأخصب لنمو أفكار ومشاريع وسياسات العنف الداخلي، ومن ثم العنف الخارجي، وذلك من خلال منعها أبناء المجتمع من مزاولة النشاط الحياتي الطبيعي، واتّباع الطرق والأدوات والمناهج السياسية السلمية.. ويشهد على ذلك واقع الحضارات والأُمم في الماضي والحاضر، حيث نجد هناك أنّ النظم والحكومات المستبدة هي المتسبب و(الأُم الحنون!!) لتوليد (ورعاية) وتغذية حركات (وعناصر) العنف والإرهاب.
وبالإضافة إلى انعدام الحياة السياسية الطبيعية في معظم دولنا العربية والإسلامية، فإننا نجد أنّ هذه الدول تعاني معاناة اقتصادية واجتماعية شديدة نتيجة تطبيق (وفرض) سياسات تنموية قاصرة وعقيمة على شعوبها ومجتمعاتها.
كما أن للفساد العريض ـ الذي يلف أركان تلك البلدان ـ الدور الأكبر في الوصول إلى تلك النتائج المأساوية والخطيرة التي أفقدت مجتمعاتنا توازناتها وإيقاعاتها الداخلية، وخربت الإنسان ـ الذي هو أساس بناء الأوطان ـ من الداخل، وتركه حائراً من أمل بحياة شريفة، هادئة ومطمئنة.
وعندما تصل الأُمور ـ على الصعيد الاقتصادي ـ إلى هذا المستوى الكارثي الخطير من التدهور والسوء والانحطاط -الذي يعبر عنه من خلال تفشي مظاهر اليأس والإحباط والقنوط والعدمية واللا أُبالية- فإنه من الطبيعي جداً أن تتحول مجتمعاتنا إلى مواقع وبؤر توتر حقيقية لتفريخ الإرهابيين، ونمو بذور العنف الذي يمكن أن تتطاير شرره وشرّه إلى مسافات بعيدة ليصيب بلهيبه وشظاياه هذا البلد أو ذاك، ومن دون انتظار ومعرفة النتائج السلبية الخطيرة المترتبة على مثل هذه الأفعال الشنيعة.
ولعلنا لا نغالي كثيراً ـ إذ إنّ الواقع يؤكد ذلك ـ إذا ما اعتبرنا أنّ سلوكيات وأعمال النظم السياسية الجامدة، والفاقدة لوجودها الشرعي الطوعي الحقيقي (الاعتباري)، هي المسؤولة ـ بصورة أو بأُخرى ـ عن تغذية مواقع (وعناصر) القنوط واليأس بين جماهير الأُمّة (وبالتالي تدعيم قوى التطرف والإرهاب)؛ لأنها لا تزال نظماً أمنية بامتياز.. تفكر (وتعتاش) على الهاجس الأمني بطريقة جنونية، بما أدى ويؤدي إلى تحويل المجتمع كله إلى مجرد سجن كبير مغلق، لا يمكن للفرد فيه أن يعبّر صراحة عما يجول في نفسه من قيم وأفكار بطريقة سلمية حضارية ديمقراطية.. إذ إنّ
________________________________________
[الصفحة - 184]
قوانين الطوارئ والاستثناء ـ المعمول بها والمنتشرة في معظم بلاد العرب والمسلمين ـ جاهزة للانطلاق، وهي تترصد كل حركة غير(طبيعية!) هنا وهناك.
ويبدو لنا أنّ هذه القوانين العامة (الطارئة) هي أكبر دليل على سياسة الكبت والمنع المتبعة، وعلى أنّ انتظام العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلداننا كلها، أصبح قائماً ومؤسساً بقوة على قاعدة العنف (كقيمة فكرية وعملية أساسية) تدعو إليها ـ وتمارسها، وتلتزمها ـ النخب الحاكمة الفاشلة، والمنتجة-هي بذاتها- للعنف على أوسع نطاق.
من هنا، نحن نعتقد أن صناعة الإرهاب وإنتاجه، وتوسيعه، وتركيز خطوطه ـ كقيمة عملية، لها أُسسها، وقواعدها، وآليات عملها المباشرة وغير المباشرة في داخل المجتمعات المتخلفة والفقيرة على مستوى النخب السياسية والاجتماعية الحاكمة ككل ـ هو الذي يساهم في جعل كل هذا الإرهاب الدولي (المتحرك حالياً) إرهاباً عربياً وإسلامياً فقط، وبالتالي يدفع باتجاه تكوين رأي عالمي موحد ضد العرب والمسلمين في كل مكان وزاوية من هذا العالم.. مع العلم أن للدول الكبرى نصيباً وافراً في تعميق ثقافة الإرهاب، وتوليد الإرهابيين، وصناعة العنف والدم في داخل بلداننا ومجتمعاتنا.
ولذلك، فالمشكلة القائمة حالياً لا تقتصر فقط على وجود قوى ومنظمات وشخصيات تؤمن بالعنف، وتعتقد اعتقاداً جذرياً بأولوية الإرهاب والنشاط الجهادي (2)المسلح على السياسة والسجال السلمي لأخذ الحقوق، وتعمل في السر أو العلن هنا وهناك، بل إنها تتعدى ذلك لتصل إلى مرحلة وجود مناخ أو جو عربي وإسلامي عام يتعامل ـ بصورة شبه طبيعية ـ مع قضية الإرهاب المحلي والدولي، وذلك كنتيجة منطقية لوجود نظم ونخب سياسية تُرعب، وتُرهب، ولا تهتم إلاّ بمصالحها ومواقعها الخاصة على حساب مصالح الأُمّة كلها.. بل إنها جعلت من إسرائيل وأمريكا ـ كما يعبر أحد الباحثين ـ وحوشاً مفترسة لشعب من دون حراسة، ولا قيادة، ولا دفاع، ولا مصير.
ونحن بالرغم من عدم انسجامنا (أو اتفاقنا) مع السياسات العملية المطبّقة في معظم البلاد العربية ـ التي تكرس الإرهاب والتسلط والاستقالة الشاملة من المستقبل
________________________________________
(2) نذكر هنا أنّ الإسلام كدين معني بفكرة الجهاد، ومؤسس لها عملياً من حيث كونها ـ بحسب العقيدة الإسلامية- أحد أركان الإسلام، ميز بين نوعين من الجهاد، الأول: الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس.. والثاني: الجهاد الأصغر، وهو جهاد العدو.. وفضل الأكبر على الأصغر؛ لأنه أساسه ومعياره وناظمه العملي.
[الصفحة - 185]
الحضاري المتطور والمنشود ـ فإننا لا نزال نأمل، وننتظر من تلك النظم القائمة أن تنطلق من لحظتها الراهنة ـ مستفيدة من تعاظم متغيرات العالم وتسارعاته الكبيرة ـ لإجراء إصلاحات سياسية جدية، وتنمية اقتصادية (3)واجتماعية حقيقية على مستوى منطق الحكم وممارسات السلطة، وفي كل ما يتصل بضرورة مواكبة معايير ومبادئ التنظيم السياسي والاجتماعي الإنساني الحديث، في قضايا: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحرية الفكر والتعبير، وإلغاء قوانين الطوارئ والاستثناء، ووضع حدٍّ نهائي لمناخ القمع والرعب والاضطهاد السائد (الذي تمثله تلك الأنظمة الشمولية)، والمبادرة الفورية إلى إعلان عهد الحريات والأمان العام في كل البلاد؛ لأنّ الحرية والأمان شرطان أساسيان لازمان لكل عمل خلاق ومبدع، حيث إنه لا تنمية حقيقية، ولا تحديث صحيح معافى، (وليس التحديث الشكلي القشري الذي يقوم على استهلاك حضارة ومنتجات الآخرين بما يبقينا تابعين ومستلبين لهم) دون تمثل وتطبيق تلك التطلعات الكبرى.
وحتى نتمثل تلك الطموحات العالية ـ ونتحرك في خط التنمية المطلوبة فردياً وجماعياً ـ لا بدّ أن تكون أنظمة الحكم القائمة في داخل اجتماعنا السياسي والديني (والتي تدير وتشرف وتنفذ السياسات العامة في المجالات كلها) شرعية في فكرها ووجودها وامتدادها. أي أن تحظى بقبول طوعي (لا قسري) بين أبناء الأُمّة.
وهذه هي الإشكالية الأكبر التي لا نزال نعاني منها، ولا أعتقد بأننا سنخطو خطوة واحدة نحو الأمام من دون إيجاد حلول جذرية علمية وعملية لها. إنها إشكالية إحجام الناس عندنا، وعدم مشاركتهم بشكل فاعل ومنتج في مجمل النشاطات السياسية والاقتصادية العامة، وبالتالي عدم الاستفادة القصوى من كل الإمكانيات والطاقات والجهودالبشرية (والطبيعية) المتاحة أمامنا.
ونحن نعتبر أن تثمير جهود وقدرات أفراد الأُمّة في طريق العمل الخلاّق والمبدع ـ الذي نحن بأمس الحاجة إليه حالياً ـ لا يمكن أن يصل إلى نهايته السعيدة ما لم نوجد إطاراً ثقافياً (4)ونفسياً صحياً لعملية التنمية المطلوبة، يمكنه أن يدمج الأُمّة ضمنه لتتجاوب معه، بما يساعد على الشروع بتطبيق خطة اقتصادية وإدارية يشارك فيها الشعب كله (5)، وتمهد للقضاء على مواقع الفساد، وتساعد في خلق مناخ نقي
________________________________________
(3) تُعرّف التنمية الاقتصادية بكونها زيادة حقيقية لدخل الفرد، وتحسين واقعه المعاشي بشكل تراكمي سريع ومتواصل عبر فترة ممتدة من الزمن.. بحيث تكون هذه الزيادة أكبر من معدل نمو السكان، مع توفير الخدمات الإنتاجية والاجتماعية، وحماية الموارد المتجددة من التلوث والاستنزاف الجائر، والحفاظ على الثروات والموارد غير المتجددة من النضوب.
(4) وذلك كإطار (اجتماعي سياسي) معين يحترم أفراد الأُمّة من خلاله طبيعة المناهج التي تتخذها الدولة أساساً لتنظيم حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وموالاتهم الطبيعية لا القسرية لها، وإيمانهم في التنفيذ والتطبيق.
(5) يجب أن تلحظ هذه الخطة أولاً وقبل أيّ شيء ضرورة القيام الفوري بإصلاحات سياسية كمقدمة للإصلاحات الاقتصادية؛ لأن السياسة تقود الاقتصاد، وترتبط به ارتباطاً مباشراً خصوصاً في بلداننا الفقيرة، حيث إن السياسي يتحكم بالاقتصادي، مع أنّ المطلوب هو وجود مناخ اجتماعي وقضائي وسياسي يعمل فيه الجميع مشتركين لخدمة الصالح العام.. كما أنّ العالم المعاصر الذي نعيش فيه حالياً أضحى متسارع الخطى في كل مواقعه، وتتحكم بمساراته مجموعة من المؤسسات الاقتصادية الدولية كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وغيرها كثير، وبالتالي ليس من سبيل أمامنا للإسراع في إنجاز موضوع التنمية الاقتصادية البشرية سوى الانفتاح على العصر، وإجراء إصلاحاتنا الضرورية والحيوية المطلوبة.
[الصفحة - 186]
وصحي جديد مشجع على العمل والإنتاج والاستثمار من أجل أن تتحرك الأُمّة (كل الأُمّة) على طريق إنجاح التنمية، وبناء المجتمع الحديث. حيث إن حركة الأُمّة ككل تعبير حرّ عن إرادتها، وعن نمو وعيها، وانطلاق مواهبها الداخلية وطاقاتها الكامنة نحو المشاركة الفاعلة لأبنائها في عملية البناء والتنمية للثروة الخارجية من خلال تنمية ووعي الثروة الداخلية.
وبتعبير أكثر صراحة، نحن نعتبر أن إطار التنمية الثقافي والنفسي الشامل السابق ينبغي أن يتأسس ـ في العمق الروحي والنفسي ـ على مناهج فكرية ومعرفية عملية لا تتعارض (ولا تتواجه ولا تتناقض) مع طبيعة التركيب النفسي والشعوري التاريخي المتركز داخل البنية النفسية والفكرية لأبناء الأُمّة. أي لا تتعارض مع الإسلام كفكر حي متحرك ومنفتح على الحياة والإنسانية جمعاء؛ لأنّ وجود التعارض والمواجهة مع التركيب النفسي للأُمّة (مع الإسلام كاعتقاد ورسالة دينية روحية) سينعكس حتماً بصورة سلبية خطيرة على واقع مجتمعاتنا في الحاضر والمستقبل، ويتمظهر-كما ذكرنا- من خلال امتناع أفراد الأُمّة عن المشاركة في صياغة ومناقشة القضايا الرئيسية، وممارسة رقابتهم على الأجهزة المختلفة للدولة.
لذلك ـ وحتى ينخرط الجميع في عملية بناء الوطن وتطوير المجتمع من خلال تحقيق وإنجاز عملية التنمية المطلوبة لها ـ فإن الدولة يجب أن تكون تعبيراً حقيقياً عن إرادات الناس ومصالح المجتمع، وتجسيداً عملياً لقيمه الثقافية والتاريخية الأصيلة المنفتحة، في تقدير وجود الإنسان واحترامه، وتوفير العمل اللازم لمعيشته، ونمو وعيه.. وبذلك تثبت الدولة، وتستقر وتتطور قُدُماً نحو الأمام.
من هنا نقول بأن افتقاد الأُمّة للمشاركة الشعبية الطوعية الواعية للجماهير الواسعة في عملية التنمية الذاتية، والتغلب على واقع التخلف، والخروج من أنفاق التبعية والارتهان للخارج، لا يمكن إلاّ أن يضعف الشأن العربي والإسلامي في قضاياه الإستراتيجية المصيرية، وبكل مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبالتالي: عندما نحقق مناخ الحرية، ونؤسس الديمقراطية الصحيحة (6)، فإنه يحق لنا أن نتحدث هنا عن وجود قدرات أكبر وأوسع تسمح لنا بتوفير قاعدة مادية صلبة لمواجهة العدو الإسرائيلي وغيره ممن يتربصون بنا الدوائر ويخططون ويتآمرون علينا، حيث إن واقع
________________________________________
(6) ليست الديمقراطية وصفة جاهزة لمرض طويل، وإنما هي ممارسة قانونية واعية لعملية التداول السلمي للسلطة، ولا تنحصر فقط في قضية مواجهة الاستبداد والفساد..إذ إن إسقاط واقع الاستبداد، واستبداله بسلطة لا تعرف شيئاً عن الممارسة الديمقراطية الواعية سينتج أسوأ الديكتاتوريات، وأشنع أنواع الفساد والإفساد.
[الصفحة - 187]
هذه المواجهة (المؤكدة في المستقبل القريب أو البعيد) يزداد ضعفاً كلما زاد ابتعاد الحكام عن هموم الشارع العام (أي عن متطلبات المواطن الأساسية)، وكلما فرض (هؤلاء الحكام) على الناس نموذجاً واحداً في الفكر أو الاعتقاد والعمل أو الممارسة.. وهذا ما يحدث حالياً في بلداننا العربية والإسلامية بشكل واضح تماماً، حيث تتصور الكثير من النخب السياسية أن الهيمنة على الشعب، والتحكم بمعتقداته وأفكاره، ومعيشته وقدراته، وتفتيت قواه وثرواته، هي الوسائل الأسهل والمباشرة التي قد تمكنها من تنفيذ سياساتها الداخلية والخارجية بسهولة ويسر أكثر فأكثر.
ولكن الحقيقة هي أنّ هذا التصور المزعوم قد يصدق حيناً، ويسقط أحايين كثيرة أُخرى. فالشعب يحتاج ـ بدايةً ـ من أنظمته الحاكمة إلى توفير أجواء ومناخات حرية دائمة تسمح بوجود حوار فكري متحرك ومفتوح، يشارك فيه الجميع، وتتعمق من خلاله النقاشات الجادة والمثمرة، وتطرح فيه الرؤى والأفكار المتعددة التي تنصبّ أساساً على طريق بلورة الوعي القادر على محاصرة كل أنواع القهر والتخلف والتأخر في واقعنا، والمتمثلة ـ كما تحدثنا سابقاً ـ في التجزئة، والاستلاب، والارتهان، والتشتت، واتّباع الأهواء، وفقدان إرادة التغيير الصحيح، وضعف (تضعيف) المؤسسات الدستورية الديمقراطية (مؤسسات وهيئات المجتمع المدني)، وهيمنة التدخلات الأجنبية على الداخل، والاستكثار منها تعويضاً عن غياب (أو تغييب) الإرادة العربية والإسلامية الجامعة (حيث إن العرب يجتمعون على أفكار الآخرين أكثر مما يجتمعون على قراراتهم هم).
وهذا الأمر، (أي الوعي بالواقع، والتأسيس الجدي لمواجهة الخارج من خلال الانفتاح على الداخل بتنفيذ سياسات إصلاح جدية وحقيقية غير ديكورية وغير مزيفة)، ليس متوفراً للأسف حالياًً؛ لأنّ النظم والنخب السياسية والاجتماعية الحاكمة في معظم بلاد العرب والمسلمين مهتمة ومهجوسة بأولوية الحكم والسلطة، وهي لا تريد ـ كما يظهر في سلوكها وممارساتها الفردية العنيفة- فتح باب الحوار الهادئ والعقلاني المتوازن، وهي أصلاً لا ترغب به؛ لأنها تشعر بأنّ فيه ـ في حال تحققه جزئياً أو كلياً ـ ما يهدد سلطتها الشاملة، وهيمنتها وسطوتها المطلقة التي لا تنتهي على الثروة والسلطة والبلاد والعباد.
________________________________________
[الصفحة - 188]
أخيراً أُحب أن أُشير إلى نقطة أراها ضرورية لاستكمال هذه الكلمات، وهي أننا كعالم عربي ـ نعيش في الحياة بين مجموعة من الأُمم المتقدمة والمتخلفة ـ لا نزال نفكر بعقلية البلدة والوطن الصغير.. ولم نعد نفكر بعقلية الأُمّة والوطن الكبير.. مع العلم أنّ كل المسؤوليات الخاصة والعامة (بما فيها مسؤوليتنا أمام المجتمع والأجيال وأمام الله) قد ألزمتنا بضرورة أن نتضامن ونتوحد أُمّتياً ـ إذا صح التعبيرـ مع بعضنا البعض من أجل تحقيق هدف وجودنا الحضاري الأساسي في الحياة، كأُمّة لها رسالتها الإنسانية، ولها دورها المحوري الرائد بين أُمم ورسالات العالم كله. وهذه هي الأمانة الحقيقية التي حُمّلنا إياها، أمانة بناء إنسان عاقل وسعيد ومفكر وواعٍ بنفسه وبعالمه.. فهل نحن مؤتمنون حقاً عليها؟! وهل أدينا وعملنا على ما تستلزمه منا هذه الأمانة الثقيلة؟!
إننا وقبل أن نبدأ بالإجابة عن السؤالين السابقين، يجدر بنا أن نلتفت جيداً إلى واقعنا الراهن؛ لأننا سنجد فيه ما يوفر علينا عناء التدقيق والتأمل في أسئلة باتت بلا معنى، والبحث عن إجابات وافية وشافية لأسئلة كثيرة لا تنتهي.. فنحن قوم لا نحب العمل والكد في طرق ذات الشوكة، ولا نرغب بإجهاد أنفسنا وعقولنا في البحث والتنقيب هنا وهناك. وهذه هي للأسف أكبر مصيبة ابتلينا بها.. أن يفكر الآخرون بالنيابة عنا، فقد أعطينا عقولنا إجازة طويلة منذ زمن طويل.. طويل جداً.. وأعلنّا على الملأ الإفلاس والاستقالة العقلية والعملية من الحياة والوجود كله!
* * *
________________________________________
[الصفحة - 189]